الكلمة الخامسة والعشرون

    Risale-i Nur Tercümeleri sitesinden
    09.05, 31 Aralık 2023 tarihinde Said (mesaj | katkılar) tarafından oluşturulmuş 58848 numaralı sürüm ("أما الآيات الكريمة فكلُّ واحدة منها كعصا موسى تستطيع أن تفجّر الماء أينما ضربت، وتفتح من كل شيء نافذةً تدل على الصانع الجليل وتعرّفه. وقد أثبتت هذه الحقيقة بوضوح في سائر الكلمات وفي الرسالة العربية «قطرة» المترشحة من بحر القرآن." içeriğiyle yeni sayfa oluşturdu)
    Diğer diller:

    الكلمة الخامسة والعشرون

    رسالة المعجزات القرآنية

    أرى من الفضول التحري عن برهانٍ وفي اليد معجزة خالدة، القرآن

    أتُراني أتضايقُ من إلزام الجاحدين، وفي اليد برهانُ الحقيقة، القرآن.

    تنبيه

    لقد عزمنا في بداية هذه الكلمة على أن نكتبَ خمسَ شُعَل، ولكن في أواخر الشعلة الأولى -قبل وضع الحروف الجديدة بشهرين- ([1]) اضطررنا إلى الإسراع في الكتابة لطبعها بالحروف القديمة، حتى كنا نكتب -في بعض الأيام- عشرين أو ثلاثين صحيفة في غضون ساعتين أو ثلاث ساعات، لذا اكتفينا بثلاث شُعَلٍ فكتبناها مجملةً مختصرة، وتركنا الآن شُعلتين.

    فآمل من إخواني الكرام أن ينظروا بعين الإنصاف والمسامحة إلى ما كان مني من تقصيراتٍ ونقائصَ وإشكالاتٍ وأخطاء.


    إن كلَّ آية من أكثر الآيات الواردة في هذه الرسالة (المعجزات القرآنية) إمّا أنها أصبحت موضع انتقاد الملحدين، أو أصابَها اعتراضُ أهلِ العلوم الحديثة، أو مسَّتها شبهاتُ شياطين الجن والإنس وأوهامُهم.

    ولقد تناولتْ هذه «الكلمة الخامسة والعشرون» تلك الآيات وبيَّنتْ حقائقَها ونكاتِها الدقيقة على أفضل وجه، بحيث إنّ ما ظنّه أهلُ الإلحاد والعلوم من نقاطِ ضعفٍ ومدارِ نقص، أثبتته الرسالةُ بقواعدها العلمية أنه لمعاتُ إعجازٍ ومنابعُ كمالِ بلاغةِ القرآن.

    أمَّا الشبهات فقد أجيبتْ عنها بأجوبة قاطعةٍ من دون ذكر الشبهة نفسِها وذلك لئلا تتكدّرَ الأذهانُ. كما في الآية الكريمة: ﴿ وَالشَّمْسُ تَجْر۪ي .. ﴾ (يس:٣٨) ﴿ وَالْجِبَالَ اَوْتَادًا ﴾ (النبأ:٧). إلّا ما ذكرناه من شبهاتهم في المقام الأول من الكلمة العشرين حول عدد من الآيات.

    ثم إنّ هذه الرسالة «المعجزات القرآنية» وإن كُتبتْ باختصار شديد وفي غاية السرعة إلّا أنها قد بيّنت جانبَ البلاغة وعلوم العربية بيانا شافيا بأسلوب علمي رصين وعميق يثير إعجاب العلماء.

    وعلى الرغم من أن كلَّ بحثٍ من بحوثها لا يستوعبه كلُّ مهتمٍ ولا يستفيد منه حقَّ الفائدة، فإنّ لكلٍّ حظَّه المهم في تلك الرياض الوارفة.

    والرسالة وإن ألّفت في أوضاع مضطربة وكُتبتْ على عجل، ومع ما فيها من قصور في الإفادة والتعبير، إلّا أنها قد بينَت حقائقَ كثيرٍ من المسائل المهمة من وجهة نظر العلم.

    سعيد النورسي

    رسالة المعجزات القرآنية

    بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ

    ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْاِنْسُ وَالْجِنُّ عَلٰٓى اَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هٰذَا الْقُرْاٰنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِه۪ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَه۪يرًا ﴾ (الإسراء:٨٨)

    لقد أشرنا إلى نحو أربعين وجها من وجوه إعجازٍ لا تُحدّ للقرآن الحكيم الذي هو منبع المعجزات والمعجزة الكبرى للرسول الكريم ﷺ، وذلك في رسائلي العربية، وفي رسائل النور العربية، وفي تفسيري الموسوم بـ«إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز» وفي الكلمات الأربع والعشرين السابقة.

    وفي هذه الرسالة نشير إلى خمسةٍ من تلك الوجوه ونبيّنها بشيء من التفصيل، وندرجُ فيها سائرَ الوجوه مجملةً.

    وفي المقدمة نشير إلى تعريف القرآن الكريم وماهيته.

    المقدمة

    عبارة عن ثلاثة أجزاء

    الجزء الأول

    القرآن ما هو؟ وما تعريفه؟

    لقد وضّح في الكلمة التاسعة عشرة وأثبِتَ في رسائل أخرى أن

    القرآن:

    هو الترجمةُ الأزلية لكتاب الكائنات الكبير..

    والترجمانُ الأبدي لألسنتها المتنوعة التالية للآيات التكوينية..

    ومفسّرُ كتاب عالَم الغيب والشهادة..

    وكذا هو كشّاف لمخفيات الكنوز المعنوية للأسماء الإلهية المستترة في صحائف السماوات والأرض..

    وكذا هو مفتاح لحقائق الشؤون المضمَرة في سطور الحادثات..

    وكذا هو لسان عالَم الغيب في عالم الشهادة..

    وكذا هو خزينة للمخاطبات الأزلية السبحانية والالتفاتات الأبدية الرحمانية الواردة من عالم الغيب المستور وراءَ حجاب عالم الشهادة هذا..

    وكذا هو شمسُ عالمَ الإسلام المعنوي وأساسُه وهندستُه..

    وكذا هو خريطة مقدسة للعوالم الأخروية..

    وكذا هو القولُ الشارح والتفسيرُ الواضح والبرهانُ القاطع والترجمانُ الساطع لذات الله وصفاته وأسمائه وشؤونه..

    وكذا هو المربي لهذا العالم الإنساني..

    وكالماء والضياء للإنسانية الكبرى التي هي الإسلام..

    وكذا هو الحكمةُ الحقيقيةُ لنوع البشر..

    وهو المرشدُ المهدي إلى ما يسوق الإنسانية إلى السعادة..

    وكذا هو للإنسان: كما أنه كتابُ شريعةٍ، كذلك هو كتابُ حكمةٍ، وكما أنه كتابُ دعاءٍ وعبوديةٍ، كذلك هو كتابُ أمرٍ ودعوةٍ، وكما أنه كتابُ ذكرٍ كذلك هو كتابُ فكرٍ..

    وهو الكتاب الوحيد المقدّس الجامع لكل الكتب التي تحقق جميع حاجات الإنسان المعنوية، حتى إنه قد أبرز لمشرَب كلِّ واحدٍ من أهل المشارب المختلفة،

    ولمسلكِ كلِّ واحدٍ من أهل المسالك المتباينة من الأولياء والصديقين ومن العرفاء والمحققين رسالةً لائقةً لمذاق ذلك المشرَب وتنويره، ولمساقِ ذلك المسلَك وتصويره. فهذا الكتاب السماوي أشبهُ ما يكون بمكتبةٍ مقدسةٍ مشحونةٍ بالكتب.

    الجزء الثاني وتتمة التعريف

    لقد وُضّح في «الكلمة الثانية عشرة» وأثبت فيها: أنّ القرآنَ قد نـزل من العرش الأعظم، من الاسم الأعظم، من أعظم مرتبةٍ من مراتب كلِّ اسم من الأسماء الحسنى..

    القرآن:

    فهو كلامُ الله بوَصْفه ربّ العالمين،

    وهو أمرُ الله بوصفه إله الموجودات،

    وهو خطابُه بوصفه خالق السماوات والأرض،

    وهو مكالمة سامية بصفة الربوبية المطلقة،

    وهو خطاب أزلي باسم السلطنةِ الإلهية الشاملة العظمى،

    وهو سجلُّ الالتفات والتكريم الرحماني النابعِ من رحمته الواسعة المحيطةِ بكل شيء،

    وهو مجموعةُ رسائلَ ربانية تبيّن عظمةَ الألوهية،

    إذ في بدايات بعضها رموز وشفرات، وهو الكتابُ المقدس الذي ينثرُ الحكمةَ، نازل من محيط الاسم الأعظم ينظر إلى ما أحاط به العرشُ الأعظمُ.

    ومن هذا السر أطلق على القرآن الكريم ويُطلق عليه دوما ما يستحقّه من اسم وهو: «كلامُ الله». وتأتي بعد القرآن الكريم الكتبُ المقدسة لسائر الأنبياء عليهم السلام وصحفُهُم. أما سائرُ الكلمات الإلهية التي لا تنفد، فمنها ما هو مكالمة في صورة إلهامٍ نابع باعتبار خاص، وبعنوانٍ جزئي، وبتجلٍ خاص لاسم خصوصي، وبربوبية خاصة، وسلطانٍ خاص، ورحمةٍ خصوصية. فإلهاماتُ المَلَك والبشر والحيوانات مختلفة جدا من حيث الكلية والخصوصية.

    الجزء الثالث

    إن القرآن الكريم، كتاب سماوي يتضمن إجمالا كتبَ جميع الأنبياء المختلفةِ عصورُهم، ورسائلَ جميع الأولياءِ المختلفةِ مشاربُهم، وآثارَ جميعِ الأصفياء المختلفةِ مسالكُهُم..

    جهاتُه الست مُشرقة ساطعة نقية من ظلمات الأوهام، طاهرة من شائبة الشبهات؛

    إذ نقطةُ استناده: الوحيُ السماوي والكلامُ الأزلي باليقين..

    هدفُه وغايتُه: السعادةُ الأبدية بالمشاهدة..

    محتواه: هداية خالصة بالبداهة..

    أعلاه: أنوارُ الإيمان بالضرورة..

    أسفلُه: الدليلُ والبرهانُ بعلم اليقين..

    يمينُه: تسليمُ القلب والوجدان بالتجربة..

    يسارُه: تسخيرُ العقل والإذعانُ بعين اليقين..

    ثمرتُه: رحمةُ الرحمن ودارُ الجنان بحق اليقين..

    مقامُه: قبولُ المَلَك والإنس والجان بالحدس الصادق.

    إنّ كل صفةٍ من الصفات المذكورة في تعريف القرآن الكريم بأجزائه الثلاثة، قد أُثبتت إثباتا قاطعا في مواضع أخرى أو ستُثبَت، فدعوانا ليستْ مجرد ادّعاء من دون دليل، بل كلّ منها مبرهنة بالبرهان القاطع.

    الشعلة الأولى

    هذه الشعلةُ لها ثلاثُ أشعات

    الشعاع الأول

    بلاغة القرآن معجزة

    هذه البلاغةُ المعجزة نَبعت من جزالة نظْم القرآن وحُسنِ متانته، ومن بداعةِ أساليبه وغرابتِها وجودتها، ومن بَراعةِ بيانه وتفوّقِه وصفوَتِه، ومن قوةِ معانيه وصدقِها، ومن فصاحةِ ألفاظه وسلاستِها.

    بهذه البلاغة الخارقة تحدّى القرآنُ الكريم -منذ ألفٍ وثلاث مئة من السنين- أذكى بُلغاء بني آدم وأبرعَ خطبائهم وأعظمَ علمائهم، فما عارضوه، وما حاروا ([2]) ببنت شفة، مع شدة تحدّيه إياهم، بل خضعتْ رقابُهم بِذلّ، ونَكسوا رؤوسَهم بِهَوان، مع أنّ من بلغائهم مَن يناطح السحابَ بغرورِه.

    نشير إلى وجه الإعجاز في بلاغته بصورتين:

    الصورة الأولى

    إنّ أكثرَ سكان جزيرة العرب كانوا في ذلك الوقت أمّيين، لذا كانوا يحفظون مفاخرَهم ووقائعهم التاريخية وأمثالَهم وحِكمَهم ومحاسنَ أخلاقهم في شعرهم وبليغِ كلامهم المتناقل شفاها، بدلا من الكتابة. فكان الكلامُ الحكيم ذو المغزى يستقر في الأذهان ويتناقلُه الخلفُ عن السلف.

    فهذه الحاجة الفطرية فيهم دفعَتهم إلى أن يكونَ أرغبُ متاع في أسواقهم وأكثرُه رواجا هو الفصاحةَ والبلاغة، حتى كان بليغُ القبيلة رمزا لمجدها وبطلا من أبطال فخرها.

    فهؤلاء القوم الذين ساسوا العالمَ بفِطنَتهم بعد إسلامهم كانوا في الصدارة والقمة في ميدان البلاغة بين أمم العالم. فكانت البلاغةُ رائجةً وحاجتُهم إليها شديدةً حتى يعدّوها مدار اعتزازهم، بل حتى كانت رحى الحرب تدور بين قبيلتين أو يحلّ الوئام بينهما بمجرد كلام يصدر عن بليغهم بل كتبوا سبعَ قصائد بماء الذهب لأبلغ شعرائهم وعلّقوها على جدار الكعبة، فكانت «المعلقات السبع» التي هي رمزُ فخرهم.

    ففي مثل هذا الوقت الذي بلغتْ فيه البلاغةُ قمةَ مجدها، ومرغوب فيها إلى هذا الحد، نـزل القرآن الكريم -بمثل ما كانت معجزة سيدنا موسى وعيسى عليهما السلام من جنس ما كان رائجا في زمانهما، وهو السحر والطب- نـزل في هذا الوقت متحديا ببلاغته بلاغةَ عصره وكلَّ العصور التالية، ودعا بلغاءَ العرب إلى معارضته، والإتيان ولو بأقصر سورة من مثله، فتحدّاهم بقوله تعالى: ﴿ وَاِنْ كُنْتُمْ ف۪ي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلٰى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِه۪ ﴾ (البقرة:٢٣) واشتدّ عليهم بالتحدي: ﴿ فَاِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ ﴾ (البقرة:٢٤) أي ستساقون إلى جهنمَ وبئس المصير. فكان هذا يكسر غرورَهم، ويستخفّ بعقولهم ويسفّه أحلامَهم، ويقضي عليهم في الدنيا بالإعدام كما هو في الآخرة، أي إما أن تأتوا بمثله أو أنّ أرواحكم وأموالكم في خطر، ما دمتم مصرّين على الكفر!

    وهكذا فلو كانت المعارضةُ ممكنةً فهل يمكن اختيار طريق الحرب والدمار، وهي أشدُّ خطرا وأكثرُ مشقة. وبين أيديهم طريق سهلة هينة، تلك هي معارضتُه ببضعة أسطر تماثله، لإبطال دعواه وتحدّيه؟

    أجل، هل يمكن لأولئك القوم الأذكياء الذين أداروا العالمَ بسياستهم وفِطنتهم أن يتركوا أسهلَ طريق وأسلَمها، ويختاروا الطريق الصعبة التي تلقي أرواحَهم وأموالَهم إلى الهلاك؟ إذ لو كان باستطاعة بلغائهم أن يعارضوا القرآن ببضعة حروف، لَتَخَلَّى القرآنُ عن دعواه، وَلنَجَوا من الدمار المادي والمعنوي، والحال أنهم اختاروا طريقَ الحرب المريعة الطويلة.

    بمعنى أن المعارضة بالحروف محالة ولا يمكنهم ذلك بحال من الأحوال، لذا عمدوا إلى المقارعة بالسيوف.

    ثم إن هناك دافعَين في غاية القوة لمعارضة القرآن وإتيان مثيله وهما:

    الأول: حرصُ الأعداء على معارضته.

    الثاني: شغفُ الأصدقاء على تقليده.

    ولقد ألِّفَتْ تحت تأثير هذين الدافعين الشديدين ملايينُ الكتب بالعربية، من دون أن يكون كتاب واحد منها شبيها بالقرآن قط، إذ كلُّ من يراها -سواء أكان عالما أو جاهلا- لا بد أن يقول: القرآنُ لا يشبه هذه الكتب، ولا يمكن أن يُعارضَ واحد منها القرآنَ قطعا. ولهذا فإما أن القرآن أدنى بلاغةً من الكل، وهذا باطل محال باتفاق الأعداء والأصدقاء، وإما أن القرآن فوقها جميعا، وأسمى وأعلى.

    فإن قلتَ: كيف نعلم أنّ أحدا لم يحاول المعارضة؟ ألم يعتمد أحد على نفسه وموهبته ليبرز في ميدان التحدي؟ أوَلم ينفع تعاونُهم ومؤازرةُ بعضهم بعضا؟

    الجواب: لو كانت المعارضةُ ممكنةً، لكانت المحاولة قائمة لا محالة، لأن هناك قضية الشرف والعزة وهلاك الأرواح والأموال. فلو كانت المعارضة قد وقعت فعلا، لكان الكثيرون ينحازون إليها، لأن المعارضين للحق والعنيدين كثيرون دائما. فلو وُجد مَن يؤيد المعارضة لاشتهرَ به، إذ كانوا ينظمون القصائد لخصام طفيف، ويجعلونَها في المآثر، فكيف بصراع عجيب كهذا يبقى مستورا في التاريخ؟

    ولقد نُقلت واشتهرت أشنعُ الإشاعات وأقبحُها طعنا بالإسلام، ولم تُنقَل سوى بضعِ كلمات تقوَّلها مسيلمة الكذاب لمعارضة القرآن. ومسيلمةُ هذا، وإن كان صاحبُ بلاغة لا يستهان به إلاّ أن بلاغته عندما قورنت مع بلاغة القرآن التي تفوق كلَّ حُسن وجمال عُدَّت هذيانا. ونُقل كلامُه هكذا في صفحات التاريخ.

    وهكذا فالإعجاز في بلاغة القرآن يقين كيقين حاصل ضرب الاثنين في اثنين يساوي أربعا. ولهذا يكون الأمر هكذا.

    الصورة الثانية

    سنبين حكمةَ الإعجاز في بلاغة القرآن بخمس نقاط:

    النقطة الأولى

    إن في نظم القرآن جزالة خارقة، وقد بيّن كتاب «إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز» من أوله إلى آخره هذه الجزالة والمتانة في النظم، إذ كما أن عقارب الساعة العادَّة للثواني والدقائق والساعات يكمِّل كلّ منها نظامَ الآخر، كذلك النّظم في هيئات كل جملة من جمَل القرآن، والنظامُ الذي في كلماته، والانتظام الذي في مناسبة الجُمل كلّ تجاه الآخر، وقد بُيّن كل ذلك بوضوح تام في التفسير المذكور.

    فمن شاء فليراجعه ليتمكن من أن يشاهد هذه الجزالة الخارقة في أجمل صوَرها، إلّا أننا نورد هنا مثالين فقط لبيان نَظم الكلمات المتعانقة لكل جملة (والتي لا يصلح مكانها غيرها بتناسق وتكامل).

    المثال الأول: قوله تعالى: ﴿ وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَٓا اِنَّا كُنَّا ظَالِم۪ينَ ﴾ (الأنبياء:٤٦)

    هذه الجملة مسوقة لإظهار هولِ العذاب، ولكن بإظهار التأثير الشديد لأقلِّه، ولهذا فإن جميعَ هيئات الجملة التي تفيد التقليل تنظرُ إلى هذا التقليل وتمدّه بالقوة كي يُظهر الهَول:

    فلفظ ﴿ لَئِنْ ﴾ هو للتشكيك، والشك يوحي القلة.

    ولفظ ﴿ مَسَّ ﴾ هو إصابة قليلة، يفيد القلة أيضا.

    ولفظ ﴿ نَفْحَةٌ ﴾ مادتُه رائحة قليلة، فيفيد القلة، كما أن صيغتَه تدل على واحدة، أي واحدة صغيرة، كما في التعبير الصرفي -مصدر المرة- فيفيد القلة..

    وتنوينُ التنكير في ﴿ نفحة ﴾ هي لتقليلها، بمعنى أنها شيء صغير إلى حدٍّ لا يُعلم، فيُنكر.

    ولفظ ﴿ مِنْ ﴾ هو للتبعيض، بمعنى جزء، فيفيد القلة.

    ولفظ ﴿ عَذَابِ ﴾ هو نوع خفيف من الجزاء بالنسبة إلى النكال والعقاب، فيشير إلى القلة.

    ولفظ ﴿ رَبِّكَ ﴾ بدلا من: القهار، الجبار، المنتقم، فيفيد القلة أيضا وذلك بإحساسه الشفقة والرحمة.

    وهكذا تفيد الجملة أنه:إذا كان العذابُ شديدا ومؤثرا مع هذه القلة، فكيف يكون هولُ العقاب الإلهي؟

    فتأمل في الجملة لترى كيف تتجاوب الهيئاتُ الصغيرة، فيُعينُ كل الآخر، فكل يمد المقصد بجهته الخاصة.

    هذا المثال الذي سقناه يلحظ اللفظَ والمقصد.

    المثال الثاني:

    قوله تعالى: ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ (البقرة:٣)

    فهيئات هذه الجملة تشير إلى خمسة شروط لقبول الصدقة:

    الشرط الأول: المستفاد من «من» التبعيضية في لفظ ﴿ مِمَّا ﴾ أي أن لا يبسطَ المتصدقُ يده كل البسط فيحتاج إلى الصدقة.

    الشرط الثاني: المستفاد من لفظ ﴿ رَزَقْنَاهُمْ ﴾ أي أن لا يأخذ من زيدٍ ويتصدق على عمرو، بل يجب أن يكون من مالِه، بمعنى: تصدقوا مما هو رزق لكم.

    الشرط الثالث: المستفاد من لفظ «نا» في ﴿ رزقنا ﴾ أي أن لا يَمُنّ فيستكثرَ، أي لا منّة لكم في التصدق، فأنا أرزقكم، وتنفقون من مالي على عبدي.

    الشرط الرابع: المستفاد من ﴿ يُنْفِقُونَ ﴾ أي أن ينفق على مَن يضعه في حاجاته الضرورية ونفقته، وإلّا فلا تكون الصدقةُ مقبولةً على مَن يصرفها في السفاهة.

    الشرط الخامس: المستفاد من ﴿ رَزَقْنَاهُمْ ﴾ أيضا. أي يكون التصدق باسم الله، أي المالُ مالي، فعليكم أن تنفقوه باسمي.

    ومع هذه الشروط هناك تعميم في التصدق، إذ كما أن الصدقة تكون بالمال، تكون بالعلم أيضا، وبالقول والفعل والنصيحة كذلك، وتشير إلى هذه الأقسام كلمة «ما» التي في ﴿ مِمَّا ﴾ بعموميتها. وتشير إليها في هذه الجملة بالذات، لأنها مطلقة تفيد العموم.

    وهكذا تجُود هذه الجملةُ الوجيزة -التي تفيد الصدقة- إلى عقل الإنسان خمسةَ شروط للصدقة مع بيان ميدانها الواسع، وتُشعرها بهيئاتها.

    وهكذا، فلهيئات الجمل القرآنية نُظم كثيرة أمثال هذه.

    وكذا للكلمات القرآنية أيضا ميدان نَظم واسع مثل ذلك، كل تجاه الآخر. وكذا للكلام القرآني ولجُمله دوائر نظم كتلك.

    فمثلا قوله تعالى:

    ﴿ قُلْ هُوَ اللّٰهُ اَحَدٌ ❀ اَللّٰهُ الصَّمَدُۚ ❀ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْۙ ❀ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا اَحَدٌ ﴾ (الإخلاص:١-٤)

    هذه الآيات الجليلة فيها ستُّ جُمل: ثلاث منها مثبتة وثلاث منها منفية، تثبت ستَّ مراتبَ من التوحيد كما تردّ ستةَ أنواع من الشرك. فكلُّ جملة منها تكون دليلا للجمل الأخرى كما تكون نتيجةً لها. لأن لكلِّ جملة معنيين، تكون باعتبار أحدهما نتيجةً، وباعتبار الآخر دليلا.

    أي إن سورة الإخلاص تشتمل على ثلاثين سورةٍ من سور الإخلاص. سوَر منتظمة مركبة من دلائل يثبت بعضُها بعضا، على النحو الآتي:

    ﴿ قُلْ هُوَ اللّٰهُ ﴾: لأنه أحد، لأنه صمد، لأنه لم يلد، لأنه لم يولد، لأنه لم يكن له كفوا أحد.

    وكذا: ﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا اَحَدٌ ﴾ : لأنه لم يولد، لأنه لم يلد، لأنه صمد، لأنه أحد، لأنه هو الله.

    وكذا: ﴿ هُوَ اللّٰهُ ﴾ فهو أحد، فهو صمد، فإذن لم يلد، فإذن لم يولد، فإذن لم يكن له كفوا أحد.

    وهكذا فقس على هذا المنوال.

    ومثلا: قوله تعالى: ﴿ الٓمٓۚ ❀ ذٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَۚۛ ف۪يهِۚۛ هُـدًى لِلْمُتَّق۪ينَ ﴾ (البقرة:١-٢)

    فلكلٍّ من هذه الجُمل الأربع معنيان: فباعتبار أحدهما يكون دليلا للجمل الأخرى، وباعتبار الآخر نتيجةً لها. فيحصل من هذا نقش نظمي إعجازي من ستةِ عشر خطا من خطوط المناسبة والعلاقة.

    وقد بين ذلك كتاب «إشارات الإعجاز» حتى كأن لكل آية من أكثر الآيات القرآنية عينا ناظرةً إلى أكثر الآيات، ووجها متوجها إليها، فتمد إلى كلٍّ منها خطوطا معنوية من المناسبات والارتباطات، ناسجةً نقشا إعجازيا. كما بُيّن ذلك في «الكلمة الثالثة عشرة». وخير شاهد على هذا «إشارات الإعجاز» إذ من أول الكتاب إلى آخره شرح لجزالة النظم هذه.

    النقطة الثانية

    البلاغة الخارقة في معناه ، إذا شئت أن تتذوق بلاغةَ المعنى في الآية الكريمة: ﴿ سَبَّحَ لِلّٰهِ مَا فِي السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِۚ وَهُوَ الْعَز۪يزُ الْحَك۪يمُ ﴾ (الحديد:١) فانظرْ إلى هذا المثال الموضَّح في «الكلمة الثالثة عشرة».

    فتصوَّر نفسَك قبل مجيء نورِ القرآن، في ذلك العصر الجاهلي، وفي صحراء البداوة والجهل، فبينما تجد كل شيء قد أسدل عليه ستارُ الغفلة وغشيَه ظلامُ الجهل ولُفّ بغلاف الجمود والطبيعة، إذا بك تشاهد بصدى قوله تعالى: ﴿ سَبَّحَ لِلّٰهِ مَا فِي السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ ﴾ (الحديد:١) أو ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمٰوَاتُ السَّبْعُ وَالْاَرْضُ وَمَنْ ف۪يهِنَّۜ ﴾ (الإسراء:٤٤) قد دبّت الحياةُ في تلك الموجودات الهامدة أو الميتة بصدى ﴿ سَبَّحَ ﴾ و ﴿ تُسَبِّحُ ﴾ في أذهان السامعين فتنهض مسبحةً ذاكرةً الله. وإن وجه السماء المظلمة التي تستعرُ فيها نجوم جامدة والأرض التي تدبّ فيها مخلوقات عاجزة، تتحول في نظر السامعين بصدى ﴿ تُسَبِّحُ ﴾ وبنوره إلى فمٍ ذاكر لله، كلُّ نجمٍ يشع نورَ الحقيقة ويبث حكمةً حكيمة بالغة. ويتحول وجهُ الأرض بذلك الصدى السماوي ونوره إلى رأس عظيم، والبرُّ والبحر لسانين يلهجان بالتسبيح والتقديس، وجميعُ النباتات والحيوانات إلى كلماتٍ ذاكرة مسبّحة حتى لكأن الأرض كلَّها تنبض بالحياة.

    ومثلا: انظرْ إلى هذا المثال الذي أثبت في «الكلمة الخامسة عشرة» وهو قوله تعالى:

    ﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْاِنْسِ اِنِ اسْتَطَعْتُمْ اَنْ تَنْفُذُوا مِنْ اَقْطَارِ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ فَانْفُذُواۜ لَا تَنْفُذُونَ اِلَّا بِسُلْطَانٍۚ ❀ فَبِاَيِّ اٰلَٓاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ❀ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِۚ ❀ فَبِاَيِّ اٰلَٓاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ (الرحمن:٣٣-٣٦) ﴿ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَٓاءَ الدُّنْيَا بِمَصَاب۪يحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاط۪ينِ ﴾ (الملك:٥).

    استمعْ لهذه الآيات وتدبّر ما تقول؟ إنها تقول: «أيها الإنسُ والجان، أيها المغرورون المتمردون، المتوحّلون بعَجزهم وضعفهم، أيها المعاندون الجامحون المتمرّغون في فقرهم وضعفهم! إنكم إن لم تطيعوا أوامري، فهيَّا اخرجوا من حدود مُلكي وسلطاني إن استطعتم! فكيف تتجرؤون إذن على عصيان أوامر سلطان عظيم: النجومُ والأقمار والشموس في قبضته، تأتمر بأوامره، كأنها جنود متأهبون..

    فأنتم بطغيانكم هذا إنما تبارزون حاكما عظيما جليلا له جنود مطيعون مهيبون يستطيعون أن يرجموا بقذائف كالجبال، حتى شياطينَكم لو تحملَت..

    وأنتم بكفرانكم هذا إنما تتمردون في مملكة مالكٍ عظيم جليل، له جنود عظام يستطيعون أن يقصفوا أعداءً كفرة -ولو كانوا في ضخامة الأرض والجبال- بقذائف ملتهبة وشظايا من لهيب كأمثال الأرض والجبال، فيمزقونكم ويشتتونكم!.

    فكيف بمخلوقات ضعيفة أمثالِكُم؟.. وأنتم تخالفون قانونا صارما يرتبط به مَن له القدرة -بإذن الله- أن يُمطر عليكم قذائف وراجمات أمثال النجوم».

    قس في ضوء هذا المثال قوة معاني سائر الآيات ورصانة بلاغتها وسمو إفاداتها.

    النقطة الثالثة

    البداعة الخارقة في أسلوبه:

    نعم، إن أساليب القرآن الكريم غريبة وبديعة كما أنها عجيبة ومقنعة، لم يقلّد أحدا قط ولا يستطيع أحد أن يقلده. فلقد حافظ وما يزال يحافظ على طراوة أسـاليبه وشبابيته وغرابته مثلما نـزل أول مرة.

    فمثلا: إنّ الحروف المقطّعة المذكورة في بدايات عدةٍ من السوَر تشبه الشفرات؛ أمثال: ﴿ الٓمٓۚ ﴾ ﴿ الٓرٰ ﴾ ﴿ طٰهٰ ﴾ ﴿ يٰسٓ ﴾ ﴿ حٰمٓ ﴾ ﴿ عٓسٓقٓ ﴾. وقد كتبنا نحو ستٍ من لمعات إعجازها في «إشارات الإعجاز» نذكر منها:

    إنّ الحروف المذكورة في بدايات السور تُنصِّف كلَّ أزواج طبائع الحروف الهجائية من المهموسة والمجهورة والشديدة والرخوة.. ([3]) وغيرها من أقسامها الكثيرة. أما الأوتار -التي لا تقبل التنصيف- فمن الثقيل النصف القليل كالقلقلة، ومن الخفيف النصف الكثير كالذلاقة.

    فسلوكُه في التنصيف والأخذُ بهذا الطريق الخفي الذي لا يدركه العقلُ من بين هذه الطرق المتداخلة المترددة بين مائتي احتمال، ثم سَوق الكلام في ذلك السياق وفي ذلك الميدان الواسعِ المشتبهةِ الأعلام ليس بالأمر الذي يأتي مصادفةً قط، ولا هو من شأن البشر.

    فهذه الحروفُ المقطعة التي في أوائل السور والتي هي شفرات ورموز إلهية تبيّن خمسا أو ستا من أسرار لمعات إعجاز أخرى، بل إن علماءَ علم أسرار الحروف والمحققين من الأولياء قد استخرجوا من هذه المقطّعات أسرارا كثيرة جدا، ووجدوا من الحقائق الجليلة ما يثبت لديهم أن المقطعات معجزة باهرة بحد ذاتها. أما نحن فلن نفتح ذلك الباب لأننا لسنا أهلا لأسرارهم، زد على ذلك لا نستطيع أن نثبتها إثباتا يكون مشهودا لدى الجميع. وإنما نكتفي بالإحالة إلى ما في «إشارات الإعجاز» من خمسِ أو ستِ لمعاتِ إعجازٍ تخص المقطّعات.

    والآن نشير عدة إشارات إلى أساليب القرآن، باعتبار السورة، والمقصد، والآيات، والكلام، والكلمة:

    فمثلا: سورة «النبأ» ﴿ عَمَّ يَتَسَٓاءَلُونَ.. ﴾ إلى آخرها، إذا أُنعم النظرُ فيها فإنها تصف وتُثبت أحوال الآخرة والحشر والجنة وجهنم بأسلوب بديع يُطَمئِن القلب ويُقنعه، حيث تبين أن ما في هذه الدنيا من أفعال إلهية وآثار ربانيةٍ متوجهةٌ إلى كلٍّ من تلك الأحوال الأخروية. ولما كان إيضاح أسلوب السورة كلِّها يطول علينا، فسنشير إلى نقطة أو نقطتين منه:

    تقول السورة في مستهلها إثباتا ليوم القيامة: لقد جعلنا الأرض لكم مهدا قد بُسطَ بسطا جميلا زاهيا.. والجبالَ أعمدة وأوتادا مليئة بالخزائن لمساكنكم وحياتكم.. وخلقناكم أزواجا تتحابّون فيما بينكم ويأنس بعضُكم ببعض.. وجعلنا الليل ساترا لكم لتخلدوا إلى الراحة.. والنهارَ ميدانا لمعيشتكم.. والشمسَ مصباحا مضيئا ومدفئا لكم.. وأنـزلنا من السُحب لكم ماءً باعثا على الحياة يجري مجرى العيون.. ونُنشئُ بسهولة من ماء بسيط أشياءَ شتى من مُزهر ومُثمر يحمل أرزاقكم.. فإذن يوم الفصل، وهو يوم القيامة، ينتظركم. والإتيان به ليس بعسير علينا.

    وبعد ذلك يشير إشارة خفية إلى إثبات ما يحدث في يوم القيامة من سير الجبال وتناثرها، وتشقق السماوات وتهيؤ جهنم، ومنح الجنة أهلَها الرياض الجميلة. وكأنه يقول: إنّ الذي يفعل هذه الأفعال في الجبال والأرض بمرأى منكم سيفعل مثلها في الآخرة. أي إن ما في بداية السورة من جبال تشير إلى أحوال الجبال يوم القيامة، وإن الحدائق التي في صدر السورة تشير إلى رياض الجنة في الآخرة. فقس سائر النقاط على هذا لتشاهد علو الأسلوب ومدى لطافته.

    ومثلا: ﴿ قُلِ اللّٰهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَٓاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَٓاءُۘ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَٓاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَٓاءُۜ بِيَدِكَ الْخَيْرُۜ اِنَّكَ عَلٰى كُلِّ شَيْءٍ قَد۪يرٌ ❀ تُولِجُ الَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي الَّيْلِۘ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّۘ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَٓاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ (آل عمران:٢٦-٢٧)

    هذه الآية تبين بأسلوب عالٍ رفيع ما في بني الإنسان من شؤون إلهية، وما في تعاقب الليل والنهار من تجليات إلهية، وما في فصول السنة من تصرفات ربانية، وما في الحياة والممات والحشر والنشر الدنيوي على وجه الأرض من إجراءات ربانية.. هذا الأسلوب عالٍ وبديع إلى حد يسخّر عقول أهل النظر. وحيث إن هذا الأسلوب العالي ساطع يمكن رؤيته بأدنى نظر فلا نفتح الآن هذا الكنـز.

    ومثلا:

    ﴿ اِذَا السَّمَآءُ انْشَقَّتْ ❀ وَاَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْۙ ❀ وَاِذَا الْاَرْضُ مُدَّتْۙ ❀ وَاَلْقَتْ مَا ف۪يهَا وَتَخَلَّتْۙ ❀ وَاَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ﴾ (الانشقاق:١-٥).

    تبين هذه الآيات مدى انقياد السماوات والأرض وامتثالهما أوامرَ الله سبحانه، تبينها بأسلوب عالٍ رفيع؛

    إذ كما أن قائدا عظيما يؤسس دائرتين عسكريتين لإنجاز متطلبات الجهاد؛ كشُعَب المناورة والجهاد، وشُعَب التجنيد والسَوق إلى الجهاد، وإنه حالما ينتهي وقت الجهاد والمناورة يتوجه إلى تينك الدائرتين ليستعملهما في شؤون أخرى، فقد انتهت مهمتهما. فكأن كلا من الدائرتين تقول بلسان موظفيها وخدّامها أو بلسانها لو أنطقت:

    «يا قائدي أمهلنا قليلا كي نهيئَ أوضاعَنا ونطهّر المكان من بقايا أعمالنا القديمة ونطرحها خارجا.. ثم شرِّف وتفضَّل علينا!» وبعد ذلك تقول: «فها قد ألقيناها خارجا، فنحن طوعَ أمرك، فافعل ما تشاء فنحن منقادون لأمرك. فما تفعله حق وجميل وخير».

    فكذلك السماوات والأرض دائرتان فتحتا للتكليف والامتحان، فعندما تنقضي المدة، تخلّي السماواتُ والأرض بإذن الله ما يعود إلى دائرة التكليف، ويقولان: «يا ربنا استخدِمنا فيما تُريد، فالامتثال حق واجب علينا، وكلُّ ما تفعله هو حق». فانظر إلى سمو هذا الأسلوب الخارق في هذه الجمل وأنعم النظر فيه.

    ومثلا: ﴿ وَق۪يلَ يَٓا اَرْضُ ابْلَع۪ي مَٓاءَكِ وَيَا سَمَٓاءُ اَقْلِع۪ي وَغ۪يضَ الْمَٓاءُ وَقُضِيَ الْاَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَق۪يلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِم۪ينَ ﴾ (هود:٤٤)

    للإشارة إلى قطرة من بحر بلاغة هذه الآية الكريمة نبين أسلوبا منها في مرآة التمثيل، وذلك:

    أن قائدا عظيما في حرب عالمية شاملة يأمر جيشَه بعد إحراز النصر: «أوقفوا إطلاق النار»، ويأمر جيشَه الآخر: «كُفُّوا عن الهجوم». ففي اللحظة نفسها ينقطع إطلاقُ النار ويقف الهجوم، ويتوجّه إليهم قائلا: «لقد انتهى كل شيء واستولينا على الأعداء وقد نُصبتْ راياتُنا على قمة قلاعهم ونال أولئك الظالمون الفاسدون جزاءهم وولوا إلى أسفل سافلين».

    كذلك، فإن السلطان الذي لا ندّ له ولا مثيل، قد أمر السماوات والأرض بإهلاك قوم نوح. وبعد أن امتثلا الأمرَ توجّه إليهما: «أيتها الأرضُ ابلعي ماءَك، وأنتِ أيتها السماءُ اسكني واهدأي فقد انتهت مهمتُكما. فانسحب الماء فورا من دون تريّث واستوت سفينةُ المأمور الإلهي كخيمة ضربت على قمة جبل. ولقيَ الظالمون جزاءهم».

    فانظرْ إلى علو هذا الأسلوب، إذ الأرضُ والسماء كجنديين مطيعين مستعدين للطاعة وتلقي الأوامر. فتشير الآيةُ بهذا الأسلوب إلى أن الكائنات تغضبُ من عصيان الإنسان وتغتاظ منه السماواتُ والأرض. وبهذه الإشارة تقول: «إن الذي تمتثل السماوات والأرض بأمره لا يُعصى ولا ينبغي أن يُعصى» مما يفيد زجرا شديدا رادعا للإنسان.

    فأنت ترى أن الآية قد جمعت ببيان موجز معجز جميل مجملٍ في بضع جمل حادثةَ الطوفان التي هي عامة وشاملة مع جميع نتائجها وحقائقها. فقس قطرات هذا البحر الأخرى على هذه القطرة.

    والآن انظر إلى الأسلوب الذي يريه القرآن من نوافذ الكلمات:

    فمثلا إلى كلمة ﴿ كَالْعُرْجُونِ الْقَد۪يمِ ﴾ في الآية الكريمة: ﴿ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتّٰى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَد۪يمِ ﴾ (يس:٣٩) كيف تعرض أسلوبا في غاية اللطف.

    وذلك: أنّ للقمر منـزلا هو دائرة الثريا. حينما يكون القمرُ هلالا فيه يشبه عرجونا قديما أبيض اللون. فتضع الآيةُ بهذا التشبيه أمام عين خيال السامع، كأن وراء ستار الخضراء ([4]) شجرة شقَّ أحدُ أغصانِها النورانية المدببة البيضاء ذلك الستارَ ومدّ رأسه إلى الخارج، والثريا كأنها عنقود معلق فيه. وسائرُ النجوم كالثمرات النورانية لشجرة الخلقة المستورة. ولا جرم فإن عرضَ الهلال بهذا التشبيه لأولئك الذين مصدرُ عيشهم ومعظمُ قوتِهم من النخيل هو أسلوب في غاية الحُسن واللطافة وفي منتهى التناسق والعلو. فإن كنت صاحب ذوق تدركْ ذلك.

    ومثلا: كلمة ﴿ تَجْر۪ي ﴾ في الآية الكريمة: ﴿ وَالشَّمْسُ تَجْر۪ي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَاۜ ﴾ (يس:٣٨) تفتح نافذة لأسلوب عالٍ -كما أثبت في ختام الكلمة التاسعة عشرة- وذلك:

    إن لفظ ﴿ تَجْر۪ي ﴾ الذي يعنى دوران الشمس، يفهّم عظمةَ الصانع الجليل بتذكيره تصرفات القدرة الإلهية المنتظمة في دوران الصيف والشتاء وتعاقب الليل والنهار، ويلفت الأنظارَ إلى المكتوبات الصمدانية التي كتبها قلمُ القدرة الإلهية في صحائف الفصول، فيعلّم حكمةَ الخالق ذي الجلال.

    وإن قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ﴾ (نوح:١٦) أي مصباحا، يفتح بتعبير ﴿ سِرَاجًا ﴾ نافذةً لمثل هذا الأسلوب.

    وهو أنه يُفهِّم عظمةَ الصانع وإحسان الخالق بتذكيره أن هذا العالم كأنه قصر، وأن ما فيه من لوازم وأطعمة وزينة قد أعدت للإنسان وذوي الحياة، وأن الشمس أيضا ما هي إلّا مصباح مسخر. فيبين بهذا دليلا للتوحيد، إذ الشمس التي يتوهمها المشركون أعظم معبود لديهم وألمعَها ما هي إلّا مصباح مسخّر ومخلوق جامد.

    فإذن بتعبير ﴿ سِرَاجًا ﴾ يذكّر رحمةَ الخالق في عظمة ربوبيته، ويفهّم إحسانه في سعة رحمته، ويُشعر بذلك الإفهام، بكرمه في عظمة سلطانه، ويفهّم الوحدانية بهذا الإشعار. وكأنه يقول: إن مصباحا مسخرا وسراجا جامدا لا يستحق العبادة بأي حال من الأحوال.

    ثم إن جريانَ الشمس بتعبير ﴿ تَجْر۪ي ﴾ يذكّر بتصرفات منتظمة مثيرة للإعجاب في دوران الصيف والشتاء والليل والنهار، ويفهّم بذلك التذكير عظمةَ قدرة الصانع المتفرد في ربوبيته. بمعنى أنه يصرِف ذهنَ الإنسان من الشمس والقمر إلى صحائف الليل والنهار والصيف والشتاء، ويجلب نظرَه إلى ما في تلك الصحائف من سطور الحادثات المكتوبة.

    أجل، إن القرآن لا يبحث في الشمس لذات الشمس بل لمن نوَّرها وجعلها سراجا، ولا يبحث في ماهيتها التي لا يحتاجها الإنسان، بل في وظيفتها، إذ هي تؤدي وظيفةَ نابضٍ «زنبرك» لانتظام الصنعة الربانية، ومركزٍ لنظام الخلقة الربانية، ومكّوكٍ لانسجام الصنعة الربانية، في الأشياء التي ينسجها المصوّر الأزلي بخيوط الليل والنهار.

    ويمكنك أن تقيس على هذا سائرَ الكلمات القرآنية فهي وإن كانت تبدو كأنها كلمات مألوفة بسيطة، إلّا أنها تؤدي مهمة مفاتيح لكنوز المعاني اللطيفة.

    وهكذا فلعلوّ أسلوب القرآن -كما في الوجوه السابقة في الأغلب- كان الأعرابي يعشقُ كلاما واحدا منه أحيانا، فيسجد قبلَ أن يؤمن، كما سمع أحدهم الآية الكريمة: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ﴾ (الحجر:٩٤) فخرَّ ساجدا، فلما سُئل: «أأسلمت؟» قال: «لا، بل أسجد لبلاغة هذا الكلام!»

    النقطة الرابعة

    الفصاحة الخارقة في لفظه:

    نعم، إن القرآن كما هو بليغ خارق من حيث أسلوبه وبيان معنـــاه، فهو فصيح في غاية الســـلاســـة في لفظه. والدليل القاطع على فصاحته هــو عدم إيراثه السأم والمَلَل. كما أن شهادة علماء فن البيان والمعاني برهان باهر على حكمة فصاحته.

    نعم، لو كُرّر ألوفَ المرات فلا يورث سأما ولا مللا. بل يزيدُ لذةً وحلاوةً.. ثم إنه لا يثقل على ذهن صبي بسيط فيستطيع حفظه.. ولا تسأم منه أُذنُ المصاب بداء عضال الذي يتأذى من أدنى كلام، بل يتلذذ به.. وكأنه الشراب العذب في فم المحتضر الذي يتقلّب في السَكرات، وهو لذيذ في أذنه ودماغه لذة ماء زمزم في فمه.

    والحكمةُ في عدم الملل والسأم من القرآن هو أنّ القرآن قوت وغذاء للقلوب، وقوّة وغَناء للعقول، وماء وضياء للأرواح، ودواء وشفاء للنفوس، لذا لا يُمَلّ. مثالُه الخبز الذي نأكله يوميا دون أن نملّ، بينما لو تناولنا أطيب فاكهة يوميا لشعرنا بالملل. فإذن لأن القرآن حق وحقيقة وصدق وهدى وذو فصاحة خارقة فلا يورث الملل والسآمة، وإنما يحافظ على شبابيته دائما كما يحافظ على طراوته وحلاوته، حتى إن أحد رؤساء قريش وبلغائها عندما ذهب إلى الرسول الكريم ليسمع القرآن، قال بعد سماعه له: «والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة.. وما يقوله بشر. ثم قال لقومه: والله ما فيكم رجل أعلمُ بالشعر مني.. ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا».

    فلم يبق أمامهم إلّا أن يقولوا إنه ساحر، ليغرروا به أتباعهم ويصدوهم عنه. وهكذا يبقى حتى أعتى أعداءِ القرآن مبهوتا أمام فصاحته.

    إن إيضاح أسباب الفصاحة في آيات القرآن الكريم وفي كلامه وفي جمله يطول كثيرا، فتفاديا من الإطالة نُقصر الكلام على إظهار لمعة إعجاز تتلمع من أوضاع الحروف الهجائية وكيفياتها في آية واحدة فقط، على سبيل المثال وهي قوله تعالى:

    ﴿ ثُمَّ اَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ اَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشٰى طَٓائِفَةً مِنْكُمْۙ وَطَٓائِفَةٌ قَدْ اَهَمَّتْهُمْ اَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّٰهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِۜ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْاَمْرِ مِنْ شَيْءٍۜ قُلْ اِنَّ الْاَمْرَ كُلَّهُ لِلّٰهِۜ يُخْفُونَ ف۪ٓي اَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَۜ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْاَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هٰهُنَاۜ قُلْ لَوْ كُنْتُمْ ف۪ي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذ۪ينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ اِلٰى مَضَاجِعِهِمْۚ وَلِيَبْتَلِيَ اللّٰهُ مَا ف۪ي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا ف۪ي قُلُوبِكُمْۜ وَاللّٰهُ عَل۪يمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ (آل عمران:١٥٤).

    لقد جمعت هذه الآية جميعَ حروف الهجاء وأجناسَ الحروف الثقيلة، ومع ذلك لم يفقدها هذا الجمع سلاستَها بل زادها بهاءً إلى جمالها ومزج نغمةً من الـفصاحة نبعت من أوتار متناسبة متنوعـة.

    فأنعِمْ النظرَ في هذه اللمعة ذات الإعجاز وهي أن الألِف والياء لأنهما أخفُّ حروف الهجاء وتنقلب إحداهُما بالأخرى كأنهما أختان، تكرّر كلّ منهما إحدى وعشرين مرة.. وأن الميم والنون ([5]) لأنهما أختان، ويمكن أن تحل إحداهما محل الأخرى فقد ذُكر كلّ منهما ثلاثا وثلاثين مرةً..

    وأن الصاد والسين والشين متآخية حسب المخرج والصفة والصوت فذُكر كل واحد منها ثلاث مرات.. وأن العين والغين متآخيتان فذُكر العين ست مرات لخفتها بينما الغين لثقلها ذكرت ثلاث مرات أي نصفه..

    وأن الطاء والظاء والذال والزاي، متآخية حسب المخرج والصفة والصوت، فذُكر كل واحد منها مرتين.. وأن اللام والألف متحدتان في صورة «لا»، وأن حصة الألف نصف في صورة «لا» فذُكرت اللام اثنتين وأربعين مرة، وذُكرت الألف -نصفها- إحدى وعشرين مرة.. وأن الهمزة والهاء متآخيتان حسب المخرج فذكرت الهمزة ثلاث عشرة مرة ([6]) والهاء أربع عشرة مرة لكونها أخفّ منها بدرجة.. وأن القاف والفاء والكاف متآخية، فذُكرت القاف عشر مرات لزيادة نقطة فيها، وذكرت الفاء تسع مرات والكاف تسع.. وأن الباء ذُكرت تسع مرات، والتاء ذكرت اثنتي عشرة مرة، لأن درجتها ثلاثة.. وأن الراء أخت اللام . ولكن الراء مئتان واللام ثلاثون حسب حساب «أبجدية الجمل» أي إن الراء فوق اللام بست درجات فانخفضت عنها بست درجات. وأيضا الراء تتكرر كثيرا في التلفظ، فيثقل، فذُكرت ست مرات فقط..

    ولأن الخاء والحاء والثاء والضاد ثقيلة وبينها مناسبات ذُكر كل منها مرة واحدة.. ولأن الواو أخف من «الهاء والهمزة» وأثقل من «الياء والألف» ذُكرت سبع عشرة مرة فوق الهمزة الثقيلة بأربع درجات وتحت الألف الخفيفة بأربع درجات أيضا.

    وهكذا فإن هذه الحروف بهذا الوضع المنتظم الخارق، مع تلك المناسبات الخفية، والانتظام الجميل، والنظام الدقيق، والانسجام اللطيف تثبت بيقين جازم كحاصل ضرب اثنين في اثنين يساوي أربعا أنه ليس من شأن البشر ولا يمكنه أن يفعله. أما المصادفة فمحال أن تلعب به.

    هذا فإن ما في أوضاع هذه الحروف من الانتظام العجيب والنظام الغريب مثلما هو مدار للفصاحة والسـلاســة اللفظية، يمكن أن تكون له حِكم كثيرة أخرى. فما دام في الحروف هذا الانتظام، فلا شك أنه قد روعي في كلماتها وجملها ومعانيها انتظام ذو أسرار، وانسجام ذو أنوار، لو رأته العينُ لقالت من إعجابها: «ما شاء الله»، وإذا أدركه العقلُ لقال من حيرته: «بارك الله».

    النقطة الخامسة

    براعة البيان:

    أي التفوق والمتانة والهيبة، إذ كما أن في نظم القرآن جزالةً، وفي لفظه فصاحةً، وفي معناه بلاغةً، وفي أسلوبه إبداعا، ففي بيانه أيضا براعة فائقة. نعم، إن بيانَ القرآن لهو في أعلى مرتبة من مراتب طبقات الخطاب وأقسام الكلام: كالترغيب والترهيب، والمدح والذم، والإثبات والإرشاد، والإفهام والإفحام.

    فمن بين آلاف أمثلة مقام «الترغيب والتشويق» سورة «الإنسان»، إذ بيان القرآن في هذه السورة سلس ينساب كالسلسبيل، ولذيذ كثمار الجنة، وجميل كحلل الحور العين. ([7])

    ومن بين الأمـثلة التي لا تحد لمقام «الترهيب والتهديد»، مقـدمة سورة «الغاشية». إذ بيان القرآن في هذه السورة يؤثر تأثيرَ غليان الرصاص في صماخ الضالين، ولهيبَ النار في عقولهم، وكالزقوم في حلوقهم، وكلفح جهنم في وجوههم، وكالضريع الشائك في بطونهم. نعم، إن كانت مأمورةُ العذاب جهنم ﴿ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ ﴾ (الملك:٨) فكيف يكون تهديد وترهيب آمرها بالعذاب؟

    ومن بين آلاف أمثلة مقام «المدح»، السوَر الخمس المستهلة بـ«الحمد لله»؛ إذ بيان القرآن في هذه السور ساطع كالشمس، ([8]) مزّين كالنجوم، مهيب كالسماوات والأرض، محبوب مأنوس كالملائكة، لطيف رؤوف كالرحمة على الصغار في الدنيا، وجميل بهيج كالجنة اللطيفة في الآخرة.

    ومن بين آلاف أمثلة مقام «الذم والزجر» الآية الكريمة: ﴿ اَيُحِبُّ اَحَدُكُمْ اَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ اَخ۪يهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ﴾ (الحجرات:١٢)

    تنهى هذه الآية الكريمة عن الغيبة بست مراتب وتزجر عنها بشدة وعنف، وحيث إن خطاب الآية موجّه إلى المغتابين، فيكون المعنى كالآتي: إنّ الهمزة الموجودة في البداية، للاستفهام الإنكاري، حيث يسري حُكمه ويسيلُ كالماء إلى جميع كلمات الآية، فكل كلمة منها تتضمن حُكما؛

    ففي الكلمة الأولى تخاطب الآية الكريمة بالهمزة: أليس لكم عقل -وهو محل السؤال والجواب- ليَعي هذا الأمرَ القبيح؟

    وفي الكلمة الثانية: ﴿ اَيُحِبُّ ﴾ تخاطب الآية بالهمزة: هل فسد قلبُكم -وهو محل الحب والبغض- حتى أصبح يحب أكرهَ الأشياء وأشدَّها تنفيرا.

    وفي الكلمة الثالثة: ﴿ اَحَدُكُمْ ﴾ تخاطب بالهمزة: ماذا جرى لحياتكم الاجتماعية -التي تستمد حيويتَها من حيوية الجماعة- وما بال مدنيتِكم وحضارتِكم حتى أصبحت ترضى بما يسمِّم حياتَكم ويعكّر صفوَكم.

    وفي الكلمة الرابعة: ﴿ اَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ ﴾ تخاطب بالهمزة: ماذا أصابَ إنسانيتَكم؟ حتى أصبحتم تفترسون صديقكم الحميم.

    وفي الكلمة الخامسة: ﴿ اَخ۪يهِ ﴾ تخاطب بالهمزة: أليس بكم رأفة ببني جنسِكم، أليس لكم صلةُ رحم تربطُكم معهم، حتى أصبحتم تفتكون بمن هو أخوكم من عدة جهات، وتنهشون شخصَه المعنوي المظلوم نهشا قاسيا، أيملك عقلا من يعضّ عضوا من جسمه؟ أوَليس هو بمجنون؟.

    وفي الكلمة السادسة: ﴿ مَيْتًا ﴾ تخاطب بالهمزة: أين وجدانُكم؟ أفَسدَت فطرتُكم حتى أصبحتم تجترحون أبغضَ الأشياء وأفسدَها، وهو أكل لحم أخيكم، في الوقت الذي هو جدير بكل احترام وتوقير.

    يفهم من هذه الآية الكريمة -وبما ذكرناه من دلائل مختلفة في كلماتها- أنّ الغيبة مذمومة عقلا وقلبا وإنسانية ووجدانا وفطرة وملةً.

    فتدبّر هذه الآية الكريمة، وانظر كيف أنها تزجُر عن جريمة الغيبة بإعجاز بالغ وبإيجاز شديد في ست مراتب.

    ومن بين آلاف أمثلة مقام «الإثبات» الآية الكريمة: ﴿ فَانْظُرْ اِلٰٓى آثَارِ رَحْمَتِ اللّٰهِ كَيْفَ يُحْيِ الْاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَاۜ اِنَّ ذٰلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتٰىۚ وَهُوَ عَلٰى كُلِّ شَيْءٍ قَد۪يرٌ ﴾ (الروم:٥٠) فإنها تثبت الحشرَ وتزيل استبعاده ببيانٍ شافٍ وواف لا بيان فوقَه. وذلك كما أثبتنا في «الحقيقة التاسعة من الكلمة العاشرة» وفي «اللمعة السادسة من الكلمة الثانية والعشرين» بأنه كلما حلّ موسمُ الربيع، فكأن الأرض تُبعثُ من جديد بانبعاث ثلاثمائة ألف نوع من أنواع الحشر والنشور، في انتظام متقن وتمييز تام، علما أنها في منتهى الاختلاط والتشابك، حتى يكون ذلك الإحياء والبعث ظاهرا لكل مشاهد، وكأنه يقول له: إن الذي أحيا الأرض هكذا لن يصعبَ عليه إقامةُ الحشر والنشور. ثم إن كتابة هذه الألوف المؤلفة من أنواع الأحياء على صحيفة الأرض بقلم القدرة دون خطأ ولا نقص لهي ختم واضح للواحد الأحد، فكما أثبتت هذه الآية الكريمة التوحيدَ، تثبت القيامةَ والحشر أيضا مبينةً أن الحشر والنشور سهل على تلك القدرة وقطعي ثابت كقطعية ثبوت غروب الشمس وشروقها.

    ثم إن الآية الكريمة إذ تبين هذه الحقيقة بلفظ ﴿ كَيْفَ ﴾ أي من زاوية الكيفية فإن سورا أخرى كثيرة قد فصّلت تلك الكيفية؛ منها:

    سورة «ق» مثلا، فإنها تثبت الحشر والقيامة ببيان رفيع جميل باهر يفيد أنه لا ريب في مجيء الحشر كما لا ريب في مجيء الربيع. فتأمل في جواب القرآن الكفارَ المنكرين وتعجّبهم من إحياء العظام وتحولها إلى خلق جديد، إذ يقول لهم: ﴿ اَفَلَمْ يَنْظُرُٓوا اِلَى السَّمَٓاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ❀ وَالْاَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَاَلْقَيْنَا ف۪يهَا رَوَاسِيَ وَاَنْبَتْنَا ف۪يهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَه۪يجٍۙ ❀ تَبْصِرَةً وَذِكْرٰى لِكُلِّ عَبْدٍ مُن۪يبٍ ❀ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَٓاءِ مَٓاءً مُبَارَكًا فَاَنْبَتْنَا بِه۪ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَص۪يدِۙ ❀ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَض۪يدٌۙ ❀ رِزْقًا لِلْعِبَادِۙ وَاَحْيَيْنَا بِه۪ بَلْدَةً مَيْتًاۜ كَذٰلِكَ الْخُرُوجُ ﴾ (ق:٦-١١).

    فهذا البيانُ يسيل كالماء الرقراق، ويسطع كالنجوم الزاهرة، وهو يُطعمُ القلبَ ويغذّيه بغذاءٍ حلو طيب كالرُطَب. فيكون غذاءً ويكون لذةً في الوقت نفسه.

    ومن ألطفِ أمثلة مقام «الإثبات» هذا المثال: ﴿يس ❀ وَالْقُرْاٰنِ الْحَك۪يمِۙ ❀ اِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَل۪ينَ ﴾ (يس:١-٣). هذا القَسَم يشير إلى حجّية الرسالة وبرهانِها بيقين جازم وحق واضح حتى بلغتْ في الحقانية والصدق مرتبة التعظيم والإجلال، فيُقْسَم به.

    يقول القرآن الكريم بهذه الإشارة: إنك رسول لأن في يدك قرآنا حكيما، والقرآنُ نفسُه حق وكلام الحق، لأن فيه الحكمة الحقة وعليه ختمَ الإعجاز.

    ونذكر من أمثلة مقام «الإثبات» ذات الإعجاز والإيجاز هذه الآية الكريمة:

    ﴿ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِىَ رَم۪يمٌ ❀ قُلْ يُحْي۪يهَا الَّذ۪ٓي اَنْشَاَهَٓا اَوَّلَ مَرَّةٍۜ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَل۪يمٌ ﴾ (يس:٧٨-٧٩).

    ففي المثال الثالث من الحقيقة التاسعة للكلمة العاشرة تصوير لطيف لهذه المسألة، على النحو الآتي: إنّ شخصا عظيما يستطيع أن يشكّل أمام أنظارنا جيشا ضخما في يوم واحد. فإذا قال أحدُهم: إن هذا الشخص يمكنُه أن يجمع جنودَ طابوره المتفرقين للاستراحة ببوق عسكري فينتظم له الطابور حالا. وأنت أيها الإنسان إن قلت: لا أصدّق!! تدرك عندئذٍ مدى بُعد إنكارك عن العقل.

    والأمر كذلك -ولله المثل الأعلى-: أن الذي يبعث أجسادَ الأحياء قاطبة من غير شيء، كأنها أفرادُ جيش ضخم بكمال الانتظام وبميزان الحكمة، ويجمع ذرات تلك الأجساد ولطائفَها ويحفظُها بأمر ﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ في كل قرن، بل في كل ربيع، على وجه الأرض كافة، ويوجِد مئات الألوف من أمثالها من أنواع ذوي الحياة. إن القدير العليم الذي يفعل هذا هل يمكن أن يُستَبعد منه جمعَ الذرات الأساسية والأجزاءَ الأصلية المتعارفة تحت نظام الجسد كأنها أفرادُ جيش منظم، بصيحةٍ من صور إسرافيل؟ إن استبعاد هذا من ذلكم القدير العليم لا محالةَ جنون!

    وفي مقام «الإرشاد» فإن البيانات القرآنية مؤثرة ورفيعة ومؤنسة ورقيقة حتى إنها تملأ الروحَ شوقا والعقلَ لهفةً والعين دمعا.

    فلنأخذ هذا المثال من بين آلاف أمثلته: ﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ اَوْ اَشَدُّ قَسْوَةًۜ وَاِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْاَنْهَارُۜ وَاِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَٓاءُۜ وَاِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّٰهِۜ وَمَا اللّٰهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ (البقرة:٧٤)

    فكما أوضحنا وأثبتنا في مبحث الآية الثالثة من «المقام الأول للكلمة العشرين» فإن الآية هذه تخاطب بني إسرائيل قائلة: ماذا أصابكم يا بني إسرائيل حتى لا تبالون بجميع معجزات موسى عليه السلام، فعيونُكم شاخصة جافة لا تدمعُ، وقلوبُكم قاسية غليظة لا حرارةَ فيها ولا شوق، بينما الحجارةُ الصلدة القاسية قد ذرفَت الدموعَ من اثنتي عشرةَ عينا بضربةٍ من عصا موسى عليه السلام، وهي معجزة واحدة من معجزاته!

    نكتفي بهذا القدر هنا ونحيل إلى تلك الكلمة حيث وُضّح هذا المعنى الإرشادي إيضاحا كافيا.

    وفي مقام «الإفحام والإلزام» تأمل في هذين المثالين فحسب من بين آلاف أمثلته.

    المثال الأول: ﴿ وَاِنْ كُنْتُمْ ف۪ي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلٰى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِه۪ۖ وَادْعُوا شُهَدَٓاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّٰهِ اِنْ كُنْتُمْ صَادِق۪ينَ ﴾ (البقرة:٢٣).

    سنشير هنا إشارةً مجملةً فحسب، إذ قد أوضحناه وأثبتناه وأشرنا إليه في «إشارات الإعجاز» وهو:

    أنّ القرآن المعجز البيان يقول: يا معشر الإنس والجن إن كانت لديكم شبهة في أن القرآن ليس كلام الله، وتتوهمون أنه من كلام بشر. فهيا، فها هو ميدانُ التحدي. فأْتوُا بقرآنٍ مثل هذا يصدر عن شخصٍ أمّي لا يعرف القراءة ولا الكتابة، مثل محمدٍ الذي تصفونه أنتم بـ«الأمين»..

    فإن لم تفعلوا هذا فأْتوُا به من غير أمّي، وليكن بليغا أو عالما..

    فإن لم تفعلوا هذا فأْتوا به من جماعة من البلغاء وليس من شخص واحد، بل اجمعوا جميعَ بلغائكم وخطبائكم والآثار الجيدة للسابقين منهم ومدد اللاحقين وهِمَم شهدائكم وشركائكم من دون الله، وابذلوا كلَّ ما لديكم حتى تَأتوُا بمثل هذا القرآن..

    فإن لم تفعلوا هذا فأْتوُا بكتابٍ في مثل بلاغة القرآن ونَظمه، بصرف النَظر عن حقائقه العظيمة ومعجزاته المعنوية.

    بل القرآن قد تحدّاهم بأقلّ من هذا إذ يقول: ﴿ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِه۪ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾ (هود:١٣) أي ليس ضروريا صدق المعنى فلتكن أكاذيبَ مفتريات.

    وإن لم تفعلوا، فليكن عشرَ سور منه وليس ضروريا كل القرآن.. وإن لم تفعلوا هذا،

    فأتوُا بسورة واحدة من مثله فحسب، وإن كنتم ترَون هذا أيضا صعبا عليكم، فلتكن سورةً قصيرة..

    وأخيرا ما دمتم عاجزين لا تستطيعون أن تفعلوا ولن تفعلوا مع أنكم في أمسّ الحاجة إلى الإتيان بمثيله، لأنّ شرفَكم وعزتكم ودينَكم وعصبيتكم وأموالكم وأرواحكم ودنياكم وأخراكم إنما تُصان بإتيان مثلِه، وإلّا ففي الدنيا يتعرض شرفُكم ودينُكم إلى الخطر وتسامون الذلّ والهوان وتُهدر أموالُكم، وفي الآخرة تصيرون حطبا للنار مع أصنامكم ومحكومين بالسجن الأبدي ﴿ فَاتَّقُوا النَّارَ الَّت۪ي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُۚ ﴾ (البقرة:٢٤).

    فما دمتم قد عرفتم عَجزَكم بثماني مراتب، فلابد أن تعرفوا أن القرآن معجز بثماني مراتب. فإما أن تؤمنوا به أو تسكتوا نهائيا وتكون جهنمُ مثواكم وبئس المصير.

    وبعد ما عرفتَ بيان القرآن هذا وإلزامَه في مقام «الإفحام» قل:

    حقا إنه«ليس بعد بيان القرآن بيان».

    المثال الثاني:

    ﴿ فَذَكِّرْ فَمَٓا اَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍۜ ❀ اَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِه۪ رَيْبَ الْمَنُونِ ❀ قُلْ تَرَبَّصُوا فَاِنّ۪ي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّص۪ينَۜ ❀ اَمْ تَأْمُرُهُمْ اَحْلَامُهُمْ بِهٰذَٓا اَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَۚ ❀ اَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُۚ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَۚ ❀ فَلْيَأْتُوا بِحَد۪يثٍ مِثْلِه۪ٓ اِنْ كَانُوا صَادِق۪ينَۜ ❀ اَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ اَمْ هُمُ الْخَالِقُونَۜ ❀ اَمْ خَلَقُوا السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضَۚ بَلْ لَا يُوقِنُونَۜ ❀ اَمْ عِنْدَهُمْ خَزَٓائِنُ رَبِّكَ اَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَۜ ❀ اَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ ف۪يهِۚ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُب۪ينٍۜ ❀ اَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَۜ ❀ اَمْ تَسْـَٔلُهُمْ اَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَۜ ❀ اَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَۜ ❀ اَمْ يُر۪يدُونَ كَيْدًاۜ فَالَّذ۪ينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَك۪يدُونَۜ ❀ اَمْ لَهُمْ اِلٰهٌ غَيْرُ اللّٰهِۜ سُبْحَانَ اللّٰهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ (الطور:٢٩-٤٣).

    من بين آلاف الحقائق التي تتضمنُها هذه الآياتُ الجليلة سنبين حقيقةً واحدة فقط مثالا للإلزام وإفحام الخصم. كالآتي: إن هذه الآيات الكريمة تُلزم جميعَ أقسام أهل الضلالة وتُسكتُهم، وتسدّ جميع منابت الشبهات وتزيلُها، وذلك بلفظ: أم.. أم، بخمس عشرة طبقةً من الاستفهام الإنكاري التعجبي، فلا تدَعُ ثغرةً شيطانية ينـزوي فيها أهلُ الضلالة إلّا وتسدُّها، ولا تدع ستارا يتسترون تحته إلّا وتمزقُه، ولا تدع كذبا من أكاذيبهم إلّا وتفنّده.

    فكل فقرة من فقراتها تبطل خلاصةَ مفهوم كفرٍ تحمله طائفة من الطوائف الكافرة؛ إما بتعبير قصير وجيز، أو بالسكوت عنه وإحالته إلى بداهة العقل لظهور بطلانه، أو بإشارة مجملة إذ قد رُدّ ذلك المفهوم الكفري وأفحم في موضع آخر بالتفصيل. فمثلا:

    الفقرة الأولى تشير إلى الآية الكريمة: ﴿ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغ۪ي لَهُ ﴾ (يس:٦٩). أما الفقرة الخامسة عشرة فهي ترمز إلى الآية الكريمة: ﴿ لَوْ كَانَ ف۪يهِمَٓا اٰلِهَةٌ اِلَّا اللّٰهُ لَفَسَدَتَاۚ ﴾ (الأنبياء:٢٢). قِسْ بنفسك سائر الفقرات في ضوء هذه الفقرة، وذلك:

    ففي المقدمة تقول: بلّغ الأحكامَ الإلهية، فإنك لستَ بكاهنٍ، لأن كلام الكاهن ملفّق مختلط لا يعدو الظن والوهمَ، بينما كلامُك هو الحق بعينه وهو اليقين.. وذكّر بتلك الأحكام فلستَ مجنونا قط، فقد شهدَ أعداؤك كذلك على كمال عقلك.

    ﴿ اَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِه۪ رَيْبَ الْمَنُونِ ﴾

    فيا عجبا! أيقولون لك: شاعر، كالكفار العوام الذين لا يحتكمون إلى العقل! أوَهم ينتظرون هلاكَك وموتك! قل لهم: انتظروا وأنا معكم من المنتظرين. فإن حقائقك العظيمة الباهرة منـزّهة عن خيالات الشعر ومستغنية عن تزييناته.

    ﴿ اَمْ تَأْمُرُهُمْ اَحْلَامُهُمْ بِهٰذَٓا ﴾

    أم إنهم يستنكفون عن اتّباعك كالفلاسفة المعتدّين بعقولهم الفارغة؟؛ الذين يقولون: كفانا عقلُنا. مع أن العقل نفسَه يأمر باتّباعك، فما من قول تقولُه إلّا وهو معقول، ولكن لا يبلُغه العقلُ بمفرده.

    ﴿ اَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ﴾

    أم إن سبب إنكارهم هو عدم رضوخهم للحق كالطغاة الظلمة؟ مع أن عقبى الجبارين العتاة من فراعنة ونماريد معلومة لا تخفى على أحد.

    ﴿ اَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُۚ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾

    أم إنهم يتهمونك بأن القرآن كلام من عندك، كما يقول المنافقون الكاذبون الذين لا ضمير لهم ولا وجدان؟ مع أنهم هم الذين يدعونك إلى الآن بـ«محمد الأمين» لصدقِ كلامك. فإذن لا ينوون الإيمان. وإلّا فليجدوا في آثار البشر مثيلا للقرآن.

    ﴿ اَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ ﴾

    أم إنهم يعدّون أنفسهم سائبين، خُلقوا سدىً بلا غاية ولا وظيفة ولا خالق لهم ولا مولى؟. ويعتقدون الكونَ كلَّه عبثا كما يعتقد به الفلاسفة العبثيون! أفعَميتْ أبصارُهم؟ أفلا يرون الكون كله من أقصاه إلى أقصاه مزيّنا بالحِكَم ومثمرا بالغايات، والموجودات كلها من الذرات إلى المجرات مناطة بوظائف جليلة ومسخرة لأوامر إلهية.

    ﴿ اَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ﴾

    أم إنهم يظنون أن الأشياء تتشكل بنفسها وتُربَّى بنفسها وتخلق لوازمَها بنفسها، كما يقول الماديون المتفرعنون! حتى غدوا يستنكفون من الإيمان والعبودية لله. فإذن هم يظنون أنفسهم خالقين. والحال أن خالق شيء واحد يلزم أن يكون خالقا لكل شيء. فلقد دفعهم إذن غرورُهم وعتوّهم إلى منتهى الحماقة والجهل حتى ظنوا أنّ مَن هو عاجز أمام أضعف مخلوق -كالذباب والميكروب- قادر مطلق! فما داموا قد تخلّوا إلى هذا الحد عن العقل وتجرّدوا من الإنسانية، فهم إذن أضلُّ من الأنعام بل أدنى من الجمادات.. فلا تهتم لإنكارهم، بل ضَعهم في عداد الحيوانات المضرة والمواد الفاسدة. ولا تلقِ لهم بالا ولا تلتفت إليهم أصلا.

    ﴿ اَمْ خَلَقُوا السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضَۚ بَلْ لَا يُوقِنُونَ ﴾

    أم يجحدون وجود الله تعالى كالمعطّلة الحمقى المنكرين للخالق؟ فلا يستمعون للقرآن! فعليهم إذن أن ينكروا خلق السماوات والأرض، أو يقولوا: نحن الخالقون؛ ولينسلخوا من العقل كليا وليدخلوا في هذيان الجنون، لأن براهين التوحيد واضحة تُقرأ في أرجاء الكون بعدد نجوم السماء وبعـدد أزاهير الأرض، كلُّها تدل على وجوده تعالى وتُفصح عنه. فإذن لا يرغبون في الرضوخ للحق واليقين، وإلّا فكيف ظنوا أن كتاب الكون العظيم هذا الذي تندرج في كل حرفٍ منه ألوفُ الكتب، أنه دون كاتب. مع أنهم يعلمون جيدا أن حرفا واحدا لا يكون دون كاتب؟

    ﴿ اَمْ عِنْدَهُمْ خَزَٓائِنُ رَبِّكَ ﴾

    أم إنهم ينفون الإرادة الإلهية كبعض الفلاسفة الضالين أو ينكرون أصل النبوة كالبراهمة، فلا يؤمنون بك! فعليهم إذن أن ينكروا جميع آثار الحِكَم والغايات الجليلة والانتظامات البديعة والفوائد المثمرة وآثار الرحمة الواسعة والعناية الفائقة الظاهرة على الموجودات كافة، والدالة على الإرادة الإلهية واختيارها، وعليهم أن ينكروا جميع معجزات الأنبياء عليهم السلام، أو عليهم أن يقولوا: إن الخزينة التي تفيض بالإحسان على الخلق أجمعين هي عندنا وبأيدينا. وليُسْفِروا عن حقيقتهم بأنهم لا يستحقون الخطاب، ولا هم أهل له. إذن فلا تحزن على إنكارهم. فلله حيوانات ضالة كثيرة.

    ﴿ اَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ ﴾

    أم إنهم توهموا أنفسهم رقباءَ على أعمال الله تعالى؟ أفَيريدون أن يجعلوه سبحانه مسؤولا، كالمعتزلة الذين نصبوا العقل حاكما! فلا تبالِ ولا تكترث بهم إذ لا طائل وراء إنكار هؤلاء المغرورين وأمثالهم.

    ﴿ اَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ ف۪يهِۚ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُب۪ينٍ ﴾

    أم إنهم يظنون أنفسهم قد وجدوا طريقا آخر إلى عالم الغيب كما يدّعيه الكهانُ الذين اتبعوا الشياطين والجان، وكمشعوذي تحضير الأرواح؟ أم يظنون أن لديهم سلما إلى السماوات التي صُكت أبوابُها بوجوه الشياطين، حتى لا يصّدقوا بما تتلقاه من خبر السماء! فإنكارُ هؤلاء الفجرة الكذابين وأمثالهم، هو في حُكم العدم.

    ﴿ اَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ ﴾

    أم إنهم يسندون الشرك إلى الأحد الصمد باسم العقول العشرة وأرباب الأنواع كما يعتقد به فلاسفة مشركون، أو بنوعٍ من الألوهية المنسوبة إلى النجوم والملائكة كالصابئة، أو بإسناد الولد إليه تعالى كالملحدين والضالين، أو ينسبون إليه الولد المنافي لوجوب وجود الأحد الصمد ولوحدانيته وصمدانيته، فهو المستغني المتعال؟ أم يسندون الأنوثة إلى الملائكة المنافية لعبوديتهم وعصمتهم وجنسهم «طبيعتهم»؟ أفَهُم يظنون أنهم بهذا يوجدون شفعاءَ لأنفسهم، فلا يتّبعونك!؟ إن الإنسان الفاني الذي يطلب الوريثَ المعين، والمطبوعَ على حب الدنيا إلى حدّ الهيام بها، وهو العاجز الفقير إلى بقاء نوعه، والمؤهّلُ للتناسل والتكاثر والتجزؤ الجسماني، ذلك التناسل الذي هو رابطةُ البقاء وآصرةُ الحياة للمخلوقات كافة.. فإسناد التناسل هذا إلى مَن وجودُه واجب وهو الدائم الباقي، الأزلي الأبدي، الذاتي، المنـزّه عن الجسمانية، المقدسُ عن تجزئة الماهية، المتعالي عن أن يمس قدرتَه العجزُ، وهو الواحد الأحد الجليل ذو الجلال.. وإسناد الأولاد إليه ولاسيما الضعفاء العاجزين أي البنات اللاتي لم يرتَضها غرورُ هؤلاء، إنما هو نهايةُ السفسطة ومنتهى الجنون وغايةُ الهذيان، حتى إنه لا حاجة إلى تفنيد افتراءاتهم وإظهار بطلانهم فلا تنصت إليهم ولا تلق لهم بالا، إذ لا تُسمَع سفسطةُ كل ثملٍ ولا هذيانُ كل مجنون.

    ﴿ اَمْ تَسْـَٔلُهُمْ اَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ﴾

    أم إنهم يرون تكاليف العبودية التي تطلبها منهم ثقيلة عليهم؟ كما يراها الطغاة الباغون الحريصون على الدنيا المعتادون على الخسّة فيهربون من تلك التكاليف! ألا يعلمون أنك لا تريد منهم أجرا ولا من أحدٍ إلّا منه سبحانه؟ أيعزّ عليهم التصدق من مال الله الذي أعطاه إياهم ليزداد المال بركةً وليحصَّنَ من حسد الفقراء، ومن الدعاء بالسوء على مالكه؟ فالزكاةُ بمقدار العُشر أو واحد من أربعين، والتصدق بها على فقرائهم أتُعدّ أمرا ثقيلا حتى يهربوا من الإسلام؟ إنهم لا يستحقون حتى الجواب على تكذيبهم، فهو واضح جدا وتافه جدا بل يستحقون التأديب لا الإجابة.

    ﴿ اَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ﴾

    أم إنهم لا يروق لهم ما تتلقاه من أخبار الغيب، فيدّعون معرفة الغيب كالبوذيين وكالعقلانيين الذين يحسبون ظنونهم يقينا! أعندهم كتاب من الغيب وهو مفتوح لهم يكتبون منه حتى يردّوا كتابك الغيبي!؟ إن ذلك العالَم لا ينـزاح حجابُه إلّا للرسل الموحى إليهم، ولا طاقة لأحد بالولوج فيه بنفسه قط.

    ولا يستخفنّك عن دعوتك تكذيب هؤلاء المغرورين المتكبرين الذين تجاوزوا طورهم وتعدّوا حدودهم. فعن قريب ستحطّم حقائقُك أحلامَهم وتكون أثرا بعد عين.

    ﴿ اَمْ يُر۪يدُونَ كَيْدًاۜ فَالَّذ۪ينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَك۪يدُونَ ﴾

    أم إنهم يريدون أن يكونوا كالمنافقين الذين فسدتْ فطرتُهم وتفسخ وجدانُهم، وكالزنادقة المكّارين الذين يصدّون الناس عن الهدى -الذي حرموا منه- بالمكيدة والخديعة فيصرفوهم عن سواء السبيل، حتى أطلقوا عليك اسم الكاهن أو المجنون أو الساحر، مع أنهم هم أنفسهم لا يصدّقون دعواهم فكيف بالآخرين؟ فلا تهتم بهؤلاء الكذابين الخداعين ولا تعتبرهم في زمرة الأناسي، بل امضِ في الدعوة إلى الله، لا يفترك شيء عنها، فأولئك لا يكيدونك بل يكيدون أنفسَهم، ويضرونَ بأنفسهم. وما نجاحُهم في الفساد والكيد إلّا أمر مؤقت زائل بل هو استدراج ومكر إلهي.

    ﴿ اَمْ لَهُمْ اِلٰهٌ غَيْرُ اللّٰهِۜ سُبْحَانَ اللّٰهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾

    أم إنهم يعارضونك ويستغنون عنك لأنهم يتوهمون إلها غير الله يستندون إليه كالمجوس الذين توهموا إلهين اثنين باسم خالق الخير وخالق الشر! أو كعبّاد الأسباب والأصنام الذين يمنحون نوعا من الألوهية للأسباب ويتصورونها موئل استناد؟ إذن فقد عميَت أبصارهُم، أفلا يرون هذا الانتظامُ الأكمل الظاهر كالنهار في هذا الكون العظيم ولا هذا الانسجامُ الأجمل فيه!..

    فبمقتضى قوله تعالى: ﴿ لَوْ كَانَ ف۪يهِمَٓا اٰلِهَةٌ اِلَّا اللّٰهُ لَفَسَدَتَاۚ ﴾ (الأنبياء:٢٢) إذا ما حلّ مختاران في قرية، وواليان في ولاية وسلطانان في بلد، فالانتظامُ يختل حتما والانسجام يفسد نهائيا. والحال أن الانتظام الدقيق واضح بدءا من جناح البعوضة إلى قناديل السماء. فليس للشرك موضع ولو بمقدار جناح بعوض. فما دام هؤلاء يمرقون من نطاق العقل ويجافون الحكمة والمنطق ويقومون بأعمال منافية كليا للشعور والبداهة، فلا يصرفْك تكذيبُهم لك عن التذكير والإرشاد.

    وهكذا فهذه الآيات التي هي سلسلة الحقائق، قد بيّنا بيانا مجملا جوهرةً واحدة منها فقط من مئات جواهرها، تلك الجوهرة التي تخص «الإلزام والإفحام». فلو كانت لي قدرة لأبيّن عدة جواهر أخرى منها لكنتَ تقول أيضا: إن هذه الآيات معجزة بحد ذاتها!

    أما بيان القرآن في «الإفهام والتعليم» فهو خارق وذو لطافة وسلاسة، حتى إن أبسط شخص عامي يفهم بتلك البيانات أعظمَ حقيقة وأعمقَها بيسر وسهولة.

    نعم، إن القرآن المبين يرشد إلى كثير من الحقائق الغامضة ويعلّم الناس إياها بأسلوب سهل وواضح وببيان شافٍ يراعي نظر العوام، من دون إيذاءٍ لشعور العامة ولا إرهاقٍ لفكر العوام ولا إزعاج له، فكما إذا ما حاور إنسان صبيا فإنه يستعمل تعابير خاصة به، كذلك الأساليب القرآنية والتي تسمى بـ «التنـزلات الإلهية إلى عقول البشر» خطاب ينـزل إلى مستوى مدارك المخاطَبين، حتى يفهّم أشد العوام أميّة، من الحقائق الغامضة والأسرار الربانية ما يعجز حكماء متبحرون عن بلوغها بفكرهم؛ وذلك بالتشبيهات والتمثيلات بصور متشابهات.

    فمثلا: الآية الكريمة: ﴿ اَلرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوٰى ﴾ (طه:٥) تبيّن الربوبية الإلهية وكيفية تدبيرها لشؤون العالم في صورة تمثيل وتشبيه لمرتبة الربوبية بالسلطان الذي يعتلي عرشَه ويدير أمرَ السلطنة.

    نعم، لما كان القرآن كلاما لرب العالمين نزل من المرتبة العظمى لربوبيته الجليلة، مهيمنا على جميع المراتب الأخرى، مرشدا البالغين إلى تلك المراتب، مخترقا سبعين ألف حجاب، ملتفتا إليها ومنورا لها، وقد نشر نورَه على آلاف الطبقات من المخاطَبين المتباينين في الفهم والإدراك، ونثر فيضَه طوال عصور وقرون متفاوتة في الاستعدادات. وعلى الرغم من نشره لمعانيه بسهولة تامة في جميع الأنحاء والأزمان، احتفظ بحيويته ونداوته ونضارته ولم يفقد شيئا منها، بل ظل في منتهى الطراوة والجدة واللطافة سهلا ممتنعا، إذ مثلما يلقى دروسَه على أي عامي كان في غاية السهولة يلقيه على المختلفين في الفهم والمتباينين في الذكاء لكثير جدا من الطبقات المتفاوتة ويرشدهم إلى الصواب ويورثهم القناعة والاطمئنان.

    ففي هذا الكتاب المبين أينما وجّهتَ نظرك يمكنك أن تشاهد لمعة إعجاز.

    حاصل الكلام: كما أن لفظة قرآنية مثل: «الحمد لله» عندما تُتلى تملأ الكهف الذي هو بمثابة أذن الجبل، فإنها تملأ في الوقت نفسه ما يشبه الأُذَين الصغيرة جدا لبعوض، فتستقر اللفظةُ نفسُها فيهما معا. كذلك الأمر في معاني القرآن الكريم. إذ مثلما تُشبع عقولا جبارة، تعلّم عقولا صغيرة وبسيطة جدا، وتُطَمئنها بالكلمات نفسها. ذلك لأن القرآن يدعو جميع طبقات الجن والإنس إلى الإيمان ويعلّم جميعَهم علومَ الإيمان ويثبتها لهم جميعا، لذا يستمع إلى درس القرآن وإرشاده أغبى الأغبياء من عامة الناس مع أخص الخواص جنبا إلى جنب متكاتفين معا.

    أي إن القرآن الكريم مائدة سماوية تجد فيها آلافٌ من مختلف طبقات الأفكار والعقول والقلوب والأرواح غذاءَهم، كلٌ حسب ما يشتهيه ويلبّي رغباته. حتى إن كثيرا من أبواب القرآن ظلت مغلقةً لتُفتح في المستقبل من الزمان.

    فإن شئت مثالا على هذا المقام، فالقرآن كله من بدايته إلى نهايته أمثلة لهذا المقام. نعم، إن تلامذة القرآن والمستمعين لإرشاده من المجتهدين والصديقين وحكماء الإسلام والعلماء المحققين وعلماء أصول الفقه والمتكلمين والأولياء العارفين والأقطاب العاشقين والعلماء المدققين وعامة المسلمين.. كلهم يقولون بالاتفاق: «نحن نتلقى الإرشاد على أفضل وجهٍ من القرآن».

    والخلاصة: إن لمعة إعجاز القرآن تتلمع في هذا المقام أيضا (مقام الإفهام والتعليم) كما هو الحال في سائر المقامات.

    الشعاع الثاني

    جامعية القرآن الخارقة

    لهذا الشعاع خمسُ لمعات

    اللمعة الأولى

    الجامعية الخارقة في لفظه:

    هذه الجامعية واضحة جلية في الآيات المذكورة في «الكلمات» السابقة وفي هذه «الكلمة».

    نعم، إن الألفاظ القرآنية قد وُضعت وضعا بحيث إن لكلِّ كلام بل لكل كلمة بل لكل حرف بل حتى لسكوت أحيانا وجوها كثيرة جدا، تمنح كلَّ مخاطب حظَّه ونصيبه من أبواب مختلفة، كما يشير إلى ذلك الحديث الشريف، فلكل آية ظهر وبطن وحدّ ومطّلع، ([9]) ولكلٍّ شجون وغصون وفنون. ([10])

    فمثلا: ﴿ وَالْجِبَالَ اَوْتَادًا ﴾ (النبأ:٧)؛ فحصة عاميّ من هذا الكلام:

    أنه يرى الجبال كالأوتاد المغروزة في الأرض كما هو ظاهر أمام عينه، فيتأمل ما فيها من نِعم وفوائد، ويشكر خالقَه.

    وحصة شاعر من هذا الكلام: أنه يتخيل أن الأرض سهل منبسط، وقبةَ السماء عبارة عن خيمة عظيمة خضراء ضربت عليه، وزُينت الخيمة بمصابيح، وأن الجبال تتراءى وهي تملأ دائرة الأفق، تمسّ قممُها أذيالَ السماء، وكأنها أوتاد تلك الخيمة العظيمة. فتغمره الحيرة والإعجاب ويقدس الصانع الجليل.

    أما البدويّ البليغ فحصته من هذا الكلام أنه يتصور سطحَ الأرض كصحراء واسعة، وكأن سلاسل الجبال سلسلة ممتدة لخيَم كثيرة بأنواع شتى لمخلوقات متنوعة، حتى إن طبقة التراب عبارة عن غطاء ألقي على تلك الأوتاد المرتفعة فرفعتْها برؤوسها الحادة، جاعلةً منها مساكنَ مختلفة لأنواع شتى من المخلوقات.. هكذا يَفهم فيسجُد للفاطر الجليل سجدةَ حيرةٍ وإعجاب بجعله تلك المخلوقات العظيمة كأنها خيام ضربت على الأرض.

    أما الجغرافي الأديب فحصته من هذا الكلام أنّ كرة الأرض عبارة عن سفينة تمخُر عبابَ بحر المحيط الهوائي أو الأثيري. وأن الجبال أوتاد دُقّت على تلك السفينة للتثبيت والموازنة.. هكذا يفكر الجغرافي ويقول أمام عظمة القدير ذي الكمال الذي جعل الكرة الأرضية الضخمة سفينة منتظمة وأركَبَنا فيها، لتجري بنا في آفاق العالم: «سبحانك ما أعظم شأنك».

    أما المتخصص في أمور المجتمع والملمّ بمتطلبات الحضارة الحديثة فحصتهُ من هذا الكلام: أنه يفهم الأرض عبارة عن مسكن، وأن عماد حياة هذا المسكن هو حياةُ ذوي الحياة، وأن عماد تلك الحياة هو الماء والهواء والتراب، التي هي شرائط الحياة. وأن عماد هذه الثلاثة هو الجبال، لأن الجبال مخازنُ الماء، مشّاطةُ الهواء ومصفاته إذ ترسّب الغازات المضرة، وحاميةُ التراب إذ تحميه من استيلاء البحر والتوحل، وخزينة لسائر ما تقتضيه حياة الإنسان.. هكذا يفهم فيحمد ويقدّس ذلكم الصانع ذا الجلال والإكرام الذي جعل هذه الجبال العملاقة أوتادا ومخازنَ معايشِنا على الأرض التي هي مسكن حياتنا.

    وحصة فيلسوف طبيعي من هذا الكلام: أنه يدرك أن الامتزاجات والانقلابات والزلازل التي تحصل في باطن الأرض تجد استقرارها وسكونها بظهور الجبال، فتكون الجبال سببا لهدوء الأرض واستقرارها حول محورها ومدارها وعدم عدولها عن مدارها السنوي، وكأن الأرض تتنفس بمنافذ الجبال فيخفّ غضَبُها وتسكن حدّتُها.. هكذا يفهم ويطمئن ويلج في الإيمان قائلا: «الحكمة لله».

    ومثلا: ﴿ اَنَّ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ﴾ (الأنبياء:٣٠)

    إنّ كلمة ﴿ رَتْقًا ﴾ في هذه الآية تفيد لمن لم يتلوث بالفلسفة: السماءُ كانت صافيةً لا سحاب فيها. والأرضُ جدباء لا حياة فيها، فالذي فتح أبواب السماء بالمطر وفرش الأرض بالخضرة هو الذي خلق جميع ذوي الحياة من ذلك الماء، وكأنه حصل نوع من المزاوجة والتلقيح بينهما، وما هذا إلّا من شأن القدير ذي الجلال الذي يكون وجه الأرض لديه كبستان صغير والسحب التي تحجب وجه السماء معصرات لذلك البستان.. يفهم هكذا فيسجد أمام عظمة قدرته تعالى.

    وتفيد تلك الكلمة ﴿ رَتْقًا ﴾ للعالم الكوني أنه في بدء الخليقة، كانت الأرضُ والسماء كتلتين لا شكل لهما وعجينتَين طريتين لا نفع لهما، فبينما هما مادة لا مخلوقات لهما ولا مَن يدبّ عليهما، بسَطهما الفاطر الحكيم بسطا جميلا، ومنحهما صورا نافعة وزينة فاخرة وكثرة كاثرة من المخلوقات.. هكذا يفهم ويأخذه العجب أمام سعة حكمته تعالى.

    وتفيد هذه الكلمة للفلاسفة المعاصرين أنّ كرتنا الأرضية وسائر السيارات التي تشكل المنظومة الشمسية كانت في البداية ممتـزجةً مع الشمس بشكل عجينة لم تُفرَش بعدُ، ففتـّق القادرُ القـيوم تلك العجينة ومكّن فيها السيارات كلا في موضعه، فالشمس هناك والأرض هنا.. وهكذا. وفرش الأرض بالتراب وأنـزل عليها المطرَ من السماء، ونثر عليها الضياء من الشمس وأسكنها الإنسان.. هكذا يفهم ويرفع رأسه من حمأة الطبيعة قائلا: «آمنت بالله الواحد الأحد».

    ومثلا: ﴿ وَالشَّمْسُ تَجْر۪ي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَاۜ ﴾ (يس:٣٨)

    فاللام في ﴿ لِمُسْتَقَرٍّ ﴾ تفيد معنى اللام نفسها ومعنى «في» ومعنى «إلى». فهذه «اللام» يفهمُها العوام بمعنى «إلى» ويفهمون الآية في ضوئها؛ أي إن الشمس التي تمنحُكم الضوء والحرارة، تجري إلى مستقرٍ لها وستبلغُه يوما، وعندها لـن تفيدكم شيئا. فيتذكر بهذا ما ربط الله سبحانه وتعالى من نعمٍ عظيمة بالشمس، فيحمد ربه ويقدّسه قائلا: «سبحان الله والحمد لله».

    والآية نفسُها تظهر «اللام» بمعنى «إلى» إلى العالِم أيضا، ولكن ليس بمعنى أن الشمس مصدر الضوء وحده، وإنما كمكوك تحيك المنسوجات الربانية التي تُنسج في معمل الربيع والصيف. وإنها مداد ودواة من نور لمكتوبات الصمد التي تُكتب على صحيفة الليل والنهار. فيتصورها هكذا ويتأمل في نظام العالم البديع الذي يشير إليه جريانُ الشمس الظاهري، فيهوي ساجدا أمام حكمة الصانع الحكيم قائلا: «ما شاء الله كان، تبارك الله».

    أمَّا بالنسبة للفلكي، فإن «اللام» يفهمها بمعنى «في». أي إن الشمس تنظّم حركةَ منظومتها «كزنبرك الساعة» بحركة محورية حول نفسها. فأمام هذا الصانع الجليل الذي خلق مثل هذه الساعة العظمى يأخذه العَجبُ والانبهار فيقول: «العظمة والقدرة لله وحده»، ويَدع الفلسفةَ داخلا في ميدان حكمة القرآن.

    و«اللام» هذه يفهمها العالِم المدقق بمعنى «العلة» وبمعنى «الظرفية». أي إن الصانع الحكيم جعل الأسبابَ الظاهرية ستارا لأفعاله وحجابا لشؤونه. فقد ربط السيارات بالشمس بقانونه المسمى بـ«الجاذبية» وبه يُجري السيارات المختلفة بحركات مختلفة ولكن منتظمة. ويُجري الشمسَ حول مركزها سببا ظاهريا لتوليد تلك الجاذبية. أي إن معنى ﴿ لِمُسْتَقَرٍّ ﴾ هو:

    أن الشمس تجري في مستقر لها لاستقرار منظومتها، لأن الحركة تولد الحرارة، والحرارة تولد القوة، والقوة تولد الجاذبية الظاهرية، وذلك قانون رباني وسنة إلهية.

    وهكذا، فهذا الحكيم المدقق يفهم مثل هذه الحكمة من حرف واحد من القرآن الحكيم ويقول: «الحمد لله، إن الحكمة الحقة لهي في القرآن فلا أعتبر الفلسفة بعدُ شيئا يُذكر».

    ومن هذه «اللام» والاستقرار يرد هذا المعنى إلى مَن يملك فكرا وقلبا شاعريا أن الشمس شجرة نورانية، والسيارات التي حولها إنما هي ثمراتُها السائحة، فالشمس تنتفض دون الثمرات -بخلاف الأشجار الأخرى- لئلا تتساقط الثمرات، وبعكسه تتبعثر الثمرات.

    ويمكن أن يتخيل أيضا أن الشمس كسيّد في حلقة ذكر، يذكر الله في مركز تلك الحلقة ذكرَ عاشقٍ ولهان، حتى يدفع الآخرين إلى الجذبة والانتشاء.

    وقد قلت في رسالة أخرى في هذا المعنى:

    «نعم، إنّ الشمس مثمرة، تنتفض لئلا تتساقط الثمرات الطيبة ولو سكنتْ وسكتت، لانفقد الانجذاب، فيصرخ العشاقُ المنسّقون في الفضاء الواسع هلعا من السقوط والضياع!»

    ومثلا: ﴿ وَاُو۬لٰٓئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ (البقرة:٥) فيها سكوت، وفيها إطلاق؛ إذ لم تُعيّن بم يفلحون؟ ليجد كلُّ واحد مبتغاه في هذا السكوت. فالآية تختصر الكلام ليتسع المعنى. إذ إن قصد قسمٍ من المخاطبين هو النجاةُ من النار، وقسم آخر لا يفكر إلّا بالجنة، وقسم يأمل السعادة الأبدية، وقسم يرجو الرضى الإلهي فحسب، وقسم غايةُ أمله رؤيةُ الله سبحانه. وهكذا.. فيتركُ القرآنُ الكلامَ على إطلاقه ليعمّ، ويحذف ليفيد معاني كثيرة، ويوجِز ليجد كلُّ واحدٍ حظَّه منها.

    وهكذا فـ ﴿ الْمُفْلِحُونَ ﴾ هنا لا يعيِّن بِمَ سيفلحون. وكأن الآية بسكوتها تقول: أيها المسلمون لكم البشرى! أيها المتقي: إن لك نجاة من النار. أيها العابد الصالح: فلاحُك في الجنة. أيها العارف بالله: ستنال رضاه. أيها العاشق لجمال الله، ستحظى برؤيته تعالى.. وهكذا.

    ولقد أوردنا من القرآن الكريم من جهة جامعية اللفظ في الكلام والكلمة والحروف والسكوت مثالا واحدا فحسب من بين آلاف الأمثلة؛ فقس الآية والقصة على ما أسلفناه.

    هذه الآية لها من الوجوه الكثيرة والمراتب العديدة حتى رأت جميعُ طبقات الأولياء في شتى وسائلِ سلوكهم ومراتبهم حاجتَهم إلى هذه الآية. فأخذ كلّ منهم غذاءً معنويا لائقا بمرتبته التي هو فيها، لأن لفظ الجلالة «الله» اسم جامع لجميع الأسماء الحسنى، ففيه أنواع من التوحيد بقدر عدد الأسماء نفسها،

    أي لا رزاقَ إلّا هو، لا خالق إلّا هو، لا رحمن إلّا هو.. وهكذا.

    ومثلا: قصة موسى عليه السلام من القصص القرآنية، فيها من العبَر والدروس بقدر ما في عصا موسى عليه السلام من الفوائد؛ إذ فيها تطمين للرسول ﷺ وتسلية له، وتهديد للكفار، وتقبيح للمنافقين، وتوبيخ لليهود وما شابهها من المقاصد. فلها إذن وجوه كثيرة جدا. لذا كرّرت في سوَر عدة. فمع أنها تفيد جميعَ المقاصد في كل موضع إلّا أن مقصدا منها هو المقصود بالذات، وتبقى المقاصدُ الأخرى تابعة له.

    إذا قلت: كيف نفهم أن القرآن قد أراد جميعَ تلك المعاني التي جاءت في الأمثلة السابقة، ويشير إليها؟

    فالجواب: ما دام القرآن الكريم خطابا أزليا، يخاطب به الله سبحانه وتعالى مختلفَ طبقات البشرية المصطفة خلف العصور ويرشدهم جميعا، فلابد أنه يُدرج معاني عدة لتلائم مختلف الأفهام، وسيضع أمارات على إرادته هذه.

    نعم، ففي كتاب «إشارات الإعجاز» ذكرنا هذه المعاني الموجودة هنا وأمثالها من المعاني المتعددة لكلمات القرآن، وأثبتناها وفق قواعد علم الصرف والنحو وحسب دساتير علم البيان وفن المعاني وقوانين فن البلاغة.

    وإلى جانب هذا فإن جميع الوجوه والمعاني التي هي صحيحة حسب علوم العربية، وصائبة وفق أصول الدين، ومقبولة في فن المعاني، ولائقة في علم البيان ومستحسنة في علم البلاغة، هي من معاني القرآن الكريم، بإجماع المجتهدين والمفسرين وعلماء أصول الدين وأصول الفقه وبشهادة اختلاف وجهات نظرهم. وقد وضع القرآن الكريم أمارات على كلٍّ من تلك المعاني حسب درجاتها وهي إما لفظية أو معنوية، والأمارة المعنوية هي: إما السياق نفسُه أو سياق الكلام أو أمارة من آيات أخر تشير إلى ذلك المعنى.

    إن مئات الألوف من التفاسير التي قد بلغ بعضُها ثمانين مجلدا ([11]) -وقد ألّفها علماء محققون- برهان قاطع باهر على جامعية لفظ القرآن وخارقيته.

    وعلى كل حال فلو أوضحنا في هذه الكلمة كلَّ أمارة تدل على كل معنى من المعاني بقانونها وبقاعدتها لطالت بنا الكلمة، لذا نختصر الكلام هنا ونحيل إلى كتاب «إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز».

    اللمعة الثانية

    الجامعية الخارقة في معانيه:

    نعم، إن القرآن الكريم قد أفاض من خزينة معانيه الجليلة مصادرَ جميع المجتهدين، ومذاقَ جميع العارفين، ومشاربَ جميع الواصلين ومسالكَ جميع الكاملين، ومذاهبَ جميع المحققين، فضلا عن أنه صار دليلَهم في كل وقتٍ ومرشدَهم في رقيهم كلَّ حين، ناشرا على طرُقهم أنوارَه الساطعة من خزينته التي لا تنضب، كما هو مصدَّق ومتفق عليه بينهم.

    اللمعة الثالثة

    الجامعية الخارقة في علمه:

    نعم، إن القرآن الكريم مثلما أجرى من بَحر علومه علومَ الشريعة المتعددة الوفيرة، وعلومَ الحقيقة المتنوعة الغزيرة، وعلومَ الطريقةِ المختلفة غير المحدودة، فإنه أجرى كذلك من ذلك البحر بسخاء وانتظام الحكمةَ الحقيقية لدائرة الممكنات، والعلومَ الحقيقية لدائرة الوجوب، والمعارف الغامضة لدائرة الآخرة. ولو أردنا إيراد مثال لهذه اللمعة فلابد من كتابة مجلد كامل! لذا نبيّن «الكلمات» الخمسة والعشرين السابقة فحسب.

    نعم، إن الحقائق الصادقة للكلمات الخمس والعشرين كلها إن هي إلّا خمس وعشرون قطرةً من بحر علم القرآن. فإن وجد قصور في تلك «الكلمات» فهو راجع إلى فهمي القاصر.

    اللمعة الرابعة

    الجامعية الخارقة في مباحثه:

    نعم، إنّ القرآن قد جمعَ المباحث الكلية لما يخص الإنسانَ ووظيفته، والكونَ وخالقه، والأرضَ والسماوات، والدنيا والآخرة، والماضي والمستقبل، والأزل والأبد، فضلا عن ضمّه مباحثَ مهمة أساسية ابتداءً من خلق الإنسان من النطفة إلى دخوله القبر، ومن آداب الأكل و النوم إلى مباحث القضاء والقدر، ومن خلق العالم في ستة أيام إلى وظائف هبوب الريح التي يشير إليها القَسَم في ﴿ وَالْمُرْسَلَاتِ ﴾ ﴿ وَالذَّارِيَاتِ ﴾ ومن مداخلته سبحانه في قلب الإنسان وإرادته بإشارات الآيات الكريمة:

    ﴿ وَمَا تَشَٓاؤُ۫نَ اِلَّٓا اَنْ يَشَٓاءَ اللّٰهُ ﴾ (التكوير:٢٩) ﴿ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِه۪ ﴾ (الأنفال:٢٤) إلى ﴿ وَالسَّمٰوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَم۪ينِه۪ ﴾ (الزمر:٦٧)، ومن ﴿ وَجَعَلْنَا ف۪يهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخ۪يلٍ وَاَعْنَابٍ ﴾ (يس:٣٤) إلى الحقيقة العجيبة التي تعبّر عنها الآية: ﴿ اِذَا زُلْزِلَتِ الْاَرْضُ زِلْزَالَهَا ﴾ (الزلزلة:١)، ومن حالة السماء ﴿ ثُمَّ اسْتَوٰٓى اِلَى السَّمَٓاءِ وَهِيَ دُخَانٌ ﴾ (فصلت:١١) إلى انشقاق السماء وانكدار النجوم وانتشارها في الفضاء الذي لا يحد، ومن انفتاح الدنيا للامتحان إلى انتهاء الاختبار، ومن القبر الذي هو أول منـزل من منازل الآخرة والبرزخ والحشر والصراط إلى الجنة والسعادة الأبدية، ومن وقائع الزمان الماضي الغابر من خلق آدم عليه السلام وصراع ابنَيْهِ إلى الطوفان، إلى هلاك قوم فرعون وحوادث جليلة لأغلب الأنبياء عليهم السلام، ومن الحادثة الأزلية في ﴿ اَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ﴾ (الأعراف:١٧٢) إلى ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌۙ ❀ اِلٰى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ (القيامة:٢٢-٢٣) التي تفيد الأبدية.

    فجميعُ هذه المباحث الأساسية والمهمة تُبيَّن في القرآن بيانا واضحا يليق بذات الله الجليلة سبحانه الذي يدبّر الكون كله كأنه قصر، ويفتح الدنيا والآخرة كغرفتين يفتح إحداهما ويسد الأخرى بسهولة، ويتصرف في الأرض تصرفَه في بستان صغير، وفي السماء كأنها سقف مزيّن بالمصابيح، ويطّلع على الماضي والمستقبل كصحيفتين حاضرتين أمام شهوده كالليل والنهار، ويشاهد الأزل والأبد كاليوم وأمس، يشاهدهما كالزمان الحاضر الذي اتصل فيه طرفا سلسلة الشؤون الإلهية.

    فكما أن معماريا يتكلم في بناءين بناهما وفي إدارتهما ويجعل للأعمال المتعلقة بهما صحيفة عمل وفهرس نظام؛ فالقرآن الكريم كذلك كلام مبين يليق بمن خلق هذا الكون ويديره وكتب صحيفة أعماله وفهارس برامجه -إن جاز التعبير- وأظهرها. فلا يُشاهَد فيه أثر من تصَـنّع وتكلّف بأي جهة كانت كما لا أمارة قطعا لشائبةِ تقليد أيّ كلامٍ عن أحد وفرضِ نفسه في موضع غير موضعه، وأمثالها من الخدع. فهو بكل جدّيته، وبكل صفائه، وبكل خلوصه صافٍ برّاق ساطع زاهر، إذ مثلما يقول ضوءُ الشمس: أنا منبعث من الشمس، فالقرآن كذلك يقول: «أنا كلام رب العالمين وبيانُه».

    نعم، إن الذي جمّل هذه الدنيا وزيّنها بصنائعه الثمينة وملأها بأطايب نِعَمه الشهية ونشرَ في وجه الأرض بدائع مخلوقاته ونعمه القيمة بكل إبداع وإحسان وتنسيق وتنظيم ذلكم الصانع الجليل والمنعم المحسن، مَن غيرُهُ يليق أن يكون صاحب هذا البيان، بيان القرآن الكريم الذي ملأ الدنيا بالتقدير والتعظيم والاستحسان والإعجاب والحمد والشكر، حتى جعل الأرض رباطَ ذكرٍ وتهليل، ومسجدا يُرفع فيه اسم الله ومعرضا لبدائع الصنعة الإلهية؟ ومَن يكون غيرُه صاحبَ هذا الكلام؟ ومَن يمكنه أن يدّعى أن يكون صاحبَه؟

    فهل يليق للضياء الذي ملأ الدنيا نورا أن يعود لغير الشمس؟ وبيان القرآن الذي كشف لغزَ العالم ونوّره، نورَ مَن يكون غيرَ نور مَن خلق السماوات والأرض؟ فمن يجرؤ أن يقلّده ويأتي بنظيرٍ له؟

    حقا، إن الصانع الذي زيّن بإبداع صنعتِه هذه الدنيا، محال ألّا يتكلم مع هذا الإنسان المبهور بصُنعهِ وإبداعه، فما دام أنه يفعل ويعلم فلابد أنه يتكلم، وما دام أنه يتكلّم فلا يليق بكلامه إلّا القرآن. فمالكُ الملك الــذي يهتم بتنظيم زهرة صغيرة كيف لا يبـــالي بكلام حوّل مُلكه إلى جذبة ذكر وتهليل؟ أيمكن أن يُنـزل من قدر هذا الكلام بنسبته إلى غيره؟.

    اللمعة الخامسة

    الجامعية الخارقة في أسلوبه وإيجازه:

    في هذه اللمعة خمسة أضواء:

    الضوء الأول: إنّ لأسلوب القرآن جامعية عجيبة، حتى إن سورةً واحدة تتضمن بحرَ القرآن العظيم الذي ضمّ الكون بين جوانحه. وإن آية واحدة تضم خزينة تلك السورة. وإن أكثر الآيات -كل منها- كسورة صغيرة، وأكثر السور -كل منها- كقرآن صغير. ([12]) فمن هذا الإيجاز المعجز ينشأ لطف عظيم للإرشاد وتسهيل واسع جميل.

    لأن كل إنسان على الرغم من حاجتـه إلى تلاوة القرآن كل وقت، فإنه قد لا يتاح له تلاوته، إما لغباوته وقصور فهمه أو لأسباب أخرى. فلكي لا يُحرَم أحد من القرآن فإن كل سورة في حُكم قرآن صغير، بل كلُّ آية طويلة في مقام سورة قصيرة، حتى إن أهل الكشف متفقون أن القرآن في الفاتحة والفاتحة في البسملة. أما البرهان على هذا فهو إجماعُ أهل التحقيق العلماء.

    الضوء الثاني: إن الآيات القرآنية جامعة بدلالاتها وإشاراتها لأنواع الكلام والمعارف الحقيقية والحاجات البشرية كالأمر والنهي، والوعد والوعيد، الترغيب والترهيب، الزجر والإرشاد، القصص والأمثال، الأحكام والمعارف الإلهية، العلوم الكونية، وقوانين وشرائط الحياة الشخصية والحياة الاجتماعية والحياة القلبية والحياة المعنوية والحياة الأخروية. حتى يصدُق عليه المَثَل السائر بين أهل الحقيقة: «خُذ ما شئتَ لما شئت» بمعنى أن الآيات القرآنية فيها من الجامعية ما يمكن أن يكون دواءً لكل داء وغذاء لكل حاجة.

    نعم، هكذا ينبغي أن يكون، لأن الرائد الكامل المطلق لجميع طبقات أهلِ الكمال الذين يقطعون المراتب دوما إلى الرقي -ذلك القرآن العظيم- لابد أن يكون مالكا لهذه الخاصية.

    الضوء الثالث: الإيجازُ المعجز للقرآن. فقد يذكُر القرآنُ مبدأ سلسلةٍ طويلة ومنتهاها ذكرا لطيفا يُري السلسلةَ بكاملها، وقد يدرج في كلمةٍ واحدة براهينَ كثيرةً لدعوىً؛ صراحةً وإشارةً ورمزا وإيماءً.

    فمثلا:

    ﴿ وَمِنْ اٰيَاتِه۪ خَلْقُ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ وَاخْتِلَافُ اَلْسِنَتِكُمْ وَاَلْوَانِكُمْ ﴾ (الروم:٢٢)

    هذه الآية الكريمة تذكر مبدأ سلسلةِ خلقِ الكون ومنتهاها. وهي سلسلةُ آيات التوحيد ودلائله، ثم تبين السلسلةَ الثانية، جاعلة القارئ يقرأ السلسلة الأولى وذلك: أنّ أولى صحائف العالم الشاهدة على الصانع الحكيم هي خلقُ السماوات والأرض، ثم تزيين السماوات بالنجوم وإعمار الأرض بذوي الحياة، ثم تبدُّل المواسم بتسخير الشمس والقمر، ثم سلسلة الشؤون الربانية في اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما.. وهكذا تدريجيا حتى تبلغ خصوصية الملامح والأصوات وامتيازها وتشخصاتها التي هي أكثر مواضع انتشار الكثرة.

    فإذا ما وجد انتظام بديع حكيم محير للألباب، وتبينَ عملُ قلمِ صَنّاع حكيم في أكثر المواضع بُعدا عن الانتظام وأزيدها تعرضا للمصادفة ظاهرا، تلك هي ملامحُ وجوه الإنسان وألوانُه، فلابد أن الصحائف الأخرى الظاهر نظامُها تُفهم بنفسها وتدل على مصّورها البديع.

    ثم إنه لما كان أثرُ الإبداع والحكمة يُشاهَد في أصل خلق السماوات والأرض التي جعلَها الصانعُ الحكيم الحجرَ الأساس للكون، فلابد أن نقشَ الحكمة وأثر الإبداع ظاهر جدا في سائر أجزاء الكون.

    فهذه الآية حَوَت إيجازا لطيفا معجزا في إظهار الخفي وإضمار الظاهر فأوجزتْ وأجمَلت. حقا إن سلسلة البراهين المبتدئة من ﴿ فَسُبْحَانَ اللّٰهِ ح۪ينَ تُمْسُونَ وَح۪ينَ تُصْبِحُونَ ﴾ (الروم:١٧) إلى ﴿ وَلَهُ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى فِي السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِۚ وَهُوَ الْعَز۪يزُ الْحَك۪يمُ ﴾ (الروم:٢٧) والتي تتكرر فيها ست مرات ﴿ وَمِنْ اٰيَاتِه۪ ﴾.. ﴿ وَمِنْ اٰيَاتِه۪ ﴾ إنما هي سلسلة جواهرَ، سلسلة نورٍ، سلسلة إعجاز، سلسلة إيجاز إعجازي؛ يتمنى القلبُ أن أبيّن الجواهر الكامنة في هذه الكنوز، ولكن ما حيلتي فالمقام لا يتحملُه، فلا أفتح ذلك الباب، وأعلّق الأمر إلى وقت آخر بمشيئة الله.

    ومثلا: ﴿ فَاَرْسِلُونِ ❀ يُوسُفُ اَيُّهَا الصِّدّ۪يقُ ﴾ (يوسف:٤٥-٤٦) فبـين كـلمة ﴿ فَاَرْسِلُونِ ﴾ وكلمة ﴿ يُوسُفُ ﴾ يكمُن معنى العبارة التالية:

    «إلى يوسف لأستَعبر منه الرؤيا، فأرسَلوه، فذهب إلى السجن، وقال..»

    بمعنى أنه أوجزَ عدةَ جمَلٍ في جملة واحدة من دون أن يخلّ بوضوح الآية ولا أشكلَ في فهمها.

    ومثلا: ﴿ اَلَّذ۪ي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْاَخْضَرِ نَارًا ﴾ (يس:٨٠).

    ففي معرض ردّ القرآن على الإنسان العاصي الذي يتحدى الخالق بقوله: ﴿ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَم۪يمٌ ﴾ (يس:٧٨) يقول: ﴿ قُلْ يُحْي۪يهَا الَّذ۪ٓي اَنْشَاَهَٓا اَوَّلَ مَرَّةٍۜ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَل۪يمٌ ﴾ (يس:٧٩) ويقول أيضا: ﴿ اَلَّذ۪ي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْاَخْضَرِ نَارًا ﴾ قادر على أن يحيى العظام وهي رميم.

    فهذا الكلام يتوجه إلى دعوى الإحياء من عدة جهات ويثبتها. إذ إنه يبدأ من سلسلة الإحسانات التي أحسنَ الله بها إلى الإنسان، فيذكّره بها ويثير شعورَه، إلّا أنه يختصر الكلام، لأنه فصّله في آيات أخرى، ويوجِزه مُحيلا إياه على العقل. أي إن الذي منَحكم من الشجر الثمرَ والنار، ومن الأعشاب الرزقَ والحبوب ، ومن التراب الحبوبَ والنباتات، قد جعل لكم الأرض مهدا، فيها جميعُ أرزاقكم، والعالمَ قصرا فيه جميعُ لوازم حياتكم. فهل يمكن أن يترككم سدىً فتفرّوا منه، وتختفوا عنه في العدم؟ فلا يمكن أن تكونوا سدىً فتدخلوا القبر وتناموا براحة دون سؤال عمّا كسبتم ودون إحيائكم؟.

    ثم يشير إلى دليل واحد لتلك الدعوى: فيقول رمزا بكلمة ﴿ الشَّجَرِ الْاَخْضَرِ ﴾ «أيها المنكر للحشر! أنظر إلى الأشجار، فإنّ مَن يحيى أشجارا لا حدّ لها في الربيع بعد أن ماتت في الشتاء وأصبحت شبيهة بالعظام، ويجعلُها مخضرّة، بل يُظهر في كلِّ شجرةٍ ثلاثةَ نماذجَ من الحشر؛ في الأوراق والأزهار والأثمار.. إنّ هذا القدير لا تُتحدّى قدرتُه بالإنكار ولا يُستبعَد منه الحشر».

    ثم يشير إلى دليل آخر ويقول: «إنّ الذي أخرج لكم النارَ، تلك المادة الخفيفة النورانية، من الشجر الكثيف الثقيل المظلم، كيف تستبعدون منه منحَ حياةٍ لطيـفة كالنار، وشعورٍ كالنور لعظـام كالحطب».

    ثم يأتي بدليل آخر صراحةً ويقول: إن الذي يخلق النار من الشجر المشهور لدى البدويين بِحَكّ غصنَين معا، ويجمع بين صفتين متضادتين (الرطوبة والحرارة) ويجعل إحداهما منشأً للأخرى، يدلنا على أن كل شيء حتى العناصر الأصلية والتابعة إنما تتحرك بقوته وتتمثل بأمره. ولا شيء منها يتحرك بذاته أو سدىً. فمثل هذا الخالق العظيم لا يمكن أن يُستبعد منه إحياءُ الإنسان من التراب -وقد خَلقه من التراب ويعيده إليه- فلا يُتحدّى بالعصيان.

    ثم بعد ذلك يذكّر بكلمة ﴿ الشَّجَرِ الْاَخْضَرِ ﴾ شجرة موسى عليه السلام المشهورة فيومئ إلى اتفاق الأنبياء إيماءً لطيفا، بأن هذه الدعوى الأحمدية عليه الصلاة والسلام هي بعينها دعوى موسى عليه السلام. مما يزيد إيجاز هذه الكلمة لطافةً وحسنا آخر.

    الضوء الرابع: إنّ إيجاز القرآن جامع ومعجز، فلو أُنعم النظرُ فيه لشوهد بوضوح أن القرآن قد بيّن في مثالٍ جزئي وفي حادثة خاصة، دساتيرَ كلية واسعة وقوانينَ عامة طويلة، وكأنه يبين في غُرفة ماءٍ بحرا واسعا.

    سنشير إلى مثالين اثنين من آلاف أمثلته.

    المثال الأول: هو الآيات الثلاث التي فصّلنا شرحَها في المقام الأول من «الكلمة العشرين»: وهي: أنه بتعليم آدم عليه السلام الأسماءَ كلَّها تفيد الآية الكريمة: تعليمَ جميع العلوم والفنون الملهَمة لبني آدم.

    وبحادثة سجود الملائكة لآدم عليه السلام وعدمِ سجود الشيطان تبيّن الآية أن أكثر الموجودات -من السمك إلى المَلَك- مسخرة لبني الإنسان، كما أن المخلوقات المضرة -من الثعبان إلى الشيطان- لا تنقاد إليه بل تُعاديه.

    وبحادثة ذبح قوم موسى عليه السلام البقرةَ تعبّر الآية عن أن فكرة عبادة البقر قد ذُبحتْ بسكين موسى عليه السلام، تلك الفكرة التي كانت رائجةً في مصر حتى إن لها أثرا مباشرا في حادثة العِجل.

    وبنبعان الماء من الحجر وتشقّق الصخور وسيلان الماء منها تبين الآية أن الطبقة الصخرية التي تحت التراب خزائنُ أوعية الماء تزوّد الترابَ بما يبعث فيه الحياة.

    المثال الثاني: إنّ قصة موسى عليه السلام قد تكررت كثيرا في القرآن الكريم؛ إذ إن في كلِّ جملة منها، وفي كلِّ جزء منها إظهارا لطرفٍ من دستورٍ كلي، ويعبّر عن ذلك الدستور.

    منها: الآية الكريمة: ﴿ يَا هَامَانُ ابْنِ ل۪ي صَرْحًا ﴾ (غافر:٣٦)

    يأمر فرعون وزيرَه: ابنِ لي برجا عاليا لأطَّلِعَ على أحوال السماوات وأنظُرَ هل هناك إله يتصرف فيها كما يدّعيه موسى عليه السلام؟ فبكلمة ﴿ صَرْحًا ﴾ تبين الآية الكريمة بحادثةٍ جزئية دستورا عجيبا وعُرفا غريبا كان جاريا في سلالة فراعنة مصر الذين ادّعوا الربوبيةَ لجحودهم بالخالق وإيمانهم بالطبيعة، وخلّدوا أسماءهم بجبروتهم وعُتوّهم، فشيّدوا الأهرام المشهورة كأنها جبال وسط صحراء لا جبال فيها، ليشتهروا بها، وحفظوا جنائزهم بالتحنيط واضعين إياها في تلك المقابر الشامخة، لاعتقادهم بتناسخ الأرواح والسحر.

    ومنها: قوله تعالى: ﴿ فَالْيَوْمَ نُنَجّ۪يكَ بِبَدَنِكَ ﴾ (يونس:٩٢)

    والخطابُ موجه إلى فرعون الذي غرق، وفي الوقت نفسه تبين الآية ما كان للفراعنة من دستورٍ لحياتهم مذكِّرٍ بالموت مليء بالعبر، وهو نقلُ أجساد موتاهم بالتحنيط من الماضي إلى الأجيال المقبلة لعَرضها أمامَهم وفق اعتقادهم بتناسخ الأرواح. كما تفيد الآية الكريمة بأسلوب معجز إشارة غيبية إلى أن الجسد الذي اكتُشف في العصر الأخير هو نفسُه جسدُ فرعون الذي غرق، فكما ألقي به إلى الساحل في الموضع الذي غرق فيه، فسيُلقى به كذلك من بحر الزمان، فوقَ أمواج العصور، إلى ساحل هذا العصر.

    ومنها: قوله تعالى: ﴿ يُذَبِّحُونَ اَبْنَٓاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَٓاءَكُمْ ﴾ (البقرة:٤٩)

    فإنه بحادثة ذبح بنى إسرائيل واستحياء نسائهم وبناتِهم في عهد فرعون يبين الإبادةَ الجماعية التي يتعرض لها اليهودُ في أكثر البلدان وفي كل عصر، والدورُ المهم الذي تؤديه نساؤهم وبناتُهم في حياة السفاهة للبشرية وتحلل أخلاقها.

    ومنها: ﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ اَحْرَصَ النَّاسِ عَلٰى حَيٰوةٍ ﴾ (البقرة:٩٦) ﴿ وَتَرٰى كَث۪يرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْاِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاَكْلِهِمُ السُّحْتَۜ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ (المائدة:٦٢) ﴿ وَيَسْعَوْنَ فِي الْاَرْضِ فَسَادًاۜ وَاللّٰهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِد۪ينَ ﴾ (المائدة:٦٤) ﴿ وَقَضَيْنَٓا اِلٰى بَن۪ٓي اِسْرَٓاء۪يلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْاَرْضِ مَرَّتَيْنِ ﴾ (الإسراء:٤) ﴿ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْاَرْضِ مُفْسِد۪ينَ ﴾ (البقرة:٦٠)

    هذان الحكمان القاضيان في حق اليهود، الحرص والفساد، يتضمنان هذين الدستورين العامين المهمين، اللذين يديرهما أولئك القومُ في حياة المجتمع الإنساني بالمكر والحيَل والخديعة؛ فالآية تبين أنهم هم الذين زلزلوا الحياة الاجتماعية الإنسانية وأوقدوا الحربَ بين الفقراء والأغنياء بتحريض العاملين على أصحاب رأس المال. وكانوا السبب في تأسيس البنوك بجعلهم الربا أضعافا مضاعفة، وجمعوا أموالا طائلة بكل وسيلة دنيئة بالمكر والحيَل، هؤلاء القوم هم أنفسُهم أيضا انخرطوا في كل أنواع المنظمات الفاسدة ومدّوا أيديهم إلى كل نوع من أنواع الثورات، أخذا بثأرهم من الشعوب الغالبة ومن الحكومات التي ذاقوا منها الحرمانَ وسامَتهم أنواعَ العذاب.

    ومنها: ﴿ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ اِنْ كُنْتُمْ صَادِق۪ينَ ❀ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ اَبَدًا ﴾ (البقرة:٩٤-٩٥)

    فالآية تبين بعنوان حادثةٍ جزئية وقعتْ في مجلس صغير في الحضرة النبوية الكريمة، من أن اليهود الذين هم أحرصُ الناس على حياة وأخوفُهم من الموت، لن يتمنّوا الموت ولن يتخلّوا عن الحرص على الحياة حتى قيام الساعة.

    ومنها: ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ﴾ (البقرة:٦١)

    تبين الآية الكريمة بهذا العنوان، مُقدّرات اليهود في المستقبل بصورة عامة، وحيث إن الحرص والفساد قد تغلغل في سجاياهم وتمكّن من طَبعهم، فالقرآن الكريم يغلظ عليهم في الكلام ويصفعُهم صفعاتِ زجرٍ عنيفة للتأديب.

    ففي ضوء هذه الأمثلة، قِسْ بنفسك قصةَ موسى عليه السلام وحوادثَ وقعت لبني إسرائيل وقصصهم.

    وبعد، فإن وراء كلمات القرآن البسيطة ومباحثه الجزئية، هناك كثير من أمثال ما في هذا الضوء الرابع من لمعات إعجاز كلمعة إيجاز إعجازي، والعارف تكفيه الإشارة.

    الضوء الخامس: هو الجامعية الخارقة لمقاصد القرآن ومسائله ومعانيه وأساليبه ولطائفه ومحاسنه.

    نعم، إذا أُنعم النظرُ في سوَر القرآن الكريم وآياته، ولاسيما فواتحُ السور، ومبادئُ الآيات ومقاطعها تبيّن:

    أنّ القرآن المعجز البيان قد جمع أنواعَ البلاغة، وجميعَ أقسام فضائل الكلام، وجميع أصناف الأساليب العالية، وجميع أفراد محاسن الأخلاق، وجميع خلاصات العلوم الكونية، وجميع فهارس المعارف الإلهية، وجميعَ الدساتير النافعة للحياة البشرية الشخصية والاجتماعية، وجميعَ القوانين النورانية السامية لحكمة الكون.. وعلى الرغم من جمعه هذا، لا يظهر عليه أيُّ أثرٍ كان من آثار الخلط وعدم الاستقامة في التركيب أو المعنى.

    حقا، إنّ جمعَ جميع هذه الأجناس المختلفة الكثيرة في موضع واحد، من دون أن ينشأ منه اختلالُ نظامٍ أو اختلاط وتشوش، إنما هو شأنُ نظام إعجازِ قهّار ليس إلّا.

    وحقا، إن تمزيقَ ستارِ العاديّات، التي هي مصدر الجهل المركب، ببيانات نافذة، واستخراجَ خوارقِ العادات المتستّرة تحت ذلك الستار وإظهارها بجلاء، وتحطيمَ طاغوت الطبيعة -التي هي منبع الضلالة- بسيوف البراهين الألماسية، وتشتيتَ حُجُب نوم الغفلة الكثيفة بصَيحات مدوّية كالرعد، وحلَّ طلسم الكون المغلق والمُعمّى العجيب للعالم الذي أعجزَ الفلسفة البشرية والحكمة الإنسانية.. ما هو إلّا من صنع هذا القرآن المعجز البيان، البصير بالحقيقة، المطّلع على الغيب، المانحِ للهداية، المظهر للحق.

    نعم، إذا أُنعم النظرُ في آيات القرآن الكريم بعين الإنصاف، شوهدَت أنها لا تشبه فكرا تدريجيا متسلسلا يتابع مقصدا أو مقصدين كما هو الحال في سائر الكتب، بل إنها تُلْقى إلقاءً، ولها طور دفعي وآني، وأن عليها علامة أنّ كلَّ طائفة منها ترد معا إنما ترد مستقلةً ورودا وجيزا منجّما، ومن مكان قصيٍّ ضمن مخابرة في غاية الأهمية والجدية.

    نعم، مَن غيرُ ربِّ العالمين يستطيع أن يُجري هذا الكلام الوثيق الصلة بالكون وبخالق الكون وبهذه الصورة الجادة؟ ومَن غيرُه تعالى يتجاوز حدَّه بما لا حدَّ له من التجاوز فيتكلم حسب هواه باسم الخالق ذي الجلال وباسم الكون كلاما صحيحا كهذا؟

    نعم، إنه واضح جلي في القرآن أنه كلام رب العالمين.. هذا الكلام الجاد الحق السامي الحقيقي الخالص، ليس عليه أيةُ أمارة كانت تومئ بالتقليد. فلو فرضنا محالا أن هناك مَن هو مثلُ مسيلمة الكذاب الذي تجاوز حدَّه بغير حدود فقلّد كلام خالقه ذي العزة والجبروت وتكلّم من بنات فكره ناصبا نفسَه متكلما عن الكون، فلابد أنه ستظهر آلاف من أمارات التقليد والتصنع وآلاف من علامات الغش والتكلّف. لأن مَن يتلبّس طورا أسمى وأعلى بكثير من حالته الدنيئة لا شك أن كلَّ حالة من حالاته تدل على التقليد والتصنع.

    فانظرْ إلى هذه الحقيقة التي يعلنها هذا القَسَم وأنعِم النظرَ فيها: ﴿ وَالنَّجْمِ اِذَا هَوٰىۙ ❀ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوٰىۚ ❀ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوٰىۜ ❀ اِنْ هُوَ اِلَّا وَحْيٌ يُوحٰى ﴾ (النجم:١-٤).

    الشعاع الثالث

    إعجاز القرآن الكريم الناشئ من إخباره عن الغيوب وديمومة شبابه، وصلاحه لكل طبقة من الناس

    ولهذا الشعاع ثلاث جلوات:

    الجلوة الأولى

    إخباره عن الغيوب

    لهذه الجلوة ثلاث قبسات:

    القبس الأول: إخباره الغيبي عن الماضي

    إنّ القرآن الحكيم، بلسانِ أمّيّ أمينٍ بالاتفاق يذكر أخبارا من لدن آدم عليه السلام إلى خير القرون، مع ذكره أهمَّ أحوال الأنبياء عليهم السلام وأحداثِهم المهمة، يذكرها ذكرا في منتهى القوة وغاية الجد، وبتصديق من الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل، فيوافق ما اتفقت عليه تلك الكتب السابقة ويصحّح حقيقةَ الواقعة ويفصِّل في تلك المباحث التي اختلفت فيها.

    بمعنى أنّ نظر القرآن الكريم ذلك النظرُ المطّلع على الغيب، يرى أحوال الماضي أفضلَ من تلك الكتب، وبما هو فوقها جميعا. بحيث يزكيّها ويصدّقُها في المسائل المتفق عليها، ويصحِحُها، ويفصِل في المباحث التي اختلف فيها. علما أن إخبار القرآن الذي يخص أحوالَ الماضي ووقائعه ليس أمرا عقليا حتى يُخبَر عنه بالعقل، بل هو أمر نقلي متوقف على السماع، والنقل خاص بأهل القراءة والكتابة، مع أن الأعداءَ والأصدقاءَ متفقون معا على أن القرآن إنما نـزل على شخص أميّ لا يعرف القراءة والكتابة، معروف بالأمانة موصوف بالأمية.

    وحينما يخبر عن تلك الأحوال الماضية يُخبر عنها وكأنه يشاهدُها كلها، إذ يتناول روحَ حادثةٍ طويلة وعقدتَها الحياتية، فيخبر عنها، ويجعلها مقدمةً لمقصده. بمعنى أن الخلاصات والفذلكات المذكورة في القرآن الكريم تدل على أن الذي أظهرَها يرى جميع الماضي بجميع أحواله، إذ كما أن شخصا متخصصا في فنٍ أو صنعةٍ إذا أتى بخلاصة من ذلك الفن، أو بنموذج من تلك الصنعة، فإنها تدل على مهارته ومَلَكته. كذلك الخلاصات وروح الوقائع المذكورة في القرآن الكريم تبين أن الذي يقولها إنما يقولُها وقد أحاط بها ويراها ثم يخبرُ عنها بمهارة فوق العادة -إن جاز التعبير-.

    القبس الثاني: إخباره الغيبي عن المستقبل

    لهذا القسم أنواع كثيرة:

    القسم الأول: خاص بقسم من أهل الكشف والولاية.

    مثلا: إنّ محي الدين بن عربي وجد كثيرا من الأخبار عن الغيب في سورة الروم ﴿ الم ❀ غُلِبَتِ الرُّومُ ﴾ (الروم:١-٢) وإن الإمام الرباني «أحمد الفاروقي السرهندي» قد شاهد في المقطّعات التي في بدايات السور كثيرا من إشارات المعاملات الغيبية. وبالنسبة إلى علماء الباطن فالقرآنُ الحكيم من أوَّلِه إلى آخره نوع من الإخبار عن الغيب. أما نحن فسنشير إلى قسم منها، إلى الذي يخص العموم ويرجع إلى الجميع. ولهذا القسم أيضا طبقات كثيرة، فسنقصرُ كلامنا على طبقة واحدة.

    فالقرآن الكريم يقول للرسول الكريم ﷺ. ([13])

    ﴿ فَاصْبِرْ اِنَّ وَعْدَ اللّٰهِ حَقٌّ ﴾ (الروم:٦٠) ﴿ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ اِنْ شَٓاءَ اللّٰهُ اٰمِن۪ينَۙ مُحَلِّق۪ينَ رُؤُ۫سَكُمْ وَمُقَصِّر۪ينَۙ لَا تَخَافُونَ ﴾ (الفتح:٢٧). ﴿ هُوَ الَّذ۪ٓي اَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدٰى وَد۪ينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّ۪ينِ كُلِّه۪ ﴾ (الفتح:٢٨). ﴿ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَۙ ❀ ف۪ي بِضْعِ سِن۪ينَۜ لِلّٰهِ الْاَمْرُ ﴾ (الروم:٣-٤). ﴿ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَۙ ❀ بِاَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ ﴾ (القلم:٥-٦). ﴿ اَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِه۪ رَيْبَ الْمَنُونِ ❀ قُلْ تَرَبَّصُوا فَاِنّ۪ي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّص۪ينَ ﴾ (الطور:٣٠-٣١). ﴿ وَاللّٰهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ (المائدة:٦٧). ﴿ فَاِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ﴾ (البقرة:٢٤). ﴿ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ اَبَدًا ﴾ (البقرة:٩٥). ﴿ سَنُر۪يهِمْ اٰيَاتِنَا فِي الْاٰفَاقِ وَف۪ٓي اَنْفُسِهِمْ حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ اَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ (فصلت:٥٣). ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْاِنْسُ وَالْجِنُّ عَلٰٓى اَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هٰذَا الْقُرْاٰنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِه۪ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَه۪يرًا ﴾ (الإسراء:٨٨). ﴿ يَأْتِي اللّٰهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُٓ اَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِن۪ينَ اَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِر۪ينَۘ يُجَاهِدُونَ ف۪ي سَب۪يلِ اللّٰهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَٓائِمٍ ﴾ (المائدة:٥٤). ﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّٰهِ سَيُر۪يكُمْ اٰيَاتِه۪ فَتَعْرِفُونَهَاۜ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ (النمل:٩٣). ﴿ قُلْ هُوَ الرَّحْمٰنُ اٰمَنَّا بِه۪ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَاۚ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ ف۪ي ضَلَالٍ مُب۪ينٍ ﴾ (الملك:٢٩). ﴿ وَعَدَ اللّٰهُ الَّذ۪ينَ اٰمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْاَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذ۪ينَ مِنْ قَبْلِهِمْۖ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ د۪ينَهُمُ الَّذِي ارْتَضٰى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ اَمْنًا ﴾ (النور:٥٥).

    وأمثال هذه الآيات كثيرة جدا تتضمن أخبارا عن الغيب وقد تحققت كما أخبرتْ.

    فالإخبار عن الغيب دون تردد وبكمال الجد والاطمئنان وبما يُشعر بقوة الوثوق، على لسان مَن هو معرّض لاعتراضات المعترضين وانتقاداتِهم، وربما يفقد دعواه لخطأٍ طفيف، يدل دلالة قاطعة على أنه يتلقى الدرس من أستاذه الأزلي ثم يقوله للناس.

    القبس الثالث: إخباره الغيب عن الحقائق الإلهية والحقائق الكونية والأمور الأخروية

    نعم، إن بيانات القرآن التي تخص الحقائق الإلهية، وبياناتِه الكونية التي فتحتْ طلسمَ الكون وكشفت عن معمّى خلق العالم لهي أعظمُ البيانات الغيبية، لأنه ليس من شأن العقل قط، ولا يمكنه أن يسلك سلوكا مستقيما بين ما لا يُحد من طرق الضلالة، فيجد تلك الحقائق الغيبية. وكما هو معلوم فإن أعظمَ دهاةِ حكماء البشر لم يصلوا إلى أصغر تلك الحقائق وأبسطها بعقولهم.

    ثم إن عقول البشر ستقول بلا شك أمام تلك الحقائق الإلهية والحقائق الكونية التي أظهرها القرآنُ الكريم: صدقتَ، وستقبل تلك الحقائقَ بعد استماعها إلى بيان القرآن بصفاء القلب وتزكية النفس، وبعد رقيِّ الروح واكتمال العقل، وستباركه. وحيث إن «الكلمة الحادية عشرة» قد أوضحت وأثبتت نبذةً من هذا القسم فلا داعي للتكرار.

    أما إخبار القرآن الغيبي عن الآخرة والبرزخ، فإن عقل البشر وإن لم يدرك أحوالَ الآخرة والبرزخ بمفرده ولا يراها وحده، إلّا أن القرآن يبيّنها ويثبتها إثباتا يبلغ درجةَ الشهود.

    فراجع «الكلمة العاشرة» لتلمس مدى صواب الإخبار الغيبي عن الآخرة الذي أخبر به القرآن الكريم. فقد أثبتته تلك الرسالة ووضّحته أيّما إيضاح.

    الجلوة الثانية

    شبابية القرآن وفتوته

    إنّ القرآن الكريم قد حافظ على شبابيته وفتوته حتى كأنه ينـزل في كل عصر نضرا فتيا.

    نعم، إن القرآن الكريم لأنه خطاب أزلي يخاطب جميع طبقات البشر في جميع العصور خطابا مباشرا يلزم أن تكون له شبابية دائمة كهذه. فلقد ظهر شابا وهو كذلك كما كان. حتى إنه ينظر إلى كل عصر من العصور المختلفة في الأفكار والمتباينة في الطبائع نظرا كأنه خاص بذلك العصر ووفق مقتضياته ملقنا دروسَه مُلفتا إليها الأنظار.

    إنّ آثار البشر وقوانينَه تشيبُ وتهرَم مثلَه، وتتغير وتُبدَّل. إلّا أن أحكام القرآن وقوانينَه لها من الثبات والرسوخ بحيث تظهر متانتها أكثر كلما مرت العصور.

    نعم، إنّ هذا العصر الذي اغترّ بنفسه وأصمَّ أذنيه عن سماع القرآن أكثرَ من أي عصر مضى، وأهلَ الكتاب منهم خاصة، أحوجُ ما يكونون إلى إرشاد القرآن الذي يخاطبهم بـ ﴿ يَٓا اَهْلَ الْكِتَابِ ﴾ ﴿ يَٓا اَهْلَ الْكِتَابِ ﴾ حتى كأن ذلك الخطاب موجّه إلى هذا العصر بالذات إذ إن لفظ ﴿ أهل الكتاب ﴾ يتضمن معنىً: أهل الثقافة الحديثة أيضا!

    فالقرآن يُطلق نداءه يدوّي في أجواء الآفاق ويملأ الأرض والسبعَ الطباق بكل شدة وقوة وبكل نضارة وشباب فيقول: ﴿ قُلْ يَٓا اَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا اِلٰى كَلِمَةٍ سَوَٓاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ.. ﴾ (آل عمران:٦٤).

    فمثلا: إنّ الأفراد والجماعات مع أنهم قد عجزوا عن معارضة القرآن إلّا أن المدنية الحاضرة التي هي حصيلةُ أفكار بني البشر وربما الجنّ أيضا، قد اتخذت طورا مخالفا له، وأخذت تعارض إعجازَه بأساليبها الساحرة. فلأجل إثبات إعجاز القرآن بدعوى الآية الكريمة: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْاِنْسُ وَالْجِنُّ .. ﴾ (الإسراء:٨٨) لهذا المعارِض الجديد الرهيب نضع الأسس والدساتير التي أتت بها المدنيةُ الحاضرة أمام أسس القرآن الكريم.

    ففي الدرجة الأولى: نضع الموازنات التي عُقدت والموازين التي نُصبت في الكلمات السابقة، ابتداءً من الكلمة الأولى إلى الخامسة والعشرين، وكذا الآيات الكريمة المتصدرة لتلك الكلمات والتي تبين حقيقتَها، تثبتُ إعجازَ القرآن وظهورَه على المدنية الحاضرة بيقين لا يقبل الشك قطعا.

    وفي الدرجة الثانية: نورد إجمالا قسما من دساتير المدنية والقرآن التي وضّحته وأثبتته «الكلمة الثانية عشرة».

    فالمدنية الحاضرة تؤمن بفلسفتها أن ركيزة الحياة الاجتماعية البشرية هي «القوة» وهي تستهدف «المنفعة» في كل شيء. وتتخذ «الصراع» دستورا للحياة. وتلتزم بـ«العنصرية» و«القومية السلبية» رابطةً للجماعات. وغايتُها هي «لهو عابث» لإشباع رغبات الأهواء وميول النفس، التي من شأنها تزييد جموح النفس وإثارة الهوى.

    ومن المعلوم إن شأن «القوة» هو «التجاوز». وشأن «المنفعة» هو «التزاحم». إذ هي لا تفي بحاجات الجميع وتلبية رغباتِهم. وشأن «الصراع» هو «التصادم» وشأن «العنصرية» هو «التجاوز» حيث تكبر بابتلاع غيرها.

    فهذه الدساتير والأسس التي تستند إليها هذه المدنية الحاضرة هي التي جعلَتها عاجزةً -مع محاسنها- عن أن تمنحَ سوى عشرين بالمائة من البشر سعادةً ظاهرية، بينما ألقَت البقية إلى شقاء وتعاسة وقلق.

    أما حكمةُ القرآن فهي تقبل «الحق» نقطةَ استنادٍ في الحياة الاجتماعية بدلا من «القوة».. وتجعل «رضى الله» و«نيل الفضائل» هو الغاية والهدف، بدلا من «المنفعة».. وتتخذ دستورَ «التعاون» أساسا في الحياة، بدلا من دستور «الصراع».. وتلتزم رابطة «الدين» والصنف والوطن لربط فئات الجماعات، بدلا من «العنصرية» و«القومية السلبية».. وتجعل غاياتها «الحدّ من تجاوز النفس الأمارة ودفع الروح إلى معالي الأمور وتطمين مشاعرها السامية لسَوق الإنسان نحو الكمال والمُثل العليا لجعل الإنسان إنسانا حقا».

    إنّ شأنَ «الحق» هو «الاتفاق».. وشأن «الفضيلة» هو «التساند».. وشأن «التعاون» هو «إغاثة كلّ للآخر».. وشأن «الدين» هو «الأخوة والتكاتف».. وشأن «إلجام النفس وكبح جماحها وإطلاق الروح وحثّها نحو الكمال» هو «سعادة الدارين».

    وهكذا غُلبت المدنيةُ الحاضرة أمامَ القرآن الحكيم مع ما أخذت من محاسنَ من الأديان السابقة، ولاسيما من القرآن الكريم.

    وفي الدرجة الثالثة: سنبين -على سبيل المثال- أربعةَ مسائل فحسب من بين آلاف المسائل:

    المسألة الأولى: إنّ دساتير القرآن الكريم وقوانينَه لأنها آتية من الأزل، فهي باقية وماضية إلى الأبد. لا تهرَم أبدا ولا يصيبُها الموتُ، كما تهرمُ القوانين المدنية وتموت، بل هي شابّة وقوية دائما في كل زمان.

    فمثلا: إن المدنية بكل جمعياتِها الخيرية، وأنظمتها الصارمة ونُظُمها الجبارة، ومؤسساتِها التربوية الأخلاقية لم تستطع أن تعارض مسألتين من القرآن الكريم، بل انهارت أمامَهما وهي في قوله تعالى: ﴿ وَاٰتُوا الزَّكٰوةَ ﴾ (البقرة:٤٣) و ﴿ وَاَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبٰوا ﴾ (البقرة:٢٧٥).

    سنبين هذا الظهورَ القرآني المعجز وهذه الغالبية بمقدمة: إنّ أسّ أساس جميع الاضطرابات والثورات في المجتمع الإنساني إنما هو كلمة واحدة، كما أن منبع جميع الأخلاق الرذيلة كلمة واحدة أيضا. كما أثبت ذلك في «إشارات الإعجاز».

    الكلمة الأولى: «إن شبعتُ، فلا عليّ أن يموتَ غيري من الجوع».

    الكلمة الثانية: «اكتسبْ أنتَ، لآكل أنا، واتعبْ أنت لأستريح أنا».

    نعم، إنه لا يمكن العيشُ بسلام ووئام في مجتمع إلّا بالمحافظة على التوازن القائم بين الخواص والعوام، أي بين الأغنياء والفقراء. وأساس هذا التوازن هو رحمةُ الخواص وشفقتُهم على العوام، وإطاعةُ العوام واحترامُهم للخواص.

    فالآن، إن الكلمة الأولى قد ساقت الخواصَّ إلى الظلم والفساد، ودفعت الكلمةُ الثانية العوامَ إلى الحقد والحسد والصراع. فسُلبت البشرية الراحةَ والأمان لعصور خلت، كما هو في هذا العصر، حيث ظهرت حوادث أوربا الجسام بالصراع القائم بين العاملين وأصحاب رأس المال كما لا يخفى على أحد.

    فالمدنية بكل جمعياتها الخيرية ومؤسساتها الأخلاقية وبكل وسائل نظامها وانضباطها الصارم عجزتْ عن أن تصلح بين تينك الطبقتين من البشر، كما عجزت عن أن تضمد جرحَي الحياة البشرية الغائرَين.

    أما القرآن الكريم فإنه يقلع الكلمةَ الأولى من جذورها، ويداويها بوجوب الزكاة. ويقلع الكلمةَ الثانية من أساسها ويداويها بحرمة الربا. نعم، إن الآيات القرآنية تقف على باب العالَم قائلة للربا: «الدخول ممنوع». وتأمر البشرية: «أوصدوا أبواب الربا لتنسد أمامَكم أبواب الحروب». وتحذّر تلاميذ القرآن المؤمنين من الدخول فيها.

    الأساس الثاني: إنّ المدنية الحاضرة لا تقبل تعددَ الزوجات، وتحسب ذلك الحكمَ القرآني مخالفا للحكمة ومنافيا لمصلحة البشر.

    نعم، لو كانت الحكمةُ من الزواج قاصرةً على قضاء الشهوة للزم أن يكون الأمرُ معكوسا، بينما هو ثابت حتى بشهادة جميع الحيوانات وبتصديق النباتات المتزاوجة؛ إنّ الحكمة من الزواج والغايةَ منه إنما هي التكاثر وإنجاب النسل. أما اللذةُ الحاصلة من قضاء الشهوة فهي أجرة جزئية تمنحها الرحمةُ الإلهية لتأدية تلك المهمة.

    فما دام الزواجُ للتكاثر وإنجاب النسل ولبقاء النوع حكمةً وحقيقةً، فلا شك أن المرأة التي لا يمكن أن تلد إلّا مرةً واحدة في السنة، ولا تكون خصبة إلاّ نصف أيام الشهر وتدخل سن اليأس في الخمسين من عمرها، لا تكفي الرجلَ الذي له القدرةُ على الإخصاب في أغلب الأوقات حتى وهو ابن مائة سنة. لذا تضطر المدنيةُ إلى فتح أماكن العهر والفحش.

    الأساس الثالث: إنّ المدنية التي لا تتحاكم إلى المنطق العقلي، تنتقد الآية الكريمة:

    ﴿ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْاُنْثَيَيْنِ ﴾ (النساء:١١) التي تمنح النساء الثُلث من الميراث (أي نصف ما يأخذه الذكر).

    ومن البديهي أن أغلب الأحكام في الحياة الاجتماعية إنما تُسنّ حسب الأكثرية من الناس، فغالبيةُ النساء يجدن أزواجا يعيلونَهن ويحمونَهن، بينما الكثير من الرجال مضطرون إلى إعالة زوجاتهم وتحمّل نفقاتهن. فإذا ما أخذت الأنثى الثُلث من أبيها (أي نصف ما أخذه الزوج من أبيه) فإن زوجَها سيسدُّ حاجتَها. بينما إذا أخذ الرجل حظَّين من أبيه، فإنه سيُنفق قسطا منه على زوجته. وبذلك تحصل المساواةُ، ويكون الرجل مساويا لأخته. وهكذا تقتضي العدالةُ القرآنية. ([14])

    الأساس الرابع: إنّ القرآن الكريم مثلما يمنع بشدة عبادةَ الأصنام، يمنع كذلك اتخاذ الصور التي هي شبيهة بنوع من اتخاذ الأصنام. أما المدنية الحاضرة فإنها تعدّ الصور من مزاياها وفضائلها وتحاول أن تعارض القرآن. والحال أن الصوَر أيا كانت، ظليةً أو غيرها، فهي إما ظلم متحجر، أو رياء متجسد، أو هوى متجسّم، حيث تهيّج الأهواءَ وتدفع الإنسان إلى الظلم والرياء والهوى.

    ثم إن القرآن يأمر النساء أن يحتجِبن بحجاب الحياء، رحمةً بهن وصيانةً لحرمتهن وكرامتهن، ولكي لا تُهان تلك المعادن الثـمينة معادن الشـفقة والرأفة، وتلك المصادر اللطيفة للحنان والرحمة، تحت أقدام الذل والمهانة. ولكي لا يكنّ آلةً لهوسات الرذيلة ومتعة تافهة لا قيمة لها. ([15]) أما المدنية فإنها قد أخرجت النساء من أوكارهن وبيوتهن ومزّقت حجابَهن وأدَّت بالبشرية أن يجنّ جنونُها. علما أن الحياة العائلية إنما تدوم بالمحبة والاحترام المتبادل بين الزوج والزوجة. بينما التكشف والتبرج يزيلان تلك المحبة الخالصة والاحترام الجاد ويسممان الحياة العائلية؛

    ولاسيما الولعُ بالصور فإنه يفسد الأخلاقَ ويهدِمها كليا، ويؤدي إلى انحطاط الروح وتردّيها. ويمكن فهم هذا بالآتي:

    كما أن النظرَ بدافع الهوى وبشهوة إلى جنازةِ امرأة حسناء تنتظر الرحمةَ وترجوها، يهدِم الأخلاق ويحطّها، كذلك النظرُ بشهوة إلى صوَر نساء ميّتات أو إلى صور نساء حيّات -وهي في حُكم جنائزَ مصغرة لهن- يزعزع مشاعر الإنسان ويعبَث بها، ويهدمها.

    وهكذا بمثل هذه المسائل الأربع فإن كل مسألة من آلاف المسائل القرآنية تضمن سعادةَ البشر في الدنيا، كما تحقق سعادته الأبدية في الآخرة. فَلكَ أن تقيس سائر المسائل على المسائل المذكورة.

    وأيضا، فكما أن المدنية الحاضرة تخسر وتُغلَب أمامَ دساتير القرآن المتعلقة بحياة الإنسان الاجتماعية، فيُظهر إفلاسَها -من زاوية الحقيقة- إزاء إعجاز القرآن المعنوي، كذلك فإن فلسفة أوربا وحكمة البشر (وهي المدنية) عند الموازنة بينها وبين حكمة القرآن بموازين الكلمات الخمس والعشرين السابقة، ظهرتْ عاجزةً وحكمةُ القرآن معجزة، وإن شئت فراجع «الكلمة الثانية عشرة» و«الثالثة عشرة» لتلمس عجزَ حكمة الفلسفة وإفلاسَها وإعجاز حكمة القرآن وغناها.

    وأيضا، فكما أن المدنيةَ الحاضرة غُلبتْ أمام إعجاز حكمة القرآن العلمي والعملي، كذلك آدابُ المدنية وبلاغتُها فهي مغلوبة أمام الأدب القرآنـي وبلاغته. والنسبة بينهما أشبهُ ما يكون ببكاء يتيم فَقَد أبوَيه بكاءً ملؤه الحزنُ القاتم واليأسُ المرير، إلى إنشاد عاشق عفيف حزينٍ على فراق قصيرِ الأمد غناءً ملؤه الشوقُ والأمل.. أو نسبة صراخِ سكيرٍ يتخبط في وضع سافل، إلى قصائدَ حماسية تحضّ على بذل الغوالي من الأنفس والأموال وبلوغ النصر.

    لأن الأدب والبلاغة من حيث تأثير الأسلوب، إما يورثان الحُزن وإما الفرح. والحزنُ نفسه قسمان:

    إما أنه حزن منبعث من فَقْد الأحبة، أي من عدم وجود الأحبة والأخلاء، وهو حزن مظلم كئيب تورثه المدنيةُ الملوثة بالضلالة والمشوبة بالغفلة والمعتقدة بالطبيعة. وإما أنه ناشئ من فراق الأحبة، بمعنى أن الأحبةَ موجودون، ولكن فراقَهم يبعث على حزن ينمّ عن لوعة الاشتياق. فهذا الحزن هو الذي يورثه القرآن الهادي المنير.

    أما الفرح والسرور فهو أيضا قسمان:

    الأول: يدفع النفسَ إلى شهواتها، هذا هو شأن آداب المدنية من أدب مسرحي وسينمائي وروائي.

    أما الثاني: فهو فرح لطيف بريء نـزيه، يكبحُ جماح النفس ويُلجمها ويحث الروحَ والقلب والعقل والسر على المعالي وعلى موطنهم الأصلي، على مقرهم الأبدي، على أحبتهم الأخرويين. وهذا الفرح هو الذي يمنحه القرآنُ المعجز البيان الذي يحضّ البشر ويشوّقه للجنّة والسعادة الأبدية وعلى رؤية جمال الله تعالى.

    ولقد توهم بعضُ قاصري الفهم وممن لا يكلفون أنفسهم دقةَ النظر أن المعنى العظيم والحقيقة الكبرى التي تفيدها الآية الكريمة: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْاِنْسُ وَالْجِنُّ عَلٰٓى اَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هٰذَا الْقُرْاٰنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِه۪ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَه۪يرًا ﴾ (الإسراء:٨٨) ظنّوها صورة محالة ومبالغة بلاغية! حاشَ لله! بل إنها بلاغة هي عين الحقيقة، وصورة ممكنة وواقعة وليست محالة قط.

    فأحَد وجوه تلك الصورة هو أنه لو اجتمع أجمل ما يقوله الإنس والجن الذي لم يترشح من القرآن ولا هو من متاعه، فلا يماثل القرآنَ قط ولن يماثله. لذا لم يظهر مثيله.

    والوجه الآخر: أن المدنية وحكمة الفلسفة والآداب الأجنبية التي هي نتائج أفكار الجن والإنس وحتى الشياطين وحصيلة أعمالهم، هي في دركات العجز أمام أحكام القرآن وحكمته وبلاغته. كما قد بيّنا أمثلة منها.

    الجلوة الثالثة

    خطابه كل طبقة من طبقات الناس

    إنّ القرآن الحكيم يخاطب كلَّ طبقة من طبقات البشر في كل عصر من العصور، وكأنه متوجّه توجها خاصا إلى تلك الطبقة بالذات.

    إذ لمّا كان القرآن يدعو جميع بني آدم بطوائفهم كافة إلى الإيمان الذي هو أسمى العلوم وأدقُّها، وإلى معرفة الله التي هي أوسعُ العلوم وأنورُها، والى الأحكام الإسلامية التي هي أهمُّ المعارف وأكثرُها تنوعا، فمن الألزم إذن أن يكون الدرس الذي يُلقيه على تلك الطوائف من الناس، درسا يوائم فهْم كلٍّ منها. والحال أن الدرس واحد، وليس مختلفا، فلابد إذن من وجود طبقات من الفهم في الدرس نفسه، فكل طائفةٍ من الناس -حسب درجاتها- تأخذ حظَّها من الدرس من مشهد من مشاهد القرآن.

    ولقد وافينا بأمثلة كثيرة لهذه الحقيقة، يمكن مراجعتها، أما هنا فنكتفي بالإشارة إلى بضع أجزاء منها، وإلى حظِّ طبقة أو طبقتين منها من الفهم فحسب.

    فمثلا: قوله تعالى:

    ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْۙ ❀ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا اَحَدٌ ﴾ (الاخلاص:٣-٤)

    فإن حظَّ فهْم طبقة العوام التي تشكل الأكثرية المطلقة هو «أنّ الله منـزّه عن الوالد والولد وعن الزوجة والأقران».

    وحظ طبقة أخرى متوسطة من الفهم هو «نفيُ ألوهية عيسى عليه السلام والملائكة، وكلِّ ما هو من شأنه التولد» لأن نفي المحال لا فائدة منه في الظاهر؛ لذا فلابد أن يكون المرادُ إذن ما هو لازم الحُكم كما هو مقرر في البلاغة. فالمراد من نفي الولد والوالدية اللذين لهما خصائص الجسمانية هو نفي الألوهية عن كل مَن له ولد ووالد وكفؤ، وبيان عدم لياقتهم للألوهية. فمن هذا السر تبين أن سورة الإخلاص يمكن أن تفيد كل إنسان في كل وقت.

    وحظ فهم طبقة أكثر تقدما هو أنّ الله منـزّه عن كل رابطة تتعلق بالموجودات تُشَم منها رائحةُ التوليد والتولد، وهو مقدّس عن كل شريك ومعين ومجانس. وإنما علاقته بالموجودات هي الخلاقيـة. فهو يخلق الموجودات بأمر ﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ بإرادته الأزلية وباختياره. وهو منـزّه عن كل رابطة تنافي الكمالَ، كالإيجاب والاضطرار والصدور بغير اختيار.

    وحظ فهم طبقة أعلى من هذه هو: أنّ الله أزلي، أبدي، أول وآخر، لا نظيرَ له ولا كفؤَ، ولا شبيهَ، ولا مثيلَ ولا مثالَ في أية جهة كانت، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. وإنما هناك «المَثَل» -ولله المثل الأعلى- الذي يفيد التشبيه في أفعاله وشؤونه فحسب.

    فلك أن تقيس على هذه الطبقات أصحابَ الحظوظ المختلفة في الإدراك، من أمثال طبقة العارفين وطبقة العاشقين وطبقة الصديقين وغيرهم..

    المثال الثاني: قوله تعالى: ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ اَبَٓا اَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلٰكِنْ ﴾ (الأحزاب:٤٠)

    فحظُّ فهم الطبقة الأولى من هذه الآية هو: أنّ زيدا(∗) خادمَ الرسول ﷺ ومتبناه ومخاطبَه بـ: «يا بُني»، قد طلّق زوجتَه العزيزة بعدما أحسّ أنه ليس كفوا لها. فتزوجَها الرسول ﷺ بأمر الله تعالى. فالآية (النازلة بهذه المناسبة) تقول: إن النبي ﷺ إذا خاطبَكم مخاطبة الأب لابنه، فإنه يخاطبكم من حيث الرسالة، إذ هو ليس أبا لأحدٍ منكم باعتباره الشخصي حتى لا تليقَ به زوجاتُه.

    وحظ فهم الطبقة الثانية هو أنّ الأمير العظيم ينظر إلى رعاياه نظرَ الأب الرحيم، فإن كان سلطانا روحانيا في الظاهر والباطن فإن رحمته ستفوق رحمةَ الأب وشفقتَه أضعافا مضاعفة. حتى تنظر إليه أفرادُ الرعية نظرَهم للأب وكأنهم أولادُه الحقيقيون. وحيث إن النظرة إلى الأب لا يمكن أن تنقلب إلى النظر إلى الزوج، والنظرَ إلى البنت لا يتحول بسهولة إلى النظر إلى الزوجة، فلا يوافق في فكر العامة تزوّج الرسول ﷺ ببنات المؤمنين استنادا إلى هذا السر. لذا فالقرآنُ يخاطبهم قائلا: إن الرسول ﷺ ينظر إليكم نظرَ الرحمة والشفقة من زاوية الرحمة الإلهية، ويعاملُكم معاملةَ الأب الحنون من حيث النبوة، ولكنه ليس أبا لكم من حيث الشخصية الإنسانية حتى لا يلائمَ تزوجَه من بناتكم ويحرُم عليه.

    القسم الثالث يفهم الآية هكذا: ينبغي عليكم ألّا ترتكبوا السيئات والذنوب اعتمادا على رأفة الرسول الكريم ﷺ عليكم وانتسابكم إليه. إذ إن هناك الكثيرين يعتمدون على ساداتهم ومرشديهم فيتكاسلون عن العبادة والعمل، بل يقولون أحيانا: «قد أُدِيتْ صلاتُنا» (كما هو الحال لدى بعض الشيعة).

    النكتة الرابعة: إنّ قسما آخر يفهم إشارة غيبية من الآية وهي أنّ أبناء الرسول ﷺ لا يبلغون مبلغَ الرجال، وإنما يتوفاهم الله قبل ذلك، فلا يدوم نسلُه من حيث كونهم رجالا، لحكمة يراها سبحانه وتعالى. إلّا أن لفظ «رجال» يشير إلى أنه سيدوم نسلُه من النساء دون الرجال. فللّه الحمد والمنة فإن النسل الطيب المبارك من فاطمة الزهراء رضي الله عنها كالحسن والحسين رضي الله عنهما وهما البدران المنوّران لسلسلتين نورانيتين، يديمان ذلك النسل المبارك (المادي والمعنوي) لشمس النبوة.

    اللّهم صلِّ عليه وعلى آله.

    (تمت الشعلة الأولى بأشعتها الثلاثة).

    الشعلة الثانية

    هذه الشعلة لها ثلاثة أنوار

    النور الأول

    إن القرآن الكريم قد جمع السلاسةَ الرائقة والسلامةَ الفائقة والتساندَ المتين والتناسبَ الرصين والتعاونَ القوي بين الجمل وهيئاتها، والتجاوبَ الرفيع بين الآيات ومقاصدها، بشهادة علم البيان وعلم المعاني وشهادة ألوف من أئمة هذه العلوم كالزمخشري والسكاكي وعبد القاهر الجرجاني، مع أن هناك ما يقارب تسعةَ أسباب مهمة تخل بذلك التجاوب والتعاون والتساند والسلاسة والسلامة. فلم تؤثر تلك الأسبابُ في الإفساد والإخلال، بل مدّت وعضّدت سلاستَه وسلامته وتسانده. إلّا ما أجرتْه بشيء من حكمها في إخراج رؤوسها من وراء ستار النظام والسلاسة، وذلك لتدلّ على معان جليلة من سلاسة نظم القرآن، بمثل ما تُخرج البراعمُ بعض البروزات والنُدب في جذع الشجرة المنسقة. فهذه البروزات ليست لإخلال تناسق الشجرة وتناسبها وإنما لإعطاء ثمرات يتم بها جمالُ الشجرة وكمالُ زينتها.

    إذ إنّ ذلك القرآن المبين نـزل في ثلاث وعشرين سنة نجما نجما لمواقع الحاجات نـزولا متفرقا متقطعا، مع أنه يُظهر من التلاؤم الكامل كأنه نـزل دفعة واحدة.

    وأيضا إنّ ذلك القرآن المبين نـزل في ثلاث وعشرين سنة لأسباب نـزول مختلفة متباينة، مع أنه يُظهر من التساند التام كأنه نـزل لسبب واحد...

    وأيضا إنّ ذلك القرآن جاء جوابا لأسئلة مكررة متفاوتة، مع أنه يُظهر من الامتزاج التام والاتحاد الكامل كأنه جواب عن سؤال واحد...

    وأيضا إنّ ذلك القرآن جاء بيانا لأحكام حوادث متعددة متغايرة، مع أنه يبين من الانتظام الكامل كأنه بيان لحادثة واحدة...

    وأيضا إنّ ذلك القرآن نـزل متضمنا لتنـزلات كلامية إلهية في أساليب تُناسب أفهامَ مخاطبين لا يُحصرون، وحالات من التلقي متخالفة متنوعة، مع أنه يبين من السلاسة اللطيفة والتماثل الجميل، كأن الحالةَ واحدة والفهمَ واحد، حتى تجري السلاسة كالماء السلسبيل...

    وأيضا إنّ ذلك القرآن جاء مكلِّما متوجها إلى أصناف متعددة متباعدة من المخاطبين، مع أنه يُظهر من سهولة البيان وجزالة النظام ووضوح الإفهام كأن المخاطبين صنف واحد بحيث يظن كلُّ صنف أنه المخاطب وحدَه بالأصالة...

    وأيضا إنّ ذلك القرآن نـزل هاديا وموصلا إلى غايات إرشادية متدرجة متفاوتة، مع أنه يبين من الاستقامة الكاملة والموازنة الدقيقة والانتظام الجميل كأن المقصد واحد.

    فهذه الأسباب مع أنها أسباب للتشويش واختلال المعنى والمبنى، إلّا أنها استُخدمت في إظهار إعجاز بيان القرآن وسلاسته وتناسبه.

    نعم، من كان ذا قلبٍ غيرَ سقيم، وعقل مستقيم، ووجدان غيرِ مريض، وذوق سليم، يرى في بيان القرآن سلاسةً جميلة وتناسقا لطيفا ونغمة لذيذة وفصاحة فريدة. فمن كانت له عين سليمة في بصيرته، فلا ريب أنه يرى في القرآن عينا ترى كل الكائنات ظاهرا وباطنا بوضوح تام كأنها صحيفة واحدة، يقلّبها كيف يشاء، فيعرّف معانيَها على ما يشاء من أسلوب.

    فلو أردنا توضيح حقيقة هذا النور الأول بأمثلة، لاحتجنا إلى بضعة مجلدات. لذا نكتفي بالإيضاحات التي تخص هذه الحقيقة في كل من «الرسائل العربية» ([16]) و«إشارات الإعجاز» والكلمات الخمس والعشرين السابقة. بل القرآنُ الكريم بكامله مثال لهذه الحقيقة. أبيّنه كله دفعة واحدة.

    النور الثاني

    يبحث هذا النور عن مزية الإعجاز في الأسلوب البديع للقرآن في الخلاصات (الفذلكات) والأسماء الحسنى التي تنتهي بها الآياتُ الكريمة:

    تنبيه

    سترد آيات كثيرة في هذا النور الثاني، وهي ليست خاصة به وحدَه بل تكون أمثلةً أيضا لما ذُكر من المسائل والأشعة. ولو أردنا أن نوفي هذه الأمثلة حقها من الإيضاح لطال بنا البحث، بيد أني أراني مضطرا في الوقت الحاضر إلى الاختصار والإجمال، لذا فقد أشرنا إشارة في غاية الاختصار والإجمال إلى الآيات التي أوردناها مثالا لبيان هذا السر العظيم سرِّ الإعجاز مؤجِّلين تفصيلاتِها إلى وقت آخر.

    فالقرآن الكريم يذكر في أكثر الأحيان قسما من الخلاصات والفذلكات في خاتمة الآيات. فتلك الخلاصات إما أنها تتضمن الأسماء الحسنى أو معناها، وإما أنها تحيل قضاياها إلى العقل وتحثه على التفكر والتدبر فيها.. أو تتضمن قاعدةً كلية من مقاصد القرآن فتؤيد بها الآية وتؤكدها.

    ففي تلك الفذلكات بعضُ إشارات من حكمة القرآن العالية، وبعض رشاشات من ماء الحياة للهداية الإلهية، وبعض شرارات من بوارق إعجاز القرآن.

    ونحن الآن نذكر إجمالا «عشر إشارات» فقط من تلك الإشارات الكثيرة جدا، كما نشير إلى مثال واحد فقط من كثير من أمثلتها، وإلى معنى إجمالي لحقيقة واحدة فقط من بين الحقائق الكثيرة لكل مثال.

    هذا وإن أكثر هذه الإشارات العشر تجتمع في أكثر الآيات معا مكونة نقشا إعجازيا حقيقيا. وإن أكثر الآيات التي نأتي بها مثالا هي أمثلة لأكثر الإشارات. فنبين من كل آية إشارة واحدة مشيرين إشارة خفيفة إلى معاني تلك الآيات التي ذكرناها في «كلمات» سابقة.

    مزية الجزالة الأولى

    إن القرآن الكريم -ببياناته المعجزة- يبسط أفعال الصانع الجليل ويفرش آثاره أمام النظر، ثم يستخرج من تلك الأفعال والآثار الأسماءَ الإلهية، أو يثبت مقصدا من مقاصد القرآن الأساسية كالحشر والتوحيد.

    فمن أمثلة المعنى الأول: قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذ۪ي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْاَرْضِ جَم۪يعًا ثُمَّ اسْتَوٰٓى اِلَى السَّمَٓاءِ فَسَوّٰيهُنَّ سَبْعَ سَمٰوَاتٍۜ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَل۪يمٌ ﴾ (البقرة:٢٩)

    ومن أمثلة المعنى الثاني: قوله تعالى: ﴿ اَلَمْ نَجْعَلِ الْاَرْضَ مِهَادًاۙ ❀ وَالْجِبَالَ اَوْتَادًاۖ ❀ وَخَلَقْنَاكُمْ اَزْوَاجًا ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿ اِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ م۪يقَاتًا ﴾ (النبأ).

    ففي الآية الأولى: يعرض القرآن الآثار الإلهية العظيمة التي تدل بغاياتها ونظمها على علم الله وقدرته، يذكرها مقدّمةً لنتيجة مهمة وقصدٍ جليل ثم يستخرج اسم الله «العليم». وفي الآية الثانية: يذكر أفعال الله الكبرى وآثاره العظمى، ويستنتج منها الحشر الذي هو يوم الفصل، كما وُضّح في النقطة الثالثة من الشعاع الأول من الشعلة الأولى.

    النكتة البلاغية الثانية

    إنّ القرآن الكريم ينشر منسوجات الصنعة الإلهية ويعرضها على أنظار البشر ثم يلفّها ويطويها في الخلاصة ضمن الأسماء الإلهية، أو يحيلها إلى العقل.

    فمن أمثلة الأول: ﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَٓاءِ وَالْاَرْضِ اَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْاَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْاَمْرَۜ فَسَيَقُولُونَ اللّٰهُۚ فَقُلْ اَفَلَا تَتَّقُونَ ❀ فَذٰلِكُمُ اللّٰهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ﴾ (يونس:٣١-٣٢)

    فيقول أولا: «مَن الذي هَيَّأ السماء والأرض وجعلهما مخازن ومستودعاتٍ لرزقكم، فأنـزل من هناك المطر ويُخرج من هنا الحبوب ؟ ومَن غيرُ الله يستطيع أن يجعل السماء والأرض العظيمتين في حكم خازنين مطيعين لحكمه؟ فالشكر والحمد إذن له وحده».

    ويقول في الفقرة الثانية: «أمّن هو مالك أسماعكم وأبصاركم التي هي أثمن ما في أعضائكم؟ من أي مصنع أو محل ابتعتموها؟ فالذي منحكم هذه الحواس اللطيفة من عين وسمع إنما هو ربُّكم! وهو الذي خلقكم وربّاكم، ومنحها لكم، فالرب إذن إنما هو وحده المستحق للعبادة ولا يستحقها غيره».

    ويقول في الفقرة الثالثة: «أمّن يحيى مئات الآلاف من الطوائف الميتة كما يحيى الأرض؟ فمن غيرُ الحق سبحانه وخالقُ الكون يَقْدِر أن يفعل هذا الأمر؟ فلا ريب أنه هو الذي يفعل وهو الذي يحيى الأرض الميتة. فما دام هو الحق فلن تضيع عنده الحقوق، وسيبعثكم إلى محكمة كبرى وسيحييكم كما يحيى الأرض».

    ويقول في الفقرة الرابعة: «مَن غيرُ الله يستطيع أن يدبّر شؤون هذا الكون العظيم ويدير أمره إدارةً منسقة منظمة بسهولة إدارة قصر أو مدينة؟ فما دام ليس هناك غير الله، فلا نقص إذن في القدرة القادرة على إدارة هذا الكون العظيم، بكل أجرامهِ، بيسر وسهولة، ولا حاجة لها إلى شريك ولا إلى معين، فهي مطلقة لا يحدها حدود. ولا يدع مَن يدبّر أمور الكون العظيم إدارة مخلوقات صغيرة إلى غيره. فأنتم إذن مضطرون لأن تقولوا: الله».

    فترى أن الفقرة الأولى والرابعة تقول: «الله»، وتقول الثانية: «رب». وتقول الثالثة: «الحق». فافهم مدى الإعجاز في موقع جملة ﴿ فَذٰلِكُمُ اللّٰهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ﴾ .

    وهكذا يذكر القرآن عظيم تصرفات الله سبحانه وعظيم منسوجاته ثم يذكر اليد المدبّرة لتلك الآثار الجليلة والمنسوجات العظيمة: ﴿ فَذٰلِكُمُ اللّٰهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ﴾ ، أي إنه يُري منبعَ تلك التصرفات العظيمة ومصدرَها بذكر الأسماء الإلهية: الله، الرب، الحق.

    ومن أمثلة الثاني:

    ﴿ اِنَّ ف۪ي خَلْقِ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّت۪ي تَجْر۪ي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَٓا اَنْزَلَ اللّٰهُ مِنَ السَّمَٓاءِ مِنْ مَٓاءٍ فَاَحْيَا بِهِ الْاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ ف۪يهَا مِنْ كُلِّ دَٓابَّةٍۖ وَتَصْر۪يفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَٓاءِ وَالْاَرْضِ لَاٰيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ (البقرة:١٦٤)

    يذكر القرآن في هذه الآيات ما في خلق السماوات والأرض من تجلي سلطنة الألوهية الذي يُظهر تجلي كمالَ قدرته سبحانه وعظمةَ ربوبيته، ويَشهد على وحدانيته.. ويذكر تجلي الربوبية في اختلاف الليل والنهار، وتجلي الرحمة بتسخير السفينة وجريانها في البحر التي هي من الوسائل العظمى للحياة الاجتماعية، وتجلي عظمة القدرة في إنزال الماء الباعث على الحياة من السماء إلى الأرض الميتة وإحيائها مع طوائفها التي تزيد على مئات الآلاف، وجعلها في صورة معرض للعجائب والغرائب.. كما يذكر تجلِّي الرحمة والقدرة في خلق ما لا يُحد من الحيوانات المختلفة من تراب بسيط.. كما يذكر تجلِّي الرحمة والحكمة من توظيف الرياح بوظائف جليلة كتلقيح النباتات وتنفسها، وجعلها صالحةً في ترديد أنفاس الأحياء بتحريكها وإدارتها.. كما يذكر تجلِّي الربوبية في تسخير السُحب وجمعها وتفريقها وهي معلقة بين السماء والأرض كأنها جنود منصاعون للأوامر يتفرقون للراحة ثم يجمّعون لتلقي الأوامر في عرض عظيم.

    وهكذا بعد سرد منسوجات الصنعة الإلهية يسوق العقلَ إلى اكتناه حقائقها تفصيلا فيقول: ﴿ لَاٰيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ آخذا بزمام العقل إلى التدبّر موقظا إياه إلى التفكّر.

    مزيّة الجزالة الثالثة

    إنّ القرآن الكريم قد يذكر أفعال الله سبحانه بالتفصيل، ثم بعد ذلك يوجزها ويجمِلها بخلاصة. فهو بتفصيلها يورث القناعة والاطمئنان، وبإيجازها وإجمالها يسهّل حفظها وتقييدها.

    فمثلا: ﴿ وَكَذٰلِكَ يَجْتَب۪يكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْو۪يلِ الْاَحَاد۪يثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلٰٓى اٰلِ يَعْقُوبَ كَمَٓا اَتَمَّهَا عَلٰٓى اَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ اِبْرٰه۪يمَ وَاِسْحٰقَۜ اِنَّ رَبَّكَ عَل۪يمٌ حَك۪يمٌ ﴾ (يوسف:٦).

    يشير بهذه الآية إلى النعم التي أنعمها الله على سيدنا يوسف وعلى آبائه من قبل، فيقول: إن الله تعالى هو الذي اصطفاكم من بنى آدم لمقام النبوة وجعل سلسلة جميع الأنبياء مرتبطة بسلسلتكم وسوّدها على سائر سلاسل بني البشر، كما جعل أسرتكم موضع تعليم وهداية، تلقّن العلوم الإلهية والحكمة الربانية، فجمَع فيكم سلطنة الدنيا السعيدة وسعادة الآخرة الخالدة، وجعلك بالعلم والحكمة عزيزا لمصر ونبيا عظيما ومرشدا حكيما.. فبعد أن يذكر تلك النعم ويعدّدها وكيف أن الله قد جعله هو وآباءه ممتازَين بالعلم والحكمة، يقول: ﴿ إِنّ رَبَّكَ عَلِيم حَكِيم ﴾ أي اقتضت ربوبيته وحكمته أن يجعلك وآباءك تحظَون بنور اسم «العليم الحكيم». وهكذا أجمل تلك النعم المفصّلة بهذه الخلاصة.

    ومثلا: قوله تعالى: ﴿ قُلِ اللّٰهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَٓاءُ ﴾ (آل عمران:٢٦) إلى قوله تعالى: ﴿ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَٓاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ (آل عمران:٢٧).

    تعرض هذه الآية أفعال الله سبحانه في المجتمع الإنساني وتفيد بأن العزة والذلة والفقر والغنى مربوطة مباشرة بمشيئة الله وإرادته تعالى. أي «إن التصرف في أكثر طبقات الكثرة تشتتا إنما هو بمشيئة الله وتقديره فلا دخل للمصادفة قط».

    فبعد أن أعطت الآية هذا الحكم، تقول: إن أعظم شيء في الحياة الإنسانية هو رزقُه. فتثبت ببضع مقدّمات أن الرزق إنما يُرسل مباشرة من خزينة الرزاق الحقيقي؛ إذ إن رزقَكم منوط بحياة الأرض، وحياة الأرض منوطة بالربيع، والربيع إنما هو بيد من يسخّر الشمس والقمر ويكوّر الليل والنهار. إذن فإن منح تفاحة لإنسان رزقا حقيقيا، إنما هو من فعل مَن يملأ الأرض بأنواع الثمرات، وهو الرزاق الحقيقي. وبعد ذلك يجمُل القرآن ويثبت تلك الأفعال المفصّلة بهذه الخلاصة: ﴿ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَٓاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾.

    النكتة البلاغية الرابعة

    إنّ القرآن قد يذكر المخلوقات الإلهية مرتبةً بترتيب معين، ثم يبين به أن في المخلوقات نظاما وميزانا، يُريان ثمرة المخلوقات. وكأنه يُضفي نوعا من الشفافية والسطوع على المخلوقات التي تظهر منها الأسماءُ الإلهية المتجلية فيها، فكأن تلك المخلوقات المذكورة ألفاظ، وهذه الأسماء معانيها، أو أنها ثمرات وهذه الأسماء نواها أو لبابُها.

    Mesela

    وَلَقَد۟ خَلَق۟نَا ال۟اِن۟سَانَ مِن۟ سُلَالَةٍ مِن۟ طٖينٍ ۝ ثُمَّ جَعَل۟نَاهُ نُط۟فَةً فٖى قَرَارٍ مَكٖينٍ ۝ ثُمَّ خَلَق۟نَا النُّط۟فَةَ عَلَقَةً فَخَلَق۟نَا ال۟عَلَقَةَ مُض۟غَةً فَخَلَق۟نَا ال۟مُض۟غَةَ عِظَامًا فَكَسَو۟نَا ال۟عِظَامَ لَح۟مًا ثُمَّ اَن۟شَا۟نَاهُ خَل۟قًا اٰخَرَ فَتَبَارَكَ اللّٰهُ اَح۟سَنُ ال۟خَالِقٖينَ

    يذكر القرآنُ خلق الإنسان وأطواره العجيبة الغريبة البديعة المنتظمة الموزونة ذكرا مرتبا يبيّن كالمرآة ﴿ فَتَبَارَكَ اللّٰهُ اَحْسَنُ الْخَالِق۪ينَ ﴾ ، حتى كأن كلَّ طور يبين نفسَه ويوحي بنفسه هذه الآية، بل حتى قالها قبل مجيئها أحدُ كتّاب الوحي حينما كان يكتب هـذه الآية، فذهب به الظن إلى أن يقول: أ أوحي إليّ أيضا؟ ([17]) والحال أنّ كمال نظام الكلام الأول وشفافيته الرائقة وانسجامه التام يُظهر نفسه قبل مجيء هذه الكلمة.

    Hem mesela اِنَّ رَبَّكُمُ اللّٰهُ الَّذٖى خَلَقَ السَّمٰوَاتِ وَال۟اَر۟ضَ فٖى سِتَّةِ اَيَّامٍ ثُمَّ اس۟تَوٰى عَلَى ال۟عَر۟شِ يُغ۟شِى الَّي۟لَ النَّهَارَ يَط۟لُبُهُ حَثٖيثًا وَالشَّم۟سَ وَال۟قَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِاَم۟رِهٖ اَلَا لَهُ ال۟خَل۟قُ وَال۟اَم۟رُ تَبَارَكَ اللّٰهُ رَبُّ ال۟عَالَمٖينَ

    İşte Kur’an şu âyette azamet-i kudret-i İlahiye ve saltanat-ı rububiyeti öyle bir tarzda gösteriyor ki güneş, ay, yıldızlar emirber neferleri gibi emrine müheyya; gece ve gündüzü, beyaz ve siyah iki hat gibi veya iki şerit gibi birbiri arkasında döndürüp âyât-ı rububiyetini kâinat sahifelerinde yazan ve arş-ı rububiyetinde duran bir Kadîr-i Zülcelal’i gösterdiğinden, her ruh işitse بَارَكَ اللّٰهُ ، مَاشَاءِ اللّٰهُ ، فَتَبَارَكَ اللّٰهُ رَبُّ ال۟عَالَمٖينَ demeye hâhişger olur. Demek    تَبَارَكَ اللّٰهُ رَبُّ ال۟عَالَمٖينَ    sâbıkın hülâsası, çekirdeği, meyvesi ve âb-ı hayatı hükmüne geçer.

    BEŞİNCİ MEZİYET-İ CEZALET

    Kur’an bazen tagayyüre maruz ve muhtelif keyfiyata medar maddî cüz’iyatı zikreder. Onları hakaik-i sabite suretine çevirmek için sabit, nurani, küllî esma ile icmal eder, bağlar. Veyahut tefekküre ve ibrete teşvik eder bir fezleke ile hâtime verir.

    Birinci mananın misallerinden mesela وَعَلَّمَ اٰدَمَ ال۟اَس۟مَٓاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُم۟ عَلَى ال۟مَلٰٓئِكَةِ فَقَالَ اَن۟بِئُونٖى بِاَس۟مَٓاءِ هٰٓؤُلَٓاءِ اِن۟ كُن۟تُم۟ صَادِقٖينَ ۝ قَالُوا سُب۟حَانَكَ لَا عِل۟مَ لَنَٓا اِلَّا مَا عَلَّم۟تَنَٓا اِنَّكَ اَن۟تَ ال۟عَلٖيمُ ال۟حَكٖيمُ

    İşte şu âyet evvela: “Hazret-i Âdem’in hilafet meselesinde, melâikelere rüçhaniyetine medar onun ilmi olduğu” olan bir hâdise-i cüz’iyeyi zikreder. Sonra o hâdisede melâikelerin Hazret-i Âdem’e karşı ilim noktasında hâdise-i mağlubiyetlerini zikreder. Sonra bu iki hâdiseyi iki ism-i küllî ile icmal ediyor. Yani   اَن۟تَ ال۟عَلٖيمُ ال۟حَكٖيمُ   yani “Alîm ve Hakîm sen olduğun için Âdem’i talim ettin, bize galip oldu. Hakîm olduğun için bize istidadımıza göre veriyorsun. Onun istidadına göre rüçhaniyet veriyorsun.”

    İkinci mananın misallerinden mesela وَاِنَّ لَكُم۟ فِى ال۟اَن۟عَامِ لَعِب۟رَةً نُس۟قٖيكُم۟ مِمَّا فٖى بُطُونِهٖ مِن۟ بَي۟نِ فَر۟ثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَٓائِغًا لِلشَّارِبٖينَ … اِلٰى اٰخِرِ فٖيهِ شِفَٓاءٌ لِلنَّاسِ اِنَّ فٖى ذٰلِكَ لَاٰيَةً لِقَو۟مٍ يَتَفَكَّرُونَ

    İşte şu âyetler, Cenab-ı Hakk’ın koyun, keçi, inek, deve gibi mahluklarını insanlara hâlis, safi, leziz bir süt çeşmesi; üzüm ve hurma gibi masnûları da insanlara latîf, leziz, tatlı birer nimet tablaları ve kazanları; ve arı gibi küçük mu’cizat-ı kudretini şifalı ve tatlı güzel bir şerbetçi yaptığını âyet şöylece gösterdikten sonra tefekküre, ibrete, başka şeyleri de kıyas etmeye teşvik için   اِنَّ فٖى ذٰلِكَ لَاٰيَةً لِقَو۟مٍ يَتَفَكَّرُونَ   der, hâtime verir.

    ALTINCI NÜKTE-İ BELÂGAT

    Kâh oluyor ki âyet, geniş bir kesrete ahkâm-ı rububiyeti serer, sonra birlik ciheti hükmünde bir rabıta-i vahdet ile birleştirir veyahut bir kaide-i külliye içinde yerleştirir.

    Mesela وَسِعَ كُر۟سِيُّهُ السَّمٰوَاتِ وَال۟اَر۟ضَ وَلَا يَؤُدُهُ حِف۟ظُهُمَا وَهُوَ ال۟عَلِىُّ ال۟عَظٖيمُ

    İşte Âyetü’l-Kürsî’de on cümle ile on tabaka-i tevhidi ayrı ayrı renklerde ispat etmekle beraber مَن۟ ذَا الَّذٖى يَش۟فَعُ عِن۟دَهُٓ اِلَّا بِاِذ۟نِهٖ  cümlesiyle gayet keskin bir şiddetle şirki ve gayrın müdahalesini keser, atar. Hem şu âyet ism-i a’zamın mazharı olduğundan hakaik-i İlahiyeye ait manaları a’zamî derecededir ki a’zamiyet derecesinde bir tasarruf-u rububiyeti gösteriyor. Hem umum semavat ve arza birden müteveccih tedbir-i uluhiyeti en a’zamî bir derecede umuma şâmil bir hafîziyeti zikrettikten sonra bir rabıta-i vahdet ve birlik ciheti, o a’zamî tecelliyatlarının menbalarını    وَهُوَ ال۟عَلِىُّ ال۟عَظٖيمُ    ile hülâsa eder.

    Hem mesela اَللّٰهُ الَّذٖى خَلَقَ السَّمٰوَاتِ وَال۟اَر۟ضَ وَاَن۟زَلَ مِنَ السَّمَٓاءِ مَٓا٦ً فَاَخ۟رَجَ بِهٖ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِز۟قًا لَكُم۟ وَسَخَّرَ لَكُمُ ال۟فُل۟كَ لِتَج۟رِىَ فِى ال۟بَح۟رِ بِاَم۟رِهٖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ال۟اَن۟هَارَ ۝ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّم۟سَ وَال۟قَمَرَ دَٓائِبَي۟نِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّي۟لَ وَالنَّهَارَ ۝ وَاٰتٰيكُم۟ مِن۟ كُلِّ مَا سَاَل۟تُمُوهُ وَاِن۟ تَعُدُّوا نِع۟مَتَ اللّٰهِ لَا تُح۟صُوهَا

    İşte şu âyetler, evvela Cenab-ı Hakk’ın insana karşı şu koca kâinatı nasıl bir saray hükmünde halk edip semadan zemine âb-ı hayatı gönderip, insanlara rızkı yetiştirmek için zemini ve semayı iki hizmetkâr ettiği gibi zeminin sair aktarında bulunan her bir nevi meyvelerinden, her bir adama istifade imkânı vermek hem insanlara semere-i sa’ylerini mübadele edip her nevi medar-ı maişetini temin etmek için gemiyi insana musahhar etmiştir. Yani denize, rüzgâra, ağaca öyle bir vaziyet vermiş ki rüzgâr bir kamçı, gemi bir at, deniz onun ayağı altında bir çöl gibi durur. İnsanları gemi vasıtasıyla bütün zemine münasebettar etmekle beraber ırmakları, büyük nehirleri, insanın fıtrî birer vesait-i nakliyesi hükmünde teshir, hem güneş ile ayı seyrettirip mevsimleri ve mevsimlerde değişen Mün’im-i Hakiki’nin renk renk nimetlerini insanlara takdim etmek için iki musahhar hizmetkâr ve o büyük dolabı çevirmek için iki dümenci hükmünde halk etmiş. Hem gece ve gündüzü insana musahhar yani hâb-ı rahatına geceyi örtü, gündüzü maişetlerine ticaretgâh hükmünde teshir etmiştir.

    İşte bu niam-ı İlahiyeyi ta’dad ettikten sonra, insana verilen nimetlerin ne kadar geniş bir dairesi olduğunu gösterip, o dairede ne derece hadsiz nimetler dolu olduğunu şu وَاٰتٰيكُم۟ مِن۟ كُلِّ مَا سَاَل۟تُمُوهُ وَاِن۟ تَعُدُّوا نِع۟مَتَ اللّٰهِ لَا تُح۟صُوهَا fezleke ile gösterir. Yani istidat ve ihtiyac-ı fıtrî lisanıyla insan ne istemişse bütün verilmiş. İnsana olan nimet-i İlahiye, ta’dad ile bitmez, tükenmez. Evet, insanın madem bir sofra-i nimeti semavat ve arz ise ve o sofradaki nimetlerden bir kısmı şems, kamer, gece, gündüz gibi şeyler ise elbette insana müteveccih olan nimetler hadd ü hesaba gelmez.

    سر البلاغة السابعة

    قد تبين الآيةُ غايات المسَبَّب وثمراته لتعزل السببَ الظاهري وتسلب منه قدرةَ الخلق والإيجاد. وليُعلَم أن السببَ ما هو إلّا ستار ظاهري؛ ذلك لأن إرادة الغايات الحكيمة والثمرات الجليلة يلزم أن يكون من شأن مَن هو عليم مطلق العلم وحكيم مطلق الحكمة، بينما سببُها جامد من غير شعور.

    فالآية تفيد بذكر الثمرات والغايات أن الأسباب وإن بدتْ في الظاهر والوجود متصلةً مع المسببَّات إلّا أن بينهما في الحقيقة وواقع الأمر بونا شاسعا جدا.

    نعم، إن المسافة بين السبب وإيجاد المسبَّب مسافة شاسعة بحيث لا طاقة لأعظم الأسباب أن تنال إيجاد أدنى مسبَّب، ففي هذا البُعد بين السبب والمسبَّب تشرق الأسماءُ الإلهية كالنجوم الساطعة.

    فمطالعُ تلك الأسماء هي في تلك المسافة المعنوية، إذ كما يُشاهد اتصال أذيال السماء بالجبال المحيطة بالأفق وتبدو مقرونةً بها، بينما هناك مسافة عظيمة جدا بين دائرة الأفق والسماء، كذلك فإن ما بين الأسباب والمسبَّبات مسافة معنوية عظيمة جدا لا تُرى إلّا بمنظار الإيمان ونور القرآن.

    فمثلا: ﴿ فَلْيَنْظُرِ الْاِنْسَانُ اِلٰى طَعَامِه۪ۙ ❀ اَنَّا صَبَبْنَا الْمَٓاءَ صَبًّاۙ ❀ ثُمَّ شَقَقْنَا الْاَرْضَ شَقًّاۙ ❀ فَاَنْبَتْنَا ف۪يهَا حَبًّاۙ ❀ وَعِنَبًا وَقَضْبًاۙ ❀ وَزَيْتُونًا وَنَخْلًاۙ ❀ وَحَدَٓائِقَ غُلْبًاۙ ❀ وَفَاكِهَةً وَاَبًّاۙ ❀ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِاَنْعَامِكُمْۜ ﴾ (عبس:٢٤-٣٢).

    هذه الآيات الكريمة تذكر معجزات القدرة الإلهية ذكرا مرتبا حكيما تربط الأسبابَ بالمسبَّبات، ثم في خاتمة المطاف تبيّن الغاية بلفظ: ﴿ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِاَنْعَامِكُمْ ﴾ فتثبت في تلك الغاية أن متصرفا مستترا وراء جميع تلك الأسباب والمسببات المتسلسلة يرى تلك الغايات ويراعيها. وتؤكد أن تلك الأسباب ما هي إلّا حجاب دونه.

    نعم، إن عبارة: ﴿ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِاَنْعَامِكُمْ ﴾ تسلب جميعَ الأسباب من القدرة على الإيجاد والخلق. إذ تقول معنىً: أنّ الماء الذي ينـزل من السماء لتهيئة الأرزاق لكم ولأنعامكم لا ينـزل بنفسه، لأنه ليس له قابلية الرحمة والحنان عليكم وعلى إنعامكم كي يرأف بحالكم؛ فإذن يُرسَل إرسالا.

    وإن التراب الذي لا شعُور له، لأنه بعيد كل البعد من أن يرأف بحالكم فيهيئ لكم الرزق، فلا ينشقّ إذن بنفسه، بل هناك مَن يشقّه ويفتح أبوابه، ويناولكم النِعَم منه.

    وكذا الأشجار والنباتات، فهي بعيدة كل البعد عن تهيئة الثمرات والحبوب رأفةً بكم وتفكرا برزقكم، فما هي إلّا حبال وشرائط ممتدة من وراء ستار الغيب يمدها حكيم رحيم علّق تلك النعم بها وأرسلها إلى ذوي الحياة.

    وهكذا فمن هذه البيانات تظهر مطالع أسماء حسنى كثيرة كالرحيم والرزاق والمنعم والكريم.

    ومثلا:

    ﴿ اَلَمْ تَرَ اَنَّ اللّٰهَ يُزْج۪ي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِه۪ۚ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَٓاءِ مِنْ جِبَالٍ ف۪يهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُص۪يبُ بِه۪ مَنْ يَشَٓاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَٓاءُۜ يَكَادُ سَنَا بَرْقِه۪ يَذْهَبُ بِالْاَبْصَارِۜ ❀ يُقَلِّبُ اللّٰهُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَۜ اِنَّ ف۪ي ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لِاُو۬لِي الْاَبْصَارِ ❀ وَاللّٰهُ خَلَقَ كُلَّ دَٓابَّةٍ مِنْ مَٓاءٍۚ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْش۪ي عَلٰى بَطْنِه۪ۚ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْش۪ي عَلٰى رِجْلَيْنِۚ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْش۪ي عَلٰٓى اَرْبَعٍۜ يَخْلُقُ اللّٰهُ مَا يَشَٓاءُۜ اِنَّ اللّٰهَ عَلٰى كُلِّ شَيْءٍ قَد۪يرٌ ﴾ (النور:٤٣-٤٥).

    فهذه الآية الكريمة حينما تبين التصرفات العجيبة في إنـزال المطر وتشكّل السحاب الذي يمثل ستار خزينة الرحمة الإلهية وأهم معجزة من معجزات الربوبية، تبيّنها كأن أجزاء السحاب كانت منتشرة ومختفية في جو السماء -كالجنود المنتشرين للراحة- فتجتمع بأمر الله وتتألف تلك الأجزاء الصغيرة مشكّلةً السحاب كما تجتمع الجنود بصوت بوق عسكري، فيرسل الماء الباعث على الحياة إلى ذوي الحياة كافة، من تلك القطع من السحاب التي هي في جسامة الجبال السيارة في القيامة وعلى صورتها. وهي في بياض الثلج والبَرَد وفي رطوبتها.. فيُشاهَد في ذلك الإرسال إرادةٌ وقصد لأنه يأتي حسب الحاجة، أي يُرسَل المطرُ إرسالا، ولا يمكن أن تجتمع تلك الأجزاء الضخمة من السحاب وكأنها جبال بنفسها في الوقت الذي نرى الجو براقا صحوا لا شيء يعكّره، بل يرسلها مَن يعرف ذوي الحياة ويعلم بحالهم.

    ففي هذه المسافة المعنوية تظهر مطالعُ الأسماء الحسنى كالقدير والعليم والمتصرف والمدبّر والمربي والمغيث والمحيي.

    مزية الجزالة الثامنة

    إنّ القرآن الكريم قد يذكر من أفعال الله الدنيوية العجيبة والبديعة كي يُعدّ الأذهان للتصديق ويُحضر القلوب للإيمان بأفعاله المعجزة في الآخرة. أو إنه يصوّر الأفعالَ الإلهية العجيبة التي ستحدث في المستقبل والآخرة بشكل يجعلنا نقتنع ونطمئن إليه بما نشاهده من نظائرها العديدة.

    فمثلا: ﴿ اَوَلَمْ يَرَ الْاِنْسَانُ اَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَاِذَا هُوَ خَص۪يمٌ مُب۪ينٌ.. ﴾ إلى آخر سورة «يس».. هنا في قضية الحشر، يثبت القرآن الكريم ويسوق البراهين عليها، بسبع أو ثماني صور مختلفة متنوعة:

    إنه يقدّم النشأة الأولى أولا، ويعرضها للأنظار قائلا: إنكم ترون نشأتكم من النطفة إلى العلقة ومن العلقة إلى المضغة ومن المضغة إلى خلق الإنسان، فكيف تنكرون إذن النشأة الأخرى التي هي مثل هذا بل أهونُ منه؟

    ثم يشير بـ ﴿ اَلَّذ۪ي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْاَخْضَرِ نَارًا ﴾ إلى تلك الآلاء وذلك الإحسان والإنعام الذي أنعمه الحق سبحانه على الإنسان، فالذي ينعم عليكم مثل هذه النعم، لن يترككم سدىً ولا عبثا، لتدخلوا القبر وتناموا دون قيام.

    ثم إنه يقول رمزا: إنكم ترون إحياء واخضرار الأشجار الميتة، فكيف تستبعدون اكتساب العظام الشبيهة بالحطب للحياة ولا تقيسون عليها؟

    ثم هل يمكن أن يعجز مَن خلق السماوات والأرض عن إحياء الإنسان وإماتته وهو ثمرة السماوات والأرض؟ وهل يمكن من يدير أمرَ الشجرة ويرعاها أن يهمل ثمرتها ويتركها للآخرين؟! فهل تظنون أن يُترك للعبث «شجرة الخلقة» التي عُجنت جميع أجزائها بالحكمة، ويهمل ثمرتَها ونتيجتها؟

    وهكذا فإن الذي سيحييكم في الحشر مَن بيده مقاليد السماوات والأرض، وتخضع له الكائنات خضوع الجنود المطيعين لأمره فيسخرهم بأمر ﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ تسخيرا كاملا.. ومَن عنده خلق الربيع يسيـر وهيّن كخلق زهرة واحدة، وإيجاد جميع الحيوانات سهل على قدرته كإيجاد ذبابة واحدة.. فلا ولن يُسأل للتعجيز صاحب هذه القدرة: ﴿ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ ﴾ ؟

    ثم إنه بعبارة ﴿ فَسُبْحَانَ الَّذ۪ي بِيَدِه۪ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ يبين أنه سبحانه بيده مقاليد كل شيء، وعنده مفاتيح كل شيء، يقلّب الليل والنهار، والشتاء والصيف بكل سهولة ويسر كأنها صفحات كتاب، والدنيا والآخرة هما عنده كمنـزلين يغلق هذا ويفتح ذاك.

    فما دام الأمر هكذا فإن نتيجة جميع الدلائل هي ﴿ وَاِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ أي إنه يحييكم من القبر، ويسوقكم إلى الحشر، ويوفّي حسابَكم عند ديوانه المقدس.

    وهكذا ترى أن هذه الآيات قد هَيأت الأذهان، وأحضرت القلوب لقبول قضية الحشر، بما أظهرت من نظائرها بأفعالٍ في الدنيا.

    هذا، وقد يذكر القرآن أيضا أفعالا أخروية بشكل يحسس ويشير إلى نظائرها الدنيوية، ليمنع الإنكار والاستبعاد.

    فمثلا: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ اِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْۙۖ ❀ وَاِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْۙۖ ❀ وَاِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْۙۖ ❀ وَاِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْۙۖ ❀ وَاِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْۙۖ ❀ وَاِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْۙۖ ❀ وَاِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْۙۖ ❀ وَاِذَا الْمَوْءُ۫دَةُ سُئِلَتْۙ ❀ بِاَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْۚ ❀ وَاِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْۙۖ ❀ وَاِذَا السَّمَٓاءُ كُشِطَتْۙۖ ❀ وَاِذَا الْجَح۪يمُ سُعِّرَتْۙۖ ❀ وَاِذَا الْجَنَّةُ اُزْلِفَتْۙۖ ❀ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَٓا اَحْضَرَتْ.. ﴾ إلى آخر السورة.

    بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ اِذَا السَّمَٓاءُ انْفَطَرَتْۙ ❀ وَاِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْۙ ❀ وَاِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْۙ ❀ وَاِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْۙ ❀ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَاَخَّرَتْ.. ﴾ إلى آخر السورة.

    بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ اِذَا السَّمَٓاءُ انْشَقَّتْۙ ❀ وَاَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْۙ ❀ وَاِذَا الْاَرْضُ مُدَّتْۙ ❀ وَاَلْقَتْ مَا ف۪يهَا وَتَخَلَّتْۙ ❀ وَاَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ... ﴾ إلى آخر السورة.

    فترى أن هذه السوَر تذكر الانقلابات العظيمة والتصرفات الربانية الهائلة بأسلوب يجعل القلب أسير دهشة هائلة يضيق العقلُ دونَها ويبقى في حيرة. ولكن الإنسان ما إن ير نظائرَها في الخريف والربيع إلّا ويقبَلها بكل سهولة ويسر.

    ولما كان تفسير السور الثلاث هذه يطول، لذا سنأخذ كلمة واحدة نموذجا، فمثلا: ﴿ وَاِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْۙ ﴾ تفيد هذه الآية: «ستُنشر في الحشر جميعُ أعمال الفرد مكتوبةً على صحيفة». وحيث إن هذه المسألة عجيبة بذاتها فلا يرى العقلُ إليها سبيلا، إلّا أن السورة كما تشير إلى الحشر الربيعي وكما أن للنقاط الأخرى نظائرَها وأمثلتها كذلك نظير نشر الصحف ومثالها واضح جليّ، فلكل ثمر ولكل عشب ولكل شجر، أعمال وله أفعال، وله وظائف.

    وله عبودية وتسبيحات بالشكل الذي تُظهر به الأسماء الإلهية الحسنى. فجميع هذه الأعمال مندرجة مع تاريخ حياته في بذوره ونواه كلها. وستظهر جميعُها في ربيع آخر ومكان آخر. أي إنه كما يذكر بفصاحة بالغة أعمال أمهاته وأصوله بالصورة والشكل الظاهر، فإنه ينشر كذلك صحائف أعماله بنشر الأغصان وتفتح الأوراق والأثمار.

    نعم، إن الذي يفعل هذا أمام أعيننا بكل حكمة وحفظ وتدبير وتربية ولطف هو الذي يقول ﴿ وَاِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْۙ ﴾...

    وهكذا قس النقاط الأخرى على هذا المنوال. وإن كانت لديك قوة استنباط فاستنبط.

    ولأجل مساعدتك ومعاونتك سنذكر ﴿ اِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْۙ ﴾ أيضا.

    فإن لفظ ﴿ كُوِّرَتْ ﴾ الذي يرد في هذا الكلام هو بمعنى: لُفّت وجُمعت. فهو مثال رائع ساطع فوق أنه يومئ إلى نظيره ومثيله في الدنيا:

    أولا: إن الله سبحانه وتعالى قد رفع ستائر العدم والأثير والسماء، عن جوهرة الشمس التي تضيء الدنيا كالمصباح، فأخرجها من خزينة رحمته وأظهرها إلى الدنيا. وسيلفّ تلك الجوهرة بأغلفتها عندما تنتهي هذه الدنيا وتنسد أبوابُها.

    ثانيا: إن الشمس موظفة ومأمورة بنشر غلالات الضوء في الأسحار ولفّها في الأماسي. وهكذا يتناوب الليلُ والنهار هامة الأرض، وهي تجمع متاعها مقللةً من تعاملها، أو يكون القمر -إلى حدٍ ما- نقابا لأخذها وعطائها ذلك، أي كما أن هذه الموظفة تجمع متاعها وتطوي دفاتر أعمالها بهذه الأسباب، فلابد من أن يأتي يوم تُعفى من مهامها، وتُفصَل من وظيفتها، حتى إن لم يكن هناك سبب للإعفاء والعزل. ولعلّ توسّع ما يشاهده الفلكيون على وجهها من البقعتين الصغيرتين الآن اللتين تتوسعان وتتضخمان رويدا رويدا، تسترجع الشمس -بهذا التوسع- وبأمر رباني ما لفّته ونشرَته على رأس الأرض بإذن إلهي من الضوء، فتلف به نفسها. فيقول ربّ العزة: «إلى هنا انتهت مهمتك مع الأرض، فهيّا إلى جهنم لتحرقي الذين عبدوك وأهانوا موظفة مسخرة مثلك وحقروها متهمين إياها بالخيانة وعدم الوفاء». بهذا تقرأ الشمسُ الأمر الرباني: ﴿ اِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْۙ ﴾ على وجهها المبقع.

    نكتة البلاغة التاسعة

    إنّ القرآن الكريم قد يذكر بعضا من المقاصد الجزئية، ثم لأجل أن يحوّل تلك الجزئيات إلى قاعدة كلية ويجيلَ الأذهان فيها يثبّت ذلك المقصد الجزئي ويقرره ويؤكده بالأسماء الحسنى التي هي قاعدة كلية.

    فمثلا: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللّٰهُ قَوْلَ الَّت۪ي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَك۪ٓي اِلَى اللّٰهِ وَاللّٰهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَاۜ اِنَّ اللّٰهَ سَم۪يعٌ بَص۪يرٌ ﴾ (المجادلة:١).

    يقول القرآن: إن الله سميع مطلق السمع يسمع كل شيء، حتى إنه ليسمع باسمه «الحق» حادثة جزئية، حادثة لمرأة -المرأة التي حظيت بألطف تجلٍ من تجليات الرحمة الإلهية وهي التي تمثل أعظم كنـز لحقيقة الرأفة والحنان- هذه الدعوى المقدمة من امرأة وهي محقة في دعواها على زوجها وشكواها إلى الله منه يسمعها برحمة بالغة كأي أمر عظيم باسم «الرحيم» وينظر إليها بكل شفقة ويراها باسم «الحق».

    فلأجل جعل هذا المقصد الجزئي كليا تفيد الآية بأن الذي يسمع أدنى حادثة من المخلوقات ويراها، يلزم أن يكون ذلك الذي يسمع كل شيء ويراه، وهو المنـزّه عن الممكنات. والذي يكون ربا للكون لابد أن يرى ما في الكون أجمع من مظالم ويسمع شكوى المظلومين، فالذي لا يرى مصائبهم ولا يسمع استغاثاتهم لا يمكن أن يكون ربا لهم. لذا فإن جملة: ﴿ اِنَّ اللّٰهَ سَم۪يعٌ بَص۪يرٌ ﴾تبين حقيقتين عظيمتين. كما جعلت المقصد الجزئي أمرا كليا.

    ومثل ثان: ﴿ سُبْحَانَ الَّذ۪ٓي اَسْرٰى بِعَبْدِه۪ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ اِلَى الْمَسْجِدِ الْاَقْصَا الَّذ۪ي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ اٰيَاتِنَاۜ اِنَّهُ هُوَ السَّم۪يعُ الْبَص۪يرُ ﴾ (الإسراء:١).

    إنّ القرآن الكريم يختم هذه الآية بـ ﴿ اِنَّهُ هُوَ السَّم۪يعُ الْبَص۪يرُ ﴾ وذلك بعد ذكره إسراء الرسول الحبيب ﷺ من مبدأ المعراج -أي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى- ومنتهاه الذي تشير إليه سورة النجم.

    فالضمير في ﴿ اِنَّهُ ﴾ إما أن يرجع إلى الله تعالى، أو إلى الرسول الكريم ﷺ.

    فإذا كان راجعا إلى الرسول ﷺ، فإن قوانين البلاغة ومناسبة سياق الكلام تفيدان أنّ هذه السياحة الجزئية، فيها من السير العمومي والعروج الكلي ما قد سَمِع وشاهَدَ كلَّ ما لاقى بَصَره وسمعَه من الآيات الربانية، وبدائع الصنعة الإلهية في أثناء ارتقائه المراتب الكلية للأسماء الإلهية الحسنى البالغة إلى سدرة المنتهى، حتى كان قاب قوسين أو أدنى. مما يدل على أن هذه السياحة الجزئية هي في حُكم مفتاحٍ لسياحةٍ كليةٍ جامعة لعجائب الصنعة الإلهية. ([18])

    وإذا كان الضمير راجعا إلى الله سبحانه وتعالى، فالمعنى يكون عندئذٍ هكذا: إنه سبحانه وتعالى دعا عبدَه إلى حضوره والمثول بين يديه، لينيط به مهمةً ويكلّفه بوظيفة؛ فأسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي هو مجمع الأنبياء. وبعد إجراء اللقاء معهم وإظهاره بأنه الوارث المطلق لأصول أديان جميع الأنبياء، سَيَّره في جولةٍ ضمن مُلكه وسياحةٍ ضمن ملكوته، حتى أبلغه سدرة المنتهى فكان قاب قوسين أو أدنى. وهكذا فإن تلك السياحة أو السير، وإن كانت معراجا جزئيا وأن الذي عُرج به عبد، إلّا أن هذا العبد يحمل أمانةً عظيمة تتعلق بجميع الكائنات، ومعه نور مبين ينير الكائنات ويبدل من ملامحها ويصبغها بصبغته. فضلا عن أن لديه مفتاحا يستطيع أن يفتح به باب السعادة الأبدية والنعيم المقيم.

    ومثال آخر: ﴿ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ فَاطِرِ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ جَاعِلِ الْمَلٰٓئِكَةِ رُسُلًا اُو۬ل۪ٓي اَجْنِحَةٍ مَثْنٰى وَثُلٰثَ وَرُبَاعَۜ يَز۪يدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَٓاءُۜ اِنَّ اللّٰهَ عَلٰى كُلِّ شَيْءٍ قَد۪يرٌ ﴾ (فاطر:١).

    ففي هذه السورة يقول تعالى: إنّ فاطر السماوات والأرض ذا الجلال قد زيّن السماوات والأرض وبيّن آثار كماله على ما لا يعد من المشاهدين وجعلهم يرفعون إليه ما لا نهاية له من الحمد والثناء. وإنه تعالى زيّن الأرض والسماء بما لا يحد من النعم والآلاء. فتحمد السماواتُ والأرض بلسان نعمها وبلسان المنعَمين عليهم جميعا وتثنى على فاطرها «الرحمن». وبعد ذلك يقول: إنّ الله سبحانه الذي منح الإنسانَ والحيوانات والطيور من سكان الأرض أجهزة وأجنحة يتمكنون بها من الطيران والسياحة بين مدن الأرض وممالكها، والذي منح سكان النجوم وقصور السماوات، وهم الملائكة، كي تسيح وتطير بين ممالكها العلوية وأبراجها السماوية لابد أن يكون قادرا على كل شيء. فالذي أعطى الذبابة الجناح لتطير من ثمرة إلى أخرى، والعصفور ليطير من شجرة إلى أخرى، هو الذي جعل الملائكة أولي أجنحة لتطير من الزُهَرة إلى المشتري ومن المشتري إلى زُحَل.

    ثم إن عبارة: ﴿ مَثْنٰى وَثُلٰثَ وَرُبَاعَ ﴾ تشير إلى أن الملائكة ليسوا منحصرين بجزئية ولا يقيدهم مكان معين، كما هو الحال في سكان الأرض بل يمكن أن يكونوا في آن واحد في أربع نجوم أو أكثر.

    فهذه الحادثة الجزئية، أي تجهيز الملائكة بالأجنحة تشير إلى عظمة القدرة الإلهية المطلقة العامة وتؤكدها بخلاصة ﴿ اِنَّ اللّٰهَ عَلٰى كُلِّ شَيْءٍ قَد۪يرٌ ﴾.

    نكتة البلاغة العاشرة

    قد تذكر الآية ما اقترفه الإنسانُ من سيئات، فتزجره زجرا عنيفا، ثم تختمها ببعض من الأسماء الحسنى التي تشير إلى الرحمة الإلهية لئلا يلقيه الزجر العنيف في اليأس والقنوط.

    فمثلا: ﴿ قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُٓ اٰلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ اِذًا لَابْتَغَوْا اِلٰى ذِي الْعَرْشِ سَب۪يلًا ❀ سُبْحَانَهُ وَتَعَالٰى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَب۪يرًا ❀ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمٰوَاتُ السَّبْعُ وَالْاَرْضُ وَمَنْ ف۪يهِنَّۜ وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه۪ وَلٰكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْب۪يحَهُمْۜ اِنَّهُ كَانَ حَل۪يمًا غَفُورًا ﴾ (الإسراء:٤٢-٤٤).

    تقول هذه الآية: قل لهم لو كان في مُلك الله شريك كما تقولون لامتدّت أيديهم إلى عرش ربوبيته ولظهرت علائمُ المداخلة باختلال النظام، ولكن جميع المخلوقات من السماوات السبع الطباق إلى الأحياء المجهرية، جزئيَّها وكليَّها، صغيرَها وكبيرها، تسبّح بلسان ما يظهر عليها من تجليات الأسماء الحسنى ونقوشها، وتقدّس مسمّى تلك الأسماء ذا الجلال والإكرام، وتنـزّهه عن الشريك والنظير.

    نعم، إنّ السماء تقدّسه وتشهد على وحدته بكلماتها النيّرة من شموس ونجوم، وبحكمتها وانتظامها.. وإنّ جو الهواء يسبّحه ويقدّسه ويشهد على وحدانيته بصوت السحاب وكلمات الرعد والبرق والقطرات.. والأرض تسبّح خالقها الجليل وتوحدهّ بكلماتها الحية من حيوانات ونباتات وموجودات.. وكذا تسبّحه وتشهد على وحدانيته كلُّ شجرة من أشجارها بكلمات أوراقها وأزاهيرها وثمراتها.. وكلُّ مخلوق صغير ومصنوع جزئي مع صغره وجزئيـته يسبّح بإشارات ما يحمله من نقوش وكيفيات وما يظهره من أسماء حسنى كثيرة وتقدّس مسمى تلك الأسماء ذا الجلال وتشهد على وحدانيته تعالى.

    وهكذا فالكون برمّته معا وبلسان واحد، يسبّح خالقَه الجليل متفقا ويشهد على وحدانيته، مؤديا بكمال الطاعة ما أنيط به من وظائف العبودية. إلّا الإنسانَ الذي هو خلاصةُ الكون ونتيجتُه وخليفته المكرم وثمرته اليانعة، يقــوم بخلاف جميع ما في الكون وبضده، فيكفر بالله ويشرك به. فكم هو قبيـح صنيعُه هذا؟ وكم يا ترى يستحق عقابا على ما قدمت يداه؟ ولكن لئلا يقع الإنسانُ في هاوية اليأس والقنوط تبين له الآية حكمةَ عدم هدم القهار الجليل الكونَ على رأسه بما يجترحه من سيئات شنيعة كهذه الجناية العظمى، وتقول: ﴿ اِنَّهُ كَانَ حَل۪يمًا غَفُورًا ﴾ مبيِّنة حكمةَ الإمهال وفتح باب الأمل بهذه الخاتمة.

    فافهم من هذه الإشارات العشر الإعجازية، أن في الخلاصات والفذلكات التي في ختام الآيات لمعات إعجازية كثيرة فضلا عما تترشح منها من رشحات الهداية الغزيرة، حتى بلغ بدهاة البلغاء أنهم لم يتمالكوا أنفسهم من الحيرة والإعجاب أمام هذه الأساليب البديعة فقالوا: ما هذا كلام البشر، وآمنوا بحق اليقين بقوله تعالى: ﴿ اِنْ هُوَ اِلَّا وَحْيٌ يُوحٰى ﴾ (النجم:٤).

    هذا وإن بعض الآيات -إلى جانب جميع الإشارات المذكورة- تتضمن مزايا أخرى عديدة لم نتطرق إليها في بحثنا، فيُشاهَد من إجماع تلك المزايا نقش إعجازي بديع يراه حتى العميان.

    النور الثالث

    وهو أن القرآن الكريم لا يمكن أن يُقاس بأي كلام آخر، إذ إن منابعَ علو طبقة الكلام وقوتِه وحسنِه وجمالِه أربعة:

    الأول: المتكلم. الثاني: المخاطَب. الثالث: المقصد. الرابع: المقام. وليس المقام وحده كما ضل فيه الأدباء. فلابد من أن تنظر في الكلام إلى: مَن قال؟ ولمن قال؟ ولِمَ قال؟ وفيمَ قال؟ فلا تقف عند الكلام وحدَه وتنظر إليه.

    ولما كان الكلامُ يستمد قوتَه وجمالَه من هذه المنابع الأربعة، فبإنعام النظر في منابع القرآن تُدرك درجةَ بلاغته وحسنَها وسموَّها وعلوَّها.

    نعم، إن الكلام يستمد القوة من المتكلم، فإذا كان الكلام أمرا ونهيا يتضمن إرادةَ المتكلم وقدرتَه حسب درجته، وعند ذاك يكون الكلام مؤثرا نافذا يسري سريان الكهرباء من دون إعاقة أو مقاومة. وتتضاعف قوةُ الكلام وعلوّه حسب تلك النسبة.

    فمثلا: ﴿ وَق۪يلَ يَٓا اَرْضُ ابْلَع۪ي مَٓاءَكِ وَيَا سَمَٓاءُ اَقْلِع۪ي ﴾ (هود:٤٤)

    و ﴿ فَقَالَ لَهَا وَلِلْاَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا اَوْ كَرْهًاۜ قَالَتَٓا اَتَيْنَا طَٓائِع۪ينَ ﴾ (فصلت:١١).

    فانظر إلى قوة وعلوّ هذه الأوامر الحقيقية النافذة التي تتضمن القوة والإرادة. ثم انظرْ إلى كلام إنسان وأمره الجمادات الشبيه بهذيان المحموم: اسكني يا أرض وانشقي يا سماء وقومي أيتُها القيامة!

    فهل يمكن مقايسة هذا الكلام مع الأمرين النافذين السابقين؟ ثم أين الأوامر الناشئة من فضول الإنسان والنابعة من رغباته والمتولدة من أمانيّه.. وأين الأوامر الصادرة ممن هو متصف بالآمرية الحقة يأمر وهو مهيمن على عمله؟! نعم، أين أمر أمير عظيم مُطاع نافذ الكلام يأمر جنوده بـ: «تقدَّم». وأين هذا الأمر إذا صدر من جندي بسيط لا يُبالى به؟ فهذان الأمران وإن كانا صورةً واحدة إلّا أن بينهما معنىً بونا شاسعا،كما بين القائد العام والجندي.

    ومثلا: ﴿ اِنَّمَٓا اَمْرُهُٓ اِذَٓا اَرَادَ شَيْـًٔا اَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ (يس:٨٢) و ﴿ وَاِذْ قُلْنَا لِلْمَلٰٓئِكَةِ اسْجُدُوا لِاٰدَمَ ﴾ (البقرة:٣٤) انظر إلى قوة وعلوّ الأمرين في هاتين الآيتين. ثم انظر إلى كلام البشر من قبيل الأمر. ألا تكون النسبة بينهما كضوء اليراع أمام نور الشمس الساطعة؟.

    نعم، أين تصوير عامل يمارس عمله، وبيان صانع وهو يصنع، وكلام مُحسن في آن إحسانه، كل يصوّر أفاعيله، ويطابق فعلُه قولَه، أي يقول: انظروا فقد فعلت كذا لكذا، أفعل هذا لذاك، وهذا يكون كذا وذاك كذا.. وهكذا يبين فعلَه للعين والأذن معا.

    فمثلا: ﴿ اَفَلَمْ يَنْظُرُٓوا اِلَى السَّمَٓاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ❀ وَالْاَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَاَلْقَيْنَا ف۪يهَا رَوَاسِيَ وَاَنْبَتْنَا ف۪يهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَه۪يجٍۙ ❀ تَبْصِرَةً وَذِكْرٰى لِكُلِّ عَبْدٍ مُن۪يبٍ ❀ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَٓاءِ مَٓاءً مُبَارَكًا فَاَنْبَتْنَا بِه۪ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَص۪يدِۙ ❀ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَض۪يدٌۙ ❀ رِزْقًا لِلْعِبَادِۙ وَاَحْيَيْنَا بِه۪ بَلْدَةً مَيْتًاۜ كَذٰلِكَ الْخُرُوجُ ﴾ (ق:٦-١١).

    أين هذا التصوير الذي يتلألأ كالنجم في برج هذه السورة في سماء القرآن؛ كأنه ثمار الجنة -وقد ذكر كثيرا من الدلائل ضمن هذه الأفعال مع انتظام البلاغة وأثبت الحشر الذي هو نتيجتها بتعبير: ﴿ كَذٰلِكَ الْخُرُوجُ ﴾ ليلزم به الذين ينكرون الحشر في مستهل السورة- فأين هذا وأين كلام الناس على وجه الفضول عن أفعال لا تمسهم إلّا قليلا؟ فلا تكون نسبته إليه إلاّ كنسبة صورة الزهرة إلى الزهرة الحقيقية التي تنبض بالحياة.

    إن بيان معنى هذه الآيات من قوله تعالى: ﴿ اَفَلَمْ يَنْظُرُٓوا ﴾ إلى ﴿ كَذٰلِكَ الْخُرُوجُ ﴾ على وجه أفضل يتطلب منا وقتا طويلا فنكتفي بالإشارة إليه ونمضي إلى شأننا:

    إنّ القرآن يبسط مقدّمات ليُرغم الكفار على قبول الحشر، لإنكارهم إياه في مستهل السورة. فيقول:

    أفلا تنظرون إلى السماء فوقكم كيف بنيناها، بناءً مهيبا منتظما..

    أوَلا ترون كيف زيّناها بالنجوم وبالشمس والقمر دون نقص أو فطور..؟

    أوَلا ترون كيف بسطنا الأرض وفرشناها لكم بالحكمة، وثبتنا فيها الجبال لتقيَها من مّد البحار واستيلائها؟

    أوَلا ترون أنا خلقنا فيها أزواجا جميلة متنوعة من كل جنس من الخضراوات والنباتات، وزيّنا بها أرجاء الأرض كافة؟

    أوَلا ترون كيف أرسلُ ماءً مباركا من السماء فأنبتُ به البساتين والزرع والثمرات اللذيذة من تمر ونحوه وأجعله رزقا لعبادي؟

    أوَلا يرون أنني أحيي الأرض الميتة، بذلك الماء. وآتي ألوفا من الحشر الدنيوي. فكما أخرج بقدرتي هذه النباتات من هذه الأرض الميتة، كذلك خروجكم يوم الحشر؛ إذ تموت الأرض في القيامة وتُبعثون أنتم أحياء.

    فأين ما أظهرته الآيةُ في إثبات الحشر من جزالة البيان -التي ما أشرنا إلّا إلى واحدة من الألف منها- وأين الكلمات التي يسردها الناس لدعوى من الدعاوى؟.

    لقد انتهجنا من أول هذه الرسالة إلى هنا نهجَ المحايد الموضوعي في تحقيق قضية الإعجاز، وقد أبقينا كثيرا من حقوق القرآن مطوية مخفية مستورة، فكنا نعقد موازنة نُنـزل تلك الشمس منـزلةَ الشموع، وذلك كله لكي نُخضع خصما عاتيا لقبول إعجاز القرآن.

    والآن وقد وفَّى التحقيقُ العلمي مهمته، وأُثبت إعجاز القرآن إثباتا ساطعا. فنشير ببعض القول باسم الحقيقة لا باسم التحقيق العلمي، إلى مقام القرآن، ذلك المقام العظيم الذي لا تسعه موازنة ولا ميزان.

    نعم، إنّ نسبة سائر الكلام إلى آيات القرآن، كنسبة صور النجوم المتناهية في الصغر التي تتراءى في المرايا، إلى النجوم نفسها.

    نعم، أين كلماتُ القرآن التي كل منها تصوّر الحقائق الثابتة وتبيّنها، وأين المعاني التي يرسمها البشر بكلماته على مرايا صغيرة لفكره ومشاعره؟

    أين الكلمات الحية حياةَ الملائكة الأطهار.. كلمات القرآن الذي يفيض بأنوار الهداية وهو كلامُ خالق الشمس والقمر.. وأين كلمات البشر اللاذعة الخادعة بدقائقها الساحرة بنفثاتها التي تثير أهواء النفس.

    نعم، كم هي النسبة بين الحشرات السامة والملائكة الأطهار والروحانيين المنوّرين؟ إنها هي النسبة نفسها بين كلمات البشر وكلمات القرآن الكريم. وقد أثبتتْ هذه الحقيقة مع «الكلمة الخامسة والعشرين» جميعُ الكلمات الأربع والعشرين السابقة. فدعوانا هذه ليست إدعاء وإنما هي نتيجة لبرهان سبَقها.

    نعم، أين ألفاظ القرآن التي كل منها صدفُ درر الهداية ومنبعُ حقائق الإيمان، ومعدن أسس الإسلام، والتي تتنـزل من عرش الرحمن وتتوجه من فوق الكون ومن خارجه إلى الإنسان، فأين هذا الخطاب الأزلي المتضمن للعلم والقدرة والإرادة، من ألفاظ الإنسان الواهية المليئة بالأهواء؟

    نعم، إن القرآن يمثل شجرة طوبى طيبة نشرت أغصانها في جميع أرجاء العالم الإسلامي، فأورقت جميعَ معنوياته وشعائره وكمالاته ودساتيره وأحكامه، وأبرزت أولياءَه وأصفياءه كزهور نضرة جميلة تستمد حسنها ونداوتها من ماء حياة تلك الشجرة، وأثمرت جميعَ الكمالات والحقائق الكونية والإلهية حتى غدت كل نواة من نوى ثمارها دستورَ عمل ومنهج حياة.. نعم، أين هذه الحقائق المتسلسلة التي يطالعنا بها القرآن بمثابة شجرة مثمرة وارفة الظلال وأين منها كلام البشر المعهود.

    أين الثرى من الثريا ؟

    إن القرآن الحكيم ينشر جميع حقائقه في سوق الكون ويعرضها على الملأ أجمعين منذ أكثر من ألف وثلاث مائة سنة وإن كل فرد وكل أمة وكل بلد قد أخذ من جواهره ومن حقائقه، وما زال يأخذ.. على الرغم من هذا فلم تخل تلك الإلفة، ولا تلك الوفرة، ولا مرور الزمان، ولا التحولات الهائلة، بحقائقه القيمة ولا بأسلوبه الجميل، ولم تشيّبه ولم تتمكن من أن تفقِدهُ طراوته أو تسقط من قيمته أو تطفئ سنا جماله وحسنه. إن هذه الحالة وحدَها إعجاز أيّ إعجاز.

    والآن إذا ما قام أحد ونظم قسما من الحقائق التي أتى بها القرآن حسب أهوائه وتصرفاته الصبيانية، ثم أراد أن يوازن بين كلامه وكلام القرآن، بغية الاعتراض على بعض آياته، وقال: «لقد قلت كلاما شبيها بالقرآن». فلا شك أن كلامه هذا يحمل من السخف والحماقة ما يشبه هذا المثال:

    إن بنّاءً شيد قصرا فخما، أحجارُه من جواهرَ مختلفة، ووضع تلك الأحجار في أوضاع وزيّنها بزينة ونقوش موزونة تتعلق بجميع نقوش القصر الرفيعة، ثم دخل ذلك القصر من يقصر فهمُه عن تلك النقوش البديعة، ويجهل قيمة جواهره وزينته. وبدأ يبدّل نقوش الأحجار وأوضاعها، ويجعلها في نظام حسب أهوائه حتى غدا بيتا اعتياديا. ثم جمّله بما يعجب الصبيان من خرز تافه، ثم بدأ يقول: انظروا إن لي من المهارة في فن البناء ما يفوق مهارة باني ذلك القصر الفخم، ولي ثروة أكثر من بنّاء القصر! فانظروا إلى جواهري الثمينة! لا شك أن كلامه هذا هذيان بل هذيان مجنون ليس إلا.

    الشعلة الثالثة

    هذه الشعلة لها ثلاثة أضواء

    الضياء الأول

    لقد وضّح في «الكلمة الثالثة عشرة» وجه عظيم من وجوه إعجاز القرآن المعجز البيان، فأخذ هنا وأدرج مع سائر إخوته من وجوه الإعجاز: إذا شئت أن تشاهد وتتذوق كيف تنشر كلُّ آية من القرآن الكريم نورَ إعجازها وهدايتها وتبدّد ظلماتِ الكفر كالنجم الثاقب؛ فتصوَّر نفسَك في ذلك العصر الجاهلي وفي صحراء تلك البداوة والجهل. فبينا تجد كلَّ شيء قد أُسدِل عليه ستارُ الغفلة وغشيَه ظلامُ الجهل ولُفّ بغلاف الجمود والطبيعة، إذا بك تشاهد وقد دّبت الحياة في تلك الموجودات الهامدة أو الميتة في أذهان السامعين فتنهض مسبّحةً ذاكرةً الله بصدى قوله تعالى ﴿ يُسَبِّحُ لِلّٰهِ مَا فِي السَّمٰوَاتِ وَمَا فِي الْاَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَز۪يزِ الْحَك۪يمِ ﴾ (الجمعة:١) وما شابهها من الآيات الجليلة.

    ثم إن وجه السماء المظلمة التي تستعر فيها نجوم جامدة، تتحول في نظر السامعين، بصدى قوله تعالى ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمٰوَاتُ السَّبْعُ وَالْاَرْضُ ﴾ (الإسراء:٤٤) إلى فمٍ ذاكرٍ لله، كل نجم يُرسل شعاع الحقيقة ويبث حكمة حكيمة بليغة.

    وكذا تتحول وجهُ الأرض التي تضم المخلوقات الضعيفة العاجزة بذلك الصدى السماوي إلى رأس عظيم، والبرُّ والبحر لسانين يلهجان بالتسبيح والتقديس وجميعُ النباتات والحيوانات كلمات ذاكرة مسبّحة؛ حتى لكأن الأرض كلها تنبض بالحياة. وهكذا بانتقالك الشعوريِّ إلى ذلك العصر تتذوق دقائق الإعجاز في تلك الآية الكريمة. وبخلاف ذلك تُحرَم من تذوق تلك الدقائق اللطيفة في الآية الكريمة.

    نعم، إنك إذا نظرت إلى الآيات الكريمة من خلال وضعك الحاضر الذي استنار بنور القرآن منذ ذلك العصر حتى غدا معروفا، وإضاءته سائر العلوم الإسلامية، حتى وضحت بشمس القرآن. أي إذا نظرت إلى الآيات من خلال ستار الإلفة، فإنك -بلا شك- لا ترى رؤية حقيقية مدى الجمال المعجز في كل آية، وكيف أنها تبدد الظلمات الدامسة بنورها الوهاج، ومن بعد ذلك لا تـتـذوق وجـه إعجاز القرآن من بين وجوهه الكثيرة.

    وإذا أردت مشاهدة أعظم درجة لإعجاز القرآن الكثيرة، فاستمع إلى هذا المثال وتأمل فيه:

    لنفرض شجرة عجيبة في منتهى العلو والغرابة وفي غاية الانتشار والسعة؛ قد أسدل عليها غطاء الغيب، فاستترت طيَّ طبقات الغيب. فمن المعلوم أن هناك توازنا وتناسبا وعلاقاتِ ارتباط بين أغصان الشجرة وثمراتها وأوراقها وأزاهيرها -كما هو موجود بين أعضاء جسم الإنسان- فكلُّ جزء من أجزائها يأخذ شكلا معينا وصورة معينة حسب ماهية تلك الشجرة.

    فإذا قام أحد -من قِبل تلك الشجرة التي لم تُشاهَد قط ولا تُشاهد- وَرَسَمَ على شاشةٍ صورةً لكل عضو من أعضاء تلك الشجرة، وحدّ له، بأن وضع خطوطا تمثل العلاقات بين أغصانها وثمراتها وأوراقها، وملأ ما بين مبدئها ومنتهاها -البعيدين عن بعضهما بما لا يحد- بصورٍ وخطوطٍ تمثل أشكال أعضائها تماما وتبرز صورها كاملة.. فلا يبقى أدنى شك في أن ذلك الرسّام يشاهد تلك الشجرة الغيبية بنظره المطّلع على الغيب ويحيط به علما، ومن بعد ذلك يصوّرها.

    فالقرآن المبين -كهذا المثال- أيضا فإن بياناته المعجزة التي تخص حقيقة الموجودات (تلك الحقيقة التي تعود إلى شجرة الخلق الممتدة من بَدءِ الدنيا إلى نهاية الآخرة والمنتشرة من الفرش إلى العرش ومن الذرات إلى الشموس) قد حافظت -تلك البيانات الفرقانية- على الموازنة والتناسب وأعطتْ لكل عضو من الأعضاء ولكل ثمرة من الثمرات صورةً تليق بها، بحيث خَلُص العلماء المحققون -لدى إجراء تحقيقاتهم وأبحاثهم- إلى الانبهار والانشداه قائِلين: «ما شاء الله.. بارك الله، إن الذي يحل طلسم الكون ويكشف معمّى الخلق إنما هو أنت وحدك أيها القرآن الحكيم»!

    فلنمثل -ولله المثل الأعلى- الأسماء الإلهية وصفاتها الجليـلة والشــؤون الربانية وأفعالها الحكيمة كأنها شجرة طوبى من نور تمتد دائرة عظمتها من الأزل إلى الأبد، وتسع حدود كبريائها الفضاء المطلق غير المحدود وتحيط به، ويمتد مدى إجراءاتها من حدود ﴿ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوٰى ﴾ (الأنعام:٩٥) ﴿ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِه۪ ﴾ (الأنفال:٢٤) ﴿ هُوَ الَّذ۪ي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْاَرْحَامِ كَيْفَ يَشَٓاءُ ﴾ (آل عمران:٦) إلى ﴿ خَلَقَ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضَ ف۪ي سِتَّةِ اَيَّامٍ ﴾ (هود:٧) والى ﴿ وَالسَّمٰوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَم۪ينِه۪ ﴾ (الزمر:٦٧) ﴿ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ﴾ (الرعد:٢) فنرى أن القرآن الكريم يبين تلك الحقيقة النورانية بجميع فروعها وأغصانها وبجميع غاياتها وثمراتها بيانا في منتهى التوافق والانسجام بحيث لا تعيق حقيقة حقيقةً أخرى ولا يفسد حكمُ حقيقةٍ حُكْما لأخرى، ولا تستوحش حقيقةٌ من غيرها. وعلى هذه الصورة المتجانسة المتناسقة بيّنَ القرآن الكريم حقائق الأسماء الإلهية والصفات الجليلة والشؤون الربانية والأفعال الحكيمة بيانا معجزا بحيث جعل جميع أهل الكشف والحقيقة وجميع أولي المعرفة والحكمة الذين يجولون في عالم الملكوت، يصدّقونه قائلين أمام جمال بيانه المعجز والإعجابُ يغمرهم: «سبحان الله! ما أصوبَ هذا! وما أكثر انسجامه وتوافقه وتطابقه مع الحقيقة وما أجمله وأليَقه».

    فلو أخذنا مثلا أركان الإيمان الستة التي تتوجه إلى جميع دائرة الموجودات المختلفة ودائرة الوجوب الإلهي والتي تعد غصنا من تلكما الشجرتين العظيمتين، يصورها القرآن الكريم بجميع فروعها وأغصانها وثمراتها وأزاهيرها مراعيا في تصويره انسجاما بديعا بين ثمراتها وأزاهيرها معرّفا طرز التناسب في منتهى التوازن والاتساق بحيث يجعل عقل الإنسان عاجزا عن إدراك أبعاده ومبهوتا أمام حسن جماله.

    ثم إن الإسلام الذي هو فرع من غصن الإيمان، أبدع القرآن الكريم وأتى بالرائع المعجب في تصوير أدق فروع أركانه الخمسة، وحافظ على جمال التناسب وكمال التوازن فيما بينها، بل حافظ على أبسط آدابها ومنتهى غاياتها وأعمق حِكَمها وأصغر فوائدها وثمراتها. وأبهر دليل على ذلك هو كمالُ انتظام الشريعة العظمى النابعة من نصوص ذلك القرآن الجامع ومن إشاراته ورموزه.. فكمالُ انتظام هذه الشريعة الغراء وجمالُ توازنها الدقيق وحسنُ تناسب أحكامها ورصانتها، كلّ منها شاهِدُ عدلٍ لا يُجرح وبرهان قاطع باهر لا يدنو منه الريب أبدا على أحقية القرآن الكريم؛ بمعنى أنّ البيانات القرآنية لا يمكن أن تستند إلى علم جزئي لبشر، ولاسيما إنسان أميّ، بل لابد أن تستند إلى علم واسع محيط بكل شيء والبصير بجميع الأشياء معا..

    فهو كلام ذات الله الجليل البصير بالأزل والأبد معا والشاهد على جميع الحقائق في آن واحد.. آمنا.

    الضياء الثاني

    إنّ فلسفة البشر التي تحاول أن تتصدى لحكمة القرآن الكريم وتسعى لمعارضتها، قد سقطتْ وهوت أمام حكمة القرآن السامية.. كما أوضحنا ذلك في «الكلمة الثانية عشرة» في أسلوب حكاية تمثيلية، وأثبتناه إثباتا قاطعا في كلمات أخرى.

    لذا نحيل إلى تلك الرسائل، إلّا أننا سنعقد هنا موازنة جزئية بسيطة بينهما من جانب آخر وهو جانب نظرتهما إلى الدنيا؛ كالآتي:

    إنّ فلسفة البشر وحكمتَه تنظر إلى الدنيا على أنها ثابتة دائمة، فتذكر ماهية الموجودات وخواصها ذكرا مفصلا مسهبا، بينما لو ذَكرتْ وظائف تلك الموجودات الدالة على صانعها فإنها تذكرها ذكرا مجملا مقتضبا. أي إنها تفصّل في ذكر نقوش كتاب الكون وحروفه، في حين لا تعير معناه ومغزاه اهتماما كبـيرا.

    أما القرآن الكريم فإنه ينظر إلى الدنيا، على أنها عابرة سيّالة، خدّاعة سيّارة، متقلبة لا قرار لها ولا ثبات، لذا يذكر خواص الموجودات وماهياتها المادية الظاهرة ذكرا مجملا مقتضبا، بينما يفصّل تفصيلا كاملا لدى بيانه وظائفها التي تنمّ عن عبوديتها التي أناطها بها الصانع الجليل، ولدى بيانه مدى انقياد الموجودات للأوامر التكوينية الإلهية، وكيف وبأي وجه من وجوهها تدل على أسماء صانعها الحسنى.

    ففي بحثنا هذا، سنلقي نظرة عَجلَى على الفرق بين نظرة الفلسفة ونظرة القرآن (إلى الدنيا والموجودات) من حيث هذا الإجمال والتفصيل؛ لنرى أين يقف الحق الأبلج والحقيقة الساطعة.

    إنّ ساعتنا اليدوية التي يبدو عليها الاستقرارُ والثبات تنطوي على تغيرات وتبدلات واهتزازات عديدة، سواء في حركات التروس الدائمة أو في اهتزازات الدواليب والآلات الدقيقة. فكما أن الساعة هكذا، فالدنيا كذلك، كأنها ساعة عظيمة أبدعَتها القدرةُ الإلهية، فعلى الرغم من أنها تبدو ثابتة مستقرة، فهي تتقلب وتتدحرج في تغيّر واضطراب دائمين، ضمن تيار الزوال والفناء؛

    إذ لما حلّ «الزمان» في الدنيا، أصبح «الليل والنهار» كعقرب الثواني ذي الرأس المزدوج لتلك الساعة العظمى، تتبدل بسرعة..

    وصارت «السنة» كأنها عقرب الدقائق لتلك الساعة..

    وغدا «العصر» كأنه عقرب الساعات لها.. وهكذا ألقى «الزمانُ» الدنيا على ظهر أمواج الزوال والفناء، مستبقيا الحاضر وحدَه للوجود مسلّما الماضي والمستقبل إلى العدم.

    فالدنيا -علاوة على هذه الصورة التي يمنحها الزمان- هي كالساعة أيضا متغيرة وغير ثابتة، من حيث «المكان»؛ إذ إن «الجو» -كمكان- في تبدل سريع وفي تغيّر دائم، وفي تحول مستمر، حتى إنه قد يحدث في اليوم الواحد مراتٍ عدة امتلاءُ الغيوم بالأمطار ثم انقشاعها عن صحو باسم. أي كأن الجو بسرعة تغيّره وتحوله يمثل عقرب الثواني لتلك الساعة العظمى.

    و«الأرض» التي هي ركيزة دار الدنيا، فإن «وجهها» كمكان في تبدل مستمر، من حيث الموت والحياة، ومن حيث ما عليه من نبات وحيوان، لذا فهو كعقرب الدقائق تبين لنا أن هذه الجهة من الدنيا عابرة سائرة زائلة.

    وكما أن الأرض من حيث وجهها في تبدل وتغير، فإن ما في «باطنها» من تغيرات وزلازل وانقلابات تنتهي إلى بروز الجبال وخسف الأرض، جعلها كعقرب الساعات التي تسير ببطء نوعا ما إلّا أنها تبين لنا أن هذه الجهة من الدنيا أيضا تمضي إلى زوال.

    أما «السماء» التي هي سقف دار الدنيا، فإن التغيرات الحاصلة فيها -كمكان- سواء بحركات الأجرام السماوية، أو بظهور المذنّبات وحدوث الكسوف والخسوف، وسقوط النجوم والشُهب وأمثالها من التغيرات تبين أن السماء ليست ثابتةً ولا مستقرة، بل تسير نحو الهرم والدمار. فتغيراتُها كعقرب الساعة العادَّة للأسابيع، الدالة على مضيها نحو الخراب والزوال رغم سيرها البطيء.

    وهكذا، فالدنيا -من حيث إنها دنيا (أي باعتبار نفسها)- قد شُيّدت على هذه الأركان السبعة، هذه الأركان تهدّها في كل وقت وتزلزلها كل حين، إلّا أن هذه الدنيا المتزلزلة المتغيرة المتبدلة باستمرار عندما تتوجه إلى صانعها الجليل، فإن تلك التغيرات والحركات تغدو حركات قلم القدرة الإلهية لدى كتابتها رسائلَ صمدانية على صفحة الوجود وتُصبح تبدلات الأحوال مرايا متجددة تعكس أنوار تجليات الأسماء الإلهية الحسنى، وتبين شؤونَها الحكيمة وتصفها بأوصاف متنوعة مختلفة لائقة بها.

    فالفلسفة السقيمة؛ بتدقيقاتها الفلسفية وتحرياتها، وبمفهوم الطبيعة المادي، وبمغريات المدنية السفيهة الفاتنة، وهوساتها وعربدتها.. كثّفت تلك الدنيا وزادتها صلابة وتجمدا، وعمّقت الغفلةَ في الإنسان، وضاعفت من لوثاتها وشوائبها حتى أنستْه الصانعَ الجليل والآخرةَ البهيجة.

    أما القرآن الكريم، فإنه يهزّ هذه الدنيا -وتلك حقيقتها- هـزَّا عنيفا -من حيث إنها دنيا- حتى يجعلها كالعهن المنفوش، وذلك في قوله تعالى: ﴿ اَلْقَارِعَةُۙ ❀ مَا الْقَارِعَةُ ﴾ و ﴿ اِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ﴾ و ﴿ وَالطُّورِۙ ❀ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ ﴾ وأمثالها من الآيات الجليلة.

    ثم إنه يمنح الدنيا شفافية وصفاءً رائقا مزيلا عنها الشوائب والأكدار، وذلك ببياناتها الرائعة في قوله تعالى: ﴿ اَوَلَمْ يَنْظُرُوا ف۪ي مَلَكُوتِ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ ﴾ (الأعراف:١٨٥) ﴿ اَفَلَمْ يَنْظُرُٓوا اِلَى السَّمَٓاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا ﴾ (ق:٦) ﴿ اَوَلَمْ يَرَ الَّذ۪ينَ كَفَرُٓوا اَنَّ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا ﴾ (الأنبياء:٣٠) وأمثالها من الآيات الحكيمة.

    ثم إنه يذيب تلك الدنيا الجامدة بنظر الغفلة عن الله بعباراته النورانية اللامعة في قوله تعالى: ﴿ اَللّٰهُ نُورُ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ ﴾ ﴿ وَمَا الْحَيٰوةُ الدُّنْيَٓا اِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ﴾ وأمثالها من الآيات العظيمة.

    ثم إنه يزيل توهم الأبدية والخلود في الدنيا بعباراته التي تنمّ عن زوال الدنيا وموتها في قوله تعالى: ﴿ اِذَا السَّمَٓاءُ انْفَطَرَتْ ﴾ ﴿ اِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْۙ ﴾ ﴿ اِذَا السَّمَٓاءُ انْشَقَّتْ ﴾ ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمٰوَاتِ وَمَنْ فِي الْاَرْضِ اِلَّا مَنْ شَٓاءَ اللّٰهُ ﴾ (الزمر:٦٨) وأمثالها من الآيات الكريمة.

    ثم إنه يبدد الغفلة المولّدة لمفهوم «الطبيعة» المادي، ويشتتها بنداءاته المدوية كالصاعقة في قوله تعالى: ﴿ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْاَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَٓاءِ وَمَا يَعْرُجُ ف۪يهَاۜ وَهُوَ مَعَكُمْ اَيْنَ مَا كُنْتُمْۜ وَاللّٰهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَص۪يرٌ ﴾ (الحديد:٤)، ﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّٰهِ سَيُر۪يكُمْ اٰيَاتِه۪ فَتَعْرِفُونَهَاۜ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ (النمل:٩٣).. وأمثالها من الآيات النيرة.

    وهكذا فإن القرآن الكريم بجميع آياته المتوجهة للكون (أي الآيات الكونية) يمضي على هذا الأساس، فيكشف عن حقيقة الدنيا كما هي، ويبيّنها للأنظار. ويصرف نظرَ الإنسان ببيانه إلى مدى دمامة وجه الدنيا القبيح -بتلك الآيات- ليتوجه إلى الوجه الصبوح الجميل للدنيا الجميلة، ذلك الوجه المتوجه إلى الصانع الجليل. فيوجّه نظرَ الإنسان إلى هذا الوجه، ملقنا إياه الحكمة الصائبة والفلسفة الحقّة بما يعلّمه من معاني كتاب الكون الكبير مع التفاته إلى حروفه ونقوشه، من دون أن يبدد جهودَه فيما لا يعنيه من أمور نقوش الحروف الزائلة كما تفعله الفلسفةُ الثملة العاشقة للقبح، حيث أنسَتْه النظر إلى المعنى والمغزى.

    الضياء الثالث

    لقد أشرنا في «الضياء الثاني» إلى انهزام حكمة البشر وسقوطها أمام حكمة القرآن، كما أشرنا فيه إلى إعجاز حكمة القرآن. وفي هذا الضياء سنبين درجة حكمة تلاميذ القرآن، وهم العلماء الأصفياء والأولياء الصالحون والمنوّرون من حكماء الإشراقيين ([19]) أمام حكمة القرآن مشيرين من هذا الجانب إلى إعجاز القرآن إشارة مختصرة.

    إنّ أصدق دليل على سموّ القرآن الحكيم وعلوّه، وأوضح برهان على كونه صدقا وعدلا وأقوى علامة وحجة على إعجازه هو أنّ القرآن الكريم قد حافظ على التوازن في بيانه التوحيد بجميع أقسامه مع جميع مراتب تلك الأقسام وجميع لوازمه، ولم يخلّ باتزان أيٍ منها..

    ثم إنه قد حافظ على الموازنة الموجودة بين الحقائق الإلهية السامية كلها.. وجمَع الأحكام التي تقتضيها الأسماء الإلهية الحسنى جميعُها مع الحفاظ على التناسب والتناسق بين تلك الأحكام.. ثم إنه قد جمع بموازنة كاملة شؤون الربوبية والألوهية.

    فهذه «المحافظة والموازنة والجمع» خاصية لا توجد قطعا في أي أثر كان من آثار البشر، ولا في نتاج أفكار أعاظم المفكرين كافة، ولا توجد قط في آثار الأولياء الصالحين النافذين إلى عالم الملكوت، ولا في كتب الإشراقيين الموغلين في بواطن الأمور، ولا في معارف الروحانيين الماضين إلى عالم الغيب؛ بل كلُّ قسم من أولئك قد تشبث بغصن أو غصنين فحسب من أغصان الشجرة العظمى للحقيقة، فانشغل كليا مع ثمرة ذلك الغصن وورقه، دون أن يلتفت إلى غيره من الأغصان؛ إما لجهله به أو لعدم التفاته إليه. وكأن هناك نوعا من تقسيم الأعمال فيما بينهم.

    نعم، إنّ الحقيقة المطلقة لا تحيط بها أنظار محدودة مقيدة. إذ تتطلب نظرا كليا كنظر القرآن الكريم ليحيط بها. فكل ما سوى القرآن الكريم -ولو تَلَقَّى الدرس منه- لا يرى تماما بعقله الجزئي المحدود إلّا طرفا أو طرفين من الحقيقة الكاملة فينهمك بذلك الجانب ويعكف عليه، وينحصر فيه، فيخلّ بالموازنة التي بين الحقائق ويزيل تناسقها إما بالإفراط أو بالتفريط.

    ولقد بينا هذه الحقيقة بتمثيل عجيب في «الغصن الثاني من الكلمة الرابعة والعشرين». أما هنا فسنورد مثالا آخر يشير إلى المسألة نفسها، هو لنفرض أن كنـزا عظيما يضم ما لا يحد من الجواهر الثمينة في قعر بحر واسع. وقد غاص غواصون مهرة في أعماق ذلك البحر بحثا عن جواهر ذلك الكنـز الثمين. ولكن لأن عيونهم معصوبة فلا يتمكنون من معرفة أنواع تلك الجواهر الثمينة إلّا بأيديهم.. ولقد لقيت يدُ بعضهم ألماسا طويلا نسبيا، فيقضي ذلك الغواص ويحكم أن الكنـز عبارة عن قضبان من ألماس. وعندما يسمع من أصدقائه أوصافا لجواهر غيرها يحسب أن تلك الجواهر التي يذكرونها ما هي إلّا توابع ما وجده من قضبان الألماس وما هي إلّا فصوصه ونقوشه. ولنفرض أن آخرين لقوا شيئا كرويا من الياقوت، وآخرين وجدوا كهربا مربعا.. وهكذا.. فكل واحد من هؤلاء الذين رأوا تلك الجواهر والأحجار الكريمة بأيديهم -دون عيونهم- يعتقد أن ما وجده من جوهر نفيس هو الأصل في ذلك الكنـز ومعظمه. ويزعم أن ما يسمعه من أصدقائه زوائدُه وتفرعاتُه، وليس أصلا للكنـز.

    وهكذا تختل موازنةُ الحقائق، ويضمحل التناسق أيضا، ويتبدل لونُ كثير من الحقائق، إذ يضطر مَن يريد أن يرى اللون الحقيقي للحقيقة إلى تأويلات وتكلفات، حتى قد ينجر بعضُهم إلى الإنكار والتعطيل. فمن يتأمل في كتب حكماء الإشراقيين، وكتب المتصوفة الذين اعتمدوا على مشهوداتهم وكشفياتهم دون أن يزنوها بموازين السنة المطهرة يصدّق حكمَنا هذا دون تردد. إذن فعلى الرغم من أنهم يسترشدون بالقرآن، ويؤلفون في جنس حقائق القرآن إلّا أن النقص يلازم آثارهم، لأنها ليست قرآنا.

    فالقرآن الكريم الذي هو بحر الحقائق، آياتُه الجليلة غوّاصة كذلك في البحر تكشف عن الكنـز، إلاّ أن عيونَها مفتحة بصيرة تحيط بالكنـز كله، وتبصر كل ما فيه، لذا يصف القرآن الكريم بآياته الجليلة ذلك الكنـز العظيم وصفا متوازنا يلائمه وينسجم معه فيظهر حُسنَه الحقيقي وجمالَه الأخاذ.

    فمثلا: إنّ القرآن الكريم يرى عظمة الربوبية الجليلة ويصفها بما تفيده الآيات الكريمة: ﴿ وَالْاَرْضُ جَم۪يعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيٰمَةِ وَالسَّمٰوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَم۪ينِه۪ ﴾ (الزمر:٦٧) ﴿ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَٓاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ﴾ (الأنبياء:١٠٤) وفي الوقت نفسه يرى شمول رحمته تعالى ويدل عليها بما تفصح عنه الآيات الكريمة: ﴿ اِنَّ اللّٰهَ لَا يَخْفٰى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْاَرْضِ وَلَا فِي السَّمَٓاءِۜ ❀ هُوَ الَّذ۪ي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْاَرْحَامِ كَيْفَ يَشَٓاءُ ﴾ (آل عمران:٥-٦) ﴿ مَا مِنْ دَٓابَّةٍ اِلَّا هُوَ اٰخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ﴾ (هود:٥٦) ﴿ وَكَاَيِّنْ مِنْ دَٓابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَاۗ اَللّٰهُ يَرْزُقُهَا وَاِيَّاكُمْ ﴾ (العنكبوت:٦٠).

    ثم إنه مثلما يرى سعةَ الخلّاقية الإلهية ويدل عليها بما يعبّر عنها الآية الكريمة: ﴿ خَلَقَ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ﴾ (الأنعام:١) فإنه يرى شمول تصرفه تعالى في الكون وإحاطة ربوبيته بكل شيء وتدل عليها بما تبينه الآية الكريمة: ﴿ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ (الصافات:٩٦).

    ثم إنه مثلما يرى الحقيقة العظمى التي تدل عليها الآية الكريمة: ﴿ يُحْيِ الْاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ (الروم:٥٠) فإنه يرى حقيقة الكرم الواسع التي تعبر عنها الآية الكريمة: ﴿ وَاَوْحٰى رَبُّكَ اِلَى النَّحْلِ ﴾ (النحل:٦٨) ويدل عليها، ويرى في الوقت نفسه حقيقة الحاكمية المهيمنة ويدل عليها بـ ﴿ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِاَمْرِه۪ ﴾ (الأعراف:٥٤) ومثلما يرى الحقيقة الرحيمة المدبرة التي تفيدها الآية الكريمة: ﴿ اَوَلَمْ يَرَوْا اِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَٓافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَۜ مَا يُمْسِكُهُنَّ اِلَّا الرَّحْمٰنُۜ اِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَص۪يرٌ ﴾ (الملك:١٩) يرى الحقيقة العظمى التي تفيدها الآية الكريمة: ﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضَۚ وَلَا يَؤُ۫دُهُ حِفْظُهُمَاۚ ﴾ (البقرة:٢٥٥) في الوقت الذي يرى حقيقة الرقابة الإلهية في تعبير الآية: ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ اَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾ (الحديد:٤) كالحقيقة المحيطة التي تفصح عنها الآية: ﴿ هُوَ الْاَوَّلُ وَالْاٰخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَل۪يمٌ ﴾ (الحديد:٣) ويرى أقربيته سبحانه التي يعبر عنها قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْاِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِه۪ نَفْسُهُۚ وَنَحْنُ اَقْرَبُ اِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَر۪يدِ ﴾ (ق:١٦) مع ما تشير إليه من حقيقة سامية الآية الكريمة: ﴿ تَعْرُجُ الْمَلٰٓئِكَةُ وَالرُّوحُ اِلَيْهِ ف۪ي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْس۪ينَ اَلْفَ سَنَةٍ ﴾ (المعارج:٤) كالحقيقة الجامعة التي تدل عليها وتفيدها الآية الكريمة: ﴿ اِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْاِحْسَانِ وَا۪يتَٓائِ ذِي الْقُرْبٰى وَيَنْهٰى عَنِ الْفَحْشَٓاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِۚ ﴾ (النحل:٩٠) وأمثالها من الآيات الكريمة التي تضم الدساتير الدنيوية والأخروية والعلمية والعملية.

    فالقرآن يرى جميع الدساتير التي تحقق سعادة الدارين ويبيّنها مع بيانه كل ركن من أركان الإيمان الستة بالتفصيل، وكلّ ركن من أركان الإسلام الخمسة بقصدٍ وجدّ محافظا على الموازنة فيما بينها جميعا مديما تناسبها، فينشأ من منبع الجمال والحسن البديع الحاصل من تناسب مجموع تلك الحقائق وتوازنها إعجاز معنوي رائع للقرآن.

    فمن هذا السر يتبين أن علماء الكلام، وإن تتلمذوا على القرآن الكريم وألّفوا ألوف الكتب -بعضها عشرات المجلدات- إلاّ أنهم لترجيحهم العقلَ على النقل كالمعتزلة، عجزوا عن أن يوضّحوا ما تفيده عشرُ آيات من القرآن الكريم وتثبته إثباتا قاطعا بما يورث القناعة والاطمئنان، ذلك لأنهم يحفرون عيونا في سفوح جبال بعيدة ليأتوا منها بالماء إلى أقصى العالم بوساطة أنابيب، أي بسلسلة الأسباب، ثم يقطعون تلك السلسلة هناك، فيثبتون وجودَ واجب الوجود والمعرفة الإلهية التي هي كالماء الباعث على الحياة!!

    أما الآيات الكريمة فكلُّ واحدة منها كعصا موسى تستطيع أن تفجّر الماء أينما ضربت، وتفتح من كل شيء نافذةً تدل على الصانع الجليل وتعرّفه. وقد أثبتت هذه الحقيقة بوضوح في سائر الكلمات وفي الرسالة العربية «قطرة» المترشحة من بحر القرآن.

    İşte hem şu sırdandır ki bâtın-ı umûra gidip, sünnet-i seniyeye ittiba etmeyerek, meşhudatına itimat ederek yarı yoldan dönen ve bir cemaatin riyasetine geçip bir fırka teşkil eden fırak-ı dâllenin bütün imamları hakaikin tenasübünü, muvazenesini muhafaza edemediğindendir ki böyle bid’aya, dalalete düşüp bir cemaat-i beşeriyeyi yanlış yola sevk etmişler. İşte bunların bütün aczleri, âyât-ı Kur’aniyenin i’cazını gösterir.

    HÂTİME

    Kur’an’ın lemaat-ı i’cazından iki lem’a-i i’caziye, On Dokuzuncu Söz’ün On Dördüncü Reşha’sında geçmiştir ki bir sebeb-i kusur zannedilen tekraratı ve ulûm-u kevniyede icmali, her biri birer lem’a-i i’cazın menbaıdır. Hem Kur’an’da mu’cizat-ı enbiya yüzünde parlayan bir lem’a-i i’caz-ı Kur’an, Yirminci Söz’ün İkinci Makamı’nda vâzıhan gösterilmiştir. Daha bunlar gibi sair Sözlerde ve risale-i Arabiyemde çok lemaat-ı i’caziye zikredilip onlara iktifaen yalnız şunu deriz ki:

    Bir mu’cize-i Kur’aniye daha şudur ki: Nasıl bütün mu’cizat-ı enbiya, Kur’an’ın bir nakş-ı i’cazını göstermiştir; öyle de Kur’an, bütün mu’cizatıyla bir mu’cize-i Ahmediye (asm) olur. Ve bütün mu’cizat-ı Ahmediye (asm) dahi Kur’an’ın bir mu’cizesidir ki Kur’an’ın Cenab-ı Hakk’a karşı nisbetini gösterir ve o nisbetin zuhuruyla her bir kelimesi bir mu’cize olur. Çünkü o vakit bir tek kelime, bir çekirdek gibi bir şecere-i hakaiki manen tazammun edebilir. Hem merkez-i kalp gibi hakikat-i uzmanın bütün azasına münasebettar olabilir. Hem bir ilm-i muhite ve nihayetsiz bir iradeye istinad ettiği için hurufuyla, heyetiyle, vaziyetiyle, mevkiiyle hadsiz eşyaya bakabilir. İşte şu sırdandır ki ulema-i ilm-i huruf, Kur’an’ın bir harfinden bir sahife kadar esrar bulduklarını iddia ederler ve davalarını o fennin ehline ispat ediyorlar.

    Risalenin başından şuraya kadar bütün şuleleri, şuâları, lem’aları, nurları, ziyaları nazara topla; birden bak. Baştaki dava, şimdi kat’î netice olarak yani قُل۟ لَئِنِ اج۟تَمَعَتِ ال۟اِن۟سُ وَال۟جِنُّ عَلٰٓى اَن۟ يَا۟تُوا بِمِث۟لِ هٰذَا ال۟قُر۟اٰنِ لَا يَا۟تُونَ بِمِث۟لِهٖ وَلَو۟ كَانَ بَع۟ضُهُم۟ لِبَع۟ضٍ ظَهٖيرًا yı yüksek bir sadâ ile okuyup ilan ediyorlar.

    سُب۟حَانَكَ لَا عِل۟مَ لَنَٓا اِلَّا مَا عَلَّم۟تَنَٓا اِنَّكَ اَن۟تَ ال۟عَلٖيمُ ال۟حَكٖيمُ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذ۟نَٓا اِن۟ نَسٖينَٓا اَو۟ اَخ۟طَا۟نَا ۝ رَبِّ اش۟رَح۟ لٖى صَد۟رٖى ۝ وَيَسِّر۟لٖٓى اَم۟رٖى ۝ وَاح۟لُل۟ عُق۟دَةً مِن۟ لِسَانٖى ۝ يَف۟قَهُوا قَو۟لٖى اَللّٰهُمَّ صَلِّ وَ سَلِّم۟ اَف۟ضَلَ وَ اَج۟مَلَ وَ اَن۟بَلَ وَ اَظ۟هَرَ وَ اَط۟هَرَ وَ اَح۟سَنَ وَاَبَرَّ وَ اَك۟رَمَ وَ اَعَزَّ وَ اَع۟ظَمَ وَ اَش۟رَفَ وَ اَع۟لٰى وَ اَز۟كٰى وَ اَب۟رَكَ وَ اَل۟طَفَ صَلَوَاتِكَ وَ اَو۟فٰى وَ اَك۟ثَرَ وَ اَز۟يَدَ وَ اَر۟قٰى وَ اَر۟فَعَ وَ اَد۟وَمَ سَلَامِكَ صَلَاةً وَ سَلَامًا وَ رَح۟مَةً وَ رِض۟وَانًا وَ عَف۟وًا وَ غُف۟رَانًا تَم۟تَدُّ وَ تَزٖيدُ بِوَابِلِ سَحَائِبِ مَوَاهِبِ جُودِكَ وَ كَرَمِكَ وَ تَن۟مُو وَ تَز۟كُو بِنَفَائِسِ شَرَائِفِ لَطَائِفِ جُودِكَ وَ مِنَنِكَ،  اَزَلِيَّةً بِاَزَلِيَّتِكَ لَا تَزُولُ،  اَبَدِيَّةً بِاَبَدِيَّتِكَ لَا تَحُولُ، عَلٰى عَب۟دِكَ وَ حَبٖيبِكَ وَ رَسُولِكَ مُحَمَّدٍ خَي۟رِ خَل۟قِكَ النُّورِ ال۟بَاهِرِ اللَّامِعِ وَ ال۟بُر۟هَانِ الظَّاهِرِ ال۟قَاطِعِ وَ ال۟بَح۟رِ الذَّاخِرِ وَ النُّورِ ال۟غَامِرِ وَ ال۟جَمَالِ الزَّاهِرِ وَ ال۟جَلَالِ ال۟قَاهِرِ وَ ال۟كَمَالِ ال۟فَاخِرِ صَلَاتَكَ الَّتٖى صَلَّي۟تَ بِعَظَمَةِ ذَاتِكَ عَلَي۟هِ وَ عَلٰى اٰلِهٖ وَ صَح۟بِهٖ كَذٰلِكَ صَلَاةً تَغ۟فِرُ بِهَا ذُنُوبَنَا وَ تَش۟رَحُ بِهَا صُدُورَنَا وَ تُطَهِّرُ بِهَا قُلُوبَنَا وَ تُرَوِّحُ بِهَا اَر۟وَاحَنَا وَ تُقَدِّسُ بِهَا اَس۟رَارَنَا وَ تُنَزِّهُ بِهَا خَوَاطِرَنَا وَ اَف۟كَارَنَا وَ تُصَفّٖى بِهَا كُدُورَاتِ مَا فٖى اَس۟رَارِنَا وَ تَش۟فٖى بِهَا اَم۟رَاضَنَا وَ تَف۟تَحُ بِهَا اَق۟فَالَ قُلُوبِنَا رَبَّنَا لَا تُزِغ۟ قُلُوبَنَا بَع۟دَ اِذ۟ هَدَي۟تَنَا وَهَب۟ لَنَا مِن۟ لَدُن۟كَ رَح۟مَةً اِنَّكَ اَن۟تَ ال۟وَهَّابُ وَ اٰخِرُ دَع۟وٰيهُم۟ اَنِ ال۟حَم۟دُ لِلّٰهِ رَبِّ ال۟عَالَمٖينَ ۝ اٰمٖينَ اٰمٖينَ اٰمٖينَ

    BİRİNCİ ZEYL

    (Makam itibarıyla Yirmi Beşinci Söz’e ilhak edilen zeyllerden, Yedinci Şuâ’nın Birinci Makam’ının on yedinci mertebesidir.)

    Bu dünyada hayatın gayesi ve hayatın hayatı iman olduğunu bilen bu yorulmaz ve tok olmaz dünya seyyahı ve kâinattan Rabb’ini soran yolcu, kendi kalbine dedi ki: Aradığımız zatın sözü ve kelâmı denilen, bu dünyada en meşhur ve en parlak ve en hâkim ve ona teslim olmayan herkese, her asırda meydan okuyan Kur’an-ı Mu’cizü’l-Beyan namındaki kitaba müracaat edip o ne diyor, bilelim. Fakat en evvel bu kitap, bizim Hâlık’ımızın kitabı olduğunu ispat etmek lâzımdır diye taharriye başladı.

    Bu seyyah bu zamanda bulunduğu münasebetiyle en evvel manevî i’caz-ı Kur’anînin lem’aları olan Risale-i Nur’a baktı ve onun yüz otuz risaleleri, âyât-ı Furkaniyenin nükteleri ve ışıkları ve esaslı tefsirleri olduğunu gördü. Ve Risale-i Nur, bu kadar muannid ve mülhid bir asırda her tarafa hakaik-i Kur’aniyeyi mücahidane neşrettiği halde, karşısına kimse çıkamadığından ispat eder ki onun üstadı ve menbaı ve mercii ve güneşi olan Kur’an semavîdir, beşer kelâmı değildir.

    Hattâ Risale-i Nur’un yüzer hüccetlerinden bir tek hüccet-i Kur’aniyesi olan Yirmi Beşinci Söz ile On Dokuzuncu Mektup’un âhiri, Kur’an’ın kırk vecihle mu’cize olduğunu öyle ispat etmiş ki kim görmüşse değil tenkit ve itiraz etmek, belki ispatlarına hayran olmuş, takdir ederek çok sena etmiş. Kur’an’ın vech-i i’cazını ve hak kelâmullah olduğunu ispat etmek cihetini Risale-i Nur’a havale ederek, yalnız kısa bir işaretle büyüklüğünü gösteren birkaç noktaya dikkat etti.

    Birinci Nokta: Nasıl ki Kur’an, bütün mu’cizatıyla ve hakkaniyetine delil olan bütün hakaikiyle Muhammed aleyhissalâtü vesselâmın bir mu’cizesidir. Öyle de Muhammed aleyhissalâtü vesselâm da bütün mu’cizatıyla ve delail-i nübüvvetiyle ve kemalât-ı ilmiyesiyle Kur’an’ın bir mu’cizesidir ve Kur’an kelâmullah olduğuna bir hüccet-i kātıasıdır.

    İkinci Nokta: Kur’an, bu dünyada öyle nurani ve saadetli ve hakikatli bir surette bir tebdil-i hayat-ı içtimaiye ile beraber, insanların hem nefislerinde hem kalplerinde hem ruhlarında hem akıllarında hem hayat-ı şahsiyelerinde hem hayat-ı içtimaiyelerinde hem hayat-ı siyasiyelerinde öyle bir inkılab yapmış ve idame etmiş ve idare etmiş ki on dört asır müddetinde her dakikada altı bin altı yüz altmış altı âyetleri, kemal-i ihtiramla hiç olmazsa yüz milyondan ziyade insanların dilleriyle okunuyor ve insanları terbiye ve nefislerini tezkiye ve kalplerini tasfiye ediyor; ruhlara inkişaf ve terakki ve akıllara istikamet ve nur ve hayata hayat ve saadet veriyor. Elbette böyle bir kitabın misli yoktur, hârikadır, fevkalâdedir, mu’cizedir.

    Üçüncü Nokta: Kur’an, o asırdan tâ şimdiye kadar öyle bir belâgat göstermiş ki Kâbe’nin duvarında altınla yazılan en meşhur ediblerin “Muallakat-ı Seb’a” namıyla şöhret-şiar kasidelerini o dereceye indirdi ki Lebid’in kızı, babasının kasidesini Kâbe’den indirirken demiş: “Âyâta karşı bunun kıymeti kalmadı.”

    Hem bedevî bir edib   فَاص۟دَع۟ بِمَا تُؤ۟مَرُ    âyeti okunurken işittiği vakit secdeye kapanmış. Ona dediler: “Sen Müslüman mı oldun?” Dedi: “Yok, ben bu âyetin belâgatına secde ettim.”

    Hem ilm-i belâgatın dâhîlerinden Abdülkahir-i Cürcanî ve Sekkakî ve Zemahşerî gibi binler dâhî imamlar ve mütefennin edibler, icma ve ittifakla karar vermişler ki: “Kur’an’ın belâgatı, tâkat-i beşerin fevkindedir, yetişilmez.”

    Hem o zamandan beri mütemadiyen meydan-ı muarazaya davet edip, mağrur ve enaniyetli ediblerin ve beliğlerin damarlarına dokundurup gururlarını kıracak bir tarzda der: “Ya bir tek surenin mislini getiriniz veyahut dünyada ve âhirette helâket ve zilleti kabul ediniz.” diye ilan ettiği halde o asrın muannid beliğleri, bir tek surenin mislini getirmekle kısa bir yol olan muarazayı bırakıp, uzun olan ve can ve mallarını tehlikeye atan muharebe yolunu ihtiyar etmeleri ispat eder ki o kısa yolda gitmek mümkün değildir.

    Hem Kur’an’ın dostları, Kur’an’a benzemek ve taklit etmek şevkiyle ve düşmanları dahi Kur’an’a mukabele ve tenkit etmek sevkiyle o vakitten beri yazdıkları ve yazılan ve telahuk-u efkâr ile terakki eden milyonlar Arabî kitaplar ortada geziyor. Hiçbirisi ona yetişemediğini hattâ en âmî adam dahi dinlese elbette diyecek: Bu Kur’an, bunlara benzemez ve onların mertebesinde değil. Ya onların altında veya umumunun fevkinde olacak. Umumunun altında olduğunu dünyada hiçbir fert, hiçbir kâfir, hattâ hiçbir ahmak diyemez. Demek, mertebe-i belâgatı umumun fevkindedir.

    Hattâ bir adam سَبَّحَ لِلّٰهِ مَا فِى السَّمٰوَاتِ وَال۟اَر۟ضِ âyetini okudu. Dedi: “Bunun hârika telakki edilen belâgatını göremiyorum.” Ona denildi: “Sen dahi bu seyyah gibi o zamana git, orada dinle.” O da kendini Kur’an’dan evvel orada tahayyül ederken gördü ki mevcudat-ı âlem perişan, karanlıklı, camid ve şuursuz ve vazifesiz olarak hâlî, hadsiz, hudutsuz bir fezada; kararsız, fâni bir dünyada bulunuyorlar. Birden Kur’an’ın lisanından bu âyeti dinlerken gördü:

    Bu âyet, kâinat üstünde, dünyanın yüzünde öyle bir perde açtı, ışıklandırdı ki bu ezelî nutuk ve sermedî ferman, asırlar sıralarında dizilen zîşuurlara ders verip gösteriyor ki bu kâinat bir câmi-i kebir hükmünde başta semavat ve arz olarak umum mahlukat hayattarane zikir ve tesbihte ve vazifeler başında cûş u hurûşla mesudane ve memnunane bir vaziyette bulunuyor diye müşahede etti. Ve bu âyetin derece-i belâgatını zevk ederek sair âyetleri buna kıyasla Kur’an’ın zemzeme-i belâgatı arzın nısfını ve nev-i beşerin humsunu istila ederek haşmet-i saltanatı, kemal-i ihtiramla on dört asır bilâ-fâsıla idame ettiğinin binler hikmetlerinden bir hikmetini anladı.

    Dördüncü Nokta: Kur’an, öyle hakikatli bir halâvet göstermiş ki en tatlı bir şeyden dahi usandıran çok tekrar, Kur’an’ı tilavet edenler için değil usandırmak, belki kalbi çürümemiş ve zevki bozulmamış adamlara tekrar-ı tilaveti halâvetini ziyadeleştirdiği, eski zamandan beri herkesçe müsellem olup darb-ı mesel hükmüne geçmiş.

    Hem öyle bir tazelik ve gençlik ve şebabet ve garabet göstermiş ki on dört asır yaşadığı ve herkesin eline kolayca girdiği halde, şimdi nâzil olmuş gibi tazeliğini muhafaza ediyor. Her asır, kendine hitap ediyor gibi bir gençlikte görmüş. Her taife-i ilmiye ondan her vakit istifade etmek için kesretle ve mebzuliyetle yanlarında bulundurdukları ve üslub-u ifadesine ittiba ve iktida ettikleri halde o üslubundaki ve tarz-ı beyanındaki garabetini aynen muhafaza ediyor.

    Beşinci Nokta: Kur’an’ın bir cenahı mazide, bir cenahı müstakbelde, kökü ve bir kanadı eski peygamberlerin ittifaklı hakikatleri olduğu ve bu onları tasdik ve teyid ettiği ve onlar dahi tevafukun lisan-ı haliyle bunu tasdik ettikleri gibi; öyle de evliya ve asfiya gibi ondan hayat alan semereleri, hayattar tekemmülleriyle, şecere-i mübarekelerinin hayattar, feyizdar ve hakikat-medar olduğuna delâlet eden ve ikinci kanadının himayesi altında yetişen ve yaşayan velayetin bütün hak tarîkatları ve İslâmiyet’in bütün hakikatli ilimleri, Kur’an’ın ayn-ı hak ve mecma-ı hakaik ve câmiiyette misilsiz bir hârika olduğuna şehadet eder.

    Altıncı Nokta: Kur’an’ın altı ciheti nuranidir, sıdk ve hakkaniyetini gösterir. Evet, altında hüccet ve bürhan direkleri, üstünde sikke-i i’caz lem’aları, önünde ve hedefinde saadet-i dâreyn hediyeleri ve arkasında nokta-i istinadı vahy-i semavî hakikatleri, sağında hadsiz ukûl-ü müstakimenin deliller ile tasdikleri, solunda selim kalplerin ve temiz vicdanların ciddi itminanları ve samimi incizabları ve teslimleri; Kur’an’ın fevkalâde, hârika, metin, hücum edilmez bir kale-i semaviye-i arziye olduğunu ispat ettikleri gibi; altı makamdan dahi onun ayn-ı hak ve sadık olduğunu ve beşerin kelâmı olmadığını ve yanlışı bulunmadığını imza eden, başta bu kâinatta daima güzelliği izhar, iyiliği ve doğruluğu himaye ve sahtekârları ve müfterileri imha ve izale etmek âdetini bir düstur-u faaliyet ittihaz eden bu kâinatın mutasarrıfı, o Kur’an’a âlemde en makbul en yüksek en hâkimane bir makam-ı hürmet ve bir mertebe-i muvaffakiyet vermesiyle onu tasdik ve imza ettiği gibi; İslâmiyet’in menbaı ve Kur’an’ın bir tercümanı olan zatın (asm) herkesten ziyade ona itikad ve ihtiramı ve nüzulü zamanında uyku gibi bir vaziyet-i nâimanede bulunması ve sair kelâmları ona yetişememesi ve bir derece benzememesi ve ümmiyetiyle beraber gitmiş ve gelecek hakiki hâdisat-ı kevniyeyi, gaybiyane Kur’an ile tereddütsüz ve itminan ile beyan etmesi ve çok dikkatli gözlerin nazarı altında hiçbir hile, hiçbir yanlış vaziyeti görülmeyen o tercüman, bütün kuvvetiyle Kur’an’ın her bir hükmünü öyle iman ve tasdik edip hiçbir şey onu sarsmaması dahi Kur’an’ın semavî, hakkaniyetli ve kendi Hâlık-ı Rahîm’inin mübarek kelâmı olduğunu imza ediyor.

    Hem nev-i insanın humsu, belki kısm-ı a’zamı, göz önündeki o Kur’an’a müncezibane ve dindarane irtibatı ve hakikat-perestane ve müştakane kulak vermesi ve çok emarelerin ve vakıaların ve keşfiyatın şehadetiyle, cin ve melek ve ruhanîler dahi tilaveti vaktinde pervane gibi etrafında hakperestane toplanmaları, Kur’an’ın kâinatça makbuliyetine ve en yüksek bir makamda bulunduğuna bir imzadır.

    Hem nev-i beşerin umum tabakaları, en gabi ve âmîden tut tâ en zeki ve âlime kadar her birisi, Kur’an’ın dersinden tam hisse almaları ve en derin hakikatleri fehmetmeleri ve yüzer fen ve ulûm-u İslâmiyenin ve bilhassa şeriat-ı kübranın büyük müçtehidleri ve usûlü’d-din ve ilm-i kelâmın dâhî muhakkikleri gibi her taife kendi ilmine ait bütün hâcatını ve cevaplarını Kur’an’dan istihraç etmeleri, Kur’an’ın menba-ı hak ve maden-i hakikat olduğuna bir imzadır.

    Hem edebiyatça en ileri bulunan Arap edibleri –şimdiye kadar Müslüman olmayanlar– muarazaya pek çok muhtaç oldukları halde, Kur’an’ın i’cazından yedi büyük vechi varken, yalnız bir tek vechi olan belâgatının –tek bir suresinin– mislini getirmekten istinkâfları ve şimdiye kadar gelen ve muaraza ile şöhret kazanmak isteyen meşhur beliğlerin ve dâhî âlimlerin onun hiçbir vech-i i’cazına karşı çıkamamaları ve âcizane sükût etmeleri; Kur’an mu’cize ve tâkat-i beşerin fevkinde olduğuna bir imzadır.

    Evet, bir kelâm “Kimden gelmiş ve kime gelmiş ve ne için?” denilmesiyle kıymeti ve ulviyeti ve belâgatı tezahür etmesi noktasından Kur’an’ın misli olamaz ve ona yetişilemez. Çünkü Kur’an, bütün âlemlerin Rabb’i ve bütün kâinatın Hâlık’ının hitabı ve konuşması ve hiçbir cihette taklidi ve tasannuu ihsas edecek hiçbir emare bulunmayan bir mükâlemesi ve bütün insanların belki bütün mahlukatın namına mebus ve nev-i beşerin en meşhur ve namdar muhatabı bulunan ve o muhatabın kuvvet ve vüs’at-i imanı, koca İslâmiyet’i tereşşuh edip sahibini Kab-ı Kavseyn makamına çıkararak muhatab-ı Samedaniyeye mazhariyetle nüzul eden ve saadet-i dâreyne dair ve hilkat-i kâinatın neticelerine ve ondaki Rabbanî maksatlara ait mesaili ve o muhatabın bütün hakaik-i İslâmiyeyi taşıyan en yüksek ve en geniş olan imanını beyan ve izah eden ve koca kâinatı bir harita, bir saat, bir hane gibi her tarafını gösterip, çevirip onları yapan sanatkârı tavrıyla ifade ve talim eden Kur’an-ı Mu’cizü’l-Beyan’ın elbette mislini getirmek mümkün değildir ve derece-i i’cazına yetişilmez.

    Hem Kur’an’ı tefsir eden ve bir kısmı otuz kırk hattâ yetmiş cilt olarak birer tefsir yazan yüksek zekâlı müdakkik binler mütefennin ulemanın, senetleri ve delilleriyle beyan ettikleri Kur’an’daki hadsiz meziyetleri ve nükteleri ve hâsiyetleri ve sırları ve âlî manaları ve umûr-u gaybiyenin her nevinden kesretli gaybî ihbarları izhar ve ispat etmeleri ve bilhassa Risale-i Nur’un yüz otuz kitabı, her biri Kur’an’ın bir meziyetini, bir nüktesini kat’î bürhanlarla ispat etmesi ve bilhassa Mu’cizat-ı Kur’aniye Risalesi, şimendifer ve tayyare gibi medeniyetin hârikalarından çok şeyleri Kur’an’dan istihraç eden Yirminci Söz’ün İkinci Makamı ve Risale-i Nur’a ve elektriğe işaret eden âyetlerin işaratını bildiren İşarat-ı Kur’aniye namındaki Birinci Şuâ ve huruf-u Kur’aniye ne kadar muntazam ve esrarlı ve manalı olduğunu gösteren Rumuzat-ı Semaniye namındaki sekiz küçük risaleler ve Sure-i Feth’in âhirki âyeti beş vecihle ihbar-ı gaybî cihetinde mu’cizeliğini ispat eden küçücük bir risale gibi Risale-i Nur’un her bir cüzü, Kur’an’ın bir hakikatini, bir nurunu izhar etmesi; Kur’an’ın misli olmadığına ve mu’cize ve hârika olduğuna ve bu âlem-i şehadette âlem-i gaybın lisanı ve bir Allâmü’l-guyub’un kelâmı bulunduğuna bir imzadır.

    İşte altı noktada ve altı cihette ve altı makamda işaret edilen, Kur’an’ın mezkûr meziyetleri ve hâsiyetleri içindir ki haşmetli hâkimiyet-i nuraniyesi ve azametli saltanat-ı kudsiyesi, asırların yüzlerini ışıklandırarak zemin yüzünü dahi bin üç yüz sene tenvir ederek kemal-i ihtiram ile devam etmesi hem o hâsiyetleri içindir ki Kur’an’ın her bir harfi, hiç olmazsa on sevabı, on haseneyi ve on meyve-i bâki vermesi, hattâ bir kısım âyâtın ve surelerin her bir harfi, yüz ve bin ve daha ziyade meyve vermesi ve mübarek vakitlerde her bir harfin nuru ve sevabı ve kıymeti ondan yüzlere çıkması gibi kudsî imtiyazları kazanmış diye dünya seyyahı anladı ve kalbine dedi:

    İşte böyle her cihetle mu’cizatlı bu Kur’an, surelerinin icmaıyla ve âyâtının ittifakıyla ve esrar ve envarının tevafukuyla ve semerat ve âsârının tetabukuyla bir tek Vâcibü’l-vücud’un vücuduna ve vahdetine ve sıfâtına ve esmasına deliller ile ispat suretinde öyle şehadet etmiş ki bütün ehl-i imanın hadsiz şehadetleri, onun şehadetinden tereşşuh etmişler.

    İşte bu yolcunun Kur’an’dan aldığı ders-i tevhid ve imana kısa bir işaret olarak Birinci Makam’ın on yedinci mertebesinde böyle:

    لَٓا اِلٰهَ اِلَّا اللّٰهُ ال۟وَاجِبُ ال۟وُجُودِ ال۟وَاحِدُ ال۟اَحَدُ الَّذٖى دَلَّ عَلٰى وُجُوبِ وُجُودِهٖ فٖى وَح۟دَتِهِ ال۟قُر۟اٰنُ ال۟مُع۟جِزُ ال۟بَيَانِ اَل۟مَق۟بُولُ ال۟مَر۟غُوبُ لِاَج۟نَاسِ ال۟مَلَكِ وَ ال۟اِن۟سِ وَ ال۟جَانِّ اَل۟مَق۟رُوءُ كُلُّ اٰيَاتِهٖ فٖى كُلِّ دَقٖيقَةٍ بِكَمَالِ ال۟اِح۟تِرَامِ بِاَل۟سِنَةِ مِأٰتِ مِل۟يُونٍ مِن۟ نَو۟عِ ال۟اِن۟سَانِ اَلدَّائِمُ سَل۟طَنَتُهُ ال۟قُد۟سِيَّةُ عَلٰى اَق۟طَارِ ال۟اَر۟ضِ وَ ال۟اَك۟وَانِ وَ عَلٰى وُجُوهِ ال۟اَع۟صَارِ وَ الزَّمَانِ وَ ال۟جَارٖى حَاكِمِيَّتُهُ ال۟مَع۟نَوِيَّةُ النُّورَانِيَّةُ عَلٰى نِص۟فِ ال۟اَر۟ضِ وَ خُم۟سِ ال۟بَشَرِ فٖى اَر۟بَعَةَ عَشَرَ عَص۟رًا بِكَمَالِ ال۟اِح۟تِشَامِ . وَ كَذَا : شَهِدَ وَ بَر۟هَنَ بِاِج۟مَاعِ سُوَرِهِ ال۟قُد۟سِيَّةِ السَّمَاوِيَّةِ وَ بِاِتِّفَاقِ اٰيَاتِهِ النُّورَانِيَّةِ ال۟اِلٰهِيَّةِ وَ بِتَوَافُقِ اَس۟رَارِهٖ وَ اَن۟وَارِهٖ وَ بِتَطَابُقِ حَقَائِقِهٖ وَ ثَمَرَاتِهٖ وَ اٰثَارِهٖ بِال۟مُشَاهَدَةِ وَ ال۟عِيَانِ denilmiştir.


    ON BİRİNCİ ŞUÂ OLAN MEYVE RİSALESİ'NİN ONUNCU MESELESİ

    EMİRDAĞI ÇİÇEĞİ

    Kur’an’da olan tekrarata gelen itirazlara karşı gayet kuvvetli bir cevaptır.

    Aziz, sıddık kardeşlerim!

    Gerçi bu mesele, perişan vaziyetimden müşevveş ve letafetsiz olmuş. Fakat o müşevveş ibare altında çok kıymetli bir nevi i’cazı kat’î bildim. Maatteessüf ifadeye muktedir olamadım. Her ne kadar ibaresi sönük olsa da Kur’an’a ait olmak cihetiyle hem ibadet-i tefekküriye hem kudsî, yüksek, parlak bir cevherin sadefidir. Yırtık libasına değil, elindeki elmasa bakılsın. Eğer münasip ise Onuncu Mesele yapınız, değilse sizin tebrik mektuplarınıza mukabil bir mektup kabul ediniz.

    Hem bunu gayet hasta ve perişan ve gıdasız, bir iki gün ramazanda, mecburiyetle gayet mücmel ve kısa ve bir cümlede pek çok hakikatleri ve müteaddid hüccetleri dercederek yazdım. Kusura bakılmasın. (*[20])

    Aziz, sıddık kardeşlerim!

    Ramazan-ı şerifte Kur’an-ı Mu’cizü’l-Beyan’ı okurken Risale-i Nur’a işaretleri Birinci Şuâ’da beyan olunan otuz üç âyetten hangisi gelse bakıyordum ki o âyetin sahifesi ve yaprağı ve kıssası dahi Risale-i Nur’a ve şakirdlerine kıssadan hisse almak noktasında bir derece bakıyor. Hususan Sure-i Nur’dan Âyetü’n-Nur, on parmakla Risale-i Nur’a baktığı gibi arkasındaki Âyet-i Zulümat dahi muarızlarına tam bakıyor ve ziyade hisse veriyor. Âdeta o makam, cüz’iyetten çıkıp külliyet kesbeder ve bu asırda o küllînin tam bir ferdi Risale-i Nur ve şakirdleridir diye hissettim.

    Evet, Kur’an’ın hitabı, evvela Mütekellim-i Ezelî’nin rububiyet-i âmmesinin geniş makamından hem nev-i beşer, belki kâinat namına muhatap olan zatın geniş makamından hem umum nev-i benî-Âdem’in bütün asırlarda irşadlarının gayet vüs’atli makamından hem dünya ve âhiretin ve arz ve semavatın ve ezel ve ebedin ve Hâlık-ı kâinat’ın rububiyetine ve bütün mahlukatın tedbirine dair kavanin-i İlahiyenin gayet yüksek ve ihatalı beyanatının geniş makamından aldığı vüs’at ve ulviyet ve ihata cihetiyle o hitap, öyle bir yüksek i’caz ve şümul gösterir ki ders-i Kur’an’ın muhataplarından en kesretli taife olan tabaka-i avamın basit fehimlerini okşayan zâhirî ve basit mertebesi dahi en ulvi tabakayı da tam hissedar eder.

    Güya kıssadan yalnız bir hisse ve bir hikâye-i tarihiyeden bir ibret değil belki bir küllî düsturun efradı olarak her asra ve her tabakaya hitap ederek taze nâzil oluyor ve bilhassa çok tekrarla   اَلظَّالِمٖينَ ،  اَلظَّالِمٖينَ deyip tehditleri ve zulümlerinin cezası olan musibet-i semaviye ve arziyeyi şiddetle beyanı, bu asrın emsalsiz zulümlerine kavm-i Âd ve Semud ve Firavun’un başlarına gelen azaplar ile baktırıyor ve mazlum ehl-i imana İbrahim (as) ve Musa (as) gibi enbiyanın necatlarıyla teselli veriyor.

    Evet, nazar-ı gaflet ve dalalette, vahşetli ve dehşetli bir ademistan ve elîm ve mahvolmuş bir mezaristan olan bütün geçmiş zaman ve ölmüş karnlar ve asırlar; canlı birer sahife-i ibret ve baştan başa ruhlu, hayattar bir acib âlem ve mevcud ve bizimle münasebettar bir memleket-i Rabbaniye suretinde sinema perdeleri gibi kâh bizi o zamanlara kâh o zamanları yanımıza getirerek her asra ve her tabakaya gösterip yüksek bir i’caz ile ders veren Kur’an-ı Mu’cizü’l-Beyan, aynı i’cazla nazar-ı dalalette camid, perişan, ölü, hadsiz bir vahşetgâh olan ve firak ve zevalde yuvarlanan bu kâinatı bir kitab-ı Samedanî, bir şehr-i Rahmanî, bir meşher-i sun’-u Rabbanî olarak o camidatı canlandırarak, birer vazifedar suretinde birbiriyle konuşturup ve birbirinin imdadına koşturup nev-i beşere ve cin ve meleğe hakiki ve nurlu ve zevkli hikmet dersleri veren bu Kur’an-ı Azîmüşşan, elbette her harfinde on ve yüz ve bazen bin ve binler sevap bulunması ve bütün cin ve ins toplansa onun mislini getirememesi ve bütün benî-Âdem’le ve kâinatla tam yerinde konuşması ve her zaman milyonlar hâfızların kalplerinde zevkle yazılması ve çok tekrarla ve kesretli tekraratıyla usandırmaması ve çok iltibas yerleri ve cümleleriyle beraber çocukların nazik ve basit kafalarında mükemmel yerleşmesi ve hastaların ve az sözden müteessir olan ve sekeratta olanların kulağında mâ-i zemzem misillü hoş gelmesi gibi kudsî imtiyazları kazanır ve iki cihanın saadetlerini kendi şakirdlerine kazandırır.

    Ve tercümanının ümmiyet mertebesini tam riayet etmek sırrıyla hiçbir tekellüf ve hiçbir tasannu ve hiçbir gösterişe meydan vermeden selaset-i fıtriyesini ve doğrudan doğruya semadan gelmesini ve en kesretli olan tabaka-i avamın basit fehimlerini tenezzülat-ı kelâmiye ile okşamak hikmetiyle en ziyade sema ve arz gibi en zâhir ve bedihî sahifeleri açıp o âdiyat altındaki hârikulâde mu’cizat-ı kudretini ve manidar sutûr-u hikmetini ders vermekle lütf-u irşadda güzel bir i’caz gösterir.

    Tekrarı iktiza eden dua ve davet ve zikir ve tevhid kitabı dahi olduğunu bildirmek sırrıyla güzel, tatlı tekraratıyla bir tek cümlede ve bir tek kıssada ayrı ayrı çok manaları, ayrı ayrı muhatap tabakalarına tefhim etmekte ve cüz’î ve âdi bir hâdisede en cüz’î ve ehemmiyetsiz şeyler dahi nazar-ı merhametinde ve daire-i tedbir ve iradesinde bulunmasını bildirmek sırrıyla tesis-i İslâmiyette ve tedvin-i şeriatta sahabelerin cüz’î hâdiselerini dahi nazar-ı ehemmiyete almasında hem küllî düsturların bulunması hem umumî olan İslâmiyet’in ve şeriatın tesisinde o cüz’î hâdiseler, çekirdekler hükmünde çok ehemmiyetli meyveleri verdikleri cihetinde de bir nev-i i’cazını gösterir.

    Evet, ihtiyacın tekerrürüyle, tekrarın lüzumu haysiyetiyle yirmi sene zarfında pek çok mükerrer suallere cevap olarak ayrı ayrı çok tabakalara ders veren ve koca kâinatı parça parça edip kıyamette şeklini değiştirerek dünyayı kaldırıp onun yerine azametli âhireti kuracak ve zerrattan yıldızlara kadar bütün cüz’iyat ve külliyatı, tek bir zatın elinde ve tasarrufunda bulunduğunu ispat edecek ve kâinatı ve arz ve semavatı ve anâsırı kızdıran ve hiddete getiren nev-i beşerin zulümlerine, kâinatın netice-i hilkati hesabına gazab-ı İlahî ve hiddet-i Rabbaniyeyi gösterecek hadsiz hârika ve nihayetsiz dehşetli ve geniş bir inkılabın tesisinde binler netice kuvvetinde bazı cümleleri ve hadsiz delillerin neticesi olan bir kısım âyetleri tekrar etmek; değil bir kusur, belki gayet kuvvetli bir i’caz ve gayet yüksek bir belâgat ve mukteza-yı hale gayet mutabık bir cezalettir ve fesahattir.

    Mesela, bir tek âyet iken yüz on dört defa tekerrür eden بِس۟مِ اللّٰهِ الرَّح۟مٰنِ الرَّحٖيمِ    cümlesi, Risale-i Nur’un On Dördüncü Lem’a’sında beyan edildiği gibi arşı ferşle bağlayan ve kâinatı ışıklandıran ve her dakika herkes ona muhtaç olan öyle bir hakikattir ki milyonlar defa tekrar edilse yine ihtiyaç var. Değil yalnız ekmek gibi her gün, belki hava ve ziya gibi her dakika ona ihtiyaç ve iştiyak vardır.

    Hem mesela, Sure-i   طٰسٓمٓ   de sekiz defa tekrar edilen şu اِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ال۟عَزٖيزُ الرَّحٖيمُ   âyeti, o surede hikâye edilen peygamberlerin necatlarını ve kavimlerinin azaplarını, kâinatın netice-i hilkati hesabına ve rububiyet-i âmmenin namına o binler hakikat kuvvetinde olan âyeti tekrar ederek, izzet-i Rabbaniye o zalim kavimlerin azabını ve rahîmiyet-i İlahiye dahi enbiyanın necatlarını iktiza ettiğini ders vermek için binler defa tekrar olsa yine ihtiyaç ve iştiyak var ve i’cazlı, îcazlı bir ulvi belâgattır.

    Hem mesela, Sure-i Rahman’da tekrar edilen فَبِاَىِّ اٰلَٓاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ    âyeti ile Sure-i Mürselât’ta وَي۟لٌ يَو۟مَئِذٍ لِل۟مُكَذِّبٖينَ    âyeti, cin ve nev-i beşerin, kâinatı kızdıran ve arz ve semavatı hiddete getiren ve hilkat-i âlemin neticelerini bozan ve haşmet-i saltanat-ı İlahiyeye karşı inkâr ve istihfafla mukabele eden küfür ve küfranlarını ve zulümlerini ve bütün mahlukatın hukuklarına tecavüzlerini, asırlara ve arz ve semavata tehditkârane haykıran bu iki âyet, böyle binler hakikatlerle alâkadar ve binler mesele kuvvetinde olan bir ders-i umumîde binler defa tekrar edilse yine lüzum var ve celalli bir i’caz ve cemalli bir îcaz-ı belâgattır.

    Hem mesela, Kur’an’ın hakiki ve tam bir nevi münâcatı ve Kur’an’dan çıkan bir çeşit hülâsası olan Cevşenü’l-Kebir namındaki münâcat-ı Peygamberîde yüz defa سُب۟حَانَكَ يَا لَٓا اِلٰهَ اِلَّا اَن۟تَ ال۟اَمَانُ ال۟اَمَانُ خَلِّص۟نَا وَ اَجِر۟نَا وَ نَجِّنَا مِنَ النَّارِ cümlesi tekrarında tevhid gibi kâinatça en büyük hakikat ve tesbih ve takdis gibi mahlukatın rububiyete karşı üç muazzam vazifesinden en ehemmiyetli vazifesi ve şakavet-i ebediyeden kurtulmak gibi nev-i insanın en dehşetli meselesi ve ubudiyet ve acz-i beşerînin en lüzumlu neticesi bulunması cihetiyle binler defa tekrar edilse yine azdır.

    İşte –namaz tesbihatı gibi ibadetlerden bir kısmının tekrarı sünnet bulunan maddeler gibi– tekrarat-ı Kur’aniye, bu gibi metin esaslara bakıyor. Hattâ bazen bir sahifede iktiza-yı makam ve ihtiyac-ı ifham ve belâgat-ı beyan cihetiyle yirmi defa sarîhan ve zımnen tevhid hakikatini ifade eder. Değil usanç, belki kuvvet ve şevk ve halâvet verir. Risale-i Nur’da, tekrarat-ı Kur’aniye ne kadar yerinde ve münasip ve belâgatça makbul olduğu hüccetleriyle beyan edilmiş.

    Kur’an-ı Mu’cizü’l-Beyan’ın Mekkiye sureleriyle Medeniye sureleri belâgat noktasında ve i’caz cihetinde ve tafsil ve icmal vechinde birbirinden ayrı olmasının sırr-ı hikmeti şudur ki:

    Mekke’de birinci safta muhatap ve muarızları, Kureyş müşrikleri ve ümmileri olduğundan belâgatça kuvvetli bir üslub-u âlî ve îcazlı, mukni, kanaat verici bir icmal ve tesbit için tekrar lâzım geldiğinden ekseriyetçe Mekkî sureleri erkân-ı imaniyeyi ve tevhidin mertebelerini gayet kuvvetli ve yüksek ve i’cazlı bir îcaz ile ifade ve tekrar ederek mebde ve meâdi, Allah’ı ve âhireti, değil yalnız bir sahifede, bir âyette, bir cümlede, bir kelimede belki bazen bir harfte ve takdim-tehir, tarif-tenkir ve hazf-zikir gibi heyetlerde öyle kuvvetli ispat eder ki ilm-i belâgatın dâhî imamları hayretle karşılamışlar.

    Risale-i Nur ve bilhassa Kur’an’ın kırk vech-i i’cazını icmalen ispat eden Yirmi Beşinci Söz, zeylleriyle beraber ve nazımdaki vech-i i’cazı hârika bir tarzda beyan ve ispat eden Arabî Risale-i Nur’dan İşaratü’l-İ’caz tefsiri bilfiil göstermişler ki Mekkî sure ve âyetlerde en âlî bir üslub-u belâgat ve en yüksek bir i’caz-ı îcazî vardır.

    Amma Medine sure ve âyetlerinin birinci safta muhatap ve muarızları ise Allah’ı tasdik eden Yahudi ve Nasâra gibi ehl-i kitap olduğundan mukteza-yı belâgat ve irşad ve mutabık-ı makam ve halin lüzumundan, sade ve vâzıh ve tafsilli bir üslupla ehl-i kitaba karşı dinin yüksek usûlünü ve imanın rükünlerini değil belki medar-ı ihtilaf olan şeriatın ve ahkâmın ve teferruatın ve küllî kanunların menşeleri ve sebepleri olan cüz’iyatın beyanı lâzım geldiğinden, o sure ve âyetlerde ekseriyetçe tafsil ve izah ve sade üslupla beyanat içinde Kur’an’a mahsus emsalsiz bir tarz-ı beyanla, birden o cüz’î teferruat hâdisesi içinde yüksek, kuvvetli bir fezleke, bir hâtime, bir hüccet ve o cüz’î hâdise-i şer’iyeyi küllîleştiren ve imtisalini iman-ı billah ile temin eden bir cümle-i tevhidiye ve esmaiye ve uhreviyeyi zikreder. O makamı nurlandırır, ulvileştirir, küllîleştirir.

    Risale-i Nur, âyetlerin âhirlerinde ekseriyetle gelen اِنَّ اللّٰهَ عَلٰى كُلِّ شَى۟ءٍ قَدٖيرٌ ۝ اِنَّ اللّٰهَ بِكُلِّ شَى۟ءٍ عَلٖيمٌ ۝ وَهُوَ ال۟عَزٖيزُ الرَّحٖيمُ ۝ وَهُوَ ال۟عَزٖيزُ ال۟حَكٖيمُ gibi tevhidi veya âhireti ifade eden fezlekeler ve hâtimelerde ne kadar yüksek bir belâgat ve meziyetler ve cezaletler ve nükteler bulunduğunu Yirmi Beşinci Söz’ün İkinci Şule’sinin İkinci Nur’unda o fezleke ve hâtimelerin pek çok nüktelerinden ve meziyetlerinden on tanesini beyan ederek o hülâsalarda bir mu’cize-i kübra bulunduğunu muannidlere de ispat etmiş.

    Evet Kur’an, o teferruat-ı şer’iye ve kavanin-i içtimaiyenin beyanı içinde birden muhatabın nazarını en yüksek ve küllî noktalara kaldırıp, sade üslubu bir ulvi üsluba ve şeriat dersinden tevhid dersine çevirerek Kur’an’ı hem bir kitab-ı şeriat ve ahkâm ve hikmet hem bir kitab-ı akide ve iman ve zikir ve fikir ve dua ve davet olduğunu gösterip her makamda çok makasıd-ı irşadiye ve Kur’aniyeyi ders vermesiyle Mekkiye âyetlerin tarz-ı belâgatlarından ayrı ve parlak, mu’cizane bir cezalet izhar eder.

    Bazen iki kelimede mesela    رَبُّ ال۟عَالَمٖينَ    ve    رَبُّكَ    de   رَبُّكَ   tabiriyle ehadiyeti ve   رَبُّ ال۟عَالَمٖينَ   ile vâhidiyeti bildirir. Ehadiyet içinde vâhidiyeti ifade eder. Hattâ bir cümlede, bir zerreyi bir göz bebeğinde gördüğü ve yerleştirdiği gibi güneşi dahi aynı âyetle, aynı çekiçle göğün göz bebeğinde yerleştirir ve göğe bir göz yapar.

    Mesela    خَلَقَ السَّمٰوَاتِ وَ ال۟اَر۟ضَ    âyetinden sonra يُولِجُ الَّي۟لَ فِى النَّهَارِ وَ يُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّي۟لِ    âyetinin akabinde وَ هُوَ عَلٖيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ   der. “Zemin ve göklerin haşmet-i hilkatinde kalbin dahi hatıratını bilir, idare eder.” der, tarzında bir beyanat cihetiyle o sade ve ümmiyet mertebesini ve avamın fehmini nazara alan o basit ve cüz’î muhavere, o tarz ile ulvi ve cazibedar ve umumî ve irşadkâr bir mükâlemeye döner.

    Ehemmiyetli Bir Sual: Bazen bir hakikat, sathî nazarlara görünmediğinden ve bazı makamlarda cüz’î ve âdi bir hâdiseden yüksek bir fezleke-i tevhidi veya küllî bir düsturu beyan etmekte münasebet bilinmediğinden bir kusur tevehhüm edilir. Mesela “Hazret-i Yusuf aleyhisselâm, kardeşini bir hile ile alması” içinde   وَفَو۟قَ كُلِّ ذٖى عِل۟مٍ عَلٖيمٌ   diye gayet yüksek bir düsturun zikri, belâgatça münasebeti görünmüyor. Bunun sırrı ve hikmeti nedir?

    Elcevap: Her biri birer küçük Kur’an olan ekser uzun sure ve mutavassıtlarda ve çok sahife ve makamlarda yalnız iki üç maksat değil belki Kur’an mahiyeti hem bir kitab-ı zikir ve iman ve fikir hem bir kitab-ı şeriat ve hikmet ve irşad gibi çok kitapları ve ayrı ayrı dersleri tazammun ederek rububiyet-i İlahiyenin her şeye ihatasını ve haşmetli tecelliyatını ifade etmek cihetiyle, kâinat kitab-ı kebirinin bir nevi kıraatı olan Kur’an, elbette her makamda, hattâ bazen bir sahifede çok maksatları takiben marifetullahtan ve tevhidin mertebelerinden ve iman hakikatlerinden ders verdiği haysiyetiyle, öbür makamda mesela, zâhirce zayıf bir münasebetle başka bir ders açar ve o zayıf münasebete çok kuvvetli münasebetler iltihak ederler. O makama gayet mutabık olur, mertebe-i belâgatı yükseklenir.

    İkinci Bir Sual: Kur’an’da sarîhan ve zımnen ve işareten, âhiret ve tevhidi ve beşerin mükâfat ve mücazatını binler defa ispat edip nazara vermenin ve her surede her sahifede her makamda ders vermenin hikmeti nedir?

    Elcevap: Daire-i imkânda ve kâinatın sergüzeştine ait inkılablarda ve emanet-i kübrayı ve hilafet-i arziyeyi omuzuna alan nev-i beşerin şakavet ve saadet-i ebediyeye medar olan vazifesine dair en ehemmiyetli en büyük en dehşetli meselelerinden en azametlilerini ders vermek ve hadsiz şüpheleri izale etmek ve gayet şiddetli inkârları ve inatları kırmak cihetinde elbette o dehşetli inkılabları tasdik ettirmek ve o inkılablar azametinde büyük ve beşere en elzem ve en zarurî meseleleri teslim ettirmek için Kur’an, binler defa değil belki milyonlar defa onlara baktırsa yine israf değil ki milyonlar kere tekrar ile o bahisler Kur’an’da okunur, usanç vermez, ihtiyaç kesilmez.

    Mesela اِنَّ الَّذٖينَ اٰمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم۟ جَنَّاتٌ تَج۟رٖى مِن۟ تَح۟تِهَا ال۟اَن۟هَارُ … خَالِدٖينَ فٖيهَٓا اَبَدًا âyetinin gösterdiği müjde-i saadet-i ebediye hakikati, bîçare beşere her dakika kendini gösteren hakikat-i mevtin hem insanı hem dünyasını hem bütün ahbabını idam-ı ebedîsinden kurtarıp ebedî bir saltanatı kazandırdığından, milyarlar defa tekrar edilse ve kâinat kadar ehemmiyet verilse yine israf olmaz, kıymetten düşmez.

    İşte bu çeşit hadsiz kıymettar meseleleri ders veren ve kâinatı bir hane gibi değiştiren ve şeklini bozan dehşetli inkılabları tesis etmekte iknaya ve inandırmaya ve ispata çalışan Kur’an-ı Mu’cizü’l-Beyan elbette sarîhan ve zımnen ve işareten binler defa o meselelere nazar-ı dikkati celbetmek; değil israf belki ekmek, ilaç, hava, ziya gibi birer hâcet-i zaruriye hükmünde ihsanını tazelendirir.

    Hem mesela   اِنَّ ال۟كَافِرٖينَ فٖى نَارِ جَهَنَّمَ   ve اَلظَّالِمٖينَ لَهُم۟ عَذَابٌ اَلٖيمٌ   gibi tehdit âyetlerini Kur’an gayet şiddetle ve hiddetle ve gayet kuvvet ve tekrarla zikretmesinin hikmeti ise –Risale-i Nur’da kat’î ispat edildiği gibi– beşerin küfrü, kâinatın ve ekser mahlukatın hukukuna öyle bir tecavüzdür ki semavatı ve arzı kızdırıyor ve anâsırı hiddete getirip tufanlar ile o zalimleri tokatlıyor. Ve اِذَٓا اُل۟قُوا فٖيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهٖيقًا وَهِىَ تَفُورُ ۝ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ ال۟غَي۟ظِ âyetinin sarahatiyle o zalim münkirlere cehennem, öyle öfkeleniyor ki hiddetinden parçalanmak derecesine geliyor.

    İşte böyle bir cinayet-i âmmeye ve hadsiz bir tecavüze karşı beşerin küçüklük ve ehemmiyetsizliği noktasına değil belki zalimane cinayetinin azametine ve kâfirane tecavüzünün dehşetine karşı Sultan-ı Kâinat, kendi raiyetinin hukuklarının ehemmiyetini ve o münkirlerin küfür ve zulmündeki nihayetsiz çirkinliğini göstermek hikmetiyle fermanında gayet hiddet ve şiddetle o cinayeti ve cezasını değil bin defa, belki milyonlar ve milyarlar ile tekrar etse yine israf ve kusur değil ki bin seneden beri yüzer milyon insanlar her gün usanmadan kemal-i iştiyakla ve ihtiyaçla okurlar.

    Evet, her gün her zaman, herkes için bir âlem gider, taze bir âlemin kapısı kendine açılmasından, o geçici her bir âlemini nurlandırmak için ihtiyaç ve iştiyakla   لَٓا اِلٰهَ اِلَّا اللّٰهُ‌   cümlesini binler defa tekrar ile o değişen perdelere ve âlemlere her birisine bir   لَٓا اِلٰهَ اِلَّا اللّٰهُ‌   ı lamba yaptığı gibi öyle de o kesretli, geçici perdeleri ve tazelenen seyyar kâinatları karanlıklandırmamak ve âyine-i hayatında in’ikas eden suretlerini çirkinleştirmemek ve lehinde şahit olabilen o misafir vaziyetleri aleyhine çevirmemek için o cinayetlerin cezalarını ve Padişah-ı Ezelî’nin şiddetli ve inatları kıran tehditlerini, her vakit Kur’an’ı okumakla tahattur edip nefsin tuğyanından kurtulmaya çalışmak hikmetiyle Kur’an, gayet mu’cizane tekrar eder ve bu derece kuvvet ve şiddet ve tekrarla tehdidat-ı Kur’aniyeyi hakikatsiz tevehhüm etmekten şeytan bile kaçar. Ve onları dinlemeyen münkirlere cehennem azabı ayn-ı adalettir, diye gösterir.

    Hem mesela, asâ-yı Musa gibi çok hikmetleri ve faydaları bulunan kıssa-i Musa’nın (as) ve sair enbiyanın kıssalarını çok tekrarında, risalet-i Ahmediyenin hakkaniyetine bütün enbiyanın nübüvvetlerini hüccet gösterip onların umumunu inkâr edemeyen, bu zatın risaletini hakikat noktasında inkâr edemez hikmetiyle ve herkes, her vakit bütün Kur’an’ı okumaya muktedir ve muvaffak olamadığından her bir uzun ve mutavassıt sureyi birer küçük Kur’an hükmüne getirmek için ehemmiyetli erkân-ı imaniye gibi o kıssaları tekrar etmesi; değil israf belki mu’cizane bir belâgattır ve hâdise-i Muhammediye bütün benî-Âdem’in en büyük hâdisesi ve kâinatın en azametli meselesi olduğunu ders vermektir.

    Evet, Kur’an’da Zat-ı Ahmediye’ye en büyük makam vermek ve dört erkân-ı imaniyeyi içine almakla    لَٓا اِلٰهَ اِلَّا اللّٰهُ‌   rüknüne denk tutulan مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّٰهِ‌   ve risalet-i Muhammediye kâinatın en büyük hakikati ve Zat-ı Ahmediye, bütün mahlukatın en eşrefi ve hakikat-i Muhammediye tabir edilen küllî şahsiyet-i maneviyesi ve makam-ı kudsîsi, iki cihanın en parlak bir güneşi olduğuna ve bu hârika makama liyakatine pek çok hüccetleri ve emareleri, kat’î bir surette Risale-i Nur’da ispat edilmiş. Binden birisi şudur ki:

    اَلسَّبَبُ كَال۟فَاعِلِ   düsturuyla, bütün ümmetinin bütün zamanlarda işlediği hasenatın bir misli onun defter-i hasenatına girmesi ve bütün kâinatın hakikatlerini, getirdiği nur ile nurlandırması, değil yalnız cin, ins, melek ve zîhayatı, belki kâinatı, semavat ve arzı minnettar eylemesi ve istidat lisanıyla nebatatın duaları ve ihtiyac-ı fıtrî diliyle hayvanatın duaları, gözümüz önünde bilfiil kabul olmasının şehadetiyle milyonlar, belki milyarlar fıtrî ve reddedilmez duaları makbul olan suleha-yı ümmeti her gün o zata salât ü selâm unvanıyla rahmet duaları ve manevî kazançlarını en evvel o zata bağışlamaları ve bütün ümmetçe okunan Kur’an’ın üç yüz bin harfinin her birisinde on sevaptan tâ yüz, tâ bin hasene ve meyve vermesinden yalnız kıraat-ı Kur’an cihetiyle defter-i a’maline hadsiz nurlar girmesi haysiyetiyle o zatın şahsiyet-i maneviyesi olan hakikat-i Muhammediye, istikbalde bir şecere-i tûba-i cennet hükmünde olacağını Allâmü’l-guyub bilmiş ve görmüş, o makama göre Kur’an’ında o azîm ehemmiyeti vermiş ve fermanında ona tebaiyetle ve sünnetine ittiba ile şefaatine mazhariyeti en ehemmiyetli bir mesele-i insaniye göstermiş ve o haşmetli şecere-i tûbanın bir çekirdeği olan şahsiyet-i beşeriyetini ve bidayetteki vaziyet-i insaniyesini ara sıra nazara almasıdır.

    İşte Kur’an’ın tekrar edilen hakikatleri bu kıymette olduğundan tekraratında kuvvetli ve geniş bir mu’cize-i maneviye bulunmasına fıtrat-ı selime şehadet eder. Meğer maddiyyunluk taunuyla maraz-ı kalbe ve vicdan hastalığına müptela ola.

    قَد۟ يُن۟كِرُ ال۟مَر۟ءُ ضَو۟ءَ الشَّم۟سِ مِن۟ رَمَدٍ وَ يُن۟كِرُ ال۟فَمُ طَع۟مَ ال۟مَاءِ مِن۟ سَقَمٍ kaidesine dâhil olur.


    BU ONUNCU MESELEYE BİR HÂTİME OLARAK İKİ HÂŞİYEDİR

    BİRİNCİSİ

    Bundan on iki sene evvel işittim ki en dehşetli ve muannid bir zındık, Kur’an’a karşı suikastını tercümesiyle yapmaya başlamış ve demiş ki: “Kur’an tercüme edilsin, tâ ne mal olduğu bilinsin.” Yani lüzumsuz tekraratı herkes görsün ve tercümesi onun yerinde okunsun diye dehşetli bir plan çevirmiş.

    Fakat Risale-i Nur’un cerh edilmez hüccetleri kat’î ispat etmiş ki Kur’an’ın hakiki tercümesi kabil değil ve lisan-ı nahvî olan lisan-ı Arabî yerinde Kur’an’ın meziyetlerini ve nüktelerini başka lisan muhafaza edemez ve her bir harfi, on adetten bine kadar sevap veren kelimat-ı Kur’aniyenin mu’cizane ve cem’iyetli tabirleri yerinde, beşerin âdi ve cüz’î tercümeleri tutamaz, onun yerinde camilerde okunmaz diye Risale-i Nur, her tarafta intişarıyla o dehşetli planı akîm bıraktı. Fakat o zındıktan ders alan münafıklar, yine şeytan hesabına Kur’an güneşini üflemekle söndürmeye, aptal çocuklar gibi ahmakane ve divanecesine çalışmaları hikmetiyle, bana gayet sıkı ve sıkıcı ve sıkıntılı bir halette bu Onuncu Mesele yazdırıldı tahmin ediyorum. Başkalarla görüşemediğim için hakikat-i hali bilemiyorum.

    İKİNCİ HÂŞİYE

    Denizli Hapsinden tahliyemizden sonra meşhur Şehir Otelinin yüksek katında oturmuştum. Karşımda güzel bahçelerde kesretli kavak ağaçları birer halka-i zikir tarzında gayet latîf, tatlı bir surette hem kendileri hem dalları hem yaprakları, havanın dokunmasıyla cezbekârane ve cazibedarane hareketle raksları, kardeşlerimin müfarakatlarından ve yalnız kaldığımdan hüzünlü ve gamlı kalbime ilişti. Birden güz ve kış mevsimi hatıra geldi ve bana bir gaflet bastı. Ben, o kemal-i neşe ile cilvelenen o nâzenin kavaklara ve zîhayatlara o kadar acıdım ki gözlerim yaşla doldu. Kâinatın süslü perdesi altındaki ademleri, firakları ihtar ve ihsasıyla kâinat dolusu firakların, zevallerin hüzünleri başıma toplandı.

    Birden hakikat-i Muhammediyenin (asm) getirdiği nur, imdada yetişti. O hadsiz hüzünleri ve gamları, sürurlara çevirdi. Hattâ o nurun, herkes ve her ehl-i iman gibi benim hakkımda milyon feyzinden yalnız o vakitte, o vaziyete temas eden imdat ve tesellisi için Zat-ı Muhammediye’ye (asm) karşı ebediyen minnettar oldum. Şöyle ki:

    Ol nazar-ı gaflet, o mübarek nâzeninleri; vazifesiz, neticesiz, bir mevsimde görünüp, hareketleri neşeden değil belki güya ademden ve firaktan titreyerek hiçliğe düştüklerini göstermekle, herkes gibi bendeki aşk-ı beka ve hubb-u mehasin ve muhabbet-i vücud ve şefkat-i cinsiye ve alâka-i hayatiyeye medar olan damarlarıma o derece dokundu ki böyle dünyayı bir manevî cehenneme ve aklı bir tazip âletine çevirdiği sırada, Muhammed aleyhissalâtü vesselâmın beşere hediye getirdiği nur perdeyi kaldırdı; idam, adem, hiçlik, vazifesizlik, abes, firak, fânilik yerinde o kavakların her birinin yaprakları adedince hikmetleri, manaları ve Risale-i Nur’da ispat edildiği gibi üç kısma ayrılan neticeleri ve vazifeleri var, diye gösterdi:

    Birinci kısım neticeleri: Sâni’-i Zülcelal’in esmasına bakar. Mesela, nasıl ki bir usta hârika bir makineyi yapsa onu takdir eden herkes o zata “Mâşâallah, bârekellah” deyip alkışlar. Öyle de o makine dahi ondan maksud neticeleri tam tamına göstermesiyle, lisan-ı haliyle ustasını tebrik eder, alkışlar. Her zîhayat ve her şey böyle bir makinedir, ustasını tebriklerle alkışlar.

    İkinci kısım hikmetleri ise: Zîhayatın ve zîşuurun nazarlarına bakar. Onlara şirin bir mütalaagâh, birer kitab-ı marifet olur. Manalarını zîşuurun zihinlerinde ve suretlerini kuvve-i hâfızalarında ve elvah-ı misaliyede ve âlem-i gaybın defterlerinde daire-i vücudda bırakıp sonra âlem-i şehadeti terk eder, âlem-i gayba çekilir. Demek, surî bir vücudu bırakır, manevî ve gaybî ve ilmî çok vücudları kazanır.

    Evet, madem Allah var ve ilmi ihata eder. Elbette adem, idam, hiçlik, mahv, fena; hakikat noktasında ehl-i imanın dünyasında yoktur ve kâfir münkirlerin dünyaları ademle, firakla, hiçlikle, fânilikle doludur. İşte bu hakikati, umumun lisanında gezen bu gelen darb-ı mesel ders verip der: “Kimin için Allah var, ona her şey var ve kimin için yoksa her şey ona yoktur, hiçtir.”

    Elhasıl, nasıl ki iman, ölüm vaktinde insanı idam-ı ebedîden kurtarıyor; öyle de herkesin hususi dünyasını dahi idamdan ve hiçlik karanlıklarından kurtarıyor. Ve küfür ise hususan küfr-ü mutlak olsa hem o insanı hem hususi dünyasını ölümle idam edip manevî cehennem zulmetlerine atar. Hayatının lezzetlerini acı zehirlere çevirir. Hayat-ı dünyeviyeyi âhiretine tercih edenlerin kulakları çınlasın. Gelsinler, buna ya bir çare bulsunlar veya imana girsinler. Bu dehşetli hasarattan kurtulsunlar.

    سُب۟حَانَكَ لَا عِل۟مَ لَنَٓا اِلَّا مَا عَلَّم۟تَنَٓا اِنَّكَ اَن۟تَ ال۟عَلٖيمُ ال۟حَكٖيمُ

    Duanıza çok muhtaç ve size çok müştak kardeşiniz

    Said Nursî


    1. هذه الجملة هي زيادة المؤلف نفسه بخطه في نسخة مخطوطة لديّ، وهي تحدد زمن تأليف هذه الرسالة، إذ كان قرار استعمال الحروف اللاتينية (الجديدة) وحظر استعمال الحروف العربية في ١٩٢٨/١١/٢٣.
    2. الحَوْرُ: الرجوع عن الشيء وإِلى الشيء، وطَحَنَتْ فما أحارَت شيئا، أي: ما رَدَّتْ شيئا من الدَّقيقِ. (القاموس المحيط)
    3. فذكر من «المهموسة» وهي ما يضعف الاعتماد على مخرجه، ويجمعها «ستشحثك خصفه» نصفها وهي الحاء والهاء والصاد والسين والكاف. ومن البواقي «المجهورة» نصفها يجمعه «لن يقطع أمر» ومن «الشديدة» الثمانية المجموعة في «أجدت طبقك» أربعة يجمعها. ومن البواقي «الرخوة» عشرة يجمعها «حمس على نصره» ومن المطبقة التي هي الصاد والضاد والطاء والظاء نصفها. ومن البواقي «المنفتحة» نصفها. ومن «القلقلة» وهي حروف تضطرب عند خروجها ويجمعها «قد طبج» نصفها الأقل لقلتها. ومن «اللينتين» الياء لأنها أقل ثقلا، ومن «المستعلية» وهي التي يتصعد الصوت بها في الحنك الأعلى وهي سبعة: القاف والصاد والطاء والخاء والغين والضاد والظاء نصفها الأقل، ومن البواقي «المنخفضة» نصفها... «تفسير البيضاوي».
    4. الخَضْراءُ: السماء لخُضْرَتها؛ صفة غلبت غَلَبَةَ الأسماء. وفي الحديث: «ما أظَلَّتِ الخَضْراءُ ولا أقَلَّتِ الغَبْراءُ أصْدَقَ لَهْجَةً من أبي ذَرٍّ»؛ الخَضْراءُ: السماء، والغبراء: الأرض. (لسان العرب)
    5. والتنوين أيضا نون. (المؤلف).
    6. الهمزة الملفوظة وغير الملفوظة هي خمس وعشرون. وهي فوق أختها وهي الألف الساكنة بثلاث درجات، لأن الحركة ثلاثة. (المؤلف).
    7. هذا الأسلوب قد لبس حلل معاني السورة نفسها.(المؤلف).
    8. في هذه العبارات إشارة لموضوعات تلك السور.(المؤلف).
    9. «أنزلَ القُرآن عَلى سَبعَة أحرُف» رواه أحمد والترمذي، وهو عند الطبراني، المعجم الأوسط ١/٢٣٦.. وفي رواية أخرى عنده: «لكل حرف منها ظهر وبطن ولكل حرف حدّ ولكل حدّ مطّلع» (باختصار عن كشف الخفاء ١/٢٠٩) ولكل حدّ مطّلَع، أي لكل حدّ مَصعد يصعد إليه من معرفة علمه (لسان العرب).
    10. وفي المثل «الحديث ذو شجون» أي فنون وأغراض، وقيل أي يدخل بعضه في بعض، أي ذو شعَب وامتساك بعضه ببعض.. وأصل الشجنة بالكسر والضم شعبة من غصن من غصون الشجرة (لسان العرب باختصار).
    11. حتى إن الاستفتاء في علم القرآن (تفسير الأدنوي) بلغ مائة وعشرين مجلدا، صنّفه في اثنتي عشرة سنة، محمد بن علي بن أحمد المقرئ النحوي المتوفي سنة ٣٨٨ هـ (كشف الظنون ٤٤١/١).
    12. ورد عن بعض السلف وصف السورة بأنها صغيرة، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «ما من المفصل سورة صغيرة ولا كبيرة إلا وقد سمعت رسول الله ﷺ يؤم الناس بها في الصلاة المكتوبة». أبو داود، الصلاة ٨١٤؛ الطبراني، المعجم الكبير ٣٦٥/١٢.
    13. هذه الآيات تنبئ عن الغيب، وضّحَتها تفاسير كثيرة، ولم تُوضح هنا لأن العزم على طبع الكتاب بحروف قديمة «عربية» دفع المؤلف إلى خطأ الاستعجال، لذا ظلت تلك الكنوز القيمة مقفلة. (المؤلف)
    14. هذه فقرة من اللائحة المرفوعة إلى محكمة التمييز، ألقيت أمام المحكمة، فأسكتَتها وأصبحت حاشية لهذا المقام: وأنا أقول لمحكمة وزارة العدل الموقرة! إن إدانةَ من يفسّر أقدس دستور إلهي وهو الحق بعينه، ويحتكم إليه ثلاث مائة وخمسون مليونا من المسلمين في كل عصر في حياتهم الاجتماعية، خلال ألف وثلاث مائة وخمسين عاما. هذا المفسرُ استند في تفسيره إلى ما اتفق عليه وصدَّق به ثلاثُ مائة وخمسون ألف مفسر، واقتدى بالعقائد التي دان بها أجدادُنا السابقون في ألف وثلاث مائة وخمسين سنة.. أقول: إن إدانةَ هذا المفسر قرار ظالم لابد أن ترفضه العدالة، إن كانت هناك عدالة على وجه الأرض، ولابد أن تردّ ذلك الحكم الصادر بحقه وتنقضه. (المؤلف)
    15. إن اللمعة الرابعة والعشرين تثبت بقطعية تامة أن الحجاب أمر فطري جدا للنساء بينما رفعُ الحجاب ينافي فطرتَهن.. (المؤلف)
    16. وهي اثنتا عشرة رسالة ضمن كتاب «المثنوي العربي النوري».
    17. انظر: الألوسي، روح المعاني ١٦/١٨.
    18. جاء في تفسير روح المعاني للعلامة الآلوسي (١٤/١٥) ما يأتي: «وأما على تقدير كون الضمير للنبي ﷺ، كما نقله أبو البقاء عن بعضهم وقال: أي السميع لكلامنا البصير لذاتنا، وقال الجلبي: إنه لا يبعد، والمعنى عليه: إن عبدي الذي شرّفته بهذا التشريف هو المستأهل له فإنه السميع لأوامري ونواهي، العامل بهما، البصير الذي ينظر بنظر العبرة في مخلوقاتي فيعتبر، أو البصير بالآيات التي أريناه إياه». وانظر أيضا تفسير إسماعيل القنوي على البيضاوي (٢٢٤/٤).
    19. الإشراقية: مدرسة ترى أن المعرفة تتم عن طريق ظهور الأنوار العقلية ولمعانها وفيضانها بالإشراقات على النفوس عند تجردها.
    20. * Denizli Hapsinin meyvesine Onuncu Mesele olarak Emirdağı’nın ve bu ramazan-ı şerifin nurlu bir küçük çiçeğidir. Tekrarat-ı Kur’aniyenin bir hikmetini beyanla ehl-i dalaletin ufunetli ve zehirli evhamlarını izale eder.