اللمعة الثانية والعشرون

    Risale-i Nur Tercümeleri sitesinden
    Bu sayfa Yirmi İkinci Lem'a sayfasının çevrilmiş sürümü ve çeviri %100 tamamlandı.

    بِاسْمِهِ سُبْحَانَهُ

    هذه الرسالة الصغيرة التي كتبتُها قبل اثنتين وعشرين سنة، وأنا نزيل ناحية «بارلا» التابعة لولاية إسبارطة، هي رسالة خاصة لأخلص إخوتي وأخصّهم. وقد كتبتها في غاية السرية ومنتهى الكتمان. ولكن لما كانت ذات علاقة بأهالي «إسبارطة» والمسؤولين فيها، فإني أقدّمها إلى واليها العادل وإلى مسؤولي دوائر العدل والأمن والانضباط فيها. وإذا ما ارتؤي أنها تستحق الطبع، فلتُطبع منها نسخٌ معدودة بالحروف القديمة أو الحديثة بالآلة الطابعة كي يعرف أولئك المترصدون الباحثون عن أسراري منذ أكثر من خمس وعشرين سنة، أنه لا سرّ لنا في الخفاء، وأن أخفى أسرارنا هو هذه الرسالة.

    سعيد النورسي

    الإشارات الثلاث

    كانت هذه الرسالة «المسألة الثالثة من المذكرة السابعة عشرة للمعة السابعة عشرة» إلّا أن قوة أسئلتها وشمولها وسطوع أجوبتها وسدادها جعَلتها «اللمعة الثانية والعشرين» من «المكتوب الحادي والثلاثين» فدخلت ضمن «اللمعات» وامتزجت بها. وعلى «اللمعات» إن تفسح لها موضعاً بينها، فهي رسالة سرية خاصة لأخص إخواننا وأخلصهم وأصدقهم.

    بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ

    ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّٰهِ فَهُوَ حَسْبُهُ اِنَّ اللّٰهَ بَالِغُ اَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللّٰهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ (الطلاق:٣)

    هذه المسألة ثلاث إشارات

    الإشارة الأولى:

    سؤال مهم يخصّني بالذات ويخص «رسائل النور».

    يقول كثيرون:

    لِم يتدخل أهلُ الدنيا بأمور آخرتك كلما وجدوا لهم فرصة، مع أنك لا تتدخل في شؤون دنياهم؟ علماً أنه لا يمسّ قانونُ أية حكومة كانت شؤونَ تاركي الدنيا المعتزلين الناس!

    الجواب: إن جواب «سعيد الجديد» عن هذا السؤال هو: السكوت؛ إذ يقول: ليُجب عني القدرُ الإلهي. ومع هذا يقول بعقل «سعيد القديم» الذي اضطر إلى استعارته: إن الذي يجيب عن هذا السؤال هو حكومة محافظة إسبارطة وأهالي هذه المحافظة؛ لأنَّ هؤلاء -المسؤولين والناس كافة- أكثر علاقة مني بالمعنى الذي ينطوي عليه السؤال.

    وما دامت حكومةٌ أفرادها يربون على الألوف، وأهلون يزيدون على مئات الألوف مضطرين إلى التفكير والدفاع عوضاً عني، فلِمَ إذن أحاور -دون جدوى- المدّعين دفاعاً عن نفسي؟.

    فها أنذا منذ تسع سنوات في هذه المحافظة، وكلما مرّ الزمان أدرت ظهري إلى دنياهم. ولم تبق حال من أحوالي مخفية عنهم مستورة عليهم، بل حتى أخَصُّ رسائلي وأكثرها سرية يتداولها المسؤولون في الدولة وهي في متناول عدد من النواب.

    فلو كان لي شيء من تدخلٍ أو محاولة ما لتعكير صفو دنياهم والإخلال بها، أو حتى التفكير في هذا الأمر، لما آثر المسؤولون في هذه المحافظة والأقضية السكوتَ تجاهي وعدم الاعتراض عليّ على الرغم من مراقبتهم إياي وترصدهم لي وتجسسهم عليّ طوال تسع سنوات، وعلى الرغم من أنني أبوح دون تردد بأسراري إلى من يزورني.

    فإن كان لي عمل مُخل بسعادة الأمة وسلامة الوطن ويلحق الضرر بمستقبلها، فالمسؤول عنه جميعُ أفراد الحكومة طوال تسع سنوات ابتداءً من المحافظ إلى أصغر موظف في مخفر القرية.

    فعلى هؤلاء جميعاً يقع الدفاع عني، وعليهم أن يستصغروا ما استهوَله واستعظمَه الآخرون، وذلك لينجوا من تبعات المسؤولية. ولأجل هذا أحيل جواب هذا السؤال إليهم.

    أما ما يدفع مواطني هذه المحافظة عامة للدفاع عني أكثر من نفسي فهو: أنَّ هذه تسع سنوات، ومئات الرسائل التي نسعى لنشرها، قد أثبتت تأثيرها في هذا الشعب الأخ الصديق المبارك الطيب، وأظهرت مفعولها الفعلي والمادي في حياته الأبدية وفي دعم قوة إيمانه وسعادة حياته، ومن غير أن تمسّ أحداً بسوء أو تولد أي اضطراب أو قلق كان، إذ لم يشاهد منها ما يومئ إلى غرضٍ سياسي ونفع دنيوي مهما كان، حتى إنَّ هذه المحافظة، إسبارطة، قد اكتسبت ولله الحمد بوساطة «رسائل النور» مقام البركة من حيث قوة الإيمان والصلابة في الدين، من نوع البركة التي نالتها بلدة الشام الطيبة في السابق ومن نوع بركة الجامع الأزهر الذي هو مدرسة العالم الإسلامي عامة.

    فهذه المحافظة لها فضل ومزيّة على المحافظات الأخرى، حيث قد كسبت من «رسائل النور» التمسك بأذيال الدين، فهيمنت فيها قوةُ الإيمان على الإهمال، وسيطرت فيها الرغبة في العبادة تجاه السفه والغي؛ ولهذا كله فالناس كلهم في هذه المحافظة، حتى لو كان فيهم ملحد (فرضاً) مضطرون إلى الدفاع عني وعن «رسائل النور».

    وهكذا لا يسوقني حقي الجزئي الذي لا أهمية له ضمن حقوق دفاع ذات أهمية إلى هذا الحد، أن أُدافع عن نفسي ولاسيما أنني قد أنهيت خدماتي ولله الحمد ويسعى لها ألوفٌ من الطلاب عوضاً عن هذا العاجز. فمن كان له وكلاء دعوى ومحامون يربون على الألوف، لا يدافع عن دعواه بنفسه.

    الإشارة الثانية:

    جواب عن سؤال يتسم بالنقد.

    يقال من جانب أهل الدنيا: لِمَ اسْتَأْتَ منّا وسكتّ فلا تراجعنا ولو لمرة واحدة. ثم تشكو منا شكاية شديدة قائلاً: «أنتم تظلمونني». فنحن أصحاب مبدأ، لنا دساتيرنا الخاصة نسير في ضوئها على وفق ما يتطلبه هذا العصر بينما أنت لا تُنَفِذُ هذه الدساتير على نفسك وترفضها، علماً أن من ينفذ القانون لا يكون ظالماً، بينما الرافض له يكون عاصياً.

    ففي عصرنا هذا، عصر الحرية -مثلاً- وفي عهد الجمهوريات التي بدأنا به حديثاً يجري دستور رفع الإكراه والتسلط على الآخرين. إذ المساواة قانون أساس لدينا، بينما أنت تكسب إقبال الناس نحوك وتلفت أنظارهم إليك تارة بزيّ العلم وأخرى بالتزهد، فتحاول تكوين قوةٍ وكسب مقامٍ خارج نطاق نفوذ الدولة.

    هكذا يُفهم من ظاهر حالك وهكذا يدلنا مجرى حياتك السابقة. فهذه الحالة ربما تُستصوب في نطاق تحكّم البرجوازيين -بالتعبير الحديث- إلّا أن صحوة طبقة العوام وتغلبها جعلت جميع دساتير الاشتراكية والبلشفية تسيطر وتهيمن، وهي التي تلائم أمورنا أكثر من غيرها. فنحن في الوقت الذي رضينا بدساتير الاشتراكية نشمئز من أوضاعك، إذ هي تخالف مبادئنا. لذا لاحق لك في الاستياء منا ولا الشكوى من مضايقاتنا لك.

    الجواب: إنَّ من يشق طريقاً في الحياة الاجتماعية ويؤسس حركة، لا يستثمر مساعيه ولن يكون النجاح حليفَه في أمور الخير والرقي ما لم تكن الحركةُ منسجمةً مع القوانين الفطرية التي تحكم الكون، بل تكون جميعُ أعماله في سبيل التخريب والشر.

    فما دام الانسجام مع قانون الفطرة ضرورياً، فإن تنفيذ قانون المساواة المطلقة لا يمكن إلّا بتغيير فطرة البشر ورفع الحكمة الأساسية في خلق النوع البشري.

    نعم، إنني من حيث النسب ونمط معيشة الحياة من طبقة العوام، ومن الراضين بالمساواة في الحقوق فكراً ومشرباً، ومن العاملين على رفض سيطرة طبقة الخواص المسمَّين بالبرجوازيين واستبدادهم منذ السابق وذلك بمقتضى الرحمة وبموجب العدالة الناشئة من الإسلام. لذا فأنا بكل ما أوتيت من قوة بجانب العدالة التامة، وضد الظلم والسيطرة والتحكم والاستبداد.

    بَيد أنَّ فطرة النوع البشري وحكمةَ خلقه تخالفان قانونَ المساواة المطلقة، إذ الفاطر الحكيم سبحانه كما يستحصل من شيء قليل محاصيلَ كثيرة، ويكتب في صحيفة واحدة كتباً كثيرة، ويُجري بشيء واحد وظائف جمة، كذلك يُنجز بنوع البشر وظائف ألوف الأنواع، وذلك إظهاراً لقدرته الكاملة وحكمته التامة.

    فلأجل تلك الحكمة العظيمة، خلق سبحانه الإنسانَ على فطرة جامعة، لها من القدرة ما يثمر ألوف سنابل الأنواع، وما يعطى طبقات كثيرة بعدد أنواع سائر الحيوانات؛ إذ لم يحدِّد سبحانه قوى الإنسان ولطائفَه ومشاعرَه كما هو الحال في الحيوانات، بل أطلقها واهباً له استعداداً يتمكن به من السياحة والجولان ضمن مقامات لا تحد، فهو في حكم ألوف الأنواع، وإن كان نوعاً واحداً.

    ومن هنا أصبح الإنسان في حكم خليفة الأرض.. ونتيجة الكون.. وسلطان الأحياء..

    وهكذا فإن أجلَّ خميرة لتنوع النوع البشري وأهم نابض محرك له هو التسابق لإحراز الفضيلة المتسمة بالإيمان الحقيقي. فلا يمكن رفعُ الفضيلة إلّا بتبديل الماهية البشرية وإخماد العقل وقتل القلب وإفناء الروح.

    «لا يمكن بالظلم والجور محو الحرية

    ارفع الإدراك إن كنت مقتدراً من الإنسانية!». ([1])

    هذا الكلام الرصين أُثير خطأً في وجه رجل ذي شأن ما كان يليق به مثل هذه الصفعة، بل جدير بهذا الكلام أن يصفع به الوجه الغدار لهذا العصر الحامل لاستبداد رهيب يتستر بهذه الحرية.

    فأنا أقول بدلاً من هذا الكلام:

    «لا يمكن بالظلم والجور محو الحقيقة

    ارفع القلب إن كنت مقتدراً من الإنسانية!».

    أو أقول:

    «لا يمكن بالظلم والجور محو الفضيلة

    ارفع الوجدان إن كنت مقتدراً من الإنسانية!».

    نعم، إن الفضيلة المتّسمة بالإيمان، كما لا تكون وسيلة للإكراه، لا تكون سبباً للاستبداد قطعاً. إذ الإكراه والقسر والتسلط على الآخرين، رذيلة ليس إلّا ، بل إنَّ أهم مشرب لدى أهل الفضيلة هو الاندماج في المجتمع بالعجز والفقر والتواضع. ولقد مضت حياتُنا ولله الحمد وما زالت كذلك تمضي على وفق هذا المشرب. فأنا لا أدعي متفاخراً أنني صاحب فضيلة، ولكن أقول تحدّثاً بنعمة الله عليّ وبنية الشكر له سبحانه:

    قد أَحْسَنَ إليّ جلّ وعلا بفضله وكرمه فوفقني إلى العمل للعلوم الإيمانية والقرآنية وإدراكها وفهمها. فصرفتُ طوال حياتي -لله الحمد- هذا الإحسان الإلهي بتوفيق منه تعالى، في مصالح هذه الأمة المسلمة وبذلتُه في سبيل سعادتها، ولم يكُ في أي وقت كان وسيلة للإكراه والتسلط على الآخرين. كما أنني -بناءً على سرّ مهم- أنفر من إقبال الناس وجلب استحسانهم المرغوبين لدى أهل الغفلة؛ إذ قد ضيّعا عليّ عشرين سنة من عمري السابق، فلهذا أعدّهما مضرَّين لي. إلّا أنني أراهما أمارة على إقبال الناس على رسائل النور فلا أُسخطهم.

    فيا أهل الدنيا!

    في الوقت الذي لا أتدخل في دنياكم قط؛ ولا علاقة لي بأية جهة كانت بمبادئكم. ولست عازماً على التدخل مجدداً بالدنيا، بل ولا لي رغبة فيها أصلاً كما تشهد بذلك حياتي، هذه التي قضيتُها أسير المنفى طوال تسع سنوات. فلماذا تنظرون إليّ وكأنني متجبّر سابق، يضمر التسلط على الآخرين ويتحين الفرص لذلك. بأي قانون يُجرى وعلى أية مصلحة يُبنى هذا المدى من الترصد والمراقبة والعنت؟

    فلا توجد في العالم كله، حكومةٌ تعمل فوق القانون، وتسمح بهذه المعاملة القاسية التي أُعامل بها والتي لا يرضى بها فرد مهما كان.

    فهذه المعاملات السيئة التي تعاملونني بها لا تولد سخطي وحده، بل سخط نوع الإنسان -إن أدرك- بل سخط الكائنات.

    الإشارة الثالثة:

    سؤال يرد على وجه البلاهة والجنون وينطوي على مغالطة.

    يقول قسم من أفراد الدولة وأهل الحكم:

    ما دُمتَ قائماً في هذه البلاد، فعليك الانقياد لقوانين الجمهورية الصادرة فيها، فلماذا تُنجي نفسك من تلك القوانين تحت ستار العزلة عن الناس.

    فمثلاً: إن من يجرِي نفوذه على الآخرين خارج وظيفة الدولة متقلداً فضيلة ومزيّة لنفسه ينافيِ قانون الحكومة الحاضرة ودستور الجمهورية المبني على أساس المساواة. فلماذا تتقلد صفةَ من يريد جلب الإعجاب بنفسه وكأن على الناس الانقياد له وطاعته. وتجعلهم يقبّلون يدك مع أنك لا وظيفة لك في الدولة؟

    الجواب: إنَّ على منفّذي القانون تنفيذَه على أنفسهم أولاً ثم يمكنهم إجراؤه على الآخرين. فإجراء دستور على الآخرين دون أنفسكم يعني مناقضتَكم لدستوركم وقانونِكم قبل كل أحد لأنكم تطلبون إجراء قانون المساواة المطلقة هذا عليَّ بينما لم تطبقوه أنتم على أنفسكم.

    وأنا أقول:

    متى ما صعد جندي اعتيادي إلى مقام المشير الاجتماعي، وشارك المشير فيما يوليه الناس من احترام وإجلال، ونال مثله ذلك الإقبال والاحترام.. أو متى ما صار المشير جندياً اعتيادياً وتقلد أحواله الخامدة، وفقَد أهميته كلها خارج وظيفته.. وأيضاً متى ما تساوى رئيسٌ ذكي لأركان الجيش قادهم إلى النصر مع جندي بليد في إقبال الناس عامة والاحترام والمحبة له، فلكم أن تقولوا حينذاك، حسب قانونكم، قانونِ المساواة: لا تُسَمِ نفسَك عالماً. ارفض احترام الناس لك، انكر فضيلتك، اخدم خادمك، رافق المتسولين.

    فإن قلتم: إن هذا الاحترام والمقام والإقبال الذي يوليه الناس، إنما هو خاص بالموظفين وأثناء مزاولتهم مهنتهم، بينما أنت إنسان لا وظيفة لك، فليس لك أن تقبل احترام الأمة كالموظفين.

    فالجواب: لو أصبح الإنسان مجرد جسد فقط.. وظل في الدنيا خالداً مخلداً.. وأُغلق باب القبر.. وقُتل الموت.. فانحصرت الوظائفُ في العسكرية والموظفين الإداريين.. فكلامكم إذن يعني شيئاً. ولكن لما كان الإنسان ليس مجرد جسد، ولا يُجرّد من القلب واللسان والعقل ليعطى غذاءً للجسد، فلا يمكن إفناء تلك الجوارح. فكلٌّ منها يطلب التغذية والعناية.

    ولما كان بابُ القبر لا يغلق، بل إن أجلّ مسألة لدى كل فرد هو قلقُه على ما وراء القبر. لذا لا تنحصر الوظائف التي تستند إلى احترام الناس وطاعتهم في وظائف اجتماعية وسياسية وعسكرية تخص حياة الأمة الدنيوية.

    إذ كما أن تزويد المسافرين بتذاكر سفر وجواز مرور وظيفة، فإن منح وثيقة سفر للمسافرين إلى ديار الأبد ومناولتهم نوراً لتبديد ظلمات الطريق وظيفة جليلة، بحيث لا ترقى أية وظيفة أخرى إلى أهميتها. فإنكار وظيفة جليلة كهذه لا يمكن إلّا بإنكار الموت، وبتكذيب شهادة ثلاثين ألف جنازة يومياً تُصدق دعوى: أن الموت حق.

    فما دامت هناك وظائف معنوية تستند إلى حاجات ضرورية معنوية، وأن أهم تلك الوظائف هي الإيمان وتقويته والإرشاد إليه، إذ هو جواز سفر في طريق الأبدية ومصباح القلب في ظلمات البرزخ ومفتاح دار السعادة الأبدية. فلا شك أن الذي يؤدي تلك الوظيفة، وظيفةَ الإيمان، من أهل المعرفة لا يبخس قيمةَ النعمة التي أنعم الله عليه كفراناً بها، ولا يهوّن من فضيلة الإيمان التي منحها الله إياه، ولا يتردى إلى درك السفهاء والفسقة، ولا يلوث نفسه بسفاهة السافلين وبدعهم. فالانزواء واعتزال الناس الذي لا يروق لكم وحسبتموه مخالفاً للمساواة إنما هو لأجل هذا.

    ومع هذه الحقيقة، فلا أخاطب -بكلامي هذا- أولئك الذين يذيقونني العنتَ بتعذيبهم إياي، من أمثالكم المتكبرين المغترين بنفوسهم كثيراً حتى بلغوا الفرعونية في نقض هذا القانون، قانون المساواة. إذ ينبغي عدم التواضع أمام المتكبرين لما يُظن تذللاً لهم.. وإنما أخاطب المنصفين المتواضعين العادلين من أهل الحكم فأقول:

    إنني ولله الحمد على معرفة بقصوري وعجزي، فلا أدّعى مُستعلياً على أحد من الناس مقاماً للاحترام فضلاً عن أن أدّعيه على المسلمين! بل أبصر بفضل الله تقصيراتي التي لا تحد، وأعلمُ يقيناً أني لست على شيء يُذكر، فأجد السلوانَ والعزاء في الاستغفار ورجاء الدعاء من الناس، لا التماس الاحترام منهم. وأعتقد أن سلوكي هذا معروف لدى أصدقائي كلهم.

    إلّا أن هناك أمراً وهو أنني، أتقلد مؤقتاً وضعاً عزيزاً يتطلبه مقامُ عزة العلم ووقاره، وذلك أثناء القيام بخدمة القرآن ودرس حقائق الإيمان، أتقلده موقتاً في سبيل تلك الحقائق وشرف القرآن ولأجل أَلاّ أحني رأسي لأهل الضلالة. أعتقد أنه ليس في طوق قوانين أهل الدنيا معارضة هذه النقاط.

    معاملة تجلب الحيرة:

    إنَّ أهل العلم والمعرفة في كل مكان -كما هو معلوم- يزنون الأمور بميزان العلم والمعرفة. فأينما وجدوا معرفة وفي أي شخص تلمّسوا علماً يولون له الاحترام ويعقدون معه الصداقة باعتبار مسلك العلم. بل حتى لو قدم عالم -بروفسور- لدولة عدوة لنا، إلى هذه البلاد، لزاره أهلُ المعرفة وأصحاب العلوم، وقدروه واحترموه لعلمه ومعرفته.

    والحال أنه عندما طلب أعلى مجلس علمي كَنَسي إنكليزي من المشيخة الإسلامية الإجابة عن ستة أسئلة بستمائة كلمة، قام أحدُ أهل العلم -الذي تلقى عدم الاحترام من أهل هذه البلاد- بالإجابة عن تلك الأسئلة بست كلمات حتى نالت إجابته التقدير والإعجاب... وهو الذي قاوم بالعلم الحقيقي والمعرفة الصائبة أهم دساتير الأجانب وأسس حكمائهم وتغلب عليهم.

    وهو الذي تحدى فلاسفة أوروبا استناداً إلى ما استلهمه من القرآن الكريم من قوة المعرفة والعلم.

    وهو الذي دعا العلماء وأهل المدارس الحديثة في استانبول -قبل إعلان الحرية بسـتة شهور- إلى المناظرة والمناقشة، والإجابة عن أســـئلتهم دون أن يَســأل أحداً شـيئاً. فأجاب عن جميع اســتفســاراتهم إجابة شـــافية صائبة. ([2])

    وهو الذي وقفَ حياته لإسعاد هذه الأمة. فنشر مئات الرسائل بلغتها، اللغة التركية، ونوّرهم بها.

    هذا الذي قام بهذه الأعمال، وهو ابن هذا الوطن، والصديق لأهله، والأخ في الدين، قابله قسمٌ من المنسوبين إلى العلم والمعرفة مع عدد من علماء الدين الرسميين بالاضطهاد وإضمار العداء نحوه، بل أُهينَ.

    فتعالَ، وتأمل هذه الحالة! ماذا تسميها؟ أهي مدنيةٌ وحضارة؟ أم هي محبة للعلم والمعرفة؟ أم هي وطنية؟ أم هي قومية؟ أم هي دعوة إلى التمسك بأهداف الجمهورية؟..

    حاشَ لله وكلا لا شيء من هذا قط!

    بل هي قدر إلهي عادل أظهرَ من أهل العلم العداء لذلك الشخص فيما كان يتوقع الصداقة منهم لكيلا يدخل في علمه الرياءُ بسبب توقع الاحترام، وليفوز بالإخلاص.

    الخاتمة

    اعتداء محيّر لي يوجب الشكران!

    إنَّ أهل الدنيا المتكبرين المغرورين غروراً فوق المعتاد، لهم حساسيةٌ شديدة في معرفة الأنانية والغرور، بحيث لو كانت تلك المعاملة بشعورٍ منهم لكانت تعدّ كرامة أو دهاءً عظيماً. وهي كالآتي:

    إنَّ ما لا تشعر به نفسي وعقلي من حالة غرور جزئية متلبسة بالرياء، كأنهم يشعرون بها بميزان غرورهم وتكبرهم الحساس فيجابهون غروري الذي لا أشعر به.

    ففي غضون هذه السنين التسع تقريباً لي ما يقارب التسع من التجارب، حتى إنني عقب معاملتهم الجائرة نحوي، كنت أفكر في القدر الإلهي وأقول: لماذا سلّط القدرُ الإلهي هؤلاء عليّ؟ فأتحرى بهذا السؤال عن دسائس نفسي. ففي كل مرة، كنت أفهم: أن نفسي، إما أنها مالت فطرياً إلى الغرور والتكبر من غير شعور مني. أو أنها غرّتني على علم. فكنت أقول حينذاك: إن القدر الإلهي قد عدل في حقي من خلال ظلم أولئك الظالمين. فمنها:

    أنه في هذا الصيف، أركبني أصدقائي حصاناً جميلاً، فذهبتُ به إلى متنزه، وما إن تنبهت رغبة في نفسي نحو أذواق دنيوية مشوبة بالغرور من غير شعور مني حتى تعرّض أهل الدنيا لتلك الرغبة بشدة بحيث قطعوا دابرَها بل دابر كثير من رغبات أخرى في النفس.

    وفي هذه المرة، بعد شهر رمضان المبارك وفي جو من إخلاص الإخوة الكرام وتقواهم واحترام الزائرين وحُسن ظنهم، عقب الالتفات الذي أولاه إمامٌ عظيم سامٍ من السابقين نحونا بكرامة غيبية، رغبتْ نفسي في أن تتقلد -دون شعور مني- حالةَ غرور ممزوج بالرياء، فأبدت رغبَتها مفتخرة تحت ستار الشكر، وفي هذه الأثناء تعرّض ليَ فجأة أهلُ الدنيا بحساسية شديدة، حتى كأنها تتحسس ذرات الرياء.

    فإلى المولى القدير أبتهل شاكراً لأنعمه، إذ أصبح ظلمُ هؤلاء وسيلةً للإخلاص.

    ﴿ وَقُلْ رَبِّ اَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاط۪ينِ ❀ وَاَعُوذُ بِكَ رَبِّ اَنْ يَحْضُرُونِ ﴾

    اللّهم يا حافظ يا حفيظ يا خير الحافظين، احفظني واحفظ رفقائي من شر النفس والشيطان ومن شر الجن والإنسان ومن شر أهل الضلالة وأهل الطغيان.

    آمين.. آمين.. آمين.

    ﴿ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَٓا اِلَّا مَا عَلَّمْتَنَاۜ اِنَّكَ اَنْتَ الْعَل۪يمُ الْحَك۪يمُ ﴾



    اللمعة الحادية والعشرون | اللمعات | اللمعة الثالثة والعشرون

    1. قيل في حق السلطان «عبدالحميد» من قبل الشاعر «نامق كمال» في قصيدته «الحرية».
    2. يقول «سعيد الجديد»: أنا لا أشارك «سعيداً القديم» في أقواله هذه التي يقولها في هذا المقام مفتخراً. بيد أني لا أستطيع أن أسكته لأني قد أعطيته حق الكلام في هذه الرسالة. بل أوثر جانب الصمت نحوه كي يبدي شيئاً من فخره أمام المتكبرين. (المؤلف).