اللمعة العاشرة

    Risale-i Nur Tercümeleri sitesinden
    Bu sayfa Onuncu Lem'a sayfasının çevrilmiş sürümü ve çeviri %100 tamamlandı.
    Diğer diller:

    رسالة «لطمات الرأفة وصفعات الرحمة»

    بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ

    ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًاۚۛ وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُٓوءٍۚۛ تَوَدُّ لَوْ اَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُٓ اَمَدًا بَع۪يدًاۜ وَيُحَذِّرُكُمُ اللّٰهُ نَفْسَهُۜ وَاللّٰهُ رَؤُ۫فٌ بِالْعِبَادِ ﴾ (آل عمران:٣٠)

    هذه اللمعة تفسّر سراً من أسرار هذه الآية الكريمة، وذلك بذكر لطماتِ تأديبٍ رحيمة وصفعاتِ عتابٍ رؤوفة تلقاها إخوتي الأحبة العاملون في خدمة القرآن الكريم، وذلك من جراء أخطاء ونسيان وغفلة وقعوا فيها بمقتضى جبلّتهم البشرية.

    وستُبيَّن سلسلة من كرامات يجريها الله سبحانه في خدمة قرآنه العظيم.. مع بيان نوع من كرامة الشيخ الكيلاني الذي يمدّ هذه الخدمة المقدسة بدعائه وهمته ويراقبها بإذن إلهي.

    نبين هذه الكرامات لعل العاملين في سبيل القرآن يزدادون ثباتاً وإقداماً وجدّية وإخلاصاً.

    نعم، إن كرامة العمل للقرآن الكريم، هذه الخدمة المقدسة، ثلاثة أنواع:

    النوع الأول: تهيئة وسائل العمل والخدمة، وسَوق العاملين فيها إلى الخدمة.

    النوع الثاني: رَدّ الموانع من حولها، ودفعُ الأضرار عنها، وتأديبُ من يعيق ســـيرَها، بإنزال عقوبات بهم..

    هناك حوادث كثيرة جداً حول هذين القسمين، ويطول الحديث عنهما ([1]) لـــذا نؤجــل الكلام فيهما إلى وقـــت آخر خشية الســـأم. ونشـــرع في البحث عن النوع الثالث الذي هو أخفّها تناولاً وأبسطُها فهماً.

    النوع الثالث: هو أن العاملين المخلصين في هذه الخدمة القرآنية، حينما يعتريهم الفتورُ والإهمال في العمل يأتيهم التحذيرُ والتنبيه فيتلقون لطمةً ذاتَ رأفة وعطف، وينتبهون من غفلتهم، ويسرعون بجد للخدمة مرةً أخرى. إنَّ حوادث هذا القسم تربو على المائة، إلّا أننا نسوق هنا ما يقرب من عشرين حادثة جرت على إخواننا، عشرة ونيفٌ منهم تلقوا لطمةَ حنان رؤوفة، بينما تلقّى حوالي سبعة منهم لطمةَ زجرٍ عنيفة.

    فالأول منهم:

    هو هذا المسكين.. «سعيد»، فكلما انشغلتُ بما يعود على خاصة نفسي بما يفتر عملي للقرآن، أو انهمكتُ في أموري الخاصة، وقلت: ما لي وللآخرين! أتاني التحذيرُ وجاءتني اللطمة؛ لذا بتُّ على يقين من أن هذه العقوبةَ لم تنزل إلّا نتيجة إهمالي وفتوري في خدمة القرآن؛ لأنني كنت أتلقى اللطمة بخلاف المقصد الذي ساقني إلى الغفلة.. ثم بدأنا مع الاخوة المخلصين نتابع الحوادث ونلاحظ التنبيهات الربانية والصفعات التي نزلت بإخوتي الآخرين.. فأمعنا النظر فيها، وتقصّينا كلاً منها، فوجدنا أنَّ اللطمة قد أتتهم مثلي حيثما أهملوا العملَ للقرآن وتلقّوها بضدِّ ما كانوا يقصدونه، لذا حصلتْ لدينا القناعةُ التامة بأن تلك الحوادث والعقوبات إنما هي كرامة من كرامات خدمة القرآن.

    فمثلاً هذا السعيد الفقير إلى الله تعالى.. فعندما كنت منشغلاً بإلقاء دروسٍ في حقائق القرآن على طلابي في مدينة «وان» كانت حوادث «الشيخ سعيد»(∗) تقلق بال المسؤولين في الدولة. وعلى الرغم من ارتيابهم من كل شخص، لم يمسّوني بسوء، ولم يجدوا عليَّ حجةً مادمتُ مستمراً في خدمة القرآن. ولكن ما إن قلتُ في نفسي: «ما لي وللآخرين»! وفكرتُ في نفسي فحسب، وانسحبتُ إلى جبل «أرك» لأنزوي في مغاراته الخربة، وأنجو بنفسي في الآخرة، إذا بهم يأخذوني من تلك المغارة وينفوني من ولاية شرقية إلى أخرى غربية، إلى «بوردور».

    كان المسؤولون في هذه المدينة يراقبون المنفيين مراقبةً شديدة، وكان على المنفيين إثباتُ وجودِهم بحضورهم مساءَ كلِّ يوم لدى الشرطة إلّا أنني وطلابي المخلصين استُثنينا من هذا الأمر ما دمتُ قائماً بخدمة القرآن، فلم أذهب لإثبات الحضور ولم أعرف أحداً من المسؤولين هناك. حتى إن الوالي شكا من عملنا هذا لدى «فوزي باشا» ([2]) عند قدومه إلى المدينة، فأوصاه: «احترموه! لا تتعرضوا له!». إن الذي أنطقه بهذا الكلام هو كرامةُ العمل القرآني ليس إلّا، إذ حينما استولت عليَّ الرغبةُ في إنقاذ نفسي وإصلاح آخرتي، وفترتُ عن العمل للقرآن -مؤقتاً- جاءتني العقوبةُ بخلاف ما كنتُ أقصده وأتوقعه، أي نُفيتُ من «بوردور» إلى منفى آخر.. إلى «إسبارطة».

    توليتُ هناك العملَ للقرآن العظيم كذلك.. ولكن بعد مرور عشرين يوماً على الخدمة القرآنية كثُرت عليَّ التنبيهات من بعض المتخوفين، حيث قالوا: ربما لا يُحبذُ مسؤولو هذه البلدة عملكَ هذا! فهلَّا أخذتَ الأمر بالتأنّي والتريث؟!.. سيطر عليَّ الاهتمامُ بخاصة نفسي وبمصيري فحسب، فأوصيتُ الأصدقاء بترك مقابلتي وانسحبتُ من ميدان العمل.. وجاء النفيُ مرة أخرى.. فنفيت إلى منفىً ثالث.. إلى «بارلا».

    وكنتُ فيها كلما أصابني الفتورُ في العمل للقرآن واستولى عليَّ التفكير بخاصة نفسي وإصلاح آخرتي، كان أحدُ ثعابين أهل الدنيا يتسلط عليَّ، وأحدُ المنافقين يتعرض لي. وأنا على استعداد الآن أن أسرد على مسامعكم ثمانين حادثة من هذا النوع خلال ثماني سنوات قضيتُها في «بارلا» ولكنْ خشيةَ الملل أقتصر على ما ذكرت.

    فيا إخوتي! لقد ذكرتُ لكم ما أصابتني من لطمات الرأفة وصفعات الشفقة والحنان، فإذا سمحتم بأن أسردَ ما تلقيتموه أنتم من لطمات رؤوفة أيضاً فسأذكرها، وأرجو ألّا تستاءوا، وإن كان فيكم من لا يرغب في ذكرها فلن أُصرّحَ باسمه.

    المثال الثاني:

    هو أخي «عبد المجيد» وهو من طلابي العاملين المخلصين المضحين.. كان يملك داراً أنيقةً جميلة في «وان» وحالتُه المعاشية على ما يرام، فضلاً عن أنه كان يزاول مهنة التدريس.. فعندما استوجبتْ خدمةُ القرآن ذهابي إلى مكان بعيد عن المدينة، على الحدود، أردتُ استصحابه، إلّا أنه لم يوافق وكأنه رأى أنه من الأفضل عدمَ ذهابي أنا كذلك، حيث قد يشوبُ العملَ للقرآن شيءٌ من السياسة وقد يعرّضه للنفي، وفضّل المكوث حيث هو ولم يشترك معنا. ولكن جاءته اللطمةُ الرحمانية بما هو ضد مقصوده، وعلى غير توقع منه، إذ أُخرج من المدينة وأُبعد عن منزله الجميل وأُرغم على الذهاب إلى «أرغاني». ([3])

    الثالث:

    وهو «خلوصي» وهو من البارزين في خدمة القرآن، فعندما سافر من قضاء «أكريدر» إلى بلدته، تيسرتْ له أسبابُ التمتع بمباهج الدنيا وسعادتها، مما دفعه إلى شيء من الفتور عن خدمة القرآن الخالصة لله. حيث التقى والديه اللذين كان قد فارقهما منذ مدة مديدة، وحَلَّ في مدينته وهو بكامل بزّته العسكرية ورتبته العالية، فبدت الدنيا له حلوةً خضرة.

    نعم، إن العاملين في خدمة القرآن إما أن يُعرِضوا عن الدنيا أو الدنيا تُعرِضُ عنهم، كي ينهضوا بالعمل بجدٍ ونشاطٍ وإخلاص..

    وهكذا فعلى الرغم من أن قلب «خلوصي» ثابت لا يتزعزع، وهو رابط الجأش، فقد ساقه هذا الوضعُ الجميل الذي ابتسم له، إلى الفتور.. فجاءته لطمةٌ ذات رأفة، إذ تعرّض له عددٌ من المنافقين طوال سنتين متواليتين، فسلبوه لذةَ الدنيا وأفقدوه طعمَها، حتى جعلوه يمتعض منها ويعزف عنها، والدنيا تمتعض منه وتعزف عنه، وعندها التف حولَ راية العمل القرآني واستمسك بها بجدٍ ونشاط.

    الرابع:

    هو «الحافظ أحمد المهاجر» وسيقصُّ عليكم ما وقع له بنفسِه.

    نعم، لقد أخطأتُ في اجتهادي في خدمة القرآن، حيث فكرتُ لإنقاذ آخرتي، فما أن بَدا فيّ هذا النوع من الرغبة فترتُ عن العمل للقرآن. فأتتني لطمةٌ رؤوفة، رغم ما فيها من قوة وشدة، بل كانت في الحقيقة صفعةً شديدة وزجراً عنيفاً، أرجو الله تعالى أن تكون كفارةً عما بدر مني من غفلة عن العمل لقرآنه العظيم. والحادثة كانت كالآتي:

    كان الأستاذ لا يوافق على محدَثات الأمور ([4]) وحيث إن الجامع الذي أؤدي فيه الصلاة جماعةً يقع بجوار مسكن الأستاذ، والشهور المباركة -رجب شعبان رمضان- مقبلةٌ علينا، فقد حدثتني نفسي بالآتي:

    إن لم أؤدِ الصلاة على الوجه البدعي، أُمنَع من عملي، وإن تركتُ الجامع ولم أُصلِّ فيه إماماً للجماعة، يضيع مني ثوابٌ عظيم ولاسيما في هذه الشهور الثلاثة، فضلاً عن أن أهلَ المحلة سيعتادون على ترك الجماعة.. فرغبتُ في نفسي أن لو يغادر الأستاذ -وهو أحبُّ إليَّ من روحي- القريةَ «بارلا»، يغادرها مؤقتاً إلى قرية أخرى كي أؤدي الصلاة وفق الأمور المُحدَثة. ولكن فاتني شيءٌ هو أن لو غادر الأستاذ هذا المكان فسوف يَفتُرُ العمل للقرآن ولو مؤقتاً. فجاءتني العقوبةُ في هذه الأثناء، وكانت لطمةً قوية جداً مع ما فيها من حنانٍ ورأفة. حتى إنني لم أفق من شدتها منذ ثلاثة شهور.

    فأملي عظيم في سعة رحمته تعالى أن يجعل كلَّ دقيقة من دقائق تلك المصيبة بمثابة عبادةِ يوم كامل -كما أخبرني به الأستاذ بما ألهمه الله- حيث إنّ ذلك الخطأ لم يكن قد بَدرَ مني لدوافعَ شخصية، وإنما هو خطأٌ اجتهادي في التفكير، ولم ينجم إلّا عن تفكيري بآخرتي وحدها.

    الخامس:

    هو «السيد حقي». وحيث إنه ليس حاضراً معنا، فسأنوب عنه كما نُبْتُ عن «خلوصي» فأقول:

    كان «السيد حقي» يُوفي حقَّ مهمته في العمل للقرآن أيّما إيفاء. ولكن عندما عُيّن قائمقام سفيه للقضاء، فكَّر السيد حقي أن يُخبئ ما لديه من «رسائل» خشيةَ أن يصيبَه وأستاذه أذىً منه، فترك خدمة النور مؤقتاً، وإذا بلطمةٍ ذات رحمة وحنان تواجهه، إذ فُتحت عليه دعوى كادت تُلجئه إلى دفع ألف ليرة كي يَبرأ منها، فبات تحت وطأة التهديد طوال سنة كاملة. حتى أتانا عائداً إلى وظيفته طالباً في خدمة القرآن، فأنقذه الله من تلك الورطة ورُفع عنه الحكم، وبُرئت ساحتُه.

    ثم عندما فُتح أمام الطلاب ميدانُ عمل جديد للقرآن وهو استنساخه بخط جميل وبنمط جديد، أُعطي للسيد حقي حصتَه من الاستنساخ، فأجاد القيام بما كُلّف، وكتب جزءاً كاملا من القرآن الكريم أحسن كتابة، ولكن لأنه كان يرى نفسه في حالة مضطرة من حيث ضروريات العيش، فقد لجأ إلى القيام بوكالة الدعاوى أمام المحاكم، من دون علمنا، وإذا به يتلقى لطمةً أخرى فيها الرأفة والرحمة له، إذ انثنَت إصبعُه التي كان يكتب بها القرآن الكريم. وحيث إننا لم نكن نعلم تورطَه في هذا العمل فقد كنا حائرين أمام ما نزل بإصبعه من بأسٍ، وعجزِه عن الاستمرار في كتابة القرآن.

    ثم علمنا أن الخدمة المقدسة هذه لا تقبل أن تدخل تلك الأصابع الطاهرة في أمور ملوثة، ([5]) فكأن الإصبع تقول بهذا الانثناء: لا يجوز لك أن تغمسني في نور القرآن الكريم ثم تغرقني في ظلمة الدعاوى. فنبهتْه..


    وعلى كل حال، فقد وضعتُ نفسي موضع «خلوصي»، وتكلمت بدلاً منه، فالسيد حقي أيضاً مثلُه تماماً. فإن لم يرضَ بوكالتي عنه فليكتب بنفسه اللطمةَ التي تلقاها.

    السادس:

    هو «السيد بكر»(∗) وسأتولى مهمة الكلام عنه لعدم حضوره معنا مثلما تكلمتُ بدلاً عن أخي عبد المجيد، فهو مثلُه أيضاً، أتوكل عنه معتمداً على إخلاصه ووفائه وصداقته الصميمة وثباته في الخدمة، واستناداً إلى ما يرويه «السيد سليمان»(∗) و«الحافظ توفيق الشامي»(∗) وأمثالُهم من الإخوة الأحبة:

    إن السيد بكر هو الذي تولّى القيام بطبع «الكلمة العاشرة» في إستانبول، فأردنا طبع «رسالة المعجزات القرآنية» أيضاً هناك قبل إحداث الحروف اللاتينية الحديثة، أرسلتُ رسالة كتبتُ له فيها: سنرسل لك ثمنَ طبع هذه الرسالة مع ثمن الرسالة السابقة. ولكنه عندما لاحظ أن الطبع يكلّف أربعمائة ليرة، وهو يعلم ما أنا فيه من فقر، أراد هو أن يدفع المبلغ من خالص مالِه وخطر ببالِه أنني لا أرضى بهذا العمل، فخدعته نفسُه فلم يباشر بالطبع، فأصاب الخدمةَ القرآنية من جراء تفكيره هذا ضررٌ بالغ.. وبعد مرور شهرين سُرِقَت منه تسعمائة ليرة، فكانت لطمةً رؤوفة وشديدة تجاه ما أصاب العمل من فتور. نسأل الله أن يجعل تلك الأموالَ الضائعة بمثابة صدقةٍ عن نفسه.

    السابع:

    هو «الحافظ توفيق» الملقّب بالشامي، وسيورد بنفسه الحادثة:

    نعم، لقد قمت بأعمال ساقتني إلى الفتور في خدمة القرآن. فأتتني لطمةٌ من جرائها، وتيقّنتُ بما لا يقبل الشك أن هذه اللطمةَ ليست إلّا من تلك الجهة، إذ كانت نتيجةَ خطأ مني في التفكير وجهلٍ مني في التقدير.

    اللطمة الأولى: عندما وزّع الأستاذ أجزاء القرآن الكريم علينا، كان حظي منها كتابة ثلاثة أجزاء، حيث قد أنعم الله عليَّ قدرةً على كتابة الحروف العربية وتجويدِها كخط القرآن الكريم. فالشوق إلى كتابة كتاب الله العزيز ولَّد فيّ فتوراً عن كتابة مسوّدات الرسائل وتبييضها، فضلاً عن أنه قد أصابني منه شيءٌ من الغرور، حيث كنت أعدّ نفسي فائقاً على أقراني في هذا العمل، بما أجده في نفسي من كفاية في حسن الخط العربي. حتى إنه عندما أراد الأستاذ إرشادي إلى أمور تخص الكتابة العربية، قلت بشيءٍ من الغرور: «هذا الأمر يعود لي، أعرف هذا فلا أحتاج إلى توصية!». فتلقيت لطمةَ عطفٍ ورأفة نتيجة خطأي هذا، وهي أنني عجزت عن بلوغ أقراني في الكتابة، فسبقوني في الجودة.. فكنت أحارُ من أمري هذا، لماذا تخلّفتُ عنهم رغم تميّزي عليهم؟! ولكن الآن أدركت أن ذلك كان لطمةً رحمانية، ضربتني بها كرامةُ خدمة القرآن، حيث لا تقبل الغرور!

    ثانيتها: كانت لديَّ حالتان تخلان بصفاء العمل للقرآن، تلقيتُ على أثرهما لطمةً شديدة. والحالتان هما:

    كنت أعد نفسي غريباً عن البلد، بل كنت غريباً حقاً، فلأجل تبديد وحشة الغربة جالستُ أناساً مغرورين بالدنيا، فتعلمتُ منهم الرياء والتملق، علاوة على تعرضي لفقر الحال -ولا أشكو- حيث لم أراعِ دستورَ الأستاذ المهم في الاقتصاد والقناعة، رغم تنبيه الأستاذ لي على هذه الأمور وتحذيري، بل توبيخي أحياناً. فلم أستطع -مع الأسف- إنقاذ نفسي من هذه الورطة.. نسأل الله العفو والمغفرة.. فهاتان الحالتان استغلّتهما شياطينُ الجن والإنس فأصاب العملَ للقرآن الفتورُ، وتلقيت لطمة قوية،

    إلّا أنها كانت لطمة حنان ورأفة، فأيقنت بما لا يدع مجالا للشك أن هذه اللطمة إنما هي من ذلك الوضع. وكانت على الوجه الآتي:

    على الرغم من أنني كنت موضعَ خطاب الأستاذ وكاتب مسودات رسائله وتبييضها طوال ثماني سنوات. فلم أنل مع الأسف من نورها ما كان يفيض على غيري في ثمانية شهور. فكنت أنا والأستاذ حائرين أمام هذا الوضع! ونتساءل: لماذا؟ أي لماذا لا يدخل نورُ حقائق القرآن شغاف قلبي.. بحثنا عن الأسباب كثيراً، حتى علمنا الآن علماً جازماً، أن تلك الحقائق إنما هي نورٌ وضياء،

    ولا يجتمع النورُ مع ظلمات الرياء والتصنع والتزلف للآخرين.. لذا ابتعدتْ معاني حقائق هذه الأنوار عني وغدت كأنها غريبةٌ عني. أسأله سبحانه وتعالى أن يرزقني الإخلاصَ الكامل اللائق للعمل، وينقذني من الرياء والتذلل لأهل الدنيا. وأرجوكم جميعاً -وفي المقدمة أرجو الأستاذ- أن تجهدوا في الدعاء لي.

    العبد المقصر

    الحافظ توفيق الشامي

    الثامن:

    هو «سيراني»: هذا الأخ صنو «خسرو»(∗) من المشتاقين لرسائل النور، ومن طلابي الأذكياء المجدّين.

    استطلعتُ ذات يوم رأي طلاب «إسبارطة» حول التوافق الذي يُعدّ مفتاحاً مهما لأسرار القرآن ولعلم الحروف. اشترك الجميعُ في المناقشة بجدّ، عدا هذا الشخص، ولم يكتف بعدم المشاركة في المناقشة بل أراد أن يصرفني عمّا أنا أعلمه من حقائق علماً يقيناً، إذ كان له اهتمامات بأمور أخرى، ثم بعث إليّ رسالة جارحة جداً، أصابتني في الصميم. فقلت: وا أسفاه! لقد ضيعتُ هذا الطالب النابه، فعلى الرغم من محاولتي توضيح الأمر له إلّا أن شيئاً آخر قد خالط الموضوع؛ فأتته اللطمةُ الرؤوفة.. ودخل السجن زهاء سنة.

    التاسع:

    هو «الحافظ زهدي الكبير».

    كان هذا الأخ يشرف على عمل طلاب النور في قصبة «أغروس» ولكن كأنه لم يكتف بالمنزلة المعنوية الرفيعة والشرف السامي الذي يتمتع به طلاب النور، لاتباعهم السُّنة الشريفة واجتنابهم البدع، فرغب في العثور على هذه المنزلة لدى أهل الدنيا فتسلّم وظيفة القيام بتعليم بدعةٍ سيئة، مرتكباً خطأً جسيماً مُنافياً لمسلكنا الذي هو اتباع السنة الشريفة. فتلقى لطمةً رهيبةً جداً. إذ تعرّض لحادثة كادت تمحو شرفَه وشرف أهله، وقد مست الحادثةُ «الحافظ زهدي الصغير» أيضاً مع الأسف بالرغم من أنه لا يستحق اللطمة. نسأل الله أن تكون تلك الحادثة المؤلمة بمثابة عمليةٍ جراحية لتصرف قلبَه عن الدنيا وتدفعه للإقبال على العمل القرآني الخالص لوجه الله، لتنفعه يوم القيامة.

    العاشر:

    هو «الحافظ أحمد».

    كان هذا الأخ يستنسخ الرسائلَ وينهل من أنوارها طوال ثلاث سنوات، وهو دؤوبٌ شغوف في عمله، ثم تعرض للاختلاط بأهل الدنيا لعلّه يدفع أذاهم عنه، ويتمكن من إبلاغ الكلام الطيب لهم وليكسب شيئاً من المنزلة لديهم، فضلاً عن أنه كان يرغب في أن يوسّعَ ما ضاق عليه من أمور الدنيا وهمومِ العيش ففتر شوقُه. واستغل أهلُ الدنيا ضعفَه بهذا الجانب فأصابه فتورٌ في عمله القرآني جرّاء تلك الأوضاع، فأتته لطمتان معاً:


    أولاها: ضُمّ إلى عائلته خمسةُ أشخاص آخرين بالرغم من ضيق معيشته، فأصبح حقاً في رهق شديد من العيش.

    ثانيتها: على الرغم من أنه كان مرهف الحس ولا يتحمل شيئاً من الكلام من أحد، فقد أصبح وسيلة لدسّاسين من حيث لا يعلم، حتى فقد موقعَه ومنزلته كلياً، وأصبح كثيرٌ من الناس يهجرونه، ففَقد صداقتهم بل عادوه.. وعلى كل حال؛ نسأل الله أن يغفر له، ونسأله أن يوفقه للإفاقة من غفلته ويعي الأمور ويعود إلى مهمته في خدمة القرآن.

    الحادي عشر:

    لم يسجّل ربما لا يرضى!.

    الثاني عشر:

    هو «المعلم غالب»(∗) لقد خدم هذا الأخُ بإخلاص وصدق في تبييض الرسائل، فقام بخدمات جليلة كثيرة، ولم يبدُ منه ضعفٌ أمام أية مشكلة من المشاكل مهما كانت.

    كان يحضر الدرس في أغلب الأوقات وينصت بكل اهتمام وشوق، ويستنسخ الرسائلَ لنفسه أيضاً، حتى استكتب لنفسه جميعَ «الكلمات» و«المكتوبات» لقاء أجرة قدرُها ثلاثون ليرة. كان يقصد من وراء هذا الاستنساخ نشرَ الرسائل في مدينته، وإرشاد أصدقائه، وبعد ذلك فترَ عن العمل ولم يقم بنشر الرسائل كما هو دأبُه، وذلك بسبب ما ساوره من الهواجس، فحجب نورَ هذه الرسائل عن الأنظار فأصابته على حين غرة حادثةٌ أليمة جداً، تجرّع من جرائها العذاب غصصاً مدة سنة كاملة، فوجد أمامَه عدداً غفيراً من أعداء ظالمين بدلاً من عداوة بضعة موظفين لقيامه بنشر الرسائل، ففقد أصدقاءَ أعزاء عليه.

    الثالث عشر:

    هو «الحافظ خالد»(∗) وسيذكر لكم الحادثة بنفسه:

    عندما كنتُ أعمل بشوق وحماسة في كتابة مسودات «رسائل النور»، كانت هناك وظيفة شاغرة، وهي إمامةُ المسجد في محلتنا. ورغبة مني -رغبة شديدة- لألبس جُبتي العلمية القديمة وعمامتها فترتُ مؤقتاً عن العمل وضعفتْ همتي وشوقي في خدمة القرآن فانسحبتُ من ساحة العمل القرآني جهلاً مني، فإذا بي أتلقى لطمةً ذات رأفة بخلاف ما كنت أقصده. إذ رغم الوعود الكثيرة التي قطعها المفتي على نفسه بتعييني، ورغم أني كنت قد توليت هذه الوظيفة لما يقرُب من تسعة أشهر سابقاً إلّا أنني حُرمتُ من لبس الجُبة والعمامة، فأيقنتُ أن هذه اللطمة إنما هي من ذلك التقصير في العمل للقرآن. إذ كان الأستاذ يخاطبني بالذات في الدرس فضلاً عن قيامي بكتابة المسودة، فانسحابي من العمل، ولاسيما من كتابة المسودة، أوقعَهم في حرجٍ وضيق.. وعلى كل حال فالشكر لله وحده الذي جعلنا نفهم فداحةَ تقصيرنا ونعلم مدى سمو هذه الخدمة، ونثق بأستاذٍ مرشد كالشيخ الكيلاني ظهيراً لنا كالملائكة الحفظة.

    أضعف العباد

    الحافظ خالد

    الرابع عشر:

    لطماتُ حنان ثلاثٍ صغيرة، أصابت ثلاثة أشخاص كل منهم يسمى «مصطفى».

    أولهم: «مصطفى جاويش»(∗) كان هذا الأخ يتولى خدمة الجامع الصغير، وتزويدَ مدفأته بالنفط، بل حتى علبة الكبريت كان يوفرها للجامع، فخدم طوال ثماني سنوات، ويدفع كلَّ ما تحتاجه هذه الأمور من خالص مالِه -كما علمنا بعدئذٍ- ولم يكن يتخلفُ عن الجماعة أبداً، ولاسيما في ليالي الجُمع المباركة إلّا إذا اضطر إلى ذلك بعمل ضروري جداً.

    أخبره أحدَ الأيام بعضُ أهل الدنيا مستغلين صفاءَ قلبه: بلّغ الحافظ فلاناً -وهو من كتّاب رسائل النور- لينزعْ عمامَته قبل أن يتأذى ويُجبر على نزعها، وبلّغ الجماعة أن يتركوا الأذان سراً. ([6]) ولم يعلم هذا الدنيوي الغافل أن تبليغَ هذا الكلام ثقيلٌ جداً على شخص مثل مصطفى جاويش من ذوي الأرواح العالية. ولكن لصفاء سريرته بلَّغ صاحبَه الخبرَ،

    فرأيت تلك الليلة في المنام أن يدي مصطفى جاويش ملطختان وهو يسير خلف القائمقام ويدخلان معاً غرفتي..! قلتُ له في اليوم التالي لذلك اليوم: أخي مصطفى! مَن قابلت اليوم؟ لقد رأيتُك في المنام وأنت مُلطخُ اليدين سائراً خلف القائمقام. قال: وا أسفاه، لقد أبلغني المختار كلاماً وأنا بلّغتُه الحافظَ الكاتب، ولم أعلم ما وراءه من كيد.

    ثم حدث في اليوم نفسه أن جاء بكمية من النفط للمسجد. وعلى غير المعتاد فقد ظَلَّ بابَ المسجد مفتوحاً فدخل عناق (صغير العنز) إلى حرم المسجد فلوث قريباً من سجادتي، وجاء أحدُهم فأراد تنظيف المكان فلم يجد غير إناء النفط، وحسبه ماءً فرشّ ما في الإناء إلى أطراف المسجد والعجيب أنه لم يشم رائحته. فكأن المسجد يقول بلسان حاله لـ«مصطفى جاويش»: «لا حاجة لنا إلى نفطك بعد الآن، لقد ارتكبتَ خطأً جسيماً». وإشارة لهذا الكلام المعنوي لم يشعر ذلك الشخص برائحة النفط بل لم يتمكن

    مصطفى من الاشتراك في صلاة الجماعة في ذلك اليوم وليلة الجمعة المباركة بالرغم من محاولاته. ثم ندم ندماً خالصاً لله، واستغفرَ الله كثيراً، فرجع إليه صفاءُ قلبه وخلوصُ عبادته والحمد لله.

    الشخصان الآخران المسمى كل منهما بـ«مصطفى». أولهما: مصطفى من قرية «قوله أونلي» وهو من الطلاب المجدّين، والآخر صديقُه الوفي هو «الحافظ مصطفى»؛ كنت قد بلّغتُ طلابي بأن لا يأتوا حالياً لزيارتي عقب العيد لئلا يفترَ العملُ للقرآن من جراء مراقبة أهل الدنيا ومضايقاتهم. واستثنيت من ذلك من كان يأتي فرداً فلا بأس به، وإذا بي أُفاجأ بثلاثة أشخاص معاً يأتون لزيارتي ليلاً، ويزمعون السفر قبل الفجر -إذا سمحت أحوالُ الجو بالسفر- فلم نتّخذ تدابيرَ الحذر، لا أنا ولا سليمان ولا مصطفى جاويش، بل نسيناها حيث ألقى كلٌ منا اتخاذَها على عاتق الآخر. وعلى كل حال غادرونا قبل الفجر، فجاءتهم اللطمةُ بعاصفةٍ شديدة لم نكن قد رأينا مثلَها في هذا الشتاء. استمرت ساعتين متواليتين فقلقنا عليهم كثيراً، وقلنا لن ينجوا منها، وتألّمتُ عليهم ألماً ما تألمت على أحد مثلهم. ثم أردت أن أبعث سليمان -لعدم أخذه بالحذر- ليتلقى أخبارَهم ويبلّغنا عن سلامة وصولهم. ولكن مصطفى جاويش قال: إذا ذهب سليمان فسيبقى هناك أيضاً، ولا يتمكن من العودة، وسأتبعه أنا أيضاً، وسيتبعني عبد الله جاويش وهكذا.. ولهذا وكّلنا الأمر إلى العلي القدير قائلين جميعاً: توكلنا على الله. وفوضنا الأمر إليه.

    سؤال: إنك تعدّ المصائب التي تصيب إخوانَك الخواص وأصدقاءك تأديباً ربانياً ولطمةَ عتاب لفتورهم عن خدمة القرآن، بينما الذين يعادون خدمةَ القرآن ويعادونكم يعيشون في بحبوحة من العيش وفي سلام وأمان. فلِمَ يتعرض صديقُ القرآن للّطمة ولا يتعرض عدوه لشيء؟

    الجواب: يقول المثل الحكيم: «الظلم لا يدوم والكفر يدوم» فأخطاءُ العاملين في صفوف خدمة القرآن هي من قبيل الظلم تجاه الخدمة، لذا يتعرضون بسرعة للعقاب ويُجازون بالتأديب الرباني، فإن كانوا واعين يرجعون إلى صوابهم.

    أما العدو فإن صدودَه عن القرآن وعداءه لخدمته إنما هو لأجل الضلالة، وإن تجاوزه على خدمة القرآن -سواء شعَر به أم لم يشعر- إنما هو من قبيل الكفر والزندقة، وحيث إن الكفرَ يدوم، فلا يتلقى معظمُهم الصفعات بذات السرعة، إذ كما يعاقَب من يرتكب أخطاءً طفيفة في القضاء أو الناحية،

    بينما يُساق مرتكبو الجرائم الكبيرة إلى محاكم الجزاء الكبرى،

    كذلك الأخطاءُ الصغيرة والهفوات التي يرتكبها أهلُ الإيمان وأصدقاء القرآن يتلقون على إثرها جزاءاً من العقاب بسرعة في الدنيا ليكفّر عن سيئاتهم ويتطهّروا منها،

    أما جرائمُ أهل الضلالة فهي كبيرة وجسيمة إلى حد لا تسعُ هذه الحياةُ الدنيا القصيرة عقابَهم، فيمهّلون إلى عالم البقاء والخلود وإلى المحكمة الكبرى لتقتصَّ منهم العدالةُ الإلهية القصاص العادل، لذا لا يلقون غالباً عقابهم في هذه الدنيا.

    وفي الحديث الشريف: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) ([7]) إشارة إلى هذه الحقيقة التي ذكرناها، أي أن المؤمن ينال نتيجةَ تقصيراته قسماً من جزائه في الدنيا، فتكون بحقه كأنها مكانُ جزاء وعقاب، فضلا عن أن الدنيا بالنسبة لما أعدّه الله له من نعيم الآخرة سجن وعذاب.

    أما الكفار فلأنهم مخلَّدون في النار، ينالون قسماً من ثواب حسناتهم في الدنيا، وتُمهَل سيئاتُهم العظيمة إلى الآخرة الخالدة، فتكون الدنيا بالنسبة لهم دارَ نعيم لما يلاقونه من عذاب الآخرة.

    وإلّا فالمؤمنُ يجد من النعيم المعنوي في هذه الدنيا ما لا يناله أسعدُ إنسان. فهو أسعدُ بكثير من الكافر من زاوية نظر الحقيقة. وكأن إيمان المؤمن بمثابة جنة معنوية في روحه وكفرَ الكافر يستعر جحيماً في ماهيته.

    سُب۟حَانَكَ لَا عِل۟مَ لَنَٓا اِلَّا مَا عَلَّم۟تَنَٓا اِنَّكَ اَن۟تَ ال۟عَلٖيمُ ال۟حَكٖيمُ


    اللمعة التاسعة | اللمعات | اللمعة الحادية عشرة

    1. فمثلاً: إن الذين ساموا طلاب النور العذاب والإهانة والعنت قد نالوا جزاءهم مثلها بل أزيد منها. (المؤلف).
    2. المقصود المارشال فوزي جاقماق الذي كان رئيس أركان الجيش التركي آنذاك.
    3. قضاء يبعد عن مدينة (وان) ٥٠٠ كم غرباً.
    4. أي الإقامة للصلاة ورفع الأذان باللغة التركية وأمثالها من البدع التي استحدثت منذ العشرينيات ودامت حتى سنة ١٩٥٠.
    5. حيث الدعاوى تختلط فيها القضايا الباطلة مع الحق.
    6. حيث كانوا يرفعون الأذان الشرعي سراً والأذان البدعي أي بالتركية علناً.
    7. مسلم، الزهد ١؛ الترمذي، الزهد ١٦؛ ابن ماجه، الزهد ٣؛ أحمد بن حنبل، المسند ١٩٧/٢، ٣٢٣، ٣٨٩، ٤٨٥.