الشعاع الخامس عشر

    Risale-i Nur Tercümeleri sitesinden
    10.32, 10 Temmuz 2024 tarihinde FuzzyBot (mesaj | katkılar) tarafından oluşturulmuş 132177 numaralı sürüm (Kaynak sayfanın yeni sürümü ile eşleme için güncelleniyor)
    Diğer diller:

    الحجة الزهراء

    عبارة عن مقامين

    يبدو هذا الدرس ظاهرا رسالةً صغيرة، إلّا أنها في الحقيقة رسالةٌ عظيمة وقوية وواسعة جدا. وهي فاكهةٌ إيمانية وثمرة قرآنية فردوسية أينعت من حياتي التفكرية ومن اتحاد علم اليقين وعين اليقين في حياة النور المعنوية التحقيقية.

    سعيد النورسي

    المقام الأول

    على ثلاثة أقسام

    من الدرس الذي أُلقي في المدرسة اليوسفية الثالثة. وهو خلاصة الخلاصة للمكتوب العشرين.

    بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ

    وبه نستعين

    فالذي قضى خمسا وثلاثين سنة معتزِلا الناسَ، وودّع الدنيا ونسيَها، ولاسيما في الليالي، حتى استوحش من الناس، لكثرة ما عانى من المراقبة المستديمة والترصّد الدائم لأعماله ترصدا ينطوي على حقد وضغينة وسوء طويّة، طوال ثلاثٍ وعشرين سنة، حتى أصبح يتضايق من أن يقضي ساعةً من وقته مع أحدٍ من الناس وفي مكان واحد، سوى مَن يشتاق إلى رسائل النور ومَن يقوم بمعاونته.. أقول: لقد نقلوا هذا الضعيف -أنا العاجز- إلى الزنـزانة الخامسة كرها، حيث الازدحام على أشده. ومنعوا إخوتي من التردد عليّ، بحجةِ رَفْعي دعوى إلى محكمة التمييز حول وضعي في السجن المنفرد أحد عشر شهرا.

    فحينما كنت مضطربا وقلِقا على عدم تحمل العيش في هذا الازدحام الكثيف، إذا بالجو يبرد بردا شديدا -علامةً على الغضب- بحيث لو كنت في مكاني السابق لما تحملتُه قطعا. فانقلب لي العُسر يسرا، ونـزلت بي تلك الشدةُ رحمةً منه تعالى.

    فخطر للقلب:

    على الرغم من قيام طلاب النور بأداء وظيفتهم -ونيابةً عنك- في تبليغ حقائق رسائل النور بجدّ وإخلاص، في كل ردهة من ردهات السجن، فإن هذه الردهة الخامسة الشبيهة بموضع انـزواء الزاهدين يتجدد دائما ويتبدل، فهي إذن أحوجُ ما تكون إلى دروس النور.

    وكذا الشباب والشيوخ لاشك أنهم بأمسّ الحاجة إلى دروس يقينية وراسخة في إثبات وجوده تعالى وإثبات وحدانيته سبحانه. حيث يقرؤون ما تكتبه الصحفُ من هجوم الروس على الإيمان بهجمات الإلحاد الرهيبة، وإنكار الخالق العظيم.

    فالذي ورد إلى القلب أثناء الأذكار عقب الصلاة هو هذا. وذكرتُ بدوري التهليلَ الذي أذكره منذ السابق عقب صلاة الفجر عشر مرات، وهو: «لا إلٰهَ إلّا الله وحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحَمْدُ يُحْيِي ويُمِيتُ وهو حَيٌّ لَا يَمُوتُ بِيَدِهِ الخَيْرُ وهو عَلى كل شَيءٍ قَدِيرٌ وإلَيْهِ المَصِيرُ». ([1])

    هذا التهليل العظيم والتوحيد الجليل الذي يحمل الاسم الأعظم -حسب روايةٍ- قد فصّله «المكتوب العشرون» العظيمُ تفصيلا واضحا ساطعا كالشمس، وذلك في إحدى عشرة كلمة من كلماته في أحد عشر برهاناً من براهينِ وجوب وجوده تعالى ووحدانية ربوبيته، وأورد إحدى عشرة بشارة من البشارات السارة.

    نعم، كنت أكرر هذه الجملة المقدسة بتدبر عميق مع التفكر في خلاصةٍ موجزة للمكتوب العشرين، فخطر للقلب فجأةً: ألقِ هذه الخلاصة الموجزة درسا للعالم الفاضل «نادر» ومن يقيم هنا من الشباب. وأنا بدوري قلت: بسم الله.. وبدأت بإلقاء الدرس:

    إن في هذا الكلام التوحيدي إحدى عشرة بشارة، وإحدى عشرة حجة إيمانية. سأشير إلى الحجج وحدَها بإشارة قصيرة جدا مُحيلا إيضاحاتِها وبشاراتها إلى «المكتوب العشرين» وإلى أجزاء رسائل النور.

    وعندما كتبتُ هذا الدرس، رأيتُ من الأنسب أيضا إدراجَ مالم أُفصح عنه للمسجونين من كلمات ونكات فيه.

    وهكذا، فالكلمات الإحدى عشرة من ذلك الكلام التوحيدي هي الآتية:

    الكلمة الأولى: «لا إله إلّا الله»

    إن الحجة الإيمانية في هذه الكلمة هي رسالة «الآية الكبرى» تلك الرسالة الخارقة التي لا نظير لها.

    فقد أدت إلى نيل طلاب النور بالبراءة من المحكمة، وظهورِهم في سجن «دنيزلي» وانتصارهم في كلٍ من محاكم «أنقرة ودنيزلي» وانتشارها بالخفاء انتشارا مؤثرا. مثلما أصبح طبعُها سرا سببا لاعتقال طلابها تسعة أشهر.

    نعم، إن شعاع «الآية الكبرى» أظهر ثلاثةً وثلاثين إجماعا عظيما وحججا كلية في الكون كله، مع إشارته في كل حُجة كلية إلى براهينَ غير محدودة تُثبت وجودَ واجبِ الوجود، ووحدانيتَه إثباتا ساطعا واضحا وضوح النهار. فيستنطق السماوات بكلمات النجوم في المقدمة ثم الأرضَ بجُمَل الحيوانات والنباتات وهكذا حتى يستنطق الكونَ كله بكلمات حقائق الحدوث والإمكان والتغيّر..

    فعلى الذين يطلبون إيمانا راسخا لا يتزعزع والباحثين عن سيف لا ينثلم تجاه الفوضى الملحدة أن يراجعوا رسالة «الآية الكبرى».

    الكلمة الثانية: «وحده»

    والإشارة الوجيزة إلى الحجة التي فيها هي:

    أن في كل جهة من جهات هذا الكون وفي كل ناحية من نواحيه تُشاهَد وحدةٌ واضحة:

    فمثلا: الكون كله أشبه ما يكون بمدينة عامرة، وقصر شامخ وكتاب بليغ مجسم، بحيث إن كلَ آية فيه، بل كل حرف من حروفه، بل كل نقطة من نقاطه في حُكم معجزةٍ وقرآنٍ مجسّد.

    نعم، فكما يبين هذا وحدةً واضحة في الكون، فإن مصباحَ ذلك القصر مصباحٌ واحد، وقنديلَه الذي يبين الأوقات واحد أيضا، وطبّاخه المالك للنار.. واحد. وساقيه بالماء.. واحد، وهكذا واحد.. واحد.. واحد. حتى يبلغ الألف وواحد من الواحد والوحدة.

    وبإظهار الكون هذه الوحدة في كل شيء، يثبت أن صاحبَ ذلك القصر وتلك المدينة وذلك الكتاب، ذلك القرآن الكبير المجسم، وكاتبَه ومصنّفَه، موجودٌ وواحدٌ أحدٌ.

    الكلمة الثالثة: «لا شريك له»

    والإشارة المختصرة جدا إلى ما فيها من حجة هي:

    الآية الجليلة: ﴿ قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُٓ اٰلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ اِذًا لَابْتَغَوْا اِلٰى ذِي الْعَرْشِ سَب۪يلًا ﴾ (الإسراء:٤٢) التي هي منبعُ شعاع «الآية الكبرى» وأستاذه، وأساسه.

    نعم، لو كان معه آلهةٌ ولها مُداخلة في الخلق والإيجاد والربوبية لَفَسد نظامُ الكون كله واختل. بينما يُشاهَد أكملُ نظام وأدقّه في كل شيء ابتداءً من جناح ذبابة صغيرة، ومن بؤبؤ عينها ومن حجيرتها الصغيرة وانتهاءً إلى الطائرات الجوية، تلك هي الطيور التي لا تعد ولا تحصى، وإلى المنظومة الشمسية.. ففي كل شيء في الوجود يُرى أكملُ نظام سواءً أكان جزئيا أم كليا، صغيرا أم كبيرا. مما يُثبت هذا النظامُ الأكمل إثباتا لا يحتمل الشك أنّ الشرك محالٌ وجودُه، وأنه معدومٌ أصلا، ويُثبت أيضا إثباتا واضحا وجودَ واجبِ الوجود ووحدته.

    الكلمة الرابعة: «له الملك»

    وإشارة قصيرة جدا إلى ما فيها من حجة طويلة هي:

    أننا نشاهد بأبصارنا أنّ وراء حجاب الغيب مَن هو متصرفٌ بالأمور مالكٌ لقدرة مطلقة لا يحدّها حدّ ويملك من العلم مالا يحدّه حدود، إذ جَعل وجه الأرض مزرعةً واسعة سعةَ الأرض كلها، ينثر فيها كل ربيع بذورا تزيد على مائة ألف نوع من النباتات، ينثرها جميعا معا ومختلِطا بعضها ببعض، ثم يجني محاصيلَها جنيا متمايزا دون اختلاط ولا التباس مع انتظام كامل، ويوزّع بيد الرحمة والحكمة على مائتي ألف نوع من الحيوانات ما يلائمُهم من رزق معيّن على حسب حاجتهم. وهكذا يُصرّف الأمور على سعة ملكه الواسع الفسيح، الغني المعطاء. ولاسيما مزرعة الأرض.

    فالذي لا يؤمن بهذا المتصرف الحكيم والملك الرحيم يضطر إلى إنكار هذه الأرض مع محاصيلها ويكون كالسوفسطائيين الحمقى.

    الكلمة الخامسة: وهي «وله الحمد»

    إن إشارة مختصرة جدا إلى ما فيها من حجة واسعة جدا هي:

    أننا نشاهد بأبصارنا وندرك بعقولنا إدراكا لحد البداهة: أن رزاقا رحيما ومحسنا كريما يتصرف ويدبّر أمور مدينة الكون ويرعى شؤون حي الأرض، ويربّي معسكر الإنسان والحيوان، حتى إنه حوّل الأرض إلى سفينة تجارية، وإلى قطار لجلب الأرزاق، ليبعث على الشكر والحمد بما يغدُق من نِعَمه التي لا تعد ولا تحصى جاعلا من الربيع المبسوط على وجه الأرض ما هو بمثابة عربة القطار، المشحونة بمائة ألف نوع ونوع من أنواع الأطعمة، وملأ الأثداء الشبيهة بالمعلّبات باللبن السائغ لإمداد ذوى الحياة المعوزين الذين نفدت أرزاقُهم نهاية الشتاء. فمَن يملك ذرة من عقل يؤمن بلا شك أن هذا الأمر إنما هو من أفعالِ رزاقٍ رحيم. ومن لا يؤمن بهذا ويضل ضلالا بعيدا يضطر إلى إنكار جميع النعم المنضودة والأرزاق المعينة الباعثة على الحمد والشكر، وليس هو إلّا أحمقَ حيوانٍ مضر.

    الكلمة السادسة: وهي «يحيي»

    إن إشارة مختصرة جدا إلى ما فيها من حجة هي:

    ما أُثبِتَ في «الكلمة العاشرة» وفي أجزاء رسائل النور بالبراهين القوية أنه: يُبعث على سطح الأرض في كل ربيع جيشٌ سبحاني ضخم مؤلََّف من ثلاثمائة ألف نوع من أنواع ذوى الحياة وبما لا يحد من الأفراد في أشكال متنوعة وأنماط مختلفة. فتُوهَب لها الحياةُ، وتُجهَّز بكل ما يلزم الحياةَ وبانتظام كامل، مما يبين لنا مائة ألف نموذج من نماذج الحشر الأعظم، بل من أماراته..

    فالذي يحيي كل تلك المخلوقات المتنوعة غير المحدودة معا، وهي مختلطةٌ ومكتنفة ومتشابكة بعضُها في بعض، بلا سهو ولا خطأ ولا نقص، ومن دون تحيّر، ويميّزها برغم اختلاطها وامتزاجها، وبلا نسيان لأحد منها، ويهب لها الحياة بكمال الميزان والنظام ويبعثها من نُطَفها التي هي قطرات ماء متماثلة، ومن نواها المتشابهة، ومن حبيبات لا يتميز بعضُها عن بعض إلّا قليلا، ومن بويضات الحشرات التي هي عينُ الأخرى ومن نُطف الطيور، ومن بويضاتها التي هي عين بعضها أو بفروق طفيفة.. فالذي يحيي تلك المئات من الألوف من ذوى الحياة التي تضم أفرادا لا تعد ولا تحصى، المتباينةِ صورةً، وصنعة ومعيشةً، ويبعث تلك المئات من الألوف من الأحياء، ويكتب مائة ألف كتاب مختلفٍ بعضُها عن بعض على صحيفة الأرض والربيع، يكتبها معا ومتداخلا وبلا خطأ كتابةً في أتم إتقان، ويتصرف فيها بعناية لا حدّ لها ويعمل فيها بحكمة لا منتهى لها. نعم.. إن الذي يفعل هذا إنما هو الخلاق العليم وهو المحيي والحي القيوم.. فمَن لا يعتقد بهذا لاشك أنه مضطر إلى إنكار نفسه وإنكار جميع الأحياء المنتشرة على الأرض كافة والمعلقة على شريط الزمان في جميع مواسم الربيع الماضية والموجودة على وجوه الأرض الحية والفضاء الحي.. وما هو إلّا أحمقُ الأحياء وأشقاهم.

    الكلمة السابعة: وهي «ويميت»

    إن إشارة في منتهى الاختصار إلى حججها هي:

    أننا نشاهد عندما تُسرَّح ثلاثمائة ألف نوع من الأحياء من وظائفها باسم الموت في الخريف، فإنّ كلَّ نوع وكلَ فرد يُودِع بذورَه إلى يد الحكمة للحفيظ الجليل، تلك البذور التي هي عُليباتُ صحائفِ أعماله، وفهارسُ أفعالهِ، وقوائم ما سيعمله في الربيع المقبل، وهي شبيهةٌ بروحه الباقية من جهة -كبُذيرات التين المتناهية في الصغر التي تحمل جميعَ قوانين الحياة لشجرتها، فهي بمثابة روح باقية لها- فيَكتب فيها الخلّاقُ الحكيم، الحي الذي لا يموت، بقلم القَدَر-كالكتابة في القوة الحافظة- تاريخَ حياة الشجرة وكأنها كتابٌ ضخم.. فمَن لا يؤمن بهذا الخلّاق الحكيم الحي الذي لا يموت، ليس هو إنساناً أحمق وحيواناً فاقد الشعور فقط، بل هو كذلك أشقى من شيطان تُضرم به نارُ جهنم ومحكوم عليه بالموت الأبدي.

    نعم، إن هذه الأفعال المذكورة والتي تشير إلى حجج هذه الكلمات، وهي أفعال حكيمة كلية محيطة وفي منتهى الإعجاز وتضم ما لا يتناهى من المعجزات والخوارق.. هذه الأفعال لا يمكن أن تكون بلا فاعل قطعا، بل ذلك محال بمائة محال، وباطل إطلاقا، فإسنادُها إلى الأسباب العمياء الصماء العاجزة الفاقدةِ للشعور، الجامدةِ المختلطة المستولية غير المنتظمة، ممتنعٌ بألف مرة ومرة ولا أساس له قطعا.

    فلو فُوّضت تلك الأفعالُ الحكيمة إلى غير الفاعل الحكيم لَلَزم وجودُ قدرة مطلقة وحكمة مطلقة وإتقانٍ بديع كلي تخص تَشَكُّل جميعِ الأعشاب والأزاهير في كل ذرة من ذرات التراب.. ويلزم وجودُ قابليةِ فهـمٍ وإفهامِ أقوال ومكالمات وكلماتِ جميعِ الهواتف والراديوات في كل ذرة من ذرات الهواء. كما ذُكر في نكتة توحيدية في لفظ «هو» في «مرشد الشباب».

    وهذا المفهوم الغريب العجيب لا يسع أيَّ شيطان كان أن يقنع به أحدا قط،

    فالكفر والإنكار الذي هو خارجٌ عن نطاق العقل إلى هذا الحد وبعيدٌ كل البعد عن الحقيقة وهو إهانةٌ للكائنات كلها وتَعدّ على حقوقها.. لا جزاءَ له إلّا النار، وهو عينُ العدالة. فينبغي القول: «لتعش جهنم لمثل هؤلاء المنكرين».

    الكلمة الثامنة: «وهو حي لا يموت»

    إن إشارة مختصرة جدا إلى ما فيها من حجة هي:

    أن الشُميسات المشاهَدة مثلا أثناء النهار على حَباب وجه البحر وعلى سطح النهر الجاري، تختفي بذهاب تلك الحباب، فتَظهر الشُميسات التي تعقبها كسابقاتها، فتشير بهذا إلى الشمس التي في السماء وتشهد عليها. وتدل بزوالها ووفاتها على وجود شمس دائمية وعلى بقائها.

    كذلك المخلوقات على وجه بحر الكون المتبدل دوما وفي فضائه المتجدد الذي لا يحد، وفي مزرعة ذراته، هذه المخلوقاتُ تسيل سراعا وباستمرار في نهر الزمان الذي يتموج محتضنا جميعَ الحوادث والموجودات الفانية، وتموت مع أسبابها الظاهرية. فيذوق كونٌ الموتَ كلَّ سنة، وكلَ يوم، ويحل آخرُ جديدٌ محله، وتموت دنىً سيارةٌ باستمرار وعوالمُ سيالةٌ في مزرعة الذرات بعد أخذ المحاصيل منها.

    فكما تُبين الحبابُ والشُميساتُ بزوالها الشمسَ الدائمة، فإن وفاةَ تلك المخلوقات غير المحدودة وزوالَ تلك المحاصيل، وتسريحها مع أسبابها الظاهرية تسريحا بكمال الانتظام، تدل دلالة قاطعة كالنهار الأبلج والشمسِ في وضح النهار على وجوب وجود الحي الذي لا يموت، على الشمس السرمدية، على الخلاق الباقي، على الآمر الأقدس، وعلى وحدانيته جلّ وعلا وعلى وجوده، دلالة ظاهرة أظهرَ من وجود الكائنات نفسها بألف مرة.. والشاهد على هذا كل موجود بحدّ ذاته وكل الموجودات معا.

    فلا شك أَنْ قد أدركتم مدى حماقةِ وصمم وجنايةِ مَن لا يسمع هذه الأصوات العالية التي تملأ فضاءَ الكون كله وهذه الشهاداتِ القاطعةَ الصادقة.

    الكلمة التاسعة: وهي «بيده الخير»

    إن إشارة في منتهى الاختصار إلى ما فيها من حجة هي:

    أننا نشاهد في كل دائرة من دوائر هذا الكون وفي كل نوع من أنواعه وفي كل طبقة من طبقاته حتى في كل فرد من أفراده، بل في كل عضو من أعضائه، بل حتى في كل حجيرة من حجيرات جسمه، مَخزنا احتياطيا ومستودَعا لادّخار الرزق، ومزرعةً وخزينة تهيئ ما يلزمه ويَقيه ، وتُسلّم -ما فيها- يدٌ غيبية إلى يد ذلك المخلوق في أنسب وقت ومن حيث لا يحتسب، بل بشكل خارجٍ عن طَوقه وإرادته، ضمن انتظام تام على وفق ميزان دقيق، ويتم ذلك كله في منتهى الحكمة وغاية العناية..

    فالجبال مثلا تَدّخِر كلَّ ما يلزم الأحياء والإنسان من معادنَ وأدويةٍ وكلَّ ما يلزم متطلبات الحياة. فهي خزائن مُلئت في غاية الكمال بأمر الواحد الأحد وبتدبيره. مثلما الأرضُ مزرعةٌ وبَيدرٌ ومطبخٌ تُهيئ أرزاق جميع الأحياء وبكمال الانتظام والميزان،

    وذلك بقوة الرزاق الحكيم، بل إن في كل إنسان وفي كل عضو من أعضائه مخزنا ومستودعا للادّخار، بل حتى في كل حجيرة من حجيرات الجسم أيضا مخزنٌ صغير يناسبه لخزن الاحتياطي من الأرزاق.. وهكذا في كل موجود مخزنٌ، حتى إن مخزنَ الآخرة هو دارُ الدنيا، ومزرعةُ الجنة ومستودَعُها هو عالمُ الإسلام وعالم الإنسانية الحقة، الذي تنبعث منه الحسناتُ والحُسنُ والأنوار. ومخزنٌ من مخازن جهنم هو المواد الفاسدة والطوائف الملوثة التي تُنتج حناظل الشرور والقبح والكفر، تلك الشرور الناتجة من العدم والملوِّثة لعوالم الوجود التي هي الخير. ومخزنُ حرارة النجوم وموردها جهنمُ، وخزينةُ أنوارها ومصدرها الجنةُ..

    وهكذا فإن كلمةَ «بيده الخير» بإشارتها إلى جميع تلك الخزائن غيرِ المحدودة تبين حجة ساطعة جدا.

    نعم، إن هذه الكلمة، وكذا عبارة: «بيده مقاليد كل شيء» حجتان للربوبية والوحدانية لا منتهى لسعتهما، وهما ذات خوارق ومعجزات لا حدود لها، تبيّنها هاتان الجملتان لمن لم يُطمَس على عينه. فانظر مثلا من تلك الخزائن والمقاليد غير المحدودة إلى هذه فحسب:

    إن المدبّر الحكيم المالك لمفاتيح البذور والنوى، تلك المخازنُ الصغيرة التي يضم كلٌ منها أجهزةَ منهاجِ مقدَّراتِ شجرة ضخمة أو زهرة فوّاحة، كما يوقظ بوّابَ بذرةٍ بأمره «أَفِقْ» بمفتاح الإرادة، وبميزانِ نظام تام؛ كذلك يفتح خزينةَ الأرض الهائلة بمفتاح الغيث، فيفتح جميعَ المخازن الصغيرة أي الحبيبات التي هي نطف النباتات وجميعَ مبادئ الحيوانات، والقطرات التي هي نطف الطيور والحشرات المتشكلة من هواء وماء، يفتحها جميعا ومعا وبلا خطأ وذلك بتلقّيها أمرَ الانفتاح والانكشاف.. ويفتح سبحانه في الوقت نفسه جميعَ خزائن الكون الكلية والجزئية، المادية والمعنوية، بمفتاح خاص لكل منها بيد الحكمة والإرادة والرحمة والمشيئة.

    فإن كنت تريد أن تعرف هذا وتراه فانظر إلى مخازنك الصغيرة وهي قلبُك ودماغُك وجسدك ومعدتك. وانظر إلى حديقتك وإلى الربيع الذي هو زهرةُ الأرض وإلى أزاهيره وثمراته، فإنه سبحانه يفتحها بيد غيبية بمفاتيح متباينة متنوعة آتية من مصنع ﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ . يفتحها بكمال النظام والميزان والرحمة والحكمة، فيُخرج رطلا بل مائة رطل من المطعومات أحيانا من درهم من عُليبات صغيرة، يُخرجها بكمال الانتظام والميزان مقيما بها ضيافةً فاخرة لذوي الحياة.

    فهل من الممكن أن تتدخل قوةٌ عمياء وطبيعة صماء ومصادفة عشواء وأسبابٌ جامدة جاهلة عاجزة في فعلٍ لانهاية له يؤدّى إلى هذه الدرجة من الانتظام والعلم والبصيرة، وفي صنعةٍ دقيقةٍ ذات حكمة تامة لا تدنو منها المصادفةُ قطعا، وفي تصرّفٍ موزون لا خطأ فيه إطلاقا، وفي ربوبيةٍ جليلةٍ عادلةٍ عدالةً تامة لا ظلم فيها أصلا؟

    وهل يمكن لمن لا يرى الأشياء كافة في آن واحد ولا يستطيع إدارتها كلها دفعةً واحدةً، ولا يجعل الذراتِ والنجومَ السيارة معا تحت أمره أن يتدخل في هذه الإدارة وتصريفِ الأمور التي جوانبُها كلها ذات حكمة ومعجزة وميزان؟

    وهكذا فمن لا يؤمن بمثل هذا المتصرف للأمور، المدبّر الرحيم، والربّ الحكيم، والذي بيده الخير، وله مقاليد كل شيء، ويضل ضلالا بعيدا، ليس له إلّا النار التي تستعر وتغضب حتى ﴿ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ ﴾ (الملك:٨) كما قال تعالى. فتقول جهنمُ بلسان حالها: إنه يستحق عذابي الخالد فليس هو أهلا للرحمة.

    الكلمة العاشرة: وهي «وهو على كل شيء قدير»

    إن إشارة مختصرة جدا إلى ما فيها من حجة هي:

    أن كل ذي شعور يأتي إلى هذه الدنيا المضيف، ويفتح عينه يرى: قدرةً تُمسك الكونَ كله في قبضتها، وتضم علما أزليا مطلقا لا يضلّ ولا ينسى وحكمةً سرمدية لا عبث فيها إطلاقا وتشمل عنايةً بالغة، بحيث تجعل كل فرد من أفراد جيش الذرات منجذبا جذبة مولوية، فتستخدمها في وظائف شتى، وتُجري في اللحظة نفسها الكرة الأرضية في دائرة واسعة تبلغ مسافتها أربعة وعشرين ألف سنة في سنة واحدة وتديرها كالعاشق المولوى المجذوب بالقانون نفسه.

    وإذ هي تجلب محاصيل المواسم إلى الحيوانات والإنسان، تجعل بالقانون نفسه في اللحظة نفسها الشمسَ مكوكا ودولابا وتُديرها في مركزها دورانَ منجذبٍ عاشقٍ أيضا مسخِّرةً النجومَ السيارة التي هي أفرادُ جيش المنظومة الشمسية في خدمات ووظائف جليلة بكمال الميزان والانتظام.

    وأن القدرة نفسها تكتب بقانون الحكمة نفسها في اللحظة نفسها مئاتِ الألوف من الأنواع على صحيفة الأرض كافة، والتي كل منها بمثابة مئات الألوف من الكتب، تكتبها معا ومتداخلة، وبلا التباس ولا سهو، مُظهرةً بها ألوفا من نماذج الحشر الأعظم.

    وأن القدرة نفسها، في اللحظة نفسها تحوّل صحيفة الهواء إلى لوحةِ محوٍ وإثبات، جاعلةً من ذراتها كلها كأنها نهايات قلم ذلك الكتاب ونقاطِه، مستعمِلةً إياها في وظائف كثيرة ضمن ما يعيّنه الأمر والإرادة الإلهية، حتى إنها أعطت قابلية إلى كلٍ من تلك الذرات لتتلقى الكلمات والمكالمات كلها كأنها تعلَم بها وتنشرها بلا خطأ ولا حيرة كأنها أُذينات صغيرة ولُسينات دقيقة. مما يُثبت أن عنصر الهواء عرشٌ للأمر والإرادة الإلهية.

    وهكذا فقياسا على هذه الإشارة المختصرة: فالذي جعل هذا الكون في حكم مدينة منسّقة، وقصر عامر، ومضيف فاخر، وكتاب معجز، وقرآن مبين، ويمسك في قبضة قدرته بميزان العلم ونظام الحكمة جميعَ طبقات المخلوقات ودوائرها وطوائفها ابتداءً من ذرة من ذراتها وانتهاءً إلى مجموع الكون كلِه، ويدبّر شؤونه ويتصرف فيه، ويُظهر ضمن تلك القدرة الجليلة حكمتَه البالغة ورحمتَه الواسعة، ويُعلِم ضمن ربوبيته المطلقة ويُعرّف بها وجودَه ووحدانيتَه تعريفا ظاهرا كالشمس في رابعة النهار. فيطلب إزاء تعريفه التعرّفَ إليه بالإيمان، وإزاءَ تودُّدِه ودَّه بالعبادة، وإزاء آلائِه شكرَه وحمدَه.

    فالذين لا يعرفون هذا الرحمن الرحيم ولا يَسْعون بالعبودية لحبِّه، بل يَضلون إلى الإنكار فيُضمرون نوعا من العداء تجاهه.. هؤلاء ليسوا إلّا شياطين في صور أناسي، وفي حكم نماردة صغار وفراعنة صُغر. ولاشك أنهم يستحقون عذابا خالدا لا نهاية له.

    الكلمة الحادية عشرة: وهي «وإليه المصير»

    أي إن المصير هو إلى دائرة حضوره، وإلى عالَمِه الباقي، وإلى دار آخرته، وإلى منـزل سعادته السرمدية، كما أنه مرجع جميع مخلوقات الكون فتستند إليه وترجع إلى قدرته جميعُ سلسلة الأسباب، علماً أن الأسباب ستائر وُضعتْ أمام تصرفات تلك القدرة، لأجل الحفاظ على هيبتها وعزتها المقدسة. فجميعُ الأسباب الظاهرية ستائرُ لا تأثير لها في الإيجاد قطعا. فلولا أمرُه جلّ وعلا وإرادتُه لا يقدر شيء -حتى الذرة- من الحركة.

    نشير إشارة مختصرة إلى ما في هذه الكلمة من حجة فنقول:

    أولا: إن حقيقة الحشر والآخرة والحياة الباقية التي تعبّر عنها هذه الكلمة المقدسة نحيل إثباتها والتصديق بها إلى «الكلمة العاشرة» وذيولِها وإلى «الكلمة التاسعة والعشرين» التي تُثبت تحققَها القاطع كتحقق الربيع المقبل، وإلى «المسألة السابعة من رسالة الثمرة»، وإلى شعاع «المناجاة»، وإلى الأجزاء الإيمانية لرسائل النور.

    حقا إن تلك الرسائل قد أثبتت هذا الركن الإيماني بحجج لا منتهى لها، بأنّ تحقق الآخرة ثابتٌ بدرجةِ تَحقُّق وجود الدنيا بحيث تلجئ حتى أعتى المنكرين إلى التصديق به.

    ثانيا: إن ثُلث القرآن المبين يبحث في الآخرة والحشر، ويبني كل الدعاوى على تلك الحقيقة. لهذا فكما أن جميعَ معجزات القرآن وحججه التي تثبت أحقيتَه تدل على وجود الآخرة، كذلك جميعُ معجزات الرسول ﷺ الشاهدة على صدق نبوته وجميعُ دلائل نبوته وجميعُ حجج صدقه تشهد على الآخرة والحشر؛

    لأن أعظم ما دعا إليه ذلك النبي الكريم ﷺ طوال حياته كلها هو الآخرة، كما أن مائة وأربعة وعشرين ألفا من الأنبياء الكرام عليهم السلام قد دَعوا جميعُهم إلى الحياة الباقية والسعادة الأبدية وبشّروا البشرية بها وأثبتوا صدقَ دعواهم بما لا يحد من المعجزات والدلائل القاطعة. فلا شك أن جميع معجزاتهم وحججهم الدالة على نبوتهم وعلى صدقهم في دعواهم تشهد أيضا على الآخرة والحياة الباقية التي هي أعظمُ وأدوم دعواهم.

    فقياسا على هذا فإن جميع الأدلة التي تثبت سائر الأركان الإيمانية تشهد بدورها على حدوث الآخرة وعلى انفتاح أبواب دار السعادة الخالدة.

    ثالثا: إن خالق هذا الكون الذي خلقه بجميع ذراته وسياراته وأجزائه وطبقاته مقلِّدا كلا منها بوظيفة بل وظائفَ كثيرة بكمال الحكمة ومسخِرا لها باستمرار إظهارا لكماله وقدرته وربوبيته، والذي يُرسل طوائفَ المخلوقات قافلةً إثر قافلة بل يرسل دنىً متعاقبة متجدّدة سيالة إلى مَضيف هذا العالم وإلى ميدان امتحان هذه الحياة الدنيوية لِيُظهر تجليات غير محدودة لأسمائه الحسنى السرمدية وليلتقط صور تلك المخلوقات وأعمالها وأوضاعها بكامرات برزخية وسينمات أخروية منصوبة في عالم المثال. ومن بعد تسريحها يرسل طوائف أخرى قافلة إثر قافلة، بل يرسل نوعا من دنى سيارة وسيالة إلى ذلك الميدان، لأجل أن تتسنّم وظائف جليلة وتصبح مرايا لتجليات أسمائه الحسنى.

    فهل من الممكن لهذا الخالق الجميل، الصانع الجليل، الله ذي الكمال، أن لا يجعل دار ثواب وجزاء؟ وأن لا يقيم الحشر والنشور لنوع الإنسان الذي يقابِل بالشعور والعقل في هذه الدنيا الفانية جميعَ مقاصد ذلك الخالق الكريم، والذي يحبّ ذلك الخالق ويحبّبه بجميع استعداداته، والذي يعرفه ويعرّفه، ويتوسل إليه بأدعية لا حد لها لبلوغ السعادة الأبدية والبقاء الأخروي، والذي يسأل الحياة الباقية التي هي اللذة بعينها يسألها بجميع فطرته وروحه واستعداده لما يتألم آلاما لا حد لها بالعقل الذي يحمله. فهل يمكن أن لا يكون لهذا الإنسان ثواب وعقاب؟ حاش لله وألف مرة كلّا..

    إن تفاصيل وإيضاح هذه الإشارة المختصرة موجودة بأسطع صورها وأقوى حججها في رسائل النور؛ لذا نحيل إليها ونختصر هذه المسألة الطويلة جدا.

    ﴿ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَٓا اِلَّا مَا عَلَّمْتَنَاۜ اِنَّكَ اَنْتَ الْعَل۪يمُ الْحَك۪يمُ ﴾

    خلاصة مختصرة لسورة «الفاتحة»

    من درس واحد فقط أُلقي في المدرسة اليوسفية الثالثة في فترة قصيرة جدا أثناء نقلي من التجريد والسجن الانفرادي إلى الردهة العامة ومعاشرة الآخرين.

    القسم الثاني

    نموذج لدرس قصير جدا أُلقي على طلاب النور في السجن

    لقد أَمرت «الفاتحة» التي في الصلاة، القلبَ لبيان قطرة من بحرها ولمعة من فيوضات الألوان السبعة لشمسها. ولقد كتبنا نكات لطيفة في غاية الطِيب والجمال لهذه الخزينة القرآنية السامية في كل من المكتوب التاسع والعشرين -في قسم منه- وبخاصة في السياحة الخيالية في «ن» نعبد وفي رسالة «الرموز الثمانية»، وفي تفسير «إشارات الإعجاز» وفي سائر أجزاء رسائل النور. إلّا أنني اضطررت -من جهة- إلى كتابة تفكري في الصلاة لإشارات تلك الخلاصة القرآنية الطيبة إلى أركان الإيمان وحججه فقط ولخلاصتها التي هي في منتهى الاختصار كالقسم الأول.

    أبدأ بـ «الحمد لله» محيلا ﴿ بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ ﴾ إلى عدد من رسائل النور.

    بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ

    ﴿ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ الْعَالَم۪ينَ ❀ اَلرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ ❀ مَالِكِ يَوْمِ الدّ۪ينِ ❀ اِيَّاكَ نَعْبُدُ وَاِيَّاكَ نَسْتَع۪ينُ ❀ اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَق۪يمَ ❀ صِرَاطَ الَّذ۪ينَ اَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّٓالّ۪ينَ ❀ ﴾ آمين.

    الكلمة الأولى: وهي ﴿ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ ﴾

    إن إشارة في منتهى الاختصار إلى حجتها الإيمانية هي:

    أن مبعث الحمد والشكر في الكون؛ هو الآلاء والنِعَم التي تُغدَق قصدا ولاسيما إرسال اللبن الخالص السائغ للشاربين من بين فرث ودم للصغار والأطفال العاجزين، والإحسانات والهدايا الاختيارية، والإكرامات والضيافات الرحيمة التي غطت سطح الأرض برمّته، بل غمرت الكونَ كله، وأن ما يقدّم لها من أثمان وقدْر لقيمتها هي قول: «بسم الله» بدءاً ثم «الحمد لله» ختاما؛

    وبينهما الإحساس بالإنعام من خلال النعمة نفسها، ثم البلوغ منه إلى معرفة الرب الجليل. فانظر إلى نفسك بالذات وإلى معدتك وإلى حواسك؛ كم هي محتاجة إلى أمور كثيرة ونِعم وفيرة! وكم تطلب الأرزاق واللذائذ والأذواق بأثمان الحمد والشكر! أَبْصِر هذا وقِس على نفسك كل ذي حياة.

    وهكذا فإن الحمد غير المتناهي المنطلق بألسنة الأحوال والأقوال؛ إزاء هذه الآلاء الشاملة؛ يبين كالشمس الساطعة ربوبيةً عامة وموجوديةَ معبودٍ محمودٍ ومُنعمٍ رحيم.

    الكلمة الثانية: وهي ﴿ رَبِّ الْعَالَم۪ينَ ﴾

    إن إشارة مختصرة جدا إلى ما فيها من حجة هي:

    أننا نشاهد بأبصارنا أن في هذا الكون ألوفَ العوالم والأكوان الصغيرة، بل ملايين منها، وأغلبها متداخل بعضها في البعض؛ وبرغم أن إدارة كل منها وشرائطَ تدبير شؤونها متباينة، فإنها تُدار في منتهى التربية والتدبير والإدارة. فالكون كله صحيفة مبسوطة أمام نظره جل وعلا في كل آن، وجميع العوالم تُكتب كسطر بقلم قدرته وقَدَره، وتُجدَّد وتُغيَّر.فتنبعث شهاداتٌ كلية وجزئية وبعدد الذرات والموجودات الحاصلة من تركّبها، وفي كل لحظة وآن، على وجوب وجود ربّ العالمين ووحدانيته، الذي يدير هذه الملايين من العوالم والكائنات السيالة بربوبية مطلقة ذات علم وحكمة لانهاية لهما وذات عناية ورحمة وسعتا كلَ شيء.

    إن من لا يصدّق بربوبية جليلة تربّي وتدبّر الأمور؛ ابتداءً من مزرعة الذرات إلى المنظومة الشمسية وإلى دائرة درب التبانة؛ ومن حجيرة في الجسم إلى مخزن الأرض وإلى الكون كله، تربّيها وتدبّر شؤونها بالقانون نفسه وبالربوبية نفسها وبالحكمة عينها، ولا يستشعر بها ولا يدركها ولا يشاهدها، يجعل نفسه بلا شك أهلا لعذاب خالد ويسلب عنه الإشفاق والرحمة عليه.

    الكلمة الثالثة: وهي ﴿ اَلرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ ﴾

    إن إشارة مختصرة جدا إلى ما فيها من حجة هي:

    أنه يُشاهَد بوضوح ضوء الشمس وجودُ الرحمة غير المتناهية في الكون وحقيقتُها. فهذه الرحمة الواسعة تشهد شهادة قاطعة -كشهادة الضياء على الشمس- على رحمن رحيم محتجب بستار الغيب.

    نعم، إن قسما مهما من الرحمة هو الرزق، حيث يُعطى معنى الرزاق لاسم الله «الرحمن». والرزقُ نفسه يدل على الرزاق الرحيم دلالة واضحة إلى درجة تجعل مَن له ذرة من شعور مضطرا إلى التصديق والإيمان.

    فمثلا: إنه سبحانه يهيئ أرزاق جميع ذوي الحياة، ولاسيما للعاجزين وبخاصة للصغار، وهم منتشرون على الأرض كافة والفضاء كله، يهيئها لهم بصورة خارقة وهى خارج نطاق اختيارهم واقتدارهم، من غير شيء؛ من نوىً متماثلة، من قطرات ماء، من حبّات تراب.

    حتى إنه يسخّر للفراخ الضعاف العاجزة عن الطيران والجاثمة في أوكارها على قمم الأشجار، أمهاتِها وكأنها جندية متأهبة لتلقي الأوامر، فتجول الخضار وتجوب السواقي لجلب الأرزاق إليها.

    بل يسخّر اللبؤةَ الجائعة لشبلها، فتُطعمه مما حصلت عليه من لحم دون أن تأكل.

    ويُرسل من بين فرث ملوّث ودم أحمر لبنا سائغا للشاربين، إلى صغار الحيوانات والإنسان، يرسله من ينابيع الأثداء، بلا اختلاط ولا امتزاج ولا تلوث، جاعلا شفقة والداتهم مُعينةً لهم.

    وكما أنه يُهرِع الأرزاقَ الملائمة إلى جميع الأشجار المحتاجة إلى نوع من الرزق بصورة خارقة، يُنعم على مشاعر الإنسان التي تطلب نوعا من أرزاق مادية ومعنوية؛

    ويُحسن لعقله وقلبه وروحه مائدةً واسعة جدا من الأرزاق. حتى كأن الكائنات مئات الألوف من موائد النعم المتداخلة ومئات الألوف من سفرات الأطعمة المتباينة، مكتنفٌ بعضها ببعض كأوراق الزهرة وكأغلفة العرانيس، غلافا داخل غلاف. فتدل لمن لم يطمس على عينه، على الرحمن الرزاق والرحيم الكريم بألسنة بعدد تلك السُفرات المبسوطة وبمقدار ما عليها من أطعمة، ألسنة متباينة متغايرة كلية وجزئية.

    وإذا قيل: إن ما في هذه الدنيا من المصائب والقبائح والشرور تنافي تلك الرحمة التي وسعت كل شيء؛ وتعكّر صفوها!

    الجواب: لقد أوفت جوابَ هذا السؤال الرهيب أجزاءُ رسائل النور؛ ولاسيما «رسالة القدر». نحيل إليها مشيرين إشارة قصيرة إليه:

    إن لكل عنصر ولكل نوع ولكل موجود؛ وظائفَ متعددة كلية وجزئية؛ ولكلٍ مِن تلك الوظائف نتائج كثيرة وثمرات وفيرة. والأكثرية المطلقة منها هي نتائج جميلة ومصالح نافعة وخيرات ورحمات. وقسم قليل منها يصبح شرا وقبحا جزئيا وظاهريا وظلما إزاء فاقدي القابلية والمباشرين به خطأً، أو المستحِقين للجزاء والتأديب، أو لما يكون وسيلة لإثمار خيرات كثيرة.

    فلو مَنعت الرحمةُ ذلك العنصرَ وذلك الموجودَ الكلي عن القيام بتلك الوظيفة للحيلولة دون مجيء ذلك الشر الجزئي، لَمَا حصلت إذن جميعُ نتائجها الخيّرة الجميلة الأخرى. فتحصل من الشرور والقبائح بعدد تلك النتائج، حيث إن عدم الخيرِ شرٌ، وإفسادَ الجمال قبحٌ. بمعنى أن مئاتٍ من الشرور والمظالم تُقترف للحيلولة دون مجيئ شرٍّ واحد، وهذا مناف كليا للحكمة والمصلحة والرحمة التي تتسم بها الربوبية.

    مثال ذلك: أن الثلج والبَرَد والنار والمطر وماشابهها من الأنواع ينطوي كلٌ منها على مئاتٍ من الحكم والمصالح، فإذا ما قام أحدُ المهمِلين بسوء اختياره بارتكاب شر بحق نفسه كأن أدخل يده في النار ثم قال: ليس في خَلقِ النار رحمة، فإن فوائد النار الخيّرةَ الرحيمة -النافعة وهي لا تعد ولا تحصى- تكذّبه في قوله وتصفعه على فمه.

    ثم إن أهواء الإنسان ومشاعره السفلية التي لا تَرى العقبى؛ لا تكون -قطعا- مقياسا ومحكّا وميزانا لقوانين الرحمانية والحاكمية والربوبية الجارية في الكون؛ إذ يَرى الوجودَ من خلال تلك المشاعر حسب ألوان مرآته. فالقلب المظلم الخالي من الرحمة يَرى الكائناتِ باكية قبيحة تتمزق بين مخالب الظلم وتتقلب في خضم الظلمات.

    بينما لو أبصرها ببصر الإيمان يجدها على صورة إنسان كبير متسربل بسبعين ألف حُلّة قشيبة مَخِيطة بالرحمات والخيرات والحِكَم، بعضُها فوق بعض كأنها حورية من الجنة لَبِست سبعين حلّة من حللها. ويجدها باسمةً دوما بالرحمة ضاحكةً مستبشرة. ويُشاهِد نوعَ الإنسان الذي فيه كونا مصغرا، وكلَّ إنسان عالما أصغر، فيقول من أعماق قلبه وروحه:

    ﴿ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ الْعَالَم۪ينَ ❀ اَلرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ ❀ مَالِكِ يَوْمِ الدّ۪ينِ ﴾

    الكلمة الرابعة: وهي ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدّ۪ينِ ﴾

    إن إشارة مختصرة جدا إلى ما فيها من حجة هي:

    أولا: إن جميع الدلائل المشيرة على الحشر والآخرة والشاهدةِ على حجةِ «وإليه المصير» في ختام القسم الأول من هذا الدرس، تشهد كذلك على الحقيقة الإيمانية الواسعة التي تشير إليها ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدّ۪ينِ ﴾.

    ثانيا: كما أن ربوبية صانع هذا الكون ورحمتَه الواسعة وحكمتَه السرمدية، وكذا جمالُه وجلالُه وكمالُه الأزلي الأبدي، وكذا صفاتُه الجليلة المطلقة ومئات من أسمائه الحسنى، تستدعي كلها الآخرة قطعا -كما قيل في ختام الكلمة العاشرة- كذلك القرآن الكريم بألوف من آياته وبراهينه.. وكذا الرسول الكريم محمد ﷺ بمئات من معجزاته وحججه.. وكذا جميع الأنبياء والمرسلين عليهم السلام.. وكذا الكتب السماوية والصحف المقدسة بدلائلها غير المحدودة، تشهد جميعا على الآخرة.

    وبعد، فمَن لا يؤمن بالحياة الباقية في الدار الآخرة إنما يقذف نفسه في جهنمَ معنويةٍ يُنشِئُهَا الكفر، فيقاسي العذاب دوما،

    ولمّا يزل في الدنيا، حيث تُنْـزِل الأزمنةُ الماضيةُ جميعُها والمستقبلة والمخلوقات والكائنات بزوالها وفراقها مطرَ السَّوء على روحه وقلبه فتذيقه آلاما لا حدّ لها وأعذِبةً كعذاب جهنم قبل أن يَدخلها في الآخرة. كما وُضِّح ذلك في رسالة «مرشد الشباب».

    ثالثا: نشير برمز ﴿ يَوْمِ الدّ۪ينِ ﴾ إلى حجة عظيمة وقوية للحشر. ولكن حالة فجائية معينة سبّبت في تأخير تلك الحجة إلى وقت آخر. وربما لم تبق حاجة إليها بعد؛ لأن رسائل النور قد أَثبتت بمئات الحجج القوية القاطعة أن مجيء صبحِ الحشر وحلولَ ربيعِ النشور يقينٌ كمجيء النهار عقب الليل ومجيء الربيع عقب الشتاء.

    الكلمة الخامسة: وهي ﴿ اِيَّاكَ نَعْبُدُ وَاِيَّاكَ نَسْتَع۪ينُ ﴾

    قبل الإشارة إلى ما فيها من حجة، ورَدَ إلى القلب بيانُ سياحةٍ خيالية ذات حقيقة بيانا موجزا بناءً على إيضاح «المكتوب التاسع والعشرين» لها، وهي كالآتي:

    بينما كنت أبحث عن معجزات القرآن، كما هو مبين في رسائل النور، ولاسيما في تفسير «إشارات الإعجاز» وفي رسالة «الرموز الثمانية». وحينما وجدتُ بضع معجزات حول الإخبار الغيبي في آية الختام لسورة الفتح؛ والمعجزة التاريخية في الآية الكريمة ﴿ فَالْيَوْمَ نُنَجّ۪يكَ بِبَدَنِكَ ﴾ (يونس:٩٢) بل وجدتُ لمعاتِ إعجازٍ متعددةً في كثير من كلمات القرآن ونكاتٍ إعجازيةً دقيقة في بعض حروفه.. في هذه الأثناء وأنا أقرأ سورة الفاتحة في الصلاة ورد إلى قلبي سؤال؛ ليعلّمني معجزةً من معجزات «ن» التي في «نعبد. ونستعين».

    والسؤال هو: لِمَ قال: ﴿ نعبد.. نستعين ﴾ بنون المتكلم مع الغير، ولم يقل «أعبد.. أستعين»؟

    وعلى حين غرة فُتح أمام خيالي ميدانُ سياحة واسعة من باب تلك الـ«ن». فعلمتُ بدرجة الشهود السرَّ العظيم في صلاة الجماعة، وشاهدت منافعها الجليلة وعلمت يقينا أن هذا الحرف الواحد معجزة بذاتها، وذلك:

    عندما كنت أصلى في ذلك الوقت في جامع «بايزيد» وأثناء قولي: ﴿ اِيَّاكَ نَعْبُدُ وَاِيَّاكَ نَسْتَع۪ينُ ﴾ رأيت أن جماعةَ ذلك الجامعِ يؤيدون دعواي هذه بقولهم مثل ما أقول؛ ويشاركونني مشاركة تامة في دعواي هذه وفي دعائي الذي في ﴿ إهدنا ﴾ مصدِّقين إياي..

    في هذا الوقت بالذات رُفع ستارٌ من أمام خيالي فرأيت كأن مساجد إستانبول كلها قد تحولت إلى «مسجد بايزيد» كبير وجميع المصلين فيها يقولون مثلي: ﴿ اِيَّاكَ نَعْبُدُ وَاِيَّاكَ نَسْتَع۪ينُ ﴾ مصدّقين دعواي ومؤَمّنين على دعائي. ومن خلال اتخاذهم صورة شفعاء لي، رُفع ستار آخر أمام خيالي،

    فرأيت أن العالم الإسلامي قد اتخذ صورة مسجد عظيم جدا وأخذت مكةُ المكرمة والكعبة المشرّفة بمثابة محراب ذلك المسجد العظيم وقد يمّم جميعُ المصلين الصافين المتراصين وجوهَهم بشكل حلقات شطرَ ذلك المحراب المقدس وهم يقولون مثلي: ﴿ اِيَّاكَ نَعْبُدُ وَاِيَّاكَ نَسْتَع۪ينُ ❀ اِهْدِنَا.. ﴾ وكلٌ منهم يصدّق الكلَ ويدعو باسمهم، جاعلا جميعَ المصلين شفعاء له.

    وحينما كنت أفكر أن طريقا يسلكها جماعة عظيمة إلى هذا الحد لا تكون طريقا عوجا قطعا ولا تكون دعواها إلّا صوابا، ولا يُردُّ دعاؤها بل تطرد شبهات الشيطان.. وإذ أنا أصدّق منافع الصلاة العظيمة في جماعة تصديقا شهوديا، رُفع ستارٌ آخر،

    ورأيت:

    كأن الكون مسجد كبير وجميع طوائف المخلوقات منهمكة في صلاة جماعية كبرى، ﴿ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْب۪يحَهُ ﴾ (النور:٤١)، يؤدي نوعا من صلاة خاصة به بلسان الحال، إيفاءً لعبودية واسعة عظيمة جدا إزاء ربوبية المعبود الجليل المحيطة، فيصدّق كلٌ منهم شهادةَ الجميع على التوحيد بحيث يحصل كل منهم على إثبات النتيجة نفسها. وإذ كنت أشاهد هذه الأمور، رُفع ستار آخر،

    ورأيت:

    كما أن الكون الذي هو إنسان كبير يقول بلسان الحال وبلسان الاستعداد والحاجة الفطرية لكثير من أجزائه، وبلسان المقال لذوي الشعور من موجوداته: ﴿ اِيَّاكَ نَعْبُدُ وَاِيَّاكَ نَسْتَع۪ينُ ﴾ مُظهِرين عبوديّتهم لخالقهم إزاء ربوبيته الرحيمة، كذلك جسدي، هذا الكون الصغير، كجسد كل مصلٍّ معي في تلك الجماعة العظمى يقول بذراته وبقواه وبمشاعره أيضا: ﴿ اِيَّاكَ نَعْبُدُ وَاِيَّاكَ نَسْتَع۪ينُ ﴾ بلسان الطاعة والحاجة، إزاء ربوبيةِ خالقه، منقادا للأمر الإلهي مستسلما لإرادته سبحانه، ورأيت أن تلك الجماعة من الذرات والقوى والمشاعر تَعرِض في كل آن حاجَتها إلى عناية خالقها الجليل وتبسطها أمام رحمته وإعانته.

    وشاهدتُ بإعجابٍ السرَّ الرفيع للجماعة في الصلاة، وأبصرت المعجزةَ الجميلة لـ«ن» نعبد. واستودعت تلك السياحة الخيالية لدى باب «ن» الذي دخلتها منه. وحمدتُ الله قائلا: الحمد لله. وسعيت لأقول ﴿ اِيَّاكَ نَعْبُدُ وَاِيَّاكَ نَسْتَع۪ينُ ﴾ بلسان تلك الجماعات الثلاث، أولئك الأصدقاء الكبار والصغار.

    والآن انتهت المقدمة، ونرجع إلى ما نحن بصدده.

    وهو إشارة مختصرة إلى الحجة التي تشير إليها ﴿ اِيَّاكَ نَعْبُدُ وَاِيَّاكَ نَسْتَع۪ينُ ﴾.

    أولا: إننا نشاهد بأبصارنا فعاليةً وخلاقية مَهِيبتين دائمتين وفي أتم انتظام وانسجام تَجريان في الكون بأسره ولاسيما على سطح الأرض. ونشاهد ربوبية مطلقة رحيمة مدبِّرة ضمن هذه الفعالية والخلاقية تستجيب لاستعاناتٍ واستغاثات تنطلق مما لا يُحد من ذوي الحياة غير المحدودة واستمداداتِها ودعواتِها الفعلية والحالية والقولية استجابةً تتسم بكمال الحكمة ومنتهى العناية. ونرى تجلياتِ ألوهيةٍ مطلقة ومعبودية عامة ضمن هذه الربوبية وضمن مظاهر استجابةِ كلِّ كائن حي على حدة استجابةً فعلية لمقابلة ألوف الأنماط من العبادات الفطرية والاختيارية التي تؤديها جميع المخلوقات ولاسيما ذوي الحياة وبخاصة طوائف الإنسان، يراها العقل السليم ويبصرها الإيمان. كما تخبر عنها جميع الكتب السماوية والأنبياء الكرام عليهم السلام.

    ثانيا: إن انشغال كل جماعة من الجماعات الثلاث المذكورة في المقدمة، بما ترمز إليه «ن» نعبد؛ انشغالَها جميعا ومعا بعبادات فطرية واختيارية وبأشكال مختلفة تدل بالبداهة على أنها مقابَلةٌ شاكرة إزاء ألوهيةٍ معبودة وشهاداتٌ قاطعة لا حد لها على وجود المعبود المقدس.

    وإن لكل جماعة من الجماعات الثلاث المذكورة ولكل طائفة من طوائفها، ولكل فرد من أفرادها ابتداءً من مجموع الكون كله إلى جماعةِ ذراتِ جسد واحد، استعانةً فعلية وحالية، ولكل منها دعاء خاص بها كما يرمز إلى ذلك «ن» نستعين. فالسعي لإعانة كل منها وأغاثتِها واستجابةِ دعائها، شهادةٌ صادقة لا تقبل الشبهة قطعا على مدبِّرٍ رؤوفٍ رحيمٍ.

    فمثلا: مثلما ذَكرتْ «الكلمة الثالثة والعشرون»: أن استجابة الأنواع الثلاثة للأدعية التي تدعو بها جميع المخلوقات على الأرض كافةً، استجابةً خارقة جدا ومن حيث لا يحتسب، تشهد شهادة قاطعة على ربّ رحيم مجيب...

    نعم، كما أننا نشاهد بأبصارنا استجابةَ دعاءِ كلِّ نواة وكل بذرة تسأل خالقها بلسان الاستعداد لتصبح شجرة وسنبلة. كذلك نشاهد إرسالَ الأرزاق إلى جميع الحيوانات التي تقصر أيديها عنها، وإعطاءَها ما يلزم حياتها، واستجابةَ مطاليبها التي هي خارجة عن طوقها؛ والتي تسألها من واحدٍ أحدٍ بلسان الحاجة الفطرية.

    فهذه الاستجابات والإمدادات تشهد شهادة صادقة على خالق كريم يستجيب لجميع تلك الأدعية المنطلِقة بلسان الحاجة الفطرية، كما نشاهدها بأم أعيننا؛ ويَدفع مخلوقاتٍ عجيبة لا شعور لها لإمداد تلك الحيوانات في أنسب وقت و في أتم حكمة.

    وهكذا فقياسا على هذين القسمين؛ فإن استجابةَ جميع أنواع الأدعية التي تُسأل بلسان المقال؛ ولاسيما أدعية الأنبياء عليهم السلام والخواص، استجابةً خارقة، تشهد على حجة الوحدانية التي في ﴿ وَاِيَّاكَ نَسْتَع۪ينُ ﴾.

    الكلمة السادسة: وهي ﴿ اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَق۪يمَ ﴾.

    إن إشارة في منتهى الاختصار إلى حجتها هي:

    كما أن أقصر الطرق المؤدية من مكان إلى آخر هي الطريق المستقيم، وأن أقصر الخطوط الممتدة بين نقطة وأخرى بعيدةٍ عنها هو الخط المستقيم؛ كذلك إن أصوبَ طريق في المعنويات وفي الطرق المعنوية وفي المسالك القلبية وأكثرَها استقامة هي أقصرُها وأيسرها.

    فمثلا: إن جميع الموازنات والمقايسات المعقودة في رسائل النور بين طريق الإيمان والكفر تبيّن بيانا قاطعا أن طريق الإيمان والتوحيد أقصرُ الطرق وأصوبُها وأيسرها وأكثرها استقامة، بينما طرق الكفر والإنكار طويلة جدا وذات مشكلات ومخاطر.

    فلاشك أن هذا الكون الذي يُساق في طريق ذات استقامة وحكمة -وهي أقصر الطرق وأسهلها في كل شيء- لا يمكن أن تكون فيه حقيقة الشرك والكفر. بينما حقائق الإيمان والتوحيد واجبة وضرورية في هذا الكون ضرورةَ الشمس فيه.

    وكذا فإن أيسر الطرق في الأخلاق الإنسانية وأنفعَها وأقصرها وأسلمها هي في الصراط المستقيم وفي الاستقامة.

    فمثلا: إذا فَقدتْ القوة العقلية الحدَّ الوسط، وهو الحكمة والاستقامة، التي هي سهلة نافعة، تهوي بالإفراط والتفريط في خبٍ مضر وبلاهةٍ ذات بلية، فتعاني المهالك في طرقها الطويلة.

    وإن لم تسلك القوةُ الغضبية طريقَ الشجاعة التي هي حد الاستقامة، هوت بالإفراط في تهور وتجبّر ذي أضرار بالغة وظلم شنيع، وبالتفريط إلى كثير من التخوف والتجبن المذلّ المؤلم، فتعاني عذابا وجدانيا دائما جزاءً لما ارتكبت من خطأ أَفْقَدها حدَّ الاستقامة.

    وما في الإنسان من قوة شهوية إذا ضَيَّعت طريق الاستقامة السليمة والعفة تهوي بالإفراط في الفجور والفحش ذات المصائب، وبالتفريط في الخمود، أي الحرمان من أذواق النعم ولذائذها؛ فتعاني آلام ذلك المرض المعنوي.

    وهكذا قياسا على ما ذُكر؛ فإن الاستقامة هي أنفع طريق وأسهلها وأقصرها من بين جميع الطرق المسلوكة في حياة الإنسان الشخصية والاجتماعية. وإذا ما فقد الإنسان الصراط المستقيم فإن تلك الطرق تكون طويلة جدا وذات بلايا كثيرة ومصائب وأضرار.

    بمعنى أن ﴿ اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَق۪يمَ ﴾ دعاءٌ جامعٌ وعبودية واسعة؛ كما أنها إشارة إلى حجة في التوحيد وإلى درس في الحكمة وتعليم الأخلاق.

    الكلمة السابعة: وهي ﴿ صِرَاطَ الَّذ۪ينَ اَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾.

    إن إشارةً قصيرة إلى ما فيها من حجة هي:

    أولا: مَن المقصود في ﴿ عليهم ﴾؟

    تفسّره الآية الكريمة: ﴿ فَاُو۬لٰٓئِكَ مَعَ الَّذ۪ينَ اَنْعَمَ اللّٰهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيّ۪نَ وَالصِّدّ۪يق۪ينَ وَالشُّهَدَٓاءِ وَالصَّالِح۪ينَ ﴾ (النساء:٦٩) إذ تُبيِّنُ الطوائف الأربع الذين نالوا في النوع البشري نعمةَ سلوك طريق الاستقامة؛ مشيرة بـ ﴿ النَّبِيّ۪نَ ﴾ إلى سيدهم محمد عليه السلام، وبـ ﴿ وَالصِّدّ۪يق۪ينَ ﴾ إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وبـ ﴿ وَالشُّهَدَٓاءِ ﴾ إلى عمر وعثمان وعلي. فالآية الكريمة تخبر عن الغيب وتبين لمعةَ إعجازٍ بأن الذين يأتون بعد الرسول ﷺ، الصديقُ رضي الله عنه ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضوان الله عليهم أجمعين، سيُستَشهدون ويتولّون الخلافة.

    ثانيا: إن هذه الطوائف الأربع الذين هم أصدقُ نوعِ البشر وأقومهم سلوكا وأرفعهم شأنا، قد دَعوا بكل ما أوتوا من قوة وبما لا يعد ولا يحصى من الحجج والمعجزات والكرامات والأدلة والكشفيات إلى حقيقة التوحيد، وصدَّقَ دعواهم أغلبُ البشر منذ سيدنا آدم عليه السلام. فلاشك أن تلك الحقيقة حقيقة قاطعة كقطعيةِ ثبوتِ الشمس، لذا فإن اتفاق هذا الجمّ الغفير من خِيرة البشرية ممن أَظهروا صدقهم وعدلهم بمئات الألوف من المعجزات والحجج التي لاتحد؛ وإجماعَهم في المسائل الإيجابية كالتوحيد ووجوب وجود الخالق؛ لَهُوَ حجة قاطعة تزيل كل شبهة.

    نعم، إن الحقيقة الجليلة التي آمَنَ بها أولئك الطوائف الأربع المذكورون الذين يمثلون أقومَ نوع البشر الذي هو النتيجة المهمة لخلق الكون وخليفةُ الأرض؛ وأجمعُ الأحياءِ استعدادا وأرفعها شأنا؛ بل هم أصدق مرشديهم المصدقين، وأئمتهم في الكمالات. هؤلاء أخبروا بالإجماع والاتفاق عن تلك الحقيقة التي آمنوا بها واعتقدوا بها اعتقادا جازماً بحق اليقين وبعلم اليقين وبعين اليقين. واطمأنوا إليها اطمئنانا لا يتزعزع مُظهِرين الكون بموجوداته جميعا دليلا. تُرَى أَلَا يرتكبُ جنايةً لا تحد مَن ينكر و لا يَعرف هذه الحقيقةَ الجليلة.. ألا يستحق عذابا خالدا؟!

    الكلمة الثامنة: وهي ﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّٓالّ۪ينَ ﴾.

    فهذه إشارة قصيرة إلى ما فيها من حجة:

    إن تاريخ البشرية والكتبِ المقدسة، يخبر بالاتفاق إخبارا قاطعا وبصراحة تامة، استنادا إلى التواتر وإلى الحوادث الكلية الثابتة والمعارف البشرية والمُشاهَدات الإنسانية،

    أن استجابة استمدادات الأنبياء عليهم السلام وهم أصحاب الصراط المستقيم استمدادا غيبيا فوق المعتاد في ألوف من الحوادث، وإنجازَ مطاليبهم بذاتها، ونـزولَ الغضب والمصائب السماوية بأعدائهم الكفار في مئات من الحوادث، تدل دلالة قاطعة لا ريب فيها على أن لهذا الكون ولنوع الإنسان الذي فيه؛ ربا حاكما عادلا محسنا كريما عزيزا مدبرا مسخرا؛ قد مَنح من لدنه النصرَ المؤزّر والنجاة الخارقة لأنبياء كرام كثيرين أمثال نوح وإبراهيم وموسى وهود وصالح عليهم السلام في حوادث تاريخية واسعة، وأَنـزل في الوقت نفسه مصائبَ سماوية مرعبة في الدنيا على أقوام ظَلَمةٍ كَفَرة أمثال ثمود وعاد وفرعون إزاء عصيانهم الرسلَ.

    نعم، إن تيارَين عظيمين قد جريا متصارعَين في البشرية منذ زمن آدم عليه السلام.

    الأول: هم أهل النبوة والصلاح والإيمان الذين نالوا النعمة وسعادة الدارين بسلوكهم الصراط المستقيم؛ فانسجمت بسلوكهم القويم أعمالُهم وحركاتهم مع جمال الكون الحقيقي ونظامه وتناسقه وكماله؛ لذا نالوا ألطاف رب العالمين؛ وسعادة الدارين؛ وأصبحوا السبب في رفع الإنسان إلى مراتب الملائكة بل أرفع منها؛ وكسبوا وأكسبوا أهل الإيمان جنة معنوية حتى في الدنيا؛ مع سعادة خالدة في الآخرة.. كل ذلك بسر حقائق الإيمان.

    والتيار الثاني: هم الذين ضلوا عن سواء السبيل جاعلين بالإفراط والتفريط؛ العقلَ وسيلةَ عذاب وأداةَ لمّ الآلام؛ فأردَوا البشرية في دركات سحيقة أضلَّ من الأنعام، فاستحقوا الغضب الإلهي فنـزلت بهم صفعاتُ المصائب جراء ظلمهم الذي ارتكبوه في الدنيا. زد على ذلك أنهم جَعَلوا بالضلالة التي هم فيها وبالعقل المرتبط مع الموجودات؛ الكونَ موضعَ أحزان وآلام ومأتما عاما، ومذبحة لذوى الحياة؛ يتقلبون في دوامات الزوال والفراق، ومَسْلَخة قذرة ضربت الفوضى أطنابها في الآفاق. لذا انحصرت روحُ الضال ووجدانُه بجهنم معنوية في الدنيا، وأصبح أهلا لعقاب أليم في الآخرة.

    وهكذا فإن الآية الكريمة التي في ختام سورة الفاتحة: ﴿ الَّذ۪ينَ اَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّٓالّ۪ينَ ﴾ تبين هذين التيارين العظيمين.

    فمنبع جميع الموازنات المذكورة في رسائل النور وأساسها ومرشدها هي هذه الآية الكريمة. وحيث إن رسائل النور قد فَسرت هذه الآية الكريمة بمئات من موازناتها. نحيل إيضاحها إلى تلك الرسائل مكتفين بهذه الإشارة.

    الكلمة التاسعة: وهي، آمين.

    وإشارة قصيرة جدا إليها هي:

    لما كانت» ن «التي في ﴿ نَعْبُدُ ﴾ و ﴿ نَسْتَعِينُ ﴾ تبين لنا الجماعاتِ العظيمةَ الثلاث؛ ولاسيما جماعة الموحدين في جامع العالم الإسلامي وبخاصة ملايين المصلين الذين يؤدون الصلاة في ذلك الوقت؛ وتجعلنا ضمن صفوفهم؛ فاتحةً أمامنا طريقا سويا لنكسب حظا من أدعيتهم، ولنغنم تصديقهم لنا لنطقهم بمثل ما ننطق به نحن، ولنحظى بنوع من شفاعتهم؛ فنحن كذلك بقولنا: «آمين» نعزز أدعية أولئك الموحّدين المصلين؛ ونصدّق دعواهم؛ ونرجو بكلمة «آمين» أن يستجيب الله سبحانه وتعالى لاستعانتهم وشفاعتهم، محوِّلين عبوديتنا الجزئية ودعاءنا الجزئي ودعوانا الجزئية إلى عبودية كلية ودعاء كلي ودعوى كلية إزاء ربوبية كلية شاملة.

    بمعنى أن كلمة «آمين» تَكسِب كلية واسعة بل يمكن أن تكون بمثابة ملايين «آمين» بسر الأخوة الإيمانية والوحدة الإسلامية وبواسطة راديوات معنوية ورابطةِ الوحدة لجماعة يربون على الملايين من المصلين المتراصين في الصلاة في مسجد العالم الإسلامي.

    وهكذا إذا ما أخذ رجل عامي شيئا بقدر نواة، فالإنسان الكامل الذي ترقى روحيا يأخذ حظا كالنخلة، كل حسب درجته، ولكن الذي لم يرق بعدُ، لا ينبغي له أن يتذكر هذه المعاني قصدا أثناء قراءته الفاتحة (∗) لئلا يفسد اطمئنانه وسكينته وإذا ما ترقى إلى ذلك المقام فإن تلك المعاني ستظهر بنفسها. (المؤلف)

    (∗) لقد سألنا أستاذنا إيضاحا عن كلمة «قصدا» الواردة في هذا الهامش ودوّنّا أدناه ما ذكره نصا:

    باسم طلاب النور

    في المدرسة اليوسفية الثالثة

    جَيلان

    أرى أنه يمكن التفكر بالمعاني الواسعة الرفيعة للتشهد وسورة الفاتحة، ولكن لا تُقصد تلك المعاني قصدا، وإنما بصورة تبعية، إذ الذي يورِث الحضورَ القلبي نوعا من الغفلة هي تفاصيلها. بينما معانيها المُجْمَلة تبدد الغفلة وتنور العبادة والمناجاة وتسطعها. فتُظهر إظهارا تاما القيم الرفيعة للصلاة والفاتحة والتشهد.

    أما المراد من «عدم الانشغال قصدا» الوارد في ختام القسم الثاني هو أن الانشغال بتفاصيل تلك المعاني بالذات قد تُنسي الصلاة أحيانا وربما تُخل بسكينة القلب والحضور. وإلّا فإني أشعر بفوائدها العظيمة إذا كان التفكر تبعياً وبشكل مختصر. (المؤلف)

    الحمد لله رب العالمين

    ﴿ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَٓا اِلَّا مَا عَلَّمْتَنَاۜ اِنَّكَ اَنْتَ الْعَل۪يمُ الْحَك۪يمُ ﴾

    بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ

    وبه نستعين

    لدرس واحد فقط، أُلقي في المدرسة اليوسفية الثالثة

    القسم الثالث

    المقدمة

    لقد كُتب القسم الثاني بأمر معنوي صادر من سورة «الفاتحة» التي في الصلاة وبفيض نورِ كلمة الشهادة: أشهد أن لا إله إلّا الله. وكذلك هذا القسم فقد اضطررتُ إلى كتابته -بدافع من ثلاثة أسباب لا إذن لي في بيانها حاليا- بتنبيه معنوي وارد من جملةِ: أشهد أن محمدا رسول الله، وبفيضِ نورِ الآيةِ الكريمة التي في ختام سورة «الفتح» والتي أَظهرت خمسَ معجزات غيبية، وهي قوله تعالى:

    ﴿ هُوَ الَّذ۪ٓي اَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدٰى وَد۪ينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّ۪ينِ كُلِّه۪ وَكَفٰى بِاللّٰهِ شَه۪يدًا ❀ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّٰهِ وَالَّذ۪ينَ مَعَهُٓ اَشِدَّٓاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَٓاءُ بَيْنَهُمْ... ﴾ إلى آخر الآية..

    أما تفاصيل هذا القسم وإيضاحاته وحججه المسندة بالدلائل، فأحيلها إلى رسالة «المعجزات الأحمدية» المنشورة ضمن مجموعة «ذو الفقار» وإلى الحزب النوري المؤلَّف باللغة العربية. وسيشار إليها بثلاث إشارات مختصرة جدا. ففي الإشارة الثانية والثالثة سيُكتب ما يشبه ترجمة القطعة الخاصة بشهادة «محمد رسول الله» في الرسالة الصغيرة المؤلفة هنا، والمستقاة من خلاصة الخلاصة للحزب النوري العربي، والتي هي وردي الدائم وتفكرٌ بالعربية مع كلمة التوحيد التي أكررها في الأذكار.

    الإشارة الأولى

    إن محمدا ﷺ الذي استَقبل مظاهرَ ربوبيةِ رب العالمين، وسرمديةِ ألوهيته، وآلائه العميمة التي لا تعد ولا تحصى، استقبلها بعبوديةٍ كليةٍ وتعريف لربّه الجليل. هذا النبي الكريم ضروري كضرورة الشمس لهذا الكون؛ إذ هو أستاذ البشرية الأكبرُ، ونبيها الأعظم ﷺ، وفخر العالم، القمين بخطابِ «لولاك لولاك لما خلقت الأفلاك». ([2]) وكما أن حقيقته (أي الحقيقة المحمدية) هي سببُ خلق العالم، ونتيجتُه وأكملُ ثمراته؛ كذلك تتحقق بها وبالرسالة الأحمدية الكمالات الحقيقية للكائنات قاطبة، إذ تُصبح مرايا باقية للجميل الجليل السرمدي تعكس تجلياتِ صفاته الجليلة، وآثارَه القيّمة الموظفة لدى أفعاله الحكيمة جلّ جلالُه، ورسائله البليغة المرسلة من الملأ الأعلى، وتغدو حاملة لعالم باق، منتجةٍ دارَ سعادة خالدة ودار آخرة أبدية يشتاق إليها ذوو الشعور كلهم.. وأمثالها من الحقائق التي تتحقق بالحقيقة المحمدية والرسالة الأحمدية. لذا فكما يشهد هذا الكون شهادة قاطعة وفي منتهى القوة والثبوت على رسالته ﷺ،

    كذلك البشريةُ جمعاء بل جميع ذوى الشعور وفي مقدمتهم العالم الإسلامي، يشهدون جميعا على ما بشّرت به الرسالة الأحمدية والحقيقة المحمدية بشارةً قوية قاطعة، تلك هي الحياة الخالدة التي تسألها البشرية بالعشق الدائم والشوق الملازم في كل حين وآن، تسألها بلسانِ جميعِ قوى ماهيتها الجامعة، وبألسنةِ جميع استعداداتها، وبألسنةِ جميع الأدعية والعبادات والتضرعات والتوسلاتِ المرفوعة إلى المولى القدير، فتَسأل حياةً باقية خالدة، نجاةً من العدم والعبث والإعدامِ الأبدي والفناء المطلق الذي هو أشد رهبةً وأكثر إيلاما من جهنم. فكما تشهد البشرية بهذا على أنه ﷺ فخرُ البشرية وأشرفُ المخلوقات طرا، كذلك فإن دخولَ مثل جميع الحسنات والخيرات التي يَكسبها يوميا ثلاثمائة وخمسون مليونا من المؤمنين في كل عصر، في سجل حسناته ﷺ حسب قاعدةِ «السببُ كالفاعل»، ونيلَ تلك الشخصية المحمدية الفريدة مقاما رفيعا يحظى بعبودية كلية وفيوضات ربانية بقدر عبادةِ مئاتِ الملايين بل المليارات من العبّاد المحسنين.. هو شهادة قوية جدا على رسالته ﷺ.

    الإشارة الثانية

    إن الفقرة الآتية التي أتأمل فيها دائما هي من أورادي، وتشير إلى أكثر من عشرين شهادة على رسالة محمد ﷺ، نوجز فحواها باختصار. والفقرة هي:

    [محمّدٌ رسولُ الله صادقُ الوعدِ الأمينُ بشهادةِ ظهوره دفعَةً مع أُمّيّتِه بأكمل دينٍ وإسلاميّةٍ وشريعةٍ، وبأقوى إيمانٍ واعتقادٍ وعبادَةٍ، وبأعلى دعوةٍ ومناجاةٍ ودعواتٍ، وبأعمّ تبليغٍ وأتمّ متانةٍ خارقاتٍ مثمراتٍ لا مثلَ لها]. ([3])

    فأُولى تلك الشهادات هي:

    حجة الرسالة النابعة من إحدى عشرة حالة من حالاته ﷺ.

    نعم، إنه مع كونه أمّيا لم يتعلم القراءة والكتابة، فقد أتى بدين أوقع عقلاءَ أربعة عشر قرنا وفلاسفتَها في حيرة وإعجاب وانبهار، وفاق الأديان السماوية وقد أظهره دفعة واحدة من دون أن يكون له تجربة مسبقة.. وهذه حالة لا مثيل لها.

    وكذا الإسلامُ النابع من أقواله وأفعاله وحالاته، وإرشادُه ثلاثمائة وخمسين مليونا من البشر في كل وقت، مربيا أرواحهم مزكّيا أنفسهم ومنورا عقولَهم، ودفعهم إلى الرقى المعنوي.. حالة لا مثيل لها.

    وكذا قد أتى بشريعة غراء عظيمة بحيث أدارت بقوانينها العادلة خُمُسَ البشر طوالَ أربعة عشر قرنا من الزمان إدارةً حَققت له الرقيَّ المادي والمعنوي.. وهذه حالة لا مثيل لها.

    وكذا ظهورُه بإيمان راسخ واعتقاد جازم بحيث يستلهم منه جميعُ أهل الحقيقة في كل وقت ويصدقون بالاتفاق على أنه في أرفع درجة وأسمى مرتبة، فضلا عن عدم إيراث مخالفيه وأعدائه ومعارضيه في ذلك الوقت -برغم كثرتهم- أيةَ شبهة ولا وسوسة ولا شكٍ قط، مما يبين بجلاءٍ أنه لا مثيل له في قوة الإيمان أيضا ولا نظير لإيمانه الرفيع الكلي.

    وكذا قد أظهر عبوديةً وعبادة عظيمتين بحيث وحّد المبدأَ والمنتهى، من دون تقليد لأحد، مُلاحِظا أدق أسرارِ العبادة، ومُراعِيا لها حتى في أشد الأوقات اضطرابا، وأدّاها على أتم وجه وأتقنه.. وهذه حالة لا مثيل لها.

    وكذا قد تضرع إلى خالقه الكريم ودعا دعوات لطيفة رقيقة بحيث لم يَبلغ أحدٌ مرتبةَ تلك الدعوات والمناجاة إلى هذا الزمان برغم تلاحق الأفكار.

    فمثلا: قد جعل ألفَ اسم واسم من الأسماء الإلهية شفيعةً لدعائه في مناجاة «الجوشن الكبير» فوصف خالقَه العظيم وصفا بديعا يليق به، وعرّفه تعريفا لا مثل له قط.

    وهكذا فإن عدم بلوغ أحد ما بلغَه من معرفة الله، حالةٌ لا مثيل لها قط.

    وكذا إنه دعا الناس إلى الدين دعوةً ملؤها الثقة وبلّغ رسالته بشجاعة وإقدام بحيث إن معارضة قومه وعمه والدولِ الكبرى في العالم وأتباعِ الأديان السابقة وعدائَهم، لم ينل منه الخوف ولا الإحجام قطعا بل تحدى العالمين وظهر على الجميع.. فهذه حالة لا مثيل لها.

    وهكذا فإن مجموع هذه الحالات الثمان الخارقة التي لا نظير لها، شهادةٌ في منتهى القوة على صدقه ﷺ وثبوت دعوته.

    وهي حالات تُظهر مدى اطمئنانه ومنتهى جديته ومبلغِ وثوقه وكمال صدقه وعدله ﷺ.

    لذا فالعالم الإسلامي يهنئ ويبارِك هذا النبيَّ الكريم ﷺ بقوله في كل جَلسةِ تَشَهُّدٍ في الصلاة يوميا وبملايين الألسنة: «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته» مقدِّما له ولاءَه لمهمة النبوة، ومصدقا إياه في بُشراه بالسعادة الأبدية التي أتى بها، فيَستقبله بامتنان بالغ وشكر عميم إزاء فتحه طريقا سويا إلى الحياة الباقية التي تبحث عنها البشريةُ بعشق دفين عميق وشوق فطريّ عارم وباستعداد قوي جدا، بقوله: «السلام عليك أيها النبي» معبّرا به عن زيارة معنوية له ﷺ ولقاء معه، ومرحّبا ومهنئا إياه باسمِ ثلاثمائةٍ وخمسين مليونا بل مليارات من المؤمنين.

    الشهادة الثانية من الشهادات العشرين الكليةِ، والتي تضم كثيرا من الشهادات وهي:

    [وبشهادة جميع حقائق الإيمان على تصديقه].

    أي إن حقائق أركان الإيمان الستة وتحقَقها وصدقَها وصوابها تشهد شهادةً قاطعة على رسالة محمد ﷺ وعلى صدقه وصوابه،

    لأن الشخصية المعنوية لحياة رسالته، وأساس جميع دعاواه، وماهية نبوته، إنما هي تلك الأركان الستة، لذا فإن جميع الدلائل الدالة على تحقق تلك الأركان تدل أيضا على أن رسالة محمد ﷺ حق وأنه صادق مصدَّق.

    وكما بَينتْ رسالةُ «الثمرة» وذيول «الكلمة العاشرة» دلالةَ سائر الأركان الإيمانية على تحقق الآخرة، كذلك كل ركن من الأركان بحججه معا حجة على رسالته ﷺ.

    الشهادة الكلية الثالثة المتضمنة لألوف الشهادات:

    [وبشهادة ذاته عليه الصلاة والسلام بآلاف معجزاته وكمالاته وعلوّ أخلاقه ]

    أي هو كالشمس دليل بنفسها. فكما أَثبتت الرسالةُ الخارقة، رسالةُ «المعجزات الأحمدية» على صاحبها أفضل الصلاة والسلام في أَزْيَدَ من ثلاثمائة معجزة بروايات صحيحة، كذلك انشقاق القمر إلى شقين بإصبعٍ من كفه المباركة ﷺ كما هو صراحةُ الآيةِ الكريمة: ﴿ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ﴾ (القمر:١). وكذا نَبَعانُ الماء من أصابعه المباركة وتَدَفُّقه كما يتدفق من خمس عيون، وارتواءُ جيشٍ كاملٍ منه وشهادتُهم له، المنقولُ إلينا بروايات صحيحة متواترة، فضلا عن تكرار هذه الحادثة العجيبة مرتين وفي مواضع أخرى.. وكذا رميه حفنةً من تراب بالكف نفسِها على جيش العدو المُغِير ودخولُ التراب عينَ كل منهم وانهزامُهم أثناء هجومهم كما هو صراحةُ الآيةِ الكريمةِ: ﴿ وَمَا رَمَيْتَ اِذْ رَمَيْتَ ﴾ (الأنفال:١٧).. وكذا تسبيح الحصى في الكف نفسِه تسبيحا واضحا بيّنا المرويُّ بروايات صحيحة.. وأمثالُها من المعجزات الباهرة التي ظهرت من يده المباركة ﷺ والمروي قسمٌ منها في كتب السِيرة والتاريخ بروايات متواترة قاطعة وهى تربو على المئات بل تبلغ الألف لدى أهل التحقيق من العلماء.

    وكذا اتفاق الأولياء والأعداء على أنه في ذروة الأخلاق الفاضلة والخصال الحميدة ([4]) واتفاق جميع أهل التحقيق السالكين طريقَه المقتفين أثرَه البالغين الكمالاتِ والمدركين الحقيقةَ بعين اليقين، وتصديقهم جميعا بحق اليقين، أن الكمالات المحمدية هي في قمة الدرجات. كما يدل عليها فيوضات العالم الإسلامي النابعةُ من دينه ﷺ، وحقائق الإسلام العظيم. فلاشك أن ذلك النبي الكريم بذاته ﷺ يشهد شهادة واسعة كلية ساطعة على رسالته نفسه.

    الشهادة الرابعة المتضمنة لكثير من الشهادات القوية:

    [وبشهادة القرآن بما لا يحد من حقائقه وبراهينه].

    أي إن القرآن المعجزَ البيان يشهد بحقائقه وحججه التي لا تعد ولا تحصى على رسالته وصدقه ﷺ.

    نعم، إن القرآن الكريم الذي هو معجزة باهرة بأربعين وجها (كما أثبتتها رسالة المعجزات القرآنية المنشورة ضمن مجموعة ذو الفقار).. والذي أنار أربعة عشر قرنا من الزمان.. والذي أدار خُمُس البشرية بقوانينه الرصينة التي لا تتبدل.. والذي تحدى وما زال يتحدى جميعَ المعارضين حتى لم يجرؤ أن يعارضه أحد إلى الآن ولو بسورة واحدة. بل إن جهاته الست نورانية لا تدخل فيها الشبهات قطعا، وتصدّق ستة مقامات كبرى على صدقه وعدله، ويستند إلى ست حقائق لا تتزعزع، كما أُثبِتَ ذلك في رسالة «الآية الكبرى».. والذي يُتلى في كل وقت بألسنة مئات الملايين وبكل لهفة وتوقير.. والذي يُكتَب في قلوب ملايين الحفاظ في كل دقيقة كتابة سامية.. والذي تترشح من شهادته جميعُ شهادات وإيمان العالم الإسلامي، وتنساب من نبعه جميعُ العلوم الإيمانية والإسلامية.

    وكما أنه يصدّق تلك الكتبَ السماوية السابقة، ينال التصديق المعنوي أيضا من جميع الكتب والصحف السماوية.

    فهذا القرآن العظيم بحقائقه كلها، وبحججه التي تُثبت صدقَه وعدله يشهد على صدقه ﷺ وعلى رسالته.

    الشهادة الكلية الخامسة والسادسة والسابعة والثامنة:

    [وبشهادة الجوشن بقدسيةِ إشاراته، ورسائلِ النور بقوة دلائلها، والماضي بتواتر إرهاصاته، والاستقبال بتصديق آلافِ حادثاته].

    أي كما أن «الجوشن الكبير» الذي يضم ألف اسم واسم من الأسماء الإلهية صراحةً وإشارةً، ونابع -من جهةٍ- من القران الكريم، هذه المناجاة النبوية الخارقة التي تفوق مناجاةَ جميع العارفين الذين عرجوا في مراتب المعرفة الإلهية وترقوا فيها، وقد أتى بها جبريل عليه السلام وحيا في غزوة قائلا: «انـزع الدرع (الجوشن) واقرأ هذا الجوشن». فإن الحقائق التي تتضمنها هذه المناجاة والأوصاف المتوجهة فيها إلى ربه الجليل بالذات تشهد شهادة صادقة على صدق محمد ﷺ وعلى رسالته.

    كذلك رسائل النور المترشحة من القرآن الكريم والمستفاضةُ -من جهةٍ- من «الجوشن الكبير» هي حجة واحدة على الرسالة المحمدية بأجزائها البالغة مائة وثلاثين رسالة وذلك بإثباتها إثباتا عقليا ومنطقيا جميعَ حقائق رسالته ﷺ، بل تعليمِها وتفهيمِها بسهولة ويُسرٍ ما تعجز عنه الفلسفة من مسائلَ بعيدة جدا عن العقل وإظهارِها أنها مسائل مستساغة معقولة كأنها مشهودة.. هذه الرسائل البالغة ثلاثين ومائة رسالة تشهد شهادةً كليةً على صدق محمد ﷺ وعلى رسالته.

    وكذا الماضي هو شهادة كلية على رسالته، إذ الإرهاصات التي هي خوارق سبقت البعثة وتُعدّ من معجزات النبي الذي سيأتي، قد ذكرت في وقائع كثيرة في كتب السيرة والتاريخ ذكرا متواترا قاطعا. فتشهد هذه الإرهاصات شهادة صادقة على رسالته ﷺ. ولهذه الإرهاصات أنواع كثيرة سيبين قسمٌ منها في الشهادة الآتية، قسم آخر ذكر في مجموعة «ذو الفقار» ونقلتها كتب التاريخ نقلا صحيحا.

    فمثلا: إرسالُ طير أبابيل لترمي جيش أبرهة الذي أتى لهدم الكعبة بحجارة من سجيل قُبيل ولادته ﷺ.. وسقوطُ الأصنام في الكعبة ليلة الولادة المباركة، وتَصَدُّعُ إيوان كسرى، وخمودُ نار المجوس التي كانت تشتعل منذ ألف سنة، وإظلالُ السحاب له ﷺ كما أَخبر به بحيرا الراهبُ وحليمة السعدية.. وأمثالُها من الحوادث الكثيرة التي أخبرت عن نبوته ﷺ قبل بعثته.

    وكذا المستقبل، أي الحوادث التي وقعت بعد وفاته ﷺ وأَخبر عنها وهي كثيرة جدا ومتنوعة جدا؛ منها: إخباره الغيبي التي تخص الآل والأصحاب الكرام، والفتوحات الإسلامية، وقد أُثبتت في رسالة المعجزات الأحمدية (المنشورة ضمن مجموعة ذو الفقار) برواية صحيحة ثمانين حادثة وقعت كما أخبر. مثلا: استشهاد سيدنا عثمان رضى الله عنه عند قراءته المصحف الشريف، واستشهاد سيدنا الحسين رضى الله عنه في كربلاء، وفَتْحُ الشام وفارس وإسطنبول، وقيامُ الدولة العباسية وسقوطُها ودمارها بيد جنكيز خان وهولاكو.. وما شابهها من معجزاته في إخباره الغيبي الذي ظهر في ثمانين حادثة، مما نقل إلينا نقلا صحيحا استنادا إلى كتب السيرة والتاريخ التي ذكرتها بالتفصيل. فهذه الإخبارات الغيبية مع سائر أنواعها التي تدل على صدقه ﷺ ومع وقائع مستقبلية كثيرة جدا تدل على صدقه، أي إن المستقبل يشهد شهادة قوية كلية على الرسالة المحمدية ﷺ.

    الشهادة التاسعة والعاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة، والتي تشير إليها:

    [وبشهادة الآلِ بقوةِ يقينيّاتهم في تصديقه بدرجة حقّ اليقين.. والأصحاب بكمال إيمانهم في تصديقه بدرجة عين اليقين.. والأصفياء بقوّة تحقيقاتهم في تصديقه بدرجة علم اليقين.. والأقطاب بتطابقهم على رسالته بالكشف والمشاهدات باليقين].

    فمن الشهادة الكلية التي تشهد شهادة صادقة على صدق محمد ﷺ وعدله:

    الشهادة التاسعة: وهي شهادة آل محمد ﷺ الذين نالوا مرتبةَ «علماءُ أمتي كأنبياء بني إسرائيل» والذين هم أكفاء لآل إبراهيم عليه السلام في صلوات التشهد، وهم الأولياء العظام والأئمة الاثنا عشر رضي الله عنهم، ويتقدم الجميعَ الإمام على والحسن والحسين رضوان الله عليهم أجمعين، والشيخ الكيلاني وأحمد الرفاعي(∗) وأحمد البدوي(∗) وإبراهيم الدسوقي(∗) وأبو الحسن الشاذلي(∗) (قدس الله أسرارهم) وأمثالهم من الأقطاب والأئمة، يشهدون جميعا وبالاتفاق وباعتقادهم اليقيني وبالكشفيات والمشاهَدات وبالكرامات والإرشاد التي أظهروها في الأمة، فيصدّقون بإيمانهم الراسخ الرسالةَ المحمدية وصدقَ الرسول الكريم ﷺ.

    الشهادة العاشرة: وهي شهادة الصحابة الكرام الذين هم أفضل الناس وأسماهم منـزلة بعد الأنبياء عليهم السلام. والذين أداروا العالم من الشرق إلى الغرب بالعدل والقسطاس المستقيم بعد أن تنوّروا بنور محمد ﷺ في فترة قصيرة برغم كونهم بَدْوًا وأُميين. وظهروا على الدول العظمى وغدوا أساتذة الأمم الراقية ذات الحضارات والعلم والسياسة، ومعلِّمين لها وسياسيين حكماء عادلين، فحوّلوا ذلك القرن إلى خير القرون وعصرِ السعادة. فهؤلاء الصحابة الكرام بعد تدقيقهم وتحرّيهم عن كل حال من أحوال محمد ﷺ ومشاهدتِهم بأبصارهم قوةَ معجزاته الكثيرة، تركوا عِداءهم السابق، وعافوا طريق أجدادهم وضحّوا بالنفس والنفيس تضحية كريمة رفيعة وانضووا تحت راية الإسلام، كخالد بن الوليد، وعكرمة بن أبى جهل وأمثالهم ممن ترك آباءه وقبيلته. فإن إيمان هؤلاء الصحابة الكرام البالغَ درجة عين اليقين شهادةٌ صادقة كلية على صدق محمد ﷺ وعلى أحقية رسالته.

    الشهادة الحادية عشرة: وهي شهادة ألوف من أهل التحقيق، أي شهادة المجتهدين والأئمة الأعلام والعلماء المحققين الذين يطلق عليهم جميعا: الأصفياء والصديقون، والفلاسفة الدهاة من أمثال ابن سينا وابن رشد الذين آمنوا إيمانا منطقيا وعقليا، رغم اختلاف مسلك كلٍ منهم عن الآخر، مستندين إلى ألوف الحجج القاطعة والبراهين الدامغة، حتى بلغوا درجة علم اليقين.. فإن إيمان هؤلاء جميعا بمحمد ﷺ ورسالته وصدقه وصوابه شهادةٌ كلية إلى حدّ لا يمكن أن يردّها إلّا من كان ذا ذكاء يكافئ ذكاءهم كلهم.

    ورسائل النور هي واحدة من أولئك الشهود الصادقين في هذا العصر، الذين لا يُحصَون ولا يعدّون. ولكن لما سقطت الحجة بأيدي المنكرين لها ولم يجدوا عنها مصرفا، حاولوا أن يسكتوها بالمحاكم بتغرير أفراد الأمن ودوائر العدل.

    الشهادة الثانية عشرة: وهي شهادة الأقطاب الذين يضم كلٌ منهم قسما مهما من الأمة الإسلامية ضمن حلقة درسه وإرشاده، ودفعوهم بالإرشاد الخارق والتوجيه الصائب والكرامات الظاهرة إلى الرقيّ المعنوي مستندين في مواضع الحجج إلى المشاهدات والكشفيات.. فهؤلاء الذين هم أفذاذ أهل التحقيق والحقيقةِ قد شاهدوا كشفا في رقيهم الروحاني صدقَ محمد ﷺ وصدق رسالته وأنه في قمة مراتب الصدق والعدل والحق. فشهادة هؤلاء بالاتفاق والتطابق، على نبوته ﷺ وعلى رسالته، تصديق قوي إلى حد لا يمكن جرحه إلّا مِنْ قِبَل مَن نال ما نالوه جميعا من مراتب الكمالات والفضائل.

    الشهادة الثالثة عشرة: عبارة عن أربع حجج قاطعة واسعة كلية وهي:

    [وبشهادة الأزمنة الماضية بتواتر بشارات الكواهن والهواتف والعرفاء في الأدوار السالفين وبمشاهدة بشارات الرسل والأنبياء وبشهادتهم وبشارتهم عليهم السلام برسالة محمدٍ عليه الصّلاة والسّلام في الكتب المقدّسة]

    إن خلاصة فحوى هذه الفقرة ستوضَّح هنا، أما إيضاحها الكامل وسندُها فهما في ختام رسالة «المعجزات الأحمدية» المنشورة ضمن «مجموعة ذو الفقار».

    والفقرة تعني أن مشاهير البشر في الأزمنة الماضية، وفي مقدمتهم الأنبياء الكرام عليهم السلام والعارفون والكهان والهواتف قد أخبروا بالاتفاق عن مجيء محمد ﷺ وعن رسالته، تلك الإخبارات التي تسمى «الإرهاصات» وهي صريحة ومكررة ومذكورة في كتب التاريخ والسيرة والحديث الشريف، بروايات صحيحة ومتواترة لقسم منها. وقد فَصّلتْ رسالة «المعجزات الأحمدية» و بَيّنت ما هو أقوى وأثبتُ من تلك الألوف من الإرهاصات، فنحيل إليها ونقول بإشارة في منتهى الاختصار:

    أما إخبار الأنبياء فلقد ذكر في «المكتوب التاسع عشر» عشرون آية تخص نبوة محمد ﷺ بما يقرب من الصراحة من مئات الآيات في الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل والزبور، ولقد سجل حسين الجسر(∗) في كتابه مائةً من تلك الآيات التي تبشر بنبوة محمد ﷺ رغم التحريفات الكثيرة التي طرأت على تلك الكتب من قِبَل النصارى واليهود.

    أما الكهان ففي مقدمتهم الكاهنان الشهيران «شقّ وسطيح» فهم يخبرون عن الغيب بوساطة الروحانيين والجن. فأخبروا بروايات صحيحة متواترة وصريحة لا ريب فيها عن مجيء الرسول ﷺ وإزالته لدولة فارس. وعن ظهور نبي عن قريب في الحجاز.

    وأخبر كعب بن لؤي -من أجداد النبي ﷺ- وسيف بن ذي يزن من ملوك اليمن وتُبّع من ملوك الحبشة وأمثالهم من العرفاء، أولياءِ ذلك الزمان، أخبروا صراحةً عن رسالة محمد ﷺ وأعلنوها شعرا. حتى قال أحد أولئك الملوك: «إني لأرجّح خدمة محمد على هذه السلطنة». وقال آخر: «لو أدركتُه لكنت له ابن عم» أي كنت كعلي رضي الله عنه مضحيا ووزيرا له. وقد ذُكر في «المكتوب التاسع عشر» ما هو مهم وثابت من هذه الأخبار. وعلى كل حال فإن هؤلاء العُرَفاء يشهدون شهادة صادقة كلية قوية على رسالة محمد ﷺ وعلى صدقيتها، كما نَشَر كتب التاريخ والسير هذه الأخبار نشرا كاملا.

    وكذا الروحانيون، هم لا يشاهَدون ولكن تُسمع أقوالهم، ويطلق عليهم: الهواتف فهم يشهدون شهادة صادقة كالعارفين والكهان على رسالة محمد ﷺ وعلى نبوته شهادة صريحة جدا.

    وكذا كثرة من المخبرين، بل حتى الذبائح التي تذبح للأصنام، والأصنام نفسها وشواهد القبور كل أولئك قد أخبروا عن نبوته ﷺ. فيشهدون شهادة صدق على رسالته وأحقيته بلسان التاريخ.

    الشهادة الرابعة عشرة: هي شهادة الكون القويةُ، تشير إليها هذه الفقرة العربية:

    [وبشهادة الكائنات بغاياتها وبالمقاصد الإلهية فيها على الرسالة المحمدية الجامعة؛ بسبب توقفِ حصولِ غاياتِ الكائناتِ والمقاصد الإلهية منها وتَقَرُّر قيمتها ووظائِفها وتَبَارُزِ حسنِها وكمالها وتحققِ حكمِ حقائقها على الرسالة الإنسانية لاسيما على الرسالة المحمدية؛ إذ هي المظهرة والمدار الأتم لها، ولولاها لصارت هذه الكائنات المكملة والكتاب الكبير ذو المعاني السرمدية هباءً منثورا متطايرةَ المعاني متساقطةَ الكمالات وهو محال من وجوه وجهات].

    لقد ذكرتْ رسالةُ «الآية الكبرى» فيما يخص هذه الفقرة العربية الآتيَ:

    هذا الكون كما أنه يدل على صانعه وكاتبه ومصوِّره الذي أوجده والذي يديره وينظمه ويتصرف فيه بالتصوير والتقدير والتدبير كأنه قصر باذخ أو كأنه كتاب كبير أو كأنه معرض بديع أو كأنه مشهر عظيم، فهو كذلك يستدعي لا محالة وجودَ مَن يعبّر عما في هذا الكتاب الكبير من معانٍ، ويعلَم ويعلّم المقاصد الإلهية من وراء خلق الكون، ويعلّم الحكم الربانية في تحولاته وتبدلاته، ويدرّس نتائج حركاته الوظيفية، ويعلن قيمة ماهيته وكمالات ما فيه من الموجودات.. ويجيب عن الأسئلة الرهيبة المحيرة، من أين تأتى هذه الموجودات وإلى أين المصير ولِمَ لا تلبث هنا بل تمضى وترحل مسرعة؟ ويُوضِّح معانيَ ذلك الكتاب الكبير ويفسِّر حكمةَ آياته التكوينية. أي يقتضي داعيا عظيما، ومناديا صادقا، وأستاذا محققا، ومعلما بارعا. فالكون من حيث هذا الاقتضاء يدل ويشهد شهادة قوية وكلية على صدق النبي الكريم ﷺ وصوابه الذي هو أفضل مَن أتم هذه الوظائفَ والمهمات. وعلى كونه أفضل وأصدق مبعوث لرب العالمين. فيشهد الكون قائلا: أشهد أن محمدا رسول الله.

    نعم، إن ماهية الكون وقيمتَه ومزاياه تتحقق بالنور الذي أتى به محمد ﷺ وبه تُعلم وظائفُ ما فيه من موجودات ونتائجُها ومهماتها وقيمتها، وبه يكون الكون بأسره عبارة عن مكاتيبَ إلهيةٍ بليغة وقرآنٍ رباني مجسّم ومعرضِ آثارٍ سبحانية مهيب. إذ لولا نوره ﷺ لاتخذ الكونُ ماهيةَ مأتمٍ موحش وخراب مخيف ذا أخلاط متشابهة واضطرابات متعاقبة يتردى في خضم ظلماتِ العدم والعبث والزوال والفناء.

    فبناء على هذه الحقيقة فإن مزايا الكون وكمالاته وتحولاته الحكيمة ومعانيه السرمدية تقول بقوة: نشهد أن محمدا رسول الله.

    الشهادة الخامسة عشرة التي تضم كثيرا من الشهادات وهي:

    أن جميع التحولات والحركات والسكنات والحياة والممات وأمثالها من التصرفات الجارية في الكون إنما تتم بأمرِ وإرادةِ وقوةِ الذات الأقدس الواجب الوجود الذي يتصرف في هذا الكون ابتداءً من الذرات إلى السيارات، فتشهد إجراءاتُ ربوبيته وأفعالُ رحمانيته على الرسالة المحمدية ﷺ. والفقرة العربية الآتية تعبّر عن هذه الشهادة السامية الرفيعة:

    [وبشهادة صاحب الكائنات وخلاقها ومتصرفها على الرسالة المحمدية؛ بأفعالِ رحمانيتهِ وبإجراءات ربوبيته؛ كفعل الرحمانية بإنزال القرآن المعجزِ البيانِ عليه، وبإظهار أنواع المعجزات على يديه، وبتوفيقه وحمايته في كل حالاته، وبإدامة دينه بكل حقائقه، وبإعلاء مقام حرمته وشرفه وإكرامه على جميع المخلوقات بالمشاهَدة والعيان، وكفعل ربوبيته بجعل رسالته شمسا معنويةً لكائناته، وبجعل دينه فهرستةَ كمالاتِ عباده، وبجعل حقيقته مرآةً جامعةً لتجليات ألوهيته، وبتوظيفه بوظائف ضرورية لازمة لوجود المخلوقات في هذه الكائنات كلزوم الرحمة والحكمة والعدالة وكضرورة لزوم الغذاء والماء والهواء والضياء.]

    نحيل تفاصيل هذه الشهادة السامية القاطعة الواسعة جدا إلى رسائل النور، وننظر إلى معناها الإجمالي بإشارة في منتهى الاختصار وهي:

    أننا نشاهد بأعيننا في هذا الكون أنّ مِن عادة الربوبية الجارية في كل آن بالعدالة والحكمة والعناية، حمايةَ الأبرار وتأديب الكذابين الفاسدين، نشاهدها ضمن تصرفاته المنتظمة جل جلالُه. فبمقتضى أفعاله الرحمانية إنـزالُ القرآن المعجز البيان على محمد ﷺ.. وإظهارُ أنواع المعجزات الكثيرة البالغة نحو ألف معجزة على يديه.. وحمايتُه له تحت جناح رأفته الشفيقة في كل حالاته، بل في أخطر أوضاعه حتى حمايته بالحمام والعنكبوت!.. وتوفيقُه توفيقا معززا في مهامه.. وإدامةُ دينه بجميع حقائقه.. وتتويج هامةِ الأرض والبشرية بإسلامه.. وإعلاءُ مقامه وشرفه إلى أرفع مقام وأشرفه.. وتفضيلُه على الموجودات كافة بمنحه مقاما مرضيا مقبولا ودائما يفوق أفاضل الإنسانية.. وإعطاؤه شخصيةً تحملُ أجملَ الخصال الحميدة الرفيعة باتفاق الأولياء والأعداء حتى جُعِلَ خُمُسُ البشرية من أمته.. كل ذلك يشهد شهادة صادقة قاطعة على صدقه ﷺ ورسالته.

    وكذا نشاهد من حيث أفعال ربوبيته جل وعلا: أن المتصرف بهذا العالم ومدبّر شؤونه جعل رسالة محمد ﷺ شمسا معنوية للكون، فقد أُثبتت في رسائل النور: أنه بَدَّدَ بها جميعَ الظلمات، مُظهِرا بها حقائقَ الكون النورانية.. وأبهج ذوى الشعور قاطبة بل الكون بأسره ببشارة الحياة الباقية.. وجعل دينه أيضا فهرس كمالات جميع عباده المقبولين، ومنهجا قويما لأفعال العبودية.. وجعل الحقيقة المحمدية وهي شخصيته المعنوية مرآة جامعة لتجليات أُلوهيته بدلالة القرآن الكريم والجوشن الكبير.. بل جعله ينال -علاوة على الحقائق التي أشرنا إليها- مثل حسنات أمته كافة في كل يوم طوال أربعة عشر قرنا.. وبعثه إلى البشرية وأناط به وظائف جليلة سامية.. وجعله أحسن قدوة وأعظم مرشد وأكرم سيدٍ للبشرية قاطبة، بدلالة آثاره في الحياة الاجتماعية والمعنوية والبشرية، وجعل البشرية محتاجة إلى دينه وشريعته وحقائقه التي أتى بها في الإسلام ([5]) حاجتَها إلى الرحمة والحكمة والعدالة والغذاء والهواء والماء والضياء.. كلُّ هذه الحجج الكلية القاطعة البالغة اثنتي عشرة حجة، شهادةٌ سامية رفيعة على الرسالة المحمدية..

    فهل من الممكن أن لا تكون الرسالة المحمدية شمسا معنوية للكون وهي التي نالت هذا العددَ من الشهادات الكلية الواسعة من رب العالمين الذي لا يُهمل رعايةَ وتنظيمَ شيء مهما كان حتى جناح ذبابة وزُهَيْرة صغيرة.

    فكل شهادة من هذه الشهادات الخمس عشرة تتضمن شهادات كثيرة جدا، حتى إن الشهادة الثالثة قد أثبتت دعوى: أشهد أن محمدا رسول الله بقطعية تامة وقوة راسخة لاندراج ألف من الشهادات تحتها بلسان المعجزات، وأعلنت تحققها وقيمتها وأهميتها العظيمة بحيث إن مئات الملايين من الألسنة في طول العالم الإسلامي وعرضه يعلنون تلك الدعوى إلى الكون خمس مرات في اليوم. كما أن ملياراتٍ من أهل الإيمان قد رضوا وصدّقوا بلا ريب أن أساس تلك الدعوى -وهو الحقيقة المحمدية- هي البذرة الأصلية للكون وسببُ خلقِه وأكمل ثمرته،

    وأن رب العالمين جل جلاله قد جعل تلك الشخصية المعنوية المحمدية داعيا رفيعا إلى سلطان ربوبيته وكشافا صادقا لطلسم الكائنات ومُعَمَّى الخلق، ومثالا ساطعا لألطافه ورحمته، ولسانا بليغا لشفقته ومحبته، وأعظم مبشر بالحياة الدائمة والسعادة الأبدية في العالم الباقي، وخاتمَ مبعوثيه وأعظمَ رسله ﷺ.

    فيا خسارةَ من لا يؤمن بحقيقة لها هذه الماهية ولا يثق بها، أو لا يهتم بها! ويا فداحة خطئه وعِظَم ارتكابه بلاهةً وجناية.

    فكما أن سورة «الفاتحة» التي في الصلاة بإشاراتها في القسم الثاني تبين حججا قاطعة على دعوى حقيقة التوحيد في «أشهد أن لا إله إلّا الله» وتضع عليها ما لا يحد من علامات التصديق، كذلك تأتى في هذا القسم الثالث أيضا بشهودٍ أقوياءَ يصدقون ما في التشهد مِنْ «أشهد أن محمدا رسول الله» ويضعون عليه ما لا يحد من علامات التصديق.

    فيا أرحم الراحمين

    بحرمة هذا الرسول الأكرم ﷺ، وفِّقنا لنيل شفاعته واتباع سنته السنية، واجعلنا بجوار آله وأصحابه الكرام في دار السعادة الأبدية.

    آمين. آمين. آمين.

    اللّهم صلّ وسلّم عليه وعلى آله وصحبه بعدد حروف القرآن المقروءة والمكتوبة آمين.

    ﴿ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَٓا اِلَّا مَا عَلَّمْتَنَاۜ اِنَّكَ اَنْتَ الْعَل۪يمُ الْحَك۪يمُ ﴾

    المقام الثاني من الحجة الزهراء

    بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ

    وبه نستعين

    إن حقيقة واحدة من آية الختام لسورة الفاتحة تشير إلى الموازنة بين أهل الهداية والاستقامة وأهل الضلالة والطغيان. والآية هي منبع جميع الموازنات والمقايسات المعقودة في رسائل النور. وهذه الموازنة يبيّنها بوضوح وبأسلوب عجيب ويعبّر عنها تعبيرا معجزا قولُه تعالى في سورة النور:

    ﴿ اَللّٰهُ نُورُ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ مَثَلُ نُورِه۪ كَمِشْكٰوةٍ ف۪يهَا مِصْبَاحٌ اَلْمِصْبَاحُ ف۪ي زُجَاجَةٍ اَلزُّجَاجَةُ كَاَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ ﴾ (النور:٣٥) إلى آخر الآية.

    والذي بعده: ﴿ اَوْ كَظُلُمَاتٍ ف۪ي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشٰيهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِه۪ مَوْجٌ... ﴾ (النور:٤٠) إلى آخر الآية.

    فالآية الأولى، آية النور تتوجه بعشر إشارات إلى رسائل النور وتنظر إليها، كما أُثبت في الشعاع الأول، مخبرةً خبرا مستقبليا معجِزا عن ذلك التفسير للقرآن الكريم.

    ولما كانت هذه الآية الكريمة أهمَّ سبب من أسباب إطلاق اسم «النور» على رسائل النور، وبناءً على بيانِ معجزة معنوية لهذه الآية العظيمة، كما في السياحة الخيالية التمثيلية لبيان معجزة «ن» نعبد، في قسم من المكتوب التاسع والعشرين.. فإن سائح الدنيا في رسالة «الآية الكبرى» الذي سأل جميع الكائنات وأنواعَ الموجودات أثناء بحثه عن خالقه ووجدانه له ومعرفته إياه، وعرّفه بثلاث وثلاثين طريقا وببراهين قاطعة بعلم اليقين وعين اليقين، فإن السائحَ نفسه قد ساح بعقله وقلبه وخياله في أجواءِ طبقات العصور والأرض والسماوات، دون أن يصيبه تعبٌ أو نصب، بل ما زال يسيح ليشفي غليلَه حتى ساح في أرجاء الدنيا الواسعة كلها، فبحث عن جميع نواحيها كمن يسيح في مدينة. مستندا بعقله أحيانا إلى حكمة القرآن وتارةً إلى حكمة الفلسفة كاشفا بمنظار الخيال أقصى الطبقات، إلى أن رأى الحقائق كما هي في الواقع، فأخبر عن قسم منها في تلك الرسالة «الآية الكبرى».

    وها نحن نبين بيانا مختصرا جدا ثلاثا عوالم فقط من تلك العوالم والطبقات الكثيرة التي دخلها السائح بسياحة خيالية، والتي هي عين الحقيقة، إلّا أنها ظهرت في معنى التمثيل وفي صورته. نبين هذه العوالم كنماذجَ وأمثلةٍ فحسبُ للموازنة الموجودة في ختام سورة «الفاتحة» وكمثال من حيث القوة العقلية وحدها.

    أما سائر مشاهداته وموازناته فنحيلها إلى الموازنات المعقودة في رسائل النور.

    النموذج الأول هو:

    أن ذلك السائح الذي لم يأت إلى الدنيا إلّا ليجد خالقَه وليعرفه، خاطب عقله قائلا:

    لقد سألنا كل شيء عن خالقنا، وأخذنا جوابا شافيا وافيا، ولكن كما يرد في المثل: «ينبغي سؤال الشمس عن الشمس نفسها» فعلينا الآن أن نقوم بسياحة أخرى لأجل معرفة خالقنا من تجليات صفاته الجليلة «كالعلم والإرادة والقدرة» ومن آثاره البديعة ومن جلوات أسمائه الحسنى. فدخل الدنيا لهذا الغرض، وركب سفينة الأرض فورا كأهل الضلال الذين يمثلون تيارا آخر، وقلّد نظارة العلم والفلسفة غيرِ المقيدة بحكمة القرآن. ونظر من خلال منظار منهج الجغرافيا غير المسترشد بالقرآن فرأى:

    أن الأرض تسيح في فضاء غير محدود، وتقطع في سنة واحدة دائرةً تبلغ أربعة وعشرين ألف سنة، بسرعة تزيد على سرعة انطلاق القذيفة بسبعين مرة. وقد حَمَلت على مناكبها مئاتِ الألوف من أنواع ذوى الحياة العاجزة الضعيفة. فلو تاهت لِدقيقة واحدة وضيّعت طريقها أو اصطدمت بنجمة سائبة، تبعثرت متساقطة في فضاء غير محدود، وألقت ما عليها من الأحياء الضعيفة وأفرغتها في العدم والعبث والضياع.

    فاستشعر ظلماتٍ معنويةً رهيبة خانقة كظلمات في بحر لجّيّ تنبعث من هذا الفهم الذي في تيار ﴿ المَغْضُوبِ عَلَيْهِم ﴾ و ﴿ الضَّالِّينَ ﴾ . فقال من أعماقه: يا حسرتاه! ماذا عملنا؟ لِمَ ركبنا هذه السفينة المرعبة؟ وكيف النجاة منها؟ فقذف نظارة تلك الفلسفة العمياء وكَسَرَها، ودخل تيارَ ﴿ الَّذ۪ينَ اَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ وإذا بحكمة القرآن تغيثه مُسَلِّمَةً إلى عقله منظارا يبين الحقيقة كاملة، قائلة له: انظر الآن..

    فنظر ورأى:

    أن اسم ﴿ رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ قد أشرق من بُرجِ قوله تعالى ﴿ هُوَ الَّذ۪ي جَعَلَ لَكُمُ الْاَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا ف۪ي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِه۪ وَاِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ (الملك:١٥) وجعل الأرض سفينة آمنة سالمة تمخر عباب بحر الكون الواسع بانتظام دقيق دائرةً حول الشمس لأجل حِكَم كثيرة ومنافعَ شتى، مشحونةً بذوي الحياة وما يلزمها من أرزاق، وهي تجلب محاصيل المواسم للمحتاجين إلى الرزق، ونصب سبحانه وتعالى ملَكين اثنين يسميان بـ«الثور والحوت» ملّاحَين وقائدَين لتلك السفينة. فيُجريانها في سياحة عبر المملكة الربانية التي هي في منتهى الهيبة والروعة، لتستجمّ مخلوقاتُ الخالق الجليل وضيوفُه في فضاء هذا الكون الواسع. وهكذا تُبين هذه السياحة المهيبة حقيقةَ ﴿ اَللّٰهُ نُورُ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ ﴾ حيث تعرّف خالقَها بتجلي هذا الاسم.

    وبعدما أدرك السائح هذا المعنى من مشاهدته الأرضَ ردّد من أعماق روحه ووجدانه: ﴿ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ الْعَالَم۪ينَ ﴾ ودخل ضمن طائفة الذين أنعمت عليهم.

    النموذج الثاني من العوالم التي شاهدها ذلك السائح هو أنه:

    بعدما غادر ذلك السائح سفينةَ الأرض، دخل عالم الإنسان والحيوانات. فنظر إلى العالم بمنظار الحكمة الطبيعية غير المستلهِمة للحياة والروح من الدين،

    فرأى أن حاجاتٍ غير محدودة لذوي حياة لا يحصون، وأعداءً غير محدودين محيطون بهم يؤذونهم ويُلحِقون بهم أضرارا جسيمة في حوادثَ قاسية لا رحمة فيها، وهم لا يملكون من رأس المال إلّا واحدا من ألف بل واحدا من مائة ألف إزاء تلك الحاجات. وليس في اقتدارهم تجاه تلك الأمور والأشياء المضرة إلّا واحد من مليون! فتألم السائح أمام هذه الحالة التي تثير الرثاء والرهبة والألم -لما يحمل الإنسان من علاقات الرقة الجنسية والشفقة النوعية والعقل- وتألّم لحالهم ألما شديدا وحَزِن عليهم حزنا يشعره بآلام اليأس كالعذاب الشديد في جهنم، فندم ألف ندم على دخوله هذا العالم الحزين النكد.

    وإذ هو يكابد هذه الآلام ويعاني منها ما يعاني إذا بحكمة القرآن الكريم تمدّه وتسعفه، مسلّمة له مِنظارَ ﴿ الَّذ۪ينَ اَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ قائلة له: انظر.. فنظر ورأى:

    أن كل اسم من أسماء الله الحسنى أمثال: الرحمن، الرحيم، الرزاق، المنعم، الكريم، الحفيظ، قد أشرق كالشمس الساطعة، وذلك بتجلي ﴿ اَللّٰهُ نُورُ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ ﴾ عند بروج الآيات الكريمة: ﴿ مَا مِنْ دَٓابَّةٍ اِلَّا هُوَ اٰخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ﴾ (هود:٥٦) ﴿ وَكَاَيِّنْ مِنْ دَٓابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَاۗ اَللّٰهُ يَرْزُقُهَا وَاِيَّاكُمْ ﴾ (العنكبوت:٦٠) ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَن۪ٓي اٰدَمَ ﴾ (الإسراء:٧٠) ﴿ اِنَّ الْاَبْرَارَ لَف۪ي نَع۪يمٍ ﴾ (الانفطار:١٣)

    فانغمرت دنيا الإنسان والحيوان بتلك الرحمة السابغة والإحسان العميم حتى كأنها تحولت إلى جنة موقتة. فعلم السائح أن هذه الدنيا بما فيها تعرّف تعريفا جيدا المُضيّف الكريم لهذا المَضيف الجميل الجدير بالمشاهَدة، المليئ بالعبر، فحمد الله سبحانه ألف حمد قائلا: الحمد لله رب العالمين.

    النموذج الثالث من سياحة السائح التي تحوى مئات من مشاهداته:

    إن ذلك السائح في الدنيا، الذي يريد معرفة خالقه، من خلال تجليات أسمائه الحسنى وصفاته الجليلة خاطب عقله وخياله قائلا: هيا لنصعد إلى السماوات العلى كالأرواح والملائكة تاركين أجسادنا في الأرض، ولنسأل عن خالقنا أهلَ السماوات. فركب العقلُ الفكرَ والروحُ الخيالَ وصعدوا جميعا إلى السماء متخذين علمَ الفلك مرشدَهم، ونظروا بمنظار «الضالين.. المغضوب عليهم» أي بمنظار الفلسفة التي لا تعير للدين بالا، فشاهد السائح:

    أن آلاف الأجرام والنجوم المستطيرة نارا وَتَكْبُرُ الأرضَ ألف مرة وتنطلق وتجرى متداخلة أسرعَ من سرعة القذائف مائة مرة وهي جامدة لا شعور لها، كأنها سائبة، حتى إن ما أخطأت إحداها سبيلَها لدقيقة واحدة مصادفةً واصطدمت مع أخرى لا شعور لها اختلط الحابل بالنابل وعمّت الفوضى وحدث ما يشبه القيامة في ذلك العالم غير المحدود.

    فما من جهة نظر إليها السائح إلّا وأورثته الوحشةَ والدهشة والحيرة والخوف، فندم على صعوده إلى السماء ألف ندم، إذ قد اختل العقل والخيال واضطربا كليا. حتى ليقولا: إننا لا نريد معرفة مثل هذه المعاني القبيحة الأليمة المعذبة كعذاب جهنم، بل نربأ بأنفسنا حتى عن مشاهدتها، لأن وظيفتنا الأساس رؤية الحقائق الجميلة وإراءتها، وإذ يقولان هكذا إذا بتجل مِن ﴿ اَللّٰهُ نُورُ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ ﴾ أشرقت الأسماء الإلهية: «خالق السماوات والأرض» و «مسخر الشمس والقمر» و «رب العالمين» وأمثالها.. أشرقت كالشمس من بروج الآيات الكريمة:

    ﴿ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَٓاءَ الدُّنْيَا بِمَصَاب۪يحَ ﴾ (الملك:٥) ﴿ اَفَلَمْ يَنْظُرُٓوا اِلَى السَّمَٓاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا ﴾ (ق:٦) و ﴿ ثُمَّ اسْتَوٰٓى اِلَى السَّمَٓاءِ فَسَوّٰيهُنَّ سَبْعَ سَمٰوَاتٍ ﴾ (البقرة:٢٩)

    فملأت أنوار تلك الأسماء السماوات كلها بالنور والملائكة.

    وحوّلتها إلى مسجد عظيم وجامع كبير ومعسكر مهيب. فدخل ذلك السائح ضمن طائفة ﴿ الَّذ۪ينَ اَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ ونجا من ظلمات ﴿ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ ﴾ وإذا به يرى مملكة جميلة مهيبة منسقة كالجنة.. فترقت قيمةُ العقل والخيال وسمت وظائفهما ألف درجة لما شاهدا في كل جانب منها من يعرّف بالخالق الجليل.

    وهكذا ننهي هذا البحث الواسع مكتفِين بهذه الإشارة القصيرة جدا مُحِيلِينَ سائر مشاهدات السائح في الكون إلى رسائل النور قياسا على هذه النماذج الثلاثة المذكورة من بين مئات النماذج لدى سياحته لمعرفة واجب الوجود من خلال تجليات أسمائه تعالى. ونحاول بإشارة في منتهى الاختصار معرفةَ خالق الكون -كمعرفة ذلك السائح- وذلك من خلال آثارِ وتجلياتِ صفات «العلم» و«الإرادة» و«القدرة» فقط بين الصفات السبع الجليلة لخالقنا ومن حجج تحقق تلك الصفات الثلاث الجليلة، ونحيل تفاصيلها إلى رسائل النور.

    إن الفقرة العربية الآتية هي وردي التفكري الدائم المستخلَص من خلاصة الحزب النوري العربي، التي تبيّن ثلاث مراتب من المراتب الثلاث والثلاثين لجملةِ «الله أكبر». فنشير ضمن شرحها وما يشبه ترجمتها بإشارات قصيرة إلى ما أشغل كثيرا علماء الكلام وعلماء العقائد من معرفة تلك الصفات بتجلياتها في الكون والتصديق بها بإيمان راسخ بعين اليقين. فهذه الفقرة العربية تفتح سبيلا إلى الإيمان الكامل بتلك الصفات الثلاث -بعلم اليقين- على وجود واجب الوجود ووحدانيته بدرجة البداهة:

    بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ

    ﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّٰهِ الَّذ۪ي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَر۪يكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْب۪يرًا ﴾ (الإسراء:١١١).

    اَلله أكبرُ من كل شيء قدرةً وعلما إذ هو العليمُ بكل شيءٍ بعلمٍ محيطٍ لازمٍ ذاتيّ ([6]) للذاتِ يلزم الأشياء لا يمكنُ أن ينفكّ عنهُ شيء بسر الحضور والشهود والإحاطة النورانية، وبسر استلزام الوجود للمعلومية وإحاطة نور العلم بعالم الوجود.

    نعم، فالانتظامات الموزونة.. والاتزانات المنظومة.. والحِكَم القصدية العامة.. والعنايات المخصوصة الشاملة.. والأقضية المنتظمة.. والأقدار المثمرة.. والآجال المعينة والأرزاق المقننة.. والإتقانات المفننة.. والاهتماماتُ المزينة.. وغاية كمال الانتظام والانسجام والاتساق والإتقان والاتزان والامتياز، المطلقات في كمال السهولة المطلقة.. دالّات على إحاطةِ علمِ علّام الغيوب بكل شيء ﴿ اَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَۜ وَهُوَ اللَّط۪يفُ الْخَب۪يرُ ﴾ (الملك:١٤) فنسبةُ دلالةِ حسنِ صنعةِ الإنسان على شعور الإنسان إلى نسبةِ دلالة حسن خلقة الإنسان على علم خالق الإنسان كنسبة لُميعةِ نجيمة الذبيبة في اللّيلة الدّهماء إلى شعشعة الشّمس في رابعة النّهار.

    نشير بإشارات قصيرة إلى «العلم الإلهي». هذه الحقيقة الإيمانية الجليلة، ضمن ترجمة قصيرة جدا لهذه الفقرة العربية محيلين تفاصيلها إلى رسائل النور، فنقول: ([7])

    نعم، كما أن الرحمةَ تبين نفسها كالشمس بأرزاقها العجيبة وتُثبت بدلالة قاطعة أن وراء ستار الغيب رحمانًا رحيما، كذلك «العلم» الذي اتخذ موقعا ضمن مئات الآيات القرآنية، والذي هو -من جهةٍ- أُولى الصفات السبع الجليلة يبين نفسه كضوء الشمس بثمراتِ وحكمِ النظام والميزان، ويدل على وجود عليم بكل شيء دلالة مطلقة.

    نعم، إن نسبة دلالةِ حُسن صنعةِ الإنسان المنتظمة المقدّرة على شعوره وعلمه، ودلالةِ حُسن خلق الإنسان في أحسن تقويم على علم خالق الإنسان وحكمته جل وعلا كنسبة لُمَيعة اليراعة في الليلة الدهماء إلى شعشعة الشمس في رابعة النهار.

    والآن قبل الخوض في بيان دلائل العلم الإلهي، فإن دلالة تجليات تلك الصفة المقدسة في أنواع الكائنات على الذات المقدسة دلالة واضحة جدا قد شهد عليها وتضمنها الحوارُ الذي دار ليلة المعراج النبوي، لدى حظوته ﷺ بالحضور والخطاب الإلهي لَمَّا قال:

    «التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله» باسم جميع ذوي الحياة وأنواع المخلوقات، حيث هو مبعوث ورسول، فقدّم إلى خالقه الجليل هدايا جميعِ ذوي الحياة، في طرازِ معرفةِ جميع تلك المخلوقات ربَّها بتجليات العلم، قال ذلك في موضع السلام وبدلا عن جميع ذوي الشعور.

    أي إن الطوائف الأربع لجميع ذوي الحياة تقدّم بالكلمات الأربع: «التحيات المباركات الصلوات الطيبات» وبتجليات العلم الأزلي الأبدي، تحياتِها وتهانيَها وعبوديتَها ومعرفتها الجميلة الطيبة إزاء علام الغيوب، لذا غدت قراءةُ هذه المحاورة المعراجية المقدسة بمعناها الواسع فرضا على جميع المسلمين في التشهد.

    نبين معنى من معاني تلك المحاورة السامية بأربع إشارات مختصرة جدا مُحِيلين إيضاحها إلى رسائل النور.

    الكلمة الأولى: هي «التحيات لله»

    ومعناها باختصار هو:

    إذا ما صنع صَنَّاع ماهر ماكنةً خارقة، بما يملك من علم واسع وذكاء خارق، فإن كل مَن يشاهد تلك الماكنة العجيبة يهنئ ذلك الصَنَّاعَ تهنئةَ تقديرٍ وإعجاب. ويقدم له هدايا وتحيات مادية ومعنوية مع ثناء مفعم بالاستحسان. والماكنةُ بدورها تهنئ وتبارك صناعَها بلسان الحال وتقدم هدايا وتحيات معنوية له، وذلك بإظهار رغباتِ ذلك الصَّنَّاع كاملة، وعرضِ خوارقِ صنعته الدقيقة وإبرازِ حذاقته العلمية.

    كذلك فإن جميع طوائف ذوي الحياة في الكائنات كلها، بل كل طائفة منها، وكل فرد من أفرادها، إنما هي ماكنة معجزة بكل جوانبها، تهنئ صانعَها الجليل الذي يعرّف نفسه بجلوات علمه الواسع الذي يبصر علاقة كل شيء بأي شيء كان، ويوصل إليه كلَ ما يلزم حياته في وقته، تهنّئه وتزجي إليه بالتحيات وتباركه بقولها: «التحيات لله» بألسنة أحوال حياتها، كما تهنئه ألسنة أقوال ذوي الشعور كالإنس والجن والملك. فيقدّم جميعُ ذوي الحياة ثمنَ حياتهم مباشرة بمعنى العبادة إلى خالقهم الذي يعلم أحوال المخلوقات كلها. فعبّر الرسول الكريم محمد ﷺ لدى حضوره أمام الواجب الوجود في ليلة المعراج باسم جميع ذوي الحياة بقوله: «التحيات لله» بدلا من السلام، مقدِّما تحياتِ طوائفِ جميع ذوي الحياة وهداياهم وسلامهم المعنوي.

    نعم، إن كانت ماكنة منتظمة اعتيادية تدل على صانع ماهر حاذق بتركيبها المنظم الموزون، فإن كل ماكنة من المكائن الحية التي تملأ الكون والتي لا تعد ولا تحصى تُظهر إذن ألفَ معجزة ومعجزة عِلمية، ولاشك أن ذوي الحياة يدلون على وجوب وجود صانعهم السرمدي وعلى معبوديته بتجليات العلم التي هي كضوء الشمس بالنسبة لدلالة تلك الماكنة التي هي كضوء اليراعة.

    الكلمة الثانية السامية من كلمات المعراج: هي «المباركات»

    لما كانت الصلاة معراج المؤمن كما هو ثابت في الحديث الشريف، وفيها أنوار تجليات المعراج الأعظم، وأن سائح الدنيا قد وجد خالقه العلّام للغيب بصفة العلم في كل عالم. فنحن كذلك ندخل مع ذلك السائح عالَم المباركات الواسع والذي يستنطق الآخرين بالتبريك والتهنئة، ونحاول أن نعرف خالقنا بعلم اليقين -مثل ذلك السائح- من خلال التجليات المعجزة الدقيقة للصفة الإلهية الجليلة، صفةِ العلم. وذلك أثناء مشاهدة ذلك العالم، عالمِ المباركات ومطالعته، ولاسيما صغار ذوي الأرواح اللطيفين المباركين الأبرياء، والنوى والبذور التي هي عُليبات تضم مقدّرات ذوي الحياة وبرامجها.

    نعم، إننا نشاهد بأبصارنا أن جميع أولئك الصغار اللطيفين الأبرياء وتلك المخازنِ والعُليبات المباركة، تنتفض جميعُها وكل فرد منها دفعة بعلمِ عليم حكيم للمضي إلى ما خُلق لأجله حتى تستنطق تلك الحركات كلَ ناظر إليها بنظر الحقيقة بالقول: بارك الله، ما شاء الله.. ألف ألف مرة.

    نعم، فالنُطف مثلا والبيوض والبذور والنوى، كل منها ضمن نظام دقيق آت من العلم.. وأن ذلك النظام ضمن ميزان آت من مهارة كاملة.. وذلك الميزان ضمن تنظيم جديد.. وهذا ضمن مكيال ووِزان جديد.. وهذا بدوره ضمن تربية.. وتمييز.. وعلامات فارقة مقصودة عن متشابهات أمثالها.. وهذه ضمن تزيين وتجميل متقن.. وهذا أيضا ضمن أجهزة كاملة وتصوير ملائم دقيق حكيم.. وهذه ضمن اختلاف لحوم تلك المخلوقات والثمرات وما يؤكل منها، لإشباع المحتاجين إلى الرزق إشباعا كريما بما ينسجم وأذواقهم.. وهذا أيضا ضمن نقوش وأشكال من الزينة المتباينة زُيّنت بعلم وإعجاز.. وهذه ضمن روائح طيبة متنوعة.. وطعومات لذيذة متباينة، بحيث إن انكشاف صور جميع تلك المخلوقات وتمايزَ بعضها عن بعض بكمال الانتظام بلا خطأ ولا سهو في سرعة مطلقة.. وَوُسْعَة مطلقة.. مع أنها في كثرة مطلقة.. ودوام تلك الحالة الخارقة في كل موسم، يجعل كل فرد والأفراد جميعا يَظهرون بهذه الألسنة الخمسة عشرة العلم الإلهي، ويلفتون الأنظار إلى المهارة الخارقة لربهم ويدلّون بها على علمه المعجز. فيعرّفون بجلاء كالشمس صانعَهم الواجب الوجود، علام الغيوب.

    فشهادتهم هذه الواسعةُ الساطعة جدا وتهانيهم وتقديرهم لصانعهم، هي التي عبّر عنها النبي ﷺ الذي تكلم باسم جميع المخلوقات في ليلة المعراج وقال: «المباركات» بدلا عن السلام.

    الكلمة الثالثة: وهي «الصلوات»

    إن مائة مليون من أهل الإيمان يعلنون تلك الكلمة المقدسة التي قيلت في المعراج المحمدي الأكبر، وتقال في المعراج الخاص بالمؤمن، أي في تشهّد الصلاة، في كل يوم في الأقل عشر مرات، باتّباعهم الرسول الكريم ﷺ يعلنونها في أرجاء الكون كله مقدِّمين إياها إلى الحضرة الربانية.

    وبناء على البيان الواضح والإثبات القوى القاطع في رسالة المعراج «الكلمة الحادية والثلاثين» وإيضاحها جميعَ حقائق المعراج، حتى إزاء خطابها للملحد المنكر المتعنت، نُحيل تفاصيل البحث وحججه إلى تلك الرسالة، إلّا أننا نشير إشارة في منتهى الاختصار إلى المعنى الواسع لهذه الكلمة المعراجية الثالثة والذي يبينه العوالم العجيبة لطوائف ذوي الأرواح والمشاعر، فنشاهد تلك العوالم محاوِلين معرفةَ وحدانيةِ خالقنا ووجودِه وكمالِ رحمانيته ورحيميته وعظمةِ قدرته وشمول إرادته، وذلك من خلال تجليات العلم الأزلي.

    نعم، إننا نشاهد في هذا العالم أن كل ذي روح يستشعر بالأحاسيس وبالفطرة -وإن لم يكن بالشعور والعقل- أنه يعانى عجزا وضعفا لا يُحدّان بحدودٍ مع أن أعداءه وما يؤلمه لا يُعدّون، وأن كلّا منهم يتقلب في فقر وحاجة لا حدود لهما مع أن حاجاته ومَطالِيبَه لا حدّ لها. ولما كان اقتداره ورأس ماله لا يكفي لواحد من ألف منها، تراه يستغيث ويبكي بكل ما يملك من قوة، ويتضرع فطرةً وضمنا. وإذ يلتجئ إلى ديوانِ عليمٍ قدير بصوته الخاص وبلسانه الخاص وبدعواتٍ وصلوات وتوسلات وتضرعات ونوع من صلوات خاصة به، إذا بنا نشاهد أن قديرا حكيما عليما مطلقا يعلم كل حاجة من حاجات أولئك الأحياء ويقضيها لهم، ويبصر كل داء من أدوائهم ويسعفها لهم، ويسمع كل نداء ودعاء يدعونه فطرةً ويستغيثون به ويستجيب لهم، فيحوّل سبحانه وتعالى بكاءهم إلى ابتساماتٍ حلوة ويبدل استغاثاتهم إلى أنواع من الحمد والشكر.

    إن هذا المدد المتسم بالحكمة والعلم والرحمة يدل دلالة واضحة بتجليات العلم والرحمة على المجيب المغيث الرحيم الكريم. فجميع الصلوات والعبادات التي تنطلق من هذه العوالم، عوالمِ ذوي الأرواح، الصاعدة إلى ذلك المجيب المغيث قد عَبّر عنها -بهذا المعنى- وقدّمها وخصصها محمدٌ ﷺ في المعراج الأكبر، ويرددها كل مؤمن في المعراج الأصغر في كل صلاة بـ «الصلوات الطيبات لله».

    الكلمة الرابعة السامية: وهي «الطيبات لله»

    لما كانت حقائقُ كثيرة لرسائل النور تتخطر على قلبي في أذكار الصلاة، فقد رأيتُني كأنني أنساق -بناء على هذه الحكمة- إلى بيانِ حقائقِ كلمات سورة الفاتحة والتشهد بإشارات قصيرة دون اختيار منى.

    وهكذا فالكلمة القدسية: «الطيبات» التي قيلت في المعراج المحمدي التي تحوى معاني الطيبات التي لاتحد والمنطلقة من الإنس والجن والملك والروحانيين الذين هم أهل المعرفة والإيمان والشعور الكلي، والذين يجمّلون الكون بأسره بطيباتهم وحسناتهم وعباداتهم الجميلة، المتوجهة كلها إلى عالم الجميلات، والذين يدركون إدراكا كاملا الجمالاتِ والمحاسنَ التي لاتحد للجميل المطلق السرمدي، والجمالَ الدائم لأسمائه الحسنى التي تجمّل الكون فيقابِلون بالعبادات الكلية المفعمة بالعشق والشوق، وبالروائح الطيبة العطرة للإيمان الساطع وللمعارف الواسعة وللحمد والثناء التي يقدمونها تجاه خالقهم الجليل..

    وبحكم هذا المعنى الواسع لتلك الطيبات التي لا تحد وبمضمون ما قيل في المعراج، تُكرِر الأمة كلها تلك الكلمةَ المقدسة في التشهد يوميا دون ملل ولا سأم.

    نعم، إن هذا الكون مرآة تعكس الجمال السرمدي والحسن غير المحدود، بل تجلياتِه سبحانه. وما في الكون من جمال وحُسن آت من ذلك الحسن السرمدي، ويتجمل بالانتساب إليه فيرقى ويعلو.. إذ لولا ذلك الانتساب لتحول الكون إلى مأتم موحش وأخلاط ودمار وفوضى ضاربة الأطناب.

    ويُدرك ذلك الانتساب بمعرفة الإنس والجن والملك والروحانيين وبتصديقهم، وهم الدعاة الأدلاّء إلى سلطنة الألوهية،

    حتى إن الحمد الجميل والثناء الحسن الذي يرفعه أولئك الدعاة ونَشْرَ ثنائهم على معبودهم وكلماتهم إلى كل ناحية في الكون وإلى العرش الأعظم تقف إزاءها ذرات الهواء على أهبة الاستعداد لأداء هذه المهمة وكأنها ألسنة ناطقة مصغرة وآذان صاغية صغيرة، لأجل تقديم تلك الكلمات الطيبات إلى الحضرة الإلهية.. فخطر إلى قلبي أن هناك احتمالا قويا بمنح تلك المهمة الخارقة جدا والعجيبة إلى الهواء.

    وهكذا فكما أن الإنس والمَلَك يعرّفون المعبود الجليل بإيمانهم وعباداتهم، كذلك الحكيم ذو الجلال يعرّف نفسه تعريفا ظاهرا ساطعا بما أودع من استعدادات جامعة كثيرة في الدعاة وبما جهّزهم به من أجهزة بديعة خارقة وبما فيهم من دقائق علمية، وجَعَل كلا منهم ذا ارتباط مع الكون بأسره وكأن كلا منهم كون مصغر.

    فمثلا: إنّ خلق القوة الحافظة والخيالية والمفكرة وأمثالها من المكائن العجيبة في موضع صغير في دماغ الإنسان لا يتجاوز حجم جوزة واحدة، وجَعْلَ القوة الحافظة بمثابة مكتبة ضخمة، يبين أنه سبحانه وتعالى يُظهر نفسه بتجليات العلم الأزلي بيانا واضحا كالشمس في رابعة النهار. ([8])

    والآن نشير بإشارات في منتهى الإيجاز إلى فحوى الفقرة العربية المذكورة في مقدمة هذا البحث المشيرة إلى الحجج الكلية للعلم المحيط، وهي حجة عظيمة تضم ما لا يحد من البراهين وتبين العلم الأزلي بخمسة عشر دليلا.

    فالدليل الأول من الأدلة الخمسة عشر: هو: [فالانتظامات الموزونة].

    أي إن التناسق المقدّر قدَره والمشاهَد في المخلوقات جميعا، وكذا الانتظام الموزون فيها يشهدان على علم محيط بكل شيء.

    نعم، إنه ابتداءً من جميع الكون الذي هو كقصر بديع منسق الأجزاء، ومن المنظومة الشمسية، ومن عنصر الهواء الذي تنشر ذراتُه الكلماتِ والأصوات نشرا يبعث على الحيرة والإعجاب، ويبين انتظاما بديعا، ومن سطح الأرض الذي يهيئ ثلاثمائة ألف نوع من الأنواع المختلفة في كل ربيع وفي أتم نظام وأكمل انتظام.. إلى كل جهاز من أجهزة كل كائن حي بل إلى كل عضو فيه بل إلى كل حُجَيْرة من جسمه بل إلى كل ذرة من ذرات جسمه.. كل ذلك إنما هو أثرُ علمٍ لطيف محيط بكل شيء لا يضل ولا ينسى.

    نعم، إن وجود هذا النظام الموزون والانتظامِ الأتم في كل ما ذُكر يدل دلالة قاطعة ويبين بوضوح تام علما محيطا بكل شيء ويشهد له.

    الدليل الثاني: هو [الاتزانات المنظومة].

    أي إن وجود ميزان في منتهى الانتظام ومكيالٍ في منتهى الاتزان في جميع المصنوعات التي في الكون جزئيها وكليها ابتداءً من السيارات الجارية في الفضاء إلى الكُرَيَّات الحمر والبيض السابحة في الدم، إنما يدل بالبداهة على علم محيط بكل شيء ويشهد عليه شهادة قاطعة.

    نعم، إننا نشهد مثلا أن أعضاء الإنسان أو الذباب وأجهزتَه، بل حتى حجيرات جسمه وكريات دمه الحمرَ والبيض قد وُضعت في موضعها الملائم المناسب والمنسجم، بميزان حساس جدا وبمكيال دقيق جدا ينسجم انسجاما تاما بعضه مع البعض الآخر ومع سائر أعضاء الجسم.. بحيث يدل دلالة قاطعة على أن من لا يملك علما محيطا بكل شيء لا يستطيع أن يعطي تلك الأوضاع إلى تلك الأشياء ولا يمكن له ذلك بحال من الأحوال.

    وهكذا فإن جميع ذوي الحياة وأنواع المخلوقات من الذرات إلى سيارات المنظومة الشمسية هي في موازنة تامة لا تتعثر قيد أنملة، ويحكمها جميعا مكيالٌ منظم، مما يدل دلالة قاطعة على علم محيط بكل شيء ويشهد شهادة صادقة عليه. بمعنى أن كل دليل من دلائل العلم دليل أيضا على وجود العليم الخبير. إذ محالٌ وجودُ صنعة بلا موصوف. فجميع حجج العلم الأزلي حجة قوية أيضا على وجوب وجوده سبحانه وتعالى.

    الدليل الثالث: وهو [والحِكَم القصدية العامة ]

    أي إن حِكَما مقصودة بعلم، تُناط بكل مصنوع، وبكل طائفة في الكون الذي تجرى فيه الخلاقية الدائمة والفعالية المستمرة والتبدل الدائم والإحياء المستمر والتوظيف والتسريح المستديمان، تلك التي لها من الفوائد والوظائف بحيث لا يمكن إسنادها إلى المصادفة قطعا. فنشاهد أنه من لا يملك علما محيطا لا يمكن أن يكون مالكا لأيّ منها وفي أية جهة كانت من حيث الإيجاد.

    فمثلا: اللسان جهاز واحد من مائة جهاز من أجهزة الإنسان الذي هو واحد مما لا يحد من الأحياء، هذا اللسان عبارة عن قطعة لحم ليس إلّا. ولكنه يكون وسيلة لمئات من الحكم والنتائج والثمرات والفوائد بأدائه وظيفتين مهمتين:

    فأداؤه لوظيفةِ تذوّقِ الأطعمة: هو إبلاغه الجسم والمعدة بعلم عن جميع اللذائذ المتنوعة لكل نوع من أنواع الأطعمة، وكونُه مفتشا حاذقا على مطابخ الرحمة الإلهية..

    وأداؤه لوظيفة الكلمات: هو كونه مترجما أمينا ومركزا لبث ما يدور في القلب وما يراود الروح والدماغ من أمور.. كل ذلك يدل دلالة في منتهى السطوع والقطعية على علم محيط لاشك فيه..

    فلئن كان لسانٌ واحد يدل دلالة إلى هذا الحد بما فيه من حِكم وثمرات، فإن ألسنةً غير متناهية وذوي حياة غير معدودين ومصنوعات لا منتهى لها تدل بلا شك دلالة أوضحَ من الشمس وتشهد شهادة أبيَن من النهار على علم لانهاية له. وتعلن جميعها أنه لا شيء خارج عن دائرة علم الغيب ولا خارج عن مشيئته جل وعلا.

    الدليل الرابع: هو: [والعنايات المخصوصة الشاملة]

    أي إن أنواع العناية والشفقة والرعاية الخاصة المناسِبة لكل نوع بل لكل فرد والشاملة جميع ما في عالم الأحياء وذوي الشعور تدل دلالة بدهية على علم محيط. وتشهد شهاداتٍ لا حدّ لها على وجوبِ وجودِ عليم ذي عناية يعلم أولئك الذين نالوا تلك العنايات ويعلم حاجاتهم.

    تنبيه:

    إن إيضاح كلمات الفقرة العربية التي هي زبدةُ خلاصة الخلاصة لرسائل النور المترشحة من القرآن الكريم هو إشارة إلى ما استفاضته رسائلُ النور من الحقائق المنبعثة من لمعات آيات القرآن الكريم ولاسيما الدلائل والحجج التي تخص «العلم» و«الإرادة» و«القدرة» بحيث تفسّر باهتمام بالغ ما تشير إليه هذه الكلمات العربية من دلائل علمية. بمعنى أن كلا منها عبارة عن بيان لنكتة وإشارة لآيات قرآنية كريمة. وإلّا فهي ليست تفسيرا لتلك الكلمات العربية وبيانها وترجمتها..

    نرجع إلى الموضوع الذي نحن بصدده:

    نعم، إننا نشاهد بأبصارنا أن عليما رحيما يعرفنا ويعلم بحالنا وأحوال جميع ذوي الأرواح فيشملهم جميعا بشفقته وحمايته ويأخذهم تحت كنف رحمته عن معرفة وبصيرة، ويوفي حاجات كل منهم ومطاليبه فيغيثه بعنايته ورأفته.

    نورد مثالا واحدا من بين أمثلته غير المحدودة: فالعنايات الخاصة والعامة والواردة من حيث رزق الإنسان وما يحتاجه من أدوية ومعادن تبين بيانا جليّا علما محيطا وتشهد على الرحمن الرحيم بعدد الأرزاق والأدوية والمعادن.

    نعم، إن إعاشة الإنسان ولاسيما العاجزين والصغار الضعاف، وبخاصة إيصال الرزق إلى أعضاء الجسم المحتاجة إليه من مطبخ المعدة، حتى إلى حجيراته، كل بما يناسبه.. وكذا جَعْل الجبال الشوامخ مخازنَ للمعادن ومداخرَ أدويةٍ يحتاجها الإنسان وأمثالها من الأفعال الحكيمة، لا يمكن أن تحصل إلّا بعلم محيط بكل شيء. فالمصادفة العشواء والقوة العمياء والطبيعة الصماء والأسباب الجامدة الفاقدة للشعور والعناصر البسيطة المستولية، لا يمكن أن تتدخل قطعا في مثل هذه الإعاشة والإدارة والحماية والتدبير المتسمة بالعلم والبصر والحكمة والرحمة والعناية. فليست تلك الأسباب الظاهرية إلّا ستارا لعزة القدرة الإلهية بأمر العليم المطلق وبإذنه وضمن دائرة علمه وحكمته.

    الدليل الخامس والسادس: وهما: [والأقضية المنتظمة والأقدار المثمرة]

    أي إن أشكال كل شيء ولاسيما أشكال النباتات والأشجار والحيوانات والإنسان ومقاديرَها قد فصلت تفصيلا متقنا بدساتيرِ نوعَي العلم الأزلي وهما القضاء والقدر، وخيطت بما يلائم قامة كلٍّ منها ملاءمةً تامة، وأسبغت على كل منها فأُعطيت لها شكل منتظم في غاية الحكمة. فكل شيء من هذه الأشياء وجميعها معا تدل على علم لانهاية له وتشهد بعددها على صانع عليم.

    لنأخذ من أمثلتها غير المحدودة مثالا واحدا: شجرة واحدة، أو إنسان فرد، فنشاهد أن هذه الشجرة المثمرة وهذا الإنسان الحامل لأجهزة كثيرة قد رُسمت حدودُ ظاهرِه وباطنه بفرجار غيبي وقلم علم دقيق، إذ أُعطي بانتظام تام لكل عضو من أعضائه ما يناسبه من صورة لتثمر ثمراتها وتنتج نتائجها وتؤدي وظائف فطرتها. ولما كان هذا لا يحدث إلّا بعلم لانهاية له، يحتاج إلى علم غير محدود لصانع مصوّر وعليم مقدّر يعلم العلاقة بين الأشياء كلها ويحسب ارتباط كل شيء بالأشياء كلها ويعلم جميع أمثال هذه الشجرة وهذا الإنسان، وجميع أنواعهما ويقدّر بفرجارِ وقلمِ قضائه وقدر علمه الأزلي مقاديرَ خارجِه وباطنه ويصوّر صورته تقديرا حكيما، وعلى بصيرة وعلم. أي إن الدلائل والشهادات على وجوب وجوده سبحانه وعلى علمه المطلق هي بعدد النباتات والحيوانات.


    الدليل السابع والثامن: وهما: [والآجال المعينة والأرزاق المقننة].

    إن الآجال والأرزاق اللذين يبدوان بظاهر الأمر كأنهما مبهمان وغير معيّنين، إلّا أنهما في الواقع مقدّران تحت ستار إبهام في دفتر القضاء والقدر الأزلي، وفي صحيفة المقدّرات الحياتية.

    فالأجل المحتوم لكل ذي حياة مقدرٌ ومعين لا يتقدم ساعة ولا يتأخر، ورزقُ كل ذي روح قد عيّن وخصص، ومكتوبُ كل ذلك في لوح القضاء والقدر.

    وهناك ما لا يحد من الأدلة على هذا الحكم، منها:

    أن موت شجرة ضخمة وتوريثها بذيراتِها التي هي بمثابة نوع من روحها، للقيام بمهامها التي كانت تؤديها، لا يتم إلّا بقانونٍ حكيم لعليم حفيظ. وأن ما يتدفق من الأثداء من لبن خالص رزقا للصغير، وخروجَه من بين فرثٍ ودمٍ دون اختلاط أو امتزاج، صافيا طاهرا، وسيلانه إلى فمه، لَيَردُّ ردا قويا احتمالَ وقوعهِ بالمصادفة، ويبيّن تحققَه في غاية القطعية أنه من جراء دستور ذي شفقة موضوعة من لدن رزاق عليم رحيم. وقس سائر ذوي الحياة وذوي الأرواح على هذين النموذجين الجزئيين.

    ففي حقيقة الأمر إن الأجل معيّن مقدر، والرزق كذلك، وقد أُدرجا في سجل المقدَّرات وجُعِل كل منهما معينا. ولكنهما يبدوان -في الظاهر- متواريين خلف الغيب، ومتعلقين في خيوط الإبهام غير المرئية، ويَظهران كأنهما غير معينين فعلا، وكأنهما مشدودان إلى المصادفة... كل ذلك لأجل حكمة دقيقة وفي غاية الأهمية!

    إذ لو كان الأجل معينا كغروب الشمس لكان الإنسان يقضي شطر عمره في غفلة مطبقة، ويضيّعه، عازفا عن السعي للآخرة، ثم يتورط في الشطر الآخر بخضم المخاوف المذهلة، ويكون كمن يخطو خطوة كل يوم نحو أعواد المشانق، ولكانت المصيبة المندرجة في الأجل تتضاعف بالمئات! ولأجل هذا السر الدقيق أُبقيت المصائب -التي تعاود الإنسان عادةً- تحت ستار الغيب. بل حتى إن أجلَ الدنيا الذي هو القيامة قد أخفاه سبحانه -رحمةً منه ورأفةً- خلف حجاب الغيب للسبب نفسه.

    أما الرزق، فلكونه أعظم خزينة تَفيض بالنعم بعد نعمة الحياة.. وأغنى منبع يفعم بالشكر والحمد.. وأجمعَ كنـز للعبودية والدعاء وضروب الرجاء، فقد عرض في صورته الظاهرة كأنه مبهمٌ ومشدود إلى المصادفة؛ وذلك لئلا يوصد باب طلب الرزق بالدعاء من الرزاق الكريم في كل حين، ولئلا ينغلق باب الالتجاء والتوسل المشفعة بالحمد والشكر لله تعالى، إذ لو كان الرزق معينا كشروق الشمس وغروبها، لكانت ماهيتُه متغيرة كليا، ولكانت أبواب الرجاء ومنافذ التضرع ومعارج الدعاء الملفّعة كلها بالشكر الجميل والرضى الحسن قد انسدت عن آخرها، بل لكانت أبواب العبودية الخاشعة الضارعة قد انغلقت نهائيا.

    الدليل التاسع والعاشر:

    وهما: [والإتقانات المفننة والاهتمامات المزينة].

    أي إن كل مصنوع من جميع المخلوقات الجميلة المبثوثة على سطح الأرض كافة ولاسيما في موسم الربيع يبين تجليات حُسنٍ سرمد وجمال خالد. فخذ مثلا: الأزاهير والثمرات والطويرات والحشرات ولاسيما المذهّبة اللماعة؛ ففي خلقها وفي صورتها وفي أجهزتها من المهارة المعجزة والصنعة الدقيقة الخارقة والإتقان البديع والكمال المعجز لصانعها الجليل، في أشكال متنوعة وأنماط مختلفة ومكائن دقيقة ما يدل دلالة قاطعة على علمٍ محيط بكل شيء ومَلَكةٍ علمية ذات مهارات وفنون -إن جاز التعبير-، وتشهد شهاداتٍ صادقة على أن مداخلة المصادفة والأسباب المتشاكسة الفاقدة للشعور، محال في محال.

    وإن عبارة «والاهتمامات المزيّنة» تفيد: أن في تلك المصنوعات الجميلة تزيينا لطيفا حلوا وزينة فاخرة رائعة وجمالَ صنعةٍ جاذب فيفعل ما يفعل بعلم لا نهاية له، ويعلم أجمل حالة وألطف وضع لكل شيء، ويريد إظهار جمال كمال الإبداع وكمالَ جماله إلى ذوي الشعور بحيث يَخلق أصغر زهيرة جزئية وأصغرَ حشرة ويصورها باهتمام بالغ وبمهارة فائقة وبإتقان بديع.

    فهذا التزيين والتجميل المتسم بالاهتمام والرعاية يدل بالبداهة على علم محيط بكل شيء ويشهد على وجوب وجود الصانع العليم ذي الجمال بعدد تلك المخلوقات الجميلة..

    الدليل الحادي عشر المتضمن لخمسة أدلة وخمس حجج:

    [وغاية كمال الانتظام، الاتزان، الامتيازِ، المطلقات، في السهولة المطلقة..

    وخلقُ الأشياء في الكثرة المطلقة مع الإتقان المطلق..

    وفي السرعة المطلقة مع الاتزان المطلق..

    وفي الوُسْعة المطلقة مع كمال حسن الصنعة..

    وفي البُعْدَةِ المطلقة مع الاتفاق المطلق..

    وفي الخلطة المطلقة مع الامتياز المطلق..]

    هذا الدليل هو صياغة أخرى للدليل المذكور في ختام الفقرة العربية السابقة وأجمل منها، وهو بيان للدلائل الخمسة والستة الواسعة، نشير إليه بإشارة في منتهى الاختصار والقِصَر بسبب المرض الشديد.

    أولا: نشاهد على الأرض كافة أن صنعَ مكائن ذات حياة عجيبة، بكل سهولة ويسر دفعةً، نابعين من علم كامل ومهارة تامة، بل صنع قسم منها في دقيقة واحدة، وبشكل منسق موزون، مع فوارق عن مثيلاتها، يدل دلالة تامة على علم لا نهاية له، وعلى كمال ذلك العلم بدرجة السهولة واليسر الناشئين من المهارة العلمية في الصنعة.

    ثانيا: إنّ خلق المخلوقات في غمرة الكثرة غير المتناهية والوفرة التي لا تحدها حدود بإتقان وبلا خطأ ولا حيرة يدل على علم لا حد له ضمن قدرة غير متناهية، ويشهد شهادات لا حدّ لها على العليم المطلق والقدير المطلق.

    ثالثا: إنّ خلق المخلوقات التي هي في غاية الميزان والمكيال في منتهى السرعة، يدل على علم لا حدود له، ويشهد بعدد تلك المخلوقات على العليم المطلق والقدير المطلق.

    رابعا: إنّ خلق ذوي حياة لا يحصرها العد في وُسْعة مطلقة تسع الأرض كلها، في أتم إتقان في الصنعة وفي أجمل زينة، وكمالِ حسن الصنعة، يدل على علم محيط بكل شيء لا يضلّ ولا ينسى ويرى الأشياء كلها دفعة واحدة ولا يمنعه شيء عن شيء ويشهد كل موجود وجميعها معا على أنه مصنوع عليم بكل شيء وقدير على كل شيء.

    خامسا: إن خلق أفراد الأنواع التي تفصل بينها مسافات هائلة، فأحدها في الشرق وآخر في الغرب وآخر في الشمال وآخر في الجنوب، في وقت واحد، وعلى طراز واحد متشابها متماثلا مع تميّز كل منها عن الآخر في التشخص، لا يمكن أن يكون إلّا بقدرةِ قديرٍ مطلق القدرة يدير الكون بأسره بقدرته وبعلم مطلق يحيط بالموجودات مع أحوالها. لذا فهذه المخلوقات تشهد شهادات لا حدود لها على علم محيط بكل شيء وعلى علّام الغيوب.

    سادسا: إن خلق مكائن كثيرة ذات حياة في تميّز خاص تام وعلامات فارقة عن مثيلاتها، مع أنها ضمن ازدحام شديد وفي أماكن مظلمة -كالنوى الموجودة تحت التراب- ومن دون التباس ولا خطأ ولا حيرة رغم أنها في اختلاط مطلق، وخَلْقَ جميع أجهزة كل منها بلا نقصان خلقا معجزا، يدل دلالة واضحة كالشمس على علمٍ أزلي ويشهد شهادة بينة كالنهار على ربوبيةِ وخلاقيةِ قدير مطلق وعليم مطلق.

    نختصر هذا البحث الطويل جدا محيلين تفاصيله إلى رسائل النور.

    ونبدأ الآن بمسألة «الإرادة» الموجودة في خلاصة الخلاصة.

    [الله أكبر من كل شيء قدرة وعلما، إذ هو المريد لكل شيء، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن؛ إذ تنظيم إيجاد المصنوعات ذاتا وصفاتٍ وماهيّةً وهوّية من بين الإمكانات الغير المحدودة والطرق العقيمة والاحتمالات المشوشة والأمثال المتشابهة، ومن بين سيول العناصر المتشاكسة، بهذا النظام الأدق الأرق، وتوزينَها بهذا الميزان الحسّاس الجسّاس، وتمييزها بهذه الأمثال المتشابهة والتعيّنات المزينة المنتظمة، وخلق المخلوقات المنتظمات الحيوية من البسيط الجامد الميت، كالإنسان بجهازاته من النطفة والطيرِ بجوارحه من البيضة والشجرة بأعضائها من النواة والحبة تدل على أن كل شيء بإرادته تعالى واختياره وقصده ومشيئته سبحانه، كما أن توافق الأشياء في أساسات الأعضاء النوعية والجنسية يدل على أن صانع تلك الأفراد واحد أحد، كذلك إن تمايزها بالتعينات المنتظمة والتشخصات المتمايزة يدل على أن ذلك الصانع الواحد الأحد فاعل مختار يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد].

    هذه الفقرة دليل واحد طويل وكلي من أدلة «الإرادة الإلهية» تتضمن حججا كلية كثيرة جدا، نبيّن ضمن ترجمة فحواها ترجمةً مختصرة، دليلا يثبت إثباتا قاطعا الإرادة الإلهية واختيارها ومشيئتها، فضلا عن أن جميع دلائل «العلم الإلهي» المذكورة سابقا هي بذاتها دليل على الإرادة الإلهية أيضا، لأن جلوات «العلم والإرادة الإلهية» وأثارهما تشاهَدان معا في كل مصنوع.

    إن خلاصة الفحوى لهذه الفقرة العربية هي:

    أن كل شيء يحصل بإرادته ومشيئته سبحانه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، يفعل ما يشاء، ولاشيء ما لم يشأ.

    وحجة واحدة من حججها هي: أننا نشاهد أن كل مصنوع من هذه المصنوعات متميزٌ بذاتٍ معينة وصفات مخصصة وماهيةٍ خاصة به، وصورةٍ ذات علامات فارقة متميزة. وبينما يمكن أن يكون كل هذه الأحوال ضمن إمكاناتٍ واحتمالات مشوشة لا حد لها، ويجري في طرقٍ عقيمة كثيرة خلال مداخلة سيول العناصر وضمن أمثاله المتشابهة الداعية على السهو والالتباس، فإن خلقه -إزاء هذه الحالات المضطربة المختلطة- ضمن نظام دقيق موزون ومنسق، وأَخْذَ كل عضو من أعضائه وأجهزته وفق ميزان حساس جساس كامل، وتمكين كلٍ منها في موضعه المناسب، وتقليده بوظائف، ومَنْح وجهِه سيماءً شخصيا مزينا جميلا، وخَلْقَ أعضائه المتخالفة المتباينة من مادة بسيطة جامدة ميتة، حيّة متقنة الصنعة؛ كخلق الإنسان الحامل لمئات الأجهزة المتنوعة المتباينة في صور معجزة من قطرة ماء. وخَلْق الطير بأجهزة وجوارح مختلفة متنوعة من بيضة بسيطة، وإنشاء الشجرة بأغصانها الملتفة وأعضائها المتشابكة وأجزائها المتغايرة من بُذيرة صغيرة مركبة من أشياء بسيطة جامدة هي الكاربون والآزوت ومولد الحموضة ومولد الماء (الأوكسجين والهيدروجين)، وإضفاء شكل منظم ومثمر عليها.. يُثبت بلا شك وبالبداهة وبقطعية لا ريب فيها بل بدرجة الوجوب والضرورة واللزوم أن كل مصنوع من هذه المصنوعات يُعطَى له ذلك الوضعُ الخاص الكامل لجميع ذراته وأجهزته وصورته وماهيته، بإرادةِ قدير مطلق القدرة وبمشيئته واختياره وقصده جل وعلا. وأن ذلك المصنوع خاضع لحكم إرادة شاملة كل شيء.

    هذا وإن دلالة هذا المصنوع الواحد بما لاشك فيه على «الإرادة الإلهية» تبين أن جميع المصنوعات تشهد شهادة صادقة بليغة لا نهاية لها وبعدد أفرادها بقطعية ظاهرة كالشمس والنهار على «الإرادة الإلهية» الشاملة كل شيء. وأنها حجج قاطعة لا حد لها على وجوبِ وجودِ قديرٍ مريد.

    ثم إن جميع دلائل «العلم» المذكورة سابقا هي دلائل «الإرادة الإلهية» أيضا، إذ كلاهما يعملان مع «القدرة الإلهية» فلا ينفك أحدهما عن الآخر. فكما أن توافق الأعضاء النوعية والجنسية لأفراد كل جنس ونوع يدل على أن صانعها واحد أحد، كذلك الاختلافات في ملامح وجوهها اختلافا ذات حكمة، تدل دلالة قاطعة على أن ذلك الصانع الواحد الأحد، فاعل مختار، يخلق كل شيء بالإرادة والاختيار والمشيئة والقصد.

    وهكذا فقد انتهى بيان الترجمة المختصرة للفقرة العربية المذكورة، الدالة دلالة كلية فريدة على «الإرادة الإلهية».

    كنت قد عزمت على كتابة نكات مهمة جدا تخص «الإرادة الإلهية» كما هي في مسألة «العلم الإلهي»، إلّا أن المرض الناشئ من التسمم قد ألحق إرهاقا بدماغي، فأؤجلها إلى وقت آخر بمشيئة الله.

    أما الفقرة التي تخص القدرة الإلهية فهي:

    [الله أكبر من كل شيء قدرة وعلما إذ هو القدير على كل شيء بقدرةٍ مطلقة محيطةٍ ضرورية ناشئة لازمة ذاتية للذات الأقدسية، فمحال تداخلُ ضدها، فلا مراتب فيها، فتتساوى بالنسبة إليها الذراتُ والنجوم والجزء والكل والجزئي والكلي والنواة والشجر والعالم والإنسان.. بسر مشاهدة غايةِ كمالِ الانتظام، الاتزانِ، الامتيازِ، الإتقانِ المطلقات.. مع السهولة في الكثرة والسرعة والخلطة المطلقة.. وبسر النورانية والشفافية والمقابلة والموازنة والانتظام والامتثال.. وبسر إمداد الواحدية ويُسر الوحدة وتجلي الأحادية. وبسر الوجوب والتجرد ومباينة الماهية.. وبسر عدم التقيد وعدم التحيز وعدم التجزؤ.. وبسر انقلاب العوائق والموانع إلى حُكْم الوسائل المسهِّلات.. وبسرِ أن الذرة والجزء والجزئي والنواة والإنسان ليست بأقلَّ صنعةً وجزالة من النجم والكل والكلي والشجر والعالم، فخالقها هو خالق هذه بالحدس الشهودي.. وبسر أن المحاط والجزئيات كالأمثلة المكتوبة المصغرة أو كالنقط المحلوبة المعصّرة. فلابدّ أن يكون المحيط والكليات في قبضة خالق المحاط والجزئيات ليدرج مثالَها فيها بموازينِ علمه أو يعصّرها منها بدساتيرِ حكمته.. وبسرِ كما أن قرآن العزّة المكتوب على الذرة المسماة بالجوهر الفرد بذرات الأثير ليس بأقل جزالة وخارقية صنعةٍ من قرآنِ العظمة المكتوب على صحيفة السماء بمداد النجوم والشموس، كذلك أن ورد الزهرة ليست بأقل جزالة وصنعة من درّيِ نجمِ الزُهرة، ولا النملة من الفيلة، ولا المكروب من الكركدن، ولا النحلة من النخلة، بالنسبة إلى قدرة خالق الكائنات. فكما أن غاية كمال السرعة والسهولة في إيجاد الأشياء أوقعت أهل الضلالة في التباسِ التشكيلِ بالتشكلِ المستلزم لمحالاتٍ غير محدودة تمجّها الأوهام، كذلك أثبتت لأهل الهداية تَساويَ النجوم مع الذرات بالنسبة إلى قدرة خالق الكائنات.جلّ جلاله لا إله إلّا هو الله أكبر].

    قبل الشروع ببيان فحوى مختصرٍ لهذه الفقرة العربية العظيمة التي تخص «القدرة الإلهية» والذي هو من قَبيلِ ترجمتِها ومضمونها، نبين حقيقة أُخطرت إلى القلب وهي:

    أن وجود القدرة الإلهية أكثرُ قطعيةً من وجود الكون، بل إن جميع المخلوقات وكل مخلوق بالذات، كلماتٌ مجسَّمة لتلك القدرة، تبينها وتظهرها بعين اليقين، وهي شهادات بعددها على موصوفها القدير المطلق. فلا داعي إذن إلى إثبات تلك القدرة بالحجج والبراهين. بل يلزم إثبات حقيقة جليلة تخص القدرة والتي هي أساس مهم في الإيمان والحجر الأساس الرصين للحشر والنشور والمدارُ اللازم لمسائلَ إيمانيةٍ كثيرة وحقائقَ قرآنيةٍ جليلة والدعوى التي تعلنها الآية الكريمة ﴿ مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ اِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ (لقمان:٢٨) والتي أعيت العقول دونها وظلت في حيرة وعجز، بل ضل قسم منها..

    فذلك الأساس وذلك الحجر الزاوية وذلك المدار وتلك الدعوى وتلك الحقيقة هي معنى الآية الكريمة المذكورة.

    أي أيها الجن والإنس إنّ خلقكم جميعا وبعثَكم يوم الحشر يسير على قدرتي يُسرَ إيجادِ نفسٍ واحدة، فهو الذي يخلق الربيع بمثل خلقه زهرةً واحدة في سهولة ويسر. فلا فرق بالنسبة لتلك القدرة بين الجزئي والكلي والصغير والكبير والقليل والكثير. فهي تُجري السيارات بسهولة إجرائها للذرات.

    فتلك الفقرة العربية المذكورة تبين هذه المسألة الجليلة بحجة قوية قاطعة في تسع مراتب.

    إن الفقرة الآتية تشير إلى أساس المراتب وتلخص باختصار شديد الفقرةَ العربية:

    [إذ هو القدير على كل شيء بقدرة مطلقة محيطة ضرورية ناشئة لازمة ذاتية للذات الأقدسية. فمحال تداخل ضدها، فلا مراتب فيها، فتتساوى بالنسبة إليها الذرات والنجوم والجزء والكل والجزئي والكلي والنواة والشجر والعالم والإنسان].

    أي هو القدير على كل شيء بقدرةٍ محيطة بكل شيء، ولازمةٍ بلزوم ذاتيّ وواجبة ضرورية ناشئة -كما في علم المنطق- للواجب الوجود، محال انفكاكُها ولا يمكن ذلك قطعا.

    فما دامت مثل هذه القدرة لازمة بمثل هذا اللزوم للذات الأقدس، فلاشك أن العجز الذي هو ضد القدرة لا يدخلها بأية جهة كانت، فلا يكون عارضا للذات الأقدس.

    وحيث إن وجود المراتب في شيء، هو بتداخل ضده فيه -فمثلا: مراتب الحرارة ودرجاتها هي بدخول البرودة، ودرجات الجمال هي بمداخلة القبح- فمحال دنو العجز الذي هو ضده من هذه القدرة الذاتية، فلابد أنْ لا مراتب في تلك القدرة المطلقة.

    وحيث لا مراتب فيها، تتساوى النجوم والذرات إزاءها، ولا فرق بين الجزء والكل والفرد الواحد وجميع نوعه والإنسان والكون بالنسبة لتلك القدرة. وإحياءُ نواة واحدة والشجرةِ الباسقة ونفسٍ واحدة وجميعِ ذوى الأرواح في الحشر سواءٌ إزاء تلك القدرة ويسيرٌ عليها. فلا فرق لديها بين الكبير والصغير والقليل والكثير.

    والشاهدُ الصادق القاطع على هذه الحقيقة هو ما نشاهده في خلق الأشياء من كمال الصنعة والنظام والميزان والتميز والكثرة في السرعة المطلقة مع السهولة المطلقة واليسر التام.

    فهذه الحقيقة المذكورة هي مضمون المرتبة الأولى التي هي:

    [وبسر مشاهدة غاية كمال الانتظام، الاتزانِ، الامتيازِ، الإتقانِ المطلقات، مع السهولة المطلقة في الكثرة والسرعة والخلطة ]

    المرتبة الثانية: وهي: [وبسر النورانية والشفافية والمقابلة والموازنة والانتظام والامتثال ]

    نحيل إيضاح هذه المرتبة وتفاصيلها إلى ختام «الكلمة العاشرة» وإلى «الكلمة التاسعة والعشرين» وإلى «المكتوب العشرين» ونشير إليها هنا إشارة مختصرة:

    نعم، كما أن دخولَ ضوء الشمس وصورتها -من حيث النورانية- بالقدرة الربانية في سطح البحر وفي حَبابه كلها يسيرٌ، كدخوله في قطعة زجاجية، كلاهما سواء. كذلك القدرة النورانية لمن هو نور الأنوار، فإنّ خلقها للسماوات والنجوم وتسييرها يسيرٌ عليها كخلق الذباب والذرات وتسييرِها، فلا يصعب عليها شيء.

    وكما توجد -بخاصيةِ الشفافيةِ- صورةُ الشمس المثاليةُ في مرآة صغيرة وفي بؤبؤ العين بالقدرة الإلهية، فبالسهولة نفسها يُعطي ذلك الضوء وتلك الصور بالأمر الإلهي إلى جميع الأشياء اللماعة وإلى جميع القطرات وجميع الذرات الشفافة وإلى سطح البحار.

    كذلك فإن جلوة القدرة المطلقة وتأثيرها في إيجاد نفس واحدة هو بالسهولة نفسها في خلقها الحيوانات كلها حيث إن وجه الملكوتية والماهية للمصنوعات شفاف ولماع. فلا فرق بالنسبة إلى تلك القدرة بين القليل والكثير والصغير والكبير.

    وكما إذا وُضع جوزتان في كفتي ميزان حساس متقن يكيل الجبال، ثم وُضعت نواة صغيرة في إحدى الكفتين فإنها ترفعها بسهولة إلى قمة جبل وتخفض الأخرى إلى حضيض الوادي، وإذا ما وضع جبلان متساويان بدلا عن الجوزتين، فإن أحد الجبلين يرتفع إلى السماوات وينخفض الآخر إلى أعماق الوديان بالسهولة نفسها فيما إذا وضعت في إحدى الكفتين نواة صغيرة..

    كذلك: «الإمكان مساوي الطرفين» حسب تعبير علم الكلام، أي إن وجود الأشياء الممكنة والمحتملة -أي غير الواجبة والممتنعة- وعدمها سواء، لا فرق بين وجودها وعدمها إن لم يوجد سبب.

    ففي هذا الإمكان والمساواة بين الوجود والعدم، يتساوى القليل والكثير، الصغير والكبير. وهكذا فالمخلوقات ممكنات، وحيث إن وجودها وعدمها سواء ضمن دائرة الإمكان، فإن قدرة الواجب الوجود الأزلية المطلقة كما تعطي الوجودَ لممكن واحد بسهولة ويسر، تُلبِس كلَّ شيء وجودا يلائمه مُخلة للتوازن بين الوجود والعدم. وتنـزع عنه لباس الوجود الظاهري إن كانت قد انتهت مهمته، وترسله إلى العدم صورةً وظاهرا، بل إلى الوجود المعنوي في دائرة العلم.

    بمعنى إن أُسندت الأشياء إلى القدير المطلق وفوّض أمرها إليه سبحانه فإنّ إحياء الربيع يَسْهُل كإحياء زهرة واحدة، وإحياء الناس جميعا في الحشر يسهل كإحياء نفس واحدة. بينما إذا أُسند خلق الأشياء إلى الأسباب فإنّ خلقَ زهرة واحدة يصعب كصعوبة خلق الربيع كاملا، وخَلْقَ ذبابة واحدة كخلق الأحياء بأسرها.

    وكذا كما أن سفينة عظيمة وطائرة ضخمة تتحرك بمجرد مس مفتاح فيهما، بسر الانتظام، بسهولة نصبِ الساعة وتشغيلها.

    كذلك فإن إعطاء كل شيء كلي وجزئي، صغير وكبير قليل وكثير، قالبا معنويا، ومقدارا خاصا وحدودا معينة، بدساتيرِ العلم الأزلي، وبقوانينِ الحكمة السرمدية وبالأصول المعينة والجلوات الكلية للإرادة الإلهية، يجعل الأشياء كلها ضمن الانتظام العلمي التام وقانون الإرادة. فلاشك أن تحريك المنظومة الشمسية بقدرة القدير المطلق وجريها سفينةَ الأرض في مدارها السنوي هي بسهولة جريها الدمَ وما فيه من كريات حمر وبيض وتدوير ذراتها، جريا ودورانا ضمن نظام وحكمة حتى إنها تخلق إنسانا مع أجهزته الخارقة من قطرة ماء ضمن نظام الكون دون تعب ولانصب.

    بمعنى أنه إذا أسند إيجاد الكون إلى تلك القدرة الأزلية المطلقة يكون الأمر سهلا كإيجاد إنسان واحد، وإن لم يُسنَد إليها فإنّ خلق إنسان واحد بأجهزته العجيبة ومشاعره الدقيقة، يكون مُشْكِلا وعسيرا كخلق الكون كله.

    وكذا كما أن قائدا واحدا بأمره جنديا واحدا بالهجوم يسوقه إلى الهجوم، بسر الإطاعة والامتثال وتَلَقّي الأوامرِ، فإنه بالأمر نفسِه وبالسهولة نفسِها يسوق جيشا عظيما مطيعا أيضا إلى الهجوم.

    كذلك المصنوعات التي كل منها في كمال الطاعة لقوانين الإرادة الإلهية لتَلَقّي إشاراتِ الأمر الرباني التكويني، وكالجندي المتأهب وكالعبد المأمور في مَيل فطريّ وشوق فطري ضمن دائرةِ دساتيرِ خط السير الذي عيّنه العلمُ الأزلي والحكمة الأزلية، وهو أكثر طاعةً وانقيادا للأوامر بألف مرة عن طاعة جنود الجيش، فهذه المصنوعات ولاسيما ذوي الحياة منها عندما يتلقى كل منها الأمر الرباني: «أُخْرُجْ من العدم إلى الوجود وتقلّدْ وظيفةً» تُلبِسه القدرةُ الإلهية بسهولة مطلقةٍ وجودا خاصا بالشكل الذي عيّنه العلمُ وبالصورة التي خصصتْها الإرادةُ وتأخذ بيده إلى ميدان الوجود.

    وكذلك بالسهولة نفسها وبالقوة والقدرة نفسيهما يخلق سبحانه جيش الأحياء في الربيع ويُوكِل إليه الوظائفَ.

    بمعنى أن كل شيء إذا أُسند إلى تلك القدرة، فإن إيجاد جيوش الذرات كلها وفِرَقِ النجوم كلها سهل كسهولةِ إيجادِ ذرة واحدة ونجم واحد، بينما إذا أُسند إلى الأسباب فإنّ خلق ذرة في بؤبؤ عينِ كائنٍ حي وفي دماغه -بقابليةٍ لتؤديَ الوظائف العجيبة- يكون ذا مشكلات وصعوبة كخلقِ جميعِ الحيوانات.

    المرتبة الثالثة: وهي: [وبسر إمداد الواحدية ويُسر الوحدة وتجلي الأحدية ]

    سننظر إلى مضمونها بإشارات قصيرة جدا:

    كما أن قائدا عظيما وسلطانا مهيبا تَسهُل إزاءه إدارةُ أمور البلاد الواسعة والأمة العظيمة كسهولة إدارة أهالي قرية واحدة، وذلك من حيث وحدةُ حاكميتِه وعملُ رعيته وفق أوامره وحده. إذ من حيث الواحدية في حكمه تكون أفرادُ الأمة كأفراد الجيش وسائلَ للتسهيلات، فتطبق الأوامر والقوانين بيُسر وسهولة. بينما إذا فوّضت الأمور إلى حكام مختلفين، ففضلا عن سقوطها في هاوية المشاكسات والاضطرابات فإن إدارة قرية واحدة بل بيت واحد تكون ذات مشكلات كإدارة تلك البلاد الواسعة.

    ثم إن كل فرد من أفراد تلك الأمة المطيعة المرتبطة بقائد واحد، كالجندي يستند إلى قوة ذلك القائد ويعتمد على مخازنِ أعتدته ويستمد من جيشه العظيم، لذا يستطيع أن يأسر ملكا من الملوك، وينجز أعمالا هي أضعافُ أضعافِ ما يؤديه من عمل شخصي. فيكون انتسابه إلى ذلك السلطان قوة عظمى لا منتهى لها واقتدارا لا حدود له فيؤدى بها أعمالا جسيمة جليلة، بينما إذا انقطع ذلك الانتساب، فإن تلك القوة الهائلة تذهب أدراج الرياح، فلا يمكن أن يؤدي من الأعمال إلّا بمقدار ما في ساعده من قوة جزئية، وما يحمله على ظهره من أعتدة قليلة وطلقات محدودة. ولو طلب من ذلك الجندي ما يؤديه الجندي المستند المذكور من أعمال للزم وجود قوة جيش كامل في ساعده ومداخر أعتدة السلطان على ظهره!

    كذلك الأمر، فإن سلطان الأزل والأبد، الصانع القدير، من حيث واحدية سلطنته وواحدية حاكميته المطلقة يدير الكون بسهولةِ إدارةِ مدينةٍ واحدة، ويخلق الربيع بسهولةِ خلق حديقة واحدة، ويحيي جميع الموتى في الحشر بسهولة خلق أوراق أشجار تلك الحديقة وأزاهيرها وثمراتها في الربيع المقبل، ويخلق الذباب بنظام نسر عظيم في سهولة ويسر، ويجعل إنسانا في حكم كونٍ عظيم بسهولة ويسر أيضا.

    بينما إذا أُسند الأمر إلى الأسباب فإن خلق جرثومة واحدة يكون صعبا بصعوبةِ خلقِ كركدن عظيم، وخلق ثمرة من الثمرات بصعوبة خلق شجرة كاملة ذات مشكلات.. بل يلزم أن يُعطى كل ذرة من الذرات العاملة في وظائفَ عجيبة في حجيراتِ جسم الكائن الحي بصرا تُبصر به كلَّ شيء وعلما تدرِك به كلَ شيء، لتؤديَ تلك الوظائف الحياتية الدقيقة المتقنة.

    ثم إن اليسر والسهولة يَبلغان في الوحدة بدرجة، بحيث يَسهل ورود تجهيزات جيش كامل من يدٍ واحدة من مصنع واحد، كسهولة تجهيز جندي واحد بالمعدات العسكرية، وإذا ما تدخلت أيدٍ مختلفة أخرى وأُخذ كل جهاز من تلك الأجهزة المتنوعة من مصانع متباينة، فإن تجهيز جندي واحد -من حيث الكمية- لا يمكن إلّا بألف مشكلة ومشكلة، إذ تصعب الأمور إلى صعوبةِ تجهيزِ ألف جندي، حيث يتدخل أُمراء متعددون وضباط عديدون.

    ثم إن إدارة ألف جندي والآمرية عليهم إذا أُسندت إلى ضابط واحد، تسهل سهولةَ إدارة جندي واحد، من جهة، بينما إذا تُركت الإدارة إلى عشرة ضباط أو إلى الجنود أنفسهم، فيحدث كثير من الاختلاطات والفوضى والمشكلات.

    كذلك الأمر إذا أُسند كل شيء إلى الواحد الأحد فإنه يسهل كسهولة الشيء الواحد، بينما إذا أُسند إلى الأسباب فإن أمر كائن حي واحد يكون صعبا وعسيرا كالأرض كلها، بل يكون غير ممكن قطعا.

    بمعنى أن في الوحدة سهولةً بدرجة الوجوب واللزوم، وفي الكثرة ومداخلة الأيدي تبلغ الصعوبةُ بدرجة عدم الإمكان.

    فكما ذُكر في «المكتوبات» من كليات رسائل النور أنه إذا فوّض اختلاف الليل والنهار وحركات النجوم وتحولات الفصول السنوية كالخريف والشتاء والربيع والصيف إلى مدبّر واحد وآمر واحد، فإن ذلك الآمر الأعظم يأمر الأرض التي هي جندي من جنوده أَنْ: قُومي، دُورِي، سِيرِي وهي بدورها تنهض منجذبة بنشوة الأمر وتتحرك كالعاشق المولوي حركتين: يومية وسنوية، وتصبح وسيلة سهلة جدا لتحولات المواسم وحركات النجوم الظاهرية والخيالية، مُظهِرة السهولةَ التامة واليسر المتناهي في الوحدة.

    ولكن لو تُرك الأمر -لا إلى ذلك الآمر الواحد- بل إلى الأسباب وإلى هوى النجوم ورغباتها، وقيل للأرض: قفي لا تجولي، فلربما يحصل وضع الأرض في حصول المواسم والليل والنهار بقطع ألوف النجوم والشموس التي هي أضخم من الأرض بألوف المرات مسافات تبلغ ملايين السنين بل مليارات السنين في كل ليلة وفي كل سنة!

    أي يكون الأمر صعبا ومشكلا بدرجة المحال وغير الممكن.

    وما في المرتبة الثالثة: من كلمة «تجلي الاحدية» تشير إلى حقيقة في منتهى السعة والعمق والدقة والعظمة، نحيل إيضاحها وإثباتها إلى رسائل النور مبينين نكتة من نكاتها ضمن تمثيل قصير جدا.

    نعم، كما أن الشمس تنور الأرض كلَها بضيائها، وتصبح مثالا للواحدية، فهي بوجود صورتها ومثالها بألوانها السبعة وصورتها الذاتية في كل ما يقابلها من شيء شفاف كالمرآة فيها تصبح مثالا للأحدية.

    فلو كان للشمس علمٌ وقدرةٌ واختيار وكانت للقطع الزجاجية وقطرات الماء والحباب التي تنعكس فيها الشُميسات قابليات، لكانت توجد شمس كاملة بقانون الإرادة الإلهية في كل منها وبجنب كل منها، توجد بصفاتها وبصورتها، من دون أن يعيق أو ينقص وجودُها في سائر الأماكن عن تصرفها شيئا، فتكون سببا لمظاهر كبيرة جدا بأمر القدرة الربانية وتأثيرها وحكمها. فتبين ما في الأحدية من سهولة فوق المعتاد.

    كذلك الصانع الجليل فإنه باعتبار الواحدية يرى الأشياء كلَها وهو رقيب عليها بعلمه وبإرادته وبقدرته المحيطة بكل شيء، كما أنه من حيث الأحدية وبتجليها موجود جنب كل شيء ولاسيما ذوي الحياة، بأسمائه وصفاته الجليلة، بحيث يخلق بسهولة تامة في آن واحد الذبابةَ في نظام النسر، والإنسانَ في نظام الكون العظيم. فيَخلق ذوي الحياة بمعجزات كثيرة وكثيرة بحيث لو اجتمعت جميعُ الأسباب لِخلقِ بلبل واحد أو ذبابة واحدة لعجزت. فالذي يخلق بلبلا هو خالق الطيور لا غيره والذي يخلق إنسانا هو خالق الكون لا غيره.

    المرتبة الرابعة والخامسة: هما.. [وبسر الوجوب والتجرد ومباينة الماهية، وبسر عدم التقيد وعدم التحيز وعدم التجزي]

    إن نقل ما تفيده هاتان المرتبتان إلى أفهام عامة الناس عسير جدا، لذا نبين فحواهما باختصار مع ذكر بضع نكات قصيرة منهما.

    أي إن قديرا مطلقا يملك وجودا هو أقوى وأمتن مراتبِ الوجود وهي مرتبة الوجوب الذي هو أزلي وأبدي والمنـزّه عن الماديات والمجرّد عنها، ويحمل ماهية مقدسة مباينة لجميع الماهيات.. هذا القدير المطلق يسيرٌ إزاءَ قدرته إدارةُ النجوم كإدارة الذرات، والحشرُ الأعظم سهل عليها كالربيع، وإحياءُ الناس جميعا في الحشر هيّن عليها كإحياء نفس واحدة.

    لأن مقدار أنملة من نوع قوى من طبقات الوجود يمسك جبلا ضخما لطبقة خفيفة من طبقات الوجود ويديره. فمثلا المرآة، والقوة الحافظة وهما وجودان خارجيان -وهو وجود قوي- يمكنهما إن تضما وتديرا مائة من الجبال وألفا من الكتب من الوجود المثالي والمعنوي الذي هو ضعيف وخفيف..

    وهكذا، فكم هو أدنى من حيث القوة الوجودُ المثالي من وجود خارجي، فإن أنواع الوجود الحادثة والعارضة للممكنات أيضا هي أدنى بألوف المرات وأخفُّ من وجودٍ واجب سرمدي أزلي، بحيث إن تجليا من ذلك الوجود المقدس بمقدار ذرة يدير عالَما من الممكنات.

    آسف فإن أسبابا ثلاثة شبيهة بالمرض الناشئ من التسمم في الوقت الحاضر، لا تسمح لبيان هذه الحقيقة العظيمة بنكاتها. فأحيلها إلى رسائل النور وإلى وقت آخر بمشيئة الله.

    المرتبة السادسة: وهي: [وبسر انقلاب العوائق والموانع إلى حكم الوسائل المسهِّلات].

    أي كما أنه بقانون من جلوات الإرادة الإلهية والأمر التكويني -والذي تعبّر عنه العلومُ الحديثة بالعقدة الحياتية- تسري المواد اللازمة والأرزاق بتوجه تلك الإرادة والأمر من تلك العقدة الحياتية التي هي كمحرك ونابض لها إلى ثمراتِ شجرةٍ عظيمة فاقدة للشعور وإلى أوراقها وثمراتها، ولا تكون أغصانُها المتشعبة ولا جذوعُها القوية الصلدة عوائقَ وموانع دونها، بل تكون وسائلَ تيسيرٍ ووسائط تسهيل. كذلك في خلق الكون وإيجاد المخلوقات كلها تدع جميعُ الموانع الإحجامَ والممانعة إزاء تجلٍ للإرادة الإلهية ولتوجه الأمر الرباني، وتصبح وسيلةَ تسهيلٍ وتيسير. فالقدرةُ السرمدية تَخلُق الكونَ ومخلوقاتِ الأرض قاطبة بسهولة خلقها تلك الشجرةَ، لا يصعب عليها شيء.

    فلو لم تُسنَد جميع الخلق إلى تلك القدرة فإن إنشاء تلك الشجرة الواحدة وإدارتها تكون صعبةً صعوبةَ إدارةِ جميع الأشجار، بل صعوبةَ خلق الأرض وإدارتها. لأن كل شيء عندئذٍ يكون مانعا وحائلا. ولو اجتمعت الأسبابُ جميعها في هذه الحالة لا تستطيع أن ترسل الأرزاق اللازمة من معدة عقدتها الحياتية ومن زمبركها الناشئة من الأمر والإرادة، وتوصيلَها بانتظام إلى ثمراتها وأوراقها وأغصانها. إلّا إذا أُسند إلى كل جزء من أجزاء الشجرة بل حتى إلى كل ذرة من ذراتها بصرٌ يبصر كل الشجرة وكل جزء منها وكل ذرة من ذراتها، وعلمٌ محيطٌ بكل شيء وقدرةً قادرة على كل شيء.

    وهكذا اصعد هذه المراتبَ الخمس وانظر كم في الشرك والكفر من مشكلات ومحالات. واعلم مدى امتناعهما وبُعدهما عن معايير العقل والمنطق، ومدى السهولة في طريق الإيمان والقرآن بل مدى ما فيها من حق وحقيقة مستساغة بدرجة الوجوب. ومدى معقوليتها وقطعيتها وسهولتها ومقبوليتها بدرجة اللزوم. شاهِدْ هذه الحقيقةَ وقل: الحمد لله على نعمة الإيمان.

    (لقد سببت الضغوط والمضايقات تأجيل القسم الباقي من هذه المرتبة العظيمة إلى وقت آخر بمشيئة الله).

    المرتبة السابعة: وهي: [وبسّر أن الذرة والجزء والجزئي والنواة والإنسان ليست بأقل صنعة وجزالة من النجم والكل والكلي والشجر والعالم].

    تنبيه: إن أسس حقائق هذه المراتب التسع وكنـزها وشمسها هي آيتا سورة الإخلاص: ﴿ قُلْ هُوَ اللّٰهُ اَحَدٌ ❀ اَللّٰهُ الصَّمَدُ ﴾ فهي إشارات قصيرة إلى لمعات من تجليات سر الأحدية والصمدية.

    نلقي نظرة إلى فحوى هذه المرتبة السابعة بنكتة أو نكتتين محيلين تفاصيلها إلى رسائل النور.

    وهي تعني أن الذرة التي تؤدي وظائف عجيبة في العين والدماغ ليست بأقل صنعة وإبداعا من النجم، وليس الجزء بأقل جزالة من مجموعه الكل. فمثلا: ليس الدماغ والعين بأقلَّ إتقانا وإبداعا، من الإنسان. ولا الفرد الجزئي بأقل إبداعا من النوع عامة، من حيث جمال الإتقان والغرابة في الخلق. ولا الإنسان بأقل صنعة من جنس الحيوان الكلي، من حيث أجهزته العجيبة. ولا البذرة التي هي بمثابة فهرس وبرنامج وقوة حافظة بأقل إتقانا من شجرتها الباسقة، من حيث كمال الصنع والخزن. ولا الإنسان الذي هو كون صغير بأقل إبداعا من الكون العظيم، من حيث إنه في أحسن تقويم ويملك أجهزة خارقة جامعة مهيأة للقيام بألوف الوظائف العجيبة.

    فالذي يخلق الذرة إذن لا يعجز عن خلق النجم، والذي يخلق اللسان -وهو عضو في الإنسان- يخلق الإنسان بسهولة ويسر بلا شك. والذي يخلق الإنسان في أحسن تقويم لاشك أنه قادر على خلق الحيوانات كلها بسهولة كاملة، مثلما يخلقها أمام أنظارنا. والذي يخلق النواة بماهيةِ فهرسٍ وقائمةِ مفرداتٍ، ودفترِ قوانينَ أمريةٍ، وعقدةٍ حياتيةٍ، لاشك هو الذي يكون خالق جميع الأشجار. والذي جعل الإنسان أشبه ببذرة معنوية للعالم وثمرة جامعة له ومظهرا لجميع أسمائه الإلهية ومرآة لها ومرتبطا بالكائنات كلها وخليفة للأرض، لاشك أنه يملك قدرة قادرة على خلق الكون كله وتنسيقه بسهولةِ خلقِ الإنسان.

    ولهذا فمن كان خالقا وصانعا وربا للذرة والجزء والجزئي والنواة والإنسان فبالبداهة ولاشك أنه هو خالق النجوم والأنواع والكل والكليات والأشجار وجميعِ الكائنات وصانعُها وربها بالذات، فمحالٌ أن يكون غيرَه وممتنعٌ قطعا.

    المرتبة الثامنة: [وبسرّ أن المحاط والجزئيات كالأمثلة المكتوبة المصغرة أو كالنقط المحلوبة المعصرة فلابد أن يكون المحيط والكليات في قبضة خالق المحاط والجزئيات ليدرج مثالها فيها بموازين علمه أو يعصرها منها بدساتير حكمته].

    أي إن نسبة الجزئيات المحاطة والأفراد والنوى والبذور التي تتضمنها الكل والكليات إلى الكلّيّات الكبيرة المحيطة، شبيهةٌ بنماذج مصغرة وأمثلة مكتوب فيها ما كتب تماما في الكل والكليات كتابةً دقيقة تناسب تلك القطع الصغيرة. ولهذا فالكليات المحيطة هي في قبضة خالق تلك الجزئيات وتحت تصرفه بلا شك وذلك ليُدرِج كتابَ ذلك المحيط الكبير بموازين علمه وبأقلامه الدقيقة في مئات من القطع والدفاتر الصغيرة.

    ثم إن نسبة الأجزاء والجزئيات المحاطة إلى الكليات المحيطة، ومثالهما شبيه بالقطرات المحلوبة أو القطرات المعصّرة من الكليات المحيطة. فمثلا نواة البطيخ كأنها قطرة محلوبة من جميع أنحاء البطيخ أو هي نقطة كتب فيها كتاب البطيخ كاملا حتى إنها تحمل فهرسه وقائمة محتوياته وبرنامجه.

    فما دام الأمر هكذا، يلزم أن تكون تلك الجزئيات والقطرات والنقاط والأفراد بيد صانع ذلك الكل المحيط وتلك الكليات المحيطة، ليَعصر تلك الأفرادَ والقطراتِ والنقطَ منها بدساتير حكمته الحساسة.

    بمعنى أن خالق نواةٍ واحدة وفردٍ واحد هو خالق ذلك الكل الكبير والكليات، وخالقُ الكليات والأجناس التي تكبرها وتحيط بها أيضا وليس غيره. ولهذا فخالق نفس واحدة يخلق جميع الناس، والذي يبعث إنسانا ميتا واحدا يبعث الجن والإنس والأموات جميعا في الحشر، وسيبعثهم.

    وهكذا شاهِدْ مدى أحقية دعوى ﴿ مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ اِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ (لقمان:٢٨) ومدى ثبوتها وقطعيتها، شاهدها بأسطع وأجلى صورتها.

    المرتبة التاسعة: [وبسرّ كما أن قرآن العزّة المكتوب على الذرة المسماة بالجوهر الفرد بذرات الأثير ليس بأقل جزالة وخارقية صنعة من قرآن العظمة المكتوب على صحيفة السماء بمداد النجوم والشموس، كذلك إن ورد الزهرة ليست بأقل جزالة وصنعة من درّيّ نجم الزُهرة، ولا النملة من الفيلة، ولا المكروب من الكركدن، ولا النحلة من النخلة، بالنسبة إلى قدرة خالق الكائنات. فكما أن غاية كمال السرعة والسهولة في إيجاد الأشياء أوقعت أهل الضلالة في التباس التشكيل بالتشكل المستلزم لمحالات غير محدودة تمجها الأوهام، كذلك أثبتت لأهل الهداية تساويَ النجوم مع الذرات بالنسبة إلى قدرة خالق الكائنات جلّ جلاله ولا إله إلّا هو الله أكبر].

    كنت أود أن أبين مضمون هذه المرتبة الأخيرة بإسهاب ولكن مع الأسف حال دون ذلك العنتُ والضيق الناجم من التحكم الاعتباطي، والضعف الذي اعترى جسمي من التسمم فضلا عن الأمراض المؤلمة. لذا اضطررت إلى الاكتفاء بإشارات قصيرة جدا إلى مضمونها.

    وهي تعني: كما لو كُتب قرآنٌ عظيم في الذرة -التي يطلق عليها في علم الكلام والفلسفة الجوهر الفرد غير القابل للانقسام- بذرات الأثير التي هي أصغر منها، وكُتب أيضا قرآن عظيم آخر في صحائف السماوات بالنجوم والشموس، ثم قورن بينهما، فلاشك أن القرآن المكتوب بالجوهر الفرد ليس بأقلّ جزالة وإعجازا وإبداعا من القرآن العظيم والكبير الذي جمّل وجه السماوات، وربما هو أكثر منه جزالة من جهة. كذلك إن ورد الزهرة ليست بأقل جزالة وصنعة من درّيّ نجم الزُهرَة ولا النملة أدنى من الفيل بل المكروب أكثر إبداعا من الكركدن خلقة والنحلة بفطرتها العجيبة أعجب من النخلة بالنسبة إلى قدرة خالق الكائنات.

    بمعنى أن خالق النحلة يخلق جميع الحيوانات، والذي يبعث نفسا واحدة يجمع الناس على صعيد الحشر ويبعثهم جميعا، وسيحشرهم حتما. فلا يصعب على تلك القدرة شيء، كما تشاهد مئات ألوف النماذج من الحشر في كل ربيع أمام أعيننا.

    ومضمون الجملة العربية الأخيرة وفحواها المختصر هو: أن أهل الضلالة لجهلهم بالحقائق الثابتة الراسخة للمراتب المذكورة، ولظهور الموجودات إلى الوجود في منتهى السرعة والسهولة، فقد التبس عليهم تشكيلها وإيجادها بقدرةِ صانع قدير مطلق القدرة، مع تشكّلها ووجودها بنفسها، فاتحين لأنفسهم أبواب خرافات ومحالات غير محدودة تمجّها الأوهام والأذهان.

    إذ في تلك الحالة- مثلا- يلزم إعطاء كل ذرة من ذرات كائن حي قدرة قادرة على صنع كل شيء وعلما وبصرا يبصر كل شيء. أي إنهم بعدم قبولهم لإلهٍ واحدٍ أحدٍ اضطروا إلى قبول آلهة بعدد الذرات حسب مذهبهم، مستحِقين الدخول إلى أسفل سافلي جهنم.

    أما أهل الهداية فقد منحت الحقائقُ القوية للمراتب السابقة والحججُ الرصينة إلى قلوبهم السليمة وعقولهم الصائبة قناعةً تامة قاطعة وإيمانا قويا وتصديقا بعين اليقين، حتى اعتقدوا بلا ريب ولا شبهة وبكل اطمئنانِ قلبٍ أنه لا فرق بين النجوم والذرات وأصغرِ شيء وأكبره إزاء القدرة الإلهية، حيث نشاهد أمامنا هذه المخلوقات العجيبة. فكل صنعة عجيبة منها تصدّق دعوى الآية الكريمة ﴿ مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ اِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ . وتشهد أن حكمَها هو عين الحق ومحض الحقيقة. وتقول بلسان الحال: الله أكبر، ونحن بدورنا نقول: الله أكبر بعدد المخلوقات مصدقين حكمَ هذه الآية الكريمة بكل قوتنا وقناعتنا ونشهد أن حكمها هو عين الحق والحقيقة نفسها بحجج لا منتهى لها.

    ﴿ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَٓا اِلَّا مَا عَلَّمْتَنَاۜ اِنَّكَ اَنْتَ الْعَل۪يمُ الْحَك۪يمُ ﴾

    اللّهمّ صلّ وسلم على من أرسلته رحمةً للعالمين

    والحمد لله ربّ العالمين .

    Risale-i Nur Nedir ve Hakikatler Muvacehesinde Risale-i Nur ve Tercümanı Ne Mahiyettedirler Diye Bir Takriznamedir

    Her asır başında hadîsçe geleceği tebşir edilen dinin yüksek hâdimleri; emr-i dinde mübtedi’ değil, müttebi’dirler. Yani kendilerinden ve yeniden bir şey ihdas etmezler, yeni ahkâm getirmezler. Esasat ve ahkâm-ı diniyeye ve sünen-i Muhammediyeye (asm) harfiyen ittiba yoluyla dini takvim ve tahkim ve dinin hakikat ve asliyetini izhar ve ona karıştırılmak istenilen ebâtîli ref’ ve iptal ve dine vaki tecavüzleri red ve imha ve evamir-i Rabbaniyeyi ikame ve ahkâm-ı İlahiyenin şerafet ve ulviyetini izhar ve ilan ederler. Ancak tavr-ı esasîyi bozmadan ve ruh-u aslîyi rencide etmeden yeni izah tarzlarıyla, zamanın fehmine uygun yeni ikna usûlleriyle ve yeni tevcihat ve tafsilat ile îfa-i vazife ederler.

    Bu memurîn-i Rabbaniye, fiiliyatlarıyla ve amelleriyle de memuriyetlerinin musaddıkı olurlar. Salabet-i imaniyelerinin ve ihlaslarının âyinedarlığını bizzat îfa ederler. Mertebe-i imanlarını fiilen izhar ederler. Ve ahlâk-ı Muhammediyenin (asm) tam âmili ve mişvar-ı Ahmediyenin (asm) ve hilye-i Nebeviyenin (asm) hakiki lâbisi olduklarını gösterirler. Hülâsa: Amel ve ahlâk bakımından ve sünnet-i Nebeviyeye (asm) ittiba ve temessük cihetinden ümmet-i Muhammed’e (asm) tam bir hüsn-ü misal olurlar ve numune-i iktida teşkil ederler.

    Bunların Kitabullah’ın tefsiri ve ahkâm-ı diniyenin izahı ve zamanın fehmine ve mertebe-i ilmine göre tarz-ı tevcihi sadedinde yazdıkları eserler, kendi tilka-yı nefislerinin ve kariha-i ulviyelerinin mahsulü değildir, kendi zekâ ve irfanlarının neticesi değildir. Bunlar, doğrudan doğruya menba-i vahiy olan Zat-ı Pâk-i Risalet’in (asm) manevî ilham ve telkinatıdır. Celcelutiye ve Mesnevî-i Şerif ve Fütuhu’l-Gayb ve emsali âsâr hep bu nevidendir. Bu âsâr-ı kudsiyeye o zevat-ı âlişan ancak tercüman hükmündedirler. Bu zevat-ı mukaddesenin, o âsâr-ı bergüzidenin tanziminde ve tarz-ı beyanında bir hisseleri vardır; yani bu zevat-ı kudsiye o mananın mazharı, mir’atı ve ma’kesi hükmündedirler.

    Risale-i Nur ve Tercümanına Gelince: Bu eser-i âlîşanda şimdiye kadar emsaline rastlanmamış bir feyz-i ulvi ve bir kemal-i nâmütenahî mevcud olduğundan ve hiçbir eserin nâil olmadığı bir şekilde meşale-i İlahiye ve şems-i hidayet ve neyyir-i saadet olan Hazret-i Kur’an’ın füyuzatına vâris olduğu meşhud olduğundan onun esası, nur-u mahz-ı Kur’an olduğu ve evliyaullahın âsârından ziyade feyz-i envar-ı Muhammedîyi (asm) hâmil bulunduğu ve Zat-ı Pâk-i Risalet’in ondaki hisse ve alâkası ve tasarruf-u kudsîsi evliyaullahın âsârından ziyade olduğu ve onun mazharı ve tercümanı olan manevî zatın mazhariyeti ve kemalâtı ise o nisbette âlî ve emsalsiz olduğu güneş gibi aşikâr bir hakikattir.

    Evet, o zat daha hal-i sabavette iken ve hiç tahsil yapmadan zevahiri kurtarmak üzere üç aylık bir tahsil müddeti içinde ulûm-u evvelîn ve âhirîne ve ledünniyat ve hakaik-i eşyaya ve esrar-ı kâinata ve hikmet-i İlahiyeye vâris kılınmıştır ki şimdiye kadar böyle mazhariyet-i ulyâya kimse nâil olmamıştır. Bu hârika-i ilmiyenin eşi aslâ mesbuk değildir. Hiç şüphe edilemez ki Tercüman-ı Nur, bu haliyle baştan başa iffet-i mücesseme ve şecaat-i hârika ve istiğna-yı mutlak teşkil eden hârikulâde metanet-i ahlâkiyesi ile bizzat bir mu’cize-i fıtrattır ve tecessüm etmiş bir inayettir ve bir mevhibe-i mutlakadır.

    O zat-ı zîhavârık daha hadd-i büluğa ermeden bir allâme-i bîadîl halinde bütün cihan-ı ilme meydan okumuş, münazara ettiği erbab-ı ulûmu ilzam ve iskât etmiş, her nerede olursa olsun vaki olan bütün suallere mutlak bir isabetle ve aslâ tereddüt etmeden cevap vermiş, on dört yaşından itibaren üstadlık pâyesini taşımış ve mütemadiyen etrafına feyz-i ilim ve nur-u hikmet saçmış, izahlarındaki incelik ve derinlik ve beyanlarındaki ulviyet ve metanet ve tevcihlerindeki derin feraset ve basîret ve nur-u hikmet, erbab-ı irfanı şaşırtmış ve hakkıyla “Bediüzzaman” unvan-ı celilini bahşettirmiştir. Mezaya-yı âliye ve fezail-i ilmiyesiyle de din-i Muhammedînin (asm) neşrinde ve ispatında bir kemal-i tam halinde rû-nüma olmuş olan böyle bir zat elbette Seyyidü’l-enbiya Hazretlerinin (asm) en yüksek iltifatına mazhar ve en âlî himaye ve himmetine nâildir. Ve şüphesiz o Nebiyy-i Akdes’in (asm) emir ve fermanıyla yürüyen ve tasarrufuyla hareket eden ve onun envar ve hakaikine vâris ve ma’kes olan bir zat-ı kerîmü’s-sıfâttır.

    Envar-ı Muhammediyeyi (asm) ve maarif-i Ahmediyeyi (asm) ve füyuzat-ı şem’-i İlahîyi en müşa’şa bir şekilde parlatması ve Kur’anî ve hadîsî olan işarat-ı riyaziyenin kendisinde müntehî olması ve hitabat-ı Nebeviyeyi (asm) ifade eden âyât-ı celilenin riyazî beyanlarının kendi üzerinde toplanması delâletleriyle, o zat hizmet-i imaniye noktasında risaletin bir mir’at-ı mücellası ve şecere-i risaletin bir son meyve-i münevveri ve lisan-ı risaletin irsiyet noktasında son dehan-ı hakikati ve şem’-i İlahînin hizmet-i imaniye cihetinde bir son hâmil-i zîsaadeti olduğuna şüphe yoktur.

    Üçüncü Medrese-i Yusufiyenin El-Hüccetü’z-Zehra ve Zühretü’n-Nur olan tek dersini dinleyen Nur şakirdleri namına

    Ahmed Feyzi, Ahmed Nazif, Salahaddin, Zübeyr, Ceylan, Sungur, Tabancalı

    Benim hissemi haddimden yüz derece ziyade vermeleriyle beraber, bu imza sahiplerinin hatırlarını kırmaya cesaret edemedim. Sükût ederek o medhi Risale-i Nur şakirdlerinin şahs-ı manevîsi namına kabul ettim.

    Said Nursî


    بِاس۟مِهٖ سُب۟حَانَهُ وَ اِن۟ مِن۟ شَى۟ءٍ اِلَّا يُسَبِّحُ بِحَم۟دِهٖ

    اَلسَّلَامُ عَلَي۟كُم۟ وَ رَح۟مَةُ اللّٰهِ وَ بَرَكَاتُهُ اَبَدًا دَائِمًا

    Çok sevgili çok mübarek çok kıymettar çok müşfik Üstadımız Efendimiz Hazretlerine!

    Ey irade-i cüz’iyesini tamamıyla terk edip her umûrunu irade-i Rabbaniyeye bırakan ve her zâhirî musibet ve sıkıntıda kader-i İlahînin merhamet ve hikmetini görüp kemal-i tevekkül ve teslimiyetle o cilve-i Rabbaniyenin dahi netaicini sabır ile bekleyen muhterem Üstad! Bazı yerlerde, ehl-i imanın nokta-i istinadının yıkılmaya başladığı ve bir kısım esbab ve neşriyat, imanın erkânına karşı muhalif cephe alıp Allah’ı inkâr eden insanlar alenen ve tefahurla dolaştığı ve Kur’an’ın evamirine muhalif hareket etmek ve manevî kuvvetlere inanmamak, icad ve tasni hakkını şuursuz, kör, sağır tabiata vermek bir şiar-ı medeniyet ve irfan ve münevverlik telakki edildiği yürekler titreten şu dehşetli asırda, Kur’an’ın bir mu’cize-i maneviyesi olan Risale-i Nur’u telif ederek, muzdarip ve iman âb-ı hayatına muhtaç pek çok bîçare gönüllere panzehir hükmünde olan devalarını vererek onlara saadet-i ebediyeyi müjdeleyen ve davalarını gayet kat’î bürhan ve hüccetlerle ispat eden, hakikat cadde-i kübrasında kudsî ve muazzez rehberimiz ve اَلسَّبَبُ كَال۟فَاعِلِ sırrıyla Risale-i Nur ile imanlarını kurtaran yüz binler Nur talebesinin hasenatının bir misli defter-i a’maline geçen fazilet-meab efendimiz!

    Nasıl ki Cenab-ı Hak, Denizli hapsinin sıkıntılarını hiçe indirecek derecede şifa-bahş olan Meyve Risalesi’ni orada ihsan etmiş ve gülün çiçeğindeki gayet şirin rayihası, dikeninin acısını hiçe bıraktığı gibi fâni sıkıntılarınızı izale etmişti. Aynen öyle de yine kerîm olan Rahîm-i Zülcemal Hazretleri, Denizli hapsinin bir aylık sıkıntısına bir günlük maddî ızdırabı mukabil gelen bu Afyon Hapishanesinde siz sevgili üstadımız eliyle tiryak ve panzehir hükmünde tevhid, tahmid ve istiane ve risalet-i Muhammediyeyi (asm) tasdik ve muazzam hüccetlerini ihsan etmiş bulunuyor. Okumak ve yazmayı Risale-i Nur’un feyziyle öğrenen çok kusurlu talebeleriniz bizler, bu üç küçük risaleyi –çam çekirdeğinin koca çam ağacının fihristesini, programını içinde sakladığı misillü– hem Risale-i Nur’un hakkaniyetinin kat’î bir hücceti hem bir nevi hülâsatü’l-hülâsası olarak telakki ettik.

    Fezailini tariften âciz bulunduğumuz fakat okuması ruhumuzda pek büyük bir inşiraha vesile olan ve maddî elemlerimizi sürura kalbeden ve iman bahçesinden hadsiz meyveleri getiren bu üç küçük risaleden birisi, zamanımızdaki mevcud küfür, dalalet, tabiat karanlıklarını dağıtacak ve izale edecek on bir hüccet-i tevhidi; ikincisi, Risale-i Nur’un bütün muvazenelerinin menbaı ve esası ve üstadı içinde bulunan Fatiha-i Şerife’nin imanî ve kudsî hüccetlerini hâvi bir şirin tefsirini; üçüncüsü, yine Afyon Medrese-i Yusufiyesinde siz sevgili üstadımızın kalb-i mübareklerine hutur eden risalet-i Muhammediyeye (asm) dair kısmının gayet parlak ve tam bir itminan temin eden bir mükemmel tercümesini beyan buyuruyordu.

    Hiçbir cihette hiçbir şeye liyakatimiz olmayan bizler, bütün kuvvetimizle neşrine çalışacağımız bu mahiyetteki eserlerinizi aldık. Cenab-ı Hakk’a hadsiz şükrederek “Yâ Erhame’r-râhimîn! Üstadımızdan ebediyen razı ol!” diye dua ettik.

    اَل۟بَاقٖى هُوَ ال۟بَاقٖى

    Risale-i Nur talebeleri namına

    Zübeyr, Ceylan, Sungur, İbrahim

    EL-HUTBETÜ’Ş-ŞÂMİYE NAMINDAKİ ARABÎ DERSİN TERCÜMESİNİN MUKADDİMESİDİR

    بِاس۟مِهٖ سُب۟حَانَهُ وَ اِن۟ مِن۟ شَى۟ءٍ اِلَّا يُسَبِّحُ بِحَم۟دِهٖ

    اَلسَّلَامُ عَلَي۟كُم۟ وَ رَح۟مَةُ اللّٰهِ وَ بَرَكَاتُهُ اَبَدًا دَائِمًا

    Aziz, sıddık kardeşlerim!

    Kırk sene evvel Şam’daki Camiü’l-Emevî’de Şam ulemasının ısrarıyla on bin adama yakın, içinde yüz ehl-i ilim bulunan azîm cemaate verilen bu Arabî ders risalesindeki hakikatleri bir hiss-i kable’l-vuku ile Eski Said hissetmiş, kemal-i kat’iyetle müjdeler vermiş ve pek yakın zamanda o hakikatler görünecek zannetmiş. Halbuki iki Harb-i Umumî ve yirmi beş sene bir istibdad-ı mutlak, o hiss-i kable’l-vukuun kırk sene tehirine sebep olmuş ve şimdi o zamanda verdikleri haber, aynen tezahürleri âlem-i İslâmiyet’te başlamış. Demek bu pek ehemmiyetli ders, zamanı geçmiş eski bir hutbe değil belki doğrudan doğruya 1327’ye bedel, 1371’deki –Camiü’l-Emevî yerine âlem-i İslâm camiinde– üç yüz yetmiş milyon bir cemaate hakikatli ve taze bir ders-i içtimaî ve İslâmîdir diye tercümesini neşretmek münasip görürseniz neşredersiniz.

    Gayet mühim bir suale verilen çok ehemmiyetli bir cevabı burada yazmaya münasebet geldi. Çünkü kırk sene evvel Eski Said, o dersinde bir hiss-i kable’l-vuku ile Risale-i Nur’un hârika derslerini ve tesiratını görmüş gibi bahsediyor. Onun için o sual-cevabı yazacağız. Şöyle ki:

    Çoklar tarafından hem bana hem bazı Nur kardeşlerime sual etmişler ve ediyorlar: “Neden bu kadar muarızlara karşı ve muannid feylesoflara ve ehl-i dalalete mukabil Risale-i Nur mağlup olmuyor? Milyonlar kıymettar hakiki kütüb-ü imaniye ve İslâmiyenin intişarlarına bir derece set çekmekle ve sefahet ve hayat-ı dünyeviyenin lezzetleriyle çok bîçare gençleri ve insanları hakaik-i imaniyeden mahrum bırakıyorlar. Halbuki en şiddetli hücum ve en gaddarane muamele ve en ziyade yalanlarla ve aleyhinde yapılan propagandalarla Risale-i Nur’u kırmak, insanları ondan ürkütmek ve vazgeçirmeye çalıştıkları halde, hiçbir eserde görülmediği bir tarzda Risale-i Nur’un intişarı, hattâ çoğu el yazması ile altı yüz bin nüsha risalelerinden kemal-i iştiyak ile perde altında intişar etmesi ve dâhil ve hariçte kemal-i iştiyak ile kendini okutturmasının hikmeti nedir? Sebebi nedir?” diye bu mealde çok suallere karşı elcevap deriz ki:

    Kur’an-ı Hakîm’in sırr-ı i’cazıyla hakiki bir tefsiri olan Risale-i Nur, bu dünyada bir manevî cehennemi dalalette gösterdiği gibi imanda dahi bu dünyada manevî bir cennet bulunduğunu ispat ediyor. Ve günahların ve fenalıkların ve haram lezzetlerin içinde manevî elîm elemleri gösterip hasenat ve güzel hasletlerde ve hakaik-i şeriatın amelinde cennet lezaizi gibi manevî lezzetler bulunduğunu ispat ediyor. Sefahet ehlini ve dalalete düşenleri o cihetle, aklı başında olanlarını kurtarıyor. Çünkü bu zamanda iki dehşetli hal var:

    BİRİNCİSİ

    Âkıbeti görmeyen, bir dirhem hazır lezzeti, ileride bir batman lezzetlere tercih eden hissiyat-ı insaniye, akıl ve fikre galebe ettiğinden ehl-i sefaheti sefahetten kurtarmanın çare-i yegânesi; aynı lezzetinde elemi gösterip hissini mağlup etmektir. Ve يَس۟تَحِبُّونَ ال۟حَيٰوةَ الدُّن۟يَا âyetinin işaretiyle; bu zamanda âhiretin elmas gibi nimetlerini, lezzetlerini bildiği halde, dünyevî kırılacak şişe parçalarını onlara tercih etmek, ehl-i iman iken ehl-i dalalete o hubb-u dünya ve o sır için tabi olmak tehlikesinden kurtarmanın çare-i yegânesi, dünyada dahi cehennem azabı gibi elemleri göstermekle olur ki Risale-i Nur o meslekten gidiyor.

    Yoksa bu zamandaki küfr-ü mutlakın ve fenden gelen dalaletin ve sefahetteki tiryakiliğin inadı karşısında Cenab-ı Hakk’ı tanıttırdıktan sonra ve cehennemin vücudunu ispat ile ve onun azabı ile insanları fenalıktan, seyyiattan vazgeçirmek yolu ile ondan, belki de yirmiden birisi ders alabilir. Ders aldıktan sonra da “Cenab-ı Hak Gafuru’r-Rahîm’dir hem cehennem pek uzaktır.” der, yine sefahetine devam edebilir. Kalbi, ruhu hissiyatına mağlup olur.

    İşte Risale-i Nur ekser muvazeneleriyle küfür ve dalaletin dünyadaki elîm ve ürkütücü neticelerini göstermekle, en muannid ve nefis-perest insanları dahi o menhus, gayr-ı meşru lezzetlerden ve sefahetlerden bir nefret verip aklı başında olanları tövbeye sevk eder. O muvazenelerden Altıncı, Yedinci, Sekizinci Sözlerdeki kısa muvazeneler ve Otuz İkinci Söz’ün Üçüncü Mevkıfı’ndaki uzun muvazene; en sefih ve dalalette giden adamı da ürkütüyor, dersini kabul ettiriyor.

    Mesela Âyet-i Nur’da, seyahat-i hayaliye ile hakikat olarak gördüğüm vaziyetleri gayet kısaca işaret edeceğiz. Tafsilini isteyen Sikke-i Gaybiye’nin âhirine baksın.

    Ezcümle: O seyahat-i hayaliyede, rızka muhtaç hayvanat âlemini gördüğüm vakit, maddî felsefe ile baktım. Hadsiz ihtiyacat ve şiddetli açlıklarıyla beraber zaaf ve aczleri, o zîhayat âlemini bana çok acıklı ve elîm gösterdi. Ehl-i dalalet ve gafletin gözüyle baktığımdan feryat eyledim. Birden hikmet-i Kur’aniye ve imanın dürbünü ile gördüm ki: Rahman ismi Rezzak burcunda, parlak bir güneş gibi tulû etti. O aç, bîçare zîhayat âlemini rahmet ışığıyla yaldızladı.

    Sonra hayvanat âlemi içinde, yavruların zaaf ve acz ve ihtiyaç içinde çırpındıkları hazîn, elîm ve herkesi rikkat ve acımaya getirecek bir karanlık içinde diğer bir âlemi gördüm. Ehl-i dalaletin nazarıyla baktığıma eyvah dedim. Birden iman bana bir gözlük verdi, gördüm ki: Rahîm ismi şefkat burcunda tulû etti. O kadar güzel ve şirin bir surette o acı âlemi sevinçli âleme çevirip ışıklandırdı ki şekva ve acımak ve hüzünden gelen gözyaşlarımı, sevinç ve şükrün lezzetlerinden gelen damlalara çevirdi.

    Sonra sinema perdesi gibi insan âlemi bana göründü. Ehl-i dalaletin dürbünü ile baktım. O âlemi o kadar karanlıklı, dehşetli gördüm ki kalbimin en derinliklerinden feryat ettim. “Eyvah!” dedim. Çünkü insanlarda ebede uzanıp giden arzuları, emelleri ve kâinatı ihata eden tasavvurat ve efkârları ve ebedî beka ve saadet-i ebediyeyi ve cenneti gayet ciddi isteyen himmetleri ve fıtrî istidatları ve had konulmayan ve serbest bırakılan fıtrî kuvveleri ve hadsiz maksatlara müteveccih ihtiyaçları ve zaaf ve aczleriyle beraber hücumlarına maruz kaldıkları hadsiz musibet ve a’daları ile beraber gayet kısa bir ömür, her gün ve her saat ölüm endişesi altında, gayet dağdağalı bir hayat, yaşamak için gayet perişan bir maişet içinde kalbe, vicdana en elîm ve en müthiş halet olan mütemadî zeval ve firak belasını çekmek içinde ehl-i gaflet için zulümat-ı ebediye kapısı suretinde görülen kabre ve mezaristana bakıyorlar. Birer birer ve taife taife o zulümat kuyusuna atılıyorlar gördüm.

    İşte bu insan âlemini bu zulümat içinde gördüğüm anda, kalp ve ruh ve aklımla beraber bütün letaif-i insaniyem, belki bütün zerrat-ı vücudum feryat ile ağlamaya hazır iken birden Kur’an’dan gelen nur ve kuvvet-i iman o dalalet gözlüğünü kırdı, kafama bir göz verdi. Gördüm ki:

    Cenab-ı Hakk’ın Âdil ismi Hakîm burcunda, Rahman ismi Kerîm burcunda, Rahîm ismi Gafur burcunda yani manasında, Bâis ismi Vâris burcunda, Muhyî ismi Muhsin burcunda, Rab ismi Mâlik burcunda birer güneş gibi tulû ettiler. O karanlıklı ve içinde çok âlemler bulunan insan âleminin umumunu birden ışıklandırdılar, şenlendirdiler. Cehennemî haletleri dağıtıp, nurani âhiret âleminden pencereler açıp o perişan insan dünyasına nurlar serptiler. Zerrat-ı kâinat adedince اَل۟حَم۟دُ لِلّٰهِ ، اَلشُّك۟رُ لِلّٰهِ dedim. Ve aynelyakîn gördüm ki imanda manevî bir cennet ve dalalette manevî bir cehennem bu dünyada da vardır, yakînen bildim.

    Sonra küre-i arzın âlemi göründü. O seyahat-i hayaliyemde dine itaat etmeyen felsefenin karanlıklı kavanin-i ilmiyeleri, hayalime dehşetli bir âlem gösterdi. Yetmiş defa top güllesinden daha süratli hareketiyle, yirmi beş bin sene mesafeyi bir senede gezip devreden ve her vakit dağılmaya ve parçalanmaya müstaid (kabil) ve içi zelzeleli, çok ihtiyar ve çok yaşlı küre-i arz içinde ve o dehşetli gemi üstünde kâinatın hadsiz boşluğunda seyahat eden bîçare nev-i insan vaziyeti bana pek vahşetli bir karanlık içinde göründü. Başım döndü, gözüm karardı. Felsefenin gözlüğünü yere vurdum, kırdım. Birden hikmet-i Kur’aniye ve imaniye ile ışıklanmış bir göz ile baktım, gördüm ki:

    Hâlık-ı arz ve semavat’ın Kadîr, Alîm, Rab, Allah ve Rabbü’s-semavati ve’l-arz ve Musahhirü’ş-şemsi ve’l-kamer isimleri; rahmet, azamet, rububiyet burçlarında güneş gibi tulû ettiler. O karanlıklı, vahşetli, dehşetli âlemi öyle ışıklandırdılar ki o halette, benim imanlı gözüme küre-i arz gayet muntazam, musahhar, mükemmel, hoş, emniyetli, herkesin erzakı içinde bir seyahat gemisi ve tenezzüh ve keyif ve ticaret için müheyya edilmiş ve zîruhları güneşin etrafında, memleket-i Rabbaniyede gezdirmek ve yaz ve bahar ve güzün mahsulatını rızık isteyenlere getirmek için bir gemi, bir tayyare, bir şimendifer hükmünde gördüm. Küre-i arzın zerratı adedince اَل۟حَم۟دُ لِلّٰهِ عَلٰى نِع۟مَةِ ال۟اٖيمَانِ dedim.

    İşte buna kıyasen Risale-i Nur’da pek çok muvazenelerle ispat edilmiştir ki ehl-i sefahet ve dalalet, dünyada dahi bir manevî cehennem içinde azap çekerler ve ehl-i iman ve salahat, dünyada dahi bir manevî cennet içinde, İslâmiyet ve insaniyet midesiyle ve imanın tecelliyat ve cilveleriyle, manevî bir cennet lezzetleri tadabilir, belki derece-i imanlarına göre istifade edebilirler.

    Fakat bu fırtınalı zamanın hissi iptal eden ve beşerin nazarını âfaka dağıtan ve boğan cereyanlar, iptal-i his nevinden bir sersemlik vermiş ki ehl-i dalalet manevî azabını muvakkaten tam hissedemiyor. Ehl-i hidayete dahi gaflet basıyor, hakiki lezzetini tam takdir edemiyor.

    BU ASIRDA İKİNCİ DEHŞETLİ HAL

    Eski zamanda küfr-ü mutlak ve fenden gelen dalaletler ve küfr-ü inadîden gelen temerrüd, bu zamana nisbeten pek az idi. Onun için eski İslâm muhakkiklerinin dersleri, hüccetleri o zamanlarda tam kâfi olurdu. Küfr-ü meşkuku çabuk izale ederlerdi. Allah’a iman umumî olduğundan Allah’ı tanıttırmakla ve cehennem azabını ihtar etmekle çokları sefahetlerden, dalaletlerden vazgeçebilirlerdi.

    Şimdi ise eski zamanda bir memlekette bir kâfir-i mutlak yerine, şimdi bir kasabada yüz tane bulunabilir. Eskide fen ve ilim ile dalalete girip inat ve temerrüd ile hakaik-i imana karşı çıkana nisbeten şimdi yüz derece ziyade olmuş. Bu mütemerrid inatçılar, firavunluk derecesinde bir gurur ile ve dehşetli dalaletleriyle hakaik-i imaniyeye karşı muaraza ettiklerinden, elbette bunlara karşı atom bombası gibi –bu dünyada onların temellerini parça parça edecek– bir hakikat-i kudsiye lâzımdır ki onların tecavüzatını durdursun ve bir kısmını imana getirsin.

    İşte Cenab-ı Hakk’a hadsiz şükürler olsun ki bu zamanın tam yarasına bir tiryak olarak Kur’an-ı Mu’cizü’l-Beyan’ın bir mu’cize-i maneviyesi ve lemaatı bulunan Risale-i Nur, pek çok muvazenelerle, en dehşetli muannid mütemerridleri, Kur’an’ın elmas kılıncı ile kırıyor. Ve kâinat zerreleri adedince vahdaniyet-i İlahiyeye ve imanın hakikatlerine hüccetleri, delilleri gösteriyor ki yirmi beş seneden beri en şiddetli hücumlara karşı mağlup olmayıp galebe etmiş ve ediyor.

    Evet Risale-i Nur, iman ve küfür muvazeneleri ve hidayet ve dalalet mukayeseleri, bu mezkûr hakikatleri bilmüşahede ispat ediyor. Mesela, Yirmi İkinci Söz’ün iki makamının bürhanlarına ve lem’alarına ve Otuz İkinci Söz’ün Birinci Mevkıf’ına ve Otuz Üçüncü Mektup’un pencerelerine ve Asâ-yı Musa’nın on bir hüccetine, sair muvazeneler kıyas edilse ve dikkat edilse anlaşılır ki bu zamanda küfr-ü mutlakı ve mütemerrid dalaletin inadını kıracak, parçalayacak Risale-i Nur’da tecelli eden hakikat-i Kur’aniyedir.

    İnşâallah nasıl Tılsımlar mecmuasında, dinin mühim tılsımlarını ve hilkat-i âlemin muammalarını keşfeden parçalar, o mecmuada toplanmış. Aynen öyle de ehl-i dalaletin dünyada dahi cehennemlerini ve ehl-i hidayetin dünyada lezaiz-i cennetlerini gösteren ve iman, cennetin bir manevî çekirdeği ve küfür ise cehennem zakkumunun bir tohumu olduğunu gösteren Nur’un o gibi parçaları, kısacık bir tarzda bir mecmuacık olarak yazılacak, inşâallah neşredilecek.

    Said Nursî

    بِاس۟مِهٖ سُب۟حَانَهُ وَ اِن۟ مِن۟ شَى۟ءٍ اِلَّا يُسَبِّحُ بِحَم۟دِهٖ

    Aziz, sıddık, sarsılmaz, sebatkâr, fedakâr, vefadar kardeşlerim!

    Bilirsiniz ki Ankara ehl-i vukufu Risale-i Nur’a ait kerametleri ve işaret-i gaybiyeleri inkâr edememişler. Yalnız yanlış olarak o kerametlerde beni hissedar zannedip, itiraz ederek “Böyle şeyler kitapta yazılmamalı idi, keramet izhar edilmez.” diye hafif bir tenkide mukabil müdafaatımda onlara cevaben demiştim ki:

    Onlar bana ait değil ve o kerametlere sahip olmak benim haddim değil. Belki Kur’an’ın mu’cize-i maneviyesinin tereşşuhatı ve lem’alarıdır ki hakiki bir tefsiri olan Risale-i Nur’da kerametler şeklini alarak, şakirdlerinin kuvve-i maneviyelerini takviye etmek için ikramat-ı İlahiye nevindendir. İkram ise izharı bir şükürdür, caizdir hem makbuldür.

    Şimdi ehemmiyetli bir sebebe binaen cevabı bir parça izah edeceğim. Ve ne için izhar ediyorum ve ne için bu noktada bu kadar tahşidat yapıyorum ve ne için birkaç aydır bu mevzuda çok ileri gidiyorum, ekser mektuplar o keramete bakıyor, diye sual edildi.

    Elcevap: Risale-i Nur’un hizmet-i imaniyesinde bu zamanda binler tahribatçılara mukabil yüz binler tamiratçı lâzım gelirken hem benimle lâekall yüzer kâtip ve yardımcı bulunmak ihtiyaç varken değil çekinmek ve temas etmemek, belki millet ve ehl-i idare takdir ile ve teşvik ile yardım ve temas etmek zarurî iken ve o hizmet-i imaniye hayat-ı bâkiyeye baktığı için hayat-ı fâniyenin meşgalelerine ve faydalarına tercih etmek ehl-i imana vâcib iken, kendimi misal alarak derim ki:

    Beni her şeyden ve temastan ve yardımcılardan men’etmek ile beraber aleyhimizde olanlar bütün kuvvetleriyle arkadaşlarımın kuvve-i maneviyelerini kırmak ve benden ve Risale-i Nur’dan soğutmak ve benim gibi ihtiyar, hasta, zayıf, garib, kimsesiz bîçareye binler adamın göreceği vazifeyi başına yüklemek ve bu tecrit ve tazyiklerde maddî bir hastalık nevinde insanlar ile temas ve ihtilattan çekilmeye mecbur olmak hem o derece tesirli bir tarzda halkları ürküttürmek ile kuvve-i maneviyeyi kırmak cihetleriyle ve sebepleriyle, ihtiyarım haricinde bütün o manilere karşı Risale-i Nur şakirdlerinin kuvve-i maneviyelerinin takviyesine medar ikramat-ı İlahiyeyi beyan ederek Risale-i Nur etrafında manevî bir tahşidat yaptırmak ve Risale-i Nur kendi kendine, tek başıyla –başkalarına muhtaç olmayarak– bir ordu kadar kuvvetli olduğunu göstermek hikmetiyle bu çeşit şeyler bana yazdırılmış.

    Yoksa hâşâ kendimizi satmak ve beğendirmek ve temeddüh etmek ve hodfüruşluk etmek ise Risale-i Nur’un ehemmiyetli bir esası olan ihlas sırrını bozmaktır. İnşâallah Risale-i Nur kendi kendine hem kendini müdafaa ettiği hem kıymetini tam gösterdiği gibi bizi de manen müdafaa edip kusurlarımızı affettirmeye vesile olacaktır.

    Umum kardeşlerimin ve hemşirelerimin, hâssaten duaları makbul ve mübarek masumlar taifesi ve muhterem ihtiyarlar cemaatinden her birerlerine binler selâm ve dua ederek ramazan-ı şeriflerini tebrik ederiz, dualarını rica ederiz.

    Hasta kardeşiniz

    Said Nursî

    بِاس۟مِهٖ سُب۟حَانَهُ

    Bu âciz kardeşiniz hem itiraz eden o eski dost zata hem ehl-i dikkate ve sizlere beyan ediyorum ki Kur’an-ı Mu’cizü’l-Beyan’ın feyziyle Yeni Said hakaik-i imaniyeye dair o derece mantıkça ve hakikatçe bürhanlar zikrediyor ki değil Müslüman uleması, belki en muannid Avrupa feylesoflarını da teslime mecbur ediyor ve etmektedir.

    Amma Risale-i Nur’un kıymet ve ehemmiyetine işarî ve remzî bir tarzda Hazret-i Ali (ra) ve Gavs-ı A’zam’ın (ra) ihbaratı nevinden, Kur’an-ı Mu’cizü’l-Beyan dahi bu zamanda bir mu’cize-i maneviyesi olan Risale-i Nur’a nazar-ı dikkati celbetmesine mana-yı işarî tabakasından rumuz ve îmaları, i’cazının şe’nindendir. Ve o lisan-ı gaybın belâgat-ı mu’cizekâranesinin muktezasıdır.

    Evet, Eskişehir Hapishanesinde dehşetli bir zamanda ve kudsî bir teselliye çok muhtaç olduğumuz hengâmda, manevî bir ihtarla: “Risale-i Nur’un makbuliyetine eski evliyalardan şahit getiriyorsun. Halbuki وَلَا رَط۟بٍ وَلَا يَابِسٍ اِلَّا فٖى كِتَابٍ مُبٖينٍ sırrıyla en ziyade bu meselede söz sahibi Kur’an’dır. Acaba Risale-i Nur’u Kur’an kabul eder mi? Ona ne nazarla bakıyor?” denildi. O acib sual karşısında bulundum.

    Ben de Kur’an’dan istimdad eyledim. Birden otuz üç âyetin mana-yı sarîhinin teferruatı nevindeki tabakattan mana-yı işarî tabakasından ve o mana-yı işarî külliyetinde dâhil bir ferdi Risale-i Nur olduğunu ve duhûlüne ve medar-ı imtiyazına birer kuvvetli karine bulunmasını bir saat zarfında hissettim. Ve bir kısmı bir derece izahlı ve bir kısmını mücmelen gördüm. Kanaatime hiçbir şek ve şüphe ve vehim ve vesvese kalmadı. Ve ben de ehl-i imanın imanını Risale-i Nur ile takviye etmek niyetiyle o kat’î kanaatimi yazdım ve has kardeşlerime mahrem tutulmak şartıyla verdim.

    Ve o risalede biz demiyoruz ki âyâtın mana-yı sarîhi budur. Tâ hocalar فٖيهِ نَظَرٌ desin. Hem dememişiz ki mana-yı işarînin külliyeti budur.

    Belki diyoruz ki mana-yı sarîhinin tahtında müteaddid tabakalar var. Bir tabakası da mana-yı işarî ve remzîdir. Ve o mana-yı işarî de bir küllîdir, her asırda cüz’iyatları var. Ve Risale-i Nur dahi bu asırda o mana-yı işarî tabakasının külliyetinde bir ferttir ve o ferdin kasden bir medar-ı nazar olduğuna ve ehemmiyetli bir vazife göreceğine, eskiden beri ulema beyninde bir düstur-u cifrî ve riyazî ile karineler, belki hüccetler gösterilmiş iken Kur’an’ın âyetine veya sarahatine değil incitmek, belki i’caz ve belâgatına hizmet ediyor.

    Bu nevi işarat-ı gaybiyeye itiraz edilmez. Ehl-i hakikatin nihayetsiz işarat-ı Kur’aniyeden hadd ü hesaba gelmeyen istihraçlarını inkâr edemeyen, bunu da inkâr etmemeli ve edemez.

    Amma benim gibi ehemmiyetsiz bir adamın elinde böyle ehemmiyetli bir eserin zuhur etmesini istiğrab ve istib’ad edip böyle itiraz eden zat, eğer buğday tanesi kadar çam çekirdeğinden dağ gibi çam ağacını halkeylemek azamet ve kudret-i İlahiyeye delil olduğunu düşünse elbette bizim gibi âciz-i mutlak ve fakir-i mutlakta böyle ihtiyac-ı şedit zamanında böyle bir eser zuhuru, vüs’at-i rahmet-i İlahiyeye delildir demeye mecbur olur.

    Ben sizi ve muterizleri Risale-i Nur’un şeref ve haysiyetiyle temin ediyorum ki: Bu işaretler ve evliyanın îmalı haberleri, remizleri, beni daima şükre ve hamde ve kusurlarımdan istiğfara sevk etmiş. Hiçbir vakitte ve hiçbir dakika nefs-i emmareme medar-ı fahir ve gurur olacak bir enaniyet ve benlik vermediğini, size bu yirmi sene hayatımın gözünüz önünde tereşşuhatıyla ispat ediyorum.

    Evet, bu hakikatle beraber insan kusurdan, nisyandan hâlî değil. Benim bilmediğim çok kusurlarım var. Belki de fikrim karışmış, risalelerde bazı hatalar olmuş. Fakat Kur’an’ın hurufat-ı kudsiyesinin yerine beşerin tercümesini ikame perdesi altında, noksan huruflarla yeni hat altında tahrifkârane ehl-i dalaletin tevilat-ı fâsideleri âyâtın sarahatini incitmelerine bakmıyor gibi bîçare mazlum bir adamın kardeşlerinin imanını kuvvetlendirmek için bir nükte-i i’caziyeyi beyan ettiği için hizmet-i imaniyesine fütur verecek derecede itiraz, elbette değil ehl-i hakikat zatlar belki zerre miktar insafı bulunan itiraz edemez.

    Bunu da ilâveten beyan ediyorum. Bu zamanda gayet kuvvetli ve hakikatli milyonlarla fedakârları bulunan meşrepler, meslekler, tarîkatlar, bu dehşetli dalalet hücumuna karşı zâhiren mağlubiyete düştükleri halde benim gibi yarım ümmi ve kimsesiz ve mütemadiyen tarassud altında, karakol karşısında ve müthiş, müteaddid cihetlerle aleyhimde propagandalar ve herkesi benden tenfir etmek vaziyetinde bulunan bir adam, o mesleklerden daha ileri, daha kuvvetli dayanan Risale-i Nur’a sahip değildir ve o eser onun hüneri olamaz, onunla iftihar edemez. Belki doğrudan doğruya Kur’an-ı Hakîm’in bu zamanda bir nevi mu’cize-i maneviyesi olarak rahmet-i İlahiye tarafından ihsan edilmiştir.

    O adam, binler arkadaşıyla beraber o hediye-i Kur’aniyeye el atmışlar. Her nasılsa birinci tercümanlık vazifesi ona düşmüş. Onun fikri ve ilmi ve zekâsının eseri olmadığına delil, Risale-i Nur’da öyle parçalar var ki bazı altı saatte, bazı iki saatte, bazı bir saatte, bazı on dakikada yazılan risaleler var. Ben yemin ile temin ediyorum ki Eski Said’in (ra) (Hâşiyecik[9]) kuvve-i hâfızası da beraber olmak şartıyla o on dakika işi on saatte fikrim ile yapamıyorum. O bir saatlik risaleyi, iki gün istidadımla, zihnimle yapamıyorum ve o bir günde altı saatlik risale olan Otuzuncu Söz’ü ne ben ve ne de en müdakkik dindar feylesoflar altı günde o tahkikatı yapamazlar ve hâkeza…

    Demek biz müflis olduğumuz halde, gayet zengin bir mücevherat dükkânının dellâlı ve bir hizmetçisi olmuşuz. Cenab-ı Hak fazl u keremiyle şu hizmette hâlisane, muhlisane bizi ve umum Risale-i Nur talebelerini daim ve muvaffak eylesin, âmin bihürmeti Seyyidi’l-mürselîn.

    Said Nursî


    الشعاع الخامس | الشعاعات | الشعاع الأولى

    1. أحمد بن حنبل، المسند، ٢٢٧/٤؛ ابن أبي شيبة، المسند ٢٧/٦، ١٧١/٧؛ البزار، المسند ٢٦٠/٣؛ الطبراني، المعجم الكبير ٦٥/٢٠.
    2. تناوله العلماء معنىً ومبنىً، ولعل قول علي القاري هو الوسط بين المثبتين والنافين له، إذ يقول: إنه صحيح معنى ولو ضُعف مبنىً (شرح الشفا ١/ ٢٦).
    3. هذه الفقرات المحصورة بين قوسين مركنين وردت في النص باللغة العربية.
    4. حتى يقول سيدنا علي رَضِيَ الله عَنْهُ مشيدا بشجاعة فائقة: إذا حزبنا أمر -في الحرب- احتمينا برسول الله ﷺ وتحصنّا به. ونقلت التواريخ أن أعداءه كذلك شهدوا أنه ﷺ كان في ذروةِ كلِ خصلةٍ نبيلة كما هو في الشجاعة. (المؤلف)
    5. وقد شعرت وأنا أعاني شيخوختي وضعفي بواحدٍ من مليون من الأرزاق المعنوية التي أتى بها هذا النبي الكريم محمد ﷺ، فلو كان بوسعي لشكرته بملايين الألسنة والصلوات. وذلك:
      أنني أتألم غاية الألم من الفراق والزوال، مـع أن الدنيا التي أحبها والدنيويين يتركونى برحيلهم و بمفارقتهم لي، وأنا على علم برحيلي أيضا. فيتملكنى يأس أليم قاتم. ولكن أتسلى وأنجو كليا من هذا اليأس باستماع بشارةِ السعادة الأبدية والحياة الباقية من النبي الكريم ﷺ، حتى إنني عندما أقول «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته» في التشهد، أقدم له بيعتي وطاعتي واستسلامي لمهمته، وأباركه في وظيفته مقدِما نوعا من الشكر إليه، مقابلَ تلك البشارة بالسعادة الأبدية، وهكذا ينطق المسلمون بهذا السلام خمس مرات يوميا. (المؤلف).
    6. ولله المثل الأعلى: كلزوم الضياء المحيط للشمس. (المؤلف)
    7. لقد كُتب القسم الثاني أثناء مكابدةِ مرض رهيب لم أره طوال حياتي من جراء تسمم، فأرجو النظر إلى تقصيراتي بنظر المسامحة. ويستطيع «خسرو» أن يصلح ويبدل ويعدل ما يراه غير مناسب. (المؤلف).
    8. إن مرضي الشديد جدا لا يسمح بالإيضاح، وما كتبته إنما هو مصدر ومساعدة لمهمة «خسرو» في الترجمة ليس إلّا. (المؤلف)
    9. Hâşiyecik: Bazı müstensihler, bu bîçare Said hakkında (ra) kelimesini bir dua niyetiyle yazmışlar. Ben bozmak istedim, hatıra geldi ki: “Allah razı olsun.” manasında bir duadır, ilişme. Ben de bozmadım.