المكتوب الثامن عشر

    Risale-i Nur Tercümeleri sitesinden
    Bu sayfa On Sekizinci Mektup sayfasının çevrilmiş sürümü ve çeviri %100 tamamlandı.
    Diğer diller:

    بِاسْمِهِ سُبحَانَهُ

    ﴿وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه۪﴾

    (هذا المكتوب يتضمن ثلاث مسائل مهمة)

    المسألة المهمة الأولى

    سؤال: إنَّ أولياءَ مشهورين أمثالَ الشيخ محي الدين بن عربي(∗) (قدس سره) صاحب كتاب «الفتوحات المكية» والشيخ عبد الكريم الجيلي(∗) (قدس سره) صاحب كتاب «الإنسان الكامل» يبحثون في طبقات الأرض السبع، وفي الأرض البيضاء خلف جبل قاف، وفي أمور عجيبة كالمشمشية -كما في الفتوحات- ويقولون: لقد رأينا! فهل ما يقولونه صدقٌ وصواب؟ فإن كان هكذا فليس في أرضنا مثل ما يقولون! والجغرافية والعلوم الحاضرة تنكر ما يقولونه! وإن لم تكن أقوالُهم صواباً فكيف أصبحوا أولياءَ صالحين، إذ كيف يكون من ينطق بمثل هذه الأقوال المخالفة للواقع المشاهَد والمحسوس والمنافية للحقيقة، من أهل الحق والحقيقة!.

    الجواب: إنهم من أهل الحق والحقيقة، وهم أيضاً أَهلُ ولاية وشهود، فما شاهدوه فقد رأَوه حقاً، ولكن يقع الخطأ في قسم من أحكامهم، في مشاهداتهم في حالة الشهود التي لا ضوابطَ لها ولا حدود، وفي تعبير رؤيتهم الشبيهة بالرؤى التي لا حقّ لهم في التعبير عنها.

    إذ كما لا يحق لصاحب الرؤيا التعبير عن رؤياه بنفسه، فذلك القسمُ من أهل الشهود والكشف ليس لهم الحق أنْ يعبّروا عن مشاهداتهم في تلك الحالة، حالة الشهود. فالذي يحق له التعبير عن تلك المشاهدات إنما هم ورثةُ الأنبياء من العلماء المحققين المعروفين بالأصفياء. ولا ريب أنَّ أهلَ الشهود هؤلاء عندما يرقَون إلى مقام الأصفياء سيدركون أخطاءهم بأنفسهم بإرشاد الكتاب والسنة ويصححونها. وقد صححها فعلاً قسمٌ منهم.

    فاستمع إلى هذه الحكاية التمثيلية لتوضيح هذه الحقيقة، وهي:

    اصطحبَ راعيانِ من أهل القلب والصَّلاح فحلبا من غنمهما اللبنَ ووضعاه في إناء خشبي ووضعا الناي القصبي فوق حافتي الصحن. ثم شعر أحدهما بالنعاس، وما فتئ أن غلبَه النومُ، فنام واستغرق في نومه.

    أما الثاني فقد ظل مستيقظاً يرقب صاحبَه، وإذا به يرى وكأن شيئاً صغيراً -كالذبابة- يخرج من أنف صاحبه النائم، ثم يمرُق سريعاً ويقف على حافة الإناء ناظراً في اللبن ثم يدخل من فوهة الناي من أحد طرفيه ويخرج من فوهة الطرف الآخر، ثم يمضي ويدخل في ثقب صغير تحت شجرة القتاد الشوكية كانت بالقرب من المكان.

    ثم يعود ذلك الشيء بعد مدة ويمضي في الناي أيضاً ويخرج من الطرف الآخر منه، ثم يأتي إلى ذلك النائم ويدخل في أنفه.. وهنا يستيقظ النائم من نومه، ويصحو قائلاً لصديقه:

    - لقد رأيت يا صديقي في غفوتي هذه رؤيا عجيبة!

    - اللهم أرنا خيراً وأسمِعنا خيراً.. قل يا صديقي ماذا رأيت؟

    - رأيت وأنا نائم، بحراً من لبن، وقد مُدَّ عليه جسرٌ عجيب، وكان الجسر مسقفاً، ولسقفه نوافذ، مررتُ من ذلك الجسر، ورأيت في نهاية الطرف الثاني غابة كثيفة ذات أشجار مدببة. وبينما أنا انظر إليها متعجباً رأيت كهفاً تحت الأشجار فسرعان ما دخلت فيه، ورأيت كنـزاً عظيماً من ذهب خالص.

    فقل لي يا صديقي، ما ترى في رؤياي هذه، وكيف تعبّرها لي؟

    أجابه صديقُه الصاحي:

    - إنَّ ما رأيتَه من بحر اللبن هو هذا اللبن في هذا الإناء، وذلك الجسر الذي فوقه هو الناي الموضوع فوق حافتيه، والرؤوس المشوكة للأشجار هي شجرة القتاد هذه، وذلك الكهف الكبير هو هذا الثقب الصغير، تحت هذه النبتة القريبة منا. فهات يا صديقي المعوَل لأريك الكنـز بنفسي. فيأتي صديقه بالمعوَل ويبدآن الحفر تحت شجرة القتاد، ولم يلبثا حتى ينكشف لهما ما يسعدهما في الدنيا من كنـز ذهبي.

    وهكذا فإن ما رآه النائم في نومه صواب وصحيح، وقد رأى ما رأى حقيقة وصدقاً، ولكن لأنه مستغرق في عالم الرؤيا، وعالم الرؤيا لا ضوابطَ له ولا حدود، فلا يحق للرائي تعبير رؤياه، فضلاً عن أنه لا يميز بين العالم المادي والمعنوي، لذا يكون قسم من حكمه خطأ. حتى إنه يقول لصاحبه صادقاً: لقد رأيت بنفسي بحراً من لبن. ولكن صديقه الذي ظل صاحياً يستطيع أن يميز بسهولة العالم المثالي ويفرزه عن العالم المادي، فله حق تعبير الرؤيا حيث يخاطب صديقه قائلاً:

    - إنَّ ما رأيته يا صديقي حق وصدق، ولكن البحر الذي رأيتَه ليس بحراً حقيقياً، بل قد صار إناءُ اللبن الخشبي هذا في رؤياك كأنه البحر، وصار النايُ كالجسر.. وهكذا..

    وبناء على هذا المثال ينبغي التمييزُ بين العالم المادي والعالم الروحاني، فلو مزجا معاً، تأتي أحكامُهما خطأً ولا نصيبَ لها من الصحة.

    ومثال آخر: هَبْ أن لك غرفةً ضيقة، وضعتَ في جدرانها الأربعة مرايا كبيرة، تغطي كل مرآة الجدارَ كلَّه، فعندما تدخل غرفتك ترى أن الغرفة الضيقة قد اتسعت وأصبحت كالساحة الفسيحة، فإذا قلتَ:

    - إنني أرى غرفتي كساحة واسعة.. فإنك لا شك صادق في قولك.

    ولكن إذا حكمتَ وقلت:

    - غرفتي واسعةٌ سعةَ الساحة فعلاً.. فقد أخطأتَ في حكمك، لأنك قد مزجت عالَم المثال، وهو هنا عالم المرايا، بعالَم الواقع والحقيقة، وهو هنا عالَم غرفتك كما هي فعلاً.

    وهكذا تبيّنَ أنَّ ما جاء على ألسنة بعض أهل الكشف، أو ما ورد في كتبهم حول الطبقات السبع للكرة الأرضية من تصويرات من دون أن يزِنوا بياناتِهم بموازين الكتاب والسنة لا تقتصر على الوضع المادي والجغرافي للأرض. إذ قالوا:

    إن طبقةً من طبقات الأرض خاصةٌ بالجن والعفاريت ولها سعة مسيرة ألوف السنين. والحال أن الكرة الأرضية التي يمكن قطعُها في بضع سنين لا تنطوي على تلك الطبقات العجيبة الهائلة السعة.

    ولكن لو فرضنا أنَّ كرتنا الأرضيةَ كبذرة صنوبر في عالم المعنى وعالم المثال وفي عالم البرزخ وعالم الأرواح، فإنَّ شجرتها المثالية التي ستنبثق منها وتتمثل في تلك العوالم ستكون كشجرة صنوبر ضخمة جداً بالنسبة لتلك البذرة. لذا فإن قسماً من أهل الشهود يرون أثناء سيرهم الروحاني طبقات الأرض في عالم المثال واسعةً سعةً مهولة جداً، فيشاهدونها بسعة مسيرة ألوف السنين.

    فما يرونَه صدقٌ وحقيقة. ولكن لأن عالم المثال شبيهٌ صورةً بالعالم المادي، فهم يرونهما -أي العالَمين كليهما- ممزوجين معاً. فيعبّرون عما يشاهدون كما هو. ولكن لأنَّ مشهوداتِهم غيرُ موزونة بموازين الكتاب والسنة ويسجلونَها كما هي في كتبهم عندما يعودون إلى عالم الصحو، فإن الناس يتلقونها خلاف الحقيقة. إذ كما أنَّ الوجودَ المثالي لقصر عظيم وحديقة فيحاء تستوعبه مرآةٌ صغيرة، كذلك سعةُ ألوف السنين من العالم المثالي، والحقائق المعنوية تستوعبها مسافةُ سنة من العالم المادي.

    خاتمة

    يُفهم من هذه المسألة: أنَّ درجة الشهود أوطأُ بكثير من درجة الإيمان بالغيب. أي أنَّ الكشفيات التي لا ضوابطَ لها لقسم من الأولياء المستندين إلى شهودهم فقط، لا تبلغ أحكامَ الأصفياء والمحققين من ورثة الأنبياء الذين لا يستندون إلى الشهود بل إلى القرآن والوحي، فيصدرون أحكامَهم حول الحقائق الإيمانية السديدة. فهي حقائق غيبية إلا أنها صافيةٌ لا شائبةَ فيها. وهي محددةٌ بضوابط، وموزونةٌ بموازين.

    إذن فميزانُ جميع الأحوال الروحية والكشفيات والأذواق والمشاهدات إنما هو: دساتيرُ الكتاب والسنة السامية، وقوانينُ الأصفياء والمحققين الحدسية.

    المسألة الثانية المهمة

    سؤال: يعتبر الكثيرون «وحدة الوجود» من أرفع المقامات، بينما لا نشاهد لها أثراً عند الذين لهم الولاية الكبرى، وهم الصحابة الكرام وفي مقدمتهم الخلفاء الراشدون، ولا عند أئمة آل البيت وفي مقدمتهم الخمسة المعروفون بآل العباء، ولا عند المجتهدين وفي مقدمتهم الأئمة الأربعة، ولا عند التابعين. فهل الذين أتوا من بعد هؤلاء اكتشفوا طريقاً أسمى وأرفع من طريقهم؟ وهل سبَقوهم في هذا المضمار؟!

    الجواب: كلا.. وحاشَ لله أن يكون الأمر كذلك، فليس في مقدور أحد كائناً من كان أنْ يصل إلى مستوى أولئك الأصفياء الذين كانوا أقربَ النجوم اللامعة إلى شمس الرسالة والوارثين السابقين إلى كنوز النبوة فضلاً عن أن يسبقوهم. فالصراط المستقيم إنما هو طريقُهم والمنهج القويم إنما هو منهجهم.

    أما وحدة الوجود فهي مشربٌ ونـزعةٌ وحال وهي مرتبة ناقصة، ولكن لكونها مشرّبة بلذة وجدانية ونشوة روحية فإن معظم الذين يحملونها أو يدخلون إليها لا يرغبون في مغادرتها فيبقون فيها، ظانين أنها هي المرتبة الأخيرة التي لا تسمو فوقها مرتبة ولا يطالها أفق.

    لذلك فإنَّ صاحبَ هذا المشرب، إنْ كان ذا روح متجردة من المادة ومن وسائلها ومزقت ستارَ الأسباب وتحررت من قيودها ونالت شهوداً في لُجّة الاستغراق الكلي، فإنّ مثل هذا الشخص قد يصل إلى وحدة وجود حالي لا علمي، ناشئة من وحدة شهود وليس من وحدة الوجود، فتحقق لصاحبها كمالاً ومقاماً خاصاً به، بل قد توصله إلى إنكار وجود الكون عند تركيز انتباهه في وجود الله.

    أما إنْ كان صاحبُ هذا المشرب من الذين أغرقَتهم المادة وأسبابها. فإنَّ ادعاءه لوحدة الوجود قد تؤدي به إلى إنكار وجود الله سبحانه لكون انتباهه منحصراً على وجود الكون.

    نعم، إن الصراطَ المستقيم لهو طريق الصحابة والتابعين والأصفياء الذين يرون أنَّ

    «حقائق الأشياء ثابتة» وهي القاعدة الكلية لديهم، وهم الذين يعلمون أن الأدب اللائق بحق الله سبحانه وتعالى هو قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِه۪ شَيْءٌۚ ﴾ (الشورى: ١١) أي أنه منـزّه عن الشبيه والتحيز والتجزؤ. وأنَّ علاقتَه بالموجودات علاقةُ الخالق بالمخلوقات، فالموجودات ليست أوهاماً كما يدّعي أصحابُ وحدة الوجود، بل هذه الأشياء الظاهرة هي من آثار الله سبحانه وتعالى. إذن فليس صحيحاً قولُهم «همه اوست» أي «لا موجود إلا هو» وإنما الصحيح «همه از اوست» أي «لا موجود إلّا منه» ذلك لأن الحادثاتِ لا يمكن أنْ تكون القديمَ نفسَه، أي أزلية.

    ويمكن تقريب الموضوع إلى الأذهان بمثالين:

    الأول: لنفرض أنَّ هناك سلطاناً، وأنَّ لهذا السلطان دائرةَ عدل، فهذه الدائرة تكون ممثلة لاسم «السلطان العادل». وأن هذا السلطان في الوقت نفسه هو «خليفة» إذن فإن له دائرةً تعكس فيها ذلك الاسم. كما أن هذا السلطان يحمل اسم «القائد العام للجيش» لذا ستكون له دائرة عسكرية تظهر ذلك الاسم. فالجيش مظهر لهذا الاسم.

    والآن إذا قيل بأن هذا السلطان هو «السلطان العادل» فقط وأنه لا توجد سوى دائرة العدل التي تعكس اسم السلطان الاعظم، ففي هذه الحالة تظهر بالضرورة بين موظفي دائرة العدل صفةٌ اعتبارية -غير حقيقية- لأوصاف علماء دائرة الشؤون الدينية وأحوالهم، أي ينبغي أن يُتَصوَّرَ صفةٌ ظلية وتابعة وغير حقيقية لدائرة الشؤون الدينية بين موظفي دائرة العدل. وكذلك الحال بالنسبة للدائرة العسكرية، إذ لابد أن تظهر أحوالُها ومعاملاتُها بشكل ظلي وفرضي وغير حقيقي بين موظفي دائرة العدل وهكذا.

    إذن ففي هذه الحالة فإن اسم السلطان الحقيقي وصفة حاكميته الحقيقية «الحاكم العادل» وحاكميته في دائرة العدل، أما صفاته الأخرى مثل «الخليفة» و «القائد العام للجيش»... إلخ، فتبقى نسبيةً وغيرَ حقيقية، بينما ماهيةُ السلطان وحقيقةُ السلطنة تقتضيان هذه الأسماء جميعاً بصورة حقيقية، وأن الأسماء الحقيقية تتطلب هي الأخرى دوائرَ حقيقيةً وتقتضيها.

    وهكذا فإن سلطنة الألوهية تقتضي وجود أسماءٍ حسنى حقيقيةٍ متعددةٍ لها، أمثال: الرحمن، الرزاق، الوهاب، الخلاق، الفعال، الكريم، الرحيم، وهذه الأسماء والصفات تقتضي كذلك وجود مرايا حقيقية لها.

    والآن ما دام أصحابُ وحـدة الوجود يقولون: «لا موجود إلّا هو» ويُنـزِلون الموجودات منـزلةَ العدم والخيال فإنَّ اسماءَ الله تعالى أمثال: واجب الوجود، الموجود، الأحد، الواحد، تجد لها تجلياتها الحقيقية ودوائرها الحقيقية، وحتى إنْ لم تكن دوائر هذه الأسماء ومراياها حقيقيةً -وأصبحت خيالية وعدمية- فلا تضر تلك الأسماءَ شيئاً، بل ربما يكون الوجود الحقيقي أصفى وألمع إنْ لم يكن في مرآته لونُ الوجود. ولكن في هذه الحالة لا تجد أسماء الله الحسنى الأخرى أمثال: الرحمن، الرزاق، القهار، الجبار، الخلاق، تجلياتها الحقيقية. بل تصبح اعتباريةً ونسبية، بينما هذه الأسماء هي أسماء حقيقية كاسم «الموجود» ولا يمكن أن تكون ظلاً، وهي أصلية لا يمكن أن تكون تابعة.

    وهكذا فإنَّ الصحابةَ والمجتهدين والأصفياء وأئمة أهل البيت عندما يشيرون إلى أن «حقائق الأشياء ثابتة» يُقرّون بأنَّ لأسماء الله تعالى تجلياتٍ حقيقيةً وأن لجميع الأشياء وجوداً عرَضياً أسبغه الله عليها بالخلق والإيجاد. ومع أن هذا الوجود يعتبر وجوداً عرَضياً وضعيفاً وظلاً غيرَ دائم بالنسبة لوجود «واجب الوجود» إلّا أنه ليس وَهماً وليس خيالاً، فإن الله سبحانه وتعالى قد أسبغَ على الأشياء صفةَ الوجود بتجلي اسمه «الخلاق» وهو يديم هذا الوجود.

    المثال الثاني: لنفرض أنَّ في هذه الغرفة أربعَ مرايا جداريةٍ كبيرةٍ موضوعة على جدرانها الأربعة. فصورةُ الغرفة ترتسم على كل مرآة من هذه المرايا، ولكنْ كل مرآة تعكس صورة الأشياء بالشكل الذي يناسب صفتَها ولونها، أي أن كل مرآة ستعكس منظراً خاصاً للغرفة.

    فإذا دخل رجلان إلى الغرفة واطلع أحدُهما على إحدى هذه المرايا فإنه يعتقد بأنه يرى جميع الأشياء مرتسمةً فيها، وعندما يسمع بوجود مرايا أخرى وما فيها من صور فإنه يعتقد بأنها صوَر المرايا التي تنعكس على مرآته نفسها والتي لا تشغل إلّا حيزاً صغيراً منها، بعد أنْ تضاءلت صورتُها مرتين وتغيرت حقيقتُها فيقول: إنني أرى الصورةَ هكذا. إذن فهذه هي الحقيقة.

    فيقول له الرجل الثاني: نعم، إنك ترى ذلك وما تراه صحيح، ولكن ليس هو في الواقع صورة الحقيقة نفسها، فهناك مرايا أخرى غير المرآة التي تحدق فيها، وتلك المرايا ليست صغيرة وضئيلة ومنعكسة من الظِلال كما تراها في مرآتك!

    وهكذا فإنَّ كل اسم من أسماء الله الحسنى يتطلب مرآةً خاصة به كلٌّ على حدة. فمثلاً: إن الأسماء الحسنى أمثال: «الرحمن، الرزاق» لما كانت أسماءَ حقيقيةً وأصلية فإنها تقتضي موجوداتٍ لائقةً بها ومخلوقات محتاجةً إلى مثل هذا الرزق ومثل هذه الرحمة.

    فكما يقتضي اسم «الرحمن» مخلوقاتٍ حيةً محتاجة إلى الرزق في عالم حقيقي، فإن اسم «الرحيم» يستدعي جنةً حقيقية كذلك. لذا فإن اعتبار أسماء معينة من أسماء الله الحسنى أمثال «الموجود، الواحد، الأحد، واجب الوجود» هي الأسماء الحقيقية فقط وتوهّم الأسماء الحسنى الأخرى تابعةً وظِلاً لها، حُكمٌ غيرُ عادل وتنكّبٌ عن واجب الاحترام لهذه الأسماء الحسنى كما ينبغي.

    إذن فالصراط المستقيم، بل صراط الولاية الكبرى إنْ هو إلّا طريق الصحابة والأصفياء والتابعين وأئمة أهل البيت والأئمة المجتهدين وهو الطريق الذي سلكه التلاميذ الأُول للقرآن الكريم.

    ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَٓا اِلَّا مَا عَلَّمْتَنَاۜ اِنَّكَ اَنْتَ الْعَل۪يمُ الْحَك۪يمُ﴾

    ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ اِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةًۚ اِنَّكَ اَنْتَ الْوَهَّابُ﴾

    اللّهم صَلِّ على من أرسلته رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين

    المسألة الثالثة

    وهي المسألة المهمة التي لا يمكن حلّها بالعقل ولا كشفها بالحكمة والفلسفة.

    قال تعالى: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ ف۪ي شَأْنٍ﴾ (الرحمن: ٢٩) ﴿فَعَّالٌ لِمَا يُر۪يدُ﴾ (البروج: ١٦)

    سؤال: ما سرُّ هذه الفعالية المحيّرة للألباب الجارية في الكائنات وما حكمتُها؟ ولِمَ لا تستقر هذه الموجوداتُ الدائبة في الحركة، بل تتجدد وتتغير؟

    الجواب: إنَّ إيضاح هذه الحكمة يحتاج إلى ألف صحيفة، فندع الإيضاحَ جانباً ونحصر الجوابَ في غاية الاختصار في صحيفتين اثنتين فنقول:

    إنَّ شخصاً ما إذا أدى وظيفة فطرية، أو قام بمهمة اجتماعية، وسعى في إنجازها سعياً حثيثاً، فلاشك أن المشاهِد يدرك أنه لا يقوم بهذا العمل إلّا بدافعين:

    الأول: هو المصالح والثمرات والفوائد التي تترتب على تلك الوظيفة والمهمة وهي التي تسمى بـ«العلة الغائية».

    الثاني: إنَّ هناك محبةً، وشوقاً، ولذة يشعر بها الإنسان في أثناء أدائه لتلك الوظيفة، مما يدفعه إلى القيام بها بحرارة وشوق، وهذا ما يسمى بـ«الداعي والمقتضي».

    مثال ذلك: إن الأكلَ وظيفةٌ فطرية يشتاق الإنسان إلى القيام بها بدافع من لذة ناشئة من الشهية، ومن بعدها فهناك إنماء الجسم وإدامة الحياة كنتيجة للأكل وثمرة له.

    ﴿وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى﴾ فإن الفعاليةَ الجارية في هذا الكون الواسع التي تحير الألبابَ وتجعل العقول في غمرة اندهاشٍ وإعجاب إنما تستند إلى قسمين من الأسماء، وتجري نتيجة إظهار حكمتين اثنتين واسعتين بحيث إن كلاً منهما لا يحدّها حدود.

    الحكمة الأولى:

    إن أسماء الله الحسنى لها تجلياتٌ لا تُحد ولا تحصر، فتنوُّع المخلوقات إلى أنواع لا تُحصَر ناشئ من تنوع تلك التجليات غير المحصورة. والأسماء بحد ذاتها لابد لها من الظهور أي تستدعي إظهارَ نقوشها، أي تقتضي مشاهدةَ تجليات جمالها في مرايا نقوشها وإشهادَها. بمعنى أنَّ تلك الأسماء تقضى بتجدد كتاب الكون، أي تجدد الموجودات آناً فآناً، باستمرارٍ دون توقف، أي أن تلك الأسماءَ تقتضي كتابةَ الموجودات مجدداً وببلاغة حكيمة ومغزىً دقيق بحيث يُظهر كلُّ مكتوب نفسه أمام نظر الخالق جل وعلا وأمام أنظار المطالعين من الموجودات المالكة للشعور ويدفعهم لقراءته.

    السبب الثاني والحكمة الثانية:

    كما أنَّ الفعالية الموجودة في المخلوقات قاطبة نابعةٌ من لذة ومن شهية ومن شوق، بل إنَّ في كل فعالية منها لذة، بل كل فعالية هي بحد ذاتها نوعٌ من اللذة.

    ﴿وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى﴾ فهناك شفقة مقدسةٌ مطلقة ومحبة مقدسة مطلقة تليقان به سبحانه وتلائمان غناه المطلق وتعاليه وتقدسَه وتوافقان كمالَه المطلق.

    ثم إن هناك شوقاً مقدساً مطلقاً يليق به آت من تلك الشفقة المقدسة والمحبة المقدسة،

    وهناك سرور مقدس ناشئ من ذلك الشوق المقدس

    وهناك لذة مقدسة لائقة به -إنْ جاز التعبير- ناشئة من ذلك السرور المقدس،

    ثم إن الرحمة المطلقة النابعةَ من تلك اللذة المقدسة، وما ينشأ من المخلوقات قاطبة من رضى عام وكمال شامل من انطلاق استعداداتها من القوة إلى الفعل وتكمّلها، ضمن فعالية القدرة.. فما ينشأ من كل هذا من رضى مقدس مطلق -إنْ جاز التعبير- وافتخارٍ مقدس مطلق.. كل ذلك بما يليق ويخص الرحمنَ الرحيم سبحانه يقتضي فعاليةً مطلقة وبصورة لا تحد.

    وحيث إنَّ الفلسفة والعلم تجهلان هذه الحكمةَ الدقيقة في الفعالية الجارية في الوجود، خلط أصحابُها الطبيعةَ الصماء والمصادفةَ العشواء والأسبابَ الجامدة في غمرة هذه الفعالية البصيرة العليمة الحكيمة، فما اهتدوا إلى نور الحقيقة بل ضلّوا ضلالاً بعيداً.

    ﴿قُلِ اللّٰهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ ف۪ي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ (الأنعام: ٩١)

    ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ اِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةًۚ اِنَّكَ اَنْتَ الْوَهَّابُ﴾

    اللّهم صَلِّ وسلم على كاشف طلسم كائناتك بعدد ذرات الموجودات وعلى آله وصحبه ما دام الأرض والسماوات.

    الباقي هو الباقي

    سعيد النورسي


    المكتوب السابعة عشرة | المكتوبات | المكتوب التاسعة عشرة