On Dokuzuncu Lem'a/ar: Revizyonlar arasındaki fark
("== النكتة الأولى ==" içeriğiyle yeni sayfa oluşturdu) |
Değişiklik özeti yok |
||
(Aynı kullanıcının aradaki diğer 2 değişikliği gösterilmiyor) | |||
135. satır: | 135. satır: | ||
- أيها الإمام: ألا تحل لي معضلتي هذه؟ لقد فعلتَ في السوق كذا وكذا وفي البيت كذا وكذا؟! | - أيها الإمام: ألا تحل لي معضلتي هذه؟ لقد فعلتَ في السوق كذا وكذا وفي البيت كذا وكذا؟! | ||
فردّ عليه قائلاً: | |||
- إن ما حدث في السوق هو نتيجة الاقتصاد والحصافة، فعلتُه صوناً للأمانة وحفظاً للصدق اللذين هما أساس المبايعة وروحها وهو ليس بخسّةٍ ولا ببخل، وإن ما بدر مني في البيت نابع من رأفة القلب ورقّته ومن سمو الروح واكتمالها.. فلا ذاك خسّة ولا هذا إسراف. | - إن ما حدث في السوق هو نتيجة الاقتصاد والحصافة، فعلتُه صوناً للأمانة وحفظاً للصدق اللذين هما أساس المبايعة وروحها وهو ليس بخسّةٍ ولا ببخل، وإن ما بدر مني في البيت نابع من رأفة القلب ورقّته ومن سمو الروح واكتمالها.. فلا ذاك خسّة ولا هذا إسراف. | ||
170. satır: | 170. satır: | ||
النتيجة الثالثة: إنَّ الحرص يتلف الإخلاص ويفسد العمل الأخروي؛ لأنه لو وُجد حرصٌ في مؤمن تقي لرغب في توجه الناس وإقبالهم إليه، ومن يرقب توجه الناس وينتظره لا يبلغ الإخلاصَ التام قطعاً ولا يمكنه الحصول عليه. فهذه النتيجة ذات أهمية عظمى جديرة بالدقة والملاحظة. | النتيجة الثالثة: إنَّ الحرص يتلف الإخلاص ويفسد العمل الأخروي؛ لأنه لو وُجد حرصٌ في مؤمن تقي لرغب في توجه الناس وإقبالهم إليه، ومن يرقب توجه الناس وينتظره لا يبلغ الإخلاصَ التام قطعاً ولا يمكنه الحصول عليه. فهذه النتيجة ذات أهمية عظمى جديرة بالدقة والملاحظة. | ||
محصل الكلام: إنَّ الإسراف ينتج عدم القناعة أي الطمع، أما الطمع فيُخبت وهجَ الشوق والتطلع إلى العمل ويقذف بالإنسان إلى التقاعس والكسل، ويفتح أمامه أبواب الشكوى والحسرة في حياته حتى ليجعله يئن دوماً تحت مضض الشكوى والسأم. (<ref>نعم، إذا قابلت مسرفاً فستسمع منه حتماً الشكاوي العريضة، ومهما كان غنياً فلسانه يشكو لا محالة، بينما إذا قابلت فقيراً قانعاً فلا تسمع منه إلّا الحمد والشكر لله. (المؤلف).</ref>) كما أنه يفسد إخلاصه ويفتح دونه باباً للرياء والتصنع فيكسر عزته ويريه طريق الاستجداء والاستخذاء. | |||
< | أما الاقتصاد فإنه يثمر القناعة، والقناعة تنتج العزة، استناداً إلى الحديث الشريف: (عزّ مَن قنع وذلّ مَن طمع). (<ref>انظر: ابن الأثير، النهاية في غرائب الحديث ٤/ ١١٤؛ الزبيدي، تاج العروس مادة (ق ن ع).</ref>) كما أنه يشحذ الشوقَ بالسعي والعملَ ويحث عليهما ويسوق سوقاً إلى الكدّ وبذل الجهد فيهما؛ | ||
</ | |||
لأنه إذا ما سعى المرء في يوم ما وتقاضى أجره مساءً فسيسعى في اليوم التالي له بسر القناعة التي توافرت لديه. أما المسرف فإنه لا يسعى في يومه الثاني لعدم قناعته وحتى إذا سعى فإنه يسعى دون شوق. | |||
وهكذا فإن القناعة المستفاضة من الاقتصاد تفتح باب الشكر وتوصد باب الشكوى، فيظل الإنسان في شكر وحمدٍ مدى حياته. وبالقناعة لا يلتفت إلى توجه الناس إليه لاستغنائه عنهم، فينفتح أمامه باب الإخلاص وينغلق بابُ الرياء. | |||
ولقد شاهدت الأضرار الجسيمة والخسائر الفادحة التي تسفر عن الإسراف وعدم الاقتصاد شاهدتها متجسدة في نطاق واسع ممتد وهي كما يأتي: | |||
جئت إلى مدينة مباركة -قبل تسع سنوات- كان الموسم شتاءً فلم أَتمكن من رؤية منابع الثروة وجوانب الإنتاج في تلك المدينة، فقال لي مُفتيها رحمه الله: إن أَهالينا فقراء مساكين. أَعاد قوله هذا مراراً. أثّر فيّ هذا القول تأثيراً بالغاً مما أَجاش عطفي، فبت أَسترحم وأَتأَلم لأهالي تلك المدينة فيما يقرب من ست سنوات. وبعد ثماني سنوات عدتُ إليها وهي في أَجواء الصيف، وأَجلتُ نظري في بساتينها فتذكرت قول المفتي رحمه الله، وقلت متعجباً: | |||
- سبحان الله! إن محاصيل هذه البساتين وغلاتها تفوق حاجة المدينة بأسرها كثيراً، وكان حرياً بأهاليها أن يكونوا أثرياء جداً! بقيت في حيرة من هذا الأمر.. ولكن أَدركت بحقيقة لم تخدعني عنها المظاهر، فهي حقيقة أَسترشدُ بها في إدراك الحقائق، وهي: أن البركة قد رُفعت من هذه المدينة بسبب الإسراف وعدم الاقتصاد. مما حدا بالمفتي رحمه الله إلى القول: «إن أهالينا فقراء ومساكين»، برغم هذا القدر الواسع من منابع الثروة وكنوز الموارد. | |||
< | نعم، إنه ثابت بالتجربة وبالرجوع إلى وقائع لا تحد بأن دفعَ الزكاة، والأخذ بالاقتصاد سببان للبركة والاستزادة. (<ref>انظر: الطبراني، المعجم الكبير ١٠/ ١٢٨؛ الطبراني، المعجم الأوسط ٢/ ١٦١، ٢٧٤؛ البيهقي، السنن الكبرى ٣/ ٣٨٢، ٤٨٤.</ref>) بينما الإسراف ومنع الزكاة يرفعان البركة. | ||
</ | |||
ولقد فسّر «ابن سينا» وهو أفلاطون فلاسفة المسلمين وشيخ الأطباء وأستاذ الفلاسفة فسّر هذه الآية الكريمة: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ﴾ (الأعراف: ٣١). من زاوية نظر الطب فقط بالأبيات الآتية: | |||
جَمَعْتُ الطِّبَّ فِي بَيْتَـيْنِ جَمْعاً وَحُسْنُ الْقَوْلِ فِى قَصْرِ الْكَلَامِ | |||
فَقَلِّلْ إنْ أكَلْتَ وَبَـــــعْــــدَ أكْلٍ تَجَنَّبْ وَالشِّــفَـاءُ فِى اْلاِنْهِضَــامِ | |||
< | وَلَيْسَ عَلَى النُّفُوسِ أشَدُّ حَالاً مِنْ ادْخَالِ الطَّعَامِ عَلَى الطَّعَامِ. (<ref>أي إن أضر شيء للجسم هو عدم إعطاء مهلة بين وجبات الطعام تتراوح بين أربع أو خمس ساعات، أو إملاء المعدة بإدخال الطعام بالتعاقب لأجل التلذذ. (المؤلف).</ref>) | ||
</ | |||
< | <nowiki></nowiki> | ||
</ | |||
'''وإليكم هذا التوافق الغريب الباعث على الحيرة والجالب للعبرة:''' | |||
إنه مع قيام خمسة وستة من المستنسخين المختلفين -ثلاثة منهم لا يتقنون الكتابة- باستنساخ «رسالة الاقتصاد» فقد توافق كل (واحد وخمسين) ألفاً من ألفات كل نسخة -خالية من الدعاء- وكل (ثلاثة وخمسين) ألفاً -مع دعاء- رغم اختلاف أمكنة أولئك المستنسخين واختلاف النسخ التي كانوا ينقلون منها واختلاف خطهم في الكتابة ومع عدم التفكر في تلكم الألفات إطلاقاً!. فإن توافق عدد الألفات مع تاريخ تأليف «رسالة الاقتصاد» واستنساخها وهو بالتاريخ الرومي واحدة وخمسون (١٣٥١) وبالتاريخ الهجري ثلاث وخمسون (١٣٥٣) لا يمكن أن يحال ذلك إلى الصدفة دون ريب، بل هو إشارة إلى صعود البركة الكامنة في (الاقتصاد) إلى درجة الكرامة. وأنه لحريّ حقاً أن يطلق على هذا العام «عام الاقتصاد». | |||
نعم لقد أَثبت الزمان فعلاً هذه الكرامة الاقتصادية وذلك عندما شهدت البشرية بعد عامين الحرب العالمية الثانية... تلك الحرب التي بثت الجوع والتخريب وضروب الإسراف المقيت في كل أنحاء العالم مما أرغم البشرية على التشبث بالاقتصاد والالتفاف حوله عنوةً. | |||
﴿ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَٓا اِلَّا مَا عَلَّمْتَنَاۜ اِنَّكَ اَنْتَ الْعَل۪يمُ الْحَك۪يمُ ﴾ | |||
------ | ------ | ||
<center> [[ | <center>⇐ [[On_Sekizinci_Lem'a/ar|اللمعة الثامنة عشرة]] | [[Lem'alar/ar|اللمعات]] | [[Yirminci_Lem'a/ar|اللمعة العشرون]] ⇒</center> | ||
------ | ------ | ||
11.15, 14 Mayıs 2024 itibarı ile sayfanın şu anki hâli
«رسالة الاقتصاد»
(هذه الرسالة تحضّ على الاقتصاد والقناعة وتحذّر من مغبة الإسراف والتبذير)
بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ
﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ﴾ (الأعراف: ٣١)
(هذه الآية الكريمة تلقّن درساً في غاية الأهمية وترشد إرشاداً حكيماً بليغاً بصيغة الأمر إلى الاقتصاد، ونهي صريحٍ عن الإسراف. تتضمن هذه المسالة سبعَ نكات).
النكتة الأولى
إنَّ الخالق الرحيم سبحانه يطلب من البشرية شكراً وحمداً إزاء ما أَغدقَ عليها من النعم والآلاء، إلّا أَنَّ الإسراف منافٍ للشكر وهو استخفاف خاسر ووخيم تجاه النعمة، بينما الاقتصاد توقيرٌ مربح إزاء النعمة.
أَجل! إنَّ الاقتصاد كما هو شكرٌ معنوي، فهو توقير للرحمة الإلهية الكامنة في النعم والإحسان.. وهو سبب حاسم للبركة والاستكثار.. وهو مدار صحة الجسد كالحِمية.. وهو سبيل إلى العزة بالابتعاد عن ذلّ الاستجداء المعنوي.. وهو وسيلة قوية للاحساس بما في النعم والآلاء من لذة.. وهو سبب متين لتذوق اللذائذ المخبأَة في ثنايا نعَمٍ تبدو غير لذيذة.. ولكون الإسراف يخالف الحِكَم المذكورة آنفاً باتت عواقبُه وخيمة.
النكتة الثانية
لقد خلق الفاطر الحكيم جسم الإنسان بما يشبه قصراً كاملَ التقويم وبما يماثل مدينة منتظمة الأجزاء، وجعل حاسةَ الذوق المغروزة في فمه كالبوّاب الحارس، والأعصاب والأوعية بمثابة أسلاك هاتف وتلغراف (تتم خلالها دورة المخابرة الحساسة بين القوة الذائقة والمعدة التي هي في مركز كيان الإنسان) بحيث تقوم حاسةُ الذوق تلك بإبلاغ ما حلّ في الفم من المواد، وتحجز عن البدن والمعدة الأشياء الضارة التي لا حاجةَ للجسم لها قائلة: «ممنوع الدخول» نابذةً إياها، بل لا تلبث أَنْ تدفع وتبصق باستهجان في وجهِ كل ما هو غير نافع للبدن فضلاً عن ضرره ومرارته.
ولما كانت القوة الذائقة في الفم تؤدي دور الحارس. وإن المعدة هي سيدةُ الجسد وحاكمته من حيث الإدارة، فلو بلغت قيمةُ هديةٍ تُقدَّم إلى حاكم القصر مائة درجة فإنَّ خُمساً منها فقط يجوز أن يعطى هبةً للحارس لا أكثر، كيلا يختال الحارس وينسى وظيفتَه ويقحمَ في القصر كل مخلّ عابث يرشوه قرشاً أكثر.
وهكذا، بناءً على هذا السرّ، نفترض الآن أمامنا لقمتان، لقمة منها من مادة مغذّية -كالجبن والبيض مثلاً- يُقدّر ثمنها بقرش واحد، واللقمة الأخرى حلوى من نوع فاخر يُقدّر ثمنها بعشرة قروش، فهاتان اللقمتان متساويتان قبل دخولهما الفم ولا فرق بينهما، وهما متساويتان كذلك من حيث إنماء الجسم وتغذيته بعد دخولهما الفم ونزولهما عبر البلعوم. بل قد يغذّي الجبن -الذي هو بقرش واحد- تغذية أفضل وتنمية أقوى من اللقمة الأخرى. إذن ليس هناك من فرق إلّا ملاطفةَ القوة الذائقة في الفم التي لا تستغرق سوى نصف دقيقة. فليقدَّر إذن مدى ضرر الإسراف ويوازَن مدى التفاهة في صرف عشرة قروش بدلاً عن قرش واحد في سبيل الحصول على لذة تستغرق نصف دقيقة!
وهكذا فإن إثابة الحارس تسعة أضعاف ما يُقدّم إلى حاكم القصر من هدايا تُفضي به لا محالة إلى الغرور والجشع وتدفعه بالتالي إلى القول: إنما أنا الحاكم. فمَنْ كافأه بهبة أكثر ولذة أزيد دفعه إلى الداخل، مسبّباً إخلال النظام القائم هناك، مضرماً فيه ناراً مستعرة وملزماً صاحبه الاستغاثة صارخاً: هيّا أسرعوا إلى بالطبيب حالاً ليخفف شدة حرارتي ويطفئ لظى نارها.
فالاقتصاد والقناعة منسجمان انسجاماً تاماً مع الحكمة الإلهية، إذ يتعاملان مع القوة الذائقة معاملة الحارس، ويقفانها عند حدّها ويكافئانها حسب تلك الوظيفة. أما الإسراف فلأنه يسلك سلوكاً مخالفاً لتلك الحكمة، فسرعان ما يتلقّى المسرف صفعات موجِعة، إذ تحدث الاختلاطات المؤلمة في المعدة التي تؤدي إلى فقدان الشهية الحقيقية نحو الأكل، فيأكل بشهية كاذبة مصطنعة بتنويع الأطعمة مما يسبب عُسراً في الهضم.
النكتة الثالثة
قلنا في النكتة الثانية آنفاً: إنَّ القوة الذائقة تؤدي دور الحارس. نعم، هي كذلك عند الغافلين الذين لم يَسمُوا بعدُ روحياً والذين لم يتقدموا في مضمار الشكر والعروج في مدارجه. نعم إنه لا ينبغي اللجوء إلى الإسراف -كصرف عشرة أضعاف الثمن- لأجل تلذذ تلك الحاسة الحارسة.
ولكن القوة الذائقة لدى الشاكرين حقاً ولدى أهل الحقيقة وأَهل القلوب وأُولي الأَبصار بمثابة راصدة وناظرة مفتشة لمطابخ الرحمة الإلهية (كما وضح ذلك في المقارنة المعقودة في الكلمة السادسة). وإن ما يتم في تلك القوة الذائقة من عملية تقدير قيمة النعم الإلهية ومن التعّرف عليها بأنواعها المختلفة بما فيها من موازين دقيقة حساسة عديدة بعدد الأطعمة، إنما هو لإبلاغ الجسد والمعدة، بما ينمّ عن شكر معنوي.
فلا تقتصر وظيفة القوة الذائقة على رعاية الجسد رعايةً مادية وحدَها، بل هي أَيضاً أَرقى حكماً من وظيفة المعدة وأَرفع منزلة منها، لما لها من رعاية للقلب والروح والعقل ومن عناية لكل منها،
علماً أنها تستطيع أن تمضي في سبيل الحصول على لذتها -بشرط عدم الإسراف- إنجازاً لمهمة الشكر الخالص المقدّرة لها، وبنيّة التعرف والإطلاع على أَنواع النعم الإلهية بتذوقها والشعور بها بشرط مشروعيتها وعدم كونها وسيلة للتذلل والاستجداء، أي إننا نستطيع أن نستعمل ذلك اللسان الحامل للقوة الذائقة في الشكر لأجل التفضيل بين الأَطعمة اللذيذة.
وإليكم هذه الحادثة إشارة إلى هذه الحقيقة، وهي كرامة من كرامات الشيخ الكيلاني «قُدس سره»:
كان لعجوز رقيقة لطيفة ابنٌ وحيد يتربّى على يد الشيخ، دخلت تلك العجوز الموقرة ذات يوم على ابنها ورأت أنه يأكل من كِسرة خبز يابس أسمر مزاولاً رياضة روحية حتى ضعفَ ونحل جسمه. أَثارت هذه الحالة شفقة والدته الرؤوم ورقّت لحاله فذهبت لتشتكيه إلى الشيخ الكيلاني وإذا بها ترى الشيخ يأكل دجاجاً مشوياً.
ولشدة رقتها ولطافتها قالت: أيها الشيخ إن ابني يكاد يموت جوعاً وها أنت ذا تأكل الدجاج!
فخاطب الشيخ الدجاج قائلاً: «قم بإذن الله» فوثب ذلك الدجاج المطبوخ إلى خارج الوعاء بعد أَن اكتمل دجاجاً حياً بالتئام عظامه. لقد نقل هذا الخبر بالتواتر المعنوي ثقاتٌ كثيرون ([1]) إظهاراً لكرامة واحدة من صاحب الكرامات المشهورة في العالم، الشيخ الكيلاني قُدس سرّه.
ومما قاله الشيخ لتلك العجوز : متى ما بلغ ابنك هذه الدرجة.. فليأكل الدجاج هو الآخر.
فمغزى هذا الأمر الصادر من الشيخ الكيلاني هو: متى حَكمت روحُ ابنك جَسَدَهُ وهيمن قلبُه على نفسِه، وسادَ عقلُه معدتَه، والتمس اللذةَ لأجل الشكر.. عندئذ يمكنه أن يتناول ما لذّ وطاب من الأطعمة.
النكتة الرابعة
إنَّ المقتصد لا يعاني فاقةَ العائلة وعَوَزها كما هو مفهوم الحديث الشريف: (لَا يَعُولُ مَن اقتَصَد). ([2]) أَجل هناك من الدلائل القاطعة التي لا يحصرها العدّ بأن الاقتصاد سببٌ جازم لإنزال البركة، وأساسٌ متين للعيش الأفضل.
أذكر منها ما رأيته في نفسي وبشهادة الذين عاونوني في خدمتي وصادقوني بإخلاص فأقول:
لقد حصلتُ أحياناً وحصل أصدقائي على عشرة أضعاف من البركة بسبب الاقتصاد. حتى إنه قبل تسع سنوات ([3]) عندما أصرّ عليّ قسمٌ من رؤساء العشائر المنفيين معي إلى «بوردور» على قبول زكاتهم كي يحولوا بيني وبين وقوعي في الذلة والحاجة لقلة ما كانت عندي من النقود، فقلت لأولئك الرؤساء الأثرياء: برغم أن نقودي قليلة جداً إلّا أنني أَملك الاقتصاد، وقد تعودتُ على القناعة، فأنا أَغنى منكم بكثير. فرفضتُ تكليفهم المتكرر الملحّ.. ومن الجدير بالملاحظة أن قسماً من أولئك الذين عرضوا عليّ زكاتهم قد غلبهم الدَّين بعد سنتين، لعدم التزامهم بالاقتصاد، إلّا أن تلك النقود الضئيلة قد كفتني -ولله الحمد- ببركة الاقتصاد إلى ما بعد سبع سنوات، فلم يُرَق مني ماء الوجه، ولم يدفعني لعرض حاجتي إلى الناس، ولم يفسد عليّ ما اتخذته دستوراً لحياتي وهو «الاستغناء عن الناس».
نعم إنَّ من لا يقتصد، مدعوّ للسقوط في مهاوي الذلّة، ومعرّضٌ للانزلاق إلى الاستجداء والهوان معنىً.
إنَّ المال الذي يُستعمل في الإسراف في زماننا هذا لهو مالٌ غالٍ وباهظ جداً، حيث تُدفع أحياناً الكرامةُ والشرف ثمناً ورشوة له، بل قد تُسلب المقدسات الدينية، ثم يُعطى نقوداً منحوسة مشؤومة، أي يقبض بضعة قروش من نقود مادية، على حساب مئات الليرات من النقود المعنوية.
بينما لو اقتصر الإنسان على الحاجات الضرورية واختصرها وحصر همّه فيها، فسيجد رزقاً يكفُل عيشه من حيث لا يحتسب وذلك بمضمون الآية الكريمة: ﴿ اِنَّ اللّٰهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَت۪ينُ ﴾ (الذاريات: ٥٨) وإن صراحة الآية الكريمة: ﴿ وَمَا مِنْ دَٓابَّةٍ فِي الْاَرْضِ اِلَّا عَلَى اللّٰهِ رِزْقُهَا ﴾ (هود:٦) تتعهد بذلك تعهداً قاطعاً.
نعم، إن الرزق قسمان:
القسم الأول: وهو الرزق الحقيقي الذي تتوقف عليه حياة المرء، وهو تحت التعهد الرباني بحكم هذه الآية الكريمة، يستطيع المرءُ الحصولَ على ذلك الرزق الضروري مهما كانت الأحوال ، إنْ لم يتدخل سوءُ اختياره، دون أن يضطر إلى فداء دينه ولا التضحية بشرفه وعزته.
القسم الثاني: هو الرزق المجازي، فالذي يسيء استعماله لا يستطيع أن يتخلّى عن الحاجات غير الضرورية، التي غدت ضروريةً عنده نتيجة الابتلاء ببلاء التقليد. وثمن الحصول على هذا الرزق باهظ جداً ولاسيما في هذا الزمان، حيث لا يدخل ضمن التعهد الرباني، إذ قد يتقاضى ذلك المال لقاء تضحيته بعزته سلفاً راضياً بالذل، بل قد يصل به حد السقوط في هاوية الاستجداء المعنوي، والتنازل إلى تقبيل أقدام أناسٍ منحطين وضيعين، لا بل قد يحصل على ذلك المال المنحوس الممحوق بالتضحية بمقدساته الدينية التي هي نور حياته الخالدة.
ثم إنَّ الألم الذي ينتاب ذوي الوجدان من حيث العاطفة الإنسانية -بما يرونه من آلام يقاسيها المحتاجون البائسون في هذا الزمان الذي خيّم عليه الفقرُ والحاجة- يشوّب لذتَهم التي يحصلونها بأموال غير مشروعة، وتزداد مرارتُها إن كانت لهم ضمائر.
إنه ينبغي في هذا الزمان العجيب الاكتفاء بحدّ الضرورة في الأموال المريبة، لأنه حسب قاعدة «الضرورة تُقَدّر بقدرها» ([4]) يمكن أن يؤخذ باضطرارٍ من المال الحرام حدُّ الضرورة وليس أكثر من ذلك. وليس للمضطر أن يأكل من الميتة إلى حدّ الشبع، بل له أن يأكل بمقدار ما يحول بينه وبين الموت. وكذا لا يؤكل الطعام بشراهة أمام مائة من الجائعين.
نورد هنا حادثة واقعية للدلالة على كون الاقتصاد سبب العزة والكمال:
أقام «حاتم الطائي»(∗) المشهور بكرمه وسخائه ضيافة عظيمة ذات يوم وأغدق هدايا ثمينة على ضيوفه. ثم خرج للتجوال في الصحراء، فرأى شيخاً فقيراً يحمل على ظهره حملاً ثقيلاً من الحطب والكلأ والشوك والدم يسيل من بعض جسمه..
فخاطبه قائلاً:
- أيها الشيخ، إنَّ حاتماً الطائي يقيم اليوم ضيافة كريمة ويوزع هدايا ثمينة، بادر إليه لعلك تنال منه أموالاً أضعاف أضعاف ما تناله من هذا الحمل!.
قال له ذلك الشيخ المقتصد: سأحمل حملي هذا بعزة نفسي وعرق جبيني، ولا أرضى أن أقع تحت طائل منّة حاتم الطائي.
ولما سُئل حاتم الطائي يوماً:
- مَنْ من الناس وجدتَهم أعزَّ منك وأكرم؟.
قال: ذلك الشيخ المقتصد الذي لقيتُه في المفازة ذات يوم، لقد رأيتُه حقاً أعزّ مني وأكرم. ([5])
النكتة الخامسة
إنَّ من كمال كرم الله سبحانه وتعالى، أنه يُذيقُ لذّة نِعَمه لأَفقر الناس، كما يذيقها أغناهم، فالفقير يستشعر اللذة ويتذوقها كالسلطان.
نعم إن اللذة التي ينالها فقير من كِسرة خبز أَسود يابس بسبب الجوع والاقتصاد تفوق ما يناله السلطان أو الثري من أكله الحلوى الفاخرة بالملل وعدم الشهية النابعين من الإسراف.
ومن العجب حقاً أن يجرؤ بعضُ المسرفين والمبذّرين على اتهام المقتصدين بالخسّة.. حاشَ لله، بل الاقتصاد هو العزة والكرم بعينه، بينما الخسةُ والذلة هما حقيقة ما يقوم به المسرفون والمبذرون من سخاء ظاهري.
وهناك حادثة جرت في غرفتي في «إسبارطة» في السنة التي تم فيها تأليف هذه الرسالة، تؤيد هذه الحقيقة وهي أنه:
أصرّ أحد طلابي إصراراً شديداً على أَن أَقبل هديته التي تزن أوقيتين ونصف الأوقية ([6]) من العسل، خرقاً لدستور حياتي، ([7]) ومهما حاولت في بيان ضرورة التمسك بقاعدتي لم يقنع، فاضطررت إلى قبولها مرغماً على نية أن يشترك ثلاثةُ إخوةٍ معي في الغرفة فيها ويأكلوا منه باقتصاد طوال أربعين يوماً من شهري شعبان ورمضان المبارك، ليكسب صاحبه المُهدي ثواباً، ولا يبقوا دون حلاوة. لذا أوصيتُهم بقبول الهدية لهم علماً أنّي كانت عندي أوقية من العسل.
وبرغم أن أصدقائي الثلاثة كانوا على استقامة حقاً وممن يقدّرون الاقتصاد حق قدره، فإنهم -على كل حال- نَسوه نتيجة قيامهم بإكرام بعضهم بعضاً ومراعاتهم شعور الآخرين والإيثار فيما بينهم، وأمثالها من الخصال الحميدة، فأنفدوا ما عندهم من العسل في ثلاث ليالٍ فقط، فقلت مبتسماً:
- لقد كانت نيتي أن أجعلكم تتذوقون طعم العسل ثلاثين يوماً أو أكثر، ولكنكم أنفدتموه في ثلاثة أيام فقط.. فهنيئاً لكم!. في حين أنني بتّ أَصرف ما كنتُ أملكه من العسل بالاقتصاد، فتناولته طوال شهري شعبان ورمضان، فضلاً عن أنه أَصبح ولله الحمد سبباً لثواب عظيم، حيث أَعطيتُ كل واحد من أولئك الإخوة ملعقة واحدة منه ([8]) وقت الإفطار.
ولربما حَسِب الذين شاهدوا حالي تلك أنها خسّة، واعتبروا أَوضاع أولئك الإخوة في الليالي الثلاث حالة عزيزة من الكرم ولكن شاهَدنا تحت تلك الخسة الظاهرية عزةً عاليةً وبركة واسعة وثواباً عظيماً من زاوية الحقيقة. وتحت ذلك الكرم والإسراف -إن لم يكن قد تُرك- استجداءً وترقباً لما في أيدي الآخرين بطمع وأمثالها من الحالات التي هي أدنى بكثير من الخسة.
النكتة السادسة
هناك بون شاسع وفرق هائل بين الاقتصاد والخسة، إذ كما أن التواضع الذي هو من الأخلاق المحمودة يخالف معنىً التذللَ الذي هو من الأخلاق المذمومة مع أنه يشابهه صورة. وكما أن الوقار الذي هو من الخصال الحميدة يخالف معنىً التكبّر الذي هو من الأخلاق السيئة مع أنه يشابهه صورة.
فكذا الحال في الاقتصاد الذي هو من الأخلاق النبوية السامية بل هو من المحاور التي يدور عليها نظام الحكمة الإلهية المهيمن على الكون، لا علاقة له أبداً بالخسة التي هي مزيجٌ من السفالة والبخل والجشع والحرص. بل ليست هناك من رابطة بينهما قطعاً، إلّا ذلك التشابه الظاهري. وإليكم هذا الحدث المؤيد لهذه الحقيقة:
دخل عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وهو أكبر أبناء الفاروق الأعظم خليفة رسول الله ﷺ وأحد العبادلة السبعة المشهورين ([9]) ومن البارزين بين علماء الصحابة الأجلاء، دخل هذا الصحابي الجليل يوماً في مناقشة حادة لدى تعامله في السوق على شيء لا يساوي قرشاً واحداً، حفاظاً على الاقتصاد وصوناً للأمانة والاستقامة اللتين تدور عليهما التجارة. ([10]) في هذه الأَثناء رآه صحابي آخر، فظنّ فيه شيئاً من خسّة فاستعظمها منه، إذ كيف يصدر هذا الأمر من ابن أمير المؤمنين وخليفة الأرض. فتبعه إلى بيته ليفهم شيئاً من أحواله، فوجد أنه قضى بعض الوقت مع فقير عند الباب وتبادلا حديثاً في لطف ومودة، ثم خرج من الباب الثاني وتجاذب أطراف الحديث مع فقير آخر هناك.
أثار هذا الأمر لهفة ذلك الصحابي فأسرع إلى الفقيرين للاستفسار منهما:
- هلّا تفهمانني ماذا فعل ابن عمر حينما وقف معكما؟.
- لقد أعطى كلاً منا قطعة ذهب.
فراعه الأمر وقال شدهاً: يا سبحان الله.. ما أعجب هذا الأمر، إنه يخوض في السوق في نقاش شديد لأجل قرش واحد، ثم ها هو ذا يغدق في بيته بمئات أضعافه على محتاجَين اثنين عن رضىً دون أن يشعر به أحد، فسار نحو ابن عمر رضي الله عنهما ليسأله:
- أيها الإمام: ألا تحل لي معضلتي هذه؟ لقد فعلتَ في السوق كذا وكذا وفي البيت كذا وكذا؟!
فردّ عليه قائلاً:
- إن ما حدث في السوق هو نتيجة الاقتصاد والحصافة، فعلتُه صوناً للأمانة وحفظاً للصدق اللذين هما أساس المبايعة وروحها وهو ليس بخسّةٍ ولا ببخل، وإن ما بدر مني في البيت نابع من رأفة القلب ورقّته ومن سمو الروح واكتمالها.. فلا ذاك خسّة ولا هذا إسراف.
وإشارةً إلى هذا السرّ قال الإمام الأعظم «أبو حنيفة النعمان» رضي الله عنه: «لا إسراف في الخير كما لا خير في الإسراف» ([11]) أي كما لا إسراف في الخير والإحسان لمن يستحقه كذلك لا خير في الإسراف قط.
النكتة السابعة
إنَّ الإسراف ينتج الحرصَ، والحرصُ يوَلّد ثلاث نتائج:
أولاها: عدم القناعة.
وعدم القناعة هذا يُثنى الشوقَ عن السعي وعن العمل، بما يبثّ في نفس الحريص من الشكوى بدلاً من الشكر، قاذفاً به إلى أحضان الكسل، فيترك المالَ الزهيد النابع من الكسب الحلال ([12]) ويبادر بالبحث عما لا مشقة ولا تكليف فيه من مال غير مشروع، فيهدر في هذه السبيل عزتَه بل كرامته.
النتيجة الثانية للحرص: الخيبة والخسران.
إذ يفوت مقصودُ الحريص ويتعرض للاستثقال ويُحرَم من التيسير والمعاونة حتى يكون مصداق القول المشهور: «الحريصُ خائب خاسر».
إنَّ تأثير الحرص والقناعة يجري في عالم الأحياء على وفق دستور شامل وسنّة مطّردة
فمثلاً: إنَّ وصول أرزاق النباتات المضطرة إلى الرزق إليها هو لقناعتها الفطرية، وسعي الحيوانات بنفسها بالحرص وراء الحصول على رزقها في عناء ونقص، يبديان مدى الضرر الجسيم الكامن في الحرص، ومدى النفع العظيم الكامن في القناعة.
وإنَّ سيلان الحليب -ذلك الغذاء اللطيف- إلى أفواه الصغار الضعفاء عامة ومن حيث لا يحتسبون بما يبدونه من قناعة ينطق بها لسانُ حالهم، وانقضاض الوحوش بحرص وجشع على أرزاقها الناقصة الملوّثة، يثبت ما ندّعيه إثباتاً ساطعاً.
وإنَّ أوضاع الأسماك البدينة البليدة التي تنمّ عن القناعة الباعثة لوصول أرزاقها إليها كاملة وعجزَ الحيوانات الذكية كالثعالب والقردة عن تحصيل غذائها كاملاً مع حرصها سعياً وراءها وبقاءها هزيلة نحيفة، ليبيّن كذلك مدى ما يسببه الحرص من المشقة والعناء ومدى ما تسببه القناعة من الراحة والهناء.
كما أن حصول اليهود على أرزاقهم كفافاً بطرق غير مشروعة ممزوجاً بالذل والمسكنة بسبب حرصهم وتعاملهم بالربا واتباعهم أساليبَ المكر والخداع، وحصول البدويين المتحلّين بالقناعة على رزقهم الكافي وعيشهم العيش الكريم العزيز يؤيد دعوانا أيضاً تأييداً كاملاً.
كما أن تردّي كثيرٍ من العلماء ([13]) والأدباء ([14]) بما يمنحهم ذكاؤهم ودهاؤهم من الحرص في فقر مدقع وعيش كفاف، وغناء أكثر الأغبياء العاجزين وإثرائهم لما لهم من حالة فطرية قنوعة ليثبت إثباتاً قاطعاً: أن الرزق الحلال يأتي حسب العجز والافتقار لا بالاقتدار والاختيار. بل هو يتناسب تناسباً عكسياً مع الاقتدار والاختيار. ذلك أن أرزاق الأطفال تتضاءل وتبتعد ويصعب الوصول إليها كلما ازدادوا اختياراً وإرادةً واقتداراً.
نعم، إن القناعة كنز للعيش الهنيء الرغيد ومبعث الراحة في الحياة، بينما الحرص معدن الخسران والسفالة كما يتبين ذلك من الحديث الشريف: (الْقَنَاعَةُ كَنْزٌ لَا يَفْنَى). ([15])
النتيجة الثالثة: إنَّ الحرص يتلف الإخلاص ويفسد العمل الأخروي؛ لأنه لو وُجد حرصٌ في مؤمن تقي لرغب في توجه الناس وإقبالهم إليه، ومن يرقب توجه الناس وينتظره لا يبلغ الإخلاصَ التام قطعاً ولا يمكنه الحصول عليه. فهذه النتيجة ذات أهمية عظمى جديرة بالدقة والملاحظة.
محصل الكلام: إنَّ الإسراف ينتج عدم القناعة أي الطمع، أما الطمع فيُخبت وهجَ الشوق والتطلع إلى العمل ويقذف بالإنسان إلى التقاعس والكسل، ويفتح أمامه أبواب الشكوى والحسرة في حياته حتى ليجعله يئن دوماً تحت مضض الشكوى والسأم. ([16]) كما أنه يفسد إخلاصه ويفتح دونه باباً للرياء والتصنع فيكسر عزته ويريه طريق الاستجداء والاستخذاء.
أما الاقتصاد فإنه يثمر القناعة، والقناعة تنتج العزة، استناداً إلى الحديث الشريف: (عزّ مَن قنع وذلّ مَن طمع). ([17]) كما أنه يشحذ الشوقَ بالسعي والعملَ ويحث عليهما ويسوق سوقاً إلى الكدّ وبذل الجهد فيهما؛
لأنه إذا ما سعى المرء في يوم ما وتقاضى أجره مساءً فسيسعى في اليوم التالي له بسر القناعة التي توافرت لديه. أما المسرف فإنه لا يسعى في يومه الثاني لعدم قناعته وحتى إذا سعى فإنه يسعى دون شوق.
وهكذا فإن القناعة المستفاضة من الاقتصاد تفتح باب الشكر وتوصد باب الشكوى، فيظل الإنسان في شكر وحمدٍ مدى حياته. وبالقناعة لا يلتفت إلى توجه الناس إليه لاستغنائه عنهم، فينفتح أمامه باب الإخلاص وينغلق بابُ الرياء.
ولقد شاهدت الأضرار الجسيمة والخسائر الفادحة التي تسفر عن الإسراف وعدم الاقتصاد شاهدتها متجسدة في نطاق واسع ممتد وهي كما يأتي:
جئت إلى مدينة مباركة -قبل تسع سنوات- كان الموسم شتاءً فلم أَتمكن من رؤية منابع الثروة وجوانب الإنتاج في تلك المدينة، فقال لي مُفتيها رحمه الله: إن أَهالينا فقراء مساكين. أَعاد قوله هذا مراراً. أثّر فيّ هذا القول تأثيراً بالغاً مما أَجاش عطفي، فبت أَسترحم وأَتأَلم لأهالي تلك المدينة فيما يقرب من ست سنوات. وبعد ثماني سنوات عدتُ إليها وهي في أَجواء الصيف، وأَجلتُ نظري في بساتينها فتذكرت قول المفتي رحمه الله، وقلت متعجباً:
- سبحان الله! إن محاصيل هذه البساتين وغلاتها تفوق حاجة المدينة بأسرها كثيراً، وكان حرياً بأهاليها أن يكونوا أثرياء جداً! بقيت في حيرة من هذا الأمر.. ولكن أَدركت بحقيقة لم تخدعني عنها المظاهر، فهي حقيقة أَسترشدُ بها في إدراك الحقائق، وهي: أن البركة قد رُفعت من هذه المدينة بسبب الإسراف وعدم الاقتصاد. مما حدا بالمفتي رحمه الله إلى القول: «إن أهالينا فقراء ومساكين»، برغم هذا القدر الواسع من منابع الثروة وكنوز الموارد.
نعم، إنه ثابت بالتجربة وبالرجوع إلى وقائع لا تحد بأن دفعَ الزكاة، والأخذ بالاقتصاد سببان للبركة والاستزادة. ([18]) بينما الإسراف ومنع الزكاة يرفعان البركة.
ولقد فسّر «ابن سينا» وهو أفلاطون فلاسفة المسلمين وشيخ الأطباء وأستاذ الفلاسفة فسّر هذه الآية الكريمة: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ﴾ (الأعراف: ٣١). من زاوية نظر الطب فقط بالأبيات الآتية:
جَمَعْتُ الطِّبَّ فِي بَيْتَـيْنِ جَمْعاً وَحُسْنُ الْقَوْلِ فِى قَصْرِ الْكَلَامِ
فَقَلِّلْ إنْ أكَلْتَ وَبَـــــعْــــدَ أكْلٍ تَجَنَّبْ وَالشِّــفَـاءُ فِى اْلاِنْهِضَــامِ
وَلَيْسَ عَلَى النُّفُوسِ أشَدُّ حَالاً مِنْ ادْخَالِ الطَّعَامِ عَلَى الطَّعَامِ. ([19])
وإليكم هذا التوافق الغريب الباعث على الحيرة والجالب للعبرة:
إنه مع قيام خمسة وستة من المستنسخين المختلفين -ثلاثة منهم لا يتقنون الكتابة- باستنساخ «رسالة الاقتصاد» فقد توافق كل (واحد وخمسين) ألفاً من ألفات كل نسخة -خالية من الدعاء- وكل (ثلاثة وخمسين) ألفاً -مع دعاء- رغم اختلاف أمكنة أولئك المستنسخين واختلاف النسخ التي كانوا ينقلون منها واختلاف خطهم في الكتابة ومع عدم التفكر في تلكم الألفات إطلاقاً!. فإن توافق عدد الألفات مع تاريخ تأليف «رسالة الاقتصاد» واستنساخها وهو بالتاريخ الرومي واحدة وخمسون (١٣٥١) وبالتاريخ الهجري ثلاث وخمسون (١٣٥٣) لا يمكن أن يحال ذلك إلى الصدفة دون ريب، بل هو إشارة إلى صعود البركة الكامنة في (الاقتصاد) إلى درجة الكرامة. وأنه لحريّ حقاً أن يطلق على هذا العام «عام الاقتصاد».
نعم لقد أَثبت الزمان فعلاً هذه الكرامة الاقتصادية وذلك عندما شهدت البشرية بعد عامين الحرب العالمية الثانية... تلك الحرب التي بثت الجوع والتخريب وضروب الإسراف المقيت في كل أنحاء العالم مما أرغم البشرية على التشبث بالاقتصاد والالتفاف حوله عنوةً.
﴿ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَٓا اِلَّا مَا عَلَّمْتَنَاۜ اِنَّكَ اَنْتَ الْعَل۪يمُ الْحَك۪يمُ ﴾
- ↑ «.. وقال اليافعي رضي الله عنه: صح بالسند المتصل إلى الشيخ القطب عبد القادر الجيلاني رحمه الله تعالى: أن أم شاب عنده دخلت عليه وهو يأكل في دجاجة، فأنكرت أكله الدجاجة وإطعامه ابنها أرذل الطعام، فقال لها: إذا صار ابنك بحيث يقول لمثل هذه الدجاجة قومي بإذن الله فقامت ولها أجنحة وطارت بها حق له أن يأكل الدجاج.» (الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي ص ٨٠. الجيلاني، غنية الطالبين ص ٥٠٢؛ النبهاني، جامع كرامات الأولياء ٢/ ٢٠٣ ).
- ↑ أحمد بن حنبل، المسند ١/ ٤٤٧؛ الطبراني، المعجم الكبير ١٠/ ١٠٨؛ المعجم الأوسط ٥/ ٢٠٦، ٦/ ٣٦٥؛ البيهقى في شعب الإيمان ٥/ ٢٥٥؛ وانظر كشف الخفاء، ١/ ١٥٨و٢/ ١٨٩.
- ↑ المقصود سنة ١٩٢٦م.
- ↑ انظر: مجلة الأحكام العدلية ص ١٢ (المادة:٢٢).
- ↑ قال ناس لحاتم الطائي: أرأيت أو سمعت لمن هو أعلى منك همة في هذه الدنيا. فقال: نعم، نحرت يوما أربعين جملا وخرجت إلى طرف البادية لأدعو أمراء العرب فرأيت حاطبا يحمل على ظهره حزمة شوك يريد بها المدينة. فقلت له: لماذا لم تذهب إلى ضيافة حاتم، فإن خلقا كثيرا قد التفوا حول مائدته؟ فالتفت إليّ وأنشد: أرى كل من بالكدح يدرك خبزه، فليس بمحتاج لمنة حاتم.
فالحق أقول: لقد رأيت ذلك الرجل أعلى مني همة وأكرم. (روضة الورد «كلستان» ترجمة الفراتي ص ١٤٤). - ↑ الأوقية تساوي ١.٢٨٠ كيلوغرام.
- ↑ وهو أن الأستاذ النورسي ما كان يقبل الهدايا بلا مقابل.
- ↑ أي ملعقة شاي كبيرة (ملعقة كوب). (المؤلف).
- ↑ وهم: عبد الله بن عباس، عبدالله بن عمر، عبد الله بن مسعود، عبد الله بن رواحة، عبد الله بن سلام، عبد الله بن عمرو بن العاص، عبد الله بن ابي الأوفى (رضي الله عنهم أجمعين)
- ↑ والتاجر الصادق الأمين مع الأنبياء والصديقين والشهداء: انظر الترمذي، البيوع ٣؛ ابن ماجه، التجارة ١؛ الدارمي، البيوع ٨.
- ↑ انظر: الغزالي، إحياء علوم الدين ١/ ٢٦٢؛ القرطبي، الجامع لأحكام القرآن ٧/ ١١٠ المناوي، فيض القدير ٥/ ٤٥٤.
- ↑ إذ بسبب الابتعاد عن الاقتصاد، يكثر المستهلكون، ويقل المستحصلون، ويبدأ الجميع يشدون نظرهم إلى باب الحكومة، وحينها تنتكس وتتناقص الصناعة والتجارة والزراعة التي هي محور الحياة الاجتماعية ومدارها، وينهار المجتمع ويتدنى بدوره ويغدو فقيراً معدماً. (المؤلف).
- ↑ سأل أنوشيروان حاكم إيران العادل الحكيم بزرجمهر: لماذا يشاهَد العلماء بأبواب الأمراء ولا يُشاهد الأمراء بأبواب العلماء والعلم يفوق الإمارة؟ فأجاب: ذلك من علم العلماء، وجهل الأمراء. أي إن الأمراء لا يعلمون قدر العلم، فلا يأتون أبواب العلماء لطلبه بينما العلماء يعلمون قدره، فيطلبون قيمته بأبواب الأمراء فهذا الجواب اللطيف تأويل ظريف لحرص العلماء النابع من ذكائهم المؤدي بهم إلى الذل والفقر. (خسرو).
- ↑ هناك حادثة تؤيد هذا الحكم؛ إن الأدباء في فرنسا يُمنحون وثيقة التسول لإجادتهم له. (سليمان رشدي).
- ↑ الطبراني، المعجم الأوسط ٧/ ٨٤؛ البيهقي، الزهد ٢/ ٨٨.
- ↑ نعم، إذا قابلت مسرفاً فستسمع منه حتماً الشكاوي العريضة، ومهما كان غنياً فلسانه يشكو لا محالة، بينما إذا قابلت فقيراً قانعاً فلا تسمع منه إلّا الحمد والشكر لله. (المؤلف).
- ↑ انظر: ابن الأثير، النهاية في غرائب الحديث ٤/ ١١٤؛ الزبيدي، تاج العروس مادة (ق ن ع).
- ↑ انظر: الطبراني، المعجم الكبير ١٠/ ١٢٨؛ الطبراني، المعجم الأوسط ٢/ ١٦١، ٢٧٤؛ البيهقي، السنن الكبرى ٣/ ٣٨٢، ٤٨٤.
- ↑ أي إن أضر شيء للجسم هو عدم إعطاء مهلة بين وجبات الطعام تتراوح بين أربع أو خمس ساعات، أو إملاء المعدة بإدخال الطعام بالتعاقب لأجل التلذذ. (المؤلف).