Yirmi Birinci Söz/ar: Revizyonlar arasındaki fark
("أنّ الشيطان يلقى أولا بشبهته في القلب، ثم يراقب صداها في الأعماق، فإذا أنكرها القلبُ انقلب من الشبهة إلى الشتم والسبّ، فيصوّر أمام الخيال ما يشبه الشتم من قبيح الخواطر السيئة والهواجس المنافية للآداب، مما يجعل ذلك القلب المسكين يئن تحت وطأة اليأس ويص..." içeriğiyle yeni sayfa oluşturdu) |
(Kaynak sayfanın yeni sürümü ile eşleme için güncelleniyor) Etiketler: Mobil değişiklik Mobil ağ değişikliği |
||
(Bir diğer kullanıcıdan 34 ara revizyon gösterilmiyor) | |||
1. satır: | 1. satır: | ||
<languages/> | <languages/> | ||
عبارة عن مقامين | عبارة عن مقامين | ||
120. satır: | 118. satır: | ||
أنّ الشيطان يلقى أولا بشبهته في القلب، ثم يراقب صداها في الأعماق، فإذا أنكرها القلبُ انقلب من الشبهة إلى الشتم والسبّ، فيصوّر أمام الخيال ما يشبه الشتم من قبيح الخواطر السيئة والهواجس المنافية للآداب، مما يجعل ذلك القلب المسكين يئن تحت وطأة اليأس ويصرخ: واحسرتاه!. وامصيبتاه!.. فيظن الموسوَس أنّ قلبه آثم، وأنه قد اقترف السيئات حيال ربه الكريم، ويشعر باضطراب وانفعال وقلق، فينفلت من عقال السكينة والطمأنينة، ويحاول الانغماس في أغوار الغفلة. | أنّ الشيطان يلقى أولا بشبهته في القلب، ثم يراقب صداها في الأعماق، فإذا أنكرها القلبُ انقلب من الشبهة إلى الشتم والسبّ، فيصوّر أمام الخيال ما يشبه الشتم من قبيح الخواطر السيئة والهواجس المنافية للآداب، مما يجعل ذلك القلب المسكين يئن تحت وطأة اليأس ويصرخ: واحسرتاه!. وامصيبتاه!.. فيظن الموسوَس أنّ قلبه آثم، وأنه قد اقترف السيئات حيال ربه الكريم، ويشعر باضطراب وانفعال وقلق، فينفلت من عقال السكينة والطمأنينة، ويحاول الانغماس في أغوار الغفلة. | ||
أمَّا ضِماد هذا الجرحِ فهو: | |||
أيها المبتلى المسكين! لا تخف ولا تضطرب، لأنّ ما مرّ أمام مرآة ذهنك ليس شتما ولا سبّا، وإنّما هو مجردُ صوَرٍ وخيالات تمر مرورا أمام مرآة ذهنك، وحيث إنّ تخيُّلَ الكفر ليس كفرا، فإنّ تخيُّل الشتم أيضا ليس شتما، إذ من المعلوم في البديهية المنطقية: أنّ التخيُّل ليس بحُكم، بينما الشتم حُكم. فضلا عن هذا، فإنّ تلك الكلمات غير اللائقة لم تكن قد صدرت من ذات قلبك، حيث إنّ قلبك يتحسّر منها ويتألم. ولعلها آتية من لمّة شيطانية قريبة من القلب. لذا فإن ضرر الوسوسة إنما هو في توهم الضرر، أي إنّ ضرره على القلب هو ما نتوهمُه نحن من أضرارها. لأنّ المرء يتوهم تخيلا لا أساس له كأنّه حقيقة، ثم ينسب إليه من أعمال الشيطان ما هو بريء منه، فيظن أنّ همزات الشيطان هي من خواطر قلبه هو، ويتصور أضرارَها فيقع فيها. وهذا هو ما يريده الشيطان منه بالذات. | |||
< | <span id="İKİNCİ_VECİH"></span> | ||
=== | === الوجه الثاني === | ||
عندما تنطلق المعاني من القلب تنفذ في الخيال مجردةً من الصور، وتكتسي الأشكالَ والصور هناك. والخيالُ هو الذي ينسج دائما ولأسباب معينة، نوعا من الصور، ويعرض ما يهتم به من الصور على الطريق، فأيّما معنىً يرد، فالخيال إمّا يُلبسه ذلك النسيج أو يعلّقه عليه أو يلطخه به، أو يستره به؛ فإن كانت المعاني منـزهةً ونقيةً، والصور والأنسجة ملوثةً دنيئةً فلا إلباسَ ولا إكساء، وإنما مجرد مسٍّ فقط. فمن هنا يلتبس على الموسوس أمرَ التّماس فيظنه تلبسا وتلبيسا، فيقول في نفسه: يا ويلتاه! لقد تردى قلبي في المهاوي، وستجعلني هذه الدناءة والخساسة النفسية من المطرودين من رحمة الله. فيستغل الشيطان هذا الوتر الحساس منه استغلالا فظيعا. | |||
ومرهم هذا الجرح العميق هو: | |||
كما لا يؤثر في صلاتك ولا يُفسدها ما في جوفك من نجاسة، بل يكفي لها طهارة حسية وبدنية، كذلك لا تضر مجاورةُ الصور الملوثة بالمعاني المنـزّهة والمقدسة. | |||
مثال ذلك: قد تكون متدبرا في آية من آيات الله، وإذا بأمرٍ مُهيِّجٍ من مرضٍ يفاجئك، أو من تدافع الأخبثين، يلحّ على خيالك بشدة، فلاشك أنّ خيالك سينساق إلى حيث الدواء، أو قضاء الحاجة، ناسجا ما يقتضيه من صور دنيئة. فتمر المعاني الواردة في تدبرك من بين الصور الخيالية السافلة. دَعْها تمر، فليس ثمة ضرر ولا لوثة ولا خطورة. إنّما الخطورة فقط هي في تركيز الفكر فيها، وتوهم الضرر منها. | |||
< | <span id="ÜÇÜNCÜ_VECİH"></span> | ||
=== الوجه الثالث === | |||
</ | |||
هناك بعض علاقات خفية تسود بين الأشياء، وربما توجد خيوط من الصلة، حتى بين ما لا نتوقعه من الأشياء. هذه الخيوط إمّا أنها قائمة بذاتها، أي حقيقية، أو أنّها من نتاجات خيالك الذي صنع هذه الخيوط حسب ما ينشغل به من عمل. | |||
وهذا هو السر في توارد خيالات سيئة أحيانا عند النظر في ما يخص أمورا مقدسة، إذ «التناقض الذي يكون سببا للابتعاد في الخارج يكون مدعاة للقرب والتجاور في الصور والخيال» كما هو معلوم في علم البيان. أي إنّ ما يجمع بين صورتي الشيئين المتناقضين ليس إلاّ الخيال. ويُطلق على هذه الخواطر الناتجة بهذه الوسيلة: تداعى الأفكار. | |||
مثال ذلك: بينما أنت تناجي ربك في الصلاة بخشوع وتضرع وحضور قلب مستقبلا الكعبة المعظمة، إذا بتداعي الأفكار هذا يسوقك إلى أمور مشينة مخجلة لا تعنيك بشيء. | |||
فإذا كنت يا أخي مُبتلىً بتداعي الأفكار، فإيَّاك إيَّاك أن تقلق أو تجزع، بل عُد إلى حالتك الفطرية حالما تنتبه لها. ولا تشغل بالَك قائلا: لقد قصّرت كثيرا.. ثم تبدأ بالتحري عن السبب.. بل مر عليها مَرّ الكرام لئلا تقوى تلك العلاقاتُ الواهية العابرة بتركيزك عليها، إذ كلما أظهرت الأسى والأسف وزاد اهتمامُك بها انقلب ذلك التخطر إلى عادة تتأصّل تدريجيا حتى تتحول إلى مرض خيالي. ولكن لا.. لا تخشَ أبدا، إنه ليس بمرض قلبي، لأنّ هذه الهواجس النفسية والتخطر الخيالي هي في أغلب الحالات تتكون رغما عن إرادة الإنسان، وهي غالبا ما تكون لدى مرهفي الحس والأمزجة الحادة. والشيطان يتغلغل عميقا مع هذه الوساوس. | |||
أما علاج هذا الداء فهو: | |||
اعلم أنّه لا مسؤولية في تداعي الأفكار، لأنّها لا إرادية غالبا، إذ لا اختلاط ولا تماس فيها، وإنما هي مجرد مجاورة ولا شيء بعد ذلك، لذا فلا تسري طبيعةُ الأفكار بعضها ببعض. ومن ثم فلا يضر بعضها بعضا. إذ كما أن مجاورة ملائكة الإلهام للشيطان حول القلب لا بأس فيها، ومجاورة الأبرار للفجار وقرابتهم ووجودهم في مسكن واحد لا ضرر فيه، كذلك إذا تداخلت خواطر سيئة غير مقصودة بين أفكار طاهرة نـزيهة لا تضرّ في شيء إلّا إذا كانت مقصودة، أو أن تشغل بها نفسك كثيرا، متوهما ضررها بك. وقد يكون القلب أحيانا مرهقا فينشغل الفكر بشيء ما -كيفما اتفق- دون جدوى، فينتهز الشيطان هذه الفرصة ويقدّم الأخيلة الخبيثة وينثرها هنا وهناك. | |||
< | <span id="DÖRDÜNCÜ_VECİH"></span> | ||
=== الوجه الرابع === | |||
</ | |||
هو نوع من الوسوسة الناشئة من التشدد المفرط لدى التحرّي عن الأكمل الأتم من الأعمال. فكلما زاد المرء في التشدد هذا -باسم التقوى والورع- ازداد الأمر سوءا وتعقيدا، حتى ليوشك أن يقع في الحرام في الوقت الذي يبتغي الوجه الأولى والأكمل في الأعمال الصالحة. وقد يترك «واجبا» بسبب من تحرّيه عن «سنّة» حيث يسأل نفسَه دائما عن مدى صحة عمله وقبوله، فتراه يعيده ويكرره، قائلا: « تُرى هل صحّ عملي؟ » حتى يطول به الأمر فييأس، ويستغل الشيطان وضعَه هذا فيرميه بسهامه ويجرحه من الأعماق. | |||
ولهذا الجرح دواءان اثنان: | |||
الدواء الأول: اعلم أن أمثال هذه الوساوس لا تليق إلاّ بالمعتزلة الذين يقولون: «إن أفعال المكلفين من حيث الجزاء الأخروي حسنة أو قبيحة في ذات نفسها، ثم يأتي الشرعُ فيقرر أنّ هذا حسن وهذا قبيح. أي إنّ الحسن والقبح أمران ذاتيان موجودان في طبيعة الأشياء -حسب الجزاء الأخروي- أمَّا الأوامر والنواهي فهي تابعة لذلك ولإقرارها». ولذلك فإن طبيعة هذا المذهب تؤدي بالإنسان إلى أن يستفسر دائما عن أعماله: «تُرى هل تمَّ عملي على الوجه الأكمل المُرضي كما هو في ذاته أم لا؟».. | |||
أمَّا أصحابُ الحق وهم أهل السنة والجماعة فيقولون: «إنّ الله سبحانه وتعالى يأمر بشيء فيكون حسنا وينهى عن شيء فيكون قبيحا». فبالأمر والنهي يتحقق الحُسن والقبح. أي إن الحُسن والقبح يتقرران من وجهة نظر المكلّف، ويتعلقان بحسب خواتيمهما في الآخرة دون النظر إليها في الدنيا. | |||
مثال ذلك: لو توضأت أو صليت، وكان هناك شيء ما خفي عليك يفسد صلاتك أو وضوءك، ولم تطّلع عليه. فصلاتُك ووضوءُك في هذه الحالة صحيحان وحسنان في آن واحد. وعند المعتزلة: إنهما قبيحان وفاسدان حقيقةً، ولكنهما مقبولان منك لجهلك، إذ الجهل عذر. | |||
وهكذا أيها الأخ المُبتلى، فأخذاً بمذهب أهل السنة والجماعة يكون عملُك صحيحا لا غبار عليه، نظرا لموافقته ظاهر الشرع. وإيّاك أن توسوس في صحة عملك، ولكن إياك أن تغتر به أيضا، لأنك لا تعلم علم اليقين، أهو مقبول عند الله أم لا؟. | |||
الدواء الثاني: اعلم أنّ الإسلام دين الله الحق، دينُ يُسر لا حرج فيه، وأنّ المذاهب الأربعة كلها على الحق. فإن أدرك المرء تقصيرَه تلافاه بالاستغفار الذي هو أثقل ميزانا من الغرور الناشئ من إعجابه بالأعمال الصالحة. لذا فإن يرى مثل هذا الموسوس نفسَه مقصرا في عمله ويستغفر ربه خير له ألف مرة من أن يغتر إعجابا بعمله. | |||
فما دام الأمر هكذا، فاطرح الوساوس واصرخ في وجه الشيطان: إن هذا الحال حرج، وإن الاطلاع على حقيقة الأحوال أمر صعب جدا، بل ينافي اليسر في الدين، ويخالف قاعدة: «لا حَرجَ في الدين» و«الدين يُسر». ولابد أن عملي هذا يوافق مذهبا من المذاهب الإسلامية الحقة، وهذا يكفيني. حيث يكون وسيلة لأن ألقي بنفسي بين يدي خالقي ومولاي ساجدا متضرعا أطلب المغفرة، وأعترف بتقصيري في العمل، وهو السميع المجيب. | |||
< | <span id="BEŞİNCİ_VECİH"></span> | ||
=== الوجه الخامس === | |||
</ | |||
وهو الوساوس التي تتقمص أشكال الشبهات في قضايا الإيمان: | |||
فكثيرا ما يلتبس على الموسوس المحتار خلجات الخيال، فيظن أنها من بنات عقله. أي يتوهم أن الشبهات التي تنتاب خيالَه كأنها مقبولة لدى عقله، أي إنها من شبهات عقله، فيظن أنّ اعتقاده قد مسّه الخلل.. وقد يظن الموسوس أحيانا أخرى أن الشبهة التي يتوهمها إنما هي شكّ يضرّ بإيمانه.. وقد يظن تارة أخرى أن ما يتصوره من رؤى الشبهات كأن عقلَه قد صدّقه.. وربما يحسب أن كلّ تفكير في قضايا الكفر كفر، أي إنه يحسب أن كل تحرٍ وتمحيص، وكل متابعة فكرية ومحاكمة عقليه محايدة لمعرفة أسباب الضلالة أنه خلاف الإيمان. | |||
فأمام هذه التلقينات الشيطانية الماكرة يرتعش ويرتجف، ويقول: «ويلاه! لقد ضاع قلبي وفسد اعتقادي واختل». وبما أنه لا يستطيع أن يصلح تلك الأحوال بإرادته الجزئية -وهي غير إرادية على الأغلب- يتردى إلى هاوية اليأس القاتل. | |||
أما علاج هذا الجرح فهو: | |||
أنّ تَوهم الكفر ليس كُفرا كما أن تخيل الكفر ليس كفرا، وإنّ تصور الضلالة ليس ضلالة، مثلما أن التفكير في الضلالة ليس ضلالة. ذلك لأن التخيل والتوهم والتصور والتفكر.. كل أولئك متباين ومتغاير كليا عن التصديق العقلي والإذعان القلبي. إذ التخيل والتوهم والتصور والتفكر أمور حرة طليقة إلى حدٍ ما، لذلك فهي لا تحفَل بالجزء الاختياري المنبثق من إرادة الإنسان، ولا ترضخ كثيرا تحت التبعات الدينية. بينما التصديق والإذعان ليسا كذلك، فهما خاضعان لميزان، ولأن كلا من التخيل والتوهم والتصور والتفكر ليس بتصديق وإذعان فلا يعدّ شبهةً ولا ترددا. لكن إذا تكررت هذه الحالة -دون مبرر- وبلغت حالة من الاستقرار في النفس، فقد يتمخض عنها لون من الشبهات الحقيقية، ثم قد ينـزلق الموسوس-بالتزامه الطرف المخالف باسم المحاكمات العقلية الحيادية أو باسم الإنصاف- إلى حالة يلتزم المخالف دون اختيار منه، وعندها يتنصل من الالتزامات الواجبة عليه تجاه الحق، فيهلك. إذ تتقرر في ذهنه حالة أشبه ما يكون بالمفوّض والمخوّل من قبل الطرف المخالف أي الخصم أو الشيطان. | |||
ولعل أهم نوع من هذه الوسوسة الخطيرة هو أن الموسوس يلتبس عليه «الإمكان الذاتي» و«الإمكان الذهني» أي إنه يتوهم بذهنه ويشك بعقله ما يراه ممكنا في ذاته، علما بأن هنالك قاعدة كلامية في علم المنطق تنص على: «أن الإمكان الذاتي لا ينافي اليقين العلمي، ومن ثم فلا تعارض ولا تضاد بينه وبين الضرورات الذهنية وبديهياتها». | |||
ولتوضيح ذلك نسوق هذا المثال: من الممكن أن يغور البحر الأسود الآن، فهذا شيء محتمل الوقوع بالإمكان الذاتي، إلّا أننا نحكم يقينا بوجود البحر المذكور في موقعه الحالي، ولا نشك في ذلك قطعا. فهذا الاحتمال الإمكاني والإمكان الذاتي لا يولدان شبهة ولا شكا، بل لا يخلان بيقيننا أبدا. | |||
ومثال آخر: من الممكن ألّا تغيب الشمس اليوم، ومن الممكن ألّا تشرق غدا، إلّا أن هذا الإمكان والاحتمال لا يخل بيقيننا بأي حال من الأحوال، ولا يطرأ أصغر شبهة عليه. | |||
وهكذا على غرار هذين المثالين فالأوهام التي ترِد من الإمكان الذاتي على غروب الحياة الدنيا وشروق الآخرة التي هي من حقائق الغيب الإيمانية لا تولد خللا في يقيننا الإيماني قطعا. ولهذا فالقاعدة المشهورة في أصول الدين وأصول الفقه: «لا عِبرةَ للاحتمال غير الناشئ عن الدَّليل». | |||
وإذا قلت: تُرى ما الحكمة من ابتلاء المؤمنين بهذه الوساوس المزعجة للنفس المؤلمة للقلب؟. | |||
الجواب: إننا إذا ما نحّينا الإفراط والغلبة جانبا فإن الوسوسة تكون حافزةً للتيقظ، وداعيةً للتحري، ووسيلة للجدية، وطاردة لعدم المبالاة، ودافعة للتهاون.. ولأجل هذا كله جعل العليمُ الحكيم الوسوسةَ نوعا من سَوطِ تشويق وأعطاه بيد الشيطان كي يحث به الإنسان في دار الامتحان وميدان السباق إلى تلك الحِكَم. وإذا ما أفرط في الأذى، فررنا إلى العليم الحكيم وحده مستصرخين: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. | |||
------ | ------ | ||
<center> [[ | <center>⇐ [[Yirminci_Söz/ar|الكلمة العشرون]] | [[Sözler/ar|الكلمات]] | [[ Yirmi_İkinci_Söz/ar|الكلمة الثانية والعشرون]] ⇒</center> | ||
------ | ------ | ||
17.51, 7 Mayıs 2024 itibarı ile sayfanın şu anki hâli
عبارة عن مقامين
المقام الأول
بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ
﴿ اِنَّ الصَّلٰوةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِن۪ينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴾ (النساء:١٠٣)
قال لي أحدهم يوما وهو كبير سنا وجسما ورتبة: «إنّ أداء الصلاة حسن وجميل، ولكن تكرارها كل يوم، وفي خمسة أوقات كثير جدا فكثرتها هذه تجعلها مملّة!..»
وبعد مرور فترة طويلة على هذا القول، أصغيت إلى نفسي فإذا هي أيضا تردد الكلام نفسه!! فتأملت فيها مليّا، وإذا بها قد أخذت -بطريق الكسل- الدرسَ نفسَه من الشيطان، فعلمتُ عندئذ أنّ ذلك الرجل كأنه قد نطقَ بتلك الكلمات بلسان جميع النفوس الأمارة بالسوء، أو أُنطق هكذا. فقلت ما دامت نفسي التي بين جنبيّ أمَّارة بالسوء فلابد أن أبدأ بها أولا لأنّ مَن عجز عن إصلاح نفسه فهو عن غيرها أعجزُ، فخاطبتها:
يا نفسي!.. اسمعيها مني «خمس تنبيهات» مقابل ما تفوهتِ به وأنتِ منغمسة في الجهل المركب سادرة في نوم الغفلة على فراش الكسل.
التنبيه الأول
يا نفسي الشقية! هل إنّ عمركِ أبديّ؟ وهل عندك عهد قطعي بالبقاء إلى السنة المقبلة بل إلى الغد؟ فالذي جعلكِ تملّين وتسأمين من تكرار الصلاة هو توهمكِ الأبدية والخلود، فتظهرين الدلال وكأنك بترفك مخلّدة في هذه الدنيا. فإن كنت تفهمين أنّ عمركِ قصير، وأنّه يمضي هباء دون فائدة، فلا ريب أنّ صرف جزء من أربعةٍ وعشرين منه في أداء خدمة جميلة ووظيفة مريحة لطيفة، وهي رحمة لك ووسيلة لحياة سعيدة خالدة، لا يكون مدعاة إلى الملل والسأم، بل وسيلة مثيرة لشوق خالص ولذوقٍ رائع رفيع.
التنبيه الثاني
يا نفسي الشرهة! إنكِ يوميا تأكلين الخبز، وتشربين الماء، وتتنفسين الهواء، أمَا يورث هذا التكرار مللا وضجرا؟ كلا دون شك! لأنّ تكرارَ الحاجة لا يجلب الملل بل يجدّد اللذة. لهذا فالصلاة التي تجلب الغذاء لقلبي، وماء الحياة لروحي، ونسيم الهواء لِلّطيفة الربانية الكامنة في جسمي، لابد أنّها لا تجعلك تملّين ولا تسأمين أبدا.
نعم، إنّ القلب المتعرض لأحزان وآلام لا حدّ لها، المفتونَ بآمال ولذائذ لا نهاية لها، لا يمكنه أن يكسب قوةً ولا غذاء إلّا بطرق باب الرحيم الكريم، القادر على كل شيء بكل تضرع وتوسل.
وإنّ الروح المتعلقة بأغلب الموجودات الآتية والراحلة سريعا في هذه الدنيا الفانية، لا تشرب ماء الحياة إلّا بالتوجه بالصلاة إلى ينبوع رحمة المعبود الباقي والمحبوب السرمدي.
وإن السر الإنساني الشاعر الرقيق اللطيف، وهو اللطيفة الربانية النورانية، والمخلوق للخلود، والمشتاق له فطرةً والمرآة العاكسة لتجليات الذات الجليلة، لابد أنّه محتاج أشدَّ الحاجة إلى التنفس، في زحمةِ وقساوة وضغوط هذه الأحوال الدنيوية الساحقة الخانقة العابرة المظلمة، وليس له ذلك إلّا بالاستنشاق من نافذة الصلاة.
التنبيه الثالث
يا نفسي الجزعة! إنّكِ تضطربين اليوم من تذكر عناء العبادات التي قمت بها في الأيام الماضية، ومن صعوبات الصلاة وزحمة المصائب السابقة، ثم تتفكرين في واجبات العبادات في الأيام المقبلة وخدمات أداء الصلوات، وآلام المصائب، فتظهرين الجزع، وقلة الصبر ونفاده. هل هذا أمر يصدر ممَّن له مِسْكة من عقل؟
إنّ مثلكِ في عدم الصبر هذا مثلُ ذلك القائد الأحمق الذي وجَّه قوةً عظيمة من جيشه إلى الجناح الأيمن للعدو، في الوقت الذي التحق ذلك الجناح من صفوف العدو إلى صفّه، فأصبح له ظهيرا. ووجّه قوته الباقية إلى الجناح الأيسر للعدو، في الوقت الذي لم يكن هناك أحد من الجنود. فأدرك العدو نقطة ضعفه فسدد هجومَه إلى القلب فدمّره هو وجيشَه تدميرا كاملا.
نعم، إنكِ تشبهين هذا القائد الطائش، لأنّ صعوباتِ الأيام الماضية وأتعابها قد ولّت، فذهبت آلامُها وظلت لذّتها وانقلبت مشقتها ثوابا، لذا لا تولّد مللا بل شوقا جديدا وذوقا نديّا وسعيا جادا دائما للمضيّ والإقدام. أمَّا الأيام المقبلة، فلأنها لم تأتِ بعدُ، فإنّ صرف التفكير فيها من الآن نوع من الحماقة والبلهِ، إذ يشبه ذلك البكاءُ والصراخ من الآن، لما قد يحتمل أن يكون من العطش والجوع في المستقبل!..
فما دام الأمر هكذا، فإن كان لك شيء من العقل، ففكري من حيث العبادة في هذا اليوم بالذات. قولي سأصرف ساعة منه في واجبٍ مهم لذيذ جميل، وفي خدمةٍ سامية رفيعة ذات أجر عظيم وكلفة ضئيلة. وعندها تشعرين أنّ فتورَك المؤلم قد تحوّل إلى همة حلوة، ونشاط لذيذ.
فيا نفسي الفارغة من الصبر! إنّكِ مكلفة بثلاثة أنواع من الصبر.
الأول: الصبر على الطاعة.
الثاني: الصبر عن المعصية.
الثالث: الصبر عند البلاء.
فإن كنتِ فطنة فخذي الحقيقة الجلية في مثال القائد -في هذا التنبيه- عبرةً ودليلا، وقولي بكل همة ورجولة «يا صبور!» ثم خذي على عاتقك الأنواع الثلاثة من الصبر. واستندي إلى قوة الصبر المودعة فيك وتجمّلي بها، فإنّها تكفي للمشقات كلها، وللمصائب جميعها ما لم تبعثريها خطأ في أمور جانبية.
التنبيه الرابع
يا نفسي الطائشة! يا تُرى هل أنّ أداء هذه العبودية دون نتيجة وجدوى؟! وهل أنّ أجرتها قليلة ضئيلة حتى تجعلك تسأمين منها؟ مع أنّ أحدنا يعمل إلى المساء ويكدّ دون فتور إن رغّبه أحد في مالٍ أو أرهبَهُ.
إنّ الصلاة التي هي قوت لقلبك العاجز الفقير وسكينة له في هذا المضيف الموقت وهو الدنيا. وهي غذاء وضياء لمنـزلك الذي لابد أنّكِ صائرة إليه، وهو القبر. وهي عهد وبراءة في محكمتك التي لا شك أنكِ تحشرين إليها. وهي التي ستكون نورا وبُراقا على الصراط المستقيم الذي لابد أنّكِ سائرة عليه.. فصلاة هذه نتائجها، هل هي بلا نتيجة وجدوى ؟ أمْ أنها زهيدة الأجرة ؟!
وإذا وَعَدَكِ أحد بهدية مقدارها مائة ليرة، فسوف يستخدمك مائة يوم وأنتِ تسعَين وتعملين معتمدة على وعده دون ملل وفتور، رغم أنّه قد يخلف الوعد. فكيف بمن وعدك وهو لا يخلف الوعد مطلقا ؟؟ فخُلف الوعد عنده محال! وعدك أجرةً وثمنا هي الجنة، وهدية عظيمة هي السعادة الخالدة، لتؤدي له واجبا ووظيفة لطيفة مريحة وفي فترة قصيرة جدا. ألا تفكرين في أنكِ إن لم تؤدِّ تلك الوظيفة والخدمة الضئيلة، أو قمتِ بها دون رغبة أو بشكلٍ متقطع، فإنكِ إذن تستخفّين بهديته، وتتهمينه في وعده! ألا تستحقين إذن تأديبا شديدا وتعذيبا أليما ؟ ألا يثير همتك لتؤدي تلك الوظيفة التي هي في غاية اليسر واللطف خوفَ السجن الأبدي وهو جهنم. علما أنّكِ تقومين بأعمال مرهقة وصعبة دون فتور خوفا من سجن الدنيا، وأين هذا من سجن جهنم الأبدي ؟!
التنبيه الخامس
يا نفسي المغرمة بالدنيا!.. هل إنّ فتورك في العبادة وتقصيرك في الصلاة ناشئان من كثرة مشاغلك الدنيوية؟ أمْ إنّك لا تجدين الفرصة لغلبة هموم العيش؟!
فيا عجبا هل أنتِ مخلوقة للدنيا فحسب، حتى تبذلي كل وقتك لها؟
تأملي، إنّك لا تبلغين أصغرَ عصفور من حيث القدرة على تدارك لوازم الحياة الدنيا رغم أنّكِ أرقى من جميع الحيوانات فطرةً. لِمَ لا تفهمين من هذا أنّ وظيفتكِ الأصلية ليس الانهماك بالحياة الدنيا والاهتمام بها كالحيوانات، وإنّما السعيُ والدأب لحياة خالدة كالإنسان الحقيقي.
مع هذا، فإنّ أغلبَ ما تذكرينه من المشاغل الدنيوية هي مشاغل ما لا يعنيك من الأمور، وهي التي تتدخلين فيها بفضول، فتهدرين وقتك الثمين جدا فيما لا قيمة له ولا ضرورة ولا فائدة منه، كتعلّم عدد الدجاج في أمريكا! أو نوع الحلقات حول زحل. وكأنّكِ تكسبين بهذا شيئا من الفَلك والإحصاء! فتَدَعين الضروري والأهم والألزم من الأمور كأنكِ ستعمّرين آلاف السنين؟!
فإن قلت: إنّ الذي يصرفني ويفترني عن الصلاة والعبادة ليس مثل هذه الأمور التافهة، وإنّما هي أمور ضرورية لمطالب العيش. إذن فاسمعي مني هذا المثل:
إن كانت الأجرة اليومية لشخصٍ مائة قرش وقال له أحدهم: «تعال واحفرْ لعشر دقائق هذا المكان، فإنّك ستجد حجرا كريما كالزمرد قيمتُه مائة ليرة» كم يكون عذرا تافها بل جنونا إنْ رفض ذلك بقوله: «لا، لا أعملُ، لأن أجرتي اليومية ستنقص».
وكذلك حالك، فإن تركت الصلاة المفروضة، فإنّ جميع ثمار سعيك وعملك في هذا البستان ستنحصر في نفقةٍ دنيوية تافهة دون أن تجنى فائدتها وبركتها. بينما لو صرفت وقت راحتك بين فترات العمل في أداء الصلاة، التي هي وسيلة لراحة الروح، ولتنفس القلب، يضاف عندئذٍ إلى نفقتك الأخروية وزاد آخرتك مع نفقتك الدنيوية المباركة، ما تجدينه من منبع عظيم لكنـزَين معنويين دائمين وهما:
الكنـز الأول: ستأخذ ([1]) حظك ونصيبك من «تسبيحات» كل ما هيأته بنيّة خالصة، من أزهار وثمار ونباتات في بستانك.
الكنـز الثاني: أنّ كل مَن يأكل من محاصيل بستانك -سواء أكان حيوانا أمْ إنسانا شاريا أو سارقا- يكون بحكم «صدقةٍ جارية» لك، فيما إذا نظرت إلى نفسك كأنّك وكيل وموظف لتوزيع مال الله سبحانه وتعالى على مخلوقاته، أي تتصرف باسم الرزاق الحقيقي وضمن مرضاته.
والآن تأمّلْ في الذي ترك الصلاة، كم هو خاسر خسرانا عظيما؟! وكم هو فاقد من تلك الثروة الهائلة؟! وكيف أنّه سيبقى محروما ومفلسا من ذينك الكنـزين الدائمين اللذين يمدان الإنسان بقوة معنوية للعمل ويشوّقانه للسعي والنشاط؟! حتى إذا بلغ أرذلَ عمره، فإنّه سوف يملّ ويضجر مخاطبا نفسه: «وما عليّ؟! لِمَ أتعِبُ نفسي؟ لأجلِ مَن أعمَلُ؟ فإنّني راحل من هذه الدنيا غدا» فيلقي نفسه في أحضان الكسل؛ بينما الرجل الأول يقول: «سأسْعى سعيا حثيثا في العمل الحلال بجانب عبادتي المتزايدة كيما أرسل إلى قبري ضياءا أكثر وادّخر لآخرتي ذخيرة أزيد».
والخلاصة: اعلمي أيتها النفس! إنّ أمْس قد فاتكِ. أمّا الغد فلم يأتِ بَعْدُ، وليس لديك عهد أنّك ستملكينه، لهذا فاحسبي عمرك الحقيقي هو هذا اليوم. وأقلّ القليل أن تلقي ساعة منه في صندوق الادّخار الأخروي، وهو المسجد أو السَّجّادة لتضمني المستقبل الحقيقي الخالد.
واعلمي كذلك أن كل يوم جديد هو باب ينفتح لعالم جديد -لك ولغيرك- فإن لم تؤدي فيه الصلاة فإن عالم ذلك اليوم يرحل إلى عالم الغيب مُظلما شاكيا محزونا، وسيشهد عليك. وأنّ لكلٍّ منا عالمَه الخاص من ذلك العالم، وأنّ نوعيته تتبع عملنا وقلبنا. مَثلُه في ذلك مثلُ المرآة، تظهر فيها الصورة تبعا للونها ونوعيتها. فإن كانت مسودّة فستظهر الصورة مسودّة، وإن كانت صقيلة فستظهر الصورة واضحة، وإلا فستظهر مشوهة تضخم أتفه شيء وأصغره. كذلك أنت، فبقلبك وبعقلك وبعملك يمكنك أن تغيري صورَ عالمكِ، وباختيارك وطوع إرادتك يمكنك أن تجعلي ذلك العالم يشهد لك أو عليك.
وهكذا إن أدّيتَ الصلاة وتوجهت بصلاتك إلى خالق ذلك العالم ذي الجلال، فسيتنور ذلك العالم المتوجه إليك حالا، وكأنّك قد فتحت بنيّة الصلاة مفتاح النور فأضاءَه مصباح صلاتك، وبدّد الظلمات فيه. وعندها تتحول وتتبدل جميع الاضطرابات والأحزان التي حولك في الدنيا فتراها نظاما حكيما، وكتابة ذات معنى بقلم القدرة الربانية، فينساب نور من أنوار
﴿ اَللّٰهُ نُورُ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ ﴾ إلى قلبك، فيتنور عالم يومك ذاك، وسيشهد بنورانيته لك عند الله.
فيا أخي! حذارِ أن تقول «أين صلاتي من حقيقة تلك الصلاة؟» إذ كما تحمل نواةُ التمر في طياتها صفات النخلة الباسقة، الفرق فقط في التفاصيل والإجمال. كذلك صلاة العوام -من هم أمثالي وأمثالُك- فيها حظ من ذلك النور وسر من أسرار تلك الحقيقة، كما هي في صلاة وليّ من أولياء الله الصالحين ولو لم يتعلق بذلك شعوره. أمَّا تَنوُّرها فهي بدرجات متفاوتة، كتفاوت المراتب الكثيرة التي بين نواة التمر إلى النخلة. ورغم أنّ الصلاة فيها مراتب أكثر فإنّ جميع تلك المراتب فيها أساس من تلك الحقيقة النورانية.
اَللّهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى مَن قَالَ: «الصَّلَاةُ عِمَادُ الدِّينِ» ([2]) وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أجْمَعِينَ.
المقام الثاني
من الكلمة الحادية والعشرين
يتضمن خمسة مراهم لخمسة جروح قلبية
بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ
﴿ وَقُلْ رَبِّ اَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاط۪ينِ ❀ وَاَعُوذُ بِكَ رَبِّ اَنْ يَحْضُرُونِ ﴾ (المؤمنون:٩٧-٩٨)
أيُّها الأخ المبتلى بداء الوسوسة! ليت شعري هل تعلم بماذا تشبه وسوستُك؟. إنها أشبه بالمصيبة؛ تبدأ صغيرة ثم تكبر شيئا فشيئا على مدى اهتمامك بها. وبقدر إهمالك إياها تزول وتفنى، فهي تعظُم إذا استعظمتَها وتصغُر إذا استصغرتَها. وإذا ما خفتَ منها داستك ودوّختك بالعلل، وإن لم تَخَفْ هانَتْ وخَنَستْ وتوارت. وإن لم تعرف حقيقتَها استمرت واستقرت، بينما إذا عرفتَ حقيقتها وسَبَرتَ غورها تلاشت واضمحلت. فما دام الأمر هكذا فسأشرح لك خمسة وجوه، من وجوهها التي تحدُث كثيرا. عسى أن يكون بيانُها -بعون الله- شفاءً لصدورنا نحن كلنا. ذلك لأنّ الجهل مجلبة للوساوس، بينما العلمُ على نقيضه دافع لشرها. فلو جهلتَها أقبلت ودنتْ وإذا ما عرفتها ولّت وأدبرت.
الوجه الأول - الجرح الأول
أنّ الشيطان يلقى أولا بشبهته في القلب، ثم يراقب صداها في الأعماق، فإذا أنكرها القلبُ انقلب من الشبهة إلى الشتم والسبّ، فيصوّر أمام الخيال ما يشبه الشتم من قبيح الخواطر السيئة والهواجس المنافية للآداب، مما يجعل ذلك القلب المسكين يئن تحت وطأة اليأس ويصرخ: واحسرتاه!. وامصيبتاه!.. فيظن الموسوَس أنّ قلبه آثم، وأنه قد اقترف السيئات حيال ربه الكريم، ويشعر باضطراب وانفعال وقلق، فينفلت من عقال السكينة والطمأنينة، ويحاول الانغماس في أغوار الغفلة.
أمَّا ضِماد هذا الجرحِ فهو:
أيها المبتلى المسكين! لا تخف ولا تضطرب، لأنّ ما مرّ أمام مرآة ذهنك ليس شتما ولا سبّا، وإنّما هو مجردُ صوَرٍ وخيالات تمر مرورا أمام مرآة ذهنك، وحيث إنّ تخيُّلَ الكفر ليس كفرا، فإنّ تخيُّل الشتم أيضا ليس شتما، إذ من المعلوم في البديهية المنطقية: أنّ التخيُّل ليس بحُكم، بينما الشتم حُكم. فضلا عن هذا، فإنّ تلك الكلمات غير اللائقة لم تكن قد صدرت من ذات قلبك، حيث إنّ قلبك يتحسّر منها ويتألم. ولعلها آتية من لمّة شيطانية قريبة من القلب. لذا فإن ضرر الوسوسة إنما هو في توهم الضرر، أي إنّ ضرره على القلب هو ما نتوهمُه نحن من أضرارها. لأنّ المرء يتوهم تخيلا لا أساس له كأنّه حقيقة، ثم ينسب إليه من أعمال الشيطان ما هو بريء منه، فيظن أنّ همزات الشيطان هي من خواطر قلبه هو، ويتصور أضرارَها فيقع فيها. وهذا هو ما يريده الشيطان منه بالذات.
الوجه الثاني
عندما تنطلق المعاني من القلب تنفذ في الخيال مجردةً من الصور، وتكتسي الأشكالَ والصور هناك. والخيالُ هو الذي ينسج دائما ولأسباب معينة، نوعا من الصور، ويعرض ما يهتم به من الصور على الطريق، فأيّما معنىً يرد، فالخيال إمّا يُلبسه ذلك النسيج أو يعلّقه عليه أو يلطخه به، أو يستره به؛ فإن كانت المعاني منـزهةً ونقيةً، والصور والأنسجة ملوثةً دنيئةً فلا إلباسَ ولا إكساء، وإنما مجرد مسٍّ فقط. فمن هنا يلتبس على الموسوس أمرَ التّماس فيظنه تلبسا وتلبيسا، فيقول في نفسه: يا ويلتاه! لقد تردى قلبي في المهاوي، وستجعلني هذه الدناءة والخساسة النفسية من المطرودين من رحمة الله. فيستغل الشيطان هذا الوتر الحساس منه استغلالا فظيعا.
ومرهم هذا الجرح العميق هو:
كما لا يؤثر في صلاتك ولا يُفسدها ما في جوفك من نجاسة، بل يكفي لها طهارة حسية وبدنية، كذلك لا تضر مجاورةُ الصور الملوثة بالمعاني المنـزّهة والمقدسة.
مثال ذلك: قد تكون متدبرا في آية من آيات الله، وإذا بأمرٍ مُهيِّجٍ من مرضٍ يفاجئك، أو من تدافع الأخبثين، يلحّ على خيالك بشدة، فلاشك أنّ خيالك سينساق إلى حيث الدواء، أو قضاء الحاجة، ناسجا ما يقتضيه من صور دنيئة. فتمر المعاني الواردة في تدبرك من بين الصور الخيالية السافلة. دَعْها تمر، فليس ثمة ضرر ولا لوثة ولا خطورة. إنّما الخطورة فقط هي في تركيز الفكر فيها، وتوهم الضرر منها.
الوجه الثالث
هناك بعض علاقات خفية تسود بين الأشياء، وربما توجد خيوط من الصلة، حتى بين ما لا نتوقعه من الأشياء. هذه الخيوط إمّا أنها قائمة بذاتها، أي حقيقية، أو أنّها من نتاجات خيالك الذي صنع هذه الخيوط حسب ما ينشغل به من عمل.
وهذا هو السر في توارد خيالات سيئة أحيانا عند النظر في ما يخص أمورا مقدسة، إذ «التناقض الذي يكون سببا للابتعاد في الخارج يكون مدعاة للقرب والتجاور في الصور والخيال» كما هو معلوم في علم البيان. أي إنّ ما يجمع بين صورتي الشيئين المتناقضين ليس إلاّ الخيال. ويُطلق على هذه الخواطر الناتجة بهذه الوسيلة: تداعى الأفكار.
مثال ذلك: بينما أنت تناجي ربك في الصلاة بخشوع وتضرع وحضور قلب مستقبلا الكعبة المعظمة، إذا بتداعي الأفكار هذا يسوقك إلى أمور مشينة مخجلة لا تعنيك بشيء.
فإذا كنت يا أخي مُبتلىً بتداعي الأفكار، فإيَّاك إيَّاك أن تقلق أو تجزع، بل عُد إلى حالتك الفطرية حالما تنتبه لها. ولا تشغل بالَك قائلا: لقد قصّرت كثيرا.. ثم تبدأ بالتحري عن السبب.. بل مر عليها مَرّ الكرام لئلا تقوى تلك العلاقاتُ الواهية العابرة بتركيزك عليها، إذ كلما أظهرت الأسى والأسف وزاد اهتمامُك بها انقلب ذلك التخطر إلى عادة تتأصّل تدريجيا حتى تتحول إلى مرض خيالي. ولكن لا.. لا تخشَ أبدا، إنه ليس بمرض قلبي، لأنّ هذه الهواجس النفسية والتخطر الخيالي هي في أغلب الحالات تتكون رغما عن إرادة الإنسان، وهي غالبا ما تكون لدى مرهفي الحس والأمزجة الحادة. والشيطان يتغلغل عميقا مع هذه الوساوس.
أما علاج هذا الداء فهو:
اعلم أنّه لا مسؤولية في تداعي الأفكار، لأنّها لا إرادية غالبا، إذ لا اختلاط ولا تماس فيها، وإنما هي مجرد مجاورة ولا شيء بعد ذلك، لذا فلا تسري طبيعةُ الأفكار بعضها ببعض. ومن ثم فلا يضر بعضها بعضا. إذ كما أن مجاورة ملائكة الإلهام للشيطان حول القلب لا بأس فيها، ومجاورة الأبرار للفجار وقرابتهم ووجودهم في مسكن واحد لا ضرر فيه، كذلك إذا تداخلت خواطر سيئة غير مقصودة بين أفكار طاهرة نـزيهة لا تضرّ في شيء إلّا إذا كانت مقصودة، أو أن تشغل بها نفسك كثيرا، متوهما ضررها بك. وقد يكون القلب أحيانا مرهقا فينشغل الفكر بشيء ما -كيفما اتفق- دون جدوى، فينتهز الشيطان هذه الفرصة ويقدّم الأخيلة الخبيثة وينثرها هنا وهناك.
الوجه الرابع
هو نوع من الوسوسة الناشئة من التشدد المفرط لدى التحرّي عن الأكمل الأتم من الأعمال. فكلما زاد المرء في التشدد هذا -باسم التقوى والورع- ازداد الأمر سوءا وتعقيدا، حتى ليوشك أن يقع في الحرام في الوقت الذي يبتغي الوجه الأولى والأكمل في الأعمال الصالحة. وقد يترك «واجبا» بسبب من تحرّيه عن «سنّة» حيث يسأل نفسَه دائما عن مدى صحة عمله وقبوله، فتراه يعيده ويكرره، قائلا: « تُرى هل صحّ عملي؟ » حتى يطول به الأمر فييأس، ويستغل الشيطان وضعَه هذا فيرميه بسهامه ويجرحه من الأعماق.
ولهذا الجرح دواءان اثنان:
الدواء الأول: اعلم أن أمثال هذه الوساوس لا تليق إلاّ بالمعتزلة الذين يقولون: «إن أفعال المكلفين من حيث الجزاء الأخروي حسنة أو قبيحة في ذات نفسها، ثم يأتي الشرعُ فيقرر أنّ هذا حسن وهذا قبيح. أي إنّ الحسن والقبح أمران ذاتيان موجودان في طبيعة الأشياء -حسب الجزاء الأخروي- أمَّا الأوامر والنواهي فهي تابعة لذلك ولإقرارها». ولذلك فإن طبيعة هذا المذهب تؤدي بالإنسان إلى أن يستفسر دائما عن أعماله: «تُرى هل تمَّ عملي على الوجه الأكمل المُرضي كما هو في ذاته أم لا؟»..
أمَّا أصحابُ الحق وهم أهل السنة والجماعة فيقولون: «إنّ الله سبحانه وتعالى يأمر بشيء فيكون حسنا وينهى عن شيء فيكون قبيحا». فبالأمر والنهي يتحقق الحُسن والقبح. أي إن الحُسن والقبح يتقرران من وجهة نظر المكلّف، ويتعلقان بحسب خواتيمهما في الآخرة دون النظر إليها في الدنيا.
مثال ذلك: لو توضأت أو صليت، وكان هناك شيء ما خفي عليك يفسد صلاتك أو وضوءك، ولم تطّلع عليه. فصلاتُك ووضوءُك في هذه الحالة صحيحان وحسنان في آن واحد. وعند المعتزلة: إنهما قبيحان وفاسدان حقيقةً، ولكنهما مقبولان منك لجهلك، إذ الجهل عذر.
وهكذا أيها الأخ المُبتلى، فأخذاً بمذهب أهل السنة والجماعة يكون عملُك صحيحا لا غبار عليه، نظرا لموافقته ظاهر الشرع. وإيّاك أن توسوس في صحة عملك، ولكن إياك أن تغتر به أيضا، لأنك لا تعلم علم اليقين، أهو مقبول عند الله أم لا؟.
الدواء الثاني: اعلم أنّ الإسلام دين الله الحق، دينُ يُسر لا حرج فيه، وأنّ المذاهب الأربعة كلها على الحق. فإن أدرك المرء تقصيرَه تلافاه بالاستغفار الذي هو أثقل ميزانا من الغرور الناشئ من إعجابه بالأعمال الصالحة. لذا فإن يرى مثل هذا الموسوس نفسَه مقصرا في عمله ويستغفر ربه خير له ألف مرة من أن يغتر إعجابا بعمله.
فما دام الأمر هكذا، فاطرح الوساوس واصرخ في وجه الشيطان: إن هذا الحال حرج، وإن الاطلاع على حقيقة الأحوال أمر صعب جدا، بل ينافي اليسر في الدين، ويخالف قاعدة: «لا حَرجَ في الدين» و«الدين يُسر». ولابد أن عملي هذا يوافق مذهبا من المذاهب الإسلامية الحقة، وهذا يكفيني. حيث يكون وسيلة لأن ألقي بنفسي بين يدي خالقي ومولاي ساجدا متضرعا أطلب المغفرة، وأعترف بتقصيري في العمل، وهو السميع المجيب.
الوجه الخامس
وهو الوساوس التي تتقمص أشكال الشبهات في قضايا الإيمان:
فكثيرا ما يلتبس على الموسوس المحتار خلجات الخيال، فيظن أنها من بنات عقله. أي يتوهم أن الشبهات التي تنتاب خيالَه كأنها مقبولة لدى عقله، أي إنها من شبهات عقله، فيظن أنّ اعتقاده قد مسّه الخلل.. وقد يظن الموسوس أحيانا أخرى أن الشبهة التي يتوهمها إنما هي شكّ يضرّ بإيمانه.. وقد يظن تارة أخرى أن ما يتصوره من رؤى الشبهات كأن عقلَه قد صدّقه.. وربما يحسب أن كلّ تفكير في قضايا الكفر كفر، أي إنه يحسب أن كل تحرٍ وتمحيص، وكل متابعة فكرية ومحاكمة عقليه محايدة لمعرفة أسباب الضلالة أنه خلاف الإيمان.
فأمام هذه التلقينات الشيطانية الماكرة يرتعش ويرتجف، ويقول: «ويلاه! لقد ضاع قلبي وفسد اعتقادي واختل». وبما أنه لا يستطيع أن يصلح تلك الأحوال بإرادته الجزئية -وهي غير إرادية على الأغلب- يتردى إلى هاوية اليأس القاتل.
أما علاج هذا الجرح فهو:
أنّ تَوهم الكفر ليس كُفرا كما أن تخيل الكفر ليس كفرا، وإنّ تصور الضلالة ليس ضلالة، مثلما أن التفكير في الضلالة ليس ضلالة. ذلك لأن التخيل والتوهم والتصور والتفكر.. كل أولئك متباين ومتغاير كليا عن التصديق العقلي والإذعان القلبي. إذ التخيل والتوهم والتصور والتفكر أمور حرة طليقة إلى حدٍ ما، لذلك فهي لا تحفَل بالجزء الاختياري المنبثق من إرادة الإنسان، ولا ترضخ كثيرا تحت التبعات الدينية. بينما التصديق والإذعان ليسا كذلك، فهما خاضعان لميزان، ولأن كلا من التخيل والتوهم والتصور والتفكر ليس بتصديق وإذعان فلا يعدّ شبهةً ولا ترددا. لكن إذا تكررت هذه الحالة -دون مبرر- وبلغت حالة من الاستقرار في النفس، فقد يتمخض عنها لون من الشبهات الحقيقية، ثم قد ينـزلق الموسوس-بالتزامه الطرف المخالف باسم المحاكمات العقلية الحيادية أو باسم الإنصاف- إلى حالة يلتزم المخالف دون اختيار منه، وعندها يتنصل من الالتزامات الواجبة عليه تجاه الحق، فيهلك. إذ تتقرر في ذهنه حالة أشبه ما يكون بالمفوّض والمخوّل من قبل الطرف المخالف أي الخصم أو الشيطان.
ولعل أهم نوع من هذه الوسوسة الخطيرة هو أن الموسوس يلتبس عليه «الإمكان الذاتي» و«الإمكان الذهني» أي إنه يتوهم بذهنه ويشك بعقله ما يراه ممكنا في ذاته، علما بأن هنالك قاعدة كلامية في علم المنطق تنص على: «أن الإمكان الذاتي لا ينافي اليقين العلمي، ومن ثم فلا تعارض ولا تضاد بينه وبين الضرورات الذهنية وبديهياتها».
ولتوضيح ذلك نسوق هذا المثال: من الممكن أن يغور البحر الأسود الآن، فهذا شيء محتمل الوقوع بالإمكان الذاتي، إلّا أننا نحكم يقينا بوجود البحر المذكور في موقعه الحالي، ولا نشك في ذلك قطعا. فهذا الاحتمال الإمكاني والإمكان الذاتي لا يولدان شبهة ولا شكا، بل لا يخلان بيقيننا أبدا.
ومثال آخر: من الممكن ألّا تغيب الشمس اليوم، ومن الممكن ألّا تشرق غدا، إلّا أن هذا الإمكان والاحتمال لا يخل بيقيننا بأي حال من الأحوال، ولا يطرأ أصغر شبهة عليه.
وهكذا على غرار هذين المثالين فالأوهام التي ترِد من الإمكان الذاتي على غروب الحياة الدنيا وشروق الآخرة التي هي من حقائق الغيب الإيمانية لا تولد خللا في يقيننا الإيماني قطعا. ولهذا فالقاعدة المشهورة في أصول الدين وأصول الفقه: «لا عِبرةَ للاحتمال غير الناشئ عن الدَّليل».
وإذا قلت: تُرى ما الحكمة من ابتلاء المؤمنين بهذه الوساوس المزعجة للنفس المؤلمة للقلب؟.
الجواب: إننا إذا ما نحّينا الإفراط والغلبة جانبا فإن الوسوسة تكون حافزةً للتيقظ، وداعيةً للتحري، ووسيلة للجدية، وطاردة لعدم المبالاة، ودافعة للتهاون.. ولأجل هذا كله جعل العليمُ الحكيم الوسوسةَ نوعا من سَوطِ تشويق وأعطاه بيد الشيطان كي يحث به الإنسان في دار الامتحان وميدان السباق إلى تلك الحِكَم. وإذا ما أفرط في الأذى، فررنا إلى العليم الحكيم وحده مستصرخين: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.