Yirmi Dördüncü Söz/ar: Revizyonlar arasındaki fark

    Risale-i Nur Tercümeleri sitesinden
    ("يا نفسُ! إن وظائف العبودية وتكاليفَها ليست مقدمةً لثوابٍ لاحق، بل هي نتيجة لنعمة سابقة." içeriğiyle yeni sayfa oluşturdu)
    Değişiklik özeti yok
    Etiketler: Mobil değişiklik Mobil ağ değişikliği
    539. satır: 539. satır:


    يا نفسُ! إن وظائف العبودية وتكاليفَها ليست مقدمةً لثوابٍ لاحق، بل هي نتيجة لنعمة سابقة.
    يا نفسُ! إن وظائف العبودية وتكاليفَها ليست مقدمةً لثوابٍ لاحق، بل هي نتيجة لنعمة سابقة.
    نعم؛ نحن قد أخذنا أجرتَنا من قبل، وأصبحنا بحسب تلك الأجرة المقدَّمة لنا مكلّفين بالخدمة والعبودية؛


    <div lang="tr" dir="ltr" class="mw-content-ltr">
    <div lang="tr" dir="ltr" class="mw-content-ltr">

    20.02, 27 Aralık 2023 tarihindeki hâli

    Diğer diller:

    الكلمة الرابعة والعشرون

    هذه الكلمة عبارة عن خمسةِ أغصان. لاحظ بإمعان الغصنَ الرابع واستمسك بالغصن الخامس واصعد لتقطف ثمارَه.

    بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ

    ﴿ اَللّٰهُ لَٓا اِلٰهَ اِلَّا هُوَۜ لَهُ الْاَسْمَٓاءُ الْحُسْنٰى ﴾ (طه:٨)

    نشير إلى خمسة أغصانٍ لحقيقة واحدة من الحقائق الكبرى الجليلة لهذه الآية الكريمة:

    الغصن الأول

    إنّ للسلطان عناوينَ مختلفةً في دوائر حكومته، وأوصافا متباينةً ضمن طبقات رعاياه، وأسماءً وعلاماتٍ متنوعة في مراتب سلطنته. فمثلا: له اسم «الحاكمِ العادل» في دوائر العدل، وعنوانُ «السلطان» في الدوائر المدنية، بينما له اسم «القائدِ العام» في الدوائر العسكرية وعنوانُ «الخليفة» في الدوائر الشرعية.. وهكذا له سائر الأسماء والعناوين.. فله في كلِّ دائرة من دوائر دولته مقام وكرسي بمثابة عرشٍ معنوي له؛ وعليه يمكن أن يكون ذلك السلطانُ الفردُ مالكا لألفِ اسم واسم في دوائر تلك السلطنة وفي مراتب طبقات الحكومة؛ أي يمكن أن يكونَ له ألفُ عرش وعرش من العروش المتداخلِ بعضُها في بعض، حتى كأن ذلك الحاكمُ موجود وحاضر في كل دائرة من دوائر دولته.. ويعلمُ ما يجري فيها بشخصيته المعنوية، وهاتفِه الخاص. ويُشاهدُ ويَشْهَدُ في كل طبقة من الطبقات بقانونِه ونظامِه وبممثليه.. ويراقبُ ويدير من وراء الحجاب كلَّ مرتبة من المراتب بحكمته وبعلمِه وبقوته.. فلكلِّ دائرةٍ مركز يخصُّها وموقع خاص بها، أحكامُه مختلفة، طبقاتُه متغايرة.

    وهكذا فإنّ رب العالمين -وهو سلطانُ الأزل والأبد- له ضمن مراتب ربوبيته شؤونٌ وعناوينُ مختلفة، لكن يتناظر بعضُها مع بعض.. وله ضمن دوائر ألوهيته علامات وأسماء متغايرة، لكن يُشاهَد بعضُها في بعضٍ.. وله ضمن إجراءاته العظيمة تجليات وجلوات متباينة، لكن يُشابه بعضُها بعضا.. وله ضمن تصرفات قدرتِه عناوينُ متنوعة، لكن يُشعِر بعضُها ببعض.. وله ضمن تجليات صفاته مظاهر مقدسة متفاوتة، لكن يُظهِر بعضُها بعضا.. وله ضمن تجليات أفعاله تصرفات متباينة، لكن تكمِّل الواحدةُ الأخرى.. وله ضمن صنعته ومصنوعاته ربوبيةٌ مهيبة متغايرة لكن تلحَظُ إحداها الأخرى.

    ومع هذا يتجلى عنوان من عناوين اسمٍ من الأسماء الحسنى، في كلِّ عالَمٍ من عوالم الكون وفي كل طائفة من طوائفه. ويكون ذلك الاسمُ حاكما مهيمنا في تلك الدائرة، وبقيةُ الأسماء تابعة له هناك، بل مندرجة فيه.

    ثم إنّ ذلك الاسم له تجلٍ خاص وربوبية خاصة في كل طبقات المخلوقات، صغيرةً كانت أو كبيرة، قليلة كانت أو كثيرة، خاصة كانت أو عامة. بمعنى أن ذلك الاسم وإن كان محيطا بكل شيء وعاما، إلّا أنه متوجّه بقصدٍ وبأهمية بالغة إلى شيءٍ ما، حتى كأن ذلك الاسمَ متوجه فقط وبالذات إلى ذلك الشيء، وكأنّه خاص بذلك الشيء.

    زد على ذلك فإن الخالق الجليل قريب إلى كل شيء، مع أن له سبعين ألفَ حجاب من الـحُجب النورانية. ويمكنك أن تقيس ذلك –مثلا- من الـحُجب الموجودة في مراتب اسم الخالق، ابتداءً من تجلي اسم الخالق لك، تلك المرتبة الجزئية المتعلقة بالمخلوقية في اسم الخالق، وانتهاء إلى المرتبة الكبرى لخالق العالمين جميعا، ذلك العنوان الأعظم. بمعنى أنك تستطيع أن تبلغ نهايةَ تجليات اسم الخالق وتدخُل إليها من باب المخلوقية، بشرط أن تَدع الكائنات وراءك، وعندئذٍ تتقرب إلى دائرة الصفات.

    ولوجود المنافذِ في الحُجب، والتناظرِ في الشؤون، والتعاكسِ في الأسماء، والتداخل في التمثّلات، والتمازج في العناوين، والتشابه في الظهور، والتساند في التصرفات، والتعاضد في الربوبيات، لَزم البَتَّة لمَن عرفَه سبحانه في واحدٍ مما مرّ من الأسماء والعناوين والربوبية ألّا ينكر سائر الأسماء والعناوين والشؤون، بل يفهم بداهة أنه هو هو. وإلّا يتضرر إن ظل محجوبا عن تجليات الأسماء الأخرى ولم ينتقل من تجلي اسمٍ إلى آخر.

    فمثلا: إذا رأى أثرَ اسمِ الخالق القدير، ولم يرَ أثر اسم العليم، يسقط في ضلالة الطبيعة، لذا عليه أن يجول بنظره فيما حولَه ويرى أن الله هو هو، ويشاهد تجلّيه في كل شيء. وأن تسمع أذنُه من كل شيء: ﴿ قُلْ هُوَ اللّٰهُ اَحَدٌ ﴾ وينصت إليه. وأن يردد لسانُه دائما: لا إله إلّا الله، ويعلن «لآ إلَه إلّا هُو بَرَابَرْ ميزَنَدْ عَالَمْ».

    وهكذا يشير القرآن الكريم بهذه الآية الكريمة ﴿ اَللّٰهُ لَٓا اِلٰهَ اِلَّا هُوَۜ لَهُ الْاَسْمَٓاءُ الْحُسْنٰى ﴾ (طه: ٨) إلى الحقائق التي ذكرناها.

    فإن كنت تريد أن تشاهد تلك الحقائق الرفيعة عن قُرب، فاذهب إلى بحرٍ هائج، وإلى أرضٍ مهتزّة بالزلازل، وأسألهما: ما تقولان؟ ستسمع حتما أنهما يناديان: يا جليل.. يا جليل.. يا عزيز.. يا جبار... ثم اذهب إلى الفراخ والصغار من الحيوانات، التي تعيش في البحر أو على الأرض، والتي تُربّى في منتهى الشفقة والرحمة، وأسألها: ما تقولين؟ لابد أنّها تترنم: يا جميل.. يا جميل.. يا رحيم.. يا رحيم. ([1]) ثم أنصت إلى السماء كيف تنادي: يا جليل ذو الجمال! وأعِرْ سمعَك إلى الأرض كيف تردد: يا جميل ذو الجلال. وتصنّت للحيوانات كيف تقول: يا رحمن يا رزاق. واسأل الربيع، فستسمع منـه: يا حنان يا رحمن يا رحيم يا كريم يا لطيف يا عطوف يا مصوّر يا منوّر يـا محـسن يا مزيّن.. وأمثالَـها من الأسماء الكثيرة.

    واسأل إنسانا هو حقا إنسان، وشاهد كيف يقرأ جميعَ الأسماء الحسنى، فهي مكتوبة على جبهته، حتى إذا أنعَمْتَ النظرَ ستقرؤها أنت بنفسك. وكأن الكونَ كله موسيقى متناغمةُ الألحان لذكرٍ عظيم. فامتزاجُ أصغر نغمةٍ وأوطئها مع أعظم نغمةٍ وأعلاها ينتج لحنا لطيفا مهيبا.. وقس على ذلك..

    غير أن الإنسان مهما كان مظهرا لجميع الأسماء الحسنى إلّا أنّ تنوعَ الأسماء الحسنى أصبح سببا لتنوع الإنسان إلى حدٍ ما، كما هو الحال في تنوع الكائنات واختلاف عبادة الملائكة، بل قد نشأت من هذا التنوع شرائعُ الأنبياء المختلفة وطرائقُ الأولياء المتفاوتة ومشاربُ الأصفياء المتنوعة. فمثلا: إن الغالب في سيدنا عيسى عليه السلام هو تجلي اسم «القدير» مع الأسماء الأخرى، والمهيمنَ على أهل العشق هو اسم «الودود»، والمستحوذَ على أهل التفكر هو اسم «الحكيم».

    فلو أن رجلا كان عالما وضابطا وكاتبَ عدلٍ ومفتشا في دوائر الدولة في الوقت نفسِه، فإن له في كل دائرة من تلك الدوائر علاقةً وارتباطا ووظيفةً وعملا، وله أيضا أجرة ومرتّب ومسؤولية فيها، وله كذلك مراتبُ رُقيٍّ، فضلا عن وجود الحُسّاد والأعداء الذين يحاولون أن يعيقوا عملَه.. فكما أن هذا الرجل -وهذا شأنُه- يَظهر أمامَ السلطان بعناوين كثيرة مختلفة جدا، ويرى السلطان من خلال تلك العناوين المتنوعة، ويسأله العونَ والمدد بألسنة كثيرة، ويراجعه بعناوين كثيرة، ويستعيذ به في صور شتى كثيرة، خلاصا من شر أعدائه.

    كذلك الإنسانُ الذي حظيَ بتجليات أسماء كثيرة، وأنيطت به وظائف كثيرة، وابتُلي بأعداء كثيرين، يذكرُ كثيرا من أسماء الله في مناجاته واستعاذته. كما أن مدار فخر الإنسانية، وهو الإنسانُ الكامل الحقيقي، محمد ﷺ يدعو الله ويستعيذ به من النار بألفِ اسم واسم في دعائه المسمى بالجوشن الكبير.

    ن هذا السر نجد القرآن يأمر بالاستعاذة بثلاثة عناوين، وذلك في سورة الناس: ﴿ قُلْ اَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِۙ ❀ مَلِكِ النَّاسِۙ ❀ اِلٰهِ النَّاسِۙ ❀ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِۙ .. ﴾ ويبين في ﴿ بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ ﴾ الاستعانة بثلاثة أسماء من أسمائه الحسنى.

    الغصن الثاني

    يبين سرّين يتضمنان مفاتيحَ أسرار كثيرة

    السر الأول

    لِمَ يختلف الأولياءُ كثيرا في مشهوداتهم وكشفياتهم مع أنهم يتفقون في أصول الإيمان، إذ تظهر أحيانا كشوفُهم التي هي في درجة الشهود مخالِفةً للواقع ومجانبةً للحق؟ ولماذا يرى ويبيّن أصحابُ الفكر وأربابُ النظر الحقيقةَ متناقضةً في أفكارهم، رغم إثبات أحقيتها بالبرهان القاطع لدى كلِّ واحد منهم؟ فِلمَ تتلون الحقيقةُ الواحدة بألوان شتى؟

    لماذا ترك الأنبياء السابقون عليهم السلام قسما من أركان الإيمان، كالحشر الجسماني، على شيء من الإجمال، ولم يفصّلوه تفصيلا كاملا كما هو في القرآن الكريم. حتى ذهب -فيما بعد- قسم من أمَمِهم إلى إنكار تلك الأركان المُجملة؟ ثم لماذا تقدَّم قسم من الأولياء العارفين الحقيقيين في التوحيد فحسب، حتى بلغوا درجةَ حق اليقين، مع أن قسما من أركان الإيمان يبدو مجملا في مشاربهم أو يتراءى نادرا، بل لأجل هذا لم يُولِ مُتَّبعُوهم فيما بعدُ تلك الأركانَ الاهتمام اللازم، بل قد زاغ بعضُهم وضَلَّ.

    فما دام الكمال الحقيقي يُنال بانكشاف أركان الإيمان كلِّها، فلماذا تقدَّم أهلُ الحقيقة في بعضها بينما تخلّفوا في بعضها الآخر. علما أن الرسول الكريم ﷺ وهو إمامُ المرسلين الذي حظيَ بالمراتب العظمى للأسماء الحسنى كلها، وكذا القرآنُ الحكيم الذي هو إمام جميع الكتب السماوية، قد فصّلا أركان الإيمان كلَّها تفصيلا واضحا جليا وبأسلوب جاد ومقصود؟

    الجواب: نعم، لأن الكمالَ الحقيقي الأتمَّ هو هكذا في الحقيقة.

    وحكمة هذه الأسرار هي على النحو الآتي: إن الإنسان على الرغم من أن له استعدادا لبلوغ الكمالات كلِّها ونيلِ أنوار الأسماء الحسنى جميعِها فإنه يتحرى الحقيقةَ من خلال ألوفِ الحُجب والبرازخ، إذ اقتدارُه جزئي، واختيارُه جزئي، واستعداداته مختلفة ورغباته متفاوتة. ولأجل هذا تتوسط الحُجبُ والبرازخ لدى انكشاف الحقيقة، وفي شهود الحق؛ فبعضُهم لا يستطيع المرور من البرزخ. وحيث إن القابليات متفاوتة، فقابلية بعضهم لا تكون منشأً لانكشاف بعض أركان الإيمان.

    ثم إنّ ألوان تجليات الأسماء تتنوع حسب نيل المظاهر، وتُصبح متغايرةً، فلا يستطيع بعضُ مَن حظيَ بمظهر اسم من الأسماء أن يكون مدارا لتجليه تجليا كاملا، فضلا عن أنّ تجلي الأسماء تتخذ صورا مختلفة باعتبار الكلية والجزئية والظلية والأصلية. فيقصر بعضُ الاستعدادات عن اجتياز الجزئية والخروج من الظل. وقد يغلب اسم من الأسماء، حسب الاستعداد، فينفذُ حكمُه وحدَه، ويكون مهيمنا في ذلك الاستعداد. وهكذا، فهذا السر الغامض العميق وهذه الحكمة الواسعة، سنشير إليها ببضع إشارات ضمن تمثيل واسع تمازجُه الحقيقةُ إلى حد:

    فلنفرض «زهرةً» ذات نقوش، و«قطرةً» ذات حياة عاشقةً للقمر، و«رشحةً» ذات صفاء متوجهة نحو الشمس، بحيث إن لكلٍ منها شعورا، ولكلٍ منها كمالا، وشوقا نحو ذلك الكمال. فهذه الأشياء الثلاثة تشير إلى حقائق كثيرة، فضلا عن إشاراتها إلى سلوك النفس والعقل والروح، وهي أمثلة لثلاث طبقات لأهل الحقيقة: ([2])

    أولاها: أهل الفكر، وأهل الولاية، وأهل النبوة.. فهذه الأشياء تشير إلى هؤلاء.

    ثانيتها: السالكون إلى الحقيقة سعيا لبلوغ كمالهم بأجهزة جسمانية..

    (أي عن طريق الحواس). والماضون إلى الحقيقة بالمجاهدة بتزكية النفس وإعمال العقل..

    والسائرون إلى الحقيقة بتصفية القلب والإيمان والتسليم.. فهذه الأشياء أمثلة لهؤلاء.

    ثالثتها: الذين حصروا السلوكَ إلى الحقيقة باستدلالهم، ولم يدَعوا الأنانيةَ والغرور، وأوغلوا في الآثار.

    والذين يتحرّون الحقيقةَ بالعلم والحكمة والمعرفة.

    والذين يصلون إلى الحقيقة سريعا بالإيمان والقرآن والفقر والعبودية.

    فالأشياء الثلاثة تمثيلات، تشير إلى حكمة الاختلاف في الطوائف الثلاث المتفاوتة في الاستعدادات.

    فالسر الدقيق والحكمة الواسعة التي يتضمنها رقيّ هذه الطبقات الثلاث، نحاول أن نبيّنها ضمن تمثيل وتحت عنــاويـــن «زهـــرة» و«قطرة» و«رشـــحة».

    فمثلا: للشمس -بإذن خالقها وبأمره- أنواع ثلاثة مختلفة من التجلي والانعكاس والإفاضة.

    أحدها: على الأزهار.

    والآخر: على القمر والكواكب السيارة.

    وآخر: على المواد اللماعة كالزجاج والماء.

    فالأول: من هذا التجلي والإفاضة والانعكاس على أوجه ثلاثة:

    الأول: تجلٍّ كلي وانعكاس عمومي، وهو أفاضتُها على جميع الأزهار.

    الثاني: تجلٍ خاصٍ، وهو انعكاس خاص حسب كل نوع.

    الثالث: تجل جزئي، وهو إفاضة حسب شخصية كل زهرة.

    هذا وإنّ مثالنا مبني على الرأي القائل بأن الألوان الزاهية للأزهار إنما تنشأ من انعكاس تحلل الألوان السبعة لضياء الشمس. وبناءً على هذا القول فالأزهار أيضا نوع من مرايا الشمس.

    ثانيها: هو الفيض والنور الذي تعطيه الشمسُ القمرَ والكواكبَ السيارة، بإذن الفاطر الحكيم. فالقمر يستفيد من النور -الذي هو في حُكم ظلٍّ لضياء الشمس- استفادة كلية، بعد أن أفيض عليه هذا الفيضُ الكلي والنور الواسع، وبعد ذلك يفيد القمرُ فيفيضُ بالنور بشكل خاص على البحار والهواء والتراب اللامع، ويفيضُ بصورة جزئية على حبابات الماء ودقائقِ التراب وذرات الهواء.

    ثالثها: هو انعكاس للشمس، بأمر إلهي، انعكاسا صافيا كليا بلا ظلٍ، بحيث يجعل كلا من جو الهواء ووجه البحار مرايا.. ثم إن تلك الشمس تعطي صورتَها الجزئية وتمثالَها المصغر إلى كلٍّ من حبابات البحار وقطرات الماء ورشحات الهواء وبلورات الثلج.

    وهكذا فالشمس، في الجهات الثلاث المذكورة، لها إفاضة وتوجّه إلى كل زهرة، وإلى كل قطرة متوجهةٍ للقمر، وإلى كل رشحة، بطريقين اثنين في كل منها:

    الطريق الأول: إفاضة مباشرة بالأصالة، من دون المرور في البرزخ، وبلا حجاب.. هذا الطريق يمثّل طريق النبوة.

    الطريق الثاني: تتوسط فيه البرازخ، إذ قابليات المرايا والمظاهر تعطي لونا لتجليات الشمس.. هذا الطريق يمثل طريق الولاية.

    وهكذا، «فالزهرة» و«القطرة» و«الرشحة» كلّ منها تستطيع أن تقول في الطريق الأول: «أنا مرآة شمس العالَم أجمع». ولكنها لا تتمكن من أن تقولها في الطريق الثاني، بل تقول: «إنني مرآة شمسي» أو «إنني مرآة للشمس المتجلية على نوعي» لأنها تَعرف الشمس هكذا؛ إذ لا تستطيع أن ترى الشمسَ المتوجهة إلى العالَم كله؛ لأن شمسَ ذلك الشخص، أو نوعه، أو جنسه، تَظهر له ضمن برزخ ضيق وتحت قيد محدود. فـلا يستطيع أن يمنح تلك الشمسُ المقيّدة آثارَ الشمس المطلقة بلا قيد ولا برزخ. أي لا يستطيع أن يمنح بشهودٍ قلبي دفءَ وجه الأرض قاطبة وتنويرَه وتحريكَ حياة الحيوانات والنباتات جميعِها وجعْلَ السيارات تجري حولها.. وأمثالها من الآثار الجليلة المهيبة، لا يستطيع منحَ تلك الشمس الآثارَ التي شاهدها ضمن ذلك القيد الضيق والبرزخ المحدود.

    وحتى لو مَنحَت الأشياءُ الثلاثة -التي فرضناها ذات شعور- الشمسَ تلك الآثارَ العجيبة التي تشاهدها تحت ذلك القيد، فإنها يمكنها أن تمنحَها بوجهٍ عقلي وإيماني بحت، وبتسليم تام من أن تلك المقيّدة هي المطلقة ذاتها. فتلك «الزهرة والقطرة والرشحة» التي فرضناها شبيهةً بالإنسان العاقل، إسنادُها هذه الأحكامَ (أي الآثار العظيمة) إلى شموسها إسناد عقلي لا شهودي.. بل قد تتصادم أحكامُها الإيمانية مع مشهوداتها الكونية، فتصدّق بصعوبة بالغة.

    وهكذا فعلينا نحن الثلاثة الدخولَ إلى هذا التمثيل الممتزج بالحقيقة، والذي يضيق بها ولا يسعها، وتشاهَد في بعض جوانبه أعضاءُ الحقيقة:

    سنفرض أنفسنا نحن الثلاثة «الزهرة» و«القطرة» و«الرشحة». إذ لا يكفي ما افترضناه من شعور فيها، فنلحِق بها عقولَنا أيضا. أي أن ندرك أن تلك الثلاثة مثلما تستفيض من شمسها المادية، فنحن كذلك نستفيض من شمسنا المعنوية.

    فأنت أيها الصديق الذي لا ينسى الدنيا ويوغل في الماديات وقد غلُظتْ نفسُه وتكاثفت! كن «الزهرةَ». لأن استعدادك شبيه بها، إذ إن تلك الزهرة تأخذ لونا قد تحلل من ضياء الشمس وتمزِج مثالَ الشمس من ذلك اللون، وتتلون به في صورة زاهية.

    أما هذا الفيلسوف الذي درس في المدارس الحديثة، والمعتقد بالأسباب، والذي يشبهُه «سعيد القديم»، فليكن «القطرةَ» العاشقة للقمر، الذي يمنحها ظلُّ الضياء المستفاد من الشمس فيُعطي عينَها نورا فتتلألأ به.. ولكن «القطرة» لا ترى بذلك النور إلّا القمر، ولا تستطيع أن ترى به الشمس، بل يمكنها رؤية الشمس بإيمانها.

    ثم إن هذا الفقير الذي يعتقد أنّ كل شيء منه تعالى مباشرة، ويعدّ الأسباب حجابا، ليكن هو «الرشحة»، فهي رشحة فقيرة في ذاتها، لا شيء لها كي تستند إليه وتعتمد عليه كالزهرة، وليس لها لون كي تشاهَد به، ولا تعرف أشياءً أخرى كي تتوجه إليها. فلها صفاء خالص يخبئ مثالَ الشمس في بؤبؤ عينها.

    والآن، ما دمنا قد حللنا مواضعَ هذه الثلاثة، علينا أن ننظر إلى أنفسنا، لنرى ماذا بنا؟ وماذا نعمل؟

    فها نحن ننظر، وإذا بالكريم يُسبغ علينا نِعَمه وإحسانَه، فينوّرنا ويربينا ويجمّلنا. والإنسان عبد الإحسان، ويسأل القربَ ممن يستحق العبادة والمحبة، ويطلب رؤيته، لذا فكلّ منا يسلك حسب استعداده بجاذبة تلك المحبة.

    فيا من يشبه «الزهرة» أنت تمضي في سلوكك، ولكن امضِ وأنت زهرة.. وها قد مضيت، وقد ترقيت تدريجيا حتى بلغتَ مرتبةً كلية، كأنك أصبحت بمثابة كل الأزهار. بينما الزهرة مرآة كثيفة. فألوان الضياء السبعة تنكسر وتتحلل فيها، فتُخفي صورةَ الشمس المنعكسة، فلن توفَّق إلى رؤية وجه محبوبك الشمسِ، لأن الألوان المقيّدة، والخصائص، تُشتت ضوءَ الشمس وتسدل الحجابَ دونه، فيحجُب ما وراءه. فأنت في هذه الحالة لن تنجو من الفراقات الناشئة من توسّط الصوَر والبرازخ.

    ولكن النجاة بشرط واحد هو: أن ترفع رأسك السارح في محبة نفسِك، وتكفّ نظرَك المستمتع بمحاسن نفسِك والمغترّ بها، وتجعله يحدق في وجه الشمس التي هي في كبد السماء. ثم تحوّل وجهَك المنكبّ على التراب، يسأل الرزق، إلى الشمس في علاها؛ ذلك لأنك مرآة لتلك الشمس، ووظيفتُك مرآتية وإظهار لتجليها. أما رزقُك فسيأتيك من باب خزينة الرحمة، التراب، سواء أعلمتَ أمْ لم تعلم. نعم، كما أنّ الزهرة مرآة صغيرة للشمس، فإن هذه الشمس الضخمة أيضا هي مرآة كقطرة في بحر السماء، تعكس لمعةً متجلية من اسم الله «النور». فأدرِكْ يا قلبَ الإنسان مِن هذا ما أعظم الشمسَ التي أنت مرآتُها!

    فبعدما أنجزتَ هذا الشرط تجد كمالَك، ولكن لن ترى الشمسَ بذاتها وفي نفس الأمر، بل لا تُدرك تلك الحقيقةَ مجرّدةً، إذ ألوانُ صفاتك تعطيها لونا، ومنظارُك الكثيف يُلبسها صورة، وقابليتُك المقيدة يحددها تحت قيد.

    والآن أيها الفيلسوف الحكيم الداخل في «القطرة»! إنك بمنظار قطرةِ فكرِك وسُلَّمِ الفلسفة رقيتَ وصعدتَ حتى بلغت القمرَ. ودخلت القمر. انظر، القمرُ في ذاته كثيف مظلم، لا ضياء له ولا حياة. فقد ذهب سعيُك هباءً وعلمُك بلا جدوى ولا نفع.

    فإنك تَقدر أن تنجو من ظلمات اليأس ووحشة الغربة وإزعاجات الأرواح الخبيثة بهذه الشروط، وهي: أنك إن تركتَ ليلَ الطبيعة وتوجّهت إلى شمس الحقيقة، اعتقدتَ يقينا أنّ أنوار الليل هذا هي ظلالُ ضياء شمس النهار.

    فإن وفيتَ بهذا الشرط تجد كمالَك، فتجد الشمس المهيبة بديلَ قمرٍ فقير معتم. ولكنك أيضا مثلَ صديقِك الآخر لن ترى الشمسَ صافية، وإنما تراها وراء ستائر آنسَها عقلُك وألِفَتْها فلسفَتُك، تراها خلف ما نسجها علمُك وحكمتُك من حُجب، تراها في صبغة أعطَتْها إياها قابليتُك.

    وهذا صديقكم الثالث الشبيه بــ«الرشحة» فقير، عديمُ اللون، يتبخر بسرعة بحرارة الشمس، يدعُ أنانيَته ويمتطي البخارَ فيصعد إلى الجو، يلتهب ما فيه من مادة كثيفة بنار العشق، ينقلبُ بالضياء نورا، يمسك بشعاع صادر من تجليات ذلك الضياء ويقترب منه.

    فيا مثال الرشحة! ما دمت تؤدي وظيفة المرآة للشمس مباشرة، فكن أينما شئتَ من المراتب، فيمكنك أن تجد نافذةً نظّارة صافية تطلّ منها إلى عين الشمس بعين اليقين. فلا تعاني صعوبة في إسناد الآثار العجيبة للشمس إليها، إذ تستطيع أن تسند إليها أوصافَها المهيبة بلا تردد، فلا يمكن أن يمسك يدَك ويكفّك شيء قطعا عن إسناد الآثار المذهلة لسلطنتها الذاتية إليها. فلا يحيِّرُك ضيقُ البرازخ ولا قيدُ القابليات ولا صغرُ المرايا، ولا يسوقك إلى خلاف الحقيقة شيء من ذلك، لأنك صافٍ وخالص تنظر إليها مباشرة، ولذلك فقد أدركت أن ما يشاهَد في المظاهر ويُرى في المرايا ليس شمسا، وإنما نوع من تجلياتها وضرب من انعكاساتها المتلونة. وأن تلك الانعكاسات إنما هي دلائل وعناوين لها فحسب، ولكن لا يمكنها أن تُظهر آثارَ هيبتها جميعا.

    ففي هذا التمثيل الممتزج بالحقيقة يُسلَك إلى الكمال بطرق ثلاثة مختلفة متنوعة، فهم يتباينون في مزايا تلك الكمالات وفي تفاصيل مرتبة الشهود، إلّا أنهم يتفقون في النتيجة، وفي الإذعان للحق، وفي التصديق بالحقيقة.

    هذا، فكما أن إنسانا ليليا لم يشاهِد الشمسَ أصلا، وإنما يرى ظلالَها في مرآة القمر، لا يمكنه أن يمكّن في عقله ويستوعب هيبةَ الضياء الخاص بالشمس وجاذبتها العظيمة، وإنما يقلد مَن رآها ويستسلم لهم؛

    كذلك مَن لم يبلغ بالوراثة النبوية المرتبةَ العظمى لاسمَي «القدير» و«المحيي» وأمثالهما من الأسماء يرى الحشر الأعظم والقيامة الكبرى ويقبلها تقليدا، قائلا: إنها ليست مسألة عقلية. لأن حقيقة الحشر والقيامة مظاهر لتجلي الاسم الأعظم والمراتب العظمى لقسم من الأسماء. فمن لم يرقَ نظرُه إلى تلك المرتبة يضطر إلى التقليد. بينما مَن نفذ فكرُه إلى هناك يرى الحشر والقيامة سهلةً كسهولة تعاقب الليل والنهار والشتاء والصيف، فيرضى بها مطمئنّ القلب.

    وهكذا فمن هذا السر، يذكر القرآنُ الكريم الحشرَ والقيامة في أعظم مرتبة وفي أكمل تفصيل، وهكذا يرشد إليهما الرسول الأعظم ﷺ الذي حظيَ بأنوار الاسم الأعظم. أما الأنبياءُ السابقون عليهم السلام فلم يبينوا الحشر في أعظم درجة وأوسع تفصيل بل بشيء من الإجمال، وذلك بمقتضى حكمة الإرشاد حيث كانت أممُهم على أحوال ابتدائية بسيطة.

    ومن هذا السر أيضا لم يرَ قسم من الأولياء بعض أركان الإيمان في مرتبته العظمى أو عجزوا عن أن يبيّنوه هكذا.

    ومن هذا السر أيضا تتفاوت كثيرا درجاتُ العارفين في معرفة الله.

    وهكذا تنكشف من هذه الحقيقة أسرار كثيرة أمثال هذه.

    والآن نكتفي بالتمثيل، لأنه يُشعر إلى حدٍ ما بالحقيقة، إذ الحقيقة واسعة جدا وعميقة جدا، ولا نتدخل بما هو فوق حدّنا من أسرار وبما لا طاقة لنا به.

    الغصن الثالث

    نظرا لشيء من الغموض الذي يكتنف فهمَ قسمٍ من الأحاديث الشريفة التي تبحث في «علامات الساعة وأحداثها» وفي «فضائل الأعمال وثوابها» فقد ضعّفها عدد من أهل العلم المعتدّين بعقولهم، ووضعوا بعضها في عِداد «الموضوعات» وتطرّف آخرون من ضعاف الإيمان المغرورين بعقولهم فذهبوا إلى إنكارها. ونحن هنا لا نريد أن نناقشهم تفصيلا، بل ننبّه إلى «اثني عشر» أصلا من الأصول والقواعد العامة التي يمكن الاستهداء بها في فهم هذه الأحاديث الشريفة موضوعة البحث.

    الأصل الأول

    وهو المسألة التي بينّاها في الجواب عن السؤال الوارد في نهاية «الكلمة العشرين» ومجملُها:

    أن الدين امتحان واختبار، يميّز الأرواحَ العالية من الأرواح السافلة؛ لذا يبحث في الحوادث التي سيشهدها الناسُ في المستقبل بصيغة ليست مجهولةً ومُبهمة إلى حد استعصاء فهمِها، وليست واضحةً وضوحَ البداهة التي لا مناص من تصديقها، بل يعرضها عرضا منفتحا على العقول، لا يُعجزها، ولا يسلب منها القدرةَ على الاختيار. فلو ظهرت علامة من علامات الساعة بوضوح كوضوح البديهيات، واضطر الناسُ إلى التصديق، لتساوى عندئذ استعداد فطري كالفحم في خساسته مع استعداد فطري آخر كالألماس في نفاسته، ولضاع سرُّ التكليف وضاعت نتيجةُ الامتحان سدى.

    فلأجل هذا ظهرت اختلافات كثيرة في مسائل عديدة، كمسائل المهدي ([3]) والسفياني ([4]) وصدرت أحكام متضاربة لكثرة الاختلاف في الروايات.

    الأصل الثاني

    للمسائل الإسلامية طبقات ومراتب، فبينما تحتاج إحداها إلى برهان قطعي، كما في مسائل العقائد، تكتفي الأخرى بغَلبة الظن، وأخرى إلى مجرد التسليم والقبول وعدم الرفض.

    لهذا لا يُطلَب برهان قطعي وإذعان يقيني في كل مسألة من مسائل الفروع أو الأحداث الزمانية التي هي ليست من أسس الإيمان، بل يُكتفى بالتسليم وعدم الرفض.

    الأصل الثالث

    لقد أسلم كثير من علماء بني إسرائيل والنصارى في عهد الصحابة الكرام، رضى الله عنهم، وحملوا معهم إلى الإسلام معلوماتهم السابقة، فأُخِذَ وَهماً غيرُ قليلٍ من تلك المعلومات السابقة المخالفة لواقع الحال كأنها من العلوم الإسلامية.

    الأصل الرابع

    لقد أُدرج شيء من أقوال الرواة، أو المعاني التي استنبطوها ضمن متن الحديث، فأخذت على علّاتها. ولما كان الإنسان لا يسلَم من خطأ، ظهر شيء من تلك الأقوال والاستنباطات مخالفا للواقع، مما سبّب ضعفَ الحديث.

    الأصل الخامس

    أعتبر بعض المعاني الملهَمة للأولياء وأهل الكشف من المحدِّثين على أنها أحاديث، بناء على أن في الأمة محدَّثين، ([5]) أي ملهَمين. ومن المعلوم أن إلهام الأولياء قد يكون خاطئا لبعض العوارض، فيمكن أن يظهر ما يخالف الحقيقةَ في أمثال هذا النوع من الروايات.

    الأصل السادس

    يشتهر بعضُ الحكايات بين الناس، فتجري تلك الحكاية مجرى الأمثال، والأمثالُ لا يُنظر إلى معناها الحقيقي، وإنما يُنظر إلى الهدف الذي يُساق إليه المَثَل، لهذا كان في بعض الأحاديث ذكرُ بعض ما تعارف عليه الناس من قصص وحكايات كنايةً وتمثيلا على سبيل التوجيه والإرشاد. فإن كان هناك نقص وقصور في المعنى الحقيقي في مثل هذه المسائل، فهو يعود إلى أعراف الناس وعاداتهم ويرجع إلى ما تسامعوه وتعارفوا عليه من حكايات.

    الأصل السابع

    هناك كثير من التشبيهات والتمثيلات البلاغية تؤخذ كحقائقَ مادية، إما بمرور الزمن أو بانتقالها من يد العلم إلى يد الجهل، فيقع الناسُ في الخطأ من حسبان تلك التشبيهات حقائقَ مادية.

    فمثلا: إن المَلَكين المسمَيين بالثور و الحوت، والمتمثلين على صورتَيهما في عالَم المثال، وهما من ملائكة الله المُشرفة على الحيوانات البرية والبحرية، قد تحولا إلى ثورٍ ضخم وحوتٍ مجسم في ظن الناس وتصورهم الخاطئ، مما أدى إلى الاعتراض على الحديث. ([6])

    ومثلا: سُمع صوت في مجلس الرسول ﷺ، فقال: هذا صوتُ حجرٍ يهوي في جهنم منذ سبعين خريفا فالآن حين انتهى إلى قعرها ([7]) فالذي يسمع بهذا الحديث ولم تتبين له الحقيقة ينكره، فيزيغ، ولكن إذا علم ما هو ثابت قطعا، أنه بعد فترة وجيزة جاء أحدهم فأخبر النبي ﷺ أن المنافق الفلاني المشهور قد مات قبل هنيهة، عندئذ يتيقن أنّ الرسول ﷺ قد صوَّر ببلاغته النبوية الفائقة ذلك المنافق الذي دخل السبعين من عمره كحجرٍ يتدحرج إلى قعر جهنم، حيث إن حياته كلها سقوط إلى الكفر وتردٍّ إلى أسفل سافلين، وقد أسمعَ الله سبحانه ذلك الصوت في لحظة موت ذلك المنافق وجعلَه علامة عليه.

    الأصل الثامن

    يُخفي الحكيمُ العليم في دار الامتحان وميدان الابتلاء هذا، أمورا مهمة جدا بين ثنايا كثرةٍ من الأمور. وترتبط بهذا الإخفاء حِكم كثيرة ومصالحُ شتى.

    فمثلا: قد أخفى سبحانه وتعالى «ليلة القدر» في شهر رمضان، و«ساعة الإجابة» في يوم الجمعة، و«أولياءَه الصالحين» بين مجاميع البشر، و«الأجل» في العمر، و«قيام الساعة» في عمر الدنيا.. وهكذا، فلو كان أجَلُ الإنسان معينا ومعلوما وقتُه، لقضى هذا الإنسان المسكين نصفَ عمره في غفلة تامة، ونصفَه الآخر مرعوبا مدهوشا كمن يُساق خطوة خطوة نحو حبل المشنقة. بينما تقتضي المحافظةُ على التوزان المطلوب بين الدنيا والآخرة ومصلحةُ بقاء الإنسان معلقا قلبُه بين الرجاء والخوف، أن تكون في كل دقيقة تمرّ بالإنسان إمكانُ حدوثِ الموت أو استمرارِ الحياة.. وعلى هذا يُرجَّح عشرون سنة من عمر مجهولِ الأجَل على ألف سنة من عُمر معلوم الأجل.

    وهكذا فقيامُ الساعة، هو أجَلُ هذه الدنيا، التي هي كإنسان كبير، فلو كان وقتُه معينا ومعلنا لمضت القرون الأولى والوسطى سادرةً في نوم الغفلة، بينما تظل القرون الأخيرة في رعب ودهشة؛ ذلك لأن الإنسانَ وطيدُ العلاقة بحياة مسكَنه الأكبر وبلده الأعظم، الدنيا، بحكم حياته الاجتماعية والإنسانية مثلما يرتبط بمسكنِه وبلده بحُكم حياته اليومية والشخصية.

    نفهم من هذا أن القرب المذكور في الآية الكريمة: ﴿ اِقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ﴾ لا يناقضُه مرورُ ألف سنة ونيف، إذ الساعةُ أجَلُ الدنيا. وما نسبةُ ألفِ سنة أو ألفين من السنين إلى عمر الدنيا إلّا كنسبة يومٍ أو يومين أو دقيقة ودقيقتين إلى سني العمر.

    وكذلك لا ينبغي أن يغيب عن بالنا أنّ يوم القيامة ليس أجَلَ الإنسانية فحسب حتى يُقاس قربُه وبُعدُه بمقياس عمرها، بل هو أجَلُ الكائنات والسماوات والأرض ذات الأعمار المهولة التي تندّ عن القياس والحساب.

    ولأجل هذا فقد أخفى الحكيمُ العليم موعدَ قيام الساعة في علمه بين المغيّبات الخمسة، وكان من حكمة الإخفاء هذا أن يخشى الناسُ في جميع العصور قيامَ الساعة، حتى الصحابة الكرام رضوان الله عليهم كانوا أشدّ خشية من قيامها في زمنهم من غيرهم، مع أنهم كانوا يعيشون في خير القرون، وهو قرن السعادة وانجلاء الحقائق، بل قال بعضُهم: إنّ أشراط الساعة وعلاماتِها قد تحققت.

    فالذين يجهلون حكمةَ الإخفاء وحقيقته في الوقت الحاضر يقولون ظلما: كيف ظن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم قربَ وقوع حقيقة مهمة وخطيرة ستأتي بعد ألفٍ وأربعمائة سنة، ظنوها قريبةً في عصرهم. علما بأنهم كانوا أقدرَ المسلمين وأفضلَهم في إدراك معاني الآخرة، وأحدَّ المؤمنين بصيرة وأرهفهم حسا بإرهاصات ما سيأتي به الزمن؟ لكأن فكرَهم قد حاد عن الحقيقة ألف سنة!

    الجواب: لأن الصحابة الكرام -رضي الله عنهم أجمعين- كانوا أكثرَ الناس تفكرا بالآخرة، وأرسخَهم يقينا بفناء الدنيا، وأوسعَهم فقها بحكمة إخفاءِ الله سبحانه لوقت القيامة، وذلك بفضل نور الصحبة النبوية وفيضها عليهم، لذا كانوا منتظرين أجَل الدنيا، متهيئين لموتها كمن ينتظر أجَله الشخصى، فسعوا لآخرتهم سعيا حثيثا.

    ثم إن تكرار الرسول ﷺ «.. فانتظروا الساعة» (انظر: البخاري، العلم ٢، الرقاق ٣٥؛ أحمد بن حنبل، المسند ٣٦١/٢.) نابع من هذه الحكمة حكمة الإخفاء والإبهام وفيه إرشاد نبوي بليغ، وليس تعيينا لموعد الساعة بالوحي، حتى يُظن بُعده عن الحقيقة، إذ الحكمةُ شيء يختلف عن العلة. وهكذا فالأحاديث الشريفة التي هي من هذا القبيل نابعة من حكمة الإخفاء والإبهام.

    وبناء على هذه الحكمة نفسِها، فقد انتظر الناسُ منذ زمن مديد، بل منذ زمن التابعين، ظهور المهدي والدجال السفياني، على أمل اللحاق بهم، حتى قال قسم من الأولياء الصالحين بفوات وقتهم!

    فالحكمةُ في عدم تعيين أوقات ظهورهم هي الحكمة نفسُها في عدم تعيين يوم القيامة. وتتلخص بما يأتي: إن كل وقت وكل عصر بحاجة إلى «معنى» المهدي الذي يكون أساسا للقوة المعنوية، وخلاصا من اليأس.

    فيلزم أن يكون لكل عصر نصيب من هذا المعنى. وكذلك يجب أن يكون الناس في كل عصر متيقظين وحذرين من شخصيات شرّيرة تكون على رأس النفاق وتقود تيارا عظيما من الشر، وذلك لئلا يرتخي عِنانُ النفس بالتسيّب وعدم المبالاة. فلو كانت أوقات ظهور المهدي والدجال وأمثالِهما من الأشخاص معينةً لضاعت مصلحةُ الإرشاد والتوجيه.

    أما سر الاختلاف في الروايات الواردة في حقهما فهو:

    أن الذين فَسّروا تلك الأحاديث الشريفة قد أدمجوا استنباطاتهم واجتهاداتهم الشخصية مع متن الحديث. كتفسيرهم أن وقائع المهدي وأحداث الدجال تقع حول الشام و البصرة و الكوفة حسب تصورهم؛ إذ كانت تلك المدن تقع حول مركز الخلافة يومئذ في المدينة المنورة والشام.

    أو أنهم فَسروا تلك الأحاديث بأن الآثار العظيمة التي تمثّل الشخصيةَ المعنوية لأولئك الأشخاص أو تقوم بها جماعاتُهم، تصوّروها ناشئةً من شخصيتهم الذاتية الفردية، مما أدى إلى أن يُفهم أن هؤلاء الأشخاص سيظهرون ظهورا خارقا للعادة، فيعرفهم جميعُ الناس، والحال -كما قلنا- أن الدنيا ميدان اختبار وامتحان، وأن الله تعالى عندما يختبر الإنسان لا يسلب منه الاختيارَ بل يفتح الباب أمام عقله؛ لذا فهؤلاء الأشخاص -أي الدجال والمهدي- لا يُعرفون من قِبَل كثير من الناس عند ظهورهم، بل لا يَعرف ذلك الدجال الرهيب نفسَه أنّه دجال بادئ الأمر، وإنما يعرفهم مَن ينظر إليهم بنور الإيمان النافذ إلى الأعماق.

    والدجال الذي هو من علامات الساعة قال عنه الرسول ﷺ أن يوما من أيامه كسنة ويوما كشهر ويوما كجمعة وسائر أيامه كأيامكم. ([8]) وأن الدنيا تسمع صوتَه، ويسيح في الأرض في أربعين يوما.

    فالذين لم ينصفوا قالوا: هذه الرواية ضرب من المحالات، وأنكروها. حاشَ لله، بل إن حقيقتَها -والعلم عند الله- هي الآتي: إن في الحديث الشريف إشارةً إلى ظهورِ شخص من جهة الشمال، الذي هو أكثفُ منطقة لعالم الكفر، يقود تيارا عظيما يتمخض عن المادية الجاحدة، ويدعو إلى الإلحاد وإنكار الخالق. فمعنى الحديث فيه إشارة إلى ظهور هذا الشخص من شمال العالم.

    وتتضمن هذه الإشارة رمزا حكيما وهو: أنّ الدائرة القريبة للقطب الشمالي تكون السنةُ فيها يوما وليلة، حيث إن ستة أشهر منها ليل والستةُ الأخرى نهار. أي يومُ الدجال هذا سنة واحدة كما ورد «يوم كسنة». فهذه إشارة إلى ظهوره قريبا من تلك الدائرة. أما المراد بـ«يوم كشهر» فهو أنه كلما تقدمنا من الشمال نحو مناطقنا يكون النهارُ أحيانا شهرا كاملا، حيث لا تغرب الشمسُ شهرا في الصيف. وهذه إشارة أيضا إلى تجاوز الدجال إلى عالم الحضارة بعد ظهوره في الشمال. وهذه الإشارة آتية من إسناد اليوم إلى الدجال.. وهكذا كلما اقتربنا نـزولا من الشمال إلى الجنوب نرى الشمسَ لا تغرب أسبوعا، إلى أن يكون الفرق في الشروق والغروب ثلاث ساعات، أي كأيامنا الاعتيادية. وقد كنتُ في مكان كهذا عندما كنتُ أسيرا في روسيا، فكانت الشمس لا تغرب أسبوعا في مكان قريب منا، حتى كان الناس يخرجون لمشاهدة المنظر الغريب للغروب.

    أمَّا بلوغُ صوت الدجال إلى أنحاء العالم، وأنه يطوف الأرضَ في أربعين يوما، فقد حلّتْهما أجهزة الراديو والمخابرة ووسائلُ النقل الحاضرة من قطارات وطائرات. فالذين أنكروا هاتين الحالتين من الملحدين بالأمس وعدّوهما من المحالات يرونَهما اليوم من الأمور العادية.

    أمَّا يأجوج ومأجوج والسد اللَّذانِ هما من علامات الساعة، فقد كتبتُ عنهما بشيء من التفصيل في رسالة أخرى، أحيل إليها، ([9]) أما هنا فأقول: إنّه مثلما دَمَّرتْ قبيلتا المانجور والمغول بالأمس المجتمعاتِ البشرية وكانوا السبب في بناء سد الصين، فهناك روايات تشير إلى أنه مع قُرب قيام الساعة ستسقط الحضارة الجديدة أيضا وتنهار تحت ضربات أقدام أفكارهم الإرهابية والفوضوية المُرعبة.

    وهنا يتساءل عدد من الملاحدة: أين هذه الطائفة من البشر، والتي قامت وستقوم بمثل هذه الأفعال؟

    الجواب: كما أنّ الجراد آفة زراعية تكتسح منطقة معينة في موسم معين، ثم تختفي تبعا لتبدل الموسم. فإنّ خواصَّ تلك الأجناس التي أبادتْ تلك المنطقة مخبوءة في حنايا بعضِ أفراد محدودين منها، فتظهر تلك الآفة نفسُها، بأمر إلهيّ، في موسم معيّن، وبكثرة ساحقة، أي إنّ حقيقة أجناسها تنـزوي ولا تضمحل، لتظهر من جديد في موسم معين.


    فكما أن الأمر هكذا في الجراد، فإن الأقوام الذين أشاعوا الفسادَ في العالم في وقت ما، سيظهرون عند موعد محدّد لهم لإهلاك البشرية بأمر إلهي وبمشيئته سبحانه، فيدمّرون الحضارة البشرية مرة أخرى، ولكن إثارتَهم وتحريكَهم سيكون بنمط آخر.

    ولا يعلم الغيب إلّا الله.

    الأصل التاسع

    إنّ حصيلة قسم من المسائل الإيمانية متوجهة إلى أمور تتعلق بهذا العالم الضيق المقيد، والقسمُ الآخر منها يرنو إلى العالم الأخروي الواسع الطليق. وحيث إن قسما من الأحاديث النبوية الواردة في فضائل الأعمال قد عبّر عنها الرسول الكريم ﷺ بأسلوب بلاغي يناسب الترغيب والترهيب، فقد ظن مَن لا يُنعم النظر أن تلك الأحاديث الشريفة تحمل مبالغة!. كلا، إنها جميعا لعَينُ الحق ومحضُ الحقيقة وليست فيها مبالغة قط.

    مثال: إن الذي يخرشُ أذهان المتعسفين ويثيرُها هو الحديث الآتي:

    «لو كانت الدنيا تعدِل عند الله جناحَ بعوضةٍ ما شَرب الكافرُ منها جُرعة ماء» . ([10]) أو كما قال. وحقيقتُه هي:

    أنّ كلمة «عند الله» تعبّر عن العالم الباقي، فالنورُ المنبثق من عالم البقاء، ولو بمقدار جناح بعوضة هو أوسعُ وأعمُّ، لأنه أبدي، من نور موقت ولو كان يملأ الأرض. أي إن الحديث لا يعقد موازنةً بين جناح البعوض والعالم الكبير، وإنما الموازنةُ هي بين دنيا كل فرد، محصورة في عمره القصير، وبين النور الدائم المشع، ولو بمقدار جناح بعوضة من الفيض الإلهي وإحسانه العميم.

    ثم إنّ الدنيا لها وجهان، بل ثلاثة أوجه:

    الأول: وجه كالمرآة تعكس تجليات الأسماء الحسنى.

    والثاني: وجه ينظر إلى الآخرة، أي أن الدنيا مزرعة الآخرة.

    أمَّا الثالث: فهو الوجه الذي ينظر إلى العدم والفناء، فهذا الوجه الأخير هو الدنيا غير المرضيّة عند الله، وهي المعروفة بدنيا أهل الضلالة.

    إذن فالدنيا المذكورة في الحديث الشريف ليست بالدنيا العظيمة التي هي كمرايا للأسماء الحسنى ورسائل صمدانية، ولا هي بالدنيـا التي هـي مزرعـة للآخرة. وإنما هي الدنيا التي هي نقيضُ الآخرة ومنشأ جميع الخطايا والذنوب ومنبع كل البلايا والمصائب، هي دنيا عبدَة الدنيا التي لا تعدِل ذرةً واحدةً من عالم الآخرة السرمدي الممنوح لعباد الله المؤمنين.

    فأين هذه الحقيقة الصادقة الصائبة من فهم أهل الإلحاد الظالمين لما ظنوه مبالغة؟!

    ومثال آخر: هو ما ذهب الملحدون وتمادوا فيه بتعسفهم حين ظنّوا أن ما ورد من الأحاديث الشريفة حول ثواب الأعمال وفضائل بعض السور في القرآن الكريم مبالغةً غير معقولة، بل حتى قالوا إنها محالة!

    فقد ورد -مثلا- أن سـورة «الفاتحة» لها ثواب القرآن، ([11]) وسورة «الإخلاص» تعدِل ثُلث القرآن، ([12]) وسورة «الزلزال» ربع القرآن، ([13]) وسورة «الكافرون» ربع القرآن ([14]) وسورة «يس» لها ثواب عشرة أمثال القرآن. ([15])

    فالذين لا يُنعِمون النظرَ وليس لهم إنصاف وتروٍّ يدّعون استحالة هذه الروايات! إذ يقولون: كيف تكون لسورة «يس» هذه الفضيلة وهي سورة من القرآن الكريم وهناك سور أخرى فاضلة؟!

    إن حقيقة هذه الروايات هي: أنّ لكل حرف من حروف القرآن الكريم ثوابا، وهو حسنة واحدة، ([16]) ولكن بفضل الله وكرمه يتضاعف ثوابُ هذه الحروف ويثمر حينا عشر حسنات، وأحيانا سبعين، وأخرى سبعمائة (كما في حروف آية الكرسي) ورابعة: ألفا وخمسمائة (كما في حروف سورة الإخلاص) وخامسة: عشرة آلاف حسنة (كقراءة الآيات في الأوقات الفاضلة وليلة النصف من شعبان) وسادسة: ثلاثين ألفا من الحسنات (كما في قراءة الآيات في ليلة القدر) فتتضاعف هذه الحسنات كما تتكاثر بذور الخشخاش. ويمكن فهمَ تضاعف الثواب إلى ثلاثين ألفا من الآية الكريمة: ﴿ خَيْرٌ مِنْ اَلْفِ شَهْرٍ ﴾ (القدر:٣).

    وهكذا فلا يمكن مقايسة ولا موازنة القرآن الكريم مع وجود هذا التضاعف العددي التصاعدي للثواب المذكور، وإنما يمكن ذلك مع أصل الثواب لبعض السور.

    ولنوضح ذلك بمثال: لنفرض أن مزرعةً زُرعت فيها ألفُ حبة من الذُرة، فلو أنبتت بعضُ حباتها سبعَ سنابل (عرانيس) في كل سنبلة مائة حبة، فإن حبة واحدة من الذرة تعدِل عندئذ ثُلثي ما في المزرعة. ولو فرضنا مثلا، أن حبة أخرى أنبتت عشر سنابل (عرانيس) في كل سنبلة منها مائةُ حبة، فإن حبةً واحدة عند ذلك تساوي ضعفَ الحبوب المزروعة أصلا.. وهكذا قس في ضوء هذا المثال.

    فالآن نتصور القرآن الكريم مزرعةً سماويةً نورانية مقدّسة، كلُّ حرف فيه مع ثوابه الأصلي بمثابة حبة واحدة، بغض النظر عن سنابلها، فإذا ما طبقتَ هذا على المثال السابق يمكنك معرفة فضائل السور التي وردتْ بحقها الأحاديث الشريفة، بمقارنتها بأصل حروف القرآن.

    مثال ذلك: إن حروف القرآن الكريم ثلاثمائة ألف وستمائة وعشرون حرفا، وحروفَ سورة الإخلاص مع البسملة تسع وستون حرفا، فثلاثة أضعاف تسع وستين تساوي مائتين وسبعة حروف. أي إن حسنات كل حرف من حروف سورة الإخلاص تقارب ألفا وخمسمائة حسنة.

    وكذلك إذا حسبتَ حروف سورة «يس» وأخذتَ النسبة بينها وبين مجموع حروف القرآن، وأخذنا التضاعف إلى عشرة أمثالها بنظر الاعتبار، نجد أن لكل حرف فيها ما يقارب من خمسمائة حسنة.

    فإذا قِسْتَ على هذا المنوال بقية ما ورد في فضائل السور في الأحاديث فستُدرك مدى كونها حقيقة صائبة لطيفة، ومدى بُعدها عن كل ما يومئ إلى المبالغة والإسراف في الكلام.

    الأصل العاشر

    قد يظهر أفراد من الناس لهم خوارق في الأعمال والأفعال، كما يحدث في أكثر طوائف المخلوقات. فإن كان الفرد الفذ هذا قد سبق الآخرين وبزّهم في الخير والصلاح، فسيكون مبعثَ فخرٍ لبني جنسه ومدارَ اعتزازهم، وإلّا فهو نذيرُ شؤم وبلاء عليهم. فكلّ من هؤلاء الأفذاذ ينبثُّ كشخصية معنوية في كل مكان في المجتمع، ويحاول الآخرون تقليده في أفعاله ويجدّون لبلوغ شأوه، وربما يبلغ واحد منهم مبلغَه في هذا الفعل أو ذاك. فالقضيةُ إذن من حيث المنطق هي قضية «ممكنة»، لإمكان وجود ذلك الفرد الخارق في كل مكان، وجودا مخفيا ومطلقا. أي إنه أصبح شخصا كليا بعَمله هذا، أي من الممكن أن يولّد هذا النوع من العمل نتيجة كهذه.

    فانظر في ضوء هذا المثال إلى أحاديث نبوية شريفة وردت بهذه المعاني: مَن صلى ركعتين كذا فله أجر حِجة. ([17]) أي ثواب ركعتين في أوقات معينة يقابل حِجة، هذه حقيقة ثابتة. فيجوز إذن أن تحمل كلُّ ركعتين من الصلاة بالكلية هذا المعنى، ولكن الوقوع الفعلي لهذا النوع من الروايات ليس دائما ولا كليا، حيث إن للقبول شرائطه المعينة. لذا تنتفي من أمثال هذه الروايات صفةُ الكلية والديمومة؛ فهي إما بالفعل موقتة مطلقة؛ أو هي قضية ممكنة، كلية. والكلية في أمثال هذه الأحاديث هي من حيث الإمكان الاعتباري،

    كما هو في: «الغيبة كالقتل». ([18]) أي يكون الفرد بالغيبة سما زعافا قاتلا. وكما هو في: «الكلمة الطيبة صدقة كعتق رقبة». ([19])
    

    والحكمة في إيراد هذه الأحاديث بهذه الصيغة هي: إبراز إمكانية وقوع هذه الصفة المعنوية الكاملة في كل مكان وفي صورتها المطلقة، لأنه أبلغُ في الترغيب والترهيب وأكثرُ حضا للنفوس على الخير وأشدُّ تجنيبا لها من الشر.

    ثم إنّ شؤون العالم الأبدي لا توزَن بمقاييس عالمنا الحاضر، إذ إنّ أضخم ما عندنا يمكن أن يكون أصغرَ شيء هناك ولا يوازيه. فثوابُ الأعمال نظرا لكونه يتطلع إلى ذلك العالم الأبدي فإن نظرتنا الدنيوية الضيقة تغدو قاصرةً دونه، فنعجز عن أن نستوعبه بعقولنا المحدودة.

    فمثلا: هناك رواية تُلفتُ أنظارَ من لا يدققون النظر ولا يُنصفون في أحكامهم. هي: «من قرأ هذا أعطي له مثل ثواب موسى، وهارون»، أي «الحمد لله ربّ السماوات ورب الأرضين رب العالمين وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم. الحمد لله رب السماوات ورب الأرضين رب العالمين وله العظمة في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم، وله الملك ربّ السماوات وهو العزيز الحكيم».

    فحقيقة أمثال هذه الأحاديث التي تثير الأذهان هي: أننا لا ندرك مدى الثواب الذي ينالُه نبيان عظيمان هما موسى وهارون عليهما السلام إلّا حسب تصوّرنا ووفق إطار فكرنا الضيق وضمن حدود نظرنا القاصر الدنيوي؛ لذا فحقيقة الثواب الذي يناله عبد عاجز مطلق العجز بقراءته ذلك الوِرد، من ربٍّ رحيم واسع الرحمة، في حياة خالدة أبدية، يمكن أن يكون مماثلا لذلك الثواب الذي تصوّرناه بعقولنا القاصرة للنبيين العظيمين، وذلك حسب دائرة علمنا وأفق تفكيرنا.

    مثَلُنا في هذا كمثل بدوي لم ير السلطان ولا يُدرك عظمتَه وأبّهته، وفي نظره المحدود وفكره الضيق، أن السلطان شخص كشيخ القرية أو أكبر منه بقليل. حتى لقد كان حوالينا -في شرقي الأناضول- قرويون سذّج يقـولون: إن السلطان يجلس قرب الموقد ويشرف على طبيخه بنفسه.. بمعـنى أن أقصى ما يتصوره البدويّ لعظمة السلطان لا يرقى إلى مستوى آمر فوج في الجيش.. فلو قيل لأحد هؤلاء: إذا أنجزتَ لي هذا العمل فسأكافئك برتبة السلطان (أي بمكانة آمر الفوج) فهذا القول حقيقة وصواب، حيث إن عظمة السلطان في ذهن السامع وفي فكره المحدود هي بمقدار عظمة آمر الفوج ليس إلّا.

    وهكذا فنحن لا نكاد نفهم حتى بمثل هذا البدوي الحقائق الواردة في ثواب الأعمال المتوجهة إلى الآخرة، بعقولنا الضيقة وبأفكارنا القاصرة وبنظرنا الدنيوي الكليل؛ إذ إن ما في الحديث الشريف ليس هو عقد لموازنة بين الثواب الحقيقي الذي ينالُه موسى وهارون عليهما السلام، والذي هو مجهول لدينا، وبين الثواب الذي يناله العبدُ الذاكر للورد؛ لأن قاعدة التشبيه هي قياسُ المجهول على المعلوم، أي إدراكُ حُكم المجهول من حُكم المعلوم. أي إن الموازنة هي بين ثوابهما «المعلوم» لدينا حسب تصوّرنا، والثواب الحقيقي للعبد الذاكر «المجهول» عندنا.

    ثم إنّ صورة الشمس المنعكسة من سطح البحر ومن قطرة ماء هي الصورةُ نفسها، والفرق في النوعية فقط. فكلاهما يعكسان صورةَ الشمس وضوءها، لذا فإن روح كلٍّ من موسى وهارون عليهما السلام التي هي مرآة صافية كالبحر تنعكس عليها من ماهية الثواب ما ينعكس على روح العبد الذاكر التي هي كقطرة ماء. فكلاهما ثواب واحد من حيث الماهية والكمية إلّا أن النوعية تختلف، إذ تتبع القابلية.

    ثم إنّ ترديد ذكرٍ وتسبيح معين، أو تلاوة آية واحدة قد تفتح من أبواب الرحمة والسعادة ما لا تفتحه عبادةُ ستين سنة، أي إن هناك حالات تمنح فيها آية واحدة من الفوائد ما للقرآن الكريم كله.

    ثم إنّ الفيوضات الربانية المتجلية على الرسول الكريم ﷺ بتلاوته آية واحدة قد تكون مساوية لفيض إلهي كامل على نبي آخر؛ إذ هو ﷺ موضع تجلي الاسم الأعظم. فإذا قيل إنّ العبد الذاكر قد تعرض إلى نفحةٍ من ظل الاسم الأعظم بفضل وراثة النبوة ونال ثوابا بها بمقدار قابليته، بقدر الفيض الإلهي على نبي آخر، فليس في قوله خلاف للحقيقة قط.

    ثم إنّ الثواب والأجر من عالم النور الخالد، الذي يمكن أن ينحصر عالم منه في ذرة واحدة، بمثل انحصار صـورةِ السماوات بنجـومـها في قطـعـة صغيرة من زجاج ورؤيتها فيها. وهكذا فقراءةُ آية واحدة أو ذكر معين بنيةٍ خالصة يمكن أن تولّد شفافيةً في الروح -كالزجاج- تستطيع أن تستوعب ثوابا نورانيا كالسماوات الواسعة.

    النتيجة: أيها الناظر إلى كل شيء بعين النقد والتجريح ومن دون تدقيق، ويا ذا الإيمان الواهي والفكر المملوء بالفلسفة المادية! أنصِفْ قليلا! أدِم النظرَ في هذه الأصول العشرة، وإياك أن تمدّ إصبع اعتراضك إلى الأحاديث الشريفة وبدورها إلى ما يخل بمرتبة عصمة النبوة للرسول الكريم ﷺ بحُجةِ ما تراه في روايةٍ من خلاف قطعي للواقع ومنافاة للحقيقة.

    فهذه الأصول العشرة، وميادين تطبيقها تجعلك تتخلى عن الإنكار، وتكفّك عن الرفض أولا. ثم تخاطبك: إن كان هناك تقصير حقيقي، فهذا راجع إلينا (أي إلى الأصول) وليس إلى الحديث الشريف قطعا. وإن لم يكن ثمة تقصير حقيقي فهو يعود إلى سوء فهمك أنت!

    وحاصل الكلام: إن من يسترسل في الإنكار والرفض، عليه أن يفنّد الأصول العشرة المذكورة وإلّا فلا يستطيع الإنكار. فإن كنت منصفا حقا فتأمل جيدا في هذه الأصول العشرة، ومن بعدها لا تنهض لإنكار حديث نبوي يراه عقلُك مخالفا للحقيقة، بل قل: ربما هناك تفسير له، أو تأويل، أو تعبير، وَدَعِ الاعتراض!

    الأصل الحادي عشر

    كما أنّ في القرآن الكريم آياتٍ متشابهاتٍ تحتاج إلى تأويل أو تطلب التسليمَ المطلق، كذلك في الحديث الشريف مشكلات تحتاج أحيانا إلى تفسير وتعبير دقيقين. ويمكنك الاكتفاء بالأمثلة المذكورة.

    نعم، إن اليَقِظَ يستطيع أن يعبّر عن رؤيا النائم، بينما النائمُ الذي يسمع مَن حوله من اليقظين قد يطبق كلامَهم بشكل ما في منامه، فيعبّر عنه بما يلائمه في النوم.

    فيا أيها المنوَّم بالغفلة والفلسفة المادية، ويا عديمَ الإنصاف! إنّ الذي يقول الله تعالى في حقه: ﴿ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغٰى ﴾ (النجم:١٧) والذي يقول عن نفسه «تنامُ عيناي ولا ينامُ قلبي» 21 هو اليقظان الحقيقي. فلا تُنكِر ما يراه هو، بل عَبّر عنه وجِدْ تعبيرا له في رؤياك، والتمس له تفسيرا. إذ لو لسعتْ بعوضة شخصا نائما، فإن آثار ذلك تظهر عليه وكأنه قد جُرح في الحرب. وإذا ما استُفسر عنه بعد صحوِه، فسيقول: نعم كنت في حرب دامية والمدافع مصوّبة نحوي! بينما اليقظون الذين حولَه يأخذون اضطرابه هذا مأخذَ الاستهزاء. فنظرُ الغفلة المنوِّمة وفكرُ الفلسفة المادية لا يمكن أن يكونا قطعا مَحَكَّا للحقائق النبوية.

    الأصل الثاني عشر

    إنّ نظر النبوة والتوحيد والإيمان يرى الحقائق في نور الألوهية والآخرة ووحدة الكون، لأنه متوجّه إليها. أما العلمُ التجريبي والفلسفة الحديثة فإنّه يرى الأمور من زاوية الأسباب المادية الكثيرة والطبيعة، لأنه مُتوَجّه إليها. فالمسافة إذن بين زاويتي النظر بعيدة جدا. فرُبّ غايةٍ عظيمةٍ جليلة لدى أهل الفلسفة تافهةٌ وصغيرة لا تكاد ترى بين مقاصد علماء أصول الدين وعلم الكلام.

    ولهذا فقد تقدم أهلُ العلم التجريبي كثيرا في معرفة خواص الموجودات وتفاصيلها وأوصافها الدقيقة، في حين تخلّفوا كثيرا حتى عن أبسط المؤمنين وأقلِّهم علما في مجال العلم الحقيقي وهو العلوم الإلهية السامية والمعارف الأخروية.

    فالذين لا يدركون هذا السرّ، يظنون أنّ علماء الإسلام متأخرون عن علماء الطبيعة والفلاسفة. والحال أن من انحدرت عقولُهم إلى عيونهم وأصبحوا لا يفكرون إلّا بما يرون، وغرقوا في الكثرة من المخلوقات، أنّى لهم الجُرأة ليلحقوا بوَرثة الأنبياء عليهم السلام الذين بلغوا المقاصد الإلهية السامية وغاياتها الرفيعة العالية.

    ثم إن الرؤية إن كانت من زاويتين مختلفتين، فلاشك من ظهور حقيقتين متباينتين، وقد تكون كلتاهما حقيقة. وحتما لا تتعارض حقيقة علمية قاطعة مع حقائق النصوص القرآنية المقدسة، إذ اليدُ القصيرة للعلم التجريبي قاصرة عن بلوغ أهدابِ طرفٍ من حقائق القرآن الرفيعة المنـزّهة. وسنورد مثالا واحدا فقط على هذا:

    حقيقة الكرة الأرضية في نظر أهل العلم هي: أنها إحدى السيارات ذات الحجم المتوسط، تدور حول الشمس، وهي جِرم صغير قياسا بالكواكب والنجوم التي لا تعد ولا تحصى. أما إذا نظرنا إلى الكرة الأرضية بنظر أهل القرآن، فحقيقتُها هي كما وضحّتها «الكلمة الخامسة عشرة»:

    إنّ الإنسان الذي هو ألطفُ ثمرة للعالم، ومعجزة جامعة من معجزات القادر الحكيم، وأبدعُ المخلوقات وأعزُّها وألطفُها، مع أنه أعجزُها وأضعفُها.. هذا الإنسان يعيش على هذه الأرض، فالأرض إذن مهد لهذا الإنسان، فهي مع صغرها وحقارتها قياسا إلى السماوات عظيمة وجليلة من حيث المعنى والمغزى والإبداع؛ حتى أصبحت بالمنظور القرآني: قلبَ الكون ومركزَه من حيث المعنى.. ومعرضَ جميع المصنوعات المعجزة.. وموضعَ تجلي الأسماء الحسنى كلها، حتى لكأنها البؤرةُ الجامعة لتلك الأنوار.. ومحشرُ الأفعال الربانية المطلقة ومرآتُها.. وسوق واسعة لإبراز الخلاقية الإلهية المطلقة، ولا سيما إيجادُها الكثرة الهائلة من النباتات والحيوانات الدقيقة بكل جود وكرم.. ونموذج مصغّر لمصنوعات عالم الآخرة الواسع الفسيح.. ومصنع يعمل بسرعة قصوى لإنتاج منسوجات خالدة.. وموضعُ عرض لنماذج المناظر السرمدية المتبدلة بسرعة فائقة.. ومزرعة ضيقة مؤقتة لاستنبات بُذيرات تُربّى بسرعة للبساتين الخالدة الرائعة.

    لهذا كلّه يجعل القرآنُ الكريم الأرضَ صنوا للسماوات، من حيث عظمتُها معنىً وأهميتُها صنعةً. وكأنها ثمرة صغيرة لشجرة ضخمة، وكأنها قلب صغير لجسد ضخم. فيذكرها القرآنُ الكريم مقرونةً بالسماوات، فهي في كفّة والسماواتُ كلها في كفة، فتكرر الآية الكريمة: ﴿ رَبُّ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ ﴾.

    وهكذا فقس سائر المسائل على هذا المنوال، وافهم: أنّ الحقائق الميتة المنكفئة للفلسفة، لا يمكنها أن تتصادم مع حقائق القرآن الحية والمنورة. فكلتاهما حقيقة، إلّا أنّ الاختلاف هو في زاوية النظر، فتظهر الحقائقُ متباينة.

    الغصن الرابع

    ﴿ اَلَمْ تَرَ اَنَّ اللّٰهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمٰوَاتِ وَمَنْ فِي الْاَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَٓابُّ وَكَث۪يرٌ مِنَ النَّاسِۜ وَكَث۪يرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُۜ وَمَنْ يُهِنِ اللّٰهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍۜ اِنَّ اللّٰهَ يَفْعَلُ مَا يَشَٓاءُ ۩ ﴾ (الحج:١٨).

    سنبين جوهرة واحدة فقط من الخزينة العظمى الواسعة لهذه الآية الكريمة، وذلك:

    أنّ القرآن الحكيم يصرّح بأن كل شيء من العرش إلى الفرش، ومن المَلَك إلى السمك، ومن المجرات إلى الحشرات، ومن السيارات إلى الذرات.. كلّ منها يسجد لله، ويعبُده، ويحمدُه ويقدّسه. إلّا أن عباداتِها مختلفة متباينة متنوعة، كلّ حسب قابلياتها، ومدى نيلِها لتجليات الأسماء الحسنى.

    نبيّن هنا تنوّع عبادات المخلوقات وتباينها بمثال:

    فمثلا «ولله المثل الأعلى» أنّ ملكا عظيما وسلطانا ذا شأن، يستخدم أربعةَ أنواع من العمال في بناء قصر أو مدينة.

    النوع الأول: عبيدُه. هذا النوع لا مرتّب لهم ولا أجرة. بل ينالون ذوقا في منتهى اللطف، ويحصلون على غاية الشوق في كل ما يعملونه ويؤدونه بأمر سيّدهم، بل يزدادون مُتعة وشوقا من أي كلام في مدح سيدهم ووصفه، فحسبُهم الشرف العظيم الذي ينالونه بانتسابهم إلى سيدهم. فضلا عن تلذذهم لذة معنوية في أثناء إشرافهم على العمل باسم ذلك المالك، وفي سبيله ونظره إليهم. فلا داعي إلى مرتّبٍ ولا إلى رتبة ولا إلى أجرة.

    القسم الثاني: خدّام بسطاء، لا يعرفون لماذا يعملون، بل ذلك المالكُ العظيم هو الذي يستخدمهم ويسوقُهم إلى العمل بفكره وعلمه، ويعطيهم أجرةً جزئية تناسبهم. وهؤلاء الخدام لا يعرفون نوعَ الغايات الكلية والمصالح العظيمة التي تترتب على عملهم، حتى حدا ببعض الناس أن يتوهّم أن عمل هؤلاء لا غاية له إلّا أجرة جزئية تخصّهم بالذات.

    القسم الثالث: الحيوانات التي يملكها ذلك المالك العظيم، ويستخدمها في أعمال بناء القصر والمدينة، ولا يعطيها إلّا عَلَفها. فهذه الحيوانات تتمتع بلذة في أثناء قيامها بعمل يوافق استعداداتها، إذ القابلية أو الاستعداد إن دخلت طورَ الفعل والعمل بعد ما كانت في طور القوة الكامنة، تنبسط وتتنفس، فتورث لذةً، وما اللذة الموجودة في الفعاليات كلِّها إلّا نابعة من هذا السر. فأجرةُ هذا القسم من الخدام ومرتّبهم هو العَلف مع لذة معنويةٍ، فهم يكتفون بهما.

    القسم الرابع: عمال يعرفون ماذا يعملون، ولماذا يعملون ولمَن يعملون. فضلا عن معرفتهم لِمَ يعمل العمال الآخرون، وما الذي يقصده المالكُ العظيم ولِمَ يدفع الجميعَ إلى العمل؟ فهذا النوع من العمال، لهم رئاسة على العمال الآخرين، والإشراف عليهم، ولهم مرتّباتهم حسب درجاتهم ورتبهم.

    وعلى غرار هذا المثال، فإن مالك السماوات والأرضين ذا الجلال، وباني الدنيا والآخرة ذا الجمال، وهو ربّ العالمين، يستخدم الملائكةَ والحيوانات والجمادات والنباتات والإنسان في قصر هذا الكون ضمن دائرة الأسباب، ويسوقهم إلى العبادة، لا لحاجةٍ، فهو الخالق، بل لأجل إظهار العزة والعظمة وشؤون الربوبية وأمثالها من الحِكَم..

    وهكذا فقد كلّف هذه الأنواعَ الأربعة بأربعة أنماط مختلفة من العبادة.

    القسم الأول: الذين يمثّلون العبيد في المثال، هم الملائكة، فهم لا مراتب لهم في الرقي بالمجاهدة، إذ لكل منهم مقام ثابت ورتبة معينة، إلّا أن لهم ذوقا خاصا في عملهم نفسه، وهم يستقبلون الفيوض الربانية حسب درجاتهم، في عبادتهم نفسها. بمعنى أن أجرة خدماتهم مندرجة في عين أعمالهم؛ إذ كما يتلذذ الإنسانُ من الماء والهواء والضياء والغذاء، كذلك الملائكة، يتلذذون ويتغذّون ويتنعمون بأنوار الذكر والتسبيح والحمد والعبادة والمعرفة والمحبة، لأنهم مخلوقون من نور، فيكفيهم النورُ غذاءً، بل حتى الروائحُ الطيبة القريبة من النور، هي الأخرى نوع من غذائهم حيث يُسرّون بها. نعم، إن الأرواح الطيبة تحب الروائح الطيبة.

    ثم إن للملائكة سعادة عظمى إلى درجة لا يدركها عقلُ البشر، ولا يستطيع أن يعرفها إلّا المَلَك نفسُه.

    وذلك فيما يعملون من عمل بأمر معبودهم، وفي الأعمال التي يؤدونها في سبيله، والخدمات التي يقومون بها باسمه، والإشراف الذي يزاولونه بنظره، والشرف الذي يغنمونه بانتسابهم إليه، والتفسح والتنـزّه الذي ينالونه بمطالعة مُلكه وملكوته، والتنعّم الذي يحصلون عليه بمشاهدة تجليات جماله وجلاله.

    فقسم من الملائكة عبّاد، وآخرون يزاولون عباداتهم في أعمالهم. والقسم العامل من الملائكة الأرضيين شبيه بنوع الإنسان -إن جاز التعبير- فمنهم من يؤدي مهمة رعاية الحيوان وهم الرعاة، ونوع آخر لهم الإشراف على نبات الأرض وهم الفلاحون.. بمعنى أن سطح الأرض مزرعة عامة يشرف عليها مَلك موكل بها، أي يشرف على جميع طوائف الحيوانات التي تدبّ على الأرض بأمر الخالق الجليل، وبإذنه، وفي سبيله، وبحوله وقوته. وهناك مَلك موكّل أصغر، للقيام برعاية خاصة لكل نوع من أنواع الحيوانات.

    وحيث إن سطح الأرض مزرعة، تزرع فيها أنواع النباتات كلّها، فهناك إذن مَلك موكّل للإشراف على تلك النباتات كلها، باسم الله سبحانه، وبقوته، وهناك مَلك أوطأ مرتبة، يشرف على كل طائفة من طوائف النباتات، وهكذا.. فهناك ملائكة مشرفون، وسيدنا ميكائيل عليه السلام الذي هو من حملة عرش الرزاقية؛ هو المشرف الأعظم على هؤلاء الملائكة.

    وإن الملائكة الذين هم بمثابة الرعاة والفلاحين يختلفون عن الإنسان؛ لأن إشرافهم على الأمور هو عمل خالص في سبيل الله، وباسمه، وبقوته وبأمره، بل إن إشرافهم هو مشاهدة تجليات الربوبية في النوع الذي أوكل لهم الإشراف عليه، ومطالعة تجليات القدرة والرحمة فيه، والقيام بإلهام الأوامر الإلهية إليه، وأداء ما يشبه التنظيم في أفعاله الاختيارية،

    ولاسيما الإشراف على النباتات في مزرعة الأرض، وتمثيل تسبيحاتها المعنوية وإعلان تحياتها المعنوية إلى فاطرها الجليل بلسان الملائكة، علاوة على حُسن استعمال الأجهزة الممنوحة لها وتوجيهها إلى غايات معينة والقيام بنوع من التنظيم فيها.

    وتُعدّ هذه الخدمات التي يؤديها الملائكة نوعا من كسبٍ بالجزء الاختياري، بل هي نوع من العبادة والعبودية، إذ ليس لهم تصرف حقيقي، لأن كل شيء يحمل سكةً خاصة وختما معينا لخالق كل شيء لا يمكن لغيره تعالى أن يحشر نفسه في الإيجاد قطعا. أي إن هذا النوع من عمل الملائكة هو عباداتهم؛ إذ ليس هي عادات كما هي في الإنسان.

    القسم الثاني: من العمال في قصر الكون، هو الحيوانات.

    وحيث إن الحيوانات لها نفس مشتهية، واختيار جزئي، فلا تكون أعمالُها خالصةً لوجه الله. بل تستخرج النفسُ حظَّها وشهوتَها من عملها، لذا يمنح مالكُ الملك ذو الجلال والإكرام تلك الحيوانات أجرة ومرّتبا ضمن أعمالها، تُطَمئِن نفوسَها وتشبعها.

    فمثلا: البلبل المعروف بعاشق الورود والأزهار، ([20]) يستخدم الفاطرُ الجليل ذلك الحيوان الصغير ويستعمله في خمس غايات:

    أولاها: أنه مأمور ومكلّف، باسم القبائل الحيوانية، بإعلان شدة العلاقة تجاه طوائف النباتات.

    ثانيتها: أنه موظف بإعلان الفرح والسرور، والترحيب بالهدايا المُرسلة من قبل الرزاق الكريم، حيث إنه خطيب رباني يسأل بتغريده أرزاقَ الحيوانات، ضيوف الرحمن، المحتاجين إلى الرزق.

    ثالثتها: إظهارُ حُسن الاستقبال على رؤوس النباتات جميعا، تعبيرا عن إرسال النباتات إمدادا لبني جنسه من الطير والحيوان.

    رابعتها: بيان شدةِ حاجة الحيوانات إلى النباتات التي تبلُغ حدَّ العشق تجاه الوجوه المليحة للنباتات وإعلانها على رؤوس الأشهاد.

    خامستها: تقديمُ ألطفِ تسبيحٍ إلى ديوان رحمة مالك الملك ذي الجلال والإكرام في ألطف شوق ووَجْد، وفي ألطف وجه، وهو الورد.

    وهكذا هناك معان أخرى شبيهة بهذه الغايات الخمس.


    فهذه المعاني وهذه الغايات، هي الغاية من عمل البلبل الذي يقوم به لأجل الحق سبحانه وتعالى. فالبلبل يغرّد بلغته ونحن نفهم هذه المعاني من نغماته الحزينة، مثلما يفهمُها أيضا الملائكة والروحانيات. وإنّ عدم فهم البلبل لمعنى نغماته معرفةً كاملة، ليس حائلا أمام فهمنا نحن لذلك، ولا يقدحُ فيه، والمَثل: «رُبّ مستمع أوعى من متكلم» مشهور. ثم إنّ عدم معرفة البلبل لهذه الغايات بالتفصيل لا يدل على عدم وجودها، فهو في الأقل كالساعة التي تعرّفك أوقاتِك وهي لا تعلم شيئا مما تعمل. فجهلُها لا يضرّ بمعرفتك.

    أمّا مرتّب ذلك البلبل ومكافأته الجزئية فهي الذوقُ الذي يحصل عليه من مشاهدة تبسّم الأزهار الجميلة، والتلذذ الذي يحصل عليه من محاورتها. أي إنّ نغماتِهِ الحزينةَ وأصواتِه الرقيقةَ ليست شكاوى نابعة من تألّمات حيوانية، بل هي شكر وحمد وثناء تجاه العطايا الرحمانية.

    وقس على البلبل؛ بلابل النحل والعنكبوت والنمل والهوام والحيوانات الصغيرة، فلكلٍّ منها غايات كثيرة في أعمالها، أدرج فيها ذوق خاص، ولذة مخصوصة، كمرتّب وكمكافئة جزئية، فهي تخدم غايات جليلة لصنعة ربانية بذلك الذوق. فكما أن لعامل بسيط في سفينة السلطان مرتّبهُ الجزئي، كذلك لهذه الحيوانات التي تخدم الخدمات السبحانية مرتّبُها الجزئي.

    تتمة لبحث البلبل

    لا تحسبنّ أن هذه الوظيفة الربانية في الإعلان والدلالة والتغني بهزجات التسبيحات خاص بالعندليب. بل إنّ لكلِّ نوع من أكثر أنواع المخلوقات صنفا شبيها بالعندليب، له فرد لطيف أو أفراد يمثلون ألطفَ مشاعر ذلك النوع ويتغنّى بألطفِ التسبيحات بألطفِ السجَعات، ولا سيما أنواع الهوام والحشرات، فبلابلُها كثيرة، وعنادلُها متنوعة جدا، تُمتّع جميعَ مَن له آذان صاغية إليهم بدءًا من أصغر حيوان إلى أكبره، وتنثر على رؤوسهم تسبيحاتها بأجمل نغماتها.

    وقسم من هذه البلابل ليلي، يكون الأنيس المحبوب والقاصّ المؤنس في ذلك الليل الساكن والموجودات الصامتة، للحيوانات الصغيرة التي خلَدت إلى الهدوء، حتى كأن كلا من تلك البلابل قطب في حلقة ذكرٍ خفي، وسط ذلك المجلس الذي انسحب كل فرد فيه إلى الهدوء والسكون ينصت إلى نوع من ذكر الله وتسبيحه، بقلبه المطمئن إلى الفاطر الجليل.

    وقسم آخر من هذه البلابل نهاري، يُعلن في وضح النهار رحمةَ الرحمن الرحيم على منابر الأشجار وعلى رؤوس الأشهاد، ويتغنّى بها، ولا سيما في موسم الصيف والربيع، وينثرن بتغريداتهم الرقيقة وشَدوِهم اللطيف وتسبيحاتهم المسجّعة الوجدَ والشوق، لدى كل سامع لهم، حتى يشرع السامعُ بذكر فاطره الجليل بلسانه الخاص، وبنغماته الخاصة. بمعنى أن لكل نوع من أنواع الموجودات بلبُلَه الخاص به، فهو رئيسُ حلقةِ ذكرٍ خاص بهم. بل حتى لنجوم السماء بلبلُها الخاص بها، يشدو بأنواره ويترنم بأضوائه.

    ولكن.. أفضلَ هذه البلابل طرا وأشرفَها وأنورَها وأبهرَها وأعظمَها وأكرمَها، وأعلاها صوتا وأجلاها نعتا وأتمَّها ذِكرا وأعمَّها شكرا وأكمَلها ماهية وأحسنَها صورة، هو الذي يثير الوجدَ والجذب والشوق في الأرض والسماوات العلى، في بستان هذا الكون العظيم، بسَجَعاته اللطيفة وتضرّعاته اللذيذة، وتسبيحاته العلوية.. وهو العندليبُ العظيم لنوع البشر، في بستان الكائنات، بلبلُ القرآن لبني آدم، محمد الأمين،

    عليه وعلى آله وأمثاله، أفضلُ الصلوات وأجملُ التسليمات.

    خلاصة ما سبق: إن الحيوانات الخادمة في قصر الكون تمتثل الأوامر التكوينية امتثالا تاما، وتُظهِر ما في فطرتها من غايات بأجملِ صورتها باسم الله. فتسبيحاتُها؛ هي قيامُها بوظائفِ حياتها بأبدع طراز بقوة الله سبحانه، وببذل الجُهد في العمل. وعباداتُها هي هداياها وتحياتها التي تقدّمها إلى الفاطر الجليل واهب الحياة.

    القسم الثالث من العمال: هم النباتات والجمادات.. هؤلاء العمال لا مرتّب لهم ولا مكافأة، لأن لا اختيار لهم. فأعمالُهم خالصة لوجه الله، وحاصلة بمحض إرادته سبحانه وباسمه وفي سبيله، وبحَوله وقوته. إلّا أنه يُستَشعر من أحوال النباتات أنّ لها نوعا من التلذذ في أدائها وظائف التلقيح والتوليد وإنماء الثمار. إلّا أنها لا تتألم قط، بخلاف الحيوانات التي لها آلام ممزوجة باللذائذ، حيث إن لها اختيارا. ولأجل عدم تدخل الاختيار في أعمال النباتات والجمادات تكون آثارُهما أتقنَ وأكملَ من أعمال الحيوانات التي لها اختيار. وفي النحل، مثلا، التي تتنور بالوحي والإلهام، يكون الإتقانُ في الأعمال أكملَ من حيوان آخر يعتمد على جزئه الاختياري.

    وكلُّ طائفة من طوائف النباتات في مزرعة الأرض تسأل فاطرها الحكيم وتدعوه بلسان الحال والاستعداد، قائلة: يا ربّنا آتنا من لدنك قوة، كي ننصب رايةَ طائفتنا في أرجاء الأرض كافة، لنعلن بلساننا عظمةَ ربوبيتك.. ووفّقنا يا ربنا لعبادتك في كلّ ركن من أركان مسجد الأرض هذا.. وهَب لنا قدرةً لنسيحَ في كل ناحية من نواحي معرض الأرض لنُشهر فيها نقوشَ أسمائك الحسنى وبدائعَ صنعك وعجائبها.

    والفاطر الحكيم يستجيب لدعاء النباتات المعنوي هذا.. فيهَب لبذور طائفة منها جُنيحاتٍ من شعيرات دقيقة لتتمكن بها من الطيران إلى كل مكان. فتجعل الناظرَ إليها يقرأ أسماءَ الله الحسنى كما في أغلب النباتات الشوكية وقسم من بذور الأزهار الصفراء.. ويهَب سبحانه لآخرَ نسيجا طريا طيبا يحتاجه الإنسانُ ويرتاح إليه، حتى يجعل الإنسانَ خادما له، فيزرعه في كل ناحية.. ويهَب لطائفة أخرى ما لا يُهضَم من شبيه العظام مكسوا بما يشبه اللحم تستسيغه الحيوانات، فتنشرها في أقطار الأرض.. ويهَب لبعضٍ شُويكاتٍ دقيقة تتعلق بالأشياء بأدنى تماس، وبهذا ينتقل من مكان إلى آخر فينشر راية طائفته هناك. وهكذا تنشر النباتاتُ بدائعَ صنع الله سبحانه وتعالى، فيهَب لقسم آخر عُلَبا مملوءة بالبذور تقذف بها إلى مسافة أمتار حين نضوجها..

    وقس على هذا المنوال كيف تستنطق النباتاتُ ألسنةً كثيرة في ذكر الفاطر الجليل وفي تقديسه.

    فلقد خلق الفاطر الحكيم والقدير العليم، كل شيء، في أحسن صورة، وفي أكمل انتظام، وجَهّزه بأفضل جهاز، ووَجّهه إلى أحسن وجهة، ووظَّفه بأحسن وظيفة، فيقوم الشيءُ بأفضل التسبيحات وأجملِها، ويؤدي العبادات على أفضل الوجوه.

    فإن كنت أيها الإنسان إنسانا حقا، فلا تُقحِم الطبيعةَ والمصادفةَ والعبثيةَ والضلالةَ في هذه الأمور الجميلة، ولا تشوّه جمالَها بعملك القبيح، فتكون قبيحا.

    القسم الرابع: هو الإنسان، فالإنسان الذي هو نوع من أنواع الخدم العاملين في هذا القصر، قصر الكون، هذا الإنسان شبيه بالملائكة من جهة، وشبيه بالحيوان من جهة أخرى؛ إذ يشبه الملائكة في العبادة الكلية وشمولِ الإشراف وإحاطةِ المعرفة، وكونه داعيا إلى الربوبية الجليلة، بل الإنسان أكثر جامعية من الملائكة، لأنه يحمل نفسا شريرة شهوية، بخلاف الملائكة.

    وأمامه نجدان، له أن يختار، إمَّا رقيا عظيما أو تدنيا مريعا. ووجهُ شبه الإنسان بالحيوان هو أنه يبحث في أعماله عن حظٍ لنفسه، وحصةٍ لذاته، لذا فالإنسان له مرتّبان:

    الأول: جزئي حيواني معجل.

    والثاني: كلي ملائكي مؤجل.

    ولقد ذكرنا في الكلمات الثلاث والعشرين السابقة قسما من مكافأة ومرتّب الإنسان ووظائفه، ومدارج رقيّه وتدنيه، ولاسيما في الكلمة «الحادية عشرة» و«الثالثة والعشرين» إذ فيهما تفصيلُ بيان، لذا نختصر هذا البحث ونختم بابَه سائلين العلي القدير أن يفتح علينا أبوابَ رحمته ويوفّقنا إلى إتمام هذه الكلمة، راجين منه سبحانه وتعالى أن يعفو عن سيئاتنا ويغفر لنا خطايانا.

    الغصن الخامس

    لهذا الغصن خمس ثمرات:

    الثمرة الأولى

    يا نفسيَ المحبةَ لنفسها، ويا رفيقي العاشقَ للدنيا! اعلمي أن المحبة سببُ وجود هذه الكائنات، والرابطة لأجزائها، وأنها نورُ الأكوان، وحياتُها.

    ولما كان الإنسان أجمعَ ثمرةٍ من ثمرات هذا الكون، فقد أدرجت في قلبه، الذي هو نواة تلك الثمرة، محبة قادرة على الاستحواذ على الكائنات كلها. لذا لا يليق بمثل هذه المحبة غير المتناهية إلّا صاحبُ كمالٍ غير متناهٍ.

    فيا نفسي! ويا صاحبي! لقد أودع الله سبحانه جهازين في فطرة الإنسان، ليكونا وسيلتين للخوف وللمحبة. وتلك المحبة والخوف إما سيتوجهان إلى الخَلق أو إلى الخالق. علما أن الخوف من الخلق بليّة أليمة، والمحبةَ المتوجهة نحوه أيضا مصيبة منغّصة؛ إذ إنك أيها الإنسان تخاف من لا يرحمُك، أو لا يسمع استرحامك. فالخوف إذن في هذه الحالة بلاء أليم.

    أما المحبة؛ فإن ما تحبه، إما أنه لا يعرفك، فيرحل عنك دون توديع، كشبابكَ ومالكَ، أو يحقّرك لمحبتك! ألَا ترى أن تسعةً وتسعين في المائة من العشاق المجازيين يشكون معشوقيهم؛ ذلك لأن عشقَ محبوبات دنيوية شبيهة بالأصنام لحد العبادة، بباطن القلب الذي هو مرآة الصمد، ثقيل في نظر أولئك المحبوبين، إذ الفطرة تردّ كلَّ ما هو ليس فطري وأهل له. «والحب الشهواني خارج عن بحثنا». بمعنى: أن ما تحبه من أشياء إما أنها لا تعرفُك أو يحقّرك أو لا يرافقك، بل يفارقك وأنفك راغم.

    فما دام الأمر هكذا؛ فاصرف هذه المحبة والخوفَ إلى مَن يجعل خوفَك تذللا لذيذا، ومحبتَك سعادة بلا ذلة. نعم، إن الخوف من الخالق الجليل يعني وجدانَ سبيلٍ إلى رأفته ورحمتِه تعالى للالتجاء إليه.

    فالخوف بهذا الاعتبار هو سوطُ تشويقٍ يدفع الإنسان إلى حضن رحمته تعالى. إذ من المعلوم أن الوالدة تخوّف طفلها لتضمَّه إلى صدرها. فذلك الخوف لذيذ جدا لذلك الطفل. لأنه يجذب ويدفع الطفل إلى صدر الحنان والعطف. علما أن شفقة الوالدات كلّهن ما هي إلاّ لمعة من لمعات الرحمة الإلهية. بمعنى أن في الخوف من الله لذةً عظيمةً. فلئن كان للخوف من الله لذة إلى هذا الحد، فكيف بمحبة الله سبحانه، ألَا يُفهم كم من اللذائذ غير المتناهية فيها.

    ثم إن الذي يخاف الله ينجو من الخوف من الآخرين، ذلك الخوف المليء بالقساوة والبلايا.

    ثم إن المحبة التي يوليها الإنسانُ إلى المخلوقات، إن كانت في سبيل الله لا تكون مشوبةً بألم الفراق.

    نعم، إن الإنسان يحب نفسَه أولا، ثم يحب أقاربَه، ثم أمتَه، ثم الأحياء من المخلوقات، ثم الكائنات، ثم الدنيا، فهو ذو علاقة مع كل دائرة من هذه الدوائر، ويمكن أن يتلذذ بلذائذها ويتألم بآلامها. بينما لا يقر قرار لشيء في هذا العالم الصاخب الذي يموج بالهرج والمرج، وتعصف فيه العواصفُ المدمّرة، لذا ترى قلبَ الإنسان المسكين يُجرَح دائما. فالأشياء التي يتشبث بها هي التي تجرحُه بالذهاب عنه، بل قد تقطع يدَه، لذا لا ينجو الإنسان من قلق دائم، وربما يلقي نفسَه في أحضان الغفلة والسُكر.

    فيا نفسي! إن كنت تعقلين، فاجمعي إذن جميعَ أنواع تلك المحبة وسلّميها إلى صاحبها الحقيقي وانجِي من هذه البلايا. فهذه الأنواع من المحبة غير المتناهية إنما هي مخصوصة لصاحب كمال وجمال لا نهاية لهما. ومتى ما سلمتيها إلى صاحبها الحقيقي يمكنك أن تحبّي الأشياءَ جميعَها باسمه دون قلق ومن حيث إنها مراياه. بمعنى أنه لا ينبغي أن تصرفي هذه المحبةَ مباشرةً إلى الكائنات، وإلّا تنقلب المحبةُ إلى نِقمةٍ أليمة بعد أن كانت نعمةً لذيذة.

    ظل أمر آخر وهو أهم مما ذكر: إنك يا نفسي تولين وجهَ محبتك إلى نفسِك بالذات، فتجعلين نفسَك، محبوبةَ نفسِها بل معبودةً لها، وتضحين بكل شيء في سبيلها وكأنك تمنحينها نوعا من الربوبية، مع أن سببَ المحبة إما كمال، والكمال محبوب لذاته، أو منفعة أو لذة أو فضيلة أو أي سبب مشابه بهذه الأسباب المؤدية إلى المحبة.

    والآن يا نفسي! لقد أثبتنا في عدد من «الكلمات» إثباتا قاطعا أن ماهيتَك الأصلية هي عجينة مركبة من القصور والنقص والفقر والعجز. فإنك حسب الضدّية تؤدين وظيفة المرآة. فبالنقص والقصور والفقر والعجز الموجود في ماهيتك أصلا، تُظهرين كمالَ الفاطر الجليل وجمالَه وقدرته ورحمته، مثلما يبيّن الظلامُ الدامس سطوعَ النور.

    فيا أيتها النفس! عليك ألّا تحبي نفسَك بل الأولى لكِ معاداتُها، أو التألمُ لحالها، والإشفاقُ عليها، بعد أن تُصبحَ نفسا مطمئنة.

    فإن كنت تحبين نفسكِ لكونها منشأ اللذة والمنفعة، وأنت مفتونة بأذواق اللذة والمنفعة، فلا تفضّلي لذةً نفسانية بقَدْر ذرة على لذةٍ لا نهاية لها ومنافعَ لا حدّ لها. فلا تكوني كاليراعة التي تُغرق جميعَ الأشياء وجميعَ أحبتها في وحشة الظلام مكتفيةً هي بلُميعة في نفسها. لأن لذتَك النفسانية ومنفعتَك وما تنتفعين من وراء منفعتهم وما تسعدين بسعادتهم وجميعَ منافع الكائنات ونفعَها كلَّها إنما هي من لطفِ محبوبٍ أزلي سبحانه. فعليك إذن أن تحبي ذلك المحبوب الأزلي حتى تلتذي، بسعادتك وبسعادة أولئك، بلذة لا منتهى لها من محبة الكمال المطلق.

    وفي الحقيقة إن محبتك الشديدة لنفسك والمغروزة فيك، ما هي إلّا محبة ذاتية متوجهة إلى ذات الله الجليلة سبحانه، إلّا أنكِ أسأتِ استعمال تلك المحبة فوجّهتيها إلى ذاتك. فمزّقي يا نفسي إذن ما فيكِ من «أنا» وأظهري «هو». فإن جميعَ أنواعِ محبتَك المتفرقة على الكائنات إنما هي محبة ممنوحة لك تجاه أسمائه الحسنى وصفاته الجليلة، بيد أنكِ أسأتِ استعمالها، فستنالين جزاءَ ما قدمتْ يداك. لأن جزاء محبةٍ غير مشروعة وفي غير محلها، مصيبة لا رحمة فيها.

    وإن محبوبا أزليا أعدّ -باسمه الرحمن الرحيم- مسكنا جامعا لجميع رغباتك المادية، وهو الجنّة المزينة بالحور العين، وهيأ بسائر أسمائه الحسنى آلاءه العميمة لإشباع رغبات روحِك وقلبِك وسرّك وعقلك وبقية لطائفك. بل له سبحانه في كل اسم من أسمائه الحسنى خزائنُ معنوية لا تنفد من الإحسان والإكرام. فلاشك أن ذرةً من محبةِ ذلك المحبوب الأزلي تكفي بديلا عن الكائنات كلِّها، ولا يمكن أن تكون الكائناتُ برمّتِها بديلا عن تجلٍ جزئي من تجليات محبته سبحانه.

    فاستمعي يا نفسي واتبعي هذا العهدَ الأزلي الذي أنطقه ذلك المحبوبُ الأزلي، حبيبَه الكريم بقوله تعالى:

    ﴿ قُلْ اِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّٰهَ فَاتَّبِعُون۪ي يُحْبِبْكُمُ اللّٰهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْۜ وَاللّٰهُ غَفُورٌ رَح۪يمٌ ﴾ (آل عمران:٣١).

    الثمرة الثانية

    يا نفسُ! إن وظائف العبودية وتكاليفَها ليست مقدمةً لثوابٍ لاحق، بل هي نتيجة لنعمة سابقة.

    نعم؛ نحن قد أخذنا أجرتَنا من قبل، وأصبحنا بحسب تلك الأجرة المقدَّمة لنا مكلّفين بالخدمة والعبودية؛

    Çünkü ey nefis! Hayr-ı mahz olan vücudu sana giydiren Hâlık-ı Zülcelal, sana iştihalı bir mide verdiğinden Rezzak ismiyle bütün mat’umatı bir sofra-i nimet içinde senin önüne koymuştur.

    Sonra sana hassasiyetli bir hayat verdiğinden o hayat dahi bir mide gibi rızık ister. Göz, kulak gibi bütün duyguların, eller gibidir ki rûy-i zemin kadar geniş bir sofra-i nimeti, o ellerin önüne koymuştur.

    Sonra manevî çok rızık ve nimetler isteyen insaniyeti sana verdiğinden âlem-i mülk ve melekût gibi geniş bir sofra-i nimet, o mide-i insaniyetin önüne ve aklın eli yetişecek nisbette sana açmıştır.

    Sonra nihayetsiz nimetleri isteyen ve hadsiz rahmetin meyveleriyle tagaddi eden ve insaniyet-i kübra olan İslâmiyet’i ve imanı sana verdiğinden, daire-i mümkinat ile beraber esma-i hüsna ve sıfât-ı mukaddesenin dairesine şâmil bir sofra-i nimet ve saadet ve lezzet sana fethetmiştir.

    Sonra imanın bir nuru olan muhabbeti sana vermekle, gayr-ı mütenahî bir sofra-i nimet ve saadet ve lezzet sana ihsan etmiştir.

    Yani, cismaniyetin itibarıyla küçük, zayıf, âciz, zelil, mukayyed, mahdud bir cüzsün. Onun ihsanıyla cüz’î bir cüzden, küllî bir küll-ü nurani hükmüne geçtin. Zira hayatı sana vermekle, cüz’iyetten bir nevi külliyete ve insaniyeti vermekle hakiki külliyete ve İslâmiyet’i vermekle ulvi ve nurani bir külliyete ve marifet ve muhabbeti vermekle muhit bir nura seni çıkarmış.

    İşte ey nefis! Sen bu ücreti almışsın. Ubudiyet gibi lezzetli, nimetli, rahatlı, hafif bir hizmetle mükellefsin. Halbuki buna da tembellik ediyorsun. Eğer yarım yamalak yapsan da güya eski ücretleri kâfi gelmiyormuş gibi çok büyük şeyleri mütehakkimane istiyorsun. Ve hem “Niçin duam kabul olmadı?” diye nazlanıyorsun. Evet, senin hakkın naz değil, niyazdır. Cenab-ı Hak cenneti ve saadet-i ebediyeyi, mahz-ı fazl ve keremiyle ihsan eder. Sen, daima rahmet ve keremine iltica et. Ona güven ve şu fermanı dinle:

    قُل۟ بِفَض۟لِ اللّٰهِ وَبِرَح۟مَتِهٖ فَبِذٰلِكَ فَل۟يَف۟رَحُوا هُوَ خَي۟رٌ مِمَّا يَج۟مَعُونَ

    Eğer desen: Şu küllî hadsiz nimetlere karşı, nasıl şu mahdud ve cüz’î şükrümle mukabele edebilirim?

    Elcevap: Küllî bir niyetle, hadsiz bir itikad ile…

    Mesela, nasıl ki bir adam beş kuruş kıymetinde bir hediye ile bir padişahın huzuruna girer ve görür ki her biri milyonlara değer hediyeler, makbul adamlardan gelmiş, orada dizilmiş. Onun kalbine gelir: “Benim hediyem hiçtir, ne yapayım?” Birden der: “Ey seyyidim! Bütün şu kıymettar hediyeleri kendi namıma sana takdim ediyorum. Çünkü sen onlara lâyıksın. Eğer benim iktidarım olsaydı bunların bir mislini sana hediye ederdim.” İşte hiç ihtiyacı olmayan ve raiyetinin derece-i sadakat ve hürmetlerine alâmet olarak hediyelerini kabul eden o padişah, o bîçarenin o büyük ve küllî niyetini ve arzusunu ve o güzel ve yüksek itikad liyakatini, en büyük bir hediye gibi kabul eder.

    Aynen öyle de âciz bir abd, namazında اَلتَّحِيَّاتُ لِلّٰهِ der. Yani bütün mahlukatın hayatlarıyla sana takdim ettikleri hediye-i ubudiyetlerini, ben kendi hesabıma, umumunu sana takdim ediyorum. Eğer elimden gelseydi onlar kadar tahiyyeler sana takdim edecektim. Hem sen onlara hem daha fazlasına lâyıksın. İşte şu niyet ve itikad, pek geniş bir şükr-ü küllîdir. Nebatatın tohumları ve çekirdekleri, onların niyetleridir.

    Hem mesela kavun, kalbinde nüveler suretinde bin niyet eder ki “Yâ Hâlık’ım! Senin esma-i hüsnanın nakışlarını yerin birçok yerlerinde ilan etmek isterim.” Cenab-ı Hak gelecek şeylerin nasıl geleceklerini bildiği için onların niyetlerini bilfiil ibadet gibi kabul eder. “Mü’minin niyeti, amelinden hayırlıdır.” şu sırra işaret eder. Hem سُب۟حَانَكَ وَ بِحَم۟دِكَ عَدَدَ خَل۟قِكَ وَ رِضَاءَ نَف۟سِكَ وَ زِنَةِ عَر۟شِكَ وَ مِدَادِ كَلِمَاتِكَ وَ نُسَبِّحُكَ بِجَمٖيعِ تَس۟بٖيحَاتِ اَن۟بِيَائِكَ وَ اَو۟لِيَائِكَ وَ مَلٰئِكَتِكَ gibi hadsiz adetle tesbih etmenin hikmeti şu sırdan anlaşılır.

    Hem nasıl bir zabit, bütün neferatının yekûn hizmetlerini kendi namına padişaha takdim eder. Öyle de mahlukata zabitlik eden ve hayvanat ve nebatata kumandanlık yapan ve mevcudat-ı arziyeye halifelik etmeye kabil olan ve kendi hususi âleminde kendini herkese vekil telakki eden insan اِيَّاكَ نَع۟بُدُ وَاِيَّاكَ نَس۟تَعٖينُ der. Bütün halkın ibadetlerini ve istianelerini, kendi namına Mabud-u Zülcelal’e takdim eder. Hem سُب۟حَانَكَ بِجَمٖيعِ تَس۟بٖيحَاتِ جَمٖيعِ مَخ۟لُوقَاتِكَ وَ بِاَل۟سِنَةِ جَمٖيعِ مَص۟نُوعَاتِكَ der. Bütün mevcudatı kendi hesabına söylettirir. Hem اَللّٰهُمَّ صَلِّ عَلٰى مُحَمَّدٍ بِعَدَدِ ذَرَّاتِ ال۟كَائِنَاتِ وَ مُرَكَّبَاتِهَا der. Her şey namına bir salavat getirir. Çünkü her şey, nur-u Ahmedî (asm) ile alâkadardır. İşte tesbihatta, salavatlarda hadsiz adetlerin hikmetini anla.

    ÜÇÜNCÜ MEYVE

    Ey nefis! Az bir ömürde hadsiz bir amel-i uhrevî istersen ve her bir dakika-i ömrünü bir ömür kadar faydalı görmek istersen ve âdetini ibadete ve gafletini huzura kalbetmeyi seversen sünnet-i seniyeye ittiba et. Çünkü bir muamele-i şer’iyeye tatbik-i amel ettiğin vakit, bir nevi huzur veriyor. Bir nevi ibadet oluyor. Uhrevî çok meyveler veriyor.

    Mesela, bir şeyi satın aldın. İcab ve kabul-ü şer’iyeyi tatbik ettiğin dakikada, o âdi alışverişin bir ibadet hükmünü alır. O tahattur-u hükm-ü şer’î bir tasavvur-u vahiy verir. O dahi Şâri’i düşünmekle bir teveccüh-ü İlahî verir. O dahi bir huzur verir.

    Demek, sünnet-i seniyeye tatbik-i amel etmekle bu fâni ömür, bâki meyveler verecek ve bir hayat-ı ebediyeye medar olacak olan faydalar elde edilir.

    فَاٰمِنُوا بِاللّٰهِ وَرَسُولِهِ النَّبِىِّ ال۟اُمِّىِّ الَّذٖى يُؤ۟مِنُ بِاللّٰهِ وَكَلِمَاتِهٖ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُم۟ تَه۟تَدُونَ fermanını dinle. Şeriat ve sünnet-i seniyenin ahkâmları içinde cilveleri intişar eden esma-i hüsnanın her bir isminin feyz-i tecellisine bir mazhar-ı câmi’ olmaya çalış.

    DÖRDÜNCÜ MEYVE

    Ey nefis! Ehl-i dünyaya, hususan ehl-i sefahete, hususan ehl-i küfre bakıp surî ziynet ve aldatıcı gayr-ı meşru lezzetlerine aldanıp taklit etme. Çünkü sen onları taklit etsen onlar gibi olamazsın. Pek çok sukut edeceksin. Hayvan dahi olamazsın. Çünkü senin başındaki akıl, meş’um bir âlet olur. Senin başını daima dövecektir.

    Mesela, nasıl ki bir saray bulunsa büyük bir dairesinde büyük bir elektrik lambası bulunur. O elektrikten teşaub etmiş ve onunla bağlı küçük küçük elektrikler, küçük menzillere taksim edilmiş. Şimdi birisi o büyük elektrik lambasının düğmesini çevirip ziyayı kapatsa bütün menziller, derin bir karanlık içine ve bir vahşete düşer. Ve başka sarayda büyük elektrik lambasıyla merbut olmayan küçük elektrik lambaları, her menzilde bulunuyor. O saray sahibi büyük elektrik lambasının düğmesini çevirerek kapatsa sair menzillerde ışıklar bulunabilir. Onunla işini görebilir, hırsızlar istifade edemezler.

    İşte ey nefsim! Birinci saray, bir Müslüman’dır. Hazret-i Peygamber aleyhissalâtü vesselâm, onun kalbinde o büyük elektrik lambasıdır. Eğer onu unutsa, el-iyazü billah kalbinden onu çıkarsa, hiçbir peygamberi daha kabul edemez. Belki hiçbir kemalâtın yeri ruhunda kalamaz, hattâ Rabb’ini de tanımaz. Mahiyetindeki bütün menziller ve latîfeler, karanlığa düşer ve kalbinde müthiş bir tahribat ve vahşet oluyor. Acaba bu tahribat ve vahşete mukabil hangi şeyi kazanıp ünsiyet edebilirsin? Hangi menfaati bulup o tahribat zararını onunla tamir edersin?

    Halbuki ecnebiler, o ikinci saraya benzerler ki Hazret-i Peygamber aleyhissalâtü vesselâmın nurunu kalplerinden çıkarsalar da kendilerince bazı nurlar kalabilir veya kalabilir zannederler. Onların manevî kemalât-ı ahlâkiyelerine medar olacak Hazret-i Musa ve İsa aleyhimesselâma bir nevi imanları ve Hâlıklarına bir çeşit itikadları kalabilir.

    Ey nefs-i emmare! Eğer desen: “Ben, ecnebi değil hayvan olmak isterim.” Sana kaç defa söylemiştim: “Hayvan gibi olamazsın. Zira kafandaki akıl olduğu için o akıl geçmiş elemleri ve gelecek korkuları tokadıyla senin yüzüne, gözüne, başına çarparak dövüyor. Bir lezzet içinde bin elem katıyor. Hayvan ise elemsiz güzel bir lezzet alır, zevk eder. Öyle ise evvela aklını çıkar at, sonra hayvan ol. Hem كَال۟اَن۟عَامِ بَل۟ هُم۟ اَضَلُّ sille-i te’dibini gör.”

    BEŞİNCİ MEYVE

    Ey nefis! Mükerreren söylediğimiz gibi insan, şecere-i hilkatin meyvesi olduğundan meyve gibi en uzak ve en câmi’ ve umuma bakar ve umumun cihetü’l-vahdetini içinde saklar bir kalp çekirdeğini taşıyan ve yüzü kesrete, fenaya, dünyaya bakan bir mahluktur. Ubudiyet ise onun yüzünü fenadan bekaya, halktan Hakk’a, kesretten vahdete, müntehadan mebdee çeviren bir hayt-ı vuslat, yahut mebde ve münteha ortasında bir nokta-i ittisaldir.

    Nasıl ki tohum olacak kıymettar bir meyve-i zîşuur, ağacın altındaki zîruhlara baksa, güzelliğine güvense, kendini onların ellerine atsa veya gaflet edip düşse onların ellerine düşecek, parçalanacak, âdi bir tek meyve gibi zayi olacak. Eğer o meyve, nokta-i istinadını bulsa içindeki çekirdek, bütün ağacın cihetü’l-vahdetini tutmakla beraber ağacın bekasına ve hakikatinin devamına vasıta olacağını düşünebilse, o vakit o tek meyve içinde bir tek çekirdek, bir hakikat-i külliye-i daimeye, bir ömr-ü bâki içinde mazhar oluyor.

    Öyle de insan, eğer kesrete dalıp kâinat içinde boğulup dünyanın muhabbetiyle sersem olarak fânilerin tebessümlerine aldansa, onların kucaklarına atılsa elbette nihayetsiz bir hasarete düşer. Hem fena hem fâni hem ademe düşer. Hem manen kendini idam eder. Eğer lisan-ı Kur’an’dan kalp kulağıyla iman derslerini işitip başını kaldırsa, vahdete müteveccih olsa ubudiyetin mi’racıyla arş-ı kemalâta çıkabilir. Bâki bir insan olur.

    Ey nefsim! Madem hakikat böyledir ve madem millet-i İbrahimiyedensin (as), İbrahimvari لَٓا اُحِبُّ ال۟اٰفِلٖينَ de ve Mahbub-u Bâki’ye yüzünü çevir ve benim gibi şöyle ağla:

    (Buradaki Farisî beyitler, On Yedinci Söz’ün İkinci Makamı’nda yazılmakla burada yazılmamıştır.)

    1. حتى إنني لاحظت القطط وتأملت فيها، فرأيت أنها بعدما أكلت ولعبت، نامت. فورد إلى ذهني سؤال: لِمَ يُطلق على هذه الحيوانات الشبيهة بالمفترسة، حيوانات مباركة طيبة؟ ثم في الليل اضطجعتُ لأنام وإذا بقطة من تلك القطط جاءت واستندتْ إلى مخدتي وقرّبت فمها إلى أذني، وذكرت الله ذكرا صريحا باسم: «يا رحيم.. يا رحيم.. يا رحيم» وكأنها ردّت ما ورد من الاعتراض والإهانة باسم طائفتها. فورد إلى عقلي: تُرى هل إن هذا الذِكر خاص بهذه القطة فقط أم بطائفة القطط عامة؟ وإن استماع ذكرِها، هل هو خاص بي ومنحصر لمعترض بغير حق مثلي، أم أنّ كل إنسان يستطيع الاستماع إلى حد، لو أعار سمعه إليها؟ وفي الصباح بدأتُ أنصت إلى القطط الأخرى، كانت تكرر الذكر نفسَه بدرجات متفاوتة وإن لم يكن صريحا مثل الأولى. إذ في بداية هريرها لا يتميز هذا الذكر ثم يمكن تمييز: يا رحيم.. يا رحيم.. في الهرير، ثم يتحول هريرُها كله إلى «يا رحيم» نفسه. فتذكر الله ذكرا حزينا فصيحا دون إخراج للحروف حيث تسد فمها وتذكر الله ذكرا لطيفا بـ: «يا رحيم».
      ذكرتُ الحادثة نفسَها للذين أتوا لزيارتي، وهم بدورهم بدؤوا يلاحظون الأمر. ثم قالوا: نسمع الذِكر إلى حدٍ ما، ثم ورد بقلبي: ما وجهُ تخصيص هذا الاسم: يا رحيم؟ ولِمَ تذكر القططُ هذا الاسم بالذات بلهجة لسان الإنسان ولا تذكره بلسان الحيوانات. فورد: أن القط حيوان رقيق لطيف كالطفل الصغير، يختلط مع الإنسان في كل زاوية من مسكنه، حتى كأنه صديقُه فهو محتاج إذن إلى مزيد من الشفقة والرحمة. فعندما يُلاطَف ويُستأنس به يحمد الله تاركا الأسباب، بخلاف الكلب، ومُعلنا في عالمه الخاص رحمةَ خالقه الرحيم، فيوقظ بذلك الذكر الإنسانَ السادر في نوم الغفلة. وبنداء «يا رحيم» ينبّه عَبَدة الأسباب قائلا: ممن يَرِدُ المدد والعون وممن يُتوقع الرحمة؟ (المؤلف).
    2. وفي كل طبقة أيضا ثلاث طوائف. فالأمثلة الثلاثة الواردة في التمثيل متوجهة إلى الطبقات الثلاث التي في كل طبقة، بل إلى الطبقات التسع التي فيها. لا الطبقات الثلاث وحدها. (المؤلف)
    3. انظر: مسلم، الإيمان ٢٤٧؛ الترمذي، الفتن ٥٣؛ أبو داود، المهدي، ٤، ٦ ،٧؛ ابن ماجه، الفتن، ٢٥، ٣٤؛ أحمد بن حنبل، المسند ٩٩/١. قال الشوكاني في التوضيح: والأحاديث الواردة في المهدي التي أمكن الوقوف عليها منها خمسون حديثا فيها الصحيح والحسن والضعيف المنجبر، وهي متواترة بلا شك ولا شبهة، بل يصدق وصف التواتر على ما هو دونها على جميع الاصطلاحات المحررة في الأصول، وأما الآثار عن الصحابة المصرحة بالمهدي فهي كثيرة أيضا لها حكم الرفع، إذ لا مجال للاجتهاد في مثل ذلك. اهـ (الإذاعة لمحمد صديق حسن خان ١١٣ - ١١٤).
    4. انظر: الحاكم في المستدرك ٤/٥٢٠ والسيوطي في اللآلئ ٢/٣٨٨ والإسفرايني ٢/٧٥. والبداية والنهاية لابن كثير وتذكرة القرطبي.
    5. عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «لقد كان فيمن كان قبلكم من الأمم ناس محدَّثون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن من أمتي أحد فإنه عمر». البخاري، فضائل أصحاب النبي ﷺ ٦؛ مسلم، فضائل الصحابة ٢٣.
    6. انظر:اللمعة الرابعة عشرة؛ وانظر: الحاكم، المستدرك ٦٣٦/٤. وقال: والحديث صحيح ولم يخرجاه؛ المنذري، الترغيب والترهيب ٢٥٨/٤. وقال: في متنه نكارة.
    7. انظر: مسلم، الجنة ٣١؛ أحمد بن حنبل، المسند ٣٤١/٣، ٣٤٦.
    8. الأحاديث في هذا الباب كثيرة نذكر منها: رواية مسلم: «قلنا يا رسول الله: ما لبثه في الأرض؟ قال: أربعون يوما، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم». (مسلم، الفتن ١١٠؛ أبو داود، الملاحم ١٤؛ الترمذي، الفتن ٥٩؛ ابن ماجه، الفتن ٣٣؛ أحمد بن حنبل، المسند ٣٦٧/٣، ١٨١/٤).
    9. انظر: الشعاع الخامس
    10. الترمذي، الزهد ١٣؛ ابن ماجه، الزهد ٣؛ الحاكم، المستدرك ٣٤١/٤.
    11. حديث: «الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني الذي أوتيته والقرآن العظيم». انظر: البخاري، تفسير سورة الفاتحة ١، فضائل القران ٩؛ الترمذي، ثواب القران ١؛ أحمد بن حنبل، المسند ٢٢١/٤ .
    12. حديث: «قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن» . البخاري، فضائل القران ١٣؛ الترمذي، ثواب القران ١٠، ١١؛ أبو داود، الوتر ١٨؛ النسائي، الافتتاح ٦٩؛ ابن ماجة، الأدب ٥٢.
    13. عن أنس بن مالك رضي الله عنه: «أن رسول الله ﷺ قال لرجل من أصحابه: هل تزوجت يا فلان؟ قال: لا والله، ولا عندي ما أتزوج به، قال: أليس معك «قل هو الله» ؟ قال: بلى. قال: ثلث القرآن. قال: أليس معك «إذا جاء نصر الله والفتح» ؟ قال: بلى. قال: ربع القرآن. قال: أليس معك «قل يا أيها الكافرون» ؟ قال: بلى. قال: ربع القرآن. قال أليس معك «إذا زلزلت الأرض» قال: بلى قال: ربع القرآن. قال: تزوّج تزوّج..» الترمذي، ثواب القران ١٠؛ أحمد بن حنبل، المسند ١٤٧/٣، ٢٢١..
    14. حديث ابن عمر: «قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وقل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن» . الترمذي، ثواب القران ١٠؛ أحمد بن حنبل، المسند ١٤٧/٣، ٢٢١.
    15. عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: «إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس، ومن قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات». الترمذي، ثواب القران ٧.
    16. الترمذي، فضائل القران ١٦؛ الدارمي، فضائل القران ١.
    17. انظر: الترمذي، الجمعة ٥٩.
    18. الديلمي، المسند ١١٦/٣.
    19. الطبراني، المعجم الكبير ٢٣٠/٧؛ البيهقي، شعب الإيمان ١٢٤/٦.
    20. لما كان البلبل يغرّد تغريدا شاعريا فإن بحثنا هذا قد انساب فيه شيء من روح الشاعرية، إلّا أنه ليس بخيال بل حقيقة. (المؤلف)