Yirmi Üçüncü Lem'a/ar: Revizyonlar arasındaki fark

    Risale-i Nur Tercümeleri sitesinden
    ("إنَّ القدر الإلهي هو نوع من العلم الإلهي، يعيّن مقدار كل شيء كأنه قالب معنوي له وخاص به، فيكون ذلك المقدار القَدَري بمثابة خطّة لذلك الشيء، وبحكم «موديل» أنموذج له، فعندما توجده «القدرة الإلهية» توجده على ذلك المقدار القَدري بكل سهولة ويسر." içeriğiyle yeni sayfa oluşturdu)
    ("فتأمل في هؤلاء الذين يظنون أنفسهم في ذروة العقل، قد سقطوا في حضيض من الحماقة والجهل، واعلم من هذا كيف تضع الضلالة هذا الإنسان المكرّم -حين يلغي إيمانه- موضع سخرية وازدراء من كل أحد.." içeriğiyle yeni sayfa oluşturdu)
    364. satır: 364. satır:
    وحيث إنَّ نفوس هؤلاء التعساء المتفرعنة العاجزة عجزاً مطلقاً والتي لا تملك إلّا جزءاً يسيراً من الاختيار غير قادرة على إفناء أي شيء كان وإعدامه، وإيجاد أية ذرة كانت أو مادة من غير شيء ومن العدم.. ولما كانت الطبيعة والأسباب التي يفخرون بعبوديتهم لها عاجزة هي الأخرى وليس في طوقها أمر «الإيجاد» من غير شيء.. نراهم يصدرون حُكماً عاماً: «أن المادة لا تُفنى ولا تُستحدث» ويحاولون أن يُعمموا حُكم هذه القاعدة الباطلة الخاطئة حتى على قدرة القدير المطلق القدرة سبحانه.
    وحيث إنَّ نفوس هؤلاء التعساء المتفرعنة العاجزة عجزاً مطلقاً والتي لا تملك إلّا جزءاً يسيراً من الاختيار غير قادرة على إفناء أي شيء كان وإعدامه، وإيجاد أية ذرة كانت أو مادة من غير شيء ومن العدم.. ولما كانت الطبيعة والأسباب التي يفخرون بعبوديتهم لها عاجزة هي الأخرى وليس في طوقها أمر «الإيجاد» من غير شيء.. نراهم يصدرون حُكماً عاماً: «أن المادة لا تُفنى ولا تُستحدث» ويحاولون أن يُعمموا حُكم هذه القاعدة الباطلة الخاطئة حتى على قدرة القدير المطلق القدرة سبحانه.


    <div lang="tr" dir="ltr" class="mw-content-ltr">
    نعم، إنَّ القدير المطلق ذا الجلال له طرازان من الإيجاد:
    '''Evet, Kadîr-i Zülcelal’in iki tarzda icadı var. Biri, ihtira ve ibda iledir.''' Yani hiçten, yoktan vücud veriyor ve ona lâzım her şeyi de hiçten icad edip eline veriyor. '''Diğeri, inşa ile sanat iledir.''' Yani kemal-i hikmetini ve çok esmasının cilvelerini göstermek gibi çok dakik hikmetler için kâinatın anâsırından bir kısım mevcudatı inşa ediyor. Her emrine tabi olan zerratları ve maddeleri, rezzakıyet kanunuyla onlara gönderir ve onlarda çalıştırır.
    </div>


    <div lang="tr" dir="ltr" class="mw-content-ltr">
    الأول: هو بالاختراع والإبداع، أي إنه سبحانه يُبْدع الوجود من العدم إبداعاً من غير شيء، ويوجِدُ كل ما يلزم -هذا الوجود- من أشياء من العدم ويسلّمها إياه.
    Evet, Kādir-i Mutlak’ın iki tarzda hem ibda hem inşa suretinde icadı var. Varı yok etmek ve yoğu var etmek; en kolay en suhuletli, belki daimî, umumî bir kanunudur. Bir baharda, üç yüz bin enva-ı zîhayat mahlukatın şekillerini, sıfatlarını, belki zerratlarından başka bütün keyfiyat ve ahvallerini hiçten var eden bir kudrete karşı “Yoğu var edemez!” diyen adam, yok olmalı!
    </div>


    <div lang="tr" dir="ltr" class="mw-content-ltr">
    الآخر: هو بالإنشاء والصنعة والإتقان. أي يُنشئ قسماً من الموجودات من عناصر الكون نفسه، إظهاراً لكمال حكمته، وتبياناً لتجليات أسمائه الحسنى.. وأمثالها من الحكم الدقيقة، فيرسل إلى تلك الموجودات الذرات والمواد المنقادة إلى أوامره ضمن سُنن الرزاقية الكونية، ويسخرها لها ليكمل إنشاء هذا الوجود،
    Tabiatı bırakan ve hakikate geçen zat diyor ki: Cenab-ı Hakk’a zerrat adedince şükür ve hamd ü sena ediyorum ki kemal-i imanı kazandım, evham ve dalaletlerden kurtuldum ve hiçbir şüphem de kalmadı.
    </div>


    <div lang="tr" dir="ltr" class="mw-content-ltr">
    وهكذا فالقدير المطلق القدرة له أسلوبان من الإيجاد وصورهما:
    اَل۟حَم۟دُ لِلّٰهِ عَلٰى دٖينِ ال۟اِس۟لَامِ وَ كَمَالِ ال۟اٖيمَانِ
     
    </div>
    الإبداع.. والإنشاء..
     
    فإفناء الموجود، وإيجاد المعدوم، أمرٌ سهلٌ جداً لديه، وهيّنٌ جداً بل هو قانونه الدائم العام.
     
    فالذي يستبعد من القدرة الفاطرة التي تخلق من العدم ثلاث مائة ألف نوع من المخلوقات والأحياء، وتمنحها أشكالها وصفاتها وكيفياتها وأحوالها مما سوى ذراتها. ويقول: «إنها لن تقدر على إيجاد المعدوم» لابد أن يهوي في ظلمة العدم.
     
    يقول الذي نَبَذَ «الطبيعة» ونفذ إلى طريق الحقيقة:
     
    الحمد لله حمداً كثيراً بعدد الذرات، الذي وفقني للفوز بكمال الإيمان، وأنقذني من الأوهام والضلالات، فزالت بفضله جميع ما لديّ من شبهات وريب.
     
    الحمد لله على دين الإسلام وكمال الإيمان


    <div lang="tr" dir="ltr" class="mw-content-ltr">
    <div lang="tr" dir="ltr" class="mw-content-ltr">

    10.26, 26 Nisan 2024 tarihindeki hâli

    «رسالة الطبيعة»

    كانت هذه الرسالة هي المذكّرة السادسة عشرة من «اللمعة السابعة عشرة» إلّا أن أهميتها الفائقة جعلَتها «اللمعة الثالثة والعشرين» فهي تُبيد تيار الكفر النابع من مفهوم «الطبيعة» إبادة تامة وتُفتّت حجر زاوية الكفر وتحطّم ركيزته الأساس.

    تنبيه

    لقد بيَّنَت هذه المذكرة ماهيةَ المذهب الذي يسلكه الجاحدون من الطبيعيين، وأوضحَت مدى بُعد مسلكهم عن موازين العقل، ومدى سماجته وخرافيته، وذلك من خلال تسعة محالات مستخلَصة من تسعين محالاً في الأقل. ولما كان قسمٌ من تلك المحالات قد وضّح في رسائل أخرى فقد جاء هنا مدرجاً ضمن محالات أخرى، أو جاء مختصراً بعضَ الشيء.

    والسؤال الذي يرد للخاطر هو: كيف ارتضى فلاسفةٌ مشهورون وعلماء معروفون بهذه الخرافة الفاضحة وسلّموا لها زمام عقولهم؟!

    والجواب: إنَّ أولئك لم يتبينوا حقيقةَ مسلكهم،([1]) ولا باطنَ مذهبهم، ولم يدركوا ما يقتضيه مسلكهم من «محالات» وما يستلزمه مذهبهم من أمور فاسدة وممتنعة عقلاً، والتي ذكرت في بداية كل محال يرد في هذه الرسالة.

    وأنا على استعداد كامل لإقامة البراهين الدامغة ونصب الحجج البديهية الواضحة لإثبات ذلك لكل مَن يساوره الشك، وأبينها لهم بإسهاب وتفصيل.

    بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ

    ﴿ قَالَتْ رُسُلُهُمْ اَفِي اللّٰهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ ﴾ (إبراهيم: ١٠).

    هذه الآية الكريمة بما فيها من استفهام إنكاري تدل دلالة قاطعة على وجود الله ووحدانيته بوضوح وجلاء بدرجة البداهة.

    وقبل أن نوضح هذا السرّ نودّ أن ننبه إلى ما يأتي:

    دعيتُ لزيارة «أنقرة» سنة ١٣٣٨(١٩٢٢م) وشاهدت فرح المؤمنين وابتهاجهم باندحار اليونان أمام الجيش الإسلامي، إلّا أنني أبصرتُ -خلال موجة الفرح هذه- زندقةً رهيبة تدبّ بخبثٍ ومكرٍ، وتتسلل بمفاهيمها الفاسدة إلى عقائد أهل الإيمان الراسخة بغية إفسادها وتسميمها.. فتأسفتُ من أعماق روحي، وصرختُ مستغيثاً بالله العلي القدير ومعتصماً بسُور هذه الآية الكريمة، من هذا الغول الرهيب الذي يريد أن يتعرض لأركان الإيمان، فكتبتُ برهاناً قوياً حاداً يقطع رأس تلك الزندقة، في رسالة باللغة العربية واستقيت معانيها وأفكارها من نور هذه الآية الكريمة لإثبات بداهة وجود الله سبحانه ووضوح وحدانيته، وقد طبعتها في مطبعة «يَني كون» في أنقرة.. إلّا أنني لم ألمس آثار البرهان الرصين في مقاومة الزندقة وإيقاف زحفها إلى أذهان الناس. وسبب ذلك كونه مختصراً ومجملاً جداً، فضلاً عن قلة الذين يُتقنون العربية في تركيا وندرة المهتمين بها آنذاك، لذا فقد انتشرت أوهامُ ذلك الإلحاد واستشرت في صفوف الناس مع الأسف الشديد، مما اضطرني إلى إعادة كتابة تلك الرسالة ببراهينها بالتركية، مع شيء من البيان والتوضيح فكانت هذه الرسالة.

    ولما كان بعض أقسام تلك البراهين قد وضّحت توضيحاً كافياً في بعض «رسائل النور» فسنذكرها هنا مجملة، كما أن البعض من البراهين الأخرى المبثوثة في ثنايا رسائل أخرى تبدو مندرجةً في هذه الرسالة، وكأن كل برهان منها جزء من هذه الرسالة.

    المقدمة

    أيها الإنسان!

    اعلم أن هناك كلماتٍ رهيبة تفوح منها رائحةُ الكفر النتنة، تخرج من أفواه الناس، وترددها ألسنةُ أهل الإيمان دون علمهم بخطورة معنى ما يقولون، وسنبين ثلاثاً منها هي الغاية في الخطورة:

    أولاها: قولهم عن الشيء: «أوجدته الأسباب» أي إن الأسباب هي التي توجِدُ الشيء المعين.

    ثانيتها: قولهم عن الشيء: «تشكّل بنفسه» أي إن الشيء يتشكل من تلقاء نفسه، ويوجِد نفسَهُ، بنفسه وينتهي إلى صورته التي انتهى إليها كما هي.

    ثالثتها: قولهم عن الشيء: «اقتضته الطبيعة» أي إن الشيء طبيعي، والطبيعة هي التي أوجدته واقتضته.

    نعم، مادامت الموجوداتُ موجودةً وقائمة أمامنا بما لا يمكن إنكارها مطلقاً، وأن كل موجود يأتي إلى الوجود في غاية الإتقان والحكمة، وهو ليس بقديم أزلي، بل هو محدَث جديد.

    فيا أيها الملحد! إما أنك تقول أن هذا الموجود -وليكن هذا الحيوان مثلاً- توجِده أسبابُ العالم، أي إنه يكتسب الوجود نتيجة اجتماع الأسباب المادية، أو إنه تشكّل بنفسه، أو أنه يرد إلى الوجود بمقتضى الطبيعة ويظهر بتأثيرها! أو عليك أن تقول:

    إنَّ قدرة الخالق القدير ذي الجلال هي التي توجِده؛

    لأنه لا سبيل إلى حدوثه غير هذه الطرق الأربعة، حسب موازين العقل، فإذا ما أُثبت -إثباتاً قاطعاً- أن الطرق الثلاثة الأولى محالةٌ، باطلة ممتنعة، غير ممكنة، فبالضرورة والبداهة يثبت الطريقُ الرابع، وهو طريق وحدانية الخالق بيقين جازم لا ريب فيه.

    Amma Birinci Yol ki:

    وهو القول بأن: «اجتماع أسبابِ العالم يخلق الموجودات ويوجدُها، ويؤدي إلى تشكيل الأشياء»

    نذكر منه ثلاثة محالات فقط، من بين محالاته الكثيرة جداً.

    المحال الأول: ولنوضحه بهذا المثال:

    تحوي الصيدلية مئات الدوارق والقناني المملوءة بموادَّ كيمياوية متنوعة، وقد احتجنا -لسبب ما- إلى معجون حيوي من تلك الأدوية والمواد لتركيب مادة حيوية خارقة مضادة للسموم.. فلما دخلنا الصيدلية وجدنا فيها أعداداً هائلة من أنواع ذلك المعجون الحيوي، ومن تلك المادة الحيوية المضادة للسموم، وعندما بدأنا بتحليل كل معجون رأيناه مركباً مستحضراً بدقة متناهية من موادَّ مختلفة طبق موازين محسوبة، فقد أُخذ من تلك القناني درهم (غرام واحد) من هذه.. وثلاثة غرامات من تلك.. وعشرة غرامات من الأخرى.. وهكذا فقد أُخِذَ من كل منها مقاديرُ مختلفة، بحيث لو كان ما أُخِذَ من هذه المقادير أقل منها بجزء من الغرام، أو أزيد، لفَقد المعجون خواصه الحيوية...

    والآن جئنا إلى «المادة الحيوية المضادة للسموم» ودققنا فيها نظراً كيمياوياً، فرأيناها قد ركّبت بمقادير معينة أُخذت من تلك القناني على وفْق موازين حساسة بحيث إنها تفقد خاصيتها لو غلطنا في الحساب فزادت المواد المركبة منها أو نقصت بمقدار ذرة واحدة.

    نخلص من هذا: أنَّ المواد المتنوعة قد استُحضرت بمقادير مختلفة، على وفق موازين دقيقة. فهل يمكن أو يُعقل أن يتكون ذلك المعجونُ المحسوب كلُّ جزء من أجزائه حساباً دقيقاً من جرّاء مصادفة غريبة، أو من نتيجة تصادم القناني بحدوث زلزالٍ عاصف في الصيدلية يؤدي إلى سيلان تلك المقادير بموازينها المعينة، واتحادها بعضها بالبعض الآخر مكوناً معجوناً حيوياً؟!. فهل هناك محالٌ أغرب من هذا وأكثر بعداً عن العقل والمنطق؟! وهل هناك خرافة أخرق منها؟! وهل هناك باطل أوضح بطلاناً من هذا؟! و الحمار نفسه لو تضاعفت حماقته ونطق لقال: يا لحماقة مَن يقول بهذا القول!.

    وفي ضوء هذا المثال نقول: إنَّ كل كائن حي هو مركبٌ حيوي، ومعجون ذو حياة. وإن كل نبات شبيه بترياق حيوي مضاد للسموم إذ ركّب من أجزاء مختلفة ومن مواد متباينة، على وفق موازين دقيقة في منتهى الحساسية.. فلا ريب أنَّ إسناد خلقِ هذا الكائن البديع إلى الأسباب المادية والعناصر، والقول بأن «الأسباب أوجدَته» باطلٌ ومحالٌ وبعيد عن موازين العقل بمثل بُعدِ وبطلان ومحالية تكوّن المعجون الحيوي بنفسه من سيلان تلك المواد من القناني.

    وحصيلة الذي قلناه آنفاً: هي أنَّ المواد الحيوية المستحضرة بميزان القضاء والقدر للحكيم العليم في هذا العالم الكبير الذي هو صيدليةٌ ضخمة رائعة لا يمكن أن توجد إلّا بحكمةٍ لا حدّ لها، وبعلم لانهاية له، وبإرادة تشمل كل شيء وتحيط بكل شيء، وإلّا فما أشقاه من يتوهم «أن هذه الموجودات هي نتاج عناصر الكون الكلية» وهي العمياء الصماء في جريانها وتدفقها، أو هي «من شؤون طبائع المواد» أو «من عمل الأسباب المادية»!.

    لاشك أن صاحب هذا الوهم هو أشقى أشقياء العالم، وأعظمُهم حماقة، وأشدّ هذياناً من هذيان مخمور فاقد للوعي عندما يخطر بباله أن ذلك الترياق العجيب قد أوجد نفسه بنفسه من جراء تصادم القناني وسيلان ما فيها!

    نعم، إنَّ ذلك الكفر هذيانُ أحمقَ وجنونُ سكرانٍ.

    المحال الثاني: هو أنه إنْ لم يُسنَد خلقُ كل شيء إلى الواحد الأحد القدير ذي الجلال، وأُسند إلى الأسباب المادية، يلزم عندئذ أن يكون لأغلب عناصر العالم وأسبابه دخلٌ وتأثير في وجود كل ذي حياة.

    والحال أن اجتماع الأسباب المتضادّة والمتباينة فيما بينها، بانتظام تام، وبميزان دقيق وباتفاق كامل في جسم مخلوق صغير -كالذباب مثلاً- هو محال ظاهر إلى حد يرفضه مَن له عقل بمقدار جناح ذبابة، ويُردّه قائلاً: هذا محال.. هذا باطل.. هذا غير ممكن..!

    ذلك لأنَّ جسم الذباب الصغير ذو علاقة مع أغلب عناصر الكائنات، ومع مظاهرها وأسبابها المادية، بل هو خلاصة مستخلصة منها، فإن لم يُسنَد إيجادُه إلى القدرة الإلهية المطلقة، يلزم أن تكون تلك الأسبابُ المادية حاضرةً ومحتشدة جَنبَ ذلك الجسم مباشرة عند إيجاده، بل يلزم أن تدخل في جسمه الضئيل، بل يجب دخولُها في حجيرة العين التي تمثل نموذج الجسم، ذلك لأنَّ الأسباب إنْ كانت ماديةً يلزم أنْ تكون قرب المسبَّب وداخلةً فيه، وعندئذٍ يقتضي قبولُ دخول جميع العناصر في جميع أركان العالم مع طبائعها المتباينة في ذلك المسبّب دخولاً مادياً، وعملها في تلك الحجيرة المتناهية في الصغر بمهارة وإتقان

    أفلا يخجل ويستحي من هذا القول حتى أشد السوفسطائيين بلاهةً؟

    المحال الثالث: هو أنَّ الموجود إنْ كانت له وحدة واحدة، فلابدّ أن يكون صادراً من مؤثر واحد، ومن يدٍ واحدة، حسب مضمون القاعدة البديهية المقررة: «الواحد لا يصدر إلّا عن الواحد». فإن كان ذلك الموجود في غاية الانتظام والميزان، وفي منتهى الدقة والإتقان، وكان مالكاً لحياة جامعة، فمن البداهة أنه لم يصدر من أيدٍ متعددة قط -التي هي مدعاة الاختلاف والمنازعة- بل لابد أنه صادر من يد واحدة لواحد أحد قدير حكيم؛ لذا فإن إسناد الموجود، المنتظم، المتناسق، الموزون، الواحد، إلى أيدي الأسباب الطبيعية العمياء الصمّاء الجامدة غير المنضبطة، والتي لا شعور لها ولا عقل، وهي في اختلاط شديد يزيد من عماها وصممها، ثم الإدعاء بأن تلك الأسباب هي التي تقوم بخلق ذلك الموجود البديع واختياره من بين إمكاناتٍ واحتمالات لا حدّ لها، أقول إنَّ قبول هذا الإسناد والإدعاء هو -في الحقيقة- قبول لمائة محال ومحال، إذ هو بعيد كل البُعد عن جميع مقاييس العقل وموازينه..

    دعنا نترك هذا المحال ونتجاوزه مؤقتاً، لننظر إلى تأثير «الأسباب المادية» الذي يتم بالتّماس والمباشرة. فبينما نرى أن تماسَّ تلك الأسباب الطبيعية هو تماسٌّ بظاهر الكائن الحي فحسب، ونرى أن باطن ذلك الكائن الذي لا تصل إليه أيدي تلك الأسباب المادية ولا يمكنها أن تمسّه بشيء، هو أدق نظاماً، وأكثر انسجاماً، من الظاهر، بل ألطفُ منه خلقاً وأكمل إتقاناً.

    بل الأحياء الصغيرة والمخلوقات الدقيقة التي لا يمكن أن تستوعب تلك الأسباب المادية قطعاً ولا تصل إليها أيديها ولا وسائلُها هي أعجبُ إتقاناً من أضخم المخلوقات وأبدع خلقاً منها.

    فلا يكون إذن إسناد خلقها إلى تلك الأسباب العمياء الصماء الجامدة الجاهلة الغليظة المتباعدة المتضادّة إلّا عمىً ما بعده عمىً، وصمماً ليس وراءه صمم.

    أما المسألة الثانية:

    وهي قولهم عن الشيء: «تشكّل بنفسه».

    فهي تنطوي على محالات كثيرة، ويتضح بطلانُها ومحاليتها من نواح كثيرة جداً إلّا أننا نتناول هنا ثلاثة محالات منها كنماذج ليس إلّا:

    المحال الأول: أيها الجاحد العنيد! إنَّ طغيان غرورك، جعلك تتردى في أحضان حماقة متناهية، فتقدِمُ على قبول مائة محال ومحال!

    إنك أيها الجاحد العنيد موجودٌ بلا شك، وإنك لست من مادة بسيطة وجامدة تأبى التغيّر، بل أنت معمل عظيم متقن الصنع، أجهزتُه دائمة التجدد. وأنت كالقصر المنيف، أنحاؤه دائمة التحول.. فذراتُ وجودك أنت تعمل دوماً وتسعى دون توقف، وترتبط بوشائج وأواصر مع مظاهر الوجود في الكون من حولك، فهي في أخذ وعطاء مع الكائنات، وبخاصة من حيث الرزق، ومن حيث بقاء النوع.

    إنَّ الذرات العاملة في جسدك تحتاط من أن تخل بتلك الروابط، وتتحاشى أن تنفصم تلك العلاقات، فهي حذرة في تصرفها هذا، وتتخذ موقفاً ملائماً لها على وفق تلك العلاقات كأنها تنظر إلى جميع الكائنات وتشاهدها، ثم تراقب موقعك أنت منها، وأنت بدورك تستفيد حسب ذلك الوضع الخارق لتلك الذرات وتنتفع وتتمتع بمشاعرك وحواسك الظاهرة والباطنة.

    فإن لم تعتقد أن تلك الذرات موظفاتٌ صغيرات لدى القدير الأزلي، ومأموراتٌ مسخرات منقادات لقوانينه سبحانه، أو هي جنود مجندة في جيشه المنظم، أو هي نهاياتُ قلم القدر الإلهي، أو هي نقاط ينقطها قلم القدرة الإلهية.. لزمك أن تقول إنَّ لكل ذرة عاملة -في عينك مثلاً- عيناً واسعة بصيرة، ترى جميعَ أجزاء جسدك ونواحيه، وتشاهد جميعَ الكائنات التي ترتبط بها، وتعلم جميعَ ماضيك ومستقبلك، وتعرف أصلك وآباءك وأجدادك مع نسلك وأحفادك وتدرك منابع عناصرك، وكنوز رزقك.. فهي إذن ذات عقل جبار!!

    فيا معطّل عقله في مثل هذه المسائل! أليس في إسناد هذا العلم والشعور والعقل الذي يسع ألفاً من مثل «أفلاطون» إلى ذرة في عقل مَن لا يملكه مثلك، خرافة خرقاء، وبلاهة بلهاء؟!.

    المحال الثاني: إنَّ جسمك أيها الإنسان يشبه قصراً فخماً عامراً، له من القباب ألف قُبَّةٍ وقُبَّة، وكل قُبَّةٍ من قبابه مُعَلقة فيها الأحجارُ، ومرصوصة بعضها إلى البعض الآخر في بناء محكَم دون عمد. بل إن وجودك -لو فكرت- هو أعجبُ من هذا القصر بألوف المرات، لأنَّ قصر جسمك أنت في تجدد مستمر يبلغ الكمال في الانتظام والروعة.

    فلو صرفنا النظر عما تحمله من روح ومن قلب ومن لطائف معنوية وهي معجزةٌ بذاتها، وأخذنا بنظر الاعتبار والتفكر عضواً واحداً فقط من أي عضو كان من بين أعضاء جسدك نراه شبيهاً بمنزلٍ ذي قباب. فالذرات التي فيه قد تعاونَت وتعانقت بعضها مع البعض الآخر، في انتظام تام، وموازنة كاملة -كالأحجار في تلك القباب- وكونت بناءً خارقاً، وصنعة رائعة بديعة، فأظهرت للعيان معجزة عجيبة من معجزات القدرة الإلهية «كالعين واللسان» مثلاً.

    فلو لم تكن هذه الذرات مأمورةً منقادة لأمر الصانع القدير، فإن كل ذرة منها إذن لابد أن تكون حاكمةً حُكماً مطلقاً على بقية ذرات الجسد ومحكومةً لها حُكماً مطلقاً كذلك، وأن تكون مثل كلٍ منها، وضدّ كل منها -من حيث الحاكمية- في الوقت نفسه وأن تكون مناط أغلب الصفات الجليلة التي لا يتصف بها إلّا الله سبحانه وتعالى، وأن تكون مقيدةً كلياً، وطليقةً كلياً في الوقت نفسه...

    فالمصنوع الواحد المنتظم والمنسق الذي لا يمكن أن يكون -بسر الوحدانية- إلّا أثراً من آثار الواحد الأحد محالٌ أن يُسند إلى تلك الذرات غير المحدودة، بل هو مائة محال في محال...! يدرك ذلك كل من له مِسكةٌ من عقل!

    المحال الثالث: إنْ لم يكن وجودُك هذا قد كتب بقلم الواحد الأحد القدير الأزلي، وكان مطبوعاً بمطابع الطبيعة والأسباب، فيلزم عندئذٍ وجود قوالب طبيعية بعددِ ألوف الألوف من المركبات المنتظمة العاملة في جسمك، والتي لا يحصرها العد، ابتداءً من أصغر الخلايا العاملة بدقة متناهية وانتهاءً بأوسع الأجهزة العاملة فيه.

    ولفهم هذا المحال نأخذ الكتاب الذي بين أيدينا مثالاً، فنقول:

    إنْ اعتقدتَ أنَّ هذا الكتاب مستنسخ باليد، فيكفي إذن لاستنساخه قلمٌ واحد، يُحرِكه علمُ كاتبه ليدوّن به ما يشاء، ولكن إن لم يُعتقد أنه مستنسخ باليد ولم يُسند إلى قلم الكاتب، وافتُرِض أنه قد تشكّل بنفسه، أو أُسندت كتابتُه إلى الطبيعة، فيلزم عندئذٍ أن يكون لكل حرفٍ من حروفه قلمٌ معدني خاص به، ويكون عدد الأقلام بعدد تلك الحروف -بمثل وجود الحروف المعدنية في المطبعة والتي هي بعدد الحروف وأنماطها- أي يلزم وجودُ أقلام بعدد الحروف بدلاً من قلم واحد للاستنساخ، وقد يكون هناك في تلك الحروف، حروفٌ كبيرة مكتوب فيها بخط دقيق ما في صحيفة كاملة، فيلزم إذن لكتابة مثل هذه الحروف الكبيرة ألوف الأقلام الدقيقة.

    والآن ماذا تقول لو كانت تلك الحروف متداخلةً بعضها بالبعض الآخر بانتظام كامل متخذةً هيأة جسدك وشكله؟! فيلزم عندئذٍ أن يكون لكل جزء من أجزاء كل دائرة من دوائره المذكورة قوالبُ عديدةٌ بعدد تلك المركبات التي لا يحصرها العدّ!

    هَبْ أنك تقول لهذه الحالة المتضمنة لمائة محال في محال، أنها ممكنةَ الحدوث! فحتى في هذه الحالة -على فرض إمكانها- أفلا يلزم لصنع تلك الأقلام وعمل تلك القوالب والحروف المعدنية أقلامٌ وقوالب وحروفٌ بعددها لتصبّ وتسكب فيها إنْ لم يُسند صنعُها جميعاً إلى قلم واحد؟ ذلك لأنَّ جميعها مصنوعة ومحدثة منتظمة، ومفتقرة إلى صانع ليصنعها، ومُحدِثٍ ليحدثها، وهكذا الأمر يتسلسل كلما أوغلت فيه.

    فافهم من هذا مدى سقم هذا الفكر الذي يتضمن محالات وخرافات بعدد ذرات جسمك!

    فيا أيها الجاحد... عُد إلى عقلك وانبذ هذه الضلالة المشينة!

    الكلمة الثالثة:

    والتي هي قولهم عن الشيء: «اقتضته الطبيعة».

    فهذا الحُكم له محالاتٌ كثيرة جداً، نذكر ثلاثة منها على سبيل المثال:

    المحال الأول: هو الإتقان والإيجاد المتَّسمَين بالبصيرة والحكمة الظاهرَين في الموجودات ظهوراً جلياً، ولاسيما في الأحياء، إنْ لم يُسندا إلى قلم «القدر الإلهي» وإلى قدرته المطلقة، وأسندا إلى «الطبيعة» العمياء الصماء الجاهلة وإلى «القوة» يلزم أن توجِدَ الطبيعةُ -من أجل الخلق- مطابعَ ومكائنَ معنوية لا حد لها في كل شيء أو تدرجَ في كل شيء قدرةً قادرة على خلق الكون كله، وحكمةً مدبرة لإدارة شؤونه كلها.

    مثال ذلك: إنَّ تجلياتِ الشمس وانعكاساتِها الضوئية، وبريقَ لمعانها المشاهَد على قطرات الماء الرقراقة المتلألئة، أو على القطع الزجاجية المتناثرة هنا وهناك على سطح الأرض، مما يخيل للناظر السطحي النظر أنها صورٌ لشُميسات مثالية. فإن لم تُنسَب هذه الانعكاسات واللمعات إلى الشمس الحقيقية التي تطالعنا بشعاعها الغامر يلزم الاعتقاد بشمس طبيعية فطرية صغيرة ظاهرية تملك صفاتِ الشمس نفسها وتتصف بخصائصها، موجودةٍ وجوداً فعلياً في تلك القطعة الزجاجية الصغيرة -التي لا تسع لأدنى شيء- أي يلزم الاعتقاد بوجود شموس بعدد ذرات القطع الزجاجية.

    وفي ضوء هذا المثال نقول: إنْ لم يُسنَد خلقُ الموجودات والأحياء إسناداً مباشراً إلى تجليات أسماء الله الحسنى الذي هو نور السماوات والأرض يلزم الاعتقاد إذن بوجود طبيعةٍ وقوة تملكان قدرةً مطلقة وإرادة مطلقة مع علم مطلق وحكمةٍ مطلقة في كل موجود من الموجودات، ولاسيما الأحياء، أي يلزم قبولُ ألوهية وربوبية في كل موجود.

    فهذا النمط من التفكير المعوج لهو أشد بطلاناً من أي محال آخر، وأكثر خرافة منه، فالذي يسند ما أبدعه الخالقُ العظيم من صنعة رائعة دقيقة، ظاهرة جلية حتى في أصغر مخلوق إلى يدِ الطبيعة الموهومة، التافهة التي لا تملك شعوراً لا شك أنه يتردى بفكره إلى درك أضل من الحيوان.

    المحال الثاني: هو أنَّ هذه الموجودات التي هي في غاية الانتظام، وفي منتهى الروعة والميزان، وفي تمام الإتقان، وكمال الحكمة والاتّزان؛ إنْ لم تُسند إلى من هو قديرٌ مطلق القدرة، وحكيمٌ مطلق الحكمة، وأُسندت إلى الطبيعة، يلزم الطبيعة أنْ تحضر في كل حفنة تراب، معاملَ ومطابع بعددِ معامل أوروبا ومطابعها، كي تتمكن تلك الحفنة من أن تكون منشأ الأزهار والأثمار الجميلة اللطيفة؛

    لأنَّ تلك الحفنة من التراب التي تقوم بمهمة مشتل صغير للأزهار تظهر قابلية فعلية لاستنبات وتصوير ما يلقى فيها بالتناوب من بذور جميع أزهار العالم وثماره، وبأشكالها، وهيئاتها المتنوعة، وألوانها الزاهية.

    فإن لم تسند هذه القابلية إلى قدرة الفاطر الجليل القادر على كل شيء.. فلابد إذن أن توجد في تلك الحفنة ماكنة معنوية طبيعية خاصة لكل زهرة من أزهار العالم وإلّا لا يمكن أن يظهر ما نشاهده من أنواع الأزهار والثمار إلى الوجود! إذ البذور -كالنطف والبيوض أيضاً- موادُّها متشابهة اختلط وعُجن بعضها ببعض بلا شكل معين وهي مولد الماء ومولد الحموضة والكربون والآزوت. علماً أنَّ كلاً من الهواء والماء والحرارة والضوء أشياء بسيطة لا تملك عقلاً أو شعوراً، وهي تتدفق كالسيل في كل شيء دونما ضابط. فتشكيل تلك الأزهار التي لا تحد من تلك الحفنة من التراب بصورها المتنوعة البديعة وأشكالها المختلفة الزاهية وبهيئاتها المتباينة الرائعة وهي في منتهى الانتظام والإتقان تقتضي بالبداهة وبالضرورة أنْ توجد في تلك الحفنة من التراب مصانعُ ومطابعُ معنوية بمقاييس صغيرة جداً أكثر مما في أوروبا من مصانع ومطابع، كي تتمكن أن تنسج تلك المنسوجات الحية التي لا تعد، وتطرز تلك النقوش الزاهية المتنوعة التي لا تحصى.

    فيا لبُعد ما يحمله الطبيعيون من فكرٍ إلحادي عن جادة العقل السليم! اعلم هذا، وقِسْ مدى بُعد أولئك الذين يدّعون أنهم عقلاء وعلميون عن موازين العقل والعلم بتوهمهم أنَّ الطبيعة موجِدةٌ للأشياء.. أولئك الذين اتخذوا خرافةً ممتنعة وغير ممكنة إطلاقاً، مسلكاً لهم، فاسخر منهم، واحتقرهم.

    ولسائل أنْ يسأل: صحيح أنَّ محالات كثيرة، ومعضلات عظيمة تنجم عندما يُسند خلق الموجودات إلى الطبيعة، ولكن كيف تزول هذه المشكلات، وتنحل هذه المعضلات عندما نسند عملية الخلق برمتها إلى الواحد الأحد الفرد الصمد؟ وكيف ينقلب ذلك الامتناع الصعب إلى الوجوب السهل؟

    الجواب: إنَّ تجليات الشمس وانعكاساتها -كما ذُكرَ في المحال الأول- أظهرت نفسها بكل سهولة، ومن دون تكلف أو صعوبة في جميع المواد ابتداءً من الجامد الصغير المتناهي في الصغر -كقطع الزجاج- إلى أوسع السطوح للبحار والمحيطات، فأظهرت على الكل فيضَها وأثرها في منتهى السهولة، وكأن كلاً منها شُميسات مثالية. فلو قُطعَت نسبةُ تلك الانعكاسات إلى الشمس الحقيقية، فلابد من الاعتقاد بوجود شمس طبيعية في كل ذرة من الذرات وجوداً ذاتياً خارجياً. وهذا ما لا يقبله عقل، بل هو ممتنع ومحال.

    فكما أنَّ الأمر في المثال هو هكذا، كذلك إسنادُ خلق كل موجود إسناداً مباشراً إلى الواحد الأحد الفرد الصمد فيه من السهولة المتناهية بدرجة الوجوب، إذ يمكن إيصال ما يلزم أي موجود إليه، بكل سهولة ويسر، وذلك بالانتساب وبالتجلي.

    بينما إذا ما قُطع ذلك الانتساب، وانقلب الاستخدام والتوظيف والطاعة إلى الانفلات من الأوامر والعصيان، وترك كل موجود طليقاً يسرح كيفما يشاء، أو أُسند الأمر إلى الطبيعة، فستظهر مئاتُ الألوف من المشكلات والمعضلات بدرجة الامتناع، حتى نرى أن خلق ذبابة صغيرة يقتضي أنْ تكون الطبيعةُ العمياء التي فيها مالكةً لقدرة مطلقة تتمكن بها من خلق الكون كله، وأن تكون -مع ذلك- ذات حكمةٍ بالغة تتمكن بها من إدارته، حيث إن الذبابة -رغم صغرها- بديعةُ الصنع، تنطوي على أغلب مكونات الكائنات وكأنها فهرس مختصر لها..

    وهذا ليس بمحال واحد فحسب بل ألف محال ومحال..!

    الخلاصة: كما أنه محالٌ وممتنعٌ وجودُ نظيرٍ أو شريك لله سبحانه وتعالى في ألوهيته، كذلك ممتنعٌ ومحال مثله أنْ تكون هناك مداخلةٌ من غيره في ربوبيته، أو مشاركة له من أحد في إيجاده الأشياء وخلقها..

    أما المشكلات التي في «المحال الثاني» التي أثبتناها في عديد من الرسائل؛ فهي: أنه إذا ما نُسِبَ خلقُ جميع الأشياء إلى الواحد الأحد، يسهل ذلك الخلق كما يسهل خلقُ شيء واحد. بينما إذا ما نُسِبَ الخلق إلى الأسباب وإلى الطبيعة يصبح خلقُ الشيء الواحد وإيجادُه مُشكلاً وصعباً، كخلق الجميع. وحيث إننا سبق أن أثبتنا هذا ببراهين دامغة، نورد هنا ملخص برهان واحد فقط:

    إذا انتسب أحدٌ إلى السلطان بالجندية أو بالوظيفة الحكومية، فإنه يتمكن من أن ينجز من الأمور والأعمال أضعاف أضعاف ما يمكنه إنجازُه بقدرته الشخصية، وذلك بقوة ذلك الانتساب السلطاني. فمثلاً يستطيع أن يأسر قائداً كبيراً باسم سلطانه، مع أنه جندي. حيث تحمل خزائنُ السلطان وقطعاتُ الجيش الأجهزةَ والأعتدة لما يقوم به من أعمال، فلا يحملها هو وحده، كما أنه ليس مضطراً إلى حملها. كل ذلك بفضل انتسابه إلى السلطان، لذا تظهر منه أعمالٌ خارقة كأنها أعمال سلطان عظيم، وتبدو له آثار -فوق ما تبدو منه عادةً- وكأنها آثارُ جيش كبير رغم أنه فرد.

    فالنملة -من حيث تلك الوظيفة- تتمكن من تدمير قصر فرعون طاغٍ، والبعوضةُ تستطيع أن تهلك نمروداً جباراً بقوة ذلك الانتساب.. والبذرة الصغيرة للصنوبر الشبيهة بحبة الحنطة تنشئ بذلك الانتساب جميعَ أجهزة شجرة الصنوبر الضخمة. ([2])

    فلو انقطع ذلك الانتساب، وأُعفي الموجود من تلك الوظيفة، فعليه أنْ يحمل على كتفه قوة ما ينجزه من أعمال وينوء كاهله بلوازمها ومعداتها. وبذلك لا يمكنه القيام بأعمال سوى أعمال تتناسب مع تلك القوة الضئيلة المحدودة المحمولة على ذراعه، بما يناسب كميةَ المُعدات واللوازم البسيطة التي يحملها على ظهره، فلو طلب منه أنْ يقوم بأعمالٍ كان يقوم بها بسهولة ويسر في الحالة الأولى لأظهر عجزه، إلّا إذا استطاع أنْ يُحمّل ذراعَه قوة جيش كامل، ويردف على ظهره معامل أعتدة الدولة الحربية!!

    إنَّ صاحب هذا الخيال السابح في فضاء الوهم والخرافة يتوارى خجلاً مما يقول.

    نخلص من كل ما تقدم إلى:

    أنَّ تسليمَ أمرِ كل موجود وتنسيبه إلى واجب الوجود سبحانه فيه السهولة التامة بدرجة الوجوب. أما إسنادُ إيجاده إلى الطبيعة فهو معضل إلى حد الامتناع وخارج عن دائرة العقل.

    المحال الثالث: نوضح هذا المحال بمثالين قد بيّناهما في بعض الرسائل؛ هما:

    المثال الأول: يدخل إنسان بدائي ساذج التفكير، لم يكن يملك أي تصوّر حضاري مسبَقٍ؛ يدخل هذا الشخص قصراً فخماً بديعاً، يزهو بزينته، ويختال بأرقى ما وصلت إليه الحضارة من وسائل الأبَّهة والراحة، ويتلألأ بأضوائه في عتمة فلاةٍ خاليةٍ موحشة، فيدلف إليه، ويدور في أرجائه، فتشدَهُه براعةُ بنائه، ونقوش جدرانه، وروعة إتقانه.. وبكل سذاجة تصوره وبلاهته يمنح القصر حياةً، ويعطيه قدرةَ تشييد نفسه بغُرفه وأبهائه، وصوره الجميلة، ونقوشه الأخّاذة، لا لشيء إلّا لكونه قاصراً عن تصور وجود أحد -خارج هذا القصر- وفي هذه الفلاة يمكنه أن ينسب إليه بناء هذا القصر، لذا فقد طفق يتحرى عن «الباني» داخل القصر لعله يعثر عليه بين أشياء القصر، فما من شيء وقع عليه بصرُه إلّا وتردد فيه وشكّ في كونه قادراً على إيجاد مثل هذا القصر الذي يملأ أقطار النفس والعقل بروعة صنعه، وجمال بنائه.

    وتقوده قدماه إلى زاوية من زوايا القصر ويعثر فيها فجأةً على دفتر ملاحظات كان قد دونت فيه خطة مفصلة لعملية بناء القصر، وخُطّ فيه أيضاً فهرس موجوداته وقوانين إدارة ممتلكاته. ورغم أن ذلك الدفتر كمحتوياته، ليس من شأنه تشييد القصر وتزيينه، إذ لا يملك يداً يعمل بها، ولا بصيرةً يبصر بها، إلّا أنه تعلق به إذ وجده متطابقاً بمحتوياته، مع مجاميع أشياء القصر، ومنسجماً مع سير العمل فيه -إذ هو عنوان قوانين الله العلمية- لذا قال مضطراً: «إن هذا الدفتر هو الذي شيّد هذا القصر ونظّمه وزيّنه، وهو الذي أوجد الأشياء فيه ورتبها هذا الترتيب ونسقها هذا التنسيق»... فكشف بهذا الكلام عن مدى عُمق جهله، وتأصل حماقته.

    وعلى غرار هذا المثال تماماً، يدلف إلى قصر العالم العظيم -الذي هو أدق نظاماً وأكملُ إتقاناً، وأجمل صُنعاً، وأزهى جمالاً، من ذلك القصر الصغير المحدود المذكور آنفاً في المثال، حيث لا يقبل المقايسة والموازنة معه، فكل ناحية من نواحيه تشع معجزاتٍ بديعةً وحكماً ساميةً- يدلف واحد ممّن يدينون بفكرة الطبيعة وينكرون عظمة الألوهية إلى هذا القصر، واضعاً في ذهنه -مُسبَقاً- الإعراض عما هو مبثوث أمامه من آثار صنعة الله سبحانه المنزّه عن المخلوقات، المتعالي عن الممكنات.. ويبدأ بالبحث والتحري عن السبب «الموجد» ضمن الممكنات والمخلوقات! فيرى قوانينَ السنن الإلهية، وفهارسَ الصنعة الربانية. والتي يطلق عليها خطأً -وخطأً جسيماً- اسمَ الطبيعة التي يمكن أن تكون شبيهةً بصفحة من كراسة «التغيير والتبديل» لقوانين إجراءات القدرة الإلهية، وبمثابة لوحة «المحو والإثبات» للقدر الإلهي، ولكنه ينبري إلى القول:

    مادامت هذه الأشياء مفتقرةً إلى علّةٍ موجِدةٍ، ولا شيء أعظم ارتباطاً بها، من هذه «الكراسة» فأني أخلُص من ذلك إلى أن هذه «الكراسة» -بما تتضمنه من قوانين المحو والإثبات- هي التي أوجدت الأشياء، مادام لا يطيبُ لي الاعتقاد والإيمان بالصانع الجليل سبحانه. برغم أنَّ العقل المنزّه عن الهوى يرفض كلياً -ضمن منطقه- أن ينسب شؤون الربوبية المطلقة -والتي تقتضي قدرةً مطلقةً- إلى هذه «الكراسة» العمياء الصماء العاجزة.

    ونحن نقول:

    يا أحمقَ من «هَبَنَّقة»! ([3]) أطِلَّ برأسك من تحت مستنقع الطبيعة.. لترى الصانع الجليل الذي تشهد له جميعُ الموجودات، من الذرات إلى المجرات، بألسنة متنوعة، وتشير إليه إشارات مختلفة.. وشاهد تجليات ذلك المصوّر الجليل الذي شيّد قصر العالم الباذخ، ودوّن خطته وبرنامجه وقوانينه في تلك الكراسة.. وأنقذ نفسك من ذلك الهذيان الآثم الرخيص!

    المثال الثاني: يدخل إنسانٌ معزولٌ عن عالم المدنية والحضارة، وسط معسكر مهيب، فيبهرُه ما يشاهد من تدريبات متنوعة يؤديها -بغاية الانتظام والإتقان ومنتهى الطاعة والانقياد- جنودُ هذا المعسكر، فيلاحظ حركاتهم المنسقةَ وكأنها حركة واحدة يتحرك الجميع -فوجاً ولواءً وفرقةً- بحركةِ فرد واحد منهم، ويسكن الجميعُ بسكونه، يطلق الجميع النار إطلاقاً واحداً إثر أمر يصدره ذلك الفرد.. فحارَ في أمره، ولم يكن عقله الساذج ليدرك أنَّ قيادة قائد عظيم هو الذي ينفذ أوامره بأنظمة الدولة وأوامر السلطان، فتخيل حبلاً يربط أولئك الجنود بعضهم بالبعض الآخر.. ثم بدأ يتأمل خيالاً، مدى أعجوبة هذا الحبل الموهوم. فزادت حيرتُه واشتدّ ارتباكه. ثم يمضي إلى شأنه.

    ويدخل جامع «آيا صوفيا» العظيم، يوم الجمعة ويشاهد جموعَ المصلّين خلف رجل واحد يمتثلون لندائه في قيامهم وقعودهم وسجودهم وركوعهم، ولمّا لم يكن يعرف شيئاً عن الشريعة الإلهية، والدساتير المعنوية لأوامر صاحب الشريعة، فإنه يتصور، بأن هذه الجماعة مرتبطة ببعضها البعض بحبال مادية، وأن هذه الحبال قد قيدت حركة الجماعة وأسَرتهم، وهي التي تحركهم وتوقفهم عن الحركة.

    وهكذا يمضي إلى سبيله وقد امتلأ ذهنُه بأخطاء تصوراته، التي تكاد تثير الهزء والسخرية حتى لدى أشد الناس وحشية وهمجية.

    ففي ضوء هذا المثال: يأتي ملحدٌ إلى هذا العالم الذي هو معسكر مهيب رائع لجنود السلطان الجليل، وهو مسجد عظيم بارع يعظَّم فيه ذلك المعبود الأزلي ويقدَّس؛ يأتيه وهو يحمل فكرة «الطبيعة» الجاحدة ذلك الجهل المطبق..

    فيتصور «القوانين المعنوية» التي يشاهد آثارَها في ربط أنظمة الكون البديع، والنابعة من «الحكمة» البالغة للبارئ المصور سبحانه، يتصورها كأنها قوانين مادية، فيتعامل معها في أبحاثه كما يتعامل مع المواد، والأشياء الجامدة..

    ويتخيل أحكام قوانين الربوبية التي هي قوانين اعتبارية ودساتير الشريعة الفطرية الكونية للمعبود الأزلي، والتي هي بمجموعها معنوية بحتة، وليس لها وجود سوى وجود علمي، يتخيلها وكأنها موجودات خارجية ومواد مادية..

    ويقيم تلك القوانين الصادرة من العلم الإلهي والكلام الرباني التي لها وجود علمي فقط مقام القدرة الإلهية، ويملّكها الخلق والإيجاد، ويطلق عليها اسم «الطبيعة»، متصوراً القوة التي هي تجلٍ من تجليات القدرة الربانية، أنها صاحبة قدرة فاعلة، وقديراً مستقلة القدرة بذاتها:

    أ فبعد هذا جهالة وغباء؟ أوَ ليس هذا جهلاً بأضعاف أضعاف ما في المثال؟!

    الخلاصة: إنَّ الطبيعة التي يتعلق بها الطبيعيون ذلك الأمر الموهوم الذي ليس له حقيقة، إنْ كان ولابد أنها مالكة لوجود حقيقي خارجي فإن هذا «الوجود» إنما هو صنعةُ صانعٍ ولن يكون صانعاً، وهو نقشٌ ولن يكون نقاشاً، ومجموعة أحكام ولن يكون حاكماً، وشريعة فطرية ولن يكون شارعاً، وستار مخلوق للعزة، ولن يكون خالقاً، وفطرة منفعلة ولن يكون فاطراً فاعلاً، ومجموعةُ قوانين ولن يكون قادراً، ومِسطَر ولن يكون مصدراً.

    وحاصل الكلام: مادامت الموجودات موجودةً فعلاً، والعقل يعجز عن تصور أكثر من أربعة طرق للوصول إلى حدوث الموجود -كما ذكرنا ذلك في المقدمة- وقد أثبتَ إثباتاً قاطعاً بطلان ثلاثة من تلك الطرق الأربعة، وذلك ببيان ثلاثة محالات ظاهرة جلية في كل منها، فلابد وبالضرورة والبداهة أن يثبت بيقين لا سبيل مطلقاً إلى الشك فيه الطريق الرابع، وهو طريق الوحدانية ذلك الطريق الذي تنيره الآية الكريمة: ﴿ اَفِي اللّٰهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ.. ﴾ (إبراهيم: ١٠). والتي تدل بداهةً ويقيناً على وجود واجب الوجود، وعلى ألوهيته المهيمنة، وعلى صدور كل شيء من يد قدرته، وعلى أن مقاليد السماوات والأرض بيده سبحانه وتعالى.

    فيا عابد الأسباب! أيها المسكين المفتون بالطبيعة!

    ما دامت طبيعةُ كل شيء مخلوقة كالشيء نفسه، لأن تكونَها محدَثٌ -غير قديم- وعليها علامةُ الصنعة والإتقان، وأن سبب وجود هذا الشيء الظاهري هو أيضاً مصنوعٌ حادثٌ. ولما كان وجود أي شيء مفتقراً إلى وسائلَ وآلات وأجهزة كثيرة جداً..

    فلابُدّ من قدير مطلق القدرة ليخلق تلك الطبيعة في الشيء، ويُوجِد ذلك السبب له، ولا بد أن يكون -هذا القدير المطلق القدرة- مستغنياً غناءً مطلقاً، فلا يشرك الوسائط العاجزة في إيجاده للشيء وفي هيمنة ربوبيته عليه.

    فحاشَ لله أنْ يكون سواهُ القدير المستغني المتعال، بل هو سبحانه وتعالى يخلق المسبّب والسبب معاً من علوّه خلقاً مباشراً، ويوجِد بينهما سببية ظاهرية وصورية، ويقرن بينهما من خلال ترتيب وتنظيم، جاعلاً من الأسباب والطبيعة ستاراً ليد قدرته الجليلة، وحجاباً لعظمته وكبريائه، ولتبقى عزتُه منزّهةً مقدسة في عليائها، ويجعل تلك الأسباب موضعَ الشكوى لما يتراءى من نقائص، ولما يتصور من ظلم ظاهري في الأشياء.

    أيهما أسهل على الفهم، وأقرب معقوليةً إلى الذهن: تصور «ساعاتي» يصنع تروس الساعة ومعداتها، ثم ينظمها على وفق ترتيب تروسها، ويوازن بين حركات عقاربها بدقة متناهية، أم أن نتصور الساعاتي يصنع في تروس الساعة وعقاربها ودقيق آلاتها ماكنة خارقة الفِعال يُسلّمُ صنع الساعة إلى جمادية أيديها؟! قل معي: أليس هذا كلاماً فارغاً ومحالاً وخارجاً عن حدود الإمكان؟ فهيا خاطب أنت عقلك المجحف وكُنْ أنت القاضي والحَكم.

    وأيهما يكون مُستساغاً ومقبولاً في منطق العقل: تصور كاتب يخط كتاباً بنفسه بعد أن يحضر لوازم الكتابة؛ من مِداد وقلم وورق، أم تصور إيجاد ذلك الكاتب مطبعة خاصة بذلك الكتاب وهي أعقد وأدق من الكتاب نفسه يترك لها أمر كتابة هذا الكتاب فيخاطبها قائلاً: هيا اشرعي أنت بكتابة الكتاب.. من دون تدخل من قبله؟

    أليس مثل هذا التصور السقيم مُعضلاً عقلاً؟ ومشكلاً بأضعاف أمر الكتابة نفسها؟!

    وإذا قلت: إنَّ إيجاد مطبعة لطبع الكتاب أعقد وأصعب من الكتاب نفسه، إلّا أنّ ماكنة المطبعة، قادرة على إصدار آلاف النسخ من الكتاب في مدة قصيرة. وهذا وسيلة التيسير.

    الجواب: إن البارئ المصور سبحانه قد خلق بقدرته المطلقة، بتجديد تجليات أسمائه الحسنى وإظهارها على أشكال مختلفة، تشخصات الأشياء وملامحها، الخاصة بها، بحيث لا يشبه مخلوق مخلوقاً آخر تشابهاً تاماً ومتطابقاً قط، وهو كتابٌ صمداني، ومكتوبٌ رباني.

    نعم، إنه لأجل أن يفي كل مخلوق بمعاني وجوده، لابدّ أن يملك سيماءً يُعرف بها ويخالف بها الآخرين، وملامحَ تباين ملامح غيره.

    فانظر ودقق النظر في وجه الإنسان ترَ أن علاماتٍ فارقة قد احتشدت في هذا الوجه الصغير، بحيث تميز هذه العلامات صاحبها عن جميع الوجوه الأخرى المتتابعة منذ زمن آدم عليه السلام حتى اليوم، وإلى الأبد، رغم التشابه والاتفاق في الماهية الإنسانية، والكينونة البشرية، وهذا واضح جلي وثابت قطعاً.

    فملامح كلّ وجهٍ كتابٌ خاص بالوجه نفسه، وهو كتابٌ مستقلٌ بذاته عن غيره.. فلأجل إخراج هذا الكتاب الخاص، وإتقان صنعه وتنظيمه، يستوجب الأمر وجودَ مجموعة أبجدية كاملة من الحروف، ومناسِبة حجماً له، ويتطلب تنضيد هذه الحروف في مواضعها من لوحة التنضيد، ليتم بعد ذلك مؤلف خاص بهذا الوجه يخالف تأليف الآخرين.

    ويستلزم هذا الأمر جلب موادِ صُنعه الخاصة به، ثم وضعها في أماكنها المخصصة لها، ثمّ إدراج كل ما يلزم وجود هذا الوجه -في الوجه نفسه- من عناصر البناء. وهذا كله لاشك يحتاج إلى مصنع مستقل خاص به أي إلى مطبعة خاصة في كل أشيائها لكل وجه من الوجوه، ثم أَلَا تحتاج هذه المطبعة الخاصة -على فرض وجودها- إلى تنظيم معين، وتنسيق مخصوص، فأمر الطبع نفسه -دع عنك تنسيق الحروف وترتيبها وتنظيمها- هو أيضاً بحاجة إلى تنظيم؟..

    فالمواد الموجودة في جسم كل كائن حي هي أكثر تعقيداً وأدق تنظيماً من مواد المطبعة وتنظيمها بمئات الأضعاف، فجلب هذه المواد من أقطار العالم، ضمن حسابات معينة، وموازين دقيقة، ثم تنضيدها حسب مقتضيات الحاجة إليها، وأخيراً وضعها تحت يد تلك المطبعة... هذه السلسلة الطويلة من الإجراءات تحتاج -أولاً وقبل كل شيء- إلى موجِد يوجد تلك المطبعة المفترضة، وليس هو إلّا القدرة الفاطرة للخالق القدير وإرادته النافذة.

    إذن فاحتمال كون الطبيعة كأنها مطبعة، خرافة فاضحة لا معنى لها على الإطلاق.!

    وهكذا على غرار ما شاهدناه في مثال «الساعة والكتاب»: إنَّ الصانع ذا الجلال وهو القادر على كل شئ، هو نفسه خالق الأسباب، وخالق المسبّبات، وهو الذي يربط المسبّبات بالأسباب بحكمته سبحانه، وقد عين بإرادته طبيعة الأشياء، وجعلها مرآة عاكسة لتجليات الشريعة الفطرية الكبرى التي فطر عليها الكون، والتي هي قوانين الله وسننه الجارية التي تخص تنظيم شؤون الكون، وقد أوجد بقدرته وجه «الطبيعة» التي يقوم عليها عالم الشهادة الخارجي الوجود، ثم خلق الأشياء وأنشأها على تلك الطبيعة ومازج بينهما بتمام الحكمة.

    والآن نحيل الأمر إلى إنصاف عقلك المجحف ليرى: أيهما يستسيغه عقلك ويسهل عليه الاعتقاد به؟ أ هذه الحقيقة المعقولة النابعة من براهين دامغة غير محدودة -وهي مُلزمة إلى حدّ الوجوب- أم إعطاء ما يلزم للأشياء من أجهزة وأعضاء لا تحد، وإسناد أعمال تتسم بالحكمة والبصيرة إلى الشيء نفسه؟! أو نسبتها إلى ما تسمونه بـ«الطبيعة» والأسباب التي هي مواد جامدة خالية من الشعور وهي مخلوقة مصنوعة؟ أليست هذه خرافة ممتنعة وخارجة عن نطاق الإمكان؟

    يجيب عابد الطبيعة -ذلك الجاحد- قائلاً:

    ما دمت تدعوني إلى الإنصاف فأنا أعترف: بأنَّ ما سلكناه من طريق مضلّ إلى الآن مثلما أنه محال بمائة محال فهو مضر أيما ضرر، وهو في منتهى القبح والفساد. إنَّ مَن كان له مسكة من عقل يدرك من محاكماتكم العقلية، وتحقيقاتكم العلمية المسندة بالبراهين والمذكورة آنفاً، أن إسناد الإيجاد والخلق إلى الأسباب وإلى الطبيعة ممتنع عقلاً ومحال قطعاً، بل الواجب والضروري الملزم للعقل هو إسناد كل شيء مباشرة إلى واجب الوجود سبحانه، فاحمد الله الذي هداني إلى هذا الإيمان.

    ولكن بقيتْ لدىّ شبهة واحدة فقط وهي: أنني أُؤمِن بالله ربّاً وأنه خالق كل شيء، ولكني أتساءل: ماذا يضر عظمتَه سبحانه، وماذا يضر سلطانه جلّ وعلا، أن نتوجه ببعض المدح والثناء إلى بعض الأسباب الجزئية في إيجادها الأشياء الصغيرة التافهة، فهل ينقص ذلك شيئاً من سلطانه سبحانه وتعالى؟!

    والجواب: كما أثبتنا في قسم من الرسائل إثباتاً قاطعاً: أنَّ شأن الحاكمية «ردُّ المداخلة» ورفضُها كلياً، بل إن أدنى حاكم، أو أي موظف بسيط لا يقبل تدخلاً حتى من ابنه ضمن حدود حاكميته، بل إن توهم التدخل في الحاكمية قد دفع بعض السلاطين إلى قتل أولادهم الأبرياء رغم أنهم كانوا على شيء من التقوى والصلاح، ممّا يظهر مدى أصالة هذا القانون -قانون ردّ المداخلة- في الحاكمية، فهو سارٍ في كل شيء ابتداءً من متخاصمَين في تسنم إدارة ناحية صغيرة إلى سلطانَين يتنازعان للتفرد بالسلطة في البلاد، وكذلك فقد أظهر -بما لا يقبل الشك- ما يقتضيه استقلال الحاكمية من قانون «منع الاشتراك»، وأوضح نفوذَه وقوته خلال تاريخ البشرية الطويل، وما أدى إليه من اضطراب وقتل وتشريد وأنهار من الدماء المهراقة.

    تأمل في الإنسان الذي هو عاجز عن إدارة نفسه ومفتقر إلى التعاون مع الآخرين، ولا يملك من الحاكمية والآمرية إلّا ظِلاً باهتاً، فهو يردُّ المداخلة إلى هذه الدرجة، ويمنع تدخل الآخرين إلى هذا الحد، ويرفض مشاركةَ الآخرين في حاكميته، ويسعى بما لديه من قوة للتشبث باستقلالية مقامه، تأمل في هذا، ثم انظر إلى الحاكم المطلق وهو مستوٍ على عرش الربوبية، والآمر المطلق وهو المهيمن بالألوهية، والمستقل المطلق بالفردية والأحدية، وهو المستغني المطلق بقادرية مطلقة، ذلكم الله ربنا ذو الجلال..

    فكم يكون لازماً وضرورياً «ردّ المداخلة» هذه بالنسبة إليه، ومنع الاشتراك وطرد الشريك في حاكميته المطلقة، وكم هو من لوازم هذه الحاكمية ومن أوجب وجائبها؟

    فقارن الآن ووازن بين حاكمية الإنسان المحدودة الضيقة المفتقرة إلى الآخرين وحاكمية الله المطلقة الغنية المهيمنة الشاملة.

    أما الشق الثاني من شبهتك وهو أنه: إذا قُصِدَ «بعضُ الأسباب» ببعض العبادة من بعض الأمور الجزئية، فهل ينقص ذلك شيئاً من عبادة المخلوقات المتوجهة جميعاً إلى الله القدير، ابتداءً من الذرات وانتهاءً بالسيارات والمجرّات؟!

    فالجواب: أنَّ الخالق الحكيم العليم سبحانه، قد خلق هذا الكون بمثابة شجرة، وجعل أرباب الشعور ثمارها الكاملة، وكرّم الإنسان باعتباره أجمع ثمرة لأرباب المشاعر، وجعل الشكر والعبادة أفضل ما تثمره حياة الإنسان، بل هما -الشكر والعبادة- نتيجة خلقه وغاية فطرته وثمرة حياته.

    فهل يمكن عقلاً لهذا الحاكم المطلق والآمر الفرد، وهو الواحد الأحد، أن يسلّم أمر الإنسان الذي هو ثمرة الكون كله إلى غيره من «الأسباب» ويسلم ثمرة حياته -وهي الشكر والعبادة- إلى الآخرين، بعدما خلق الكون كله لمعرفة ألوهيته، ولمحبة ربوبيته، فهل يمكن أن يجعل نتيجة الخلق، وثمرة الكون تسقط بين أشداق عفونة العبث؟! حاشَ لله وكلا، سبحان الله عمّا يشركون.

    ثم هل يمكن أن يرضى سبحانه بما يخالف حكمته وربوبيته بجعل بعض الأسباب مقصودةَ عبادةِ المخلوقات؟ علماً بأنه سبحانه وتعالى قد أشهر نفسه وعرّفها وحبّبها بأفعاله وألطافه في هذا العالم.

    فكيف يرضى سبحانه -بعد هذا كله- أنْ يدع تحبّب أفضل مخلوقاته وأكملهم عبودية وشكراً وحمداً إلى غيره من المخلوقات، وكيف يسمح لمخلوقاته أن تنساه بعد أن أظهر بأفعاله مقاصده السامية في الكون: وهي معرفته، ثم عبادته؟ حاشَ وكلا، فسبحان الله عما يقولون علواً كبيراً.

    ماذا تقول أيها الصديق بالذي سمعته آنفاً؟

    وإذا به يجيب فيقول: الحمد لله الذي سَهّل لي حَلَّ هاتين الشبهتين، فقد أظهرتَ لي في وحدانية الله، المعبود الحق والمستحق للعبادة وحده، دليلين قويين ساطعين لا يمكن إنكارهما، وهل ينكر ضوء الشمس والنهار إلّا مكابر معاند؟!

    خاتمة

    يقول «رجل الطبيعة» وقد ترك وراءه فكره وتصوراته، ودخل «حظيرة الإيمان» بفكر إيماني جديد:

    الحمد لله.. أشهد أنّ شبهاتي قد زالت كلها، ولكن مازال في النفس ما يحيرني ويثير المزيد من هواجسي، مما يرد على خاطري من أسئلة لا أعرف جواباً عنها.

    السؤال الأول: نسمع من كثير من الكسالى المتقاعسين عن العبادات، ومن تاركي الصلاة بخاصة، أنهم يقولون:

    ما حاجة الرب سبحانه وتعالى -الغني بذاته- إلى عبادتنا حتى يزجرنا في مُحكم كتابه الكريم، ويتوعّدنا بأشد العذاب في نار جهنم، فكيف يتساوق هذا الأسلوب -التهديدي الصاعق في مثل هذا الخطأ الجزئي التافه- مع أسلوبه الإعجازي اللين الهادئ الرقيق في المواضع الأخرى؟

    الجواب: حقاً إن الله سبحانه وتعالى -الغني بذاته- لا حاجة له قط إلى عبادتك أنت -أيها الإنسان- بل هو سبحانه لا حاجة له لشيء قط، ولكنك أنت المحتاج إلى العبادة، وأنت المفتقر إليها. فأنت مريضٌ معنىً، والعبادة هي البلسم الشافي لجراحات روحك، وأوجاع ذاتك، وقد أثبتنا هذا الكلام في عديد من الرسائل.

    تُرى لو خاطب مريضٌ طبيباً رحيماً يشفق عليه ويصر عليه ليتناول دواءً شافياً يخص مرضه، لو خاطبه تجاه إصراره عليه قائلاً: ما حاجتك أنت إلى هذا الدواء حتى تلحّ عليّ هذا الإلحاح الشديد بتناول الدواء؟ ألا يفهم من كلامه مدى تفاهته وسخفه وغباء منطقه؟

    أما نذير القرآن الكريم فيما يخص ترك العبادة وتهديده المخيف بعقابٍ أليم، فإليك تفسيره: فكما أنَّ سلطاناً يعاقب شخصاً سافلاً يرتكب جريمةً تمس حقوق الآخرين بعقابٍ صارمٍ لأجل الحفاظ على حقوق رعاياه،

    كذلك سلطان الأزل والأبد يعاقب تارك العبادة والصلاة عقاباً صارماً، لأنه يتجاوز تجاوزاً صارخاً على حقوق الموجودات ويظلمها ظلماً معنوياً بشعاً ويهضم حقوقها هضماً مجحفاً، تلك الموجودات التي هي رعاياه وخلقه. وذلك لأن كمالاتها تتظاهر على صورة تسبيح وعبادة في وجهها المتوجه إلى البارئ الحكيم سبحانه. فتارك العبادة لا يرى عبادة الموجودات ولن يراها، بل ينكرها وفي هذا بخس عظيم لقيمة الموجودات التي كلّ منها مكتوب سامٍ صمداني، قد خطّ بآيات العبادة والتسبيح وهو متوجه بآياته وتسبيحه نحو الموجد الخالق جلّ وعلا.. وكل منها -أيضاً- مرآة لتجلي الأسماء الربانية المشعة بالأنوار.. فينزل هذه الموجودات -بهذا الإنكار- من مقامها الرفيع السامي، ولا يرى في وجودها سوى العبث الخالي من المعنى، ويجردها من وظائفها الخلقية، ويظنها شيئاً هامداً ضائعاً لا أهمية له، فيكون بذلك قد استهان بالموجودات واستخف بها، وأهان كرامتها وأنكر كمالاتها، وتعدى على مصداقية وجودها.

    نعم، إن كل إنسان إنما ينظر إلى الكون بمنظاره الخاص وعلى وفق ما تصوره له مرآته الخاصة، فلقد خلقه البارئ المصور سبحانه على صورة يستطيع قياس الكون عليها، ويزنه بميزانها. فمنحه عالماً خاصاً به من هذا العالم العظيم فيصطبغ عالمه الخاص بحسب ما يعتقده الإنسان من عقيدة في قلبه.

    فالإنسان الحزين اليائس الباكي يرى الموجودات باكية بائسة، بينما السعيد الجذلان يراها مبتسمة ضاحكة ومسرورة.

    كذلك الذي يؤدي العبادة والأذكار بصورة جادّة وبشعور تام وبتفكر وتأمل، فإنه يكشف شيئاً من عبادة الموجودات وتسابيحها بل قد يراها وهي حقيقة موجودة ثابتة، أما الذي يترك العبادة غافلاً أو منكراً لها فإنه يتوهم الموجودات توهماً خاطئاً جداً ومنافياً كلياً ومخالفاً مخالفة تامة لحقيقة كمالاتها، فيكون متعدياً على حقوقها معنىً.

    زد على ذلك، فإن تارك الصلاة يظلم نفسه كذلك بتركه الصلاة، حيث إنه غير مالك لذات نفسه، فهي -أي النفس- عبدٌ مملوك لدى مالكها ومولاها وخالقها وفاطرها، لذا ينذره مولاه الحق إنذاراً شديداً ويهدده بعنف ليأخذ حقّ عبده ذاك من نفسه الأمّارة بالسوء، فضلاً عن أنه عندما ترك العبادة التي هي نتيجة خلقته وغاية فطرته يكون متجاوزاً حدّه تجاه الحكمة الإلهية والمشيئة الربانية، لذا يعاقب على هذا عقاباً شديداً.

    نحصل مما تقدم: أنَّ تارك العبادة مثلما أنه يظلم نفسه، والنفس مملوك الحق سبحانه وعبده فهو يتعدى على حقوق كمالات الكائنات ويظلمها أيضاً. نعم، فكما أنَّ الكفر استهانة بالموجودات واستخفاف بها، فتركُ العبادة إنكار لكمالات الكائنات، وتجاوزٌ على الحكمة الإلهية، لذا يستحق تاركها تهديداً عنيفاً، وعقاباً صارماً.

    ومن هنا يختار القرآن الكريم أُسلوب التهديد والإنذار ليُعَبّر عن هذا الاستحقاق وعن هذه الحقيقة المذكورة آنفاً، فيكون الأسلوب حقاً ومطابقاً تماماً لمقتضى الحال الذي هو البلاغة بعينها.

    السؤال الثاني: يقول صاحبنا الذي نبذ فكرة «الطبيعة» وتبرأ منها، وشَرُفَ بالإيمان بالله:

    إنَّ انقياد كل موجود، في كل شأن من شؤونه، وفي كل جزء من جزئياته، وفي كل ما يقوم به وينجزه، انقياداً مطلقاً للمشيئة الإلهية، والقدرة الربانية، هو حقيقة عظيمة جليلة، فهي لعظمتها وسعتها لا تستوعبها أذهاننا الكليلة القاصرة، علماً أننا نطالع عياناً وفرةً متناهيةً من الموجودات، وسهولة مطلقة في خلق الأشياء، وقد تحقق أن «السهولة في الإيجاد» التي هي من مستلزمات «الوحدانية» بما أقمتموه من براهين وحجج قاطعة، فضلاً عن أن القرآن الكريم قد قرر السهولة المطلقة صراحة في آيات كريمة كثيرة أمثال:

    ﴿ مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ اِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ (لقمان: ٢٨).

    ﴿ وَمَٓا اَمْرُ السَّاعَةِ اِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ اَوْ هُوَ اَقْرَبُ ﴾ (النحل: ٧٧).

    كل ذلك يجعل تلك الحقيقة العظيمة «سهولة الإيجاد» مسألة مقبولة جداً ومستساغة عقلاً، فأين يكمن سرُّ هذه السهولة يا ترى وما الحكمة من ورائها؟

    الجواب: لقد وضح ذلك السرّ وضوحاً تامّاً ومقنعاً في «المكتوب العشرين» عند شرحه الآية الكريمة: ﴿ وَهُوَ عَلٰى كُلِّ شَيْءٍ قَد۪يرٌ ﴾ بما يفي بالغرض، وبخاصة في ذيله، حيث جاء التوضيح وافياً وشافياً جداً، ومقنعاً بالدليل والبرهان والإثبات القاطع، وخلاصته:

    أنه عندما يسند إيجاد الموجودات جميعها إلى الصانع الواحد، يسهل الأمر كسهولة إيجاد مخلوق واحد، بينما إذا أُسند للكثرة يصعبُ -على هذه الكثرة- أمر إيجاد مخلوق واحد بقدر صعوبة إيجاد جميع الموجودات.. فيكون خلق بذرة واحدة صعباً ومشكلاً كخلق شجرة..

    ولكن إذا أُسند «الإيجاد» إلى صانعه الحق سبحانه، يسهل الأمر حتى يصبح إيجاد الكائنات كلها كإيجاد شجرة واحدة، والشجرة كالبذرة، والجنة كالربيع، والربيع كالزهرة، فالأمر يسهل ويكون هيناً.

    وسنشير هنا إشارة مختصرة إلى دليل أو دليلين من بين مئات الأدلة التي أوضحناها بالتفصيل في رسائل أخرى، تلك الأدلة التي تبين ما يدور من الأسرار والحِكم الكامنة فيما نشاهده من وفرة الموجودات التي لا حصر لها ورخصها، وكثرة أفراد كل نوع منها، وورودها إلى الوجود منتظمةً، متقنةً، وبكل سهولة ويسر.

    مثال هذا: إن إدارة مائة جندي تحت إمرة ضابط واحد، أسهل بمائة ضعف من إدارة جندي واحد تحت إمرة مائة ضابط. وعندما يُودَعُ أمرُ تجهيز جيش كامل باللوازم العسكرية، من مركز واحد، وبقانون واحد، ومن مصنعٍ واحد، إلى أمرٍ يصدره قائد واحد، فإن ذلك يكون سهلاً وهيناً من حيث الكمية والوفرة، بسهولة تجهيز جندي واحد. بينما يكون إيداع أمر تجهيز جندي واحد باللوازم العسكرية الكاملة من مراكز متعددة ومصانع متعددة، إلى قواد عديدين مشكلاً وصعباً من حيث الكمية والوفرة أيضاً بصعوبة تجهيز جيش كامل. إذ ينبغي عندئذ وجود مصانع كثيرة للتجهيزات بعدد ما يلزم جيشاً كاملاً، لأجل تجهيز الجندي الواحد.

    ويشاهد أيضاً أن الشجرة الواحدة، التي تتزود بالمواد الضرورية لها من جذر واحد، ومن مركز واحد، وعلى وفق قانون واحد، تثمر ألوف الثمرات، ويتم ذلك بسهولة ويسر كأن للشجرة ثمرة واحدة. بينما إذا استبدلت الكثرة بالوحدة، وسُلكَ طريق الكثرة عوضاً عن طريق الوحدة، فزوّدت كل ثمرة بالمواد الضرورية للحياة من مراكز مختلفة، وجذور متباينة، يكون إيجاد ثمرة واحدة مشكلاً وصعباً كإيجاد الشجرة نفسها، بل قد يكون إيجاد البذرة التي هي أنموذج الشجرة وفهرستها - صعباً ومعضلاً كإيجاد الشجرة نفسها. لأنَّ ما يلزم حياة الشجرة من مواد ضرورية يلزم البذرة أيضاً.

    فهناك المئات من أمثال هذه الأمثلة، وكلها تبين أن ورود ألوف الموجودات بسهولة مطلقة إلى الوجود -في الوحدة- أسهل من ورود موجود واحد إلى الوجود بالتعدد والكثرة.

    ولما كنا قد أثبتنا هذه الحقيقة في رسائل أخرى بيقين قاطع نحيل إليها، ولكننا نبين هنا فقط سراً عظيماً يتعلق بهذه السهولة واليسر من زاوية نظر العلم الإلهي، والقدر الإلهي، والقدرة الربانية، وهذا السر هو:

    أنت موجود من الموجودات فإذا سلّمتَ نفسك إلى يد القدير المطلق القدرة، فإنه يخلقك بأمر واحد وبقدرته المطلقة بلمح البصر من العدم، من غير شيء. ولكن إنْ لم تسلم نفسك إليه، بل أسندتها إلى «الطبيعة» وأسلَمتها إلى الأسباب المادية، فيلزم عندئذ لإيجادك أنت، عملية بحث دقيق -لجمع جميع المواد التي في وجودك- في أقطار العالم كله، والتفتيش عنها في زوايا الكون كله، وإمرارها في مصافٍ واختبارات دقيقة جداً، ووزنها بموازين حساسة، ذلك لأنك خلاصة منتظمة للكون، وثمرته اليانعة، وفهرسته المصغرة، ومحفظته المنطوية على مواد الكون كله.

    لأنَّ الأسباب المادية ليس لها إلّا التركيب والجمع، إذ هو ثابت لدى أرباب العقول أنه لا يمكن للأسباب المادية إيجاد ما لا يوجد فيها، من العدم ومن غير شئ، لذا فهي مضطرة إلى جمع المواد اللازمة لجسم كائن حي صغير من أقطار العالم كله.

    فافهم من هذا مدى السهولة المطلقة في الوحدة والتوحيد. ومدى الصعوبات والمشكلات في الشرك والضلالة.

    ثانيها: أنَّ هناك سهولة مطلقة في الخلق والإيجاد تنبع من زاوية نظر «العلم الإلهي» وتفصيلها كالآتي:

    إنَّ القدر الإلهي هو نوع من العلم الإلهي، يعيّن مقدار كل شيء كأنه قالب معنوي له وخاص به، فيكون ذلك المقدار القَدَري بمثابة خطّة لذلك الشيء، وبحكم «موديل» أنموذج له، فعندما توجده «القدرة الإلهية» توجده على ذلك المقدار القَدري بكل سهولة ويسر.

    فإن لم يُنسب إيجاد ذلك الشيء إلى مَن له علم محيط مطلق أزلي وهو الله القدير ذو الجلال لا تحصل ألوف المشكلات فحسب، بل تقع مئات المحالات أيضاً -كما ذكر آنفاً- لأنه إن لم يكن هناك ذلك المقدار القَدري، والمقدار العلمي، يلزم استعمال أُلوف القوالب المادية والخارجية للجسم الصغير للحيوان!

    فافهم من هذا سراً من أسرار السهولة المطلقة في الوحدة والتوحيد وكثرة المشكلات غير المتناهية في التعدد والكثرة والشرك.

    واعلم مدى الحقيقة السامية الصائبة التي تعبر عنها الآية الكريمة: ﴿ وَمَٓا اَمْرُ السَّاعَةِ اِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ اَوْ هُوَ اَقْرَبُ ﴾.

    السؤال الثالث:

    يقول الذي كان يعادي سابقاً ووُفّق إلى الإيمان الآن واهتدى: ما بال بعض الفلاسفة المغالين في عصرنا هذا يطلقون مقولة: «لا يُستحدث شيءٌ من العدم ولا يفنى شيء من الوجود» وان ما يدير هذا الكون، إنما هو تركيب المادة وتحليلها ليس إلّا !

    الجواب: إنَّ هؤلاء الفلاسفة الذين لم يتسنّ لهم النظر إلى الموجودات بنور القرآن المبين، عندما نظروا إليها بمنظار «الطبيعة» و «الأسباب» توصلوا إلى أن وجود هذه الموجودات، وافتراض تشكلها بعوامل «الطبيعة» و «الأسباب» مسألة تطرح مشكلات عويصة بدرجة الامتناع -على غرار ما ذكرناه في بيان الاحتمالات ومحالاتها- فانقسم هؤلاء الفلاسفة إزاء هذه العقبة الكأداء إلى قسمين:

    قسم منهم صاروا سوفسطائيين وعافوا العقل الذي هو خاصة الإنسان وسقطوا إلى درك أدنى من الحيوانات، إذ وصل بهم أمر فكرهم إلى إنكار الوجود عموماً، بل حتى إنكار وجودهم، وذلك عندما رأوا أن هذا الإنكار أجدى على العقل وايسر عليه واسلم من تصور «الطبيعة» و «الأسباب» مالكة لزمام الإيجاد، فأنكروا وجود أنفسهم ووجود الموجودات جميعاً، فسقطوا في هاوية الجهل المطلق.

    أما القسم الثاني: فقد نظروا إلى الموجودات أنها لو سلّم إيجادها إلى «الأسباب» و«الطبيعة» كما هو شأن أهل الضلالة فإن إيجاد شيء صغير جداً كالبعوضة أو البذرة فيه من المشكلات ما لا يحد، ويقتضي قدرة عظيمة لا يبلغ مداها العقل، فوجدوا أنفسهم مضطرين إلى إنكار «الإيجاد» نفسه، فقالوا: «لا يستحدث شيء من العدم » ورأوا أن إعدام الشيء محال أيضاً فقرروا أنه «لا يفنى الموجود». وتخيلوا جملة من الأوضاع الاعتبارية ساريةً ما بين تحليل وتركيب وتفريق وتجميع، ناتجة عن حركات الذرات، وسيل المصادفات!

    فتأمل في هؤلاء الذين يظنون أنفسهم في ذروة العقل، قد سقطوا في حضيض من الحماقة والجهل، واعلم من هذا كيف تضع الضلالة هذا الإنسان المكرّم -حين يلغي إيمانه- موضع سخرية وازدراء من كل أحد..

    وبدورنا نسأل هؤلاء: ترى كيف يمكن استبعاد إيجاد شيء ما من القدرة المطلقة التي توجِدُ على سطح الأرض في كل سنة أربعمائة ألف نوع من الأحياء؟ والتي خلقت السماوات والأرض في ستة أيام؟ والتي تنشئ في كل ربيع تحت بصر الإنسان وسمعه، على سطح الأرض كوناً حياً من النبات والحيوان هو اظهر إتقاناً وأجلى حكمةً من الكون كله، في ستة أسابيع؟ كيف يستبعد منها أن تخلق الموجودات العلمية -التي تعينت خططها ومقاديرها ضمن دائرة العلم الأزلي- فتخلقها بسهولة مطلقة سهولة إظهار الكتابة غير المنظورة بإمرار مادة كيمياوية عليها. فاستبعاد إضفاء الوجود الخارجي على الموجودات العلمية -والتي هي معدومات خارجياً- من تلك القدرة الأزلية، ثم إنكار الإيجاد نفسه لهو حماقة وجهالة اشد من حماقة السوفسطائيين المعروفين وجهالتهم!

    وحيث إنَّ نفوس هؤلاء التعساء المتفرعنة العاجزة عجزاً مطلقاً والتي لا تملك إلّا جزءاً يسيراً من الاختيار غير قادرة على إفناء أي شيء كان وإعدامه، وإيجاد أية ذرة كانت أو مادة من غير شيء ومن العدم.. ولما كانت الطبيعة والأسباب التي يفخرون بعبوديتهم لها عاجزة هي الأخرى وليس في طوقها أمر «الإيجاد» من غير شيء.. نراهم يصدرون حُكماً عاماً: «أن المادة لا تُفنى ولا تُستحدث» ويحاولون أن يُعمموا حُكم هذه القاعدة الباطلة الخاطئة حتى على قدرة القدير المطلق القدرة سبحانه.

    نعم، إنَّ القدير المطلق ذا الجلال له طرازان من الإيجاد:

    الأول: هو بالاختراع والإبداع، أي إنه سبحانه يُبْدع الوجود من العدم إبداعاً من غير شيء، ويوجِدُ كل ما يلزم -هذا الوجود- من أشياء من العدم ويسلّمها إياه.

    الآخر: هو بالإنشاء والصنعة والإتقان. أي يُنشئ قسماً من الموجودات من عناصر الكون نفسه، إظهاراً لكمال حكمته، وتبياناً لتجليات أسمائه الحسنى.. وأمثالها من الحكم الدقيقة، فيرسل إلى تلك الموجودات الذرات والمواد المنقادة إلى أوامره ضمن سُنن الرزاقية الكونية، ويسخرها لها ليكمل إنشاء هذا الوجود،

    وهكذا فالقدير المطلق القدرة له أسلوبان من الإيجاد وصورهما:

    الإبداع.. والإنشاء..

    فإفناء الموجود، وإيجاد المعدوم، أمرٌ سهلٌ جداً لديه، وهيّنٌ جداً بل هو قانونه الدائم العام.

    فالذي يستبعد من القدرة الفاطرة التي تخلق من العدم ثلاث مائة ألف نوع من المخلوقات والأحياء، وتمنحها أشكالها وصفاتها وكيفياتها وأحوالها مما سوى ذراتها. ويقول: «إنها لن تقدر على إيجاد المعدوم» لابد أن يهوي في ظلمة العدم.

    يقول الذي نَبَذَ «الطبيعة» ونفذ إلى طريق الحقيقة:

    الحمد لله حمداً كثيراً بعدد الذرات، الذي وفقني للفوز بكمال الإيمان، وأنقذني من الأوهام والضلالات، فزالت بفضله جميع ما لديّ من شبهات وريب.

    الحمد لله على دين الإسلام وكمال الإيمان

    سُب۟حَانَكَ لَا عِل۟مَ لَنَٓا اِلَّا مَا عَلَّم۟تَنَٓا اِنَّكَ اَن۟تَ ال۟عَلٖيمُ ال۟حَكٖيمُ


    1. إنَّ الداعي الأشد إلحاحاً إلى تأليف هذه الرسالة هو ما لمسته من هجوم صارخ على القرآن الكريم، والتجاوز الشنيع على الحقائق الإيمانية بتزييفها، وربط أواصر الإلحاد بالطبيعة، وإلصاق نعت «الخرافة» على كل ما لا تدركه عقولهم القاصرة العفنة... وقد أثار هذا الهجوم غيظاً شديداً في القلب ففجر فيه حمماً سرت إلى أسلوب الرسالة، فأنزلت هذه الحمم والصفعات على أولئك الملحدين وذوي المذاهب الباطلة المعرضين عن الحق، وإلّا فليس من دأب «رسائل النور» إلّا القول الليّن في الخطاب والرفق في الكلام. (المؤلف).
    2. نعم، إذا حصل الانتساب، فإن تلك البذرة تتسلم أمراً من القدر الإلهي، وتنال شرف النهوض بتلك الأعمال الخارقة، ولكن إذا انقطع ذلك الانتساب فإن خلق تلك البذرة يقتضي أجهزةً وقدرةً ومهارةً هي أكثر بكثير مما يحتاج خلق شجرة الصنوبر الضخمة، وذلك لان جميع أعضاء شجرة الصنوبر التي تكسو الجبال وتضفي عليها الجمال والروعة والتي تمثل أثراً مجسماً واضحاً للقدرة الإلهية، يلزم أن تكون موجودة في الشجرة المعنوية التي هي أثر القَدر والمندمجة في تلك البذرة، لأن مصنع تلك الشجرة الضخمة يكمن في تلك البذرة، وأن ما في تلك البذرة من شجرة قدرية تتظاهر بالقدرة الإلهية في الخارج خارج البذرة وتتشكل شجرة صنوبر مجسمة. (المؤلف).
    3. مثل يضرب لشدة الغباء والحماقة. ومن حُمْقه أنه جعل في عُنُقه قِلادة من وَدَع وعِظامٍ وخَزَف، وهو ذو لحية طويلة، فسُئِل عن ذلك، فقال‏:‏ لأعرف بها نفسي، ولئلا أضل، فبات ذات ليلة وأخَذَ أخوه قلادتَه فتقلَّدها، فلما أصبح ورأى القلادة في عنق أخيه قال‏:‏ يا أخي أنت أنا فمن أنا‏؟‏‏.‏ (الميداني، مجمع الأمثال ١١٦٩؛ العسكري، جمهرة الأمثال ٣٨٥/١ ؛ الزمخشري، المستقصى ٨٥/١).