Otuzuncu Lem'a/ar: Revizyonlar arasındaki fark
("وكما أنه لا يحدّه مكانٌ فهو بقدرته وبعلمِه حاضرٌ في كل مكان،" içeriğiyle yeni sayfa oluşturdu) |
("«إنَّ كل شيء في الكون ينطوي على خير، وفيه جمالٌ وحُسن، أما الشر والقبح فهما جزئيان جداً، وهما بحُكم وحدتين قياسيتين، أي إنهما وُجدا لإظهار ما في الخير وما في الجمال من مراتب كثيرة وحقائق عديدة؛ لذا يُعَدُّ الشرُّ خيراً والقبحُ حُسناً من هذه الزاوية. أي..." içeriğiyle yeni sayfa oluşturdu) |
||
792. satır: | 792. satır: | ||
ثم إن قسماً من أهل الضلالة الذين يُطلق عليهم «الماديون» يشعرون بالتجلي الأعظم للخلاقية الإلهية والقدرة الربانية في تحولات الذرات المنتظمة، ولكنهم يجهلون مصدر ذلك التجلي، ويعجزون عن أن يدركوا من أين تُدار تلك القوة العامة النابعة من تجلي القدرة الصمدانية.. فلأنهم يجهلون كل ذلك فقد شرعوا بإسناد آثار الألوهية إلى الذرات نفسها وإلى حركاتها عينها، فتوهموا أزلية المادة والقوة. | ثم إن قسماً من أهل الضلالة الذين يُطلق عليهم «الماديون» يشعرون بالتجلي الأعظم للخلاقية الإلهية والقدرة الربانية في تحولات الذرات المنتظمة، ولكنهم يجهلون مصدر ذلك التجلي، ويعجزون عن أن يدركوا من أين تُدار تلك القوة العامة النابعة من تجلي القدرة الصمدانية.. فلأنهم يجهلون كل ذلك فقد شرعوا بإسناد آثار الألوهية إلى الذرات نفسها وإلى حركاتها عينها، فتوهموا أزلية المادة والقوة. | ||
فسبحان الله!! أفيمكن لإنسانٍ أن يتردى إلى هذا الدرك السحيق من الجهالة والخرافة المحضة، فيسند الآثار البديعة للخالق البديع والأفعال الحكيمة للعليم البصير -وهو المتعال عن المكان والزمان- إلى ذراتٍ مضطربة بتيارات المصادفات، جامدةٍ عمياء غير شاعرة، لا حول لها ولا قوة، وإلى حركاتها!.. أ فيمكن أن يقرّ بهذا أحد؟. فمَنْ كان له مسكةٌ من عقل لابد أن يحكم بأن هذا جهلٌ ما بعده جهل، وخرافة ما بعدها خرافة. إنَّ هؤلاء التعساء قد وقعوا في عبادة آلهة كثيرة لأنهم أعرضوا عن الوحدانية المطلقة. أي لأنهم لم يؤمنوا بإلهٍ واحد، أصبحوا مضطرين إلى قبول ما لا نهاية له من الآلهة!.. | |||
أي لأنهم لم يستوعبوا بعقولهم القاصرة أزلية الذات الأقدس وخلّاقيته -وهما صفتان لازمتان ذاتيتان له سبحانه- فقد أصبحوا -بحكم مسلكهم الضال- مضطرين إلى قبول أزلية ذرات جامدة لا حدّ لها ولا نهاية، بل إلى قبول ألوهية الذرات! فتأمل مبلغ الحضيض الذي سقطوا فيه، وسحيقِ الدرك الأسفل من الجهل الذي تردّوا فيه! | |||
نعم، إنَّ التجلي الظاهر «للحي القيوم» في الذرات قد حوّلها إلى ما يشبه الجيش المهيب المنظم بحول الله وقوته وأمره، فلو سُحب أمر القائد الأعظم لأقل من طرفة عين من تلك التي لا تحد من الذرات الجامدة والتي لا شعور لها ولا عقل، لظلت سائبة، بل محيت نهائياً من الوجود. | |||
ثم إن هناك من يتظاهرون ببُعد النظر، فيسوقون فكراً أجهلَ من السابق وأوغل في الخرافة منه حيث يتوهمون أن مادة الأثير هي المصدر وهي الفاعل، لقيامها بمهمة المرآة العاكسة لتجليات ربوبية الخالق سبحانه! علماً أنها ألطفُ وأرقُّ وأطوع صحيفةٍ من صحائف إجراءات الصانع الجليل وأكثرُها تسخيراً وانقياداً، وهي وسيلة لنقل أوامره الجليلة. وهي المداد اللطيف لكتاباته، والحلّة القشيبة الشفيفة لايجاداته، والخميرة الأساس لمصنوعاته، والأرض الخصبة لحبّاته. | |||
< | فلا شك أن هذا الجهل العجيب المرعب يستلزم محالات لا حد لها ولا نهاية، وذلك لأن مادة الأثير هي ألطفُ من مادة الذرات التي غرق بها الماديون في مستنقع الضلالة، وهي أكثفُ من الهيولى (<ref>الهيولى: لفظ يوناني معناه عند الفلاسفة: المادة الأولى المجردة عن الصورة من حجم وامتداد ولون وما أشبه ذلك.</ref>) التي ضلّ فيها الفلاسفة القدماء وتاهوا. وهي مادة جامدة لا إرادة لها ولا اختيار ولا شعور، فإسناد الأفعال والآثار إلى هذه المادة القابلة للانقسام والتجزؤ والمجهّزة للقيام بوظيفة النقل وخاصة الانفعال، وإلى ذراتها التي هي أصغر من الذرات لاشك أنه جريمة وخطأ فاحش بعدد ذرات الأثير؛ لأن تلك الأفعال والآثار الربانية لا يمكن أن تحدث إلّا بإرادة مَن يقدِر على رؤية كل شيء في أي شيء كان ومَن يملك علماً محيطاً بكل شيء. | ||
</ | |||
نعم، إن فعل الإيجاد المشهود في الموجودات يتّسم بكيفية معينة وأسلوب منفرد بحيث يدل دلالة واضحة على أن الموجِد هو صاحبُ قدرةٍ قادرة واختيار طليق، يرى أكثر الأشياء، بل الكون كله لدى إيجاده أيَّ شيء كان، ولاسيما الكائن الحي ويعلم كلَّ ما يرتبط به من الأشياء، ثم يضع ذلك الشيء في موضعه الملائم له، ويضمن له البقاء في ذلك الموقع، أي إن الأسباب المادية الجاهلة لا يمكن أن تكون بحال من الأحوال فاعلاً لها. | |||
نعم، إنَّ فعلاً إيجادياً -مهما كان جزئياً- يدل دلالة عظيمة -بسر القيومية- على أنه فعلُ خالِق الكون فعلاً مباشراً. | |||
فالفعل المتوجّه إلى إيجاد نحلة -مثلاً- يدلنا بجهتين على أنه يخص خالق الكون ورب العالمين. | |||
الجهة الأولى: أنَّ قيام تلك النحلة مع مثيلاتها في جميع الأرض بالفعل نفسِه في الوقت نفسه يدلنا على أن هذا الفعل الجزئي الذي نشاهده في نحلة واحدة إنما هو طرفٌ لفعلٍ يحيط بسطح الأرض كله. أي أن من كان فاعلاً لذلك الفعل العظيم الواسع ومالكاً له فهو صاحب ذلك الفعل الجزئي. | |||
الجهة الثانية: لأجل أن يكون أحد فاعلاً لهذا الفعل الجزئي المتوجه إلى خلقِ هذه النحلة الماثلة أمامنا، ينبغي أن يكون -الفاعل- عالماً بشروط حياة تلك النحلة وأجهزتها وعلاقاتها مع الكائنات الأخرى وكيفية ضمان حياتها ومعيشتها، فيلزم إذن أن يكون ذا حكم نافذٍ على الكون كله ليجعل ذلك الفعل كاملاً. | |||
أي إن أصغر فعلٍ جزئي يدل من جهتين على أنه يخصّ خالقَ كل شيء. | |||
ولكن أكثر ما يحيّر الإنسان ويجلب انتباهه هو: أن الأزلية والسرمدية التي هي من أخصّ خصائص الألوهية وألزمِ صفةٍ للذات الأقدس المالك لأقوى مرتبة في الوجود وهو الوجوب وأثبتُ درجة في الوجود وهو التجرّد من المادة وأبعد طوراً عن الزوال وهو التنـزّه عن المكان وأسلمُ صفة من صفات الوجود وأقدسُها عن التغير والعدم وهو الوحدة... أقول: إن الذي يحير الإنسان ويثير قلقه، ويجلب انتباهه إنما هو اسناد صفة الأزلية والسرمدية إلى الأثير والذرات وما شابهها من المواد المادية التي لها أضعفُ مرتبة من مراتب الوجود، وأدقُّ درجة فيه، وأكثر أطواره تغيراً وتحولاً، وأعمُّها انتشاراً في المكان، ولها الكثرة التي لا تحد.. فإسناد الأزلية إلى هذه المواد وتصورها أزليةً، وتوهّم نشوءَ قسم من الآثار الإلهية منها، ما هو إلّا مجافاةٌ وأي مجافاة للحقيقة وأمرٌ منافٍ أي منافاة للواقع، وبعيدٌ كل البعد عن منطق العقل وباطل واضح البطلان. وقد أثبتنا هذا في كثير من الرسائل ببراهين رصينة. | |||
<div lang="tr" dir="ltr" class="mw-content-ltr"> | <div lang="tr" dir="ltr" class="mw-content-ltr"> |
12.06, 2 Mayıs 2024 tarihindeki hâli
من المكتوب الحادي والثلاثين، وثمرة من ثمار سجن «أسكي شهر» وذيل الذيل للكلمة الثلاثين.
وهي عبارة عن ست نكات.
هذا الدرس القيّم ثمرةٌ من ثمار «سجن أسكي» شهر وحصيلةُ مدرستها اليوسفية، مثلما كانت «رسالة الثمرة» ثمرةً أينعَها «سجنُ دنيزلي» وكما كانت «رسالة الحجة الزهراء» درساً بليغاً أزهر في سجن آفيون.
تضم هذه الرسالة -وهي اللمعة الثلاثون- نكاتٍ دقيقة لستةٍ من الأسماء الحسنى التي هي في القسم الذي يخص اسم الله «الحي» و«القيوم» من الاسم الأعظم مسائل عميقة وواسعة جداً قد لا يستطيع كلُّ أحد أن يستوعبها كلَّها ويتذوقها جميعاً، إلّا أنه لا يبقى أحدٌ دون نصيب منها وفائدة يغنمها.
النكتة الأولى
تخص إحدى نكات اسم الله
القدوس
بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ
﴿ وَالْاَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ﴾ (الذاريات:٤٨)
لقد تجلت لي نكتةٌ من نكات هذه الآية الكريمة وتجلّ من تجليات اسم الله «القدوس» وهو الاسم الأعظم أو أحدُ أنوراه الستة، وأنا نزيل سجن «أسكي شهر» أواخر شهر شعبان المبارك. فبيّن لي: الوجودَ الإلهي بوضوح تام، وكشف لي: الوحدانيةَ الربانية بجلاء، كما يأتي:
لقد تراءى لي هذا الكونُ وهذه الكرةُ الأرضية كمعمل عظيم دائبِ الحركة، وشبيهةً بفندق واسع، أو دارِ ضيافة تُملأ وتُخلى بلا انقطاع، علماً أن دار ضيافةٍ بهذه السعة وبهذه الكثرة الكاثرة من الغادين والرائحين، تمتلئ بالنفايات والأنقاض، ويصاب كل شيء بالتلوث، وتضيق فيها أسبابُ الحياة. فإن لم تعمل يدُ التنظيف والتنسيق فيها عملاً دائماً أدّت تلك الأوساخ إلى اختناق الإنسان واستحالة عيشه.
بيد أننا لا نكاد نرى في معمل الكون العظيم هذا، وفي دار ضيافة الكرة الأرضية هذه أثراً للنفايات، كما انه لا توجد في أية زاوية من زواياهما مادة غير نافعة، أو غير ضرورية، أو أُلقِيَتْ عبثاً، حتى إن ظهرت مادةٌ كهذه فسرعان ما تُرمى في مكائن تحويل بمجرد ظهورها، تُحيلها إلى مادة نظيفة.
فهذا الأمرُ الدائب يدلنا على: أن الذي يراقب هذا المعمل إنما يراقبه بكل عناية وإتقان، وأن مالكه يأمر بتنظيفه وتنسيقه وتزيينه على الدوام حتى لا يُرى فيه -رغم ضخامته- أثرٌ للقاذورات والنفايات التي تكون متناسِبةً مع كبر المعمل وضخامته. فالمراعاةُ بالتطهير إذن مستمرة، والعناية بالتنظيف دائمة ومتناسبة مع ضخامة المعمل وسعته، لأنَّ الإنسان الفرد إن لم يستَحم ولم يقم بتنظيف غرفته خلال شهر، لضاقت عليه الحياة.. فكيف بنظافة قصر العالم العظيم؟!
إذن فالطُهر والنقاء والصفاء والبهاء المشاهَد في قصر العالم البديع هذا ما هو إلّا نابعٌ من تنظيف حكيمٍ مستمر، ومن تطهير دقيق دائم..
فلولا هذه المراقبةُ المستديمة للنظافة، والعنايةُ المستمرة بالطهر، لكانت تختنق على سطح الأرض -بأجوائها الموبوءة- مئاتُ الآلاف من الأحياء خلال سنة.. ولولا تلك المراقبةُ الدقيقة والعناية الفائقة في أرجاء الفضاء الزاخرة بالكواكب والنجوم والتوابع المعرَّضة للموت والاندثار، لكانت أنقاضُها المتطايرة في الفضاء تحطّم رؤوسَنا ورؤوس الأحياء الأخرى، بل رأسَ الدنيا! ولكانت تُمطِر علينا كتلاً هائلة بحجم الجبال، وتُرغمُنا على الفرار من وطننا الدنيوي! بينما لم تسقط منذ دهور سحيقة من الفضاء الخارجي -نتيجة الاندثار- سوى بضعةِ نيازك، ولم تُصب أحداً من الناس، بل كانت عبرةً لمن يعتبر!
ولولا التنظيفُ الدائب والتطهير الدائم في سطح الأرض، لكانت الأنقاض والأوساخ والأشلاء الناتجة من تعاقب الموت والحياة اللذين يصيبان مئات الألوف من أمم الأحياء، تملأ البر والبحر معاً، ولكانت القذارةُ تصل إلى حد ينفر كلُّ من له شعور أن ينظر إلى وجه الأرض الدميم، بل كان يسوقه إلى الفرار منها إلى الموت والعدم ناهيك عن حبِّه وعشقه.
نعم، مثلما ينظّف الطيرُ أجنحته بسهولة تامة أو يطهِّر الكاتبُ صحائف كتابه بيُسر كامل، فإن أجنحة هذه الأرض الطائرة -مع الطيور السماوية في الفضاء- وصحائف هذا الكتاب العظيم -أعني الكون- ينظَّفان ويطهَّران ويجمَّلان ويزيّنان بمثل تلك السهولة واليسر، بل إن تطهير سطح الأرض هذا وتنظيفه وتنسيقه وتزيينه هو من كمال الإتقان بحيث يجعل الذين لا يرون -بإيمانهم- جمالَ الآخرة يعشقون هذا الجمال وهذه النظافة لهذا العالم الدنيوي بل قد يعبدونه!
إذن فقصر العالم الباذخ هذا، ومعمل الكون الهائل هذا، قد حَظِيا بتجلٍ من تجليات اسم الله القدوس عليهما، حتى إنه عندما تصدر الأوامر الإلهية المقدسة الخاصة بالتطهير والتنظيف لا تصدر للحيوانات البحرية الكبيرة المفترسة، المؤدية وظيفة التنظيف والصقور البرية الجارحة وحدها، بل يستمع لها أيضاً أنواعُ الديدان والنمل التي تجمع الجنائز وتقوم بمهمة موظفي الصحة العامة الراعين لها في هذا العالم، بل تستمع لهذه الأوامر التنظيفية حتى الكرياتُ الحمر والبيض الجارية في الدم فتقوم بمهمة التنظيف والتنقية في حجيرات البدن كما يقوم التنفس بتصفية الدم،
بل حتى الأجفان الرقيقة تستمع لها فتطهر العين باستمرار، بل حتى الذباب يستمع لها فيقوم بتنظيف أجنحته دائماً..
ومثلما يستمع كل ما ذكرناه لتلك الأوامر القدسية بالتنظيف، تستمع لها أيضاً الرياحُ الهوج والسحب الثقال، فتلك تطهِّر وجهَ الأرض من النفايات، والأخرى ترشّ روضَتها بالماء الطاهر فتسكّن الغبار والتراب، ثم تنسحب بسرعة ونظام حاملةً أدواتها ليعود الجمالُ الساطع إلى وجه السماء صافياً متلألئاً.
ومثلما تستمع لتلك الأوامر الصادرة بالتطهير والتنظيف النجومُ، والعناصر، والمعادن، والنباتات بأشكالها وأنواعها، تستمع لها الذراتُ جميعاً، حتى إنها تراعي النقاوة والصفاء في دوامات تحولاتها المحيرة للألباب، فلا تجتمع في زاوية دون فائدة، ولا تزدحم في ركن دون نفع، بل إن تلوثت تُنظَّف فوراً وتُساق سوقاً من لدن قدرة حكيمة إلى أخذ أطهر الأوضاع وأنظفِها وأسطعها وأصفاها، وأخذِ أجمل الصور وأنقاها وألطفها.
وهكذا فإن فعلَ التطهير هذا الذي هو فعلٌ واحد، ويعبّر عن حقيقةٍ واحدة هو تجلٍّ أعظم من تجليات اسم «القدوس» الأعظم، يُرى ذلك التجلي الأعظم حتى في أعظم دوائر الكون وأوسعها، بحيث يبين الوجود الرباني، ويُظهر الوحدانية الإلهية مع أسمائها الحسنى ظهوراً جلياً كالشمس المنيرة، فتبصره العيونُ النافذة النظر.
وقد ثبت ببراهين دامغة في أغلب أجزاء «رسائل النور»: أن فعلَ التنظيم والنظام الذي هو تجلٍّ من تجليات اسم «الحَكَم والحكيم»، وأن فعل الوزن والميزان الذي هو تجلٍّ من تجليات اسم «العدل والعادل»، وأن فعل التزيين والإحسان الذي هو تجلٍّ من تجليات اسم «الجميل والكريم»، وأن فعل التربية والإنعام الذي هو تجلٍّ من تجليات اسم «الرب الرحيم».. كلُّ فعل من هذه الأفعال، هو فعلٌ واحد، وحقيقة واحدة، تشاهَد بوضوح في آفاق الكون كله، فكلٌّ منها يشير إلى وجوب وجودِ واحدٍ أحدٍ، ويبين وحدانيته بجلاء. كذلك فعلُ التنظيف والتطهير الذي هو تجلٍ من تجليات اسم «القدوس» يدل على وجود ذلك الواجب، كالشمس، ويبين وحدانيته كالنهار.. وكما أن الأفعال المذكورة من تنظيم وتقدير وتزيين وتنظيف وأمثالِها من الأفعال الحكيمة تبين خالقاً واحداً أحداً، بوحدتها النوعية، وبظهورها في أوسع الآفاق الكونية، كذلك أكثر الأسماء الحسنى، بل كل اسم من ألف اسم واسم من الأسماء الحسنى له تجلٍ أعظم في أوسع دائرة من دوائر الكون كهذا. فيُظهر الفعلُ الناتج من ذلك التجلي الواحد الأحد ظهوراً جلياً يناسب سعة ذلك الفعل ووضوحه.
نعم، إن الحكمةَ العامة التي تُخضع كل شيء لقانونها ونظامها، والعنايةَ الشاملة التي تجمّل كل شيء وتزيّنه، والرحمةَ الواسعة التي تُدخل السرورَ والبهجة على كل شيء وتجعله في حمدٍ دائم، والرزقَ العام الذي يعتاش عليه كلُّ ذي حياة ويتمتع بلذائذه، والحياةَ والإحياء التي تربط كل شيء بالأشياء الأخرى، وتجعل الشيء ينتفع من كل شيء كأنه مالكٌ للأشياء.. هذه الحقائق وأمثالُها، المشهودة بالبداهة، والمتّسمة بالوحدة، والجاعلةُ وجهَ الكون يشرق بهاءً، ويستهلّ بِشراً وسروراً، تدل بداهةً على: «الحكيم، الكريم، الرحيم، الرزاق، الحي المحيي»، كما يدل الضوءُ على الشمس.
ولله المثل الأعلى. فكلُّ فعل من هذه الأفعال الواسعة التي تربو على المئات، دليل باهر الوضوح على الوحدانية، إن لم يُسنَد إلى «الواحد الأحد» سبحانه لنتجت إذن مئاتُ المحالات بمئاتٍ من الأوجه.
فمثلاً: إنه ليست الأفعالُ كلُّها كالحكمة والعناية والرحمة والإعاشة والإحياء والإماتة التي هي من الحقائق البديهية ومن دلائل التوحيد، بل حتى فعلٌ واحد فقط منها وهو فعلُ التطهير لو لم يُسند إلى رب العالمين للزم -في طريق الكفر والضلالة- أن يكون كلُّ شيء له علاقةٌ بالتنظيف ابتداء من الذرات، إلى الحشرات، إلى العناصر، إلى النجوم، على علمٍ ومعرفةٍ بتنظيف هذا الكون العظيم وتزيينهِ وتجميله وموازنة ما فيه!! وأن يلاحظ الأمور وفقها، ويقدِر على التحرك.. أو يلزم أن يتصف كلٌّ منها بالصفات القدسية الجليلة لرب العالمين!!. أو يلزم أن يكون هناك مجلس شورى واسع سعة الكون كله لتنظيم جميع تزيينات الكون وتطهيره وتقدير كل ما يلج فيه وما يخرج منه وموازنته، وأن يشكِّل هذا المجلسَ ما لا يحد من الذرات والحشرات والنجوم!!..
وهكذا يصل سالكُ طريق الكفر إلى مئاتٍ من أمثال هذه الخرافات السخيفة والمحالات السوفسطائية كي يظهَر التزيينُ المحيط والتنظيف الشامل الظاهر في الأرجاء كافة. أي لا ينشأ محالٌ واحد بل مئات الألوف من المحالات.
نعم، إن لم يُسند ضوءُ النهار والشُميسات المتألقة المثالية في كل شيء على سطح الأرض، إلى الشمس الواحدة، ولم تُفسَّر على أنها انعكاساتٌ لتجلي تلك الشمس الواحدة، للزم وجودُ شمسٍ حقيقية في كل قطرة ماء لماعة، وفي كل قطعة زجاج شفافة، وفي كل بلورة ثلج مشعة، حتى في كل ذرة من ذرات الهواء، كي يظهر ذلك الضوءُ الذي يعم الوجود!!
وهكذا؛ فالحكمةُ ضياءٌ، والرحمةُ الواسعة ضياء، والتزيين والموازنة والتنظيم والتنظيف كلٌّ منها ضياء شامل محيط وشعاعٌ من أشعة ذلك النور الأزلي سبحانه.
فانظر الآن بنور هذا الإيمان لترى كيف يسقط أهلُ الكفر والضلالة في مستنقع آسن لا يمكنهم الخروج منه. وشاهد مدى حماقةِ أهل الضلالة وجهالتهم! واحمد الله قائلاً: «الحمد لله على دين الإسلام وكمال الإيمان».
نعم، إنَّ هذا التنظيف السامي الشامل المشاهَد الذي يجعل قصرَ العالم طاهراً نقياً نظيفاً لهو تجلٍّ من تجليات اسم «القدوس» ومقتضىً من مقتضياته. وكما تتوجه تسبيحات المخلوقات جميعِها إلى اسم «القدوس» وترنو إليه، كذلك يستدعي اسمُ «القدوس» نظافةَ تلك المخلوقات وطهارتها ([1]) حتى عدّ الحديث الشريف: «النظافة من الإيمان» الطهورَ نوراً من أنواره ([2]) لارتباطه القدسي هذا،
وأظهرت الآية الكريمة أن الطُهر مدعاةٌ إلى المحبة الإلهية ومدار لها، في قوله تعالى: ﴿ اِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ التَّوَّاب۪ينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّر۪ينَ ﴾ (البقرة: ٢٢٢).
النكتة الثانية
تخص إحدى نكات اسم الله
العدل
﴿ وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلَّا عِنْدَنَا خَزَٓائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُٓ اِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ﴾ (الحجر: ٢١)
لقد تراءت لي نكتةٌ لطيفةٌ من لطائف هذه الآية الكريمة، ونورٌ من أنوار تجليات اسم الله: «العدل» الذي هو اسم الله الأعظم، أو هو نور من أنواره الستة.
تراءى لي ذلك النور من بعيد -كما هو الحال في النكتة الأولى- وأنا نزيل سجن «أسكي شهر» ولأجل تقريبه إلى الأفهام نسلك أيضاً طريقَ ضرب الأمثال. فنقول:
هذا الكون قصر بديع يضم مدينةً واسعة تتداولها عواملُ التخريب والتعمير، وفي تلك المدينة مملكةٌ واسعة تغلي باستمرار من شدة مظاهر الحرب والهجرة، وبين جوانح تلك المملكة عالمٌ عظيم يسبَح كل حين في خضم الموت والحياة.. ولكن على الرغم من كل مظاهر الاضطراب، فإن موازنةً عامة وميزاناً حساساً، وعملية وزنٍ دقيق تسيطر في كل جوانب القصر ونواحي المدينة وتسود في كل أرجاء المملكة وأطراف العالم، وتهيمن عليها هيمنةً، بحيث تدل بداهة على: أن ما يحدث ضمن هذه الموجودات التي لا يحصرها العدّ من تحولات، وما يلجُ فيها وما يخرج منها لا يمكن أن يكون إلّا بعملية وزنٍ وكَيْلٍ، وميزان مَن يرى أنحاءَ الوجودِ كلَّها في آن واحد، ومن تجري الموجوداتُ جميعُها أمامَ نظر مراقبته في كل حين... ذلكم الواحد الأحد سبحانه. وإلّا فلو كانت الأسباب الساعية إلى اختلال التوازن، سائبةً أو مفوضة إلى المصادفة العشواء أو القوة العمياء أو الطبيعة المظلمة البلهاء، لكانت بويضات سمكةٍ واحدة التي تزيد على الألوف تخل بتلك الموازنة، بل بذيرات زهرةٍ واحدة -كالخشخاش- التي تزيد على عشرين ألف تخل بها، ناهيك عن تدفق العناصر الجارية كالسيل، والانقلابات الهائلة والتحولات الضخمة التي تحدث في أرجاء الكون.. كل منها لو كان سائباً لكان قميناً أن يخل بتلك الموازنة الدقيقة المنصوبة بين الموجودات، ويفسد التوازن الكامل بين أجزاء الكائنات خلال سنة واحدة، بل خلال يوم واحد. ولكنتَ ترى العالم وقد حلّ فيه الهرجُ والمرج.. وتعرّض للاضطرابات والفساد.. فالبحار تمتلئ بالأنقاض والجثث، وتتعفن.. والهواء يتسمم بالغازات المضرة الخانقة، ويفسد. والأرض تصبح مزبلة ومسلخة، وتغدو مستنقعاً آسناً لا تطاق فيه الحياة.
فإن شئت فأَنعم النظر، في الموجودات كلِّها، ابتداء من حجيرات الجسم إلى الكريات الحمر والبيض في الدم، ومن تحولات الذرات إلى التناسب والانسجام بين أجهزة الجسم، ومن واردات البحار ومصاريفها إلى موارد المياه الجوفية وصرفياتها، ومن تولدات الحيوانات والنباتات ووفياتها إلى تخريبات الخريف وتعميرات الربيع، ومن وظائف العناصر وحركات النجوم إلى تبدل الموت والحياة، ومن تصادم النور والظلام إلى تعارض الحرارة والبرودة.. وما شابهها من أمور، كي ترى أن الكل: يوزَن ويُقدَّر بميزان خارق الحساسية، وأن الجميع يُكتال بمكيال غايةً في الدقة، بحيث يعجز عقلُ الإنسان أن يرى إسرافاً حقيقياً في مكان وعبثاً في جزء.. بل يلمس علمُ الإنسان ويشاهِد أكملَ نظامٍ وأتقنَه في كل شيء فيحاول أن يُريَه، ويرى أروَع توازنٍ وأبدعَه في كل موجود فيسعى لإبرازه. فما العلوم التي توصَّل إليها الإنسان إلّا ترجمة لذلك النظام البديع وتعبير عن ذلك التوازن الرائع.
فتأمل في الموازنة الرائعة بين الشمس والكواكب السيارة الإثنتى عشرة التي كل منها مختلفة عن الأخرى، ألا تدل هذه الموازنة دلالة واضحة وضوح الشمس نفسها على الله سبحانه الذي هو «العدل القدير»؟
ثم تأمل في الأرض -وهي إحدى الكواكب السيارة- هذه السفينة الجارية السابحة في الفضاء التي تجول في سنة واحدة مسافة يقدَّر طولُها بأربع وعشرين ألف سنة. ومع هذه السرعة المذهلة لا تبعثر المواد المنسقة على سطحها ولا تضطرب بها ولا تطلقها إلى الفضاء.. فلو زيد شيءٌ قليل في سرعتها أو أُنقص منها لكانت تقذف بقاطنيها إلى الفضاء، ولو أخلّت بموازنتها لدقيقة -بل لثانية واحدة- لتعثرت في سيرها واضطربت، ولربما اصطدمت بغيرها من السيارات ولقامت القيامة.
ثم تأمل في تولدات ووفيات النباتات والحيوانات وإعاشتهما وحياتهما على الأرض والتي يزيد عدد أنواعها على الأربعمائة ألف نوع، ترى موازنةً رائعة ذات رحمة، تدلك دلالة قاطعة على الخالق العادل الرحيم جلّ جلالُه، كدلالة الضياء على الشمس.
ثم تأمل في أعضاء كائن حي من الأحياء التي لا تعد ولا تحصى، ودقق في أجهزته وفي حواسه.. تَرَ فيها من الانسجام التام والتناسق الكامل والموازنة الدقيقة ما يدلّك بداهة على الصانع الذي هو «العدل الحكيم».
ثم تأمل في حجيرات جسم كائن حي وفي أوعية الدم، وفي الكريات السابحة في الدم، وفي ذرات تلك الكريات، تجد من الموازنة الخارقة البديعة ما يثبت لك إثباتاً قاطعاً أنه لا تحصل هذه الموازنةُ الرائعة ولا إدارتُها الشاملة، ولا تربيتُها الحكيمة إلّا بميزان حساسٍ
وبقانونٍ نافذ وبنظام صارم للخالق الواحد الأحد «العدل الحكيم» الذي بيده ناصية كل شيء، وعنده مفاتيح كل شيء، لا يحجب عنه شيء ولا يعزب، ويدير كل شيء بسهولة إدارةَ شيء واحد.
إنَّ الذي لا يعتقد أن أعمال الجن والإنس يوم الحشر الأكبر توزن بميزان العدل الإلهي، ويستغرب منها ويستبعدها ولا يؤمن بها، أقول لو تمكّن أن يتأمل فيما هو ظاهر مشاهدَ من أنواع الموازنة الكبرى أمامه في هذه الدنيا لزال استبعادُه واستنكاره حتماً.
أيها الإنسان المسرف الظالم الوسخ.!
اعلم، أن «الاقتصاد والطهر والعدالة» سنن إلهية جارية في الكون، ودساتيرُ إلهية شاملة تدور رحى الموجودات عليها لا يفلت منها شيء إلّا أنت أيها الشقي، وأنت بمخالفتك الموجودات كلها في سيرها وفق هذه السنن الشاملة تلقى النفرة منها والغضب عليك وأنت تستحقها.. فعلامَ تستند وتثير غضبَ الموجودات كلها عليك فتقترف الظلم والإسراف ولا تكترث للموازنة والنظافة؟
نعم، إن الحكمة العامة المهيمنة في الكون والتي هي تجلٍ أعظم لاسم «الحكيم» إنما تدور حول محور الاقتصاد وعدم الإسراف، بل تأمر بالاقتصاد.
وإن العدالة العامة الجارية في الكون النابعة من التجلي الأعظم لاسم «العدل» إنما تدير موازنةَ عموم الأشياء، وتأمر البشرية بإقامة العدل. وإن ذكر الميزان أربع مرات في سورة الرحمن إشارة إلى أربعة أنواع من الموازين في أربع مراتب وبيان لأهمية الميزان البالغة ولقيمته العظمى في الكون. وذلك في قوله تعالى: ﴿ وَالسَّمَٓاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْم۪يزَانَۙ ❀ اَلَّا تَطْغَوْا فِي الْم۪يزَانِ ❀ وَاَق۪يمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْم۪يزَانَ ﴾ (الرحمن: ٧-٩).
نعم، فكما لا إسراف في شيء، فلا ظلمَ كذلك ظلماً حقيقياً في شيء، ولا بخسَ في الميزان قط،
بل إن التطهير والطهر الصادر من التجلي الأعظم لاسم «القدوس» يعرض الموجودات بأبهى صورتها وأبدع زينتها، فلا ترى ثمة قذارة في موجود، ولا تجد قبحاً أصيلاً في شيء ما لم تمسّه يدُ البشر الوسخة.
فاعلم من هذا أن «العدالة والاقتصاد والطهر» التي هي من حقائق القرآن ودساتير الإسلام، ما أشدَّها إيغالاً في أعماق الحياة الاجتماعية، وما أشدَّها عراقة وأصالة. وأدرك من هذا مدى قوةِ ارتباط أحكام القرآن بالكون، وكيف أنها مدّت جذوراً عميقة في أغوار الكون فأحاطته بعرىً وثيقة لا انفصام لها. ثم افهم منها أن إفساد تلك الحقائق ممتنعٌ كامتناع إفساد نظام الكون والإخلال به وتشويه صورته.
ومثلما تستلزم هذه الحقائق المحيطة بالكون، وهذه الأنوار العظيمة الثلاثة «العدالة والاقتصاد والطهر» الحشرَ والآخرة، فإن حقائق محيطة معها: كالرحمة والعناية والرقابة، وأمثالِها من مئات الحقائق المحيطة والأنوار العظيمة تستلزم الحشرَ وتقتضي الحياة الآخرة، إذ هل يمكن أن تنقلب مثل هذه الحقائق المهيمنة على الموجودات والمحيطة بالكون إلى أضدادها بعدم مجيء الحشر وبعدم إقامة الآخرة، أي أن تنقلب الرحمةُ إلى ضدها وهو الظلم، وتنقلب الحكمةُ أو الاقتصاد إلى ضدهما وهو العبث والإسراف، وينقلب الطُهر إلى ضده وهو العبث والفساد. حاشَ لله..
إنَّ الرحمة الإلهية، والحكمة الربانية اللتين تحافظان على حقّ حياةِ بعوضةٍ ضعيفة محافظةً تتسم بالرحمة الواسعة، لا يمكن أن تضيّعا -بعدم إقامة الحشر- حقوقَ جميع ذوي الشعور غير المحدودين وتهضما حقوقاً غير متناهية لموجودات غير محصورة..
وإن عظمة الربوبية التي تُظهر دقة متناهية وحساسية فائقة -إذا جاز التعبير- في الرحمة والشفقة والعدالة والحكمة، وكذا الألوهية الباسطة سلطانَها على الوجود كله والتي تريد إظهار كمالاتها وتعريف نفسها وتحبيبها بتزييناتها الكائنات ببدائع صنائعها وبما أسبغت عليها من نِعَمٍ هل يمكن أن تسمح -هذه الربوبية العظيمة والألوهية الجليلة- بعدم إقامة الحشر الذي يسبب الحطّ من قيمة جميع كمالاتها ومن قيمة مخلوقاتها قاطبة؟. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
فمثل هذا الجمال المطلق لا يرضى -بالبداهة- بمثل هذا القبح المطلق.
فالذي يريد أن ينكر الآخرة عليه أن ينكر وجود هذا الكون أولاً بجميع ما فيه من حقائق. وإلّا فالكائنات مع حقائقها المتأصلة فيها تكذِّبه بألوفٍ من الألسنة، وتثبت له أنه الكذّاب الأشر. وقد أثبتت «رسالة الحشر» بدلائل قاطعة: أن وجود الآخرة ثابت وقاطع لا ريب فيه كوجود هذه الدنيا.
النكتة الثالثة
تشير إلى النور الثالث من الأنوار الستة للاسم الأعظم:
الحكَم
﴿ اُدْعُ اِلٰى سَب۪يلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ ﴾ (النحل: ١٢٥)
لقد تراءت لي نكتةٌ من النكات الدقيقة لهذه الآية الكريمة، ونور من أنوار تجليات اسم الله «الحَكَم» الذي هو اسم الله الأعظم، أو أحد أنواره. في شهر رمضان المبارك. فكُتبت هذه النكتة المشتملة على خمس نقاط على عجلٍ، فأثبتُّها على حالها في المسودة دون تنقيح أو تغيير.
النقطة الأولى:
مثلما ذكرنا في «الكلمة العاشرة» أن التجلي الأعظم لاسم «الحَكَم» جعل هذا الكون بمثابة كتاب عظيم كُتبتْ في كل صحيفة من صحائفه مئاتُ الكتب، وأُدرجت في كل سطر منه مئاتُ الصفحات، وخُطَّتْ في كل كلمة منه مئاتُ الأسطر، وتُقرأ تحت كل حرف فيه مئاتُ الكلمات، وحُفِظَ في كل نقطة من نقاطه فهرسٌ مختصر صغير يلخص محتويات الكتاب كله.. فهذا الكتاب بصفحاته وأسطره بل بنقاطه يدل دلالة واضحة ساطعة -بمئات الأوجه- على مصوِّرِه وكاتبه، حتى إن مشاهدة الكتاب الكوني العظيم هذا وحدَها كافيةٌ للدلالة على وجود كاتبه، بل تسوقنا إلى معرفة وجوده ووحدانيته بما يفوق دلالة الكتاب على نفسه أضعافاً مضاعفة. إذ بينما يدل الحرفُ الواحد على وجوده ويعبّر عن نفسه بمقدار حرف فإنه يعبّر عن أوصاف كاتبه بمقدار سطر..
نعم، إنَّ سطح الأرض «صحيفة» من هذا الكتاب الكبير، هذه الصحيفة تضم كتباً بعدد طوائف النباتات والحيوانات، وهي تُكتب أمام أنظارنا في موسم الربيع في غاية الكمال والإتقان من دون خطأٍ، كتابةً متداخلة، جنباً إلى جنب، في آن واحد.
والبستان «سطر» من هذه الصحيفة، نشاهد فيه قصائد منظومة وهي تُكتب أمام أعيننا بعدد الأزهار والأشجار والنباتات، كتابةً متداخلة، جنباً إلى جنب، من دون خطأ.
والشجرة النامية الزاهية أوراقُها، المفتحة أزهارُها، وقد أوشكت أن تخرج أثمارُها من أكمامها، هذه الشجرة «كلمةٌ» من ذلك السطر، فهذه الكلمة تمثل فقرةً كاملة ذات مغزى تعبّر تعبيراً بليغاً عن ثنائها وحمدها ودلالتها على «الحكم» ذي الجمال، بعدد أوراقها المنتظمة وأزهارها المزينة وأثمارها الموزونة، حتى لكأن تلك الشجرة المفتحة الأزهار قصيدةٌ عصماء تتغنى بالمدح والثناء على آلاء بارئها المصور الجليل.
وكأن «الحكيم» ذا الجلال يريد أن ينظر عبادُه إلى ما عَرَضه من بدائع آثاره وعجائبِ مخلوقاته في معرض الأرض البديع بألوف من العيون.
وكأن تلك الهدايا الثمينة والأوسمة الغالية والشارات اللطيفة التي منحها الله تعالى لتلك الشجرة قد أعطتها من الشكل الجميل المزيَّن، والهيأة الموزونة المنتظمة، والإبانة الحكيمة البليغة ما يهيؤها للعرض أمام أنظار الملِك العظيم في يوم عيده البهيج وعرضه العام للمخلوقات.. في الربيع الزاهي.. فتنطلق بالشهادة على وجود البارئ المصور، والدلالة على أسمائه الحسنى ألسنةٌ عديدة ووجوهٌ كثيرة متداخلة؛ من كل زهرة من أزهار الشجرة، ومن كل ثمرة من ثمارها.
فمثلاً: إنَّ كل ما في الزهرة والثمرة موزونٌ بميزان دقيق، وذلك الميزان مقدَّر وفق تناسق بديع، وذلك التناسق يسير منسجماً مع تنظيمٍ وموازنةٍ يتجددان، وذلك التنظيم والموازنة يجريان في ثنايا زينة فاخرة وصنعة متقنة، وتلك الزينة والإتقان يظهران بروائح ذات مغزى وبمذاقات ذات حكمة.. وهكذا تشير كل زهرة إلى الحكم ذي الجلال إشارات، وتدل عليه دلالات، بعدد أزهار تلك الشجرة.
والشجرة التي هي بمثابة كلمة، وثمارُها التي هي بحكم حروف تلك الكلمة، وبذور الثمر كأنها نقاط تلك الحروف التي تضم فهرس الشجرة كاملاً وتحمل خطة أعمالها.
هذه الشجرة إذا أخذناها مثالاً وقسنا عليها كتاب الكون الكبير، نرى سطورَه وصحائفه قد صارت بتجلى أنوار اسم «الحكيم الحَكَم» معجزة باهرة، بل غدت كل صحيفة منه، وكل سطر منه، وكل كلمة، وكل حرف، وكل نقطة معجزةٌ تبلغ من العظمة ما لو اجتمعت الأسبابُ المادية كلها على أن تأتي بمثل تلك النقطة -أي البذرة- أو بنظيرها لا تأتي بمثلها. بل تعجز الأسباب جميعُها عجزاً مطلقاً عن معارضتها.
نعم، إن كل آية كونية من آيات قرآن الكون العظيم المنظور تَعرِض للأنظار معجزاتٍ نيّرات هي بعدد نقاطها وحروفها، فلا جرم أن المصادفة العشواء والقوة العمياء، والطبيعة الصماء البلهاء التي لا هدف لها ولا ميزان، لا يمكنها أن تتدخل -في أية جهة كانت- في هذا الميزان المتقن الخاص، وفي هذا الانتظام الدقيق البديع المتّسمين بالحكمة والبصيرة. فلو افتُرض تدخلها -جدلاً- لظهر أثر التدخل، بينما لا يشاهَد في أي مكان تفاوتاً ولا خللاً قط.
النقطة الثانية:
وهي مسألتان:
المسألة الأولى:
مثلما وُضّح في «الكلمة العاشرة» أنه من القواعد الأساسية الرصينة: أن الجمال الذي هو في منتهى الكمال لابد أن يَشهَد ويُشهِدَ جمالَه. وأن الكمال الذي هو في منتهى الجمال لابد أن يَشهَد ويُشهِد كمالَه. فبناء على هذا الدستور العام فإن البارئ المصور سبحانه الذي أبدع كتاب الكون العظيم هذا يعرِّف جمالَ كمالِه ويحبّبه بألسنةِ مخلوقاته -ابتداء من أصغر جزئي إلى أكبر كلي- فيعرِّف سبحانه ذاتَه المقدَّسة، ويفهّم كمالَه السامي، ويُظهر جمالَه البديع: بهذا الكون الرائع، وبكل صحيفة فيه، وبكل سطر فيه، وبكل كلمة فيه، بل حتى بكل حرف وبكل نقطة من كتابه العظيم هذا.
فيا أيها الغافل! إن هذا «الحكيم الحَكمَ الحاكم» ذا الجلال والجمال، إذ يعرّف نفسَه لك ويحبّبها إليك بكل مخلوقٍ من مخلوقاته، وبهذه الصورة الرائعة وبهذه الكثرة الكاثرة من الوسائل البديعة، إن لم تقابِل تعريفَه هذا بالإيمان به ولم تعرِفه، وإن لم تقابِل تحبيبه هذا بالعبادة له ولم تحبّب نفسَك إليه، فما أعظمَ جهلَك إذن، وما أفدح خسارتك!. احذر!. انتبه!.. وأفِق من غفلتك!.
المسألة الثانية:
إنه لا مكان للشرك قط في هذا الكون الشاسع العظيم الذي أبدعه الصانع القدير الحكيم بقدرته وحكمته؛ لأن وجود منتهى النظام في كل شيء لن يسمح بالشرك أبداً، فلو تدخلت أيدٍ متعددة في خلق شيءٍ ما لبان التفاوتُ والاختلال في ذلك الشيء، مثلما تختلط الأمور إذا ما وجد سلطانان في بلد، ومسؤولان في مدينة، ومديران في قصبة، ومثلما يرفض أبسط موظف تدخل أحد في شأن من شؤونه التي تخص وظيفته..
كل ذلك دلالة على أن الخاصة الأساسية للحاكمية إنما هي: «الاستقلال» و«الانفراد» فالانتظام يقتضي الوحدة كما أن الحاكمية تقتضي الانفراد.
فإذا كان ظلٌ باهت زائل للحاكمية لدى هذا الإنسان العاجز الفقير يردّ المداخلة بقوة، فكيف بالحاكمية الحقيقية التي هي في مرتبة الربوبية المطلقة لدى القدير المطلق سبحانه؟ ألا تردّ الشرك وترفضه رفضاً باتاً؟.
فلو أُفترض التدخل -ولو بمقدار ذرة- لاختلط الانتظام والتناسق واختلّ النظام والميزان!.
مع العلم أن هذا الكون قد أُبدع إبداعاً رائعاً إلى حد يلزم لِخَلْق بذرة واحدة قدرةٌ قادرة على خلق شجرة كاملة، ويلزم لخلق شجرة واحدة قدرة قادرة لإبداع الكون كله. وإذا ما افتُرض وجود شريك في الكون كله وَجَب أن يظهر نصيبهُ في التدخل لخلقِ أصغر بذرة مثلاً -إذ البذرة نموذج الكائنات- وعندئذ يلزم استقرار ربوبيتين -لا يسَعهما الكونُ العظيم- في بذرة صغيرة، بل في ذرة!! وهذا من أسخف المحالات والخيالات الباطلة وأبعدِها عن المنطق والعقل.
فاعلم من هذا، ما أتفهَ الشرك والكفر من خرافة! وما أكذبَهما من كلمة! وما أفظعهما من افتراء! إذ يقتضيان عجز القدير المطلق الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا، والذي بيده مقاليد السماوات والأرض يديرهما بميزان عدله ونظام حكمته.. يقتضيان عجزَه سبحانه حتى في بذرة صغيرة!! واعلم! أن أصوبَ التوحيد من حق وحقيقة! وما أعدلَه من صدق وصواب! أدرك هذا وذاك وقل: الحمد لله على الإيمان.
النقطة الثالثة:
إنَّ الصانع القدير باسمه «الحَكَم والحكيم» قد أدرج في هذا العالم ألوفَ العوالم المنتظمة البديعة، وبوّأ الإنسان -الذي هو أكثرُ من يمثل الحِكَم المقصودة في الكون وأفضل مَن يظهرها- موقعَ الصدارة، وجعله بمثابة مركز تلك العوالم ومحورِها؛ إذ يتطلع ما فيها من حِكَم ومصالح إلى الإنسان. وجعل الرزق بمثابة المركز في دائرة حياة الإنسان؛ فتجد أن معظمَ الحِكَم والغايات وأغلبَ المصالح والفوائد -ضمن عالم الإنسان- تتوجه إلى ذلك الرزق وتتضح به؛ لذا فإن تجليات اسم «الحكيم» تبدو واضحةً بأبهر صورها وأسطعها من خلال مشاعر الإنسان، ومن تضاعيف مذاقات الرزق، حتى غدا كل علم -من مئات العلوم التي توصّل الإنسان إلى كشفها بما يملك من شعور- يُعرِّف تجلياً واحداً من تجليات اسم «الحَكَم» في نوع من الأنواع.
فمثلا: لو سُئل علم الطب: ما هذه الكائنات؟. لأجاب: بأنها صيدلية كبرى أُحضرت فيها بإتقان جميعُ الأدوية وادُّخرَت.
وإذا ما سُئل علم الكيمياء: ما هذه الكرة الأرضية؟. لأجاب: بأنها مختبر كيمياء منتظم بديع كامل.
على حين يجيب علم المكائن: بأنها معمل منسَّق كاملٌ لا ترى فيه نقصاً.
كما يجيب علم الزراعة: بأنها حديقة غنَّاء ومزرعة معطاء، تُستنبت فيها أنواعُ المحاصيل، كلٌّ في أوانه.
ولأجاب علم التجارة: بأنها معرض تجاري فخم، وسوق في غاية الروعة والنظام، ومحل تجاري يحوي أنفس البضائع المصنوعة وأجودَها.
ولأجاب علم الإعاشة: بأنها مستودع ضخم يضم الأرزاق كلها بأنواعها وأصنافها.
ولأجاب علم التغذية: إنها مطبخٌ رباني تُطبخ فيه مئات الألوف من الأطعمة الشهيَّة اللذيذة جنباً إلى جنب بنظام في غاية الإتقان والكمال.
ولو سئل علم العسكرية عن الأرض!. لأجاب: بأنها معسكر مهيب يُساق إليه في كل ربيع جنودٌ مسلحون جُدد يؤلّفون أمماً مختلفة من النباتات والحيوانات يبلغ تعدادها أكثرَ من أربعمائة ألف أمة، فتُنصَب خِيَمُهم في أرجاء سطح الأرض. وعلى الرغم من أن أرزاقَ كلِّ أمَّة تختلف عن الأخرى، وملابسَها متغايرةٌ وأسلحتَها متباينةٌ، وتعليماتِها مختلفةٌ، ورُخَصها متفاوتة، إلّا أن أمورَ الجميع تسير بانتظام رائع، ولوازمَ الجميع تُهيّأ دون نسيان ولا التباس، وذلك بأمر من الله تعالى وبفضل رحمته السابغة صادراً من خزينته الواسعة.
وإذا ما سئل علم الكهرباء! لأجاب: بأن سقف قصر الكون البديع هذا قد زُيِّن بمصابيح متلألئة لا حدَّ لكثرتها ولا منتهى لروعتها وتناسقها، حتى إن النظام البديع والتناسق الرائع الذي فيه يحولان دون انفجار تلك المصابيح السماوية المتوهجة دوماً -وهي تكبر الأرضَ ألف مرة وفي مقدمتها الشمس- ودون انتقاص توازنها أو نشوب حريق فيما بينها..
تُرى من أي مصدرٍ تُغذّى تلك المصابيح التي لا يحد ولا ينفد استهلاكُها؟. ولِمَ لا يختل توازن الاحتراق؟ علماً أن مصباحاً زيتياً صغيراً إن لم يُراعَ ويُعتنَ به باستمرار ينطفئ نورُه ويخبُ.. فسبحانه من قدير حكيم ذي جلال كيف أوقد الشمس التي هي أضخم من الأرض بمليون مرة ومضى على عمرها أكثر من مليون سنة -حسب ما توصل إليه علم الفلك- دون أن تنطفئ ومن دون وقود أو زيت.. ([3]) تأمل في هذا وسبّح باسم ربك العظيم وقل: «ما شاء الله، تبارك الله، لا إله إلّا الله».. قُلها بعدد الثواني التي مرت على عمر الشمس..
فلا شك أن نظاماً بديعاً صارماً هو الذي يهيمن على هذه المصابيح السماوية المتلألئة ولابد أن رعايتها، ومراقبتَها دقيقة، حتى كأن مصدرَ الحرارة -والمرجل البخاري- لتلك الكتل النارية التي هي في منتهى الضخامة وفي غاية الكثرة، إنما هي جهنمُ لا تنفد حرارتُها وترسلها إلى الكل مظلمة قاتمة بلا نور. وكأن ماكنة تلك المصابيح المنورة والقناديل المضيئة التي لا تعد ولا تحصى هي جنةٌ دائمة يرسل إليها النور والضياء فيستمر اشتعالها المنتظم بالتجلي الأعظم لاسم «الحكم والحكيم».
وهكذا قياساً على هذه الأمثلة، فإن كل علمٍ من مئات العلوم يشهد قطعاً: أن هذا الكون قد زُيِّن بحِكَمٍ ومصالحَ شتى ضمن انتظام كامل لا نقص فيه، وأن تلك الأنظمة البديعة والحِكَم السامية النابعة من تلك الحكمة المعجزة المحيطة بالكون قد أُدرجت بمقياس أصغر، حتى في أصغر كائن حي وفي أصغر بذرة..
ومن المعلوم بداهة أن تتبعَ الغاياتِ وإردافَ الحِكَم والفوائد بانتظام لا يحصل إلّا بالإرادة والاختيار والقصد والمشيئة، وإلّا فلا. فكما أن هذا العمل البديع ليس هو من شأن الأسباب والطبيعة -اللتين لا تملكان إرادةً ولا اختياراً ولا قصداً ولا شعوراً- فلن يكون لهما تدخلٌ فيه كذلك؛ لذا فما أجهلَ مَن لا يعرف أو لا يؤمن بالفاعل المختار وبالصانع الحكيم الذي تدل عليه هذه الأنظمةُ البديعة والحِكَم الرفيعة التي لا حدَّ لها وهي مبثوثة في موجودات الكون قاطبة.
نعم، إنْ كان هناك شيء يُستَغرب منه ويُثير عند الإنسان العَجب في هذه الدنيا فإنما هو: إنكارُ وجوده سبحانه؛ لأن الانتظام بأنواعه البديعة التي لا تعد والحِكَم بأشكالها السامية التي لا تحصى والمندرجة في كل موجود في الكون شواهدُ صادقة على وجوب وجوده سبحانه وعلى وحدانيته.. فبُعداً لعمىً ما بعده عمى! وسُحقاً لجهلٍ ما بعده جهل لمن لا يرى هذا الرب الحكيم سبحانه! حتى يمكنني القول: إن السوفسطائيين الذين يُعَدّون حمقى لإنكارهم وجود الكون، هم أعقلُ أهلِ الكفر؛ لأن الاعتقاد بوجود الكون ومن بعده إنكارُ خالقه -وهو الله سبحانه- غير ممكن قطعاً، ولا يُقبل أصلاً، لذا بدأوا بإنكار الكون وأنكروا وجودهم أيضاً، وقالوا: لا شيء موجود على الإطلاق. فأبطلوا عقولهم، وأنقذوا أنفسهم باقترابهم شيئاً إلى العقل من متاهة الحماقة غير المتناهية للمنكرين الجاحدين الحمقى المتسترين تحت ستار العقل!
النقطة الرابعة:
مثلما أُشير في «الكلمة العاشرة» إلى أنه: إذا ما شيَّد معماريٌ بارع حكيم قصراً منيفاً، وأودع في كل حجر من أحجاره مئات الحِكَم والمصالح والفوائد، فلا يتصور مَن له شعور أن لا يبني له سقفاً يحفظه من البلى والفساد؛ لأن هذا يعني تعريض البناء للعدم والتلف وضياع تلك الفوائد والحكم التي كان يرعاها ويتولاها، وهذا ما لا يرضى به ذو شعور. أو أن حكيماً مطلقاً يُنشئ من درهم من البذور مئات الأطنان من الفوائد والحكم والغايات، ويتعقبها ويديرها، لا يمكن أن يَتَصور مَن له عقل صدور العبث والإسراف المنافيين كلياً للحكمة المطلقة من ذلك الحكيم المطلق فيقلّد الشجرة الضخمة فائدة جزئية، وغاية تافهة وثمرة قليلة، علماً أنه ينفق لإنشائها وإثمارها الكثير!..
نعم، فكما لا يمكن أن يتصور هذا أو ذاك عاقلٌ قط، كذلك لا يمكن أن يتصور مَن له مسكةُ عقل أن يصدُر من الصانع الحكيم العبثُ والإسراف بعدم إتيان الآخرة وبعدم إقامته الحشر والقيامة بعد أن قلَّد كل موجود في قصر الكون هذا مئاتٍ من الحكم والمصالح وجهّزه بمئاتِ الوظائف -حتى إنه قلَّد كل شجرة حِكماً بعدد ثمارها ووظائفَ بعدد أزهارها- فلا يمكن أن يتوارد على خاطر عاقل أن يضيّع هذا الحكيمُ الجليل جميعَ هذه الحِكم والمقاصد وجميعَ هذه الوظائف بعدم إقامته القيامة والآخرة. إذ يعني هذا إسنادَ العجز التام إلى قدرة القدير المطلق، وتنسيبَ العبث والضياع إلى الحكمة البالغة للحكيم المطلق، وإرجاعَ القبح المطلق إلى جمال رحمة الرحيم المطلق، وإسنادَ الظلم المطلق إلى العدالة التامة للعادل المطلق، أي إنكارَ كل من الحكمة والرحمة والعدالة الظاهرة المشاهدة، إنكارَها كلياً من الوجود! وهذا من أعجب المحالات وأشدها سخفاً وأكثرها بطلاناً!.
فليأتِ أهل الضلالة، ولينظروا إلى ضلالتهم كيف أنها مظلمةٌ مليئة بالعقارب والحيات كقبورهم التي سيصيرون إليها! وليدركوا أن طريق الإيمان بالآخرة منوَّرٌ جميل كالجنة فليسلكوه ولينعَموا بالإيمان.
النقطة الخامسة:
وهي مسألتان:
المسألة الأولى:
إنَّ تعقبَ الصانع الجليل - بمقتضى اسم «الحكيم» لألطف صورة في كل شيء وأقصر طريق، وأسهل طراز، وأنفع شكل.. يدل دلالة واضحة على أن الفطرة لا إسراف فيها قط ولا عبث، فما من شيء إلّا وفيه نفعَه وجدواه، وإن الإسراف مثلما ينافي اسم «الحكيم» فالاقتصاد لازمُه ومقتضاه ودستوره الأساس.
فيا أيها المسرف المبذّر! اعلم مدى مجانبتك الحقيقةَ بقعودك عن تطبيق أعظم دستور للكون المبني على الاقتصاد.
وتدبّر الآية الكريمة: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ﴾ (الأعراف: ٣١) لتعلم مدى رسوخ الدستور الواسع الشامل الذي ترشد إليه.
المسألة الثانية:
يصح أن يقال: إنَّ اسم الله «الحكم والحكيم» يقتضيان بداهة نبوة محمد ﷺ ورسالته، ويدلان عليها ويستلزمانها.
نعم، مادام الكتابُ البليغ بمعانيه ومراميه، يقتضي بالضرورة معلماً بارعاً لتدريسه.. والجمالُ الفائق يقتضي مرآةً يتراءى فيها، ويُري بها جمالَه وحُسنه.. والصنعةُ البديعة تستدعي منادياً داعياً إليها.. فلابد أن يوجد بين بني البشر الذي هو موضع خطاب كتاب الكون الكبير المتضمن مئات المعاني البليغة والحِكَم الدقيقة في كل حرف من حروفه، أقول: لابد أن يوجد رائدٌ أكمل، ومعلمٌ أكبر، ليرشدَ الناس إلى ما في ذلك الكتاب الكبير من حِكم مقدّسة حقيقية.. وليعلّمَ وجود الحِكَم المبثوثة في أرجائه ويدل عليها.. وليكون مبعث ظهور المقاصد الربانية في خلق الكون، بل السبب في حصولها.. وليرشدَ إلى ما يريد الخالق إظهارَه من كمال صنعته البديعة، وجمال أسمائه الحسنى، فيكون كالمرآة الصافية لذلك الكمال البديع والجمال الفائق.. ولينهضَ بعبودية واسعة -باسم المخلوقات قاطبة- تجاه مظاهر الربوبية الواسعة، مثيراً الشوقَ وناثراً الوجدَ في الآفاق براً وبحراً ملفتاً أنظار الجميع إلى الصانع الجليل بدعوةٍ ودعاء، وتهليل وتسبيح وتقديس، ترنّ به أرجاء السماوات والأرض.. وليقرع أسماعَ جميع أرباب العقول بما يلقّنه من دروس مقدسة سامية وإرشادات حكيمة من القرآن الحكيم.. وليبيّن بأجمل صورة وأجلاها بالقرآن العظيم المقاصد الإلهية لذلك الصانع الحكم الحكيم.. وليستقبل بأكمل مقابلة وأتمّها مظاهرَ الحكمة البالغة والجمال والجلال المتجلية في الآفاق. فإنسانٌ هذه مهمتُه، إنسان ضروري وجودُه، بل يستلزمه هذا الكون، كضرورة الشمس ولزومها له.
فالذي يؤدي هذه المهمات، وينجز هذه الوظائف على أتم صورة ليس إلّا الرسول الأكرم ﷺ كما هو مشاهَد؛ لذا فكما تستلزم الشمسُ الضوءَ، ويستلزم الضوءُ النهارَ، فالحِكَم المبثوثة في آفاق الكون وجنباته تستلزم نبوةَ محمد ﷺ ورسالته.
نعم، مثلما يقتضي التجلي الأعظم لاسم «الحَكم والحكيم» -في أوسع مداه- الرسالة الأحمدية، فإن أغلب الأسماء الحسنى؛ «الله، الرحمن، الرحيم، الودود، المنعم، الكريم، الجميل، الرب» وأمثالَها، تستلزم الرسالة الأحمدية في أعظم تجلياتها وإحاطتها بالكون كله، استلزاماً قاطعاً لا ريب فيه.
فمثلاً: إنَّ الرحمة الواسعة التي هي تجلي اسم «الرحيم» تظهر بوضوح بمَن هو رحمة للعالمين.. وإن التحبب الإلهي، والتعرف الرباني -اللذين هما من تجليات اسم «الودود»- يفضيان إلى نتيجتهما ويجدان المقابلة بحبيب رب العالمين.. وإن جميع أنواع الجمال: من جمال الذات إلى جمال الأسماء، وجمال الصنعة والإتقان، وجمال المصنوعات والمخلوقات، كل أنواع الجمال -التي هي تجلٍ من تجليات اسم الجميل- تشاهَد في تلك المرآة الأحمدية، وتُشهد بها.. بل حتى تجليات عظمة الربوبية، وهيمنة سلطنة الألوهية إنما تُعرف برسالة هذا الداعية العظيم إلى سلطان الربوبية وتتبين بها، وتُفهم عنها، وتؤخذ منها وتُصدّق بها.. وهكذا فأغلب الأسماء الحسنى إنما هي برهان باهر على الرسالة الأحمدية كما مر آنفاً..
نحصل مما سبق: أنه ما دام الكون موجوداً بالفعل ولا يمكن إنكاره، فلا يمكن أن يُنكَر كذلك ما هو بمثابة ألوانِه وزينته، وضيائه وإتقانه، وأنواع حياته، وأشكال روابطه من الحقائق المشهودة، كالحكمة، والعناية، والرحمة، والجمال، والنظام، والميزان، والزينة، وأمثالها من الحقائق.. فمادام لا يمكن إنكار هذه الصفات والأفعال، فلا يمكن إنكار موصوف تلك الصفات، ولا يمكن إنكار فاعل تلك الأفعال ونور شمس تلك الأضواء، أعني ذات الله الأقدس جلّ جلالُه الواجب الوجود، الذي هو «الحكيم، الرحيم، الجميل، الحكم، العدل».. وكذا لا يمكن إنكارُ مَن هو مدارٌ لظهور تلك الصفات والأفعال، بل مَن هو مدارٌ لعرض كمالاتها، بل تحقق تجلياتها، ذلكم الرسول الكريم محمد ﷺ، الرائد الأكبر، والمعلم الأكمل، والداعية الأعظم، وكشاف طلسم الكائنات، والمرآة الصمدانية، وحبيب الرحمن.. فلا يمكن إنكار رسالته قطعاً، لأنها أسطع نور في هذا الكون كسطوع ضياء عالم الحقيقة ونور حقيقة الكائنات.
عليه وعلى آله وصحبه الصلاة والسلام بعدد عاشرات الأيام وذرات الأنام.
﴿ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَٓا اِلَّا مَا عَلَّمْتَنَاۜ اِنَّكَ اَنْتَ الْعَل۪يمُ الْحَك۪يمُ ﴾
النكتة الرابعة
تخص اسم الله
الفرد
بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ
﴿ قُلْ هُوَ اللّٰهُ اَحَدٌ ﴾ (الإخلاص:١)
بينما أنا نزيل سجن «أسكي شهر» في شهر شوال إذ تراءت لي نكتة دقيقة من النكات اللطيفة لهذه الآية الجليلة، ولاح لي قبسٌ من أنوار اسم الله الأعظم: «الفرد» -أو هو أحد أنواره الستة- الذي يتضمن اسمَي «الواحد والأحد» من الأسماء الإلهية الحسنى.
سنبين هنا باختصار شديد التوحيد الحقيقي الذي يُظهره ذلك التجلي الأعظم. وذلك في سبع إشارات موجزة.
الإشارة الأولى:
لقد وضع اسمُ الله الأعظم «الفرد» بتجليه الأعظم على الكون كلِّه بصماتِ التوحيد المميز، وأختامَ الوحدانية الواضحة، على مجموع الكون، وعلى كل نوعٍ فيه، وعلى كل فردٍ فيه. ولما كانت «الكلمة الثانية والعشرون» و«المكتوب الثالث والثلاثون» قد تناولا بيان ذلك التجلي بشيء من التفصيل، نكتفي بالإشارة فقط إلى ثلاث بصماتٍ وأختام منها دالّة على التوحيد:
الختم الأول: إن التجلي الأعظم للفردية قد طبع على وجه «الكون» كلِّه طابعاً مميزاً للتوحيد، وختماً واضحاً للوحدانية وضوحاً حوّل الكون كلَّه بحُكم «الكل» الذي لا يقبل التجزئة مطلقاً بحيث إن مَن لا يقْدِر على أن يتصرف في الكون كلِّه لا يمكن أن يكون مالكاً مُلكاً حقيقياً لأي جزء منه. ولنوضح هذا الختم المميز:
إنَّ موجودات الكون، بأنواعها المختلفة، تتعاون فيما بينها تعاوناً وثيقاً، ويسعى كلّ جزء منها لتكملة مهمةِ الآخر وكأنها تمثل بمجموعها وأجزائها تروسَ معمل بديع ودواليبَه -الذي يشاهد فيه هذا التعاون بوضوح- فهذا التساند، وهذا التعاون بين الأجزاء، وهذه الاستجابة في إسعاف كلٍّ منها لطلب الآخر، وإمداد كلِّ جزء للجزء الآخر، بل هذا التعانق والاندماج بين الأجزاء، يجعل من أجزاء الكون كله وحدةً متحدة تستعصي على الانقسام والانفكاك. يشبه في هذا وحدةَ أجزاء جسم الإنسان الذي لا يمكن فكّ بعضها عن البعض الآخر.
نفهم من هذا أن الذي يمسك زمام عنصر واحد في الوجود، إنْ لم يكن زمام جميع العناصر بيده لا يستطيع أن يسيطر على ذلك العنصر الواحد أيضاً.
إذن فـ«التعاون» و«التساند» و«التجاوب» و«التعانق» الواضحة على وجه الكون، إنما هي أختامٌ كبرى وبصمات ساطعة للتوحيد.
الختم الثاني: إنَّ التجلي الباهر لاسم الله «الفرد» يجعلنا نُشاهد -على وجه الأرض ولاسيما في الربيع- ختماً لامعاً للأحدية، وآيةً جلية للوحدانية بحيث إن من لا يدير جميع الأحياء على وجه الأرض كلها بأفرادها وأحوالها وشؤونها كافة، والذي لا يرى ولا يخلق ولا يعلم جميعها معاً، لا يمكن أن يكون له تدخل في أي شيء من حيث الإيجاد. فلنوضح هذا الختم:
تأمل في هذه البُسُط المفروشة على الأرض التي لُحمتُها وسَداها مائتا ألف طائفة ونوع من أنواع الحيوانات وطوائف النباتات بأفرادها المتنوعة التي لا تعد ولا تحصى والتي تضفي الزينة وتنثر البهجة على نسيج الحياة على سطح الأرض -وبخاصة في الربيع- تأمّلها جيداً وأدِم النظر فيها، فإنها مع اختلاف أشكالها، وتباين وظائفها، واختلاف أرزاقها وتنوع أجهزتها، وامتزاجها بعضها مع البعض الآخر تشاهِد: إنَّ رزق كل ذي حياة يأتيه رغداً من كل مكان ومن حيث لا يحتسب، بلا سهو ولا نسيان، بلا انشغال ولا ارتباك، بلا خطأ ولا التباس.. فيُعطى بميزان دقيق حساس كل ما يحتاجه الفرد، في وقته المناسب، من دون تكلف ولا تكليف، مع تمييز لكلٍ منها، وهو يموج في هذا الامتزاج الهائل وفي هذا الخضم من الموجودات المتداخلة، فضلاً عما يُخْبئ باطنُ الأرض من آيات التوحيد الرائعة المتلمعة من انتظام المعادن والعناصر الجامدة.
لذا فإن هذا «التدبير والإدارة» المشاهد في هذا الأمر الدائب على وجه الأرض وباطنها إنما هو آية ساطعة للأحدية، وختمٌ واضح للوحدانية، بحيث إن مَن لم يكن خالقاً لجميع تلك الموجودات من العدم، ومدبّراً لجميع شؤونها في آن واحد، لا يقدر على التدخل -من حيث الربوبية والإيجاد- في شيء منها، لأنه لو تدخل لأفسد تلك الإدارة المتوازنة الواسعة. إلّا ما يؤديه الإنسان من وظيفة ظاهرية -بإذن إلهي أيضاً- لكشف تلك القوانين الربانية وحُسن سيرها.
الختم الثالث: في وجه الإنسان
إنَّ شعار التوحيد وختمَه واضح وضوحاً بيناً لكل مَن يتأمل وجهَ أي إنسان كان، وذلك: أنَّ لكل إنسان علامةً فارقة في وجهه تُميِّزه عن غيره. فالذي لا يستطيع أن يضع تلك العلامات في كل وجه، ولا يكون مطّلعاً على جميع الوجوه السابقة واللاحقة منذ آدم عليه السلام إلى يوم القيامة، لا يمكنه أن يمدّ يدَه من حيث الخلق والإيجاد ليضع تلك الفوارق المميّزة الهائلة في ذلك الوجه الصغير لإنسان واحد.
نعم، إنَّ الذي وضع في وجهِ الإنسان ذلك الطابع المميز وتلك الآية الجلية بتلك العلامات الفارقة، لا بد أن أفراد البشر كافة هم تحت نظره وشهوده، وضمنَ دائرة علمه حتى يضع ذلك الختمَ للتوحيد في ذلك الوجه. بحيث إنه مع التشابه الظاهر بين الأعضاء الأساس -كالعيون والأنوف وغيرها من الأعضاء- لا تتشابه تشابهاً تاماً، بسبب علامات فارقة في كلٍ منها. وكما أن تشابه الأعضاء -من عيون وأنوف- في وجوه البشر كافة دليل قاطع على وحدانية خالق البشر سبحانه وتعالى، كذلك فإن العلامات الفارقة الموضوعة على كل وجهٍ -لصيانة حقوق كل فرد في المجتمع، ولمنع الالتباس، وللتمييز، ولحِكَم أخرى كثيرة- هي الأخرى دليلٌ واضح على الإرادة المطلقة والمشيئة الكاملة لذلك الخالق الواحد سبحانه وتعالى، وآيةٌ بديعة جلية أيضاً للأحدية، بحيث إن من لا يَقدر على خلق جميع البشر والحيوانات والنباتات بل جميع الكون لا يمكنه أن يضع تلك السمة المميزة في أحد.
الإشارة الثانية:
إنَّ عوالم الكائنات المختلفة وأنواعها المتنوعة وعناصرها المتباينة قد اندمجت اندماجاً كلياً وتداخل بعضُها مع البعض الآخر، بحيث إنَّ مَن لم يكن مالكاً لجميع الكون لا يمكنه أن يتصرف بنوعٍ منه أو عنصر فيه تصرفاً حقيقياً، لأن تجلي نورِ التوحيد لاسم الله «الفرد» قد أضاء أرجاء الكون كله، فضمّ أجزاءها كافة في وحدة متحدة، وجعل كل جزء منه يعلن تلك الوحدانية.
فمثلاً: كما أن كون الشمس مصباحاً واحداً لهذه الكائنات يشير إلى أن الكائنات بأجمعها ملكٌ لواحد، فإن كونَ الهواء هواءً واحداً يسعى لخدمة الأحياء كلها.. وكونَ النار ناراً واحدة توقد بها الحاجات كلها.. وكون السحاب واحداً يسقي الأرض.. وكون الأمطار واحدة تأتي لإغاثة الأحياء كافة.. وانتشار أغلب الأحياء من نباتات وحيوانات انتشاراً طليقاً في أرجاء الأرض كافة مع وحدة نوعيتها، ووحدة مسكنها.. كل ذلك إشارات قاطعة وشهادات صادقة على أن تلك الموجوداتِ ومساكنَها ومواضعَها إنما هي ملكٌ لمالك واحدٍ أحد.
ففي ضوء هذا وقياساً عليه نرى: أن تداخل الأنواع المختلفة للكائنات واندماجها الشديد ببعضها قد جعل مجموعَها بمثابة كلٍ واحد لا يقبل التجزئة قطعاً من حيث الإيجاد. فالذي لا يستطيع أن يُنفّذ حكمَه على جميع الكون لا يمكنه -من حيث الخلق والربوبية- أن يُخضِع لربوبيته أيَّ شيء فيه، حتى لو كان ذلك الشيء ذرةً أو أصغر منها.
الإشارة الثالثة:
قد تحوّل الكون كلُّه بالتجلي الأعظم لاسم الله «الفرد» إلى ما يشبه رسائل صمدانية ومكاتيب ربانية متداخلة بعضها في البعض الآخر، تزخر كلُّ رسالة منها بآيات الوحدانية وأختام التوحيد، وتحمل كل رسالة بصماتِ الأحدية بعدد كلماتها، بل إن كل كلمة فيها تُفصح عن وحدانية كاتبها؛
إذ كما يدل الختمُ أو التوقيع في الرسالة على كاتبها، فإن كل زهرة وكل ثمرة، وكل عشب، وكل حيوان، وكل شجر، إنما يمثل ختمَ الأحدية وطغراء الصمدانية وكأنها أختام لمواضعها التي تتخذ هيئة الرسائل فتبين كاتبَها.
فزهرةٌ صفراء -مثلاً- في حديقةٍ ما. هذه الزهرة هي بمثابة ختمٍ يدل بوضوح على مصوِّر الحديقة، فمَنْ كان مالكاً لذلك الختم -الزهرة- فهو مالكٌ لجميع أنواع تلك الزهرة ومثيلاتها المبثوثة على الأرض كافة، ويدل أيضاً على أن تلك الحديقة كتابتُه.
أي إن كل شيء يَسْنِدُ جميع الأشياء إلى خالقها ويشير إلى تجلٍ باهر عظيم لوحدانيته سبحانه.
الإشارة الرابعة:
لقد أوضحت «رسائل النور» في أجزائها الكثيرة ببراهين متعددة أن التجلي الأعظم لاسم الله الفرد مع أنه واضحٌ وضوح الشمس، فهو مقبول في الأعماق إلى حد السهولة المطلقة، وهو مستساغ عقلاً ومنطقاً إلى حد الوجوب والبداهة. وبعكسه الشرك المنافي لذلك التجلي، فهو معقّد إلى أقصى حدود التعقيد، وغير منطقي إطلاقاً، وهو بعيد جداً عن المعقول إلى حد المحال والامتناع. سنبين هنا ثلاث نقاط من تلك الأدلة فقط، ونحيل تفاصيلها إلى الرسائل الأخرى.
النقطة الأولى: لقد أثبتنا ببراهين قاطعة في ختام «الكلمة العاشرة» وفي «الكلمة التاسعة والعشرين» إثباتاً مجملاً، وفي ختام «المكتوب العشرين» مفصلاً أنه: من السهولة واليسر على قدرة «الأحد الفرد» سبحانه، خَلقُ أعظم جِرم، وخلقُ أصغرِ شيء على حدّ سواء، فهو سبحانه يخلق الربيعَ الشاسع بيُسرِ خلقِ زهرةٍ واحدة، ويُحدِث في كل ربيع بسهولة بالغة آلافاً من نماذج الحشر والنشور -كما هو مشاهَد- ويُراعي شجرة ضخمة باسقة بيُسر مراعاته فاكهةً صغيرة. فلو أُسنِد أيٌ من ذلك إلى الأسباب المتعددة، لأصبح خلقُ كلِّ زهرةٍ فيه من المشكلات ما للربيع الشاسع، وفي خَلقِ كل ثمرةٍ فيه من الصعوبات ما للشجرة الباسقة.
نعم، إن كان تجهيزُ الجيش بأكمله بالمؤَن والعتاد بأمر صادر من قائد واحد، من مصدر واحد، سهلاً وبسيطاً كتجهيز جندي واحد، يكون صعباً بل ممتنعاً أن يكون كل جندي يتجهز من معامل متفرقة ويتلقى الأوامر من إدارات متعددة كثيرة، إذ عندئذٍ يحتاج كل جندي إلى معامل بقدر أفراد الجيش بأكمله!!
فكما أن الأمرَ يسهل بالوحدة ويصعب بالكثرة هكذا، كذلك إذا أُسنِد الخلقُ والإيجاد إلى «الفرد الأحد» جل وعلا، فإن خلقَ أفراد غير محدودة لنوعٍ واحد يكون سهلاً كخلق فرد واحد، بينما لو أُسنِد إلى الأسباب، فإن خلقَ كلّ فردٍ يكون مُعضلاً وصعباً كخلق النوع الواسع الكثير.
أجل، إن الوحدانية والتفرد تجعل كلَّ شيء منتسباً ومستنداً إلى الذات الإلهية الواحدة، ويصبح هذا الانتساب والاستناد قوةً لا حدّ لها لذلك الشيء، حتى يمكنه أن يُنجز من الأعمال الجسيمة، ويولّد من النتائج العظيمة ما يفوق قوتَه الذاتية ألوفَ المرات معتمداً على سر ذلك الاستناد والانتساب. أما الذي لا يستند ولا ينتسب إلى صاحب تلك القوة العظمى ومالكِها «الفرد الأحد» فسينجز من الأعمال ما تتحمله قوتُه الذاتية المحدودة جداً، وتنحسر نتائجُها تبعاً لذلك.
فمثلاً: إن الذي انتسب إلى قائد عظيم واستند إليه بصفة الجندية، يصبح له هذا الانتساب والاستناد بمثابة قوةٍ ممدّة لا تنفد، فلا يضطر إلى حمل ذخيرته وعتاده معه، لذا قد يُقدِم على أسر قائد جيش العدو المغلوب مع آلافٍ ممن معه، بينما السائب الذي لم ينخرط في الجندية، مضطرٌ إلى حمل ذخيرته وعتاده معه، ومهما بلغ من الشجاعة فلا يستطيع أن يقاوم بتلك القوة إلّا بضعةَ أفراد من العدو، وقد لا يثبت أمامهم إلّا لفترة قليلة.
ومن هنا نرى أن قوة الاستناد والانتساب -التي في الفردية والوحدانية- تجعل النملة الصغيرة تقدم على إهلاك فرعون عنيد، وتجعل البعوضة الرقيقة تجهز على نمرود طاغية، وتجعل الميكروب البسيط يدمر باغياً أثيماً.. كما تمدّ البذرة الصغيرة لتحمِل على ظهرها شجرة صنوبر باسقة شاهقة.. كل ذلك باسم ذلك الانتساب وبسر ذلك الاستناد.
نعم، إن قائداً عظيماً شهماً يستطيع أن يستنفر جميعَ جنوده ويحشّدهم لإنقاذ جندي واحد وإمداده، والجندي بدوره يستشعر كأن جيشاً جراراً يسنده ويمدّه بقوة معنوية عالية حتى تمكّنه من أن ينهض بأعمال جسام باسم القائد.
فالله سبحانه وتعالى (وله المثل الأعلى) لأنه فرد واحد أحد، فلا حاجة في أية جهة إلى أحد غيره، وإذا افترضت الحاجة في جهة ما، فإنه يستنفر الموجودات كلها لإمداد ذلك الشيء وإسناده، فيحشر سبحانه الكون كله لأجله.
وهكذا يستند كلُّ شيء إلى قوة عظيمة هائلة تملك مقاليد الكون بأسره.. وهكذا يستمد كلُّ شيء في الوجود قوتَه من تلك القوة الإلهية العظيمة المطلقة.. من ذلك «الفرد الأحد» جلّ وعلا.
فلولا «الفردية».. لفقَد كل شيء هذه القوة الجبارة، ولسقط إلى العدم وتلاشت نتائجُه.
فما تراه من ظهور نتائج عظيمة هائلة من أشياء بسيطة تافهة، ترشدنا بالبداهة إلى الفردية والأحدية. ولولاها لبقيت نتائجُ كلِّ شيء وثمارُه منحصرةً في قوته ومادته الضئيلة، وتصغر عندئذٍ النتائجُ بل تزول. ألا ترى الأشياء الثمينة النفيسة كالفواكه والخضر وغيرها مبذولة ومتوافرة أمامنا. ما ذلك إلّا بسر الوحدانية والانتساب وحشر جميع القوى، فلولا «الفردية» لما كنا نحصل بآلاف الدراهم ما نحصله اليوم من بطيخ أو رمان بدراهم معدودة.
فكل ما نشاهده من بساطة الأمور والأشياء وسهولتها ورخصها وتوفرها إنما هي من نتائج الوحدانية وتشهد بالفردية.
النقطة الثانية: إن الموجودات تُخلَق وتظهر إلى الوجود بوجهين:
الأول: الخلق من العدم، وهو ما يعبَّر عنه بـ«الإبداع والاختراع».
الثاني: إنشاؤها من عناصر موجودة، وتركيبُها ومنحُ الوجود لها من أشياء حاضرة، أي بـ«التركيب والإنشاء».
فإذا نظرنا إلى الموجودات من زاوية سر الأحدية وتجلي الفردية، نرى أن خلقَها وإيجادَها يكون سهلاً وهيّناً إلى حد الوجوب والبداهة، بينما إن لم يُفوَّض أمرُ الخلق والإيجاد إلى الفردية والوحدانية، فستتعقد الأمور وتتشابك، وتظهر أمورٌ غير معقولة وغير منطقية إلى حد المحال والامتناع. وحيث إننا نرى الموجودات قاطبة تظهر إلى الوجود من دون صعوبة وتكلف، ومن غير عناء، وعلى أتم صورة وكيفية، يثبت لنا بداهة إذن تجلي الفردية، ويتبين لنا: أن كل شيء في الوجود إنما هو من إبداع «الأحد الفرد» ذي الجلال والإكرام.
نعم، إن أُسند أمرُ الخلق إلى «الفرد الواحد الأحد» يخلق كل شيء من العدم في لمح البصر وبكل سهولة ويسر، وبقدرته المطلقة العظيمة بآثارها المشهودة. ويقدّر لكل شيء بعلمِه المحيط المطلق ما يشبه قوالب معنوية وتصاميم غيبية.. فكل شيء عنده بمقدار.
فكما أن الجنود المطيعين في الجيش المنظم يُساقون لأخذ مواضعهم بأمر من القائد وحسب خطته الموضوعة في علمه، كذلك الذراتُ المطيعة للأوامر الربانية فإنها تساق بالقدرة الربانية -بكل سهولة ويسر- لتأخذ مواقعها وتحافظ عليها حسب تصميمٍ موجود، وصورةٍ موجودة، في مرآة العلم الإلهي الأزلي.
حتى لو لزم جمعُ الذرات من الأنحاء المختلفة، فإن جميع الذرات المرتبطة بقانون العلم الإلهي المحيط، والموثوقة الصلة بدساتير القدرة الإلهية، تصبح بمثابة الجنود المنقادين في الجيش المنظم، فتأتي مسرعة بذلك القانون وبسَوق القدرة لأخذ مواقعها في ذلك القالب العلمي والمقدار القدري المحيطين بوجود ذلك الشيء. بل كما تظهر الصورةُ المثالية المتمثلة في المرآة على الورقة الحساسة في آله التصوير وتلبس وجوداً محسوساً خارجياً، وكما تظهر وتشاهَد الكتابة المخفية السرية بإمرار مادة كيماوية عليها. كذلك الأمر في صورة جميع الموجودات، وماهية جميع الأشياء الموجودة في مرآة العلم الإلهي الفرد الأحد، فإن القدرة الإلهية المطلقة تُلبسها -بكل سهولة ويسر- وجوداً خارجياً محسوساً، فتظهر للعيان في عالم الشهادة، بعد أن كانت في عالم المعنى والغيب.
ولكن إن لم يُسند أمر الخلق إلى الفرد الأحد فعندئذٍ يلزم لخلق ذبابة واحدة مسحُ سطح الأرض وتفتيشها وغربلة عناصرها جميعاً وذراتِها المعينة لوجودٍ معيّن ثم وزنها بميزان دقيق حساس، لوضع كل ذرة في موضعها المخصص لها، حسب قوالب مادية بعدد أجهزتها وأعضائها المتقنة، وذلك لكي يأخذ كل شيء مكانه اللائق به، فضلاً عن جلب المشاعر والأحاسيس الروحية الدقيقة واللطائف المعنوية من العوالم المعنوية والروحية بعد وزنها أيضاً بميزان دقيق حسب حاجة الذبابة!!
ألا يكون -بهذا الاعتبار- خلقُ ذبابة واحدة صعباً ممتنعاً كإيجاد جميع الكائنات؟! أليس فيه الصعوبات تلو الصعوبات والمحالات ضمن المحالات؟! لذا اتفق جميعُ أهل الإيمان والعلم: أنه لا يخلق من العدم إلّا الخالقُ الفرد سبحانه وتعالى. ولهذا لو فُوّض الأمر إلى الأسباب والطبيعة استلزم لوجود شيء واحد الجمعُ من أكثر الأشياء.
النقطة الثالثة: لقد أوردنا أمثلة كثيرة في رسائل شتى تشير إلى: أن إسناد الخلق إلى «الفرد الواحد الأحد» يجعل خلق جميع الأشياء سهلاً كالشيء الواحد، وبعكسه إذا أُسنِد إلى الطبيعة والأسباب فخلقُ الشيء الواحد يكون صعباً ممتنعاً كخلق جميع الأشياء.
نقتصر منها هنا على ثلاثة أمثلة فقط:
المثال الأول: إذا أُحيلت إدارة ألف جندي إلى ضابط واحد، وأُحيلت إدارةُ جندي واحد إلى عشرة ضباط، فإن إدارةَ هذا الجندي تكون ذات مشكلات وصعوبات بمقدار عشرة أضعاف إدارة تلك الفرقة من الجنود. وذلك: لأن الأمراء العديدين سيعادي بعضُهم بعضاً، وستتعارض أوامرُهم حتماً، فلا يجد ذلك الجندي راحةً بين منازعة أمرائه.
بعكسه تماماً ذلك الضابط الذي يدير بأوامره فرقة كاملة من الجنود وكأنه يدير جندياً واحداً، وينفّذ خطته وما يريده من الفرقة بتدبيره كل شيء بسهولة ويسر، علماً أنه يتعذر الوصول إلى هذه النتيجة إذا تُرك الأمر إلى جنود سائبين.
المثال الثاني: إذا سُلّم أمر بناء قبة جامع أيا صوفيا إلى بنّاء ماهر، فإنه يقوم به بكل سهولة ويسر، بينما إذا سُلّم بناؤها إلى أحجارها، لزم أن يكون كلُّ حجرٍ حاكماً مطلقاً على سائر الأحجار، ومحكوماً لها في الوقت نفسه كي تأخذ القبةُ المعلقة الشامخة شكلَها!
فبينما كان البنّاء الماهر يصرف جهداً قليلاً -لسهولة الأمر لديه- تصرف الآن مئات من البنّائين -الأحجار- أضعاف أضعاف ذلك الجهد من دون الحصول على نتيجة!!.
المثال الثالث: إنَّ الكرة الأرضية مأمورةٌ وموظفة من لدن «الفرد الواحد» سبحانه، وهي كالجندي المطيع لله الواحد الأحد، فحينما تستلم الأمر الواحد، الصادر من آمرها الأحد، تهبّ منتشية بأمر مولاها وتنغمر في جذبات وظيفتها في شوق عارم، وتدور كالمريد المولوي العاشق -عند قيامه للسماع- فتكون وسيلةً لحصول المواسم الأربعة، واختلاف الليل والنهار وظهور الحركات الرفيعة العظيمة، والكشف عن مناظر خلابة لقبة السماء المهيبة وتبديلها باستمرار كتبدل المشاهد السينمائية.. ويكون سبباً لحصول أمثال هذه النتائج الجليلة، حتى لكأنَّ الأرضَ هي القائد لتلك المناورة العسكرية المهيبة بين نجوم الكون.
ولكن إنْ لم يُسند الأمرُ إلى «الفرد الأحد» الذي أحاط بحاكمية ألوهيته وسلطان ربوبيته الكون كله، والذي ينفذ حكمُه وأمره في كل صغيرة وكبيرة في الوجود، فعندئذٍ يلزم وجودُ ملايين النجوم التي تكبر الأرض بألوف المرات، ولابد من أن تسير هذه النجومُ في مدار أكبر وأوسع بملايين المرات من مدار الأرض كي تظهر تلك المناورة السماوية والأرضية وتلك النتائج نفسها التي تتولد من حركتي الأرض السنوية واليومية بكل سهولة ويسر.
وهكذا فإنَّ حصول هذه النتائج الجليلة الناشئة من حركتي الأرض حول محورها ومدارها -حركة تشبه حركات المولوي العاشق- يظهر لنا مدى السهولة والفطرية والبساطة في «الأحدية والفردية»، ويبين لنا في الوقت نفسه كم هي مملوءةٌ طريقُ الشرك والكفر بالمحالات التي لا حدَّ لها وبالأمور الباطلة غير المعقولة.
وبعد.. فلاحظ الآن بمنظار هذا المثال الآتي جهلَ المتشدقين بالطبيعة وعبّاد الأسباب، لتعلم في أي دَرَك من وحل الحماقة يتمرغون وفي أي بيداءِ وهمٍ يتيهون، وقِسْ عليه مدى بُعدِهم كل البعد عن ميدان المنطق والعقل السليم:
معمل عظيم.. كتاب رائع.. قصر مشيد.. ساعة دقيقة.. لا شك أن الذي صنع كلاً من هذه قد نظّمه ونسّقه بدقة وعناية، ويجيد إدارته ويرعاه، ولا شك أنه أراد في صنع كل منها إظهارَ محاسن صنعته وإبراز بدائع عمله. فإن أحال أحدُهم إدارة المعمل العظيم إلى دواليب المعمل نفسه، وفوّض بناءَ القصر المنيف إلى أحجار القصر نفسه، وأسند معاني الكتاب الجميلة إلى الحروف نفسها، فكأنه قد جعل كل جزء من أجزاء المعمل ذا قدرة عظيمة لتنظيم نفسه وغيره! وجعل كلَّ حرف من حروف الكتاب بل الورق والقلم شيئاً خارقاً يبدع الكتاب نفسه! أي إنه يحيل روعةَ الانتظام في المعمل إلى دواليب المعمل، ويسند جمالَ المعنى في الكتاب إلى توافق الحروف من تلقاء نفسها!!
أيّ هذرٍ هذا! وأيّ وَهْم! أليس الذي يتفوّه به بعيداً كل البُعد عن سلامة العقل؟
فالذين يحيلون أمر الخلق والإيجاد في هذا الكون البديع إلى الأسباب وإلى الطبيعة يهوون في جهل مركّب سحيق كهذا. وذلك لأن مظاهرَ الإبداع واضحة على الأسباب والطبيعة نفسها، فهي مخلوقةٌ كسائر المخلوقات. فالذي خلقها -على هذه الصورة البديعة- هو الذي يخلق آثارَها ونتائجها أيضاً، ويظهرها معاً.. فالذي خلق البذرة هو الذي أنشأ عليها شجرتَها، وهو الذي يخرج أثمارَها وأزهارها من أكمامها.. بينما إن لم يُسنَد خلقُ الأسباب والطبيعة مع آثارهما إلى «الواحد الأحد»، يلزم لوجود أنواع الأسباب وأنماط الطبيعة المختلفة، أنواعٌ من الأسباب والطبيعة المنتظمة المنسقة المختلفة . وهكذا تستمر سلسلةُ موهومة ممتنعة لا معنى لها ولا نهاية! وهذا من أعجب عجائب الجهل وأتعسه!!
الإشارة الخامسة:
لقد أثبتنا في مواضع متعددة من الرسائل وببراهين دامغة: أن الاستقلال والانفراد من أخص خصائص الحاكمية، حتى إن هذا الإنسانَ الذي هو عاجزٌ عجزاً شديداً، ولا يملك من الحاكمية سوى ظل باهت، نراه يردّ بكل قوة أيَّ فضول كان من الآخرين، ويرفض بكل شدة أي تدخل كان منهم في شؤونه، صوناً منه لاستقلاله وانفراده في الأمر. بل ذُكِر في التاريخ أن كثيراً من السلاطين قد سفكوا دماءً زكية لأبنائهم الأبرياء وإخوانهم الطيبين حينما شعروا بتدخلٍ منهم في شؤونهم.
إذن فالاستقلال والانفراد ورفضُ مداخلة الآخرين هو من أخصّ خصائص الحاكمية الحقة، لا فكاك لها عنه. بل هو لازمها ومقتضاها الدائم.
فالحاكمية الإلهية التي هي في ربوبية مطلقة تردّ بكل شدة الشرك والاشتراك مهما كان نوعه، ولا تقبل تدخلاً ما من سواها قط. ومن هنا نرى القرآن الكريم يفيض في بيان التوحيد الخالص ويردّ الشرك والمشاركة بأسلوب شديد وبتهديد مروّع..
فكما اقتضت الحاكمية الإلهية -التي هي في الربوبية المطلقة- التوحيدَ والوحدانية بقطعية تامة، وأظهرت مقتضىً شديداً وداعياً قوياً لها، كذلك النظامُ المتقن والانسجامُ البديع المشاهَدان في الكون -ابتداءً من النجوم والنباتات والحيوانات والأرض والمعادن وانتهاء بالجزئيات والأفراد والذرات- كلٌّ منهما شاهدُ عدلٍ، وبرهان باهر على تلك الوحدانية والفردية، فلا يسمح قط لريبة أو لشبهة، إذ لو كان هناك تدخل مما سوى الواحد الأحد، لفسد هذا النظام البديع الرصين، واختل هذا التوازن المحكم المشاهَد في جميع أجزاء الكون، فصدق الله العظيم الذي قال: ﴿ لَوْ كَانَ ف۪يهِمَٓا اٰلِهَةٌ اِلَّا اللّٰهُ لَفَسَدَتَاۚ ﴾ (الأنبياء: ٢٢)
نعم، لو كان هناك أي تدخل مهما كان لظهرت آثارُه باديةً، إلّا أن الدعوة الصريحة في الآية الكريمة: ﴿ فَارْجِعِ الْبَصَرَۙ هَلْ تَرٰى مِنْ فُطُورٍ ﴾ (الملك: ٣) تريك هذا النظام البديع بكل وضوح وجلاء حتى لا ترى ثغرةً ولا لبساً ولا نقصاً في جهة من الجهات ابتداءً من الذرات إلى المجرات.
إذن فالنظامُ الرصين في الكون، والانتظام الرائع في المخلوقات كافة، والموازنة الدقيقة بين الموجودات.. يظهر لنا التجليَ الأعظم لاسم الفرد ويشهد شهادةً واضحة على الوحدانية.
ثم إن أي مخلوق مهما كان صغيراً، إنما هو مثالٌ مصغر للكون كله ونموذجُه، وفهرسُه المختصر، بمقتضى تجلي الأحدية. فلا يكون مالكاً لذلك المخلوق الحي الصغير إلّا مَن كان بيده زمام الكون كله وله الأمر جميعاً. وحيث إن كل بذرة متناهية في الصغر ليست بأقلَّ إبداعاً في الخلق من شجرة ضخمة، وأن كل شجرة باسقة تضاهي في خلقها خلقَ الكائنات، وكل كائن حي صغير إنما هو بحكم عالَمٍ مصغّر وكونٍ صغير، فإن تجلي الأحدية هذا يجعل الشرك والاشتراك محالاً ممتنعاً.
ثم إن هذا الكون في ضوء هذا السر -سر الأحدية- ليس كلاً يستعصي على التجزئة وحدها، بل أيضاً هو كلّيٌّ من حيث الماهية، لا يقبل الانقسام والاشتراك والتجزئة وتدخّل الأيدي المتعددة قط. فإن كل جزء فيه بحكم جزئيٍّ وفردٍ منه، وكلُّ الكون هو بحكم الكلّي، فليس فيه موضع للاشتراك في أية جهة كانت.
فهذا التجلي الأعظم لاسم الفرد يثبت حقيقة التوحيد بهذا السر للأحدية، بدرجة البداهة.
نعم، كما أنَّ اندماجَ أنواعِ الكائنات واندغامَها فيما بينها، وتوجّهَ وظيفة كلٍّ منها إلى عموم الكائنات مثلما يجعل الكونَ كلاًّ واحداً يستعصي على التجزئة قطعاً، من حيث الخلق والربوبية. كذلك الأفعال العمومية المحيطة بالكائنات والتي تظهر أثارُها وفعالياتُها في الكائنات عموماً تجعل الكونَ أيضاً كلاًّ واحداً -من حيث تداخلها ببعضها- حتى يرفض التجزئةَ ويردّها ردّاً قوياً. ولتوضيح ذلك نسوق المثال الآتي:
حالما تُوهب الحياةُ للكائن يظهر فعلُ الإعاشة والإرزاق فيه مباشرة. وضمن أفعال الإعاشة والإحياء هذه، يشاهَد مباشرةً فعلُ تنظيمِ جسدِ ذلك الكائن وتنسيق أعضائه، وتجهيزه بما يحتاج ويلزم. وحينما تظهر أفعالُ الإعاشةِ والإحياء والتنظيم والتجهيز يفعل التصويرُ والتربية والتدبير فعلَه في الوقت نفسه.. وهكذا.
فتداخلُ أمثال هذه الأفعال المحيطة العامة بعضِها بالبعض الآخر، وإتحادُها ببعضها، وامتزاجُها كامتزاج الألوان السبعة في الطيف الشمسي، ثم إحاطةُ كل فعل من تلك الأفعال وشمولُه -مع وحدته من حيث الماهية- للموجودات كلها في وحدة واحدة، وكونُ كل فعلٍ منها فعلاً وحدانياً.. يدل دلالة واضحة على أن فاعلَه واحدٌ أحد فرد..
وكما أن استيلاءَ كل فعل -من تلك الأفعال- وهيمنتَه على الكائنات قاطبة، واتحادَه مع سائر الأفعال في تعاون وثيق، يجعل الكون كلاًّ غير قابل للتجزئة.. كذلك فإن كل مخلوق حي من حيث كونه بمثابة بذرةِ الكون وفهرسِه ونموذجِه يجعل الكون كلياً غير قابل للانقسام والتجزئة -من حيث الربوبية- بل يجعل انقسامه محالاً وخارجاً عن الإمكان،
أي أن الكون بهذا هو كلٌّ لا يتجزأ، فلا يكون إذن ربُّ الجزء إلّا من كان ربًّا للكل. وهو كليٌّ أيضاً بحيث يكون كلُّ جزء منه بحكم فرد، فلا يكون ربًّا للفرد الواحد إلّا من كان زمام ذلك الكلي بيده.
الإشارة السادسة:
كما أن انفراد الله سبحانه وتعالى بالربوبية، وتوحيدَه بالألوهية هو أساس جميع الكمالات ([4]) ومنشأ المقاصد السامية، ومنبع الحِكَم المودَعة في خلق الكون، كذلك هو الغايةُ القصوى، والبلسمُ الشافي، لتطمين رغبات كل ذي شعور وذي عقل ولاسيما الإنسان، فلولا «الفردية» لانطفأت شعلةُ رغباته ومطالبه كلِّها وانمحت جميعُ الحِكَم المودَعة في خلق الكون، وتلاشت أكثرُ الكمالات الموجودة والثابتة وانعدمت.
فمثلا: إنَّ رغبة حبِّ البقاء بل عشقه، عميقةٌ في الإنسان.. هذه الرغبة العريقة لا يحققها ولا يسكّنها ويُطمئنُها إلاّ مَن هو مالك لمقاليد الكون، الذي يفتح باب البقاء السرمدي أمام الإنسان بالآخرة، بعد أن يُنهي هذه الدنيا الفانية ويغلق أبوابَها كسهولة غلق غرفة وفتح أخرى.
وهناك رغبات أخرى كثيرة جداً للإنسان أمثال هذه الرغبة، كلُّها ممتدة إلى غير نهاية معلومة ومتشعبة في ثنايا الكائنات جميعاً.. فهذه الرغبات جميعُها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بحقيقة التوحيد، ومشدودة مع سر «الفردية». فلولا ذلك السرّ لبقيت هذه الرغبات عقيمةً دون نتائج، قاصرةً عن بلوغ مداها، مبتورة منكمشة. ولولا تصرف الواحد الأحد في الكون كله لما اطمأنّت ولا حصلت تلك الرغبات، ولو حصلت حصلت مبتورة.
فالإيمان بالوحدانية، وبقدرة «الفرد الواحد الأحد» المطلقة إذن هو وحدَه الكفيل بإحلال الطمأنينة والسكون في تلك الرغبات المتأججة لدى الإنسان.
من أجل هذا السر العظيم نرى القرآن الكريم يذكر التوحيد والوحدانية بكل حرارة وشوق، ويكررها بكل حلاوة وذوق، وأن الأنبياء -عليهم السلام- والأصفياء والعلماء والأولياء الصالحين يجدون بغيتهم وذوقهم السامي، بل منتهى سعادتهم في أفضل ما قالوه: «لا إله إلّا هو».
الإشارة السابعة:
إنَّ هذا التوحيد الحقيقي، بجميع مراتبه، وبأتمّ صورته الكاملة، قد أثبته وأعلنه وفهّمه وبلّغه محمدﷺ، فلابد أن رسالته ثابتةٌ وقاطعة كقطعية ثبوت التوحيد نفسه؛ لأنه: لما كان التوحيدُ هو أعظم حقيقة في عالم الوجود، وأن الرسول الأعظم ﷺ هو الذي تولى تبليغَه وتعليمه بجميع حقائقه، فلابد أن جميع البراهين التي تثبت التوحيد، تكون بدورها براهينَ لإثبات رسالته وأدلةً على صدق نبوته وأحقّية دعوته ﷺ، فرسالةٌ كهذه الرسالة العظمى التي تضم أُلوفاً من أمثال هذه الحقائق السامية وتكشف عن حقيقة التوحيد وترشد إليه وتلقنه، لا شك أنها رسالة يقتضيها ذلك التوحيد وتلك الفردية.
فمَن ذا غيرُ محمد ﷺ الذي أدّى الأمانة على أفضل وجه وبلّغ الرسالة على أجمل صورة؟.
سنذكر ثلاثة نماذج، مثالاً لتلك الأدلة الكثيرة والأسباب العديدة التي تشهد بعظمة الشخصية المعنوية لهذا النبي الكريم ﷺ وتدل على علوّ منـزلته الرفيعة، وتبيّن أنه السراج المنير لهذه الكائنات وشمسها الساطعة.
الدليل الأول: إنَّ ثواب جميع الحسنات التي ينالها جميعُ أفراد الأمة، وعلى مدى جميع العصور، مكتوبٌ مثلُه في صحيفة حسناته ﷺ، إذ هو السبب في نيل كل ثواب تناله أمتُه إلى يوم القيامة، حيث «السبب كالفاعل».. تأمل في هذا ثم فكّر في المقام المعظم اللائق الذي يقتضيه مجموعُ الأدعية غير المحدودة من الصلوات المقبولة المرفوعة يومياً من الأمة كافة.. تدرك عندئذٍ، درجته العالية الرفيعة وتفهم أن شخصيته المعنوية شمسُ الكائنات والسراج المنير للخلق أجمعين.
الدليل الثاني: إنَّ بذرة الشجرة الوارفة للإسلام، ومنشأها، وحياتَها، ومنبعها إنما هي حقيقة الماهية المحمدية، بما تملك من فطرة سامية، وخلقة كاملة. فتذكّر هذا ثم فكّر في الرقي الروحي لهذا الرسول الحبيب ﷺ النابع من استشعاره الكامل الأتم لجميع معاني عبادته، وأذكاره، وكلماته الشريفة ومراتبها، والذي يمثل بمجموعه روحَ الإسلام وحقيقتَه. لتعلم مدى علو مرتبة ولاية عبوديته ﷺ إلى الدرجة الرفيعة، درجة الحبيبية. وافهم مبلغَ سموّها.
ولقد فتح الله عليّ يوماً في سجدةٍ في صلاةٍ، بعض المعاني والأنوار المشعة من كلمة (سبحان ربي الأعلى) بما يقرب من فهم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين من هذه الكلمة المقدسة. فتبين لي يقيناً أنها خيرٌ من عبادة شهر، فأدركتُ بها المنـزلة العظيمة والدرجة العالية التي يحظى بها الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
نعم، إنَّ الأنوار التي تشعها الكلماتُ المقدسة، وفيوضاتُها في بدء الإسلام لها مزايا خاصة، وذلك لجدّتها، ولها من اللطافة والطراوة واللذة ما تتناقص بمرور الزمن وتتستر تحت ستار الغفلة.
والآن، وفي ضوء ما سبق تأمل مكانة الرسول الكريم ﷺ الذي تناول الكلام المقدس، ورَشَفَه من المنبع الأقدس، واستوعب أنواره بالوحي الإلهي بكامل جدّتِه وطراوته ولطافته. مع ما فُطر عليه من استعداد كامل.. فالأنوار والفيوضات الكامنة في تسبيحةٍ واحدة منه ﷺ هي خيرٌ وأعمّ من جميع الأنوار التي تملأ أرجاء عبادة سنة كاملة عند غيره.!.
قِس على هذا المنوال، كي تعلم كم بلغ رسولُنا الحبيب ﷺ من درجات الكمال التي لا حد لها ولا نهاية.
الدليل الثالث: إنَّ الإنسان يمثل أعظم مقصد من المقاصد الإلهية في الكون، وهو المؤهَّل لإدراك الخطاب الرباني. وقد اختاره سبحانه من بين مخلوقاته، واصطفى من بين الإنسان المكرّم مَن هو أكملُ وأفضل وأعظم إنسان بأعماله وآثاره الكاملة، ليكون موضعَ خطابه الجليل باسم النوع الإنساني كافة، بل باسم الكائنات جميعاً. فلا ريب أن الله سبحانه الفرد الجليل الذي هيأ رسوله الحبيب ﷺ لهذه المرتبة اللائقة به قد منحه من الأنوار والكمالات ما لا يحد بحدود.
وهكذا وبمثل هذه الدلائل الثلاثة ودلائل أخرى كثيرة يَثبت لدينا يقيناً: إن الشخصية المعنوية للرسول الكريم ﷺ، شمس معنوية ساطعة للكائنات. وسراج منير لامع لها، كما أنها الآية العظمى من قرآن الكون، والاسم الأعظم للفرقان الأعظم، ومرآة صافية للتجلي الأعظم لأنوار اسم «الفرد» عزّ وجل.
فاللّهم يا أحدُ، يا فردُ، يا صمدُ، أنزِل من بركات خزينة رحمتك التي لا تنفد صلواتٍ وسلاماً على تلك الذات النبوية الشريفة، بعدد ذرات الكون مضروباً بعدد عاشرات جميع أزمنة الكون.
﴿ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَٓا اِلَّا مَا عَلَّمْتَنَاۜ اِنَّكَ اَنْتَ الْعَل۪يمُ الْحَك۪يمُ ﴾
== النكتة الخامسة ==
اسم الله الأعظم
الحي
بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ
﴿ فَانْظُرْ اِلٰٓى اٰثَارِ رَحْمَتِ اللّٰهِ كَيْفَ يُحْيِ الْاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَاۜ اِنَّ ذٰلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتٰىۚ وَهُوَ عَلٰى كُلِّ شَيْءٍ قَد۪يرٌ ﴾ (الروم: ٥٠)
﴿ اَللّٰهُ لَٓا اِلٰهَ اِلَّا هُوَ اَلْحَيُّ الْقَيُّومُۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾ (البقرة: ٢٥٥)
لقد تراءت في أفق عقلي نكتةٌ من النكات الدقيقة للآيتين المذكورتين، وتجلٍ من تجليات نور الاسم الأعظم «الحي» أو أحد نورَيه، أو أحد أنواره الستة، وذلك في شهر شوال عندما كنت في سجن أسكي شهر. فلم أتمكن من أن أثبّتها في حينه، ولم استطع أن أقتنص ذلك الطائر السامي، ولكن بعدما تباعد ذلك القَبسُ الوضيئ اضطررت إلى الإشارة إليه بوضع رموزٍ ترمز إلى أشعةِ تلك الحقيقة الكبرى، وذلك النور الأعظم.
وسأشير إليها هنا باختصار:
الرمز الأول:
ما الحياة التي هي تجلٍ أعظم لاسم الله الحي المحيي؟ وما ماهيتها؟ وما مهمتها؟
جواب هذا السؤال نُدرجه على صورة فهرس، على النحو الآتي:
الحياة هي لهذه الكائنات:
أهم غاية..
وأعظمُ نتيجة..
وأسطع نور..
وألطفُ خميرة..
وأصفى خلاصة..
وأكملُ ثمرة..
وأسمى كمال..
وأزهى جمال..
وأبهى زينة..
وهي سرُّ وحدتها..
ورابطةُ اتحادها..
ومنشأ كمالاتها..
وهي أبدعُ ذاتِ روحٍ فيها، من حيث الإتقان والماهية..
وهي حقيقتُها المعجزة؛ تُصيِّر أصغرَ مخلوقٍ عالَماً بحدّ ذاته..
وهي أروعُ معجزات القدرة الإلهية؛ بجعلها الكائن الحي بمثابة كونٍ مصغر، فكأنها -أي الحياة- وسيلةٌ لانطواء الكائنات في ذلك الكائن الحي الصغير؛ بما تُظهر فيه ما يشبه فهرسَ الكون العظيم، كما تجعله في رباطٍ وثيق مع معظم الموجودات..
وهي صنعةٌ إلهية خارقة؛ تكبِّر الجزءَ الضئيل إلى أكبر كلٍّ، حتى إنها تجعل الفردَ بحكم العالَم وكأنه كلّي. وتَعرض الكونَ -من حيث الربوبية- في حكم الكلّ والكلّي الذي لا يقبل التجزئة والاشتراك والانقسام..
وهي أسطعُ برهانٍ ضمن ماهيات الكائنات، وأثبتُه وأكملُه، يشهد على وجوب وجوده سبحانه، وعلى أنه «الحي القيوم» ويدل على وحدته وأحديته جل وعلا..
وهي أبلغُ صورة لصنعة ربانية حكيمة -ضمن المصنوعات الإلهية- وأخفاها وأظهرُها وأثمنُها وأزهدها وأنزهُها وألمعها..
وهي ألطفُ تجلٍ للرحمة الإلهية وأرقُّها وأدقها؛ تجعل الموجودات خادمة لها..
وهي أجمعُ مرآةٍ تعكس الشؤون الإلهية للأنظار..
وهي أعجوبةُ الخلقة الربانية؛ إذ تجمع تجليات اسم «الرحمن، الرزاق، الرحيم، الكريم، الحكيم وأمثالِها من الأسماء الحسنى» وتجعل الحقائق الكثيرة والمشاهَدة كالرزق والحكمة والعناية والرحمة تابعةً لها، فتقودها، مثلما هي منشأ جميع المشاعر ومعدن الحواس العامة كالبصر والسمع والشعور..
وهي ماكنةُ تنظيفٍ عظيمة، وجهازُ استحالةٍ عجيبة في مصنع الكائنات حيث تقوم بالتصفية والتطهير في كل نواحيه؛ فتطهِّر الشيء وتمنحُه الرقيَ وتنوّره، وكأن الجسدَ الذي هو عشّ الحياة - دارُ ضيافةٍ لقوافل الذرات ومدرستُها ومعسكرُها؛ تتعلم فيه وظائفَها، وتتدرب على أعمالها، فتتنور وتضيء ..
وهي وسيلة ينوّر بها «الحيُّ المحيي» سبحانه عالَم الدنيا المظلم الفاني السافل ويمنحه نوعاً من البقاء، ويجعله بماكنة الحياة لطيفاً مهيئاً للمضي إلى العالم الباقي ..
ثم إن وجهَي الحياة، أي المُلك والملكوت، صافيان طاهران لا نقص فيهما، ساميان، وهي مخلوق خاص متميز عن كل خلق آخر لم توضَع لها الأسبابُ الظاهرة حُجباً لتصرفات القدرة الإلهية -كما هي في سائر الأشياء- وذلك ليكون أمرُ صدورها من يد القدرة الربانية مباشرة دون حُجب أو وسائط..
وحقيقة الحياة نورانية تتطلع إلى الأركان الإيمانية الستة وتثبتها معنىً ورمزاً، أي إنها تثبت وجودَ واجب الوجود سبحانه وحياته السرمدية.. والدارَ الآخرة وحياتها الدائمة.. ووجودَ الملائكة.. وتتوجه توجهاً كاملاً إلى إثبات سائر الأركان الإيمانية وتقتضيها..
وهي أصفى خلاصة مترشحة من الكائنات كلِّها كما أنها أعظم سِرّ يولّد الشكر والعبادة والحمد والمحبة التي هي أهم المقاصد الإلهية في الكون وأهم نتيجة لخلق العالم هذا.
تأمل هذه الخصائص المهمة القيّمة للحياة والبالغة تسعاً وعشرين خاصية، ودقق النظر في مهماتها السامية الشاملة، ثم انظر من وراء اسم «المحيي» إلى عظمة اسم «الحي» وأدرك كيف أن اسم «الحي» هو اسم الله الأعظم من حيث هذه الخصائص العظيمة للحياة، ومن حيث ثمارها ونتائجها،
وافهم أيضاً أن للحياة غايةً كبرى كبرَ الكون ونتيجةً عظمى بعظمته ما دامت هي أعظم نتيجة لهذه الكائنات وأعظم غاية وأثمن ثمرة؟ لأن الثمرة مثلما هي نتيجة الشجرة، فنتيجة الثمرة شجرة قادمة بوساطة بذرتها.
نعم، إن غاية هذه الحياة ونتيجتَها هي الحياة الأبدية، كما أن ثمرة من ثمارها هي الشكر والعبادة والحمد والمحبة تجاه واهب الحياة «الحي المحيي» وإن هذا الشكر والمحبة والحمد والعبادة هي ثمرة الحياة كما أنها غاية الكائنات.
فاعلم من هذا: أن الذين يحصرون غاية هذه الحياة في: «عيشٍ برفاه، وتمتّع بغفلة، وتنعّم بهوى» إنما يستخفّون -بجهل مستهجَن قبيح- بهذه النعمة الغالية الكبرى، نعمة الحياة، وهدية الشعور، وإحسان العقل، ويحقرونها وينكرونها بل يكفرون بها فيرتكبون كفراناً عظيماً وإثماً مبيناً.
الرمز الثاني:
الحياة التي هي أعظمُ تجلٍّ لاسم الله «الحي» وألطفُ تجلٍ لاسم الله «المحيي» يحتاج في بيان مراتبها وصفاتها ووظائفها -المذكور فهرستُها في الرمز الأول- إلى كتابة رسائل عدة بعدد تلك المزايا والخصائص. لذا سنشير إشارة مختصرة إلى بضعٍ منها محيلين تفاصيلها إلى أجزاء «رسائل النور»، حيث بَيّنت قسماً من تلك الخصائص والمراتب والمهمات.
فلقد ذكر في الخاصية الثالثة والعشرين من الخصائص التسعة والعشرين للحياة: أن وجْهَي الحياة صافيان، شفافان، رائقان. فلم تضع القدرةُ الربانية أسباباً ظاهرية لتصرفاتها فيها. وسرّ هذه الخاصية هو ما يأتي:
«إنَّ كل شيء في الكون ينطوي على خير، وفيه جمالٌ وحُسن، أما الشر والقبح فهما جزئيان جداً، وهما بحُكم وحدتين قياسيتين، أي إنهما وُجدا لإظهار ما في الخير وما في الجمال من مراتب كثيرة وحقائق عديدة؛ لذا يُعَدُّ الشرُّ خيراً والقبحُ حُسناً من هذه الزاوية. أي من زاوية كونهما وسائل لإبراز المراتب والحقائق. ولكن ما يبدو لذوي الشعور من مظاهر القبح والشر والبلاء والمصائب قد تدفعهم إلى السخط والشكوى والامتعاض. فوُضعَت الأسبابُ الظاهرية ستاراً لتصرف القدرة الإلهية، لئلا تتوجه تلك الشكاوى الظالمة والسخط الباطل إلى «الحي القيوم» جلّ وعلا. زد على ذلك فإن العقل أيضاً بنظره الظاهري القاصر، قد يرى منافاةً بين أمور يراها خسيسةً، خبيثةً، قبيحة، وبين مباشرةِ يد القدرة المنـزّهة المقدسة لها. فوُضِعَت الأسبابُ الظاهرية ستاراً لتصرف القدرة الربانية لتُنَـزِّه عزةَ القدرة الإلهية عن تلك المنافاة الظاهرية».
هذا علماً أن الأسباب نفسهَا لا يمكنها أن توجِد شيئاً بحد ذاتها قط. بل هي موضوعةٌ لصيانة عزة القدرة الإلهية وتنـزيهها، ولتظل هي هدفاً مباشراً للشكاوى الظالمة والاعتراضات الباطلة.
ولقد ذكرنا في مقدمة المقام الثاني من «الكلمة الثانية والعشرين» أن مَلَك الموت «عزرائيل» عليه السلام وجد أن مهمة قبض الأرواح التي أوكلَتْ إليه مهمةٌ بغيضة لبني آدم، وسيكون من جرائها موضعَ سخطهم ومثار امتعاضهم، فناجى ربَّ العزة بشأن مهمته قائلاً:
- يا رب إن عبادَك سيسخطون عليّ!
وجاءه الجواب:
- سأضع ستار الأمراض وحجابَ المصائب بين مهمتك وبينهم، فلا تُصوَّب سهام الشكاوى والاعتراضات إليك، بل إلى الحُجُب.
فحسب مضمون هذه المناجاة نقول:
إن الذين لا يرون الوجه الصبوح الحقيقي للموت -المطل على أهل الإيمان- ولا يدركون ما فيه من رحمةٍ مدّخرة، يبدون اعتراضات وشكاوى، فتبرز أمامَهم مهمةُ عزرائيل عليه السلام حجاباً وستاراً، فلا تتوجه تلك الشكاوى الباطلة والاعتراضات المجحفة إلى الذات المقدسة للحي القيوم. ومثلما أن مهمة عزرائيل عليه السلام ستارٌ، فإن الأسباب الظاهرية الأخرى هي أيضاً حُجُب وأستار.
نعم، إنَّ العزة والعظمة تقتضيان أن تكون الأسبابُ حُجُباً بين يدي القدرة الإلهية أمام نظر العقل، إلّا أن الجلال والوحدانية يقتضيان أن تسحب الأسبابُ أيديها وترفعها عن التأثير الحقيقي.
أما وجها الحياة الظاهر والباطن، المُلك والملكوت، فهما صافيان كاملان مبرّءان من النقص والتقصير، فمثلما لا يوجد فيهما ما يستدعي الشكوى أو الاعتراض، فليس فيهما كذلك ما ينافي عزة القدرة ونزاهتها من دَنَس مستهجَن أو قبح ظاهر؛ لذا فقد سُلِّم وجهاها مباشرةً إلى اسم «المحيي» لذات الله «الحي القيوم» من دون إسدال أستار الأسباب وحُجُبها.
ومِثل الحياة؛ النورُ، وكذلك الوجودُ والإيجاد.. وعليه نرى أن الإيجاد والخَلق يتوجهان مباشرةً من دون حُجُب وأستار إلى قدرة الخالق سبحانه، بل حتى المطر -وهو نوع من الحياة ورحمة مهداة منه سبحانه- فلا يحكُمه قانون مطّرد يحدد وقتَ نزوله؛ وذلك لئلا تُحرَم أكفُّ الضراعة أمام باب الرحمة من الرجاء والاسترحام وقت الحاجة؛ إذ لو كان المطر ينـزل حسب قانون مطّرد -بمثل شروق الشمس وغروبها- لَمَا كان الخلقُ يتوسلون ويستغيثون كل حين استنـزالاً لنعمة الحياة تلك.
الرمز الثالث:
لقد ذكر في الخاصية التاسعة والعشرين أن: الحياة هي نتيجة الكائنات مثلما أن نتيجة الحياة هي: الشكر والعبادة، فهما سببُ خلق الكائنات وعلةُ غايتها، ونتيجتُها المقصودة.
نعم، إن خالق الكون سبحانه «الحي القيوم» إذ يعرِّف نفسَه لذوي الحياة ويحبّبها إليهم بنِعَمه التي لا تعد ولا تحصى، يطلب منهم شكرَهم تجاه تلك النعم، ومحبَّتهم إزاء تلك المحبة، وثناءهم واستحسانهم مقابل بدائع صُنعه، وطاعتَهم وعبوديتَهم تجاه أوامره الربانية.
فيكون الشكر والعبادة -حسب سرّ الربوبية هذا- أعظمَ غاية لجميع أنواع الحياة، وبدورها يكون غاية الكون بأسره.. ومن هنا نرى أن القرآن الكريم يحث بحرارة ويسوق برفق وعذوبة إلى الشكر والعبادة؛ فيكرر كثيراً ويبيّن ويوضح أن العبادة خاصّة لله وحده، وأن الشكر والحمد لا يليقان حقاً إلّا به سبحانه، وأن ما في الحياة من شؤون وأمور هي في قبضة تصرفه وحده، فينفي بهذا وبصراحة تامة الوسائطَ والأسباب، مسلِّماً الحياة بما فيها إلى يد القدرة للحي القيوم فيقول مثلاً:
﴿ وَهُوَ الَّذ۪ي يُحْي۪ وَيُم۪يتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِۜ اَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ (المؤمنون: ٨٠)
﴿ هُوَ الَّذ۪ي يُحْي۪ وَيُم۪يتُۚ فَاِذَا قَضٰٓى اَمْرًا فَاِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ (غافر: ٦٨)
﴿ فَيُحْي۪ بِهِ الْاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ (الروم: ٢٤)
نعم، إن الذي يدعو إلى الشكر والحمد والامتنان، والذي يثير الشعور إلى المحبة والثناء -بعد نعمة الحياة- إنما هو الرزق والشفاء والغيث، وأمثالُها من دواعي الشكر والحمد.
وهذه الوسائل أيضاً محصورةٌ كلياً بيد الرزاق الشافي سبحانه، فليست الأسباب إلّا أستار وحُجب ووسائط فحسب؛ إذ إن علامة الحصر والتخصيص -حسب قواعد اللغة العربية- «هو الرزاق»، «هو الذي»، واضحة في الآيات الكريمة الآتية:
﴿ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَت۪ينُ ﴾ (الذاريات: ٥٨)
﴿ وَاِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْف۪ينِ ﴾ (الشعراء: ٨٠)
﴿ وَهُوَ الَّذ۪ي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا ﴾ (الشورى: ٢٨)
فهذه الآيات الكريمة وأمثالها تبين: أنَّ الرزق والشفاء والغيث خاصةٌ به سبحانه وتعالى، وتنحصر كلياً بيد قدرة الحي القيوم. فالذي وهب خواصَّ الأدوية والعلاج هو ذلك الشافي الحقيقي سبحانه الذي خلقها وليس غيره.
الرمز الرابع:
لقد بُيّنت في الخاصة الثامنة والعشرين من الحياة:
أنَّ الحياة تثبت أركان الأيمان الستة وتنـظر إليها وتتوجه نحـوها، وتشير إلى تحقيقها.
نعم، فما دامت «الحياة» هي حكمة خلق الكائنات، وأهمُ نتيجتها وخميرتها، فلا تنحصر تلك الحقيقة السامية في هذه الحياة الدنيا الفانية القصيرة الناقصة المؤلمة، بل إنَّ غاية شجرة الحياة ونتيجتَها وثمرتها -والتي فُهِم عظمتُها وماهيتها بالخواص التسع والعشرين- ما هي إلّا الحياة الأبدية والآخرة والحياة الحية بحجرها وترابها وشجرها في دار السعادة الخالدة. وإلّا يلزم أن تظل شجرةُ الحياة المجَهّزة بهذه الأجهزة الغزيرة المتنوعة في ذوي الشعور -ولاسيما الإنسان- دون ثمر ولا فائدة، ولا حقيقة. ولظل الإنسانُ تعساً وشقياً وذليلاً وأحطّ من العصفور بعشرين درجة -بالنسبة لسعادة الحياة- مع أنه أسمى مخلوق، وأكرمُ ذوي الحياة وأرفع من العصفور بعشرين درجة، من حيث الأجهزة ورأس مال الحياة.
بل يصبح العقل الذي هو أثمنُ نعمةٍ بلاءً ومصيبة على الإنسان بتفكره في أحزان الزمان الغابر ومخاوف المستقبل فيعذّب قلبَ الإنسان دائماً معكراً صفو لذةٍ واحدة بتسعة آلام!. ولا شك أن هذا باطل مائة في المائة.
فهذه الحياة الدنيا إذن تثبت ركن الإيمان بالآخرة إثباتاً قاطعاً بما تظهر لنا في كل ربيع أكثرَ من ثلاثمائة ألف نموذج من نماذج الحشر.
فيا ترى هل يمكن لربٍّ قدير، يهيئ ما يلزم حياتَك من الحاجات المتعلقة بها جميعاً ويوفّر لك أجهزتَها كلها سواءً في جسمك أو في حديقتك، أو في بلدك، ويرسله في وقته المناسب بحكمة وعناية ورحمة، حتى إنه يعلم رغبةَ معدتك فيما يكفُل لك العيش والبقاء، ويسمع ما تهتف به من الدعاء الخاص الجزئي للرزق مُبدياً قبولَه لذلك الدعاء بما بثّ من الأطعمة اللذيذة غير المحدودة ليُطمئِن تلك المعدة! فهل يمكن لهذا المتصرف القدير أنْ لا يعرفك؟ ولا يراك؟ ولا يهيئ الأسبابَ الضرورية لأعظم غاية للإنسان وهي الحياة الأبدية؟؟ ولا يستجيبَ لأعظمِ دعاءٍ وأهمِّه وأعمّه، وهو دعاءُ البقاء والخلود؟ ولا يقبلَه بعدم إنشائه الحياة الآخرة وإيجاد الجنة؟ ولا يسمعَ دعاء هذا الإنسان -وهو أسمى مخلوق في الكون بل هو سلطان الأرض ونتيجتُها- ذلك الدعاء العام القوي الصادر من الأعماق، والذي يهزّ العرش والفرش! فهل يمكن أن لا يهتم به اهتمامَه بدعاء المعدة الصغيرة ولا يُرضي هذا الإنسان؟ ويعرّض حكمتَه الكاملة ورحمته المطلقة للإنكار؟؟ كلا.. ثم كلا ألف ألف مرة كلا.
وهل يعقل أن يسمع أخفتَ صوتٍ لأدنى جزءٍ من الحياة فيستمع لشكواه ويسعفه، ويحلم عليه ويربيه بعناية كاملة ورعاية تامة وباهتمام بالغ مسخِّراً له أكبر مخلوقاته في الكون، ثم لا يسمع صوتاً عالياً كهزيم الرعد لأعظم حياة واسماها وألطفها وأدومها؟ وهل يعقل: ألّا يهتم بدعائه المهم جداً -وهو دعاء البقاء- وألّا ينظر إلى تضرعه ورجائه وتوسله؟ ويكون كَمَن يجـهّز -بعنـاية كاملة- جندياً واحداً بالعتاد، ولا يرعى الجيش الجرار الموالي له!! وكمَن يـرى الذرة ولا يرى الشمس! أو كمن يسمع طنين البعوضة ولا يسمع رعود السماء! حاشَ لله مائة ألف مرة حاشَ لله.
وهل يقبل العقل -بوجه من الأوجه- أنَّ القدير الحكيم ذا الرحمة الواسعة وذا المحبة الفائقة وذا الرأفة الشاملة والذي يحب صنعتَه كثيراً، ويحبّب نفسَه بها إلى مخلوقاته وهو أشدّ حباً لمن يحبونه، فهل يعقل أن يُفْني حياة مَن هو أكثرُ حباً له، وهو المحبوب، وأهلٌ للحب، والذي يعبد خالقَه فِطرةً؟ ويُفني كذلك لبَّ الحياة وجوهرها وهو الروح، بالموت الأبدي!! ويسبب جفوةً بينه وبين محبِّه ومحبوبه ويؤلمه أشدَّ الإيلام! فيجعل سر رحمته ونور محبته معرّضاً للإنكار! حاشَ لله ألف مرة حاشَ لله...
فالجمالُ المطلق الذي زيّن بتجلّيه هذا الكون وجمّله، والرحمةُ المطلقة التي أبهجت المخلوقاتِ قاطبةً وزيّنتها، لابد أنهما منزّهتان ومقدستان بلا نهاية ولا حدّ، عن هذه القساوة وعن هذا القبح المطلق والظلم المطلق.
النتيجة: مادامت في الدنيا حياةٌ، فلابد أن الذين يفهمون سر الحياة من البشر، ولا يسيؤون استعمال حياتهم، يكونون أهلاً لحياة باقية، في دار باقية وفي جنة باقية.. آمنا.
ثم، إن تلألؤَ المواد اللماعة على سطح الأرض بانعكاسات ضوء الشمس، وتلمّعَ الفقاعات والحَباب والزَبَد على سطح البحر، ثم انطفاء ذلك التلألؤ والبريق بزوالها ولمعان الفقاعات التي تعقبها -كأنها مرايا لشُمَيساتٍ خيالية- يُظهر لنا بداهة أن تلك اللمعات ما هي إلّا تجلي انعكاس شمسٍ واحدة عالية. وتذكُر بمختلف الألسنة وجود الشمس، وتشير إليها بأصابع من نور...
وكذلك الأمر في تلألؤ ذوي الحياة على سطح الأرض، وفي البحر، بالقدرة الإلهية وبالتجلي الأعظم لاسم «المحيي» للحي القيوم جلّ جلاله، واختفائها وراء ستار الغيب لفسح المجال للذي يخلفها -بعد أن ردّدت يا حي- ما هي إلّا شهاداتٌ وإشارات للحياة السرمدية ولوجوب وجود «الحي القيوم» سبحانه وتعالى.
وكذا، فإن جميعَ الدلائل التي تشهد على العلم الإلهي الذي تُشاهَد آثارُه من تنظيم الموجودات، وجميعَ البراهين التي تثبت القدرة المصرّفة في الكون، وجميعَ الحجج التي تثبت الإرادة والمشيئة المهيمنة على إدارة الكون وتنظيمه، وجميعَ العلامات والمعجزات التي تثبت الرسالات التي هي مدار الكلام الرباني والوحي الإلهي.. وهكذا جميعُ الدلائل التي تشهد وتدلّ على الصفات الإلهية السبع الجليلة، تدل -وتشهد أيضاً- بالاتفاق على حياة «الحي القيوم» سبحانه،
لأنه: لو وُجدت الرؤيةُ في شيء فلابد أن له حياة أيضاً، ولو كان له سمعٌ فذلك علامة الحياة، ولو وجد الكلامُ فهو إشارة على وجود الحياة، ولو كان هناك الاختيار والإرادة فتلك مظاهرُ الحياة، كذلك فإن جميعَ دلائل الصفات الجليلة التي تشاهَد آثارُها ويُعلَم بداهة وجودُها الحقيقي، أمثال القدرة المطلقة، والإرادة الشاملة، والعلم المحيط، تدل على حياة «الحي القيوم» ووجوب وجوده، وتشهد على حياته السرمدية التي نوّرَتْ -بشعاعٍ منها- جميعَ الكون وأحيَت -بتجلٍ منها- الدار الآخرة كلها بذراتها معاً.
والحياة كذلك تنظر إلى الركن الإيماني «الإيمان بالملائكة» وتدل عليه وتثبته رمزاً. لأن: الحياة ما دامت هي أهمُّ نتيجةٍ للكون، وأن ذوي الحياة -لنفاستهم- هم أكثر انتشاراً وتكاثراً، وهم الذين يتتابعون إلى دار ضيافة الأرض قافلةً إثر قافلة، فتعمَّر بهم وتبتهج.. وما دامت الكرة الأرضية هي محط هذا السيل من أنواع ذوي الحياة، فتُملأ وتُخلى بحكمة التجديد والتكاثر باستمرار، ويُخلق في أخس الأشياء والعفونات ذوو حياةٍ بغزارة، حتى أصبحت الكرة الأرضية معرضاً عاماً للأحياء.. وما دام يُخلق بكثرة هائلة على الأرض أصفى خلاصة لترشح الحياة وهو الشعور والعقل والروح اللطيفة ذات الجوهر الثابت، فكأن الأرض تحيا وتتجمل بالحياة والعقل والشعور والأرواح.. فلا يمكن أن تكون الأجرام السماوية التي هي أكثر لطافةً وأكثر نوراً وأعظمُ أهميةً من الأرض جامدةً ودون حياة وبلا شعور.
إذن فالذين سيعمِّرون السماوات ويبهجون الشموس والنجوم، ويهبون لها الحيوية، ويمثلون نتيجة خلق السماوات وثمرتها، والذين سيتشرفون بالخطابات السبحانية، هم ذوو شعورٍ وذوو حياة من سكان السماوات وأهاليها المتلائمين معها حيث يوجدون هناك بسرّ الحياة.. وهم الملائكة.
وكذلك ينظر سرُّ ماهية الحياة ويتوجه إلى «الإيمان بالرسل» ويثبته رمزاً.
نعم، فما دام الكون قد خُلق لأجل الحياة وأن الحياة هي أعظمُ تجلٍ وأكمل نقش وأجمل صنعة للحي القيوم جلّ جلاله، وما دامت حياتُه السرمدية الخالدة تظهر وتكشف عن نفسها بإرسال الرسل وإنزال الكتب. إذ لو لم يكن هناك رسل ولا كتب لما عُرفت تلك الحياة الأزلية، فكما أن تكلّم الفرد يبين حيويته وحياته كذلك الأنبياء والرسل عليهم السلام والكتب المنـزَلة عليهم، يبيّنون ويدلّون على ذلك المتكلم «الحي» الذي يأمر وينهى بكلماته وخطـاباته من وراء الغيب المحجوب وراء ستار الكون. فلابد أن الحياة التي في الكون كما أنها تدل -بصورة قاطعة- على «الحي» الأزلي سبحانه وتعالى وعلى وجوب وجوده، تدل كذلك على شعاعات تلك الحياة الأزلية وتجلياتها وارتباطاتها وعلاقاتها بأركان الإيمان مثل «إرسال الرسل» و «إنزال الكتب» وتثبتهما رمزاً، ولاسيما الرسالة المحمدية و الوحي القرآني. إذ يصح القول، أنهما ثابتان قاطعان كقطعية ثبوت تلك الحياة، حيث إنهما بمثابة روح الحياة وعقلها.
نعم، كما أن الحياة هي خلاصة مترشحة من هذا الكون، والشعور والحس مترشحان من الحياة، فهما خلاصتها، والعقل مترشح من الشعور والحس، فهو خلاصة الشعور، والروح هي الجوهر الخالص الصافي للحياة، فهي ذاتُها الثابتة المستقلة.. كذلك الحياة المحمدية -المادية والمعنوية- مترشحةٌ من الحياة ومن روح الكون فهي خلاصة زبدتها، والرسالة المحمدية كذلك مترشحة من حسّ الكون وشعورِه وعقله، فهي أصفى خلاصته، بل إن حياة محمد ﷺ -المادية والمعنوية- بشهادة آثارها حياةٌ لحياة الكون، والرسالة المحمدية شعور لشعور الكون ونور له. والوحي القرآني -بشهادة حقائقه الحيوية- روح لحياة الكون وعقل لشعوره..
أجل.. أجل.. أجل.
فإذا ما فارق نورُ الرسالة المحمدية الكونَ وغادره مات الكون وتوفيت الكائنات، وإذا ما غاب القرآن وفارق الكون، جَنّ جنونه وفَقَدت الكرة الأرضية صوابَها، وزال عقلُها، وظلت دون شعور، واصطدمت بإحدى سيارات الفضاء، وقامت القيامة.
والحياة -كذلك- تنظر إلى الركن الإيماني «القدر» وتدل عليه وتثبتُه رمزاً، إذ ما دامت الحياةُ ضياءً لعالم الشهادة وقد استولت عليه وأحاطت به، وهي نتيجةُ الوجود وغايته، وأوسعُ مرآةٍ لتجليات خالق الكون، وأتمُّ فهرسٍ ونموذج للفعالية الربانية حتى كأنها بمثابة نوعٍ من خطتها ومنهجها -إذا جاز التشبيه- فلابد أن سر الحياة يقتضي أن يكون عالم الغيب أيضاً -وهو بمعنى الماضي والمستقبل- أي المخلوقات الماضية والقابلة، في حياة معنوية، أي في نظام وانتظام، وأن يكون معلوماً ومشهوداً ومتعيّناً ومتهيأً لامتثال الأوامر التكوينية.
مَثَلُها كمثل تلك البذرة الأصلية للشجرة وأصولها، والنوى والأثمار التي في منتهاها، التي تتميز بمزايا نوعٍ من الحياة كالشجرة نفسها، بل قد تحمل تلك البذور قوانينَ حياتية أدق من قوانين حياة الشجرة.
وكما أن البذور والأصول التي خلفها الخريفُ الماضي، وما سيخلفه هذا الربيع -بعد إدباره- من البذور والأصول، تحمل نور الحياة، وتسير وفق قوانين حياتية، مثل ما يحمله هذا الربيع من الحياة، فكذلك شجرة الكائنات،
وكلُّ غصن منها وكلُّ فرعٍ، له ماضيه ومستقبله، وله سلسلة مؤلفة من الأطوار والأوضاع، القابلة والماضية، ولكل نوعٍ ولكلّ جزء منه وجودٌ متعدد بأطوار مختلفة في العلم الإلهي، مشكّلاً بذلك سلسلة وجود علمي. والوجود العلمي هذا، الشبيه بالوجود الخارجي هو مظهرٌ لتجلٍ معنوي للحياة العامة، حيث تُؤخذُ المقدَّرات الحياتية من تلك الألواح القَدَرية الحية ذات المغزى العظيم.
نعم، إن امتلاء عالم الأرواح -الذي هو نوع من عالم الغيب- بالأرواح التي هي عينُ الحياة، ومادتها، وجوهرها، وذواتها، يستلزم أن يكون الماضي والمستقبل -اللذان هما نوع من عالم الغيب وقسم ثان منه- متجلية فيهما الحياة. وكذا فإن الانتظام التام والتناسق الكامل في الوجود العلمي الإلهي لأوضاع ذات معانٍ لطيفة لشيء ما ونتائجَه وأطوارَه الحيوية ليبين أن له أهلية لنوع من الحياة المعنوية.
نعم، إن مثل هذا التجلي -تجلي الحياة- الذي هو ضياء شمس الحياة الأزلية لن ينحصر في عالم الشهادة هذا فقط، ولا في هذا الزمان الحاضر، وفي هذا الوجود الخارجي، بل لابد أن لكلِّ عالَمٍ من العوالم مظهراً من مظاهر تجلّي ذلك الضياء حسب قابليته.
فالكونُ إذن -بجميع عوالمه- حيٌ ومشعٌ مضيئ بذلك التجلي وإلّا لأصبح كلٌّ من العوالم -كما تراه عينُ الضلالة- جنازةً هائلة مخيفة تحت هذه الحياة الموقتة الظاهرة، وعالَماً خرباً مظلماً.
وهكذا يُفهم وجهٌ واسع من أوجه الإيمان بالقضاء والقدر من سر الحياة ويثبت به ويتضح. أي كما تَظهر حيويةُ عالمٍ الشهادة والموجودات الحاضرة بانتظامها وبنتائجها، كذلك المخلوقات الماضية والآتية التي تعدّ من عالم الغيب لها وجودٌ معنوي، ذو حياة معنىً، ولها ثبوتٌ علمي ذو روح، بحيث يظهر -باسم المقدرات- أثر تلك الحياة المعنوية بوساطة لوح القضاء والقدر.
الرمز الخامس:
لقد ذُكر في الخاصية السادسة عشرة من خصائص الحياة أنه ما إن تنفذ الحياةُ في شيء حتى تصيّره عالَماً بحدّ ذاته؛ إذ تمنحه من الجامعية ما يجعله كلاًّ إن كان جزءاً، وما يجعله كلياً إنْ كان جزئياً؛ فالحياة لها من الجامعية بحيث تعرض في نفسها أغلبَ الأسماء الحسنى المتجلية على الكائنات كلها، وكأنها مرآة جامعة تعكس تجليات الأحدية. فحالما تدخل الحياةُ في جسم تعمل على تحويله إلى عالم مصغّر، لكأنها تحيله بمثابة بذرة حاملة لفهرس شجرة الكائنات، وكما لا يمكن أن تكون البذرةُ إلّا أثر قدرةِ خالقِ شجرتها، كذلك الذي خلق أصغرَ كائن حي لابد أنه هو خالق الكون كله.
فهذه الحياة بجامعيتها هذه تُظهر في نفسها أخفى أسرار الأحدية وأدقّها. أي كما أن الشمس العظيمة توجد بضيائها وألوانها السبعة وانعكاساتها في ما يقابلها من قطرة ماء أو قطعة زجاج، كذلك الأمر في كل ذي حياة الذي تتجلى فيه جميعُ تجليات الأسماء الحسنى وأنوارُ الصفات الإلهية المحيطة بالكون. فالحياة -من هذه الزاوية- تجعل الكون من حيث الربوبية والإيجاد بحكم الكلّ الذي لا يقبل الانقسام والتجزئة، وتجعله بحكم الكلّي الذي تمتنع عليه التجزئة والاشتراك.
نعم، إن الختم الذي وَضَعه الخالقُ سبحانه على وجهك يدل بالبداهة على أن الذي خلقك هو خالقُ بني جنسك كلهم؛ ذلك لأن الماهية الإنسانية واحدة، فانقسامها غير ممكن. وكذلك الأمر في أجزاء الكائنات! إذ تتحول بوساطة الحياة كأنها أفراد الكائنات، والكائنات كأنها نوع لتلك الأفراد.
فكما تُظهر الحياةُ ختمَ الأحدية على مجموع الكون فإنها تردّ الشرك والاشتراك وترفضه رفضاً باتاً بإظهارها ختم الأحدية نفسِه وختم الصمدية على كل جزء من أجزاء الكون.
ثم إن في الحياة من خوارق الصنعة الربانية ومعجزات الإبداع الباهر بحيث إنه مَن لم يكن قادراً على خلق الكون يعجز كلياً عن خلق أصغر كائن حي فيه.
نعم، إن القلم الذي كتب فهرس شجرة الصنوبر الضخمة ومقدّراتها في بذرتها الصغيرة -ككتابة القرآن مثلاً على حبة حمص- هو ذلك القلم نفسُه الذي رصّع صفحات السماء بلآلئ النجوم. وأن الذي أدرج في رأس النحل الصغير استعداداً يمكّنها من معرفة أزهار حدائق العالم كله، وتقدِر على الارتباط مع أغلبها بوشائج، ويجعلها قادرة على تقديم ألذّ هدية من هدايا الرحمة الإلهية -وهي العسل- ويدفعها إلى معرفة شرائط حياتها منذ أول قدومها إلى الحياة لا شك أنه هو خالق الكون كله وهو الذي أودع هذا الاستعداد الواسع والقابلية العظيمة والأجهزة الدقيقة فيها .
الخلاصة: إنَّ الحياة آيةُ توحيد ساطعة تسطع على وجه الكائنات، وأن كل ذي روح -من جهة حياته- آية للأحدية، وإن الصنعة المتقنة الموجودة على كل فرد من الأحياء ختمٌ للصمدية، وبهذا فجميعُ ذوي الحياة يصدّقون ببصمات حياتهم رسالةَ الكون هذه ويعلنون أنها من «الحي القيوم الواحد الأحد».. فكل منها ختمٌ للوحدانية في تلك الرسالة فضلاً عن أنها ختمٌ للأحدية وعلامة الصمدية. فكما أن الأمر هكذا في الحياة، فكل كائن حي أيضاً ختم للوحدانية في كتاب الكون؛ كما قد وُضع على وجهه وسيماه ختمَ الأحدية.
نعم، إن الحياة بعدد جزئياتها وبعدد أفرادها الحية أختامٌ وبصماتٌ حية تشهد على وحدانية «الحي القيوم» مثلما أن فعل البعث -الإحياء- أيضاً يختم بأختام التصديق على التوحيد بعدد الأفراد من الأحياء. فإحياءُ الأرض الذي هو مثال واحد على البعث هو شاهدُ صدقٍ ساطع على التوحيد كالشمس، لأن بعث الأرض في الربيع وإحياءها يعني بعث أفراد لا تعد ولا تحصى لأنواع الأحياء التي تربو على ثلاثمائة ألف نوع، فتُبعث جميعاً معاً من دون نقص ولا قصور بعثاً متداخلاً متكاملاً منتظماً. فالذي يفعل بهذا الفعل أفعالاً منتظمة لا حدود لها فإنه هو خالق المخلوقات جميعها، وأنه «الحي القيوم» الذي يحيي ذوي الحياة قاطبة، وأنه الواحد الأحد الذي لا شريك له في ربوبيته قط.
اكتفينا بهذا القدر القليل المختصر من بسط خواص الحياة محيلين بيان الخواص الأخرى وتفصيلاتها إلى أجزاء «رسائل النور» وفي وقت آخر.
الخاتمة
إن الاسم الأعظم ليس واحداً لكل أحد، بل يختلف ويتباين،
فمثلاً: لدى الإمام علي رضي الله عنه هو ستة أسماء حسنى هي: «فردٌ، حيٌ، قيومٌ، حكمٌ، عدلٌ، قدوسٌ».. ولدى أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه اسمان هما: «حَكَمٌ عدلٌ».. ولدى الشيخ الكيلاني قُدس سره هو اسم واحد: «يا حيّ».. ولدى الإمام الرباني (احمد الفاروقي السرهندي) رضي الله عنه هو: «القيومُ».. وهكذا، فلدى الكثيرين من العظماء الأفذاذ أسماء أخرى هي الاسم الأعظم عندهم.
ولما كانت هذه النكتة الخامسة تخص اسم الله «الحي» وقد أظهر الرسول الأعظم ﷺ في مناجاته الرفيعة المسماة بـ«الجوشن الكبير» معرفَته الجامعة السامية لله إظهاراً يليق به وحده؛ لذا نذكر من تلك المناجاة شاهداً ودليلاً وحجةً وتبركاً ودعاء مقبولاً وخاتمة حسنةً لهذه الرسالة، فنذهب خيالاً إلى ذلك الزمان ونقول: آمين.. آمين على ما يقوله الرسول الكريم ﷺ، فنردد المناجاة نفسها على أصداء ذلك القول النبوي الكريم:
يَا حَيُّ قَبْلَ كُلِّ حَيّ ∗ يَا حَيُّ بَعدَ كُلِّ حَيّ
يَا حَيُّ الَذي لا يُشْبِهُهُ شَيءٌ ∗ يَا حَيُّ الَذي لَيسَ كَمِثلِهِ حَيٌّ
يَا حَيُّ الَذي لا يُشَارِكُهُ حَيٌّ ∗ يَا حَيُّ الَذي لا يَحتَاجُ إلى حَيٍّ
يَا حَيُّ الَذي يمُيتُ كُلَّ حَيٍّ ∗ يَا حَيُّ الَذي يَرْزُقُ كُلَّ حَيٍّ
يَا حَيُّ الَذِي يُحْيي المَوتَى ∗ يَا حَيُّ الَذي لا يمَوتُ
سُبْحَانَكَ يَا لَا إلهَ إلّا أنْتَ الأمَانَ الأمَانَ نَجِّنَا مِنَ النَّارِ
آمين.
﴿ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَٓا اِلَّا مَا عَلَّمْتَنَاۜ اِنَّكَ اَنْتَ الْعَل۪يمُ الْحَك۪يمُ ﴾
النكتة السادسة
تتطلع إلى اسم الله الأعظم
القيوم
لقد أصبحت الخلاصة المقتضبة لاسم الله «الحي» ذيلاً لمنبع النور، كما ارتُئِيَ أن تكون هذه النكتة التي تخص اسم الله «القيوم» ذيلاً للكلمة الثلاثين.
اعتذار:
إنَّ هذه المسائل البالغة الخطورة والأهمية، والتجلي الأعظم لاسم الله «القيوم» الطافح على وجه الحياة والغاص في أعماق الوجود، لم تتوارد إلى القلب توارداً متعاقباً منتظماً، الواحدة تلوَ الأخرى. بل سَطَعت دفعةً واحدة في سماء القلب كالبروق الخاطفة، وانقدح زنادُ القلب، فاستنار الوجدانُ بها فدوّنتُها كما خطرتْ لي ولم أجرِ عليها أي تعديل أو تغيير أو تشذيب. فلا جرم أن يعتورَها شيء من الخلل في الأداء البياني، والسَبك البلاغي. فأرجو أن تتكرموا بالصفح عما تشاهدونه من قصور في الشكل لأجل جمال المضمون وحُسن محتواه.
تنبيه:
إنَّ المسائل اللطيفة والنكات الدقيقة التي تخص الاسم الأعظم هي عـظيمة السعة، عميقة الأغوار، ولاسيما المسائل التي تخص اسم «الحي القيوم». وبخاصة الشعاع الأول منها، الذي ورد وروداً أعمق من غيره لتوجهه مباشرة إلى الماديين. ([5]) لذا فليس الجميعُ سواءً في إدراكهم لمسائله كلها، وربما صَعُب على البعض الإحاطةُ ببعضٍ منها، وفاته إدراك جزءٍ هنا، وجزء هناك، إلّا أننا مطمئنون إلى أن أحداً لن يخرُجَ من النظر فيها، من غير أن يستفيد شيئاً، بل سينال -بلا شك- حظَّه المقسوم له من كل مسألة منها، «فما لا يُدرَك كلُّه، لا يُترك كلُّه» كما تقول القاعدة السارية؛ فليس صواباً أن يدع أحد هذه الروضة المعنوية المليئة بالثمرات بحجة عَجزه عن جَني جميع ثمراتها! وما قطفَه منها وحصل عليه فهو كسبٌ ومغنم.
ومثلما أن من المسائل التي تخص الاسم الأعظم ما هو واسع جداً لدرجة تتعذر معها الإحاطة الكلية به، فإن فيها أيضاً مسائل لها من الدقة ما تندُّ بها عن بصر العقل؛ ولاسيما رموز الحياة الشاملة لأركان الإيمان التي هي في اسم الله «الحي»، وإشارات الحياة فيه إلى الإيمان بالقضاء والقدر، والشعاع الأول لاسم الله «القيوم». ولكن مع هذا لا يبقى أحدٌ دون الأخذ بحظٍ منها. بل تشدّ إيمانَه وتَزيده سعةً ومدىً على أقل تقدير،
ولا غرو فإن زيادة الإيمان الذي هو مفتاح السعادة الأبدية إنما هو على جانب عظيم من الأهمية، فزيادتُه ولو بمقدار ذرة كنـزٌ عظيم، كما يقول الأمام الرباني أحمد الفاروقي السرهندي:
«إن انكشاف مسألة صغيرة من مسائل الإيمان لهو أفضل في نظري من مئاتٍ من الأذواق والكرامات».
بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ
﴿ بِيَدِه۪ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ (يس: ٨٣)
﴿ لَهُ مَقَال۪يدُ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ ﴾ (الزمر: ٦٣)
﴿ وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلَّا عِنْدَنَا خَزَٓائِنُهُ ﴾ (الحجر: ٢١)
﴿ مَا مِنْ دَٓابَّةٍ اِلَّا هُوَ اٰخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ﴾ (هود: ٥٦)
لقد تراءى لعقلي في شهر ذي القعدة وأنا نزيل سجن «أسكي شهر» تجلٍ عظيمٌ من أنوار اسم الله الأعظم «القيوم» الذي هو الاسم الأعظم، أو السادس من الأنوار الستة للاسم الأعظم. كما تراءت نكتة من نكات هذه الآيات الكريمة المشيرة إلى القيومية الإلهية.
بيد أن ظروف السجن المحيطة بي تحُول دون أن أُوفي حقَّ هذه الأنوار من البيان. وحيث إن الأمام علياً رضي الله عنه قد أبرز الاسم الأعظم في قصيدته المسماة بـأرجوزة «السكينة» لدى بيانه لسائر الأسماء الجليلة من قصيدته «البديعية». يولي أهمية خاصة لتلك الأسماء الستة، فضلاً عما يمنحه لنا -بكرامة من الله- السلوان والعزاء أثناء بحثه لتلك الأسماء، لذا سنشير بإشارات مختصرة إلى بيان هذا النور الأعظم لاسم الله «القيوم» -كما فعلنا مع الأسماء الخمسة الأخرى- وسنجعل تلك الإشارات في خمسة أشعة.
الشعاع الأول:
إنَّ خالق هذا الكون ذا الجلال قيومٌ. أي إنه قائمٌ بذاته، دائم بذاته، باقٍ بذاته، وجميعُ الأشياء والموجودات قائمة به، تدوم به، تبقى في الوجود به، وتجد البقاء به. فلو انقطع هذا الانتسابُ للقيومية من الكون بأقل من طرفةِ عينٍ يُمحى الكونُ كله.
ثم إن ذلك الجليل مع قيوميته ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِه۪ شَيْءٌۚ ﴾ كما وصفه القرآن الكريم. أي لا نظير له ولا مثيل ولا شبيه ولا شريك: في ذاته.. في صفاته.. وفي أفعاله.
نعم، إنَّ الذي يمسك الكون كلَّه أن يزول في قبضة ربوبيته ويدير جميع شؤونه ويدبّر جميع أحواله وكيفياته بكمال الانتظام ومنتهى التدبير وغاية الرعاية، وفي سهولة مطلقة كإدارة قصر أو بيت محالٌ أن يكون له مثلٌ أو مَثيلٌ أو شريك أو شبيه.
نعم، إنَّ مَن كان خلقُ النجوم سهلاً عليه وهيناً كخلق الذرات..
ويسخّر أعظم شيء في الوجود كأصغره ضمن قدرته المطلقة..
ولا يمنع شيءٌ شيئاً عنه، ولا فعلٌ فعلاً،
فالأفراد غير المحدودين نصبَ نظره كالفرد الواحد،
والأصوات جميعُها يسمعها معاً،
ويوفي حاجات الكل في آنٍ واحد ودفعةٍ واحدة،
ولا يخرج شيء مهما كان، ولا حالةٌ مهما كانت من دائرة مشيئته ونطاق إرادته - بشهادة الأنظمة والموازين الجارية في الكون -
وكما أنه لا يحدّه مكانٌ فهو بقدرته وبعلمِه حاضرٌ في كل مكان،
وكما أن كل شيء بعيدٌ عنه بُعداً مطلقاً، فهو أقرب إليه من أيّ شيء.. فهذا «الحي القيوم» ذو الجلال، لابد أنه ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِه۪ شَيْءٌۚ ﴾ فلا نظير له ولا شريك ولا وزير ولا ضد ولا ندّ. بل محال في حقه كل ذلك. أما شؤونُه المنـزّهة الحكيمة، فيمكن أن يُنظَر إليها بمنظار المَثَل والتمثيل (وجميع أنواع الأمثال والتمثيلات والتشبيهات الواردة في «رسائل النور» إنما هي من هذا النوع من المثل والتمثيل).
فهذا الذات الأقدس الذي لا مثيل له، وهو الواجب الوجود، والمجرّد عن المادة المنـزّه عن المكان، المحالُ عليه التجزؤ والانقسام، والممتنعُ عليه التغيّر والتبدل، والذي لا يمكن أن يُتصورَ عجزه واحتياجه أبداً.. هذا الذات الأقدس قد أعطى قسمٌ من أهل الضلالة أحكامَ ألوهيته العظيمة إلى بعضِ مخلوقاته، وذلك بتوهمهم أن تجلياته سبحانه المتجلية في صفحات الكون وطبقات الموجودات هي الذات الأقدس نفسه، ففوّض قسمٌ من هؤلاء بعض آثار تجلياته سبحانه إلى الطبيعة والأسباب، والحال أنه قد ثبت ببراهين متعددة ناصعة وفي عديد من «رسائل النور»
أن الطبيعة ما هي إلّا صنعة إلهية ولا تكون صانعاً، وهي كتاب رباني ولا تكون كاتباً، وهي نقشٌ بديع ومحالٌ أن تكون نقّاشاً مُبدعاً، وهي كراسٌ ولا تكون واضعةَ القوانين وصاحبة الكراس، وهي قانونٌ ولا تكون قدرةً، وهي مِسطرٌ ولا تكون مصدراً للوجود، وهي شيء منفعل ولا تكون الفاعل، وهي نظام ومحال أن تكون ناظماً، وهي شريعة فطرية وممتنعٌ أن تكون شارعاً مشرّعاً.
ولو افترض محالاً وأحيل خلقُ أصغر كائن حي إلى الطبيعة، وقيل لها فرضاً : هيا أوجدي هذا الكائن -مثلاً- فينبغي للطبيعة عندئذٍ أن تهيّىء قوالبَ مادية ومكائن - بعدد أعضاء ذلك الكائن لكي تستطيع أن تؤدي ذلك العمل!! وقد أثبتنا محالية هذا الفرض في مواضع كثيرة من «رسائل النور».
ثم إن قسماً من أهل الضلالة الذين يُطلق عليهم «الماديون» يشعرون بالتجلي الأعظم للخلاقية الإلهية والقدرة الربانية في تحولات الذرات المنتظمة، ولكنهم يجهلون مصدر ذلك التجلي، ويعجزون عن أن يدركوا من أين تُدار تلك القوة العامة النابعة من تجلي القدرة الصمدانية.. فلأنهم يجهلون كل ذلك فقد شرعوا بإسناد آثار الألوهية إلى الذرات نفسها وإلى حركاتها عينها، فتوهموا أزلية المادة والقوة.
فسبحان الله!! أفيمكن لإنسانٍ أن يتردى إلى هذا الدرك السحيق من الجهالة والخرافة المحضة، فيسند الآثار البديعة للخالق البديع والأفعال الحكيمة للعليم البصير -وهو المتعال عن المكان والزمان- إلى ذراتٍ مضطربة بتيارات المصادفات، جامدةٍ عمياء غير شاعرة، لا حول لها ولا قوة، وإلى حركاتها!.. أ فيمكن أن يقرّ بهذا أحد؟. فمَنْ كان له مسكةٌ من عقل لابد أن يحكم بأن هذا جهلٌ ما بعده جهل، وخرافة ما بعدها خرافة. إنَّ هؤلاء التعساء قد وقعوا في عبادة آلهة كثيرة لأنهم أعرضوا عن الوحدانية المطلقة. أي لأنهم لم يؤمنوا بإلهٍ واحد، أصبحوا مضطرين إلى قبول ما لا نهاية له من الآلهة!..
أي لأنهم لم يستوعبوا بعقولهم القاصرة أزلية الذات الأقدس وخلّاقيته -وهما صفتان لازمتان ذاتيتان له سبحانه- فقد أصبحوا -بحكم مسلكهم الضال- مضطرين إلى قبول أزلية ذرات جامدة لا حدّ لها ولا نهاية، بل إلى قبول ألوهية الذرات! فتأمل مبلغ الحضيض الذي سقطوا فيه، وسحيقِ الدرك الأسفل من الجهل الذي تردّوا فيه!
نعم، إنَّ التجلي الظاهر «للحي القيوم» في الذرات قد حوّلها إلى ما يشبه الجيش المهيب المنظم بحول الله وقوته وأمره، فلو سُحب أمر القائد الأعظم لأقل من طرفة عين من تلك التي لا تحد من الذرات الجامدة والتي لا شعور لها ولا عقل، لظلت سائبة، بل محيت نهائياً من الوجود.
ثم إن هناك من يتظاهرون ببُعد النظر، فيسوقون فكراً أجهلَ من السابق وأوغل في الخرافة منه حيث يتوهمون أن مادة الأثير هي المصدر وهي الفاعل، لقيامها بمهمة المرآة العاكسة لتجليات ربوبية الخالق سبحانه! علماً أنها ألطفُ وأرقُّ وأطوع صحيفةٍ من صحائف إجراءات الصانع الجليل وأكثرُها تسخيراً وانقياداً، وهي وسيلة لنقل أوامره الجليلة. وهي المداد اللطيف لكتاباته، والحلّة القشيبة الشفيفة لايجاداته، والخميرة الأساس لمصنوعاته، والأرض الخصبة لحبّاته.
فلا شك أن هذا الجهل العجيب المرعب يستلزم محالات لا حد لها ولا نهاية، وذلك لأن مادة الأثير هي ألطفُ من مادة الذرات التي غرق بها الماديون في مستنقع الضلالة، وهي أكثفُ من الهيولى ([6]) التي ضلّ فيها الفلاسفة القدماء وتاهوا. وهي مادة جامدة لا إرادة لها ولا اختيار ولا شعور، فإسناد الأفعال والآثار إلى هذه المادة القابلة للانقسام والتجزؤ والمجهّزة للقيام بوظيفة النقل وخاصة الانفعال، وإلى ذراتها التي هي أصغر من الذرات لاشك أنه جريمة وخطأ فاحش بعدد ذرات الأثير؛ لأن تلك الأفعال والآثار الربانية لا يمكن أن تحدث إلّا بإرادة مَن يقدِر على رؤية كل شيء في أي شيء كان ومَن يملك علماً محيطاً بكل شيء.
نعم، إن فعل الإيجاد المشهود في الموجودات يتّسم بكيفية معينة وأسلوب منفرد بحيث يدل دلالة واضحة على أن الموجِد هو صاحبُ قدرةٍ قادرة واختيار طليق، يرى أكثر الأشياء، بل الكون كله لدى إيجاده أيَّ شيء كان، ولاسيما الكائن الحي ويعلم كلَّ ما يرتبط به من الأشياء، ثم يضع ذلك الشيء في موضعه الملائم له، ويضمن له البقاء في ذلك الموقع، أي إن الأسباب المادية الجاهلة لا يمكن أن تكون بحال من الأحوال فاعلاً لها.
نعم، إنَّ فعلاً إيجادياً -مهما كان جزئياً- يدل دلالة عظيمة -بسر القيومية- على أنه فعلُ خالِق الكون فعلاً مباشراً.
فالفعل المتوجّه إلى إيجاد نحلة -مثلاً- يدلنا بجهتين على أنه يخص خالق الكون ورب العالمين.
الجهة الأولى: أنَّ قيام تلك النحلة مع مثيلاتها في جميع الأرض بالفعل نفسِه في الوقت نفسه يدلنا على أن هذا الفعل الجزئي الذي نشاهده في نحلة واحدة إنما هو طرفٌ لفعلٍ يحيط بسطح الأرض كله. أي أن من كان فاعلاً لذلك الفعل العظيم الواسع ومالكاً له فهو صاحب ذلك الفعل الجزئي.
الجهة الثانية: لأجل أن يكون أحد فاعلاً لهذا الفعل الجزئي المتوجه إلى خلقِ هذه النحلة الماثلة أمامنا، ينبغي أن يكون -الفاعل- عالماً بشروط حياة تلك النحلة وأجهزتها وعلاقاتها مع الكائنات الأخرى وكيفية ضمان حياتها ومعيشتها، فيلزم إذن أن يكون ذا حكم نافذٍ على الكون كله ليجعل ذلك الفعل كاملاً.
أي إن أصغر فعلٍ جزئي يدل من جهتين على أنه يخصّ خالقَ كل شيء.
ولكن أكثر ما يحيّر الإنسان ويجلب انتباهه هو: أن الأزلية والسرمدية التي هي من أخصّ خصائص الألوهية وألزمِ صفةٍ للذات الأقدس المالك لأقوى مرتبة في الوجود وهو الوجوب وأثبتُ درجة في الوجود وهو التجرّد من المادة وأبعد طوراً عن الزوال وهو التنـزّه عن المكان وأسلمُ صفة من صفات الوجود وأقدسُها عن التغير والعدم وهو الوحدة... أقول: إن الذي يحير الإنسان ويثير قلقه، ويجلب انتباهه إنما هو اسناد صفة الأزلية والسرمدية إلى الأثير والذرات وما شابهها من المواد المادية التي لها أضعفُ مرتبة من مراتب الوجود، وأدقُّ درجة فيه، وأكثر أطواره تغيراً وتحولاً، وأعمُّها انتشاراً في المكان، ولها الكثرة التي لا تحد.. فإسناد الأزلية إلى هذه المواد وتصورها أزليةً، وتوهّم نشوءَ قسم من الآثار الإلهية منها، ما هو إلّا مجافاةٌ وأي مجافاة للحقيقة وأمرٌ منافٍ أي منافاة للواقع، وبعيدٌ كل البعد عن منطق العقل وباطل واضح البطلان. وقد أثبتنا هذا في كثير من الرسائل ببراهين رصينة.
İkinci Şuâ
İki meseledir.
Birinci Mesele: İsm-i Kayyum’un bir cilve-i a’zamına işaret eden لَا تَا۟خُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَو۟مٌ مَا مِن۟ دَٓابَّةٍ اِلَّا هُوَ اٰخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا لَهُ مَقَالٖيدُ السَّمٰوَاتِ وَ ال۟اَر۟ضِ gibi âyetlerin işaret ettiği hakikat-i a’zamın bir vechi şudur ki:
Şu kâinattaki ecram-ı semaviyenin kıyamları, devamları, bekaları sırr-ı kayyumiyetle bağlıdır. Eğer o cilve-i kayyumiyet bir dakikada yüzünü çevirse bir kısmı küre-i arzdan bin defa büyük milyonlarla küreler, feza-yı gayr-ı mütenahî boşluğunda dağılacak, birbirine çarpacak, ademe dökülecekler.
Nasıl ki mesela, havada –tayyareler yerinde– binler muhteşem kasırları kemal-i intizamla durdurup seyahat ettiren bir zatın kayyumiyet iktidarı, o havadaki sarayların sebat ve nizam ve devamları ile ölçülür. Öyle de o Zat-ı Kayyum-u Zülcelal’in madde-i esîriye içinde hadsiz ecram-ı semaviyeye nihayet derecede intizam ve mizan içinde sırr-ı kayyumiyetle bir kıyam, bir beka, bir devam vererek, bazısı küre-i arzdan bin ve bir kısmı bir milyon defa büyük milyonlarla azîm küreleri direksiz, istinadsız, boşlukta durdurmakla beraber, her birini bir vazife ile tavzif edip gayet muhteşem bir ordu şeklinde “Emr-i kün feyekûn”den gelen fermanlara kemal-i inkıyadla itaat ettirmesi, ism-i Kayyum’un a’zamî cilvesine bir ölçü olduğu gibi, her bir mevcudun zerreleri dahi yıldızlar gibi sırr-ı kayyumiyetle kaim ve o sır ile beka ve devam ediyorlar.
Evet, bir zîhayatın cesedindeki zerrelerin her bir azaya mahsus bir heyet ile küme küme toplanıp dağılmadıkları ve sel gibi akan unsurların fırtınaları içinde vaziyetlerini muhafaza edip dağılmamaları ve muntazaman durmaları, bilbedahe kendi kendilerinden olmayıp belki sırr-ı kayyumiyetle olduğundan; her bir ceset muntazam bir tabur, her bir nevi muntazam bir ordu hükmünde olarak bütün zîhayat ve mürekkebatın zemin yüzünde ve yıldızların feza âleminde durmaları ve gezmeleri gibi, bu zerreler dahi hadsiz dilleriyle sırr-ı kayyumiyeti ilan ederler.
İkinci Mesele: Eşyanın sırr-ı kayyumiyetle münasebettar faydalarının ve hikmetlerinin bir kısmına işaret etmeyi, bu makam iktiza ediyor.
Evet, her şeyin hikmet-i vücudu ve gaye-i fıtratı ve faide-i hilkati ve netice-i hayatı üçer nevidir:
Birinci nevi, kendine ve insana ve insanın maslahatlarına bakar.
İkinci nevi, daha mühimdir ki her şey, umum zîşuur mütalaa edebilecek ve Fâtır-ı Zülcelal’in cilve-i esmasını bildirecek birer âyet, birer mektup, birer kitap, birer kaside hükmünde olarak manalarını hadsiz okuyucularına ifade etmesidir.
Üçüncü nevi ise Sâni’-i Zülcelal’e aittir, ona bakar. Her şeyin faydası ve neticesi kendine bakan bir ise Sâni’-i Zülcelal’e bakan yüzlerdir ki Sâni’-i Zülcelal kendi acayib-i sanatını kendisi temaşa eder; kendi cilve-i esmasına, kendi masnuatında bakar. Bu a’zamî üçüncü nevide, bir saniye kadar yaşamak kâfidir.
Hem her şeyin vücudunu iktiza eden bir sırr-ı kayyumiyet var ki Üçüncü Şuâ’da izah edilecek.
Bir zaman tılsım-ı kâinat ve muamma-yı hilkat cilvesiyle mevcudatın hikmetlerine ve faydalarına baktım, dedim: “Acaba bu eşya neden böyle kendini gösteriyorlar, çabuk kaybolup gidiyorlar?” Onların şahsına bakıyorum; muntazam, hikmetli giyinmiş, giydirilmiş, süslendirilmiş, sergiye temaşagâha gönderilmiş. Halbuki bir iki günde, belki bir kısmı birkaç dakikada kaybolup faydasız boşu boşuna gidiyorlar. Bu kısa zamanda bize görünmelerinden maksat nedir, diye çok merak ediyordum. O zaman mevcudatın, hususan zîhayatın dünya dershanesine gelmelerinin mühim bir hikmetini lütf-u İlahî ile buldum. O da şudur:
Her şey, hususan zîhayat, gayet manidar bir kelime, bir mektup, bir kaside-i Rabbanîdir, bir ilanname-i İlahîdir. Umum zîşuurun mütalaasına mazhar olduktan ve hadsiz mütalaacılara manasını ifade ettikten sonra, lafzı ve hurufu hükmündeki suret-i cismaniyesi kaybolur.
Bir sene kadar bu hikmet bana kâfi geldi. Bir sene sonra masnuatta ve bilhassa zîhayatlarda bulunan çok hârika ve pek ince sanatın mu’cizeleri inkişaf etti. Anladım ki bu çok ince ve çok hârika olan dekaik-ı sanat, yalnız zîşuurların nazarlarına ifade-i mana için değildir. Gerçi her bir mevcudu, hadsiz zîşuurlar mütalaa edebilir. Fakat hem onların mütalaası mahduddur hem de herkes o zîhayatın bütün dekaik-ı sanatına nüfuz edemezler. Demek zîhayatların en mühim netice-i hilkati ve en büyük gaye-i fıtratı, Zat-ı Kayyum-u Ezelî’nin kendi nazarına, kendi acayib-i sanatını ve verdiği rahîmane hediyelerini ve ihsanlarını arz etmektir.
Bu gaye ise çok zaman bana kanaat verdi ve ondan anladım ki her mevcudda, hususan zîhayatlarda hadsiz dekaik-ı sanat bulunması, Zat-ı Kayyum-u Ezelî’nin nazarına arz etmek, yani Zat-ı Kayyum-u Ezelî kendi sanatını kendisi temaşa etmek olan hikmet-i hilkat, o büyük masarife kâfi geliyordu. Bir zaman sonra gördüm ki mevcudatın şahıslarında ve suretlerindeki dekaik-ı sanat devam etmiyor; gayet süratle tazeleniyor, tebeddül ediyor; nihayetsiz bir faaliyet ve bir hallakıyet içinde tahavvül ediyorlar. Bu hallakıyet ve bu faaliyetin hikmeti elbette o faaliyet derecesinde büyük olmak lâzım geliyor, diye tefekküre başladım. Bu defa mezkûr iki hikmet kâfi gelmemeye başladılar, noksan kaldılar. Gayet merak ile ayrı bir hikmeti aramaya ve taharriye başladım. Bir zaman sonra, lillahi’l-hamd Kur’an-ı Mu’cizü’l-Beyan’ın feyzi ile sırr-ı kayyumiyet noktasında azîm hadsiz bir hikmet, bir gaye göründü. Ve onun ile “tılsım-ı kâinat” ve “muamma-yı hilkat” tabir edilen bir sırr-ı İlahî anlaşıldı. (Yirmi Dördüncü Mektup’ta tafsilen beyan edildiğinden burada yalnız icmalen iki üç noktasını Üçüncü Şuâ’da zikredeceğiz.)
Evet, sırr-ı kayyumiyetin cilvesine bu noktadan bakınız ki bütün mevcudatı ademden çıkarıp her birisini bu nihayetsiz fezada رَفَعَ السَّمَاءَ بِغَي۟رِ عَمَدٍ تَرَو۟نَهَا sırrıyla durdurup kıyam ve beka verip umumunu böyle sırr-ı kayyumiyetin tecellisine mazhar eyliyor. Eğer bu nokta-i istinad olmazsa hiçbir şey kendi başıyla durmaz. Hadsiz bir boşlukta yuvarlanıp ademe sukut edecek.
Hem nasıl ki bütün mevcudat, vücudları ve kıyamları ve bekaları cihetinde Kayyum-u Zülcelal’e dayanıyorlar; kıyamları onunladır. Öyle de mevcudatın keyfiyat ve ahvalinde binler silsilelerin; (temsilde hata olmasın) telefon, telgraf silsilelerinin merkezi ve santral direği hükmünde olan sırr-ı kayyumiyette وَ اِلَي۟هِ يُر۟جَعُ ال۟اَم۟رُ كُلُّهُ sırrıyla uçları bağlıdır. Eğer o nurani nokta-i istinada dayanmazlarsa ehl-i akılca muhal ve bâtıl olan binler devirler ve teselsüller lâzım gelecek; belki mevcudat adedince bâtıl olan devirler ve teselsüller lâzım gelir. Mesela, bu şey (hıfz veya nur veya vücud veya rızık gibi) bir cihette buna dayanır, bu da ötekine, o da ona... Gitgide herhalde nihayetsiz olamaz, bir nihayeti bulunacak. İşte, bütün böyle silsilelerin müntehaları, elbette sırr-ı kayyumiyettir. Sırr-ı kayyumiyet anlaşıldıktan sonra o mevhum silsilelerde birbirine dayanmak rabıtası ve manası kalmaz, kalkar; her şey doğrudan doğruya sırr-ı kayyumiyete bakar.
Üçüncü Şuâ
كُلَّ يَو۟مٍ هُوَ فٖى شَا۟نٍ فَعَّالٌ لِمَا يُرٖيدُ يَخ۟لُقُ مَا يَشَٓاءُ بِيَدِهٖ مَلَكُوتُ كُلِّ شَى۟ءٍ فَان۟ظُر۟ اِلٰٓى اٰثَارِ رَح۟مَتِ اللّٰهِ كَي۟فَ يُح۟يِى ال۟اَر۟ضَ بَع۟دَ مَو۟تِهَا
gibi âyetlerin işaret ettikleri hallakıyet-i İlahiye ve faaliyet-i Rabbaniye içindeki sırr-ı kayyumiyetin bir derece inkişafına, bir iki mukaddime ile işaret edeceğiz.
Birincisi: Şu kâinata baktığımız vakit görüyoruz ki zaman seylinde mütemadiyen çalkanan ve kafile kafile arkasından gelip geçen mahlukatın bir kısmı, bir saniyede gelir, der-akab kaybolur. Bir taifesi, bir dakikada gelir, geçer. Bir nev’i, bir saat âlem-i şehadete uğrar, âlem-i gayba girer. Bir kısmı bir günde, bir kısmı bir senede, bir kısmı bir asırda, bir kısmı da asırlarda bu âlem-i şehadete gelip konup vazife görüp gidiyorlar. Bu hayret verici seyahat ve seyeran-ı mevcudat ve sefer ve seyelan-ı mahlukat öyle bir intizam ve mizan ve hikmetle sevk ve idare edilir ve onlara ve o kafilelere kumandanlık eden öyle basîrane, hakîmane, müdebbirane kumandanlık ediyor ki bütün akıllar faraza ittihat edip bir tek akıl olsa o hakîmane idarenin künhüne yetişemez ve kusur bulup tenkit edemez.
İşte bu hallakıyet-i Rabbaniyenin içinde o sevimli ve sevdiği masnuatın hususan zîhayatların hiçbirine göz açtırmayarak âlem-i gayba gönderiyor, hiçbirine nefes aldırmayarak dünyadaki hayattan terhis ediyor, mütemadiyen bu misafirhane-i âlemi doldurup misafirlerin rızası olmayarak boşaltıyor; kalem-i kaza ve kader, küre-i arzı yazar bozar tahtası gibi yaparak يُح۟يٖى وَ يُمٖيتُ cilveleriyle mütemadiyen küre-i arzda yazılarını yazar ve o yazıları tazelendirir, tebdil eder.
İşte bu faaliyet-i Rabbaniyenin ve bu hallakıyet-i İlahiyenin bir sırr-ı hikmeti ve esaslı bir muktezîsi ve bir sebeb-i dâîsi, üç mühim şubeye ayrılan hadsiz, nihayetsiz bir hikmettir.
O hikmetin birinci şubesi şudur ki: Faaliyetin her nev’i cüz’î olsun, küllî olsun bir lezzet verir. Belki her faaliyette bir lezzet var. Belki faaliyet ayn-ı lezzettir. Belki faaliyet, ayn-ı lezzet olan vücudun tezahürüdür ve ayn-ı elem olan ademden tebâud ile silkinmesidir.
Evet, her kabiliyet sahibi, bir faaliyetle kabiliyetinin inkişafını lezzetle takip eder. Her bir istidadın faaliyetle tezahür etmesi, bir lezzetten gelir ve bir lezzeti netice verir. Her bir kemal sahibi, faaliyetle kemalâtının tezahürünü lezzetle takip eder. Madem her bir faaliyette böyle sevilir, istenilir bir kemal, bir lezzet vardır ve faaliyet dahi bir kemaldir ve madem zîhayat âleminde daimî ve ezelî bir hayattan neş’et eden hadsiz bir muhabbetin, nihayetsiz bir merhametin cilveleri görünüyor ve o cilveler gösteriyor ki kendini böyle sevdiren ve seven ve şefkat edip lütuflarda bulunan zatın kudsiyetine lâyık ve vücub-u vücuduna münasip o hayat-ı sermediyenin muktezası olarak hadsiz derecede (tabirde hata olmasın) bir aşk-ı lahutî, bir muhabbet-i kudsiye, bir lezzet-i mukaddese gibi şuunat-ı kudsiye o Hayat-ı Akdes’te var ki o şuunat böyle hadsiz faaliyetle ve nihayetsiz bir hallakıyetle kâinatı daima tazelendiriyor, çalkalandırıyor, değiştiriyor.
Sırr-ı kayyumiyete bakan hadsiz faaliyet-i İlahiyedeki hikmetin ikinci şubesi: Esma-i İlahiyeye bakar. Malûmdur ki her bir cemal sahibi, kendi cemalini görmek ve göstermek ister; her bir hüner sahibi, kendi hünerini teşhir ve ilan etmekle nazar-ı dikkati celbetmek ister ve sever. Ve hüneri gizli kalmış bir güzel hakikat ve güzel bir mana, meydana çıkmak ve müşterileri bulmak ister ve sever. Madem bu esaslı kaideler, her şeyde derecesine göre cereyan ediyor; elbette Cemil-i Mutlak olan Zat-ı Kayyum-u Zülcelal’in bin bir esma-i hüsnasından her bir ismin, kâinatın şehadetiyle ve cilvelerinin delâletiyle ve nakışlarının işaretiyle, her birisinin her bir mertebesinde hakiki bir hüsün, hakiki bir kemal, hakiki bir cemal ve gayet güzel bir hakikat, belki her bir ismin her bir mertebesinde hadsiz enva-ı hüsünle hadsiz hakaik-i cemile vardır.
Madem bu esmanın kudsî cemallerini irae eden âyineleri ve güzel nakışlarını gösteren levhaları ve güzel hakikatlerini ifade eden sahifeleri, bu mevcudattır ve bu kâinattır. Elbette o daimî ve bâki esma, hadsiz cilvelerini ve nihayetsiz manidar nakışlarını ve kitaplarını; hem müsemmaları olan Zat-ı Kayyum-u Zülcelal’in nazar-ı müşahedesine, hem hadd ü hesaba gelmeyen zîruh ve zîşuur mahlukatın nazar-ı mütalaasına göstermek ve nihayetli mahdud bir şeyden nihayetsiz levhaları ve bir tek şahıstan pek çok şahısları ve bir hakikatten pek kesretli hakikatleri göstermek için o aşk-ı mukaddes-i İlahîye istinaden ve o sırr-ı kayyumiyete binaen, kâinatı umumen ve mütemadiyen cilveleriyle tazelendiriyorlar, değiştiriyorlar.
Dördüncü Şuâ
Kâinattaki hayret-nüma faaliyet-i daimenin hikmetinin üçüncü şubesi şudur ki: Her bir merhamet sahibi, başkasını memnun etmekten mesrur olur. Her bir şefkat sahibi, başkasını mesrur etmekten memnun olur. Her bir muhabbet sahibi, sevindirmeye lâyık mahlukları sevindirmekle sevinir. Her bir âlîcenab zat, başkasını mesud etmekle lezzet alır. Her bir âdil zat, ihkak-ı hak etmek ve müstahaklara ceza vermekte hukuk sahiplerini minnettar etmekle keyiflenir. Hüner sahibi her bir sanatkâr, sanatını teşhir etmekle ve sanatının tasavvur ettiği tarzda işlemesiyle ve istediği neticeleri vermesiyle iftihar eder.
İşte bu mezkûr düsturların her biri birer kaide-i esasiyedir ki kâinatta ve âlem-i insaniyette cereyan ediyorlar. Bu kaidelerin esma-i İlahiyede cereyan ettiklerini gösteren üç misal, Otuz İkinci Söz’ün İkinci Mevkıfı’nda izah edilmiştir. Bir hülâsası bu makamda yazılması münasip olduğundan deriz:
Nasıl ki mesela, gayet merhametli, sehavetli, gayet kerîm âlîcenab bir zat, fıtratındaki âlî seciyelerin muktezasıyla büyük bir seyahat gemisine, çok muhtaç ve fakir insanları bindirip gayet mükemmel ziyafetlerle, ikramlarla o muhtaç fakirleri memnun ederek denizlerde arzın etrafında gezdirir ve kendisi de onların üstünde, onları mesrurane temaşa ederek o muhtaçların minnettarlıklarından lezzet alır ve onların telezzüzlerinden mesrur olur ve onların keyiflerinden sevinir, iftihar eder.
Madem böyle bir tevziat memuru hükmünde olan bir insan, böyle cüz’î bir ziyafet vermekten bu derece memnun ve mesrur olursa elbette bütün hayvanları ve insanları ve hadsiz melekleri ve cinleri ve ruhları, bir sefine-i Rahmanî olan küre-i arz gemisine bindirerek rûy-i zemini, enva-ı mat’umatla ve bütün duyguların ezvak ve erzakıyla doldurulmuş bir sofra-i Rabbaniye şeklinde onlara açmak ve o muhtaç ve müteşekkir ve minnettar ve mesrur mahlukatını aktar-ı kâinatta seyahat ettirmekle ve bu dünyada bu kadar ikramlarla onları mesrur etmekle beraber, dâr-ı bekada cennetlerinden her birini ziyafet-i daime için birer sofra yapan Zat-ı Hayy-ı Kayyum’a ait olarak o mahlukatın teşekkürlerinden ve minnettarlıklarından ve mesruriyetlerinden ve sevinçlerinden gelen ve tabirinde âciz olduğumuz ve mezun olmadığımız şuunat-ı İlahiyeyi “memnuniyet-i mukaddese” “iftihar-ı kudsî” ve “lezzet-i mukaddese” gibi isimlerle işaret edilen maânî-i rububiyettir ki bu daimî faaliyeti ve mütemadî hallakıyeti iktiza eder.
Hem mesela, bir mahir sanatkâr, plaksız bir fonoğraf yapsa o fonoğraf istediği gibi konuşsa, işlese sanatkârı ne kadar müftehir olur, mütelezziz olur; kendi kendine “Mâşâallah” der. Madem icadsız ve surî bir küçük sanat, sanatkârının ruhunda bu derece bir iftihar, bir memnuniyet hissi uyandırırsa elbette bu mevcudatın Sâni’-i Hakîm’i, kâinatın mecmuunu, hadsiz nağmelerin envaıyla sadâ veren ve ses verip tesbih eden ve zikredip konuşan bir musikî-i İlahiye ve bir fabrika-i acibe yapmakla beraber, kâinatın her bir nevini, her bir âlemini ayrı bir sanatla ve ayrı sanat mu’cizeleriyle göstererek zîhayatların kafalarında birer fonoğraf, birer fotoğraf, birer telgraf gibi çok makineleri, hattâ en küçük bir kafada dahi yapmakla beraber her bir insan kafasına, değil yalnız plaksız fonoğraf, birer âyinesiz fotoğraf, bir telsiz telgraf, belki bunlardan yirmi defa daha hârika, her insanın kafasında öyle bir makineyi yapmaktan ve istediği tarzda işleyip neticeleri vermekten gelen iftihar-ı kudsî ve memnuniyet-i mukaddese gibi manaları ve rububiyetin bu nevinden olan ulvi şuunatı, elbette ve herhalde bu faaliyet-i daimeyi istilzam eder.
Hem mesela, bir hükümdar-ı âdil, ihkak-ı hak için mazlumların hakkını zalimlerden almakla ve fakirleri kavîlerin şerrinden muhafaza etmekle ve herkese müstahak olduğu hakkı vermekle lezzet alması, iftihar etmesi, memnun olması hükümdarlığın ve adaletin bir kaide-i esasiyesi olduğundan elbette Hâkim-i Hakîm, Adl-i Âdil olan Zat-ı Hayy-ı Kayyum’un bütün mahlukatına, hususan zîhayatlara “hukuk-u hayat” tabir edilen şerait-i hayatiyeyi vermekle ve hayatlarını muhafaza için onlara cihazat ihsan etmekle ve zayıfları kavîlerin şerrinden rahîmane himaye etmekle ve umum zîhayatlarda bu dünyada ihkak-ı hak etmek nev’i tamamen ve haksızlara ceza vermek nev’i ise kısmen sırr-ı adaletin icrasından olmakla ve bilhassa mahkeme-i kübra-yı haşirde adalet-i ekberin tecellisinden hasıl olan ve tabirinde âciz olduğumuz şuunat-ı Rabbaniye ve maânî-i kudsiyedir ki kâinatta bu faaliyet-i daimeyi iktiza ediyor.
İşte bu üç misal gibi esma-i hüsnanın umumunda, her birisi bu faaliyet-i daimede böyle kudsî bazı şuunat-ı İlahiyeye medar olduklarından hallakıyet-i daimeyi iktiza ederler.
Hem madem her kabiliyet, her bir istidat, inbisat ve inkişaf edip semere vermekle bir ferahlık, bir genişlik, bir lezzet verir. Hem madem her vazifedar, vazifesini yapmak ve bitirmekle, vazifesinden terhisinde büyük bir rahatlık, bir memnuniyet hisseder. Ve madem bir tek tohumdan birçok meyveleri almak ve bir dirhemden yüz dirhem kâr kazanmak, sahiplerine çok sevinçli bir halettir, bir ticarettir. Elbette bütün mahlukattaki hadsiz istidatları inkişaf ettiren ve bütün mahlukatını kıymettar vazifelerde istihdam ettikten sonra terakkivari terhis ettiren, yani unsurları, madenler mertebesine; madenleri, nebatlar hayatına; nebatları, rızık vasıtasıyla hayvanların derece-i hayatına; ve hayvanları insanların şuurkârane olan yüksek hayatına çıkarıyor.
İşte her bir zîhayatın zâhirî bir vücudunun zevaliyle (Yirmi Dördüncü Mektup’ta izah edildiği gibi) ruhu, mahiyeti, hüviyeti, sureti gibi pek çok vücudlarını arkasında bıraktıran ve yerinde vazife başına geçiren faaliyet-i daime ve hallakıyet-i Rabbaniyeden neş’et eden maânî-i kudsiyenin ve rububiyet-i İlahiyenin ne kadar ehemmiyetli oldukları anlaşılır.
Mühim bir suale kat’î bir cevap
Ehl-i dalaletten bir kısmı diyorlar ki: “Kâinatı bir faaliyet-i daime ile tağyir ve tebdil eden zatın, elbette kendisinin de mütegayyir ve mütehavvil olması lâzım gelir.”
Elcevap: Hâşâ yüz bin defa hâşâ! Yerdeki âyinelerin tagayyürü, gökteki güneşin tagayyürünü değil, bilakis cilvelerinin tazelendiğini gösterir. Hem ezelî, ebedî, sermedî, her cihetçe kemal-i mutlakta ve istiğna-yı mutlakta, maddeden mücerred, mekândan, kayıttan, imkândan münezzeh, müberra, muallâ olan bir Zat-ı Akdes’in tagayyürü ve tebeddülü muhaldir. Kâinatın tagayyürü, onun tagayyürüne değil, belki adem-i tagayyürüne ve gayr-ı mütehavvil olduğuna delildir. Çünkü müteaddid şeyleri intizamla daimî tağyir ve tahrik eden bir zat, mütegayyir olmamak ve hareket etmemek lâzım gelir. Mesela, sen çok iplerle bağlı çok gülleleri ve topları çevirdiğin ve daimî intizamla tahrik edip vaziyetler verdiğin vakit, senin yerinde durup tagayyür ve hareket etmemekliğin gerektir. Yoksa o intizamı bozacaksın.
Meşhurdur ki intizamla tahrik eden, hareket etmemek ve devam ile tağyir eden, mütegayyir olmamak gerektir; tâ ki o iş intizamla devam etsin.
Sâniyen: Tagayyür ve tebeddül, hudûstan ve tekemmül etmek için tazelenmekten ve ihtiyaçtan ve maddîlikten ve imkândan ileri geliyor. Zat-ı Akdes ise hem kadîm hem her cihetçe kemal-i mutlakta hem istiğna-yı mutlakta hem maddeden mücerred hem Vâcibü’l-vücud olduğundan elbette tagayyür ve tebeddülü muhaldir, mümkün değildir.
Beşinci Şuâ
İki meseledir:
Birinci Meselesi: İsm-i Kayyum’un cilve-i a’zamını görmek istersek hayalimizi bütün kâinatı temaşa edecek; biri, en uzak şeyleri; diğeri, en küçük zerreleri gösterecek iki dürbün yapıp birinci dürbünle bakıyoruz, görüyoruz ki ism-i Kayyum’un cilvesiyle küre-i arzdan bin defa büyük milyonlar küreler, yıldızlar, direksiz olarak havadan daha latîf olan madde-i esîriye içinde kısmen durdurulmuş, kısmen vazife için seyahat ettiriliyor.
Sonra o hayalin hurdebîni olan ikinci dürbünüyle küçük zerratı görecek bir suretle bakıyoruz. O sırr-ı kayyumiyetle zîhayat mahlukat-ı arziyenin her birinin zerrat-ı vücudiyeleri, yıldızlar gibi muntazam bir vaziyet alıp hareket ediyorlar ve vazifeler görüyorlar. Hususan zîhayatın kanındaki “küreyvat-ı hamra ve beyza” tabir ettikleri zerrelerden teşekkül eden küçücük kütleleri, seyyar yıldızlar gibi mevlevîvari iki hareket-i muntazama ile hareket ediyorlar görüyoruz.
Bir hülâsatü’l-hülâsa: (Hâşiye[7])
İsm-i a’zamın altı ismi, ziyadaki yedi renk gibi imtizaç ederek teşkil ettikleri ziya-yı kudsiyeye bakmak için bir hülâsanın zikri münasiptir. Şöyle ki:
Bütün kâinatın mevcudatını böyle durduran, beka ve kıyam veren ism-i Kayyum’un bu cilve-i a’zamının arkasından bak: İsm-i Hayy’ın cilve-i a’zamı, o bütün mevcudat-ı zîhayatı cilvesiyle şulelendirmiş, kâinatı nurlandırmış, bütün zîhayat mevcudatı cilvesiyle yaldızlıyor.
Şimdi bak: İsm-i Hayy’ın arkasında ism-i Ferd’in cilve-i a’zamı, bütün kâinatı envaıyla, eczasıyla bir vahdet içine alıyor; her şeyin alnına bir sikke-i vahdet koyuyor; her şeyin yüzüne bir hâtem-i ehadiyet basıyor; nihayetsiz ve hadsiz dillerle cilvesini ilan ettiriyor.
Şimdi ism-i Ferd’in arkasından ism-i Hakem’in cilve-i a’zamına bak ki yıldızlardan zerrelere kadar, hayalin iki dürbünüyle temaşa ettiğimiz mevcudatın her birisini, cüz’î olsun, küllî olsun, en büyük daireden en küçük daireye kadar, her birine lâyık ve münasip olarak meyvedar bir nizam ve hikmetli bir intizam ve semeredar bir insicam içine almış, bütün mevcudatı süslendirmiş, yaldızlandırmış.
Sonra ism-i Hakem’in cilve-i a’zamı arkasından bak ki ism-i Adl’in cilve-i a’zamıyla (İkinci Nükte’de izah edildiği vechile) bütün kâinatı mevcudatıyla, faaliyet-i daime içinde öyle hayret-engiz mizanlarla, ölçülerle, tartılarla idare eder ki ecram-ı semaviyeden biri, bir saniye de muvazenesini kaybetse yani ism-i Adl’in cilvesi altından çıksa yıldızlar içinde bir herc ü merce, bir kıyamet kopmasına sebebiyet verecek. İşte bütün mevcudatın daire-i a’zamı, Kehkeşan’dan yani Samanyolu tabir edilen mıntıka-i kübradan tut tâ kan içindeki küreyvat-ı hamra ve beyzanın daire-i hareketlerine kadar her bir dairesini, her bir mevcudunu hassas bir mizan, bir ölçü ile biçilmiş bir şekil ve bir vaziyetle baştan başa yıldızlar ordusundan tâ zerreler ordusuna kadar bütün mevcudatın “Emr-i kün feyekûn”den gelen emirlere kemal-i musahhariyetle itaat ettiklerini gösteriyor.
Şimdi ism-i Adl’in cilve-i a’zamı arkasından (Birinci Nükte’de izah edildiği gibi) ism-i Kuddüs’ün cilve-i a’zamına bak ki kâinatın bütün mevcudatını öyle temiz, pâk, safi, güzel, süslü, berrak yapar gösterir ki bütün kâinata ve bütün mevcudata Cemil-i Mutlak’ın hadsiz derecede cemal-i zatîsine lâyık ve nihayetsiz güzel olan esma-i hüsnasına münasip olacak güzel âyineler şeklini vermiştir.
Elhasıl: İsm-i a’zamın bu altı ismi ve altı nuru, kâinatı ve mevcudatı ayrı ayrı güzel renklerde, çeşit çeşit nakışlarda, başka başka ziynetlerde bulunan yaldızlı perdeler içinde mevcudatı sarmıştır.
Beşinci Şuâ’nın İkinci Meselesi: Kâinata tecelli eden kayyumiyetin cilvesi, vâhidiyet ve celal noktasında olduğu gibi, kâinatın merkezi ve medarı ve zîşuur meyvesi olan insanda dahi kayyumiyetin cilvesi ehadiyet ve cemal noktasında tezahürü var. Yani nasıl ki kâinat sırr-ı kayyumiyetle kaimdir öyle de ism-i Kayyum’un mazhar-ı ekmeli olan insan ile bir cihette kâinat kıyam bulur; yani kâinatın ekser hikmetleri, maslahatları, gayeleri insana baktığı için güya insandaki cilve-i kayyumiyet, kâinata bir direktir. Evet Zat-ı Hayy-ı Kayyum, bu kâinatta insanı irade etmiş ve kâinatı onun için yaratmış, denilebilir. Çünkü insan, câmiiyet-i tamme ile bütün esma-i İlahiyeyi anlar, zevk eder. Hususan rızıktaki zevk cihetiyle pek çok esma-i hüsnayı anlar. Halbuki melâikeler, onları o zevk ile bilemezler.
İşte insanın bu ehemmiyetli câmiiyetidir ki: Zat-ı Hayy-ı Kayyum, insana bütün esmasını ihsas etmek ve bütün enva-ı ihsanatını tattırmak için öyle iştihalı bir mide vermiş ki o midenin geniş sofrasını hadsiz enva-ı mat’umatıyla kerîmane doldurmuş.
Hem bu maddî mide gibi hayatı da bir mide yapmış. O hayat midesine duygular, eller hükmünde gayet geniş bir sofra-i nimet açmış. O hayat ise duyguları vasıtasıyla o sofra-i nimetten her çeşit istifadeler ile teşekküratın her nevini yapar.
Ve bu hayat midesinden sonra bir insaniyet midesini vermiş ki o mide, hayattan daha geniş bir dairede rızık ve nimet ister. Akıl ve fikir ve hayal, o midenin elleri hükmünde, semavat ve zemin genişliğinde, o sofra-i rahmetten istifade edip şükreder.
Ve insaniyet midesinden sonra hadsiz geniş diğer bir sofra-i nimet açmak için İslâmiyet ve iman akidelerini, çok rızık ister bir manevî mide hükmüne getirip onun rızık sofrasının dairesini mümkinat dairesinin haricinde genişletip esma-i İlahiyeyi de içine alır kılmıştır ki o mide ile ism-i Rahman’ı ve ism-i Hakîm’i en büyük bir zevk-i rızkî ile hisseder.
اَل۟حَم۟دُ لِلّٰهِ عَلٰى رَح۟مَانِيَّتِهٖ وَ عَلٰى حَكٖيمِيَّتِهٖ der ve hâkeza bu manevî mide-i kübra ile hadsiz nimet-i İlahiyeden istifade edebilir ve bilhassa o midedeki muhabbet-i İlahiye zevkinin daha başka bir dairesi var.
İşte Zat-ı Hayy-ı Kayyum, insanı bütün kâinata bir merkez, bir medar yaparak kâinat kadar geniş bir sofra-i nimet insana açtığının ve kâinatı insana musahhar ettiğinin ve kâinatın insan ile mazhar olduğu sırr-ı kayyumiyetle bir cihette kaim olduğunun hikmeti ise insanın mühim üç vazifesidir:
Birincisi: Kâinatta münteşir bütün enva-ı nimeti insanla tanzim etmek… Ve insanın menfaati ipiyle tesbih taneleri gibi tanzim eder, nimetlerin iplerinin uçlarını insanın başına bağlar, rahmet hazinelerinin umum çeşitlerine insanı bir liste hükmüne getirir.
İkinci Vazifesi: Zat-ı Hayy-ı Kayyum’un hitabatına, insan câmiiyeti haysiyetiyle en mükemmel muhatap olmak ve hayretkârane sanatlarını takdir ve tahsin etmekle en yüksek sesli bir dellâl olmak ve şuurdarane teşekküratın bütün envaıyla bütün enva-ı nimetine ve çeşit çeşit hadsiz ihsanatına şükür ve hamd ü sena etmektir.
Üçüncü Vazifesi: Hayatı ile üç cihetle Zat-ı Hayy-ı Kayyum’a ve şuunatına ve sıfât-ı muhitasına âyinedarlık etmektir.
Birinci Vecih: İnsan, kendi acz-i mutlakıyla Hâlık’ının kudret-i mutlakasını ve derecatını; ve aczin dereceleriyle kudretin mertebelerini hissetmektir. Ve fakr-ı mutlakıyla rahmetini ve rahmetinin derecelerini idrak etmek ve zaafıyla onun kuvvetini anlamaktır. Ve hâkeza noksan sıfatlarıyla Hâlık’ının evsaf-ı kemaline mikyasvari âyine olmak. Gecede nurun daha ziyade parlamasına nazaran, gece zulmetinin elektrik lambalarını göstermeye mükemmel bir âyine olduğu gibi insan dahi böyle nâkıs sıfatlarıyla kemalât-ı İlahiyeye âyinedarlık eder.
İkinci Vecih: İnsan, cüz’î iradesiyle ve azıcık ilmiyle ve küçücük kudretiyle ve zâhirî mâlikiyetiyle ve hanesini bina etmesiyle, bu kâinat ustasının mâlikiyetini ve sanatını ve iradesini ve kudretini ve ilmini, kâinatın büyüklüğü nisbetinde anlar, âyinedarlık eder.
Üçüncü Vecih’teki âyinedarlığın iki yüzü var:
Birisi, esma-i İlahiyenin ayrı ayrı nakışlarını kendinde göstermektir. Âdeta insan, câmiiyetiyle kâinatın küçük bir fihristesi ve bir misal-i musağğarası hükmünde olup umum esmanın nakışlarını gösteriyor.
İkinci yüzü, şuunat-ı İlahiyeye âyinedarlık eder. Yani kendi hayatıyla Zat-ı Hayy-ı Kayyum’un hayatına işaret ettiği gibi kendi hayatında inkişaf eden sem’ ve basar gibi duyguların vasıtasıyla, Zat-ı Hayy-ı Kayyum’un sem’ ve basar gibi sıfatlarına âyinedarlık eder, bildirir. Hem insan, hayatında bulunan ve inkişaf etmeyen ve his ve hassasiyet suretinde galeyan eden ve kesretli bir surette olan çok ince hayatî duygular, manalar ve hisler vasıtasıyla, Zat-ı Hayy-ı Kayyum’un şuunat-ı kudsiyesine âyinedarlık eder. Mesela, o hassasiyet içinde sevmek, iftihar etmek, memnun olmak, mesrur olmak, müferrah olmak gibi manalar ile Zat-ı Akdes’in kudsiyetine ve gına-yı mutlakına münasip ve lâyık olmak şartıyla, o neviden olan şuunatına âyinedarlık eder.
Hem insan, nasıl ki hayat-ı câmiasıyla Zat-ı Zülcelal’in sıfât ve şuunatına bir mikyas-ı marifettir ve cilve-i esmasına bir fihristedir ve şuurlu bir âyinedir ve hâkeza çok cihetlerle Zat-ı Hayy-ı Kayyum’a âyinedarlık eder. Öyle de insan, şu kâinatın hakaiklerine bir vâhid-i kıyasîdir, bir fihristedir, bir mikyastır ve bir mizandır.
Mesela, kâinatta Levh-i Mahfuz’un gayet kat’î bir delil-i vücudu ve bir numunesi, insandaki kuvve-i hâfızadır ve âlem-i misalin vücuduna kat’î delil ve numune, kuvve-i hayaliyedir (Hâşiye[8]) ve kâinattaki ruhanîlerin bir delil-i vücudu ve numunesi, insandaki kuvvelerdir ve latîfelerdir ve hâkeza… İnsan, küçük bir mikyasta, kâinattaki hakaik-i imaniyeyi şuhud derecesinde gösterebilir.
İşte insanın mezkûr vazifeler gibi çok mühim hizmetleri var. Cemal-i bâkiye âyinedir, kemal-i sermedîye dellâl-ı mazhardır ve rahmet-i ebediyeye muhtac-ı müteşekkirdir. Madem cemal, kemal, rahmet bâkidirler ve sermedîdirler; elbette o cemal-i bâkinin âyine-i müştakı ve o kemal-i sermedînin dellâl-ı âşığı ve o rahmet-i ebediyenin muhtac-ı müteşekkiri olan insan, bâki kalmak için bir dâr-ı bekaya girecek ve o bâkilere refakat için ebede gidecek ve o ebedî cemal ve o sermedî kemal ve daimî rahmete, ebedü’l-âbâdda refakat etmek gerektir, lâzımdır.
Çünkü ebedî bir cemal, fâni bir müştaka ve zâil bir dosta razı olmaz. Çünkü cemal, kendini sevdiği için sevmesine mukabil muhabbet ister. Zeval ve fena ise o muhabbeti adâvete kalbeder, çevirir.
Eğer insan ebede gidip bâki kalmazsa fıtratındaki cemal-i sermedîye karşı olan esaslı muhabbet yerine adâvet bulunacaktır. Onuncu Söz’ün hâşiyesinde beyan edildiği gibi bir zaman bir dünya güzeli, bir âşığını huzurundan çıkarıyor. O adamdaki aşk, birden adâvete dönüyor ve diyor ki: “Tuh! Ne kadar çirkindir.” diyerek kendine teselli vermek için cemalinden küsüyor, cemalini inkâr ediyor. Evet, insan bilmediği şeye düşman olduğu gibi, eli yetişmediği veyahut tutamadığı şeylerin adâvetkârane kusurlarını arar, âdeta düşmanlık etmek ister.
Madem bütün kâinatın şehadetiyle Mahbub-u Hakiki ve Cemil-i Mutlak, bütün güzel esma-i hüsnasıyla kendini insana sevdiriyor ve insanların kendini sevmelerini istiyor; elbette ve herhalde, kendisinin hem mahbubu, hem habibi olan insana fıtrî bir adâveti verip derinden derine kendinden küstürmeyecek ve fıtraten en ziyade sevimli ve muhabbetli ve perestiş için yarattığı en müstesna mahluku olan insanın fıtratına bütün bütün zıt olarak bir gizli adâveti, insanın ruhuna vermeyecek.
Çünkü insan, sevdiği ve kıymetini takdir ettiği bir Cemal-i Mutlak’tan ebedî ayrılmaktan gelen derin yarasını; ancak ona adâvetle, ondan küsmekle ve onu inkâr etmekle tedavi edebilir. İşte kâfirlerin Allah’ın düşmanı olması, bu noktadan ileri geliyor. Öyle ise herhalde o Cemal-i Ezelî, kendisinin âyine-i müştakı olan insan ile ebedü’l-âbâd yolunda seyahatinde beraber bulunmak için alâküllihal bir dâr-ı bekada bir hayat-ı bâkiyeye insanı mazhar edecek.
Evet, madem insan fıtraten bir Cemal-i Bâki’ye müştak ve muhib bir surette halk edilmiştir. Ve madem bâki bir cemal, zâil bir müştaka razı olamaz. Ve madem insan bilmediği veya yetişemediği veya tutamadığı bir maksuddan gelen hüzün ve elemden teselli bulmak için, o maksudun kusurunu bulmakla, belki gizli adâvet etmekle kendini teskin eder. Ve madem bu kâinat, insan için halk edilmiş ve insan ise marifet ve muhabbet-i İlahiye için yaratılmış. Ve madem bu kâinatın Hâlık’ı, esmasıyla sermedîdir. Ve madem esmalarının cilveleri daim ve bâki ve ebedî olacaktır; elbette ve herhalde insan, bir dâr-ı bekaya gidecek ve bir hayat-ı bâkiyeye mazhar olacaktır.
Ve insanın kıymetini ve vazifelerini ve kemalâtını bildiren rehber-i a’zam ve insan-ı ekmel olan Muhammed-i Arabî aleyhissalâtü vesselâm, insana dair beyan ettiğimiz bütün kemalâtı ve vazifeleri en ekmel bir surette kendinde ve dininde göstermesiyle gösteriyor ki nasıl kâinat, insan için yaratılmış ve kâinattan maksud ve müntehab insandır; öyle de insandan dahi en büyük maksud ve en kıymettar müntehab ve en parlak âyine-i Ehad ve Samed, elbette Ahmed-i Muhammed’dir.
عَلَي۟هِ وَ عَلٰى اٰلِهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ بِعَدَدِ حَسَنَاتِ اُمَّتِهٖ
يَا اَللّٰهُ يَا رَح۟مٰنُ يَا رَحٖيمُ يَا فَر۟دُ يَا حَىُّ يَا قَيُّومُ يَا حَكَمُ يَا عَد۟لُ يَا قُدُّوسُ
نَس۟ئَلُكَ بِحَقِّ فُر۟قَانِكَ ال۟حَكٖيمِ وَ بِحُر۟مَةِ حَبٖيبِكَ ال۟اَك۟رَمِ وَ بِحَقِّ اَس۟مَائِكَ ال۟حُس۟نٰى وَ بِحُر۟مَةِ اِس۟مِكَ ال۟اَع۟ظَمِ اِح۟فَظ۟نَا مِن۟ شَرِّ النَّف۟سِ وَ الشَّي۟طَانِ وَ مِن۟ شَرِّ ال۟جِنِّ وَ ال۟اِن۟سَانِ اٰمٖينَ
سُب۟حَانَكَ لَا عِل۟مَ لَنَٓا اِلَّا مَا عَلَّم۟تَنَٓا اِنَّكَ اَن۟تَ ال۟عَلٖيمُ ال۟حَكٖيمُ
- ↑ يجب ألّا ننسى أن الخصال القبيحة، والاعتقادات الباطلة، والذنوب والآثام، والبدع، كلها من الأوساخ المعنوية. (المؤلف).
- ↑ وردت في هذا المعنى أحاديث كثيرة انظر: مسلم، الطهارة ١؛ الترمذي، الدعوات ٨٦؛ الدارمي، الوضوء ٢؛ ابن حبان، الصحيح ٢٩٤/١٢؛ احمد بن حنبل، المسند ٣٤٢/٥، ٣٤٤؛ الطبراني، المعجم الكبير ٢٨٤/٣؛ البيهقي، شعب الايمان ١/ ٤٥.
- ↑ إذا ما حُسب ما يلزم مدفأة قصر الكون ومصباحه وهو الشمس كم تحتاج يومياً من الوقود ومن الزيت للإضاءة، نرى أنها بحساب الفلكيين بحاجة إلى مليون ضعف حجم الكرة الأرضية من الوقود و ألوف الأضعاف من حجم البحار من الزيوت. فتأمل في عظمة الخالق القدير ذي الجلال الذي يوقد تلك المدفأة ويشعل ذلك السراج الوهاج من دون وقود ولا زيت، ويشعلها بلا انقطاع. تدبّر في سعة حكمته وطلاقة قدرته، وقل: سبحان الله.. ما شاء الله.. تبارك الله.. بعدد ذرات الشمس. (المؤلف).
- ↑ حتى إن التوحيد هو نفسه أوضح برهان، وأسطع دليل على الكمال والجمال الإلهي، لأنه إذا عُرف أن صانع الكون واحد أحد، فسيُعرف جميع أنواع الكمال والجمال المشاهدة في الوجود، بأنها ظلال وتجليات وعلامات لأنواع الكمال المقدس وأنماط الجمال المنزّه لذلك الصانع الواحد الأحد لذلك الكمال المقدس والجمال المنزه، بينما إذا لم يُعرف الصانعُ الواحد، فستحال تلك الكمالات وأنواع الجمال إلى الأسباب التي لا شعور لها وإلى مخلوقات عاجزة، وعندها يحار العقل البشري أمام خزائن الكمال والجمال السرمديين، لأنه فقد مفتاح تلك الكنوز الخالدة. (المؤلف).
- ↑ إن لم يكن قارئ هذه الرسالة على اطلاع واسع على العلوم، فعليه ألّا يقرأ هذا الشعاع، أو يقرأه في الختام، وليشرع من الشعاع الثاني.(المؤلف).
- ↑ الهيولى: لفظ يوناني معناه عند الفلاسفة: المادة الأولى المجردة عن الصورة من حجم وامتداد ولون وما أشبه ذلك.
- ↑ Hâşiye: Otuzuncu Lem’a’nın altı risaleciğinin esası ve mevzuu ve ism-i a’zamın sırrını taşıyan altı mukaddes isimlerin gayet kısa bir hülâsalarıdır.
- ↑ Hâşiye: Evet, nasıl ki insanın anâsırları, kâinatın unsurlarından; ve kemikleri, taş ve kayalarından; ve saçları, nebat ve eşcarından; ve bedeninde cereyan eden kan ve gözünden, kulağından, burnundan ve ağzından akan ayrı ayrı suları, Arzın çeşmelerinden ve madenî sularından haber veriyorlar, delâlet edip onlara işaret ediyorlar. Aynen öyle de insanın ruhu, âlem-i ervahtan ve hâfızaları, Levh-i Mahfuz’dan ve kuvve-i hayaliyeleri, âlem-i misalden ve hâkeza her bir cihazı bir âlemden haber veriyorlar ve onların vücudlarına kat’î şehadet ederler.