الكلمة التاسعة

    Risale-i Nur Tercümeleri sitesinden
    09.52, 22 Ocak 2024 tarihinde Said (mesaj | katkılar) tarafından oluşturulmuş 68707 numaralı sürüm
    Diğer diller:

    الكلمة التاسعة

    بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

    ﴿ فَسُبْحَانَ اللّٰهِ ح۪ينَ تُمْسُونَ وَح۪ينَ تُصْبِحُونَ ❀ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ وَعَشِيًّا وَح۪ينَ تُظْهِرُونَ ﴾ (الروم:17-18)

    أيها الأخ! تَسألُني عن حكمةِ تَخصيصِ الصَّلاةِ في هذه الأوقاتِ الخمسةِ المعيَّنةِ، فسَنشيرُ إلى حِكمةٍ واحدةٍ فقط من بين حِكَمها الوَفيرةِ.

    نعم، كما أنَّ وقتَ كلِّ صَلاةٍ بدايةُ انقلابٍ زَمنيٍّ عظيمٍ ومُهمٍّ، فهو كذلك مرآةٌ لتصرُّفٍ إلهيٍّ عَظيمٍ، ومَعكِسٌ لآلاءٍ إلهيةٍ كُليَّةٍ في ذلك التَّصرف؛ لهذا فقد أُمِرَ في تلك الأوقاتِ بالصَّلاةِ، أي الزِّيادةِ من التَّسبيحِ والتعْظيمِ للقديرِ ذي الجلالِ، والإكثارِ من الحمدِ والشُّكرِ لنِعَمِه التي لا تُحصَى والتي تَجمَّعتْ بين الوقتَينِ.. ولأجل فَهمِ بَعضٍ من هذا المعنَى العَميقِ الدَّقيقِ، يَنبغِي الإصغاءُ -مع نفسي- إلى خمسِ نِكاتٍ. (*[1])

    النكتة الأولى

    إن معنَى الصَّلاةِ هو التَّسبيحُ والتعْظيمُ والشُّكرُ لله تعالى، أي تَقديسُه جلَّ وعلا تِجاهَ جَلالِه قَولا وفِعلا بقول: «سبحان الله»، وتَعظيمُه تِجاهَ كمالِه لَفظًا وعمَلا بقول: «الله أكبر»، وشُكرُه تجاهَ جمالِه قلبًا ولِسانًا وجِسمًا بقولِ: «الحمد لله».

    أي إنَّ التَّسبيحَ والتَّكبيرَ والتحمِيدَ هو بمثابةِ نُوَى الصَّلاةِ وبُذُورِها، فوُجِدتْ هذه الثَّلاثةُ في جميعِ حَركاتِ الصَّلاةِ وأذكارِها، ولهذا أيضا تُكرَّرُ هذه الكلماتُ الطيبةُ الثَّلاثُ ثلاثًا وثلاثِين مرةً عقِبَ الصَّلاةِ؛ وذلك للتأكيدِ على معنَى الصَّلاةِ وتَرسيخِه، إذ بهذه الكلماتِ الموجَزةِ المُجمَلة يؤكَّدُ معنى الصَّلاةِ ومَغزاهاَ.

    النكتة الثانية

    إنَّ معنى العبادةِ هو سُجودُ العبدِ بمحبةٍ خالصةٍ وبتقديرٍ وإعْجابٍ في الحضرةِ الإلهيّةِ؛ أمامَ كمالِ الرُّبوبيةِ والقُدرَةِ الصَّمدانيةِ والرَّحمةِ الإلهيةِ مُشاهِدًا في نفسه تَقصيرَه وعَجزَه وفقرَه.

    نعم، كما أن سلطنةَ الرُّبوبيةِ تتَطلَّبُ العبودِيّةَ والطاعةَ، فإن قُدسِيتَها ونَزاهتَها تتَطلبُ أيضا أن يُعلِن العَبدُ -مع استغفارِه برؤيةِ تقصيرِه- أنَّ ربَّه مُنزّهٌ عن أيِّ نقصٍ، وأنه مُتعالٍ على جميعِ أفكارِ أهل الضلالةِ الباطِلةِ، وأنه مُقدَّسٌ من جميع نقائِص الكائناتِ، أيْ أن يُعلِنَ ذلك كلَّه بتسبيحِه بقوله: «سبحان الله».

    وكذا قُدرَةُ الرُّبوبيةِ الكامِلةُ تَتطلَّبُ من العبدِ أيضا أن يَلتجِئَ إليها، ويتَوكلَ عليها لرُؤيتِه ضَعفَ نفسِه الشديدَ وعجزَ المخلوقاتِ قائلا «الله أكبر» بإعجابٍ وتَقديرٍ واستِحسانٍ تِجاهَ عظمةِ آثار القُدرةِ الصَّمدانيةِ، ماضِيًا إلى الركوع بكلِّ خُضوعٍ وخُشوعٍ.

    وكذا رَحمةُ الرُّبوبيةِ الواسِعةُ تتَطلبُ أيضا أن يُظهِرَ العبدُ حاجاتِه الخاصَّةَ وحاجاتِ جميعِ المخلوقاتِ وفقرَها بلسانِ السُّؤالِ والدُّعاءِ، وأنْ يُعلِنَ إحسانَ ربِّه وآلاءَه العَمِيمةَ بالشُّكرِ والثناءِ والحمدِ بقوله «الحمد لله».

    أيْ إنَّ أفعالَ الصَّلاةِ وأقوالَها تتَضمَّنُ هذه المعانيَ، ولأجلِ هذه المعاني فُرضَتِ الصَّلاةُ من لدُنهُ سبحانَه وتعالى.

    النكتة الثالثة

    كما أنَّ الإنسانَ هو مثالٌ مُصغَّرٌ لهذا العالم الكبير، وأنَّ سورةَ الفاتحةِ مِثالٌ مُنوَّرٌ للقرآنِ العظيمِ، فالصَّلاةُ كذلك فِهرِسٌ نورانيٌّ شاملٌ لجميع العباداتِ، وخَريطةٌ سامِيةٌ تشِيرُ إلى أنماطِ عِباداتِ المخلوقاتِ جَميعًا.

    النكتة الرابعة

    إنَّ عقاربَ السَّاعةِ التي تَعُدُّ الثواني والدقائقَ والسَّاعاتِ والأيامَ، كلٌّ منها يُناظرُ الآخَرَ، ويُمثِّلُ الآخَرَ، ويَأخذُ كلٌّ منها حُكمَ الآخرِ. كذلك في عالم الدنيا الذي هو ساعةٌ إلهيةٌ كبرَى، فإنَّ دوَرانَ الليلِ والنهارِ الذي هو بِحُكمِ الثواني للساعةِ، والسَّنواتِ التي تَعُدُّ الدقائِقَ، وطبقاتِ عُمُرِ الإنسانِ التي تَعدُّ الساعاتِ، وأدوارَ عُمُرِ العالم التي تَعُدُّ الأيامَ، كلٌّ منها يُناظِرُ الآخرَ، ويَتشَابَه معه، ويُماثِلُه، ويُذكِّرُ كلٌّ منها الآخرَ، ويأخذُ حُكمَه، فمثلا:

    وَقتُ الفجرِ إلى طلوعِ الشَّمسِ: يُشْبِه ويُذكِّرُ ببدايةِ الربيعِ وَأوّلِه، وبأوانِ سُقوطِ الإنسانِ في رَحِمِ الأمِّ، وباليومِ الأوّلِ من الأيامِ السِّتةِ في خَلقِ السَّمواتِ والأرضِ، فَينبِّهُ الإنسانَ إلى ما في تلك الأوقاتِ من الشُّؤونِ الإلهيةِ العَظيمةِ.

    أمّا وَقتُ الظُّهرِ: فهو يُشبِه ويُشيرُ إلى مُنتصَفِ الصَّيفِ، وإلى عُنفُوانِ الشبابِ، وإلى فَترةِ خلقِ الإنسان في عُمُرِ الدنيا، ويُذكِّر ما في ذلك كلِّه من تجلياتِ الرحمةِ وفُيوضاتِ النِّعمةِ.

    أمّا وَقتُ العَصرِ: فهو يُشبِه مَوسِمَ الخريفِ، وزمنَ الشيخوخةِ، وعَصرَ السعادةِ الذي هو عَصرُ خاتمِ الرسُل محمدٍ عليه الصّلاةُ والسّلامُ، ويُذكِّرُ بما في ذلك كلِّه من الشؤونِ الإلهيةِ والآلاءِ الرَّحمانيةِ.

    أمّا وَقتُ المغربِ: فإنه يُذكِّرُ بغروبِ أغْلبِ المخلوقاتِ وأفُولِها نِهايةَ الخريفِ، ويُذكِّر أيضا بوفاةِ الإنسانِ، وبِدمارِ الدنيا عِندَ قِيامِ الساعةِ؛ ومع ذلك فهو يُعلِّمُ التَّجلياتِ الجلاليةَ، ويُوقِظُ الإنسانَ من نَومِ الغَفلةِ ويُنبِّهُه.

    أمّا وَقتُ العِشاءِ: فَيذكِّر بغَشَيانِ عالَمِ الظَلامِ وسَترِه آثارَ عالم النهارِ بكَفنِه الأسْودِ؛ ويُذكِّر أيضا بتغطيةِ الكَفَنِ الأبيضِ للشتاءِ وَجهَ الأرض الميتةِ، وبوفاةِ حتى آثارِ الإنسانِ المُتوفَّى ودُخولِه تحتَ سِتارِ النِّسيانِ، وبانسِدادِ أبوابِ دارِ امتِحانِ الدنيا نهائِيًا، ويُعلِنُ في ذلك كلِّه تَصرُّفاتٍ جَلاليةً للقهارِ ذي الجلالِ.

    أمّا وَقتُ الليلِ: فإنه يُذكِّرُ بالشتاءِ، وبالقَبرِ، وبعالَمِ البرزخِ، فضلا عن أنَّه يُذكِّرُ روحَ الإنسانِ بمدَى حاجَتِها إلى رَحمةِ الرَّحمنِ. أمّا التهَجدُ في الليلِ: فإنه يُذكِّرُ بضرورَتِه ضِياءً لِلَيلِ القبرِ، ولظلماتِ عالَمِ البَرزَخِ، ويُنبِّهُ ويُذكِّرُ بنِعمٍ غيرِ متناهيةٍ للمُنعِم الحقيقيِّ عَبرَ هذه الانقلاباتِ، ويُعلِنُ أيضا عن مدَى أهْليَّةِ المنعِمِ الحقيقيِّ للحَمدِ والثناءِ.

    أمّا الصباحُ الثاني: فإنه يُذكِّرُ بصباحِ الحشرِ.. نعم، كما أنّ مَجيءَ الصُّبحِ لهذا الليلِ، ومَجيءَ الربيعِ لهذا الشتاءِ مَعقُولٌ وضَرُورِيٌ وحَتمِيٌّ، فإنَّ مجيءَ صباحِ الحشرِ ورَبيعِ البرزخِ هما بالقطعيةِ والثُّبوتِ نَفسَيْهِما.

    فكلُّ وَقتٍ إذن -من هذه الأوقاتِ الخمسةِ- كما هو بِدايةُ انقلابٍ عَظيمٍ، ويُذكِّر بانقلاباتٍ أُخرَى عَظيمةٍ، فهو يُذكِّرُ أيضا بمعجزاتِ القُدرَةِ الصَّمدانِيةِ وهدايا الرَّحمةِ الإلهيةِ، سواءٌ منها السَّنوِيّةُ أوِ العَصرِيّةُ أو الدَّهرِيّةُ، بإشاراتِ تَصرفاتِها اليَومِيّةِ العظيمةِ. أيْ إنَّ الصَّلاةَ المفروضةَ التي هي وَظِيفةُ الفِطرَةِ وأساسُ العُبودِيّةِ والدَّينُ المفروضُ، لائِقةٌ جدًّا ومُناسِبةٌ جِدًّا في أن تكونَ في هذه الأوقاتِ حقًّا.

    النكتة الخامسة

    إن الإنسانَ بفطرتِه ضَعيفٌ جدا، ومع ذلك فما أكثرَ المُنغِّصاتِ التي تُورِثُه الحُزنَ والألَم؛ وهو في الوَقتِ نَفسِه عاجزٌ جدا، مع أن أعداءَه ومَصائِبَه كثيرةٌ جدا؛ وهو فَقيرٌ جدا مع أن حَاجاتِه كَثِيرةٌ وشديدةٌ؛ وهو كَسُولٌ وبلا اقتدارٍ مع أنَّ تكاليفَ الحياة ثقيلةٌ عليه؛ وإنسانِيتُه جَعلته يَرتبِطُ بالكونِ جميعا مع أنَّ فراقَ ما يُحبُّه وزوالَ ما يَستأنِسُ به يُؤلمانِه، وعَقلُه يُريهِ مَقاصدَ سامِيةً وثمارًا باقِيةً، مع أن يدَه قصِيرةٌ، وعُمُرَه قصِيرٌ، وقُدرَتَه محدُودةٌ وصبرَه مَحدودٌ.

    فروحُ الإنسانِ في هذه الحالةِ: في وَقتِ الفَجرِ أَحْوجُ ما تكونُ إلى أن تَطرقَ -بالدعاءِ والصَّلاةِ- بابَ القديرِ ذي الجلالِ، وبابَ الرَّحيمِ ذي الجمالِ، عارِضةً حالَها أمامَه، سائِلةً التوفيقَ والعونَ منه سبحانَه؛ وما أشَدَّ افتقارَ تلك الرُّوحِ إلى نُقطةِ استِنادٍ كي تتَحمَّلَ ما سيأتي أمامَها من أعمالٍ، وما ستَحمِلُ على كاهِلِها من وَظائفَ في عالم النهارِ الذي يَعقُبُه.. ألا يُفهَمُ ذلك بَداهةً؟

    وعندَ وَقتِ الظُّهرِ ذلك الوقتِ الذي هو ذِروةُ كمالِ النهارِ وميَلانُه إلى الزَّوالِ، وهو أَوَانُ تكامُلِ الأعمالِ اليومِيّةِ، وفَترةُ استِراحةٍ مُؤقَّتةٍ من عَناءِ المشاغِلِ.. وهو وقتُ حاجةِ الروحِ إلى التنفُّسِ والاستِرواحِ مما تُعطِيهِ هذه الدنيا الفانِيةُ والأشغالُ المرهِقةُ المؤقَّتةُ من غَفلةٍ وحَيرةٍ واضْطِرابٍ فضلا عن أنه أوانُ تَظاهرِ الآلاءِ الإلهيةِ.

    فَخلاصُ رُوحِ الإنسانِ من تلك المضايَقاتِ، وانسلالُها من تلك الغَفلةِ والحَيرةِ، وخُروجُها من تلك الأمورِ التافهةِ الزائلةِ، لا يكونُ إلّا بالالتجاءِ إلى باب القيُّومِ الباقِي -وهو المنعِمُ الحقيقيُّ- بالتضَرعِ والتوسُّلِ أمامَه مكتوفَ اليدَينِ شاكرًا حامِدًا لمَجموعِ نِعمِه، مُستَعينًا به وَحدَه، مع إظهارِ العَجزِ أمامَ جلالِه وعظمَتِه بالرُّكوعِ، وإعْلانِ الذُّلِّ والخضوعِ -بإعجابٍ وتَعظيمٍ وهُيامٍ- بالسجودِ أمامَ كمالِه الذي لا يزولُ، وأمامَ جمالِه الذي لا يحول.. وهذا هو أداءُ صلاةِ الظهرِ، فما أجمَلها، وما ألذَّها، وما أَجْدرَها، وما أعظمَ ضَرورَتها! ومن ثَمَّ فلا يَحسَبنّ الإنسانُ نفسَه إنسانًا إن كان لا يَفهمُ هذا.

    وعند وقتِ العَصرِ الذي يُذكِّرُ بالموسِمِ الحزينِ للخريفِ، وبالحالةِ المحزنةِ للشيخوخةِ، وبالأيامِ الأليمةِ لآخِر الزَّمانِ، وبوَقتِ ظهورِ نَتائِجِ الأعمال اليَومِيّةِ، فهو فَترةُ حُصولِ المجموعِ الكُليِّ الهائِل للنِّعمِ الإلهيةِ، أمثالِ التَّمتُّعِ بالصِّحةِ والتنَعُّمِ بالعافِيةِ، والقيامِ بخدماتٍ طَيبةٍ؛ وهو كذلك وَقتُ الإعلانِ بأن الإنسانَ ضَيفٌ مَأمورٌ، وبأن كلَّ شيءٍ يَزولُ، وهو بلا ثباتٍ ولا قَرارٍ، وذلك بما يُشيرُ إليهِ انحِناءُ الشَّمسِ الضَّخمةِ إلى الأفولِ.

    نعم إنَّ روحَ الإنسان التي تَنشُدُ الأبديّةَ والخلود، وهي التي خُلِقتْ للبقاءِ والأبدِ، وتعشَقُ الإحسانَ، وتَتألَّمُ من الفراقِ، تَنهَضُ بهذا الإنسانِ لِيقومَ وَقتَ العَصرِ ويُسبغَ الوُضوءَ لأداءِ صلاةِ العَصر، ليُناجيَ مُتضرِّعا أمامَ بابِ الحضرةِ الصَّمدانِيّةِ، للقديمَ الباقي والقيُّومَ السرمَديَّ، وليَلتجِئَ إلى فضل رحمتِه الواسعةِ الأبديةِ، وليُقدِّمَ الشُّكرَ والحمدَ على نِعمِه التي لا تُحصَى، فَيركعَ بكلِّ ذُلٍّ وخُضوعٍ أمامَ عِزَّةِ رُبوبيَّتِه سبحانَه ويَهوِي إلى السُّجودِ بِكلِّ تَواضُعٍ وفَناءٍ أمامَ سَرمديةِ ألوهِيّتِه، ويجدَ السُّلوانَ الحقيقيَّ والرَّاحةَ التامةَ لرُوحِه بِوُقُوفِه بِعبُوديّةٍ تامةٍ وباستِعدادٍ كامِلٍ أمامَ عَظمةِ كبريائِه جل وعلا.. فما أسماها من وظيفةٍ تَأديةُ صلاةِ العصر بهذا المعنى! وما أليَقها من خِدمةٍ! بل ما أحَقَّهُ من وَقتٍ لقضاءِ دَينِ الفِطرةِ، وما أَعْظمَه من فَوزٍ للسَّعادَةِ في منتهى اللذة! فمن كان إنسانا حقا فَسيفهَمُ هذا.

    وعند وَقتِ المغربِ الذي يُذكِّرُ بوقتِ غُروبِ المخلوقاتِ اللَّطِيفةِ الجميلةِ لعالم الصَّيفِ والخريفِ في وَداعِها الحزينِ عندَ ابتِداءِ الشتاءِ، ويُذكِّر بوقتِ دُخولِ الإنسانِ القبرَ عند وفاتِه وفراقِه الأليمِ لجميع أحِبَّتِه، وبوفاةِ الدنيا كلِّها بزَلزَلةِ سَكراتِها وانتِقالِ ساكِنيها جَميعًا إلى عَوالِمَ أخرَى، ويُذكِّر كذلك بانطفاءِ مصباحِ دارِ الامتِحانِ هذه، فهو وَقتُ إيقاظٍ قويٍّ وإنذارٍ شَديدٍ لأولئكَ الذين يَعشقُونَ لِحدِّ العبادةِ المحبوباتِ التي تَغرُبُ وراءَ أفُقِ الزوالِ.

    لذا فالإنسانُ الذي يَملِكُ روحا صافيةً كالمرآة المجلُوَّة المشتاقَةِ فِطرةً إلى تجلياتِ الجمالِ الباقِي، لأجل أداءِ صَلاةِ المغربِ في مثل هذا الوقت، يُوَلِّي وَجهَه إلى عرشِ عَظمةِ مَن هو قديمٌ لم يزل، ومن هو باقٍ لا يزال، ومَن يُدبِّرُ أمرَ هذه العَوالِمِ الجسِيمةِ ويُبدِّلُها، فيُدوِّي بصوتِه قائلا: «الله أكبر» فوقَ رؤُوسِ هذه المخلوقاتِ الفانيةِ، مُطلِقا يدَه منها، مَكتوفًا في خِدمةِ مولاهُ الحقِّ مُنتصِبًا قائما عند مَن هو دائمٌ باقٍ جلَّ وعَلا.. فيقولُ: «الحمد لله» أمامَ كمالِه الذي لا نَقصَ فيه، وأمامَ جمالِه الذي لا مثيلَ له، واقِفًا أمامَه مُثنِيًا على رحمتِه الواسِعةِ.. فيقولُ: ﴿اِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ اِيَّاكَ نَسْتَع۪ينُ﴾ ليَعرِضَ عُبودِيّتَه واستِعانتَه تجاهَ ربوبيّةِ مولاه التي لا مُعِينَ لها وتجاهَ ألوهيتِه التي لا شَريكَ لها، وتجاهَ سَلطنتِه التي لا وَزيرَ لها.

    فيَركعُ إظهارًا لعجزِه وضَعفِه وفَقرِه مع الكائناتِ جميعا أمامَ كبريائِه سبحانَه التي لا منتهى لها، وأمامَ قُدرَتِه التي لا حدَّ لها، وأمامَ عِزّتِه التي لا عَجزَ فيها، مُسبِّحا ربَّه العظيمَ قائلا: «سبحان ربي العظيم».. ثم يَهوِي إلى السجودِ أمام جمالِ ذاتِه الذي لا يَزولُ، وأمامَ صفاتِه المقدسةِ التي لا تتَغيّرُ، وأمامَ كمالِ سرمَديتِه الذي لا يَتبدَّلُ، مُعلِنًا بذلك حُبَّه وعُبودِيتَه في إعجابٍ وفناءٍ وذُلٍّ، تاركا ما سِواه سبحانه قائلا: «سبحان ربي الأعلى» واجدا جميلا باقيًا ورَحيمًا سرمَديًا بدلا من كلِّ فانٍ؛ فَيقدِّسُ ربَّه الأعلى المنزَّهَ عن الزوالِ المبرّأَ من التقصيرِ..

    ويجلسُ للتَّشهُّد، فيُقدِّمُ التحياتِ المباركاتِ والصَّلواتِ الطيباتِ لجميع المخلوقاتِ هَديةً باسمِه إلى ذلك الجميلِ الذي لم يزل وإلى ذلك الجليلِ الذي لا يزال.. مجددا بَيعتَه مع رَسولِه الأكرمِ بالسلام عليه مُظهرا بها طاعتَه لأوامِره.. فيرى الانتظامَ الحكيمَ لقصر الكائناتِ هذا، ويُشهِدُه على وَحدانِيةِ الصانع ذي الجلال، فيُجدِّدُ إيمانَه ويُنوِّرُه، ثم يَشهَدُ على نُبوَّةِ دَلّالِ الربوبية ومُبلِّغِ مَرضِياتِها وتَرجُمانِ آياتِ كتابِ الكون الكبير ألا وهو محمدٌ العربيُّ ﷺ.

    فما ألطفَ وما أنزَه أداءَ صلاةِ المغرب! وما أجلَّها من مهمةٍ -بهذا المضمونِ- وما أعزَّها وأحلاها من وَظيفةٍ، وما أجمَلها وألذَّها من عُبودِيةٍ، وما أعظمَها من حَقيقةٍ أصِيلة! وهكذا نَرَى كيف أنها صُحبةٌ كريمةٌ وجَلسَةٌ مُبارَكةٌ وسَعادةٌ خالدةٌ في مثل هذه الضيافةِ الفانيةِ.. أفيحسَب مَن لم يفَهمْ هذا نفسَه إنسانًا؟!

    وعند وَقتِ العِشاءِ ذلك الوقتِ الذي تغيبُ في الأفقِ حتى تلكَ البقيةُ الباقِيةُ من آثارِ النهارِ، ويُخيِّمُ الليلُ فيه على العالم، فيُذَكِّرُ بالتصرفاتِ الربانيةِ ل«مُقلِّبِ الليلِ والنهارِ» وهو القديرُ ذو الجلال في قَلبِه تلك الصَّحيفةَ البيضاءَ إلى هذه الصَّحِيفةِ السوداءِ؛ ويُذكِّر كذلك بالإجراءاتِ الإلهيةِ ل«مُسخِّرِ الشمسِ والقَمرِ» وهو الحكيمُ ذو الكمال في قَلبِه الصحيفةَ الخضراءَ المزَيَّنةَ للصيفِ إلى الصحيفةِ البيضاءِ البارِدةِ للشتاءِ؛ ويُذكِّرُ كذلك بالشؤونِ الإلهية ل«خالقِ الموتِ والحياةِ» بانقِطاعِ الآثارِ الباقيةِ -بمرور الزمن- لأهل القبورِ من هذه الدنيا وانتقالِهم كلّيًا إلى عالَمٍ آخَرَ.

    وهو وَقتٌ يُذكِّرُ بالتصرفاتِ الجلاليةِ، وبالتجلياتِ الجماليةِ ل«خالقِ الأرضِ والسَّمواتِ»، في انكشافِ عالم الآخرةِ الواسعِ الفسِيحِ الخالدِ العَظيمِ بموتِ الدنيا الضَّيقةِ الفانيةِ الحقيرةِ، ودَمارِها دمارا تاما بسَكراتها الهائلةِ.. إنها فترةٌ -أو حَالةٌ- تُثبِتُ أنَّ المالكَ الحقيقيَّ لهذا الكون والمعبودَ الحقيقيَّ والمحبوبَ الحقيقيَّ فيه لا يمكن أن يكونَ إلّا مَن يَستَطيعُ أن يُقلِّبَ الليلَ والنهارَ والشِّتاءَ والصيفَ والدنيا والآخرةَ بسهولةٍ كسُهولةِ تَقليبِ صَفحاتِ الكتابِ، فيَكتُبُ ويُثبِتُ ويَمحُو ويُبدِّل، وليس هذا إلّا شأنَ القَديرِ المطلقِ النافذُ حُكمُه على الجميع جلّ جَلالُه.

    وهكذا فروحُ البشر التي هي في مُنتهَى العَجزِ وفي غايةِ الفقرِ والحاجةِ، والتي هي في حَيرةٍ من ظلمات المستقبلِ وفي وَجَل مما تُخفِيهِ الأيام والليالي.. تَدفَعُ الإنسانَ عند أدائِه لصَلاةِ العشاءِ -بهذا المضمون- أن لا يَتردَّدَ في أن يُردِّد على غِرار سيدِنا إبراهيمَ عليه السلام: 
﴿  لَٓا اُحِبُّ الْاٰفِل۪ينَ ﴾ (الأنعام: 76)، فيَلتجِئَ بالصلاة إلى باب مَن هو المعبودُ الذي لم يزل ومَن هو المحبوبُ الذي لا يزال، مُناجِيًا ذلك الباقيَ السرمديَّ في هذه الدنيا الفانيةِ، وفي هذا العالم الفانِي، وفي هذه الحياةِ المظلمةِ والمستَقبلِ المظلم، ليَنشُر على أرجاءِ دُنياه النورَ من خلال صُحبةٍ خاطِفةٍ ومُناجاةٍ مَؤقّتةٍ، وليُنوِّرَ مُستَقبلَه ويُضمِّد جِراحَ الزوالِ والفراقِ عما يُحبُّه من أشياءَ ومَوجُوداتٍ ومن أشخاصٍ وأصدقاءَ وأحبابٍ، بمُشاهَدةِ تَوجُّهِ رَحمةِ الرحمن الرحيم، وطَلبِ نورِ هدايتِه.

    فيَنسَى -بدوره- تلك الدنيا التي نَسِيَتْه، والتي اخْتفَتْ وراءَ العشاءِ، فيَسكُبُ عَبراتِ قلبِه، ولوعةَ صَدرِه، على عَتَبةِ بابِ تلك الرحمةِ، ليقومَ بوظيفةِ عبوديتِه النهائِيّةِ قبلَ الدخولِ فيما هو مجهولُ العاقِبةِ، ولا يَعرِفُ ما يُفعلُ به بعدَه، من نَومٍ شَبيهٍ بالموت، وليَختِمَ دَفتَر أعمالِه اليَومِيةِ بحُسنِ الخاتمةِ.

    ولأجل ذلك كلِّه يقومُ بأداء الصَّلاةِ، فيَتشرَّفُ بالمثولِ أمام مَن هو المعبودُ المحبوبُ الباقي بدلا من المحبوباتِ الفانيةِ، ويَنتصِبُ قائما أمام مَن هو القديرُ الكريمُ بدلا من جميع العجزةِ الذين يتسوَّلُ لديهم، ولِيسمُوَ بالمثول في حَضرةِ مَن هو الحفيظُ الرَّحيمُ لِينجُوَ من شرِّ من يَرتعِدُ منهم من المخلوقاتِ الضَّارةِ.

    فيَستَهِلُّ الصَّلاةَ بالفاتحةِ، أي بالمدحِ والثناءِ لربِّ العالمين الكريمِ الرحيمِ الذي هو الكاملُ المطلقُ والغنيُّ المطلقُ، بدلا من مَدحِ مخلوقاتٍ لا طائِلَ وراءَها وغَيرِ جَديرةٍ بالمدح وهي نَاقِصةٌ وفقِيرةٌ وبدلا من البقاءِ تحتَ ذُلِّ المِنَّةِ والأذَى. جَديرةٍ بالمدح وهي نَاقِصةٌ وفقِيرةٌ وبدلا من البقاءِ تحتَ ذُلِّ المِنَّةِ والأذَى.

    فيرقَى إلى مقامِ الضَّيفِ الكريمِ في هذا الكونِ، وإلى مَقامِ الموظَّفِ المرموقِ فيه رَغمَ أنه ضئيلٌ وصَغيرٌ بل هو مَعدومٌ، وذلك بسُموِّه إلى مرتبةِ خطاب ﴿ اِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ أيِ انتسابِه لمالك يوم الدِّينِ ولسلطانِ الأزل والأبد، فيُقدِّمُ بقوله: ﴿ اِيَّاكَ نَعْبُدُ وَاِيَّاكَ نَسْتَع۪ينُ ﴾

    عِباداتِ واستعاناتِ الجماعةِ الكبرى والمجتمعِ الأعظمِ لجميع المخلوقاتِ طالبًا الهدايةَ إلى الصِّراطِ المستقيمِ الذي هو طريقُه المُنوَّرُ الموصِلُ إلى السعادةِ الأبديةِ عَبر ظلماتِ المستقبلِ بقوله: ﴿اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَق۪يمَ﴾.

    ويَتفكَّرُ في كبريائِه سُبحانَه وتعالى ويتأمَّلُ في أن هذه الشموسَ المستَترةَ -التي هي كالنباتاتِ والحيواناتِ النائمةِ الآن- وهذه النُّجومَ المنتَبهةَ، جُنودٌ مطِيعةٌ مسَخّرةٌ لأمرِه جَلَّ وعلا، وأن كلَّ واحدٍ منها ما هو إلا مِصباحٌ في دار ضِيافتِه هذه، وكلَّ واحدٍ منها خادِمٌ عامِل.. فيُكبِّرُ قائلا: «الله أكبر» ليَبلُغَ الركوعَ.

    الموجوداتِ في كلِّ سنةٍ، وفي كل عَصر -كالمخلوقاتِ النائمةِ في هذا الليلِ- بل حتى الأرضَ نفسَها وحتى العالمَ كلَّه، إنما هو كالجيش المنظَّمِ، بل كالجندِيِّ المطيعِ، وعندما تُسرَّحُ المخلوقاتُ من وَظيفتِها الدُّنيويةِ بأمر: ﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ أي عندما تُرسَل إلى عالم الغيبِ تَسجُدُ في مُنتهَى النِّظامِ في الزوالِ على سَجادةِ الغروبِ مُكبِّرةً: «الله أكبر»،

    وهي تُبعَثُ وتُحشَرُ كذلك في الربيع بنفسِها أو بِمثلِها، بصَيحةِ إحياءٍ وإيقاظٍ صَادرٍ من أمرِ ﴿  كُنْ فَيَكُونُ ﴾ فَيتأَهّبُ الجميعُ في خُضوعٍ وخشُوعٍ لأمر مولاهُم الحقِّ.. فهذا الإنسانُ الضَّعيفُ اقتداءً بتلك المخلوقاتِ، يَهوِي إلى السُّجودِ أمام دِيوانِ الرحمن ذي الكمالِ والرَّحيمِ ذي الجمال قائلا: «الله أكبر» في حُبٍّ غامرٍ بالإعجابِ وفي فَنائيّةٍ مُفعَمةٍ بالبقاءِ وفي ذُلٍّ مُكلَّلٍ بالعِزِّ.

    فلا شكَّ يا أخي أنَّك قد فهِمتَ أنَّ أداءَ صلاةِ العِشاءِ سُمُوٌّ وصُعودٌ فيما يُشبِه المعراجَ، وما أجمَلها من وظيفةٍ! وما أحلاها من واجبٍ! وما أسْماها من خِدمةٍ! وما أعزَّها وألذَّها من عُبودِيّةٍ! وما أليَقَها من حقيقةٍ أصِيلةٍ! أيْ إنَّ كلَّ وقتٍ من هذه الأوقاتِ إشاراتٌ لانقِلابٍ زمنيٍّ عظيمٍ، وأماراتٌ لإجراءاتٍ ربانيةٍ جَسيمةٍ، وعلاماتٌ لإنْعاماتٍ إلهيةٍ كليةٍ.. لذا فإن تخصيصَ صَلاةِ الفرضِ -التي هي دَينُ الفطرةِ- في تلك الأوقاتِ هو منتهى الحِكمةِ.

    سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَٓا اِلَّا مَا عَلَّمْتَنَاۜ اِنَّكَ اَنْتَ الْعَل۪يمُ الْحَك۪يمُ

    اَللّهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى مَن أرْسَلْتَهُ مُعَلِّما لِعِبَادِكَ، لِيُعَلِّمَهُم كَيفِيَّة مَعْرِفَتكَ وَالْعُبُودِيَّة لَكَ، وَمُعَرِّفا بِكُنُوزِ أسْمَائِكَ، وَتَرجمَانا لِآيَاتِ كِتَابِ كَائِنَاتِكَ، وَمِرآةً بِعُبُودِيَّتِهِ لِجَمَالِ رُبُوبِيَّتِكَ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أجْمَعِينَ. وَارْحَمْنَا وَارحَمِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، آمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.



    الكلمة الثامنة | الكلمات | الكلمة العاشرة

    1. * النُّكتةُ: هي مَسألةٌ لطِيفةٌ أُخرِجتْ بدقَّةِ نظرٍ وإمعانِ فِكرٍ، وسُمِّيتِ المسألةُ الدقيقةُ نكتةً لتأثيرِ الخواطِر في استِنباطِها. التعريفات للجرجاني.