المكتوب الأول
بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ
بِاسْمِهِ سُبحَانَهُ
المكتوب الأول
بِاسْمِهِ سُبحَانَهُ
﴿وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه۪﴾
«جواب مختصر عن أربعة أسئلة»
السؤال الأول:
هل سيدُنا الخضر عليه السلام على قيد الحياة؟ فإن كان على قيد الحياة فلِمَ يعترض على حياته عددٌ من العلماء الأَجلَّاء؟
الجواب: إنَّه على قيد الحياة، إلّا أنَّ للحياة خمسَ مراتبَ، وهو في المرتبة الثانية منها، ولهذا شَكَّ عدد من العلماءِ في حياته.
الطبقة الأولى من الحياة: هي حياتُنا نحن؛ التي هي مقيدة بكثير من القيود.
الطبقة الثانية من الحياة: هي طبقةُ حياة سيدنا الخضر وسيدنا إلياس عليهما السلام والتي فيها شيء من التحرر من القيود، أي يمكنهما أن يكونا في أماكن كثيرة في وقت واحد، وأن يأكلا ويشربا متى شاءا. فهما ليسا مُضطرَّين ومقيدين بضرورات الحياة البشرية دائماً مِثلَنا. ويروي أَهلُ الكشف والشهود من الأَولياءِ بالتواتر حوادثَ واقعةً عن هذه الطبقة. فهذه الروايات تُثبتُ وجودَ هذه الطبقة من الحياة وتنوّرها، حتى إنَّ في مقامات الولاية مَقاماً يُعبَّرُ عنه بـ «مقام الخضر». فالولي الذي يبلغ هذا المقام يجالس الخضر عليه السلام ويتلقَّى عنه الدرس، ولكن يُظن أحياناً خَطأً أَنَّ صاحبَ هذا المقام هو الخضر بعينه.
الطبقة الثالثة من الحياة: هي طبقة حياة سيدنا إدريس وسيدنا عيسى عليهما السلام. هذه الطبقة تكتسب لطافةً نورانية بالتجرد من ضرورات الحياة البشرية والدخول في حياة شبيهة بحياة الملائكة؛ فهما يوجَدان في السماوات بجسمَيهما الدنيويين، الذي هو بلطافة بَدَنٍ مثالي ونورانيةِ جسدٍ نجميّ.
والحديث الشريف الوارد أن سيدنا عيسى عليه السلام يَنْـزِلُ في آخر الزمان ويحكم بالشريعة المحمدية ([1]) حكمته هي الآتي:
إنه إزاء ما تُجريهِ الفلسفةُ الطبيعية من تيار الإلحاد وإنكار الأُلوهية في آخر الزمان، تتصفى العيسوية وتتجردُ من الخرافات. وفي أثناء انقلابها إلى الإسلام، يُجرِّدُ شخصُ العيسوية المعنويُّ سيفَ الوحي السماوي ويقتل شخصَ الإلحاد المعنويّ، كما أن عيسى عليه السلام الذي يمثل الشخصَ المعنويَّ للعيسوية يقتل الدَّجالَ المُمثِّلَ للإلحاد في العالم. بمعنى أنه يقتل مفهوم إنكار الألوهية.
الطبقة الرابعة من الحياة: هي حياة الشهداء، الثابتة بنص القرآن الكريم، أن لهم طبقة حياة أعلى وأسمى من حياة الأموات في القبور. نعم! إنَّ الشهداء الذين ضحّوا بحياتهم الدنيوية في سبيل الحق، ينعمُ عليهم سبحانه وتعالى بكمال كرمه حياةً شبيهةً بالحياة الدنيوية في عالم البرزخ؛ إلّا أنها بلا آلام ولا متاعب ولا هموم؛ حيث لا يعلمون أنهم قد ماتوا، بل يعلمون أنهم قد ارتحلوا إلى عالم أفضل، لذا يستمتعون متعة تامة ويتنعمون بسعادة كاملة؛
إذ لا يشعرون بما في الموت من ألم الفراق عن الأحبة، كما هو لدى الأموات الآخرين الذين يعلمون أَنهم قد ماتوا، رغم أَنَّ أرواحَهم باقيةٌ؛ لذا فاللذةُ والسَّعادة التي يستمتعون بها في عالم البرزخ قاصرةٌ عن اللذة التي يتمتع بها الشهداء. وهذا نظير المثال الآتي:
شخصان رأيا في المنام أنهما قد دخلا قصراً جميلاً كالجنَّة. أحدهما يعلم أن ما يراه هو رؤيا. فاللذة التي يحصل عليها تكون ناقصةً جداً، إذ يقول في نفسه: ستزول هذه اللذة بمجرد انتباهي من النوم. أما الآخر فلا يعتقد أنه في رؤيا لذا ينال لذة حقيقية ويسعد سعادة حقيقية.
وهكذا يتميز كسب الشهداء من حياتهم البرزخية عن كسب الأموات منها.
إنَّ نيل الشهداء هذا النمط من الحياة واعتقادهم أَنهم أَحياء ثابتٌ بوقائعَ ورواياتٍ غيرِ محدودة.
حتى إن إجارة سيدنا حمزة رضي الله عنه، سيد الشهداء، ([2]) لِـمَن استجاره ولجأَ إليه وقضاءه لحوائجهم الدنيوية، وحملَ الآخرين على قضائها، وأمثالَها من حوادث واقعة كثيرة، نوَّرتْ هذه الطبقة من الحياة وأَثبتتها.
حتى إنني شخصياً وقعت لي هذه الحادثة:
كان ابن أختي «عُبيد» أحد طلابي، قد استشهد بقربي بدلاً عني، في الحرب العالمية الأولى؛ فرأيت في المنام رؤيا صادقة عندي: أنني قد دخلت قبرَه الشبيهَ بمنـزلٍ تحت الأرض، رغم أني في الأسر على بعد مسيرة ثلاثة أَشهر منه، وأَجهلُ مكانَ دفنه. ورأيتُه في طبقة حياة الشهداء. وقد كان يعتقد أَنني ميِّتٌ، وذكر أنه قد بكى عليَّ كثيراً، ويعتقد أَنه ما زال على قيد الحياة، إلّا أنه قد بَنى لنفسه منـزلاً جميلاً تحت الأرض حذراً من استيلاء الروس.
فهذه الرؤيا الجزئية -مع بعض الشروط والأمارات- أعطتني قناعة تامة بدرجة الشهود للحقيقة المذكورة.
الطبقة الخامسة من الحياة: هي الحياة الروحانية لأهل القبور.
نعم، الموت هو تبديلُ مكان وإطلاقُ روح وتسريحٌ من الوظيفة، وليس إعداماً ولا عدماً ولا فناءً. فتمثُّل أرواح الأولياء، وظهورُهم لأصحاب الكشف، بحوادث لا تُعَدُّ، وعلاقاتُ سائر أهل القبور بنا، في اليقظة والمنام، وإخبارهم إيَّانا إخباراً مطابقاً للواقع.. وأمثالُها من الأدلة الكثيرة، تنوّر هذه الطبقة وتثبتها.
ولقد أثبتت «الكلمة التاسعة والعشرون» الخاصة ببقاء الروح بدلائلَ قاطعة طبقة الحياة هذه إثباتاً تاماً.
السؤال الثاني:
إن الآيـة الكريمة: ﴿اَلَّذ۪ي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيٰوةَ لِيَبْلُوَكُمْ اَيُّكُمْ اَحْسَنُ عَمَلًا﴾ (الملك:٢) وأمثالَها في القرآن الحكيم، تَعُدُّ الموتَ مخلوقاً كالحياة، وتعتبره نعمةً إلهية. ولكن الملاحظَ أَنَّ الموتَ انحلالٌ وعدمٌ وتفسخ، وانطفاء لنور الحياة، وهادم اللذات... فكيف يكون «مخلوقاً» وكيف يكون «نعمة»؟
الجواب: لقد ذكرنا في ختام الجواب عن السؤال الأول: أن الموت في حقيقته تسريحٌ وإنهاءٌ لوظيفة الحياة الدنيا، وهو تبديلُ مكان وتحويل وجود، وهو دعوةٌ إلى الحياة الباقية الخالدة ومقدمة لها؛ إذ كما أن مجيء الحياة إلى الدنيا هو بخلقٍ وبتقدير إلهي، كذلك ذهابها من الدنيا هو أيضاً بخلق وتقدير وحكمة وتدبير إلهي؛
لأنَّ موتَ أبسطِ الأحياء، وهو النبات، يُظهر لنا نظاماً دقيقاً وإبداعاً للخلق ما هو أَعظمُ من الحياة نفسها وأَنظمُ منها، فموت الأثمار والبذور والحبوب الذي يبدو ظاهراً تفسخاً وتحللاً هو في الحقيقة عبارة عن عجنٍ لتفاعلاتٍ كيمياويةٍ متسلسلةٍ في غاية الانتظام، وامتزاجٍ لمقادير العناصر في غاية الدقة والميزان، وتركيبٍ وتشكّل للذرات بعضها ببعض في غاية الحكمة والبصيرة، بحيث إنَّ هذا الموت الذي لا يُرى، وفيه هذا النظام الحكيم والدقة الرائعة، هو الذي يظهر بشكل حياة نامية للسنبل وللنبات الباسق المثمر.
وهذا يعني أنَّ موت البذرة هو مبدأُ حياة النبات الجديدة، أزهاراً وأثماراً.. بل هو بمثابة عين حياته الجديدة؛ فهذا الموت إذن مخلوق منتظم كالحياة..
وكذلك فإن ما يحدث في معدة الإنسان من موتٍ لثمرات حية، أو غذاء حيواني، هو في حقيقته بدايةٌ ومنشأٌ لصعود ذلك الغذاء في أجزاء الحياة الإنسانية الراقية. فذلك الموت إذن مخلوق أكثر انتظاماً من حياة تلك الأَغذية.
فَلَئن كان موتُ النبات وهو في أَدنى طبقات الحياة مخلوقاً منتظماً بحكمة، فكيف بالموت الذي يصيب الإنسان وهو في أَرقى طبقات الحياة؟ فلا شك أنَّ موته هذا سيثمر حياةً دائمة في عالم البرزخ، تماماً كالبذرة الموضوعة تحت التراب والتي تصبح بموتها نباتاً رائعَ الجمال والحكمة في (عالم الهواء).
أما كيف يكون الموت نعمةً؟..
فالجواب: سنذكر أربعة وجوه فقط من أَوجُهِ النِّعمة والامتنان الكثيرة للموت.
أولها: الموت إنقاذٌ للإنسان من أَعباء وظائف الحياة الدنيا ومن تكاليف المعيشة المثقلة. وهو بابُ وصال في الوقت نفسه مع تسعة وتسعين من الأَحِبَّة الأَعزاء في عالم البرزخ، فهو إذن نعمة عظمى!
ثانيها: إنَّه خروجٌ من قضبان سجن الدنيا المظلم الضيق المضطرب، ودخول في رعاية المحبوب الباقي وفي كنف رحمته الواسعة، وهو تنعّمٌ بحياة فسيحة خالدة مستنيرة لا يزعجها خوف، ولا يكدرها حزن ولا همّ.
ثالثها: إنَّ الشيخوخة وأَمثالها من الأَسباب الداعية لجعل الحياة صعبة ومرهقة، تبيّن مدى كون الموت نعمة تَفُوقُ نعمةَ الحياة.
فلو تصورت أَنَّ أجدادَك مع ما هم عليه من أَحوال مؤلمة قابعون أمامك حالياً مع والديك اللذين بلغا أَرذلَ العُمرِ، لفهمتَ مدى كونِ الحياة نقمة، والموت نعمة.
بل يمكن إدراك مدى الرحمة في الموت ومدى الصعوبة في إدامة الحياة أيضاً بالتأمل في تلك الحشرات الجميلة العاشقة للأزاهير اللطيفة، عند اشتداد وطأة البَرْدِ القارس في الشتاء عليها.
رابعها: كما أن النوم راحة للإنسان ورحمة، ولاسيما للمبتلين والمرضى والجرحى، كذلك الموت -الذي هو أخو النوم- رحمةٌ ونعمة عظمى للمبتلين ببلايا يائسة قد تدفعهم إلى الانتحار.
أما أهل الضلال، فالموت لهم كالحياة نقمةٌ عظمى وعذاب في عذاب، كما أثبتنا ذلك في «كلمات» متعددة إثباتاً قاطعاً وذلك خارج بحثنا هذا.
السؤال الثالث:
أين جهنم؟
الجواب:
لا يعلم الغيب إلّا الله، قال تعالى: ﴿قُلْ اِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللّٰهِ﴾ (الملك: ٢٦)
وقد جاء في بعض الروايات: أن جهنم تحت الأرض. ([3]) فالكرة الأرضية بحركتها السنوية، تخط دائرةً حول ميدانٍ سيكون محشَراً في المستقبل، كما بينا هذا في مواضع أخرى.
أما جهنم تحت الأرض، فيعني: تحت مدارها السنوي، وأن سبب عدم رؤيتِها والإحساسِ بها هو لكونها ناراً بلا نور ومستورةً بحجاب. ولا جرم أن في مدار جولان الأرض، تلك المسافة المهولة، كثيراً جداً من المخلوقات، وهي لا تُشاهد، لفقدها النور. فكما أن القمر كلما سُحب نورُه يفقد وجودَه، كذلك أن كثيراً جداً من المخلوقات والأجرام لكونها معتمة لا نراها رغم أنها أمام أبصارنا.
وجهنم اثنتان: إحداهما جهنم صغرى، والأخرى جهنم كبرى.
والصغرى بمثابة نواة الكبرى، إذ ستنقلب إليها في المستقبل وستكون منـزلاً من منازلها.
ومعنى أن جهنم الصغرى تحت الأرض، أنها في مركزها، لأن تحت الكرة مركزَها.
ومن المعلوم في علم طبقات الأرض أن الحرارة تتزايد درجةً واحدة -على الأغلب- كلما حُفر في الأرض ثلاثة وثلاثون متراً؛ بمعنى أن درجة الحرارة تبلغ في مركز الأرض مائتي ألف درجة، لأن نصف قطر الأرض أكثر من ستة آلاف كيلو متر، أي نارُه أشد من نار الدنيا بمائتي درجة، وهذا يوافق ما ورد في الحديث الشريف. ([4])
وقد أَدَّتْ جهنم الصغرى هذه وظائفَ كثيرةً جداً تخص جهنم الكبرى في هذه الدنيا وفي عالم البرزخ، كما أَشارت إليها الأَحاديث الشريفة.
أما في عالم الآخرة فستُفْرغُ الأرضُ أهلَها وتُلقي بهم في ميدان الحشر الذي هو في مدارها السنوي، كما تُسلّم ما في جوفها من جهنم صغرى إلى جهنم كبرى بأمر الله جل جلاله. أما قول عدد من أئمة المعتزلة: «إن جهنم سوف تُخلق فيما بعد»، فهو خَطأٌ وغباءٌ في الوقت نفسه، ناشئٌ من عدم انبساطها انبساطاً تاماً في الوقت الحاضر وعدم انكشافها انكشافاً تاماً بما يوافق أهلَ الأرض.
ثم إن رؤيةَ منازل عالم الآخرة المستورة عنا بستار الغيب بأبصارنا الدنيوية وإراءتها الآخرين لا تحصل إلاّ بتصغير الكون كلِّه (أي الدنيا والآخرة) وجعلِهما في حُكم ولايتين. أو بتكبير عيوننا بحجم النجوم كي نعرف أماكنها ونعيّنها. فالمنازل التي تخص عالم الآخرة لا تُرى بأبصارنا الدنيوية. والعلم عند الله.
ولكن يُفهم من إشارات بعض الروايات أن جهنم التي في الآخرة لها علاقة مع دنيانا، فقد ورد في شدة حرارة الصيف أنها (من فيح جهنم). ([5]) فجهنم الكبرى إذن تلك النار الهائلة لا تُرى بعين العقل الخافتة الصغيرة، ولكن نستطيع أن ننظر إليها بنور اسم الله «الحكيم»
وذلك أن جهنم الكبرى الموجودة تحت المدار السنوي للأرض كأنها قد وكّلت جهنمَ الصغرى الموجودة في مركز الأرض، فتؤدي بها بعض وظائفها. وأن ملك الله القدير ذي الجلال واسعٌ جداً، فأينما وجّهت الحكمةُ الإلهية جهنم فهي تستقر هناك وعندها.
نعم، إنَّ قديراً ذا جلال، وحكيماً ذا كمال، المالك لأمر «كن فيكون» الذي ربط القمر بالأرض بحكمة كاملة وفق نظام، كما هو مشاهَد، وربط الأرضَ بالشمس بعظمة قدرته وفق نظام، وسيّر الشمس مع سياراتها بعظمة ربوبيته الجليلة، بسرعة مقاربة لسرعة الأرض السنوية، يجريها إلى شمس الشموس (بناءً على فرض) وجعل النجومَ المتلألئة كالمصابيح، شواهد نورانيةً على عظمة ربوبيته، مُظْهِراً بهذا ربوبيةً جليلةً وعظمةَ قدرة قادرة، لا يُستبعَد عن كمال حكمة هذا القديرِ الجليل وعن عظمةِ قدرته وسلطانِ ربوبيته أن يجعل جهنم الكبرى في حُكم خزان معمل الإضاءة، ويُشعل بها نجوم السماء الناظرة إلى الآخرة، ويمدّها منها بالحرارة والقوة، أي يبعث إليها النار والحرارة من جهنم، ويرسل إليها من الجنة -التي هي عالم النور- نوراً وضياءً. وفي الوقت نفسه يجعل من جهنم مسكناً لأهل العذاب وسجناً لهم.
وكذا أن الفاطر الحكيم الذي يضم شجرةً عظيمة هائلةً كالجبل في بذيرة صغيرة كالخردل، لا يُستبعَد عن قدرته وعن حكمته أن يحفظ جهنم الكبرى في بذرة جهنم الصغرى المستقرة في قلب الكرة الأرضية.
نحصل من هذا: أن الجنة وجهنم ثمرتان من غصن شجرة الخلق، قد تدلّتا إلى الأبد، وموضع الثمرة في منتهى الغصن.
وأنهما نتيجتان لسلسلة الكائنات هذه، ومحل النتائج يكون في طرفَي السلسلة، السفلية منها والثقيلة في الأسفل، والعلوية النورانية منها في الأعلى.
وأنهما مخزنان لسيل الشؤون الإلهية والمحاصيل الأرضية المعنوية. ومكان المخزن يكون حسب نوع المحاصيل، الفاسدة منها في أسفله، والجيدة في أعلاه.
وأنهما حوضان للموجودات السيالة المتموجة والجارية نحو الأبد. ومحل الحوض يكون في موضع سكون السيل وتجمعه. بمعنى أن خبثَه وقذارته في الأسفل، طيباتِه ونقيّاته في الأعلى.
وأنهما موضعان لتجلي اللطف والقهر والرحمة والعظمة، وموضع التجلي يكون في أي موضع كان. ويفتح الرحمنُ الجميل والقهار الجليل موضعَ تجليه أينما شاء.
أما وجودُ الجنة وجهنم، فقد أُثبت إثباتاً قاطعاً في «الكلمة العاشرة» و «الكلمة الثامنة والعشرين» و «الكلمة التاسعة والعشرين» إلّا أننا نقول هنا:
إنَّ وجود الثمرة قطعيٌ ويقين كقطعية ويقين وجود الغصن.. ووجود النتيجة يقين كيقين وجود السلسلة.. ووجود المخزن يقين كيقين وجود المحاصيل.. ووجود الحوض يقين كيقين وجود النهر.. ووجود موضع التجلي يقين كيقين وجود الرحمة والقهر.
السؤال الرابع:
العشق المجازي للمحبوبات يمكن أن ينقلبَ إلى عشق حقيقي، فهل يمكن أن ينقلب العشق المجازي للدنيا الذي يحمله أكثرُ الناس إلى العشق الحقيقي؟
الجواب: نعم، إذا شاهد ذلك العاشق المجازي لوجه الدنيا الفاني، قبحَ الزوال ودمامةَ الفناء على ذلك الوجه. فأَعْرَضَ عنه، وبَحَثَ وتَحرَّى عن محبوب باق لا يزول. ووفَّقه الله للنظر إلى وجهَي الدنيا الجميلين، وهما مرآة الأسماء الحسنى ومزرعة الآخرة، انقلب حينئذٍ العشقُ المجازي غيرُ المشروع إلى عشق حقيقي.
ولكن بشرط أَلَّا يلتبس عليه، دنياهُ الزائلة غير المستقرة المرتبطة بحياته، بالدنيا الخارجية؛
إذ لو نسيَ نفسَه نسيانَ أَهلِ الضلالة والغفلة وخاضَ في غِمار آفاق الدُّنيا وظَنَّ دنياهُ الخاصة كالدنيا العمومية، فعشِقَها، فإنه يقع في مستنقع الطبيعة ويغرق. إلّا مَن أَنجَتْهُ يدُ العناية نجاةً خارقةً للعادة.
فتأمل في التمثيل الآتي الذي ينوّر لك هذه الحقيقة:
هَبْ أَننا نحن الأَربعة دخلنا في غرفة، على جدرانها الأربعة مرايا كبيرة كبرَ الحائط. فعندئذٍ تصبح تلك الغرفة الجميلة خمسَ غرفٍ. إحداها حقيقية وعمومية، والأربعة الأخرى مثالية وخصوصية. وكل منا يستطيع أن يبدّل شكلَ غرفته الخاصة وهيئتَها ولونها بوساطة مرآته. فلو صبغناها باللون الأحمر فإنها تُري الغرفةَ حمراء ولو صبغناها باللون الأخضر فإنها تريها خضراء.. هكذا، يمكننا أن نعطي للغرفة أوضاعاً متنوعة بالتغيير في المرآة والتصرف فيها، بل نستطيع وضعها في أوضاع جميلة أو قبيحة، أو أي شكل نرغب فيه، ولكننا لا نستطيع أن نغيّر ونبدل الغرفة العمومية الخارجة عن المرآة بسهولة ويسر. فأحكامُ الغرفتين الخصوصية والعمومية مختلفتان، وإن كانتا واحدة متحدة في الحقيقة. فأنت بتحريك إصبع يمكنك تخريب غرفتك، بينما لا يمكنك تحريك حجر من تلك الغرفة العمومية ولو قيدَ أنملة.
وهكذا الدنيا فهي منـزلٌ جميل مزيّن، وحياة كل منا مرآة كبيرة واسعة، ولكل منا دنياه الخاصة من هذه الدنيا العمومية. ولكل منا عالمه الخاص به، إلّا أن عمود دنيانا ومركزها وبابها، حياتنا، بل إن دنيانا وعالمنا الخاص، صحيفةٌ، وحياتنا قلمٌ، تُكتَب بوساطته كثيرٌ من الأشياء التي تُنقل إلى صحيفة أعمالنا.
فإن أحببنا دنيانا، ثم شاهدنا أنها زائلةً فانية لا قرار لها كحياتنا -لأنها مبنية فوقها- وشعرنا بهذا الزوال، وأدركناه، عندئذٍ تتحول محبتُنا نحوها إلى محبة نقوش الأسماء الإلهية الحسنى التي تمثلها دنيانا الخاصة، المرآة لها. ومنها تنتقل المحبة إلى محبة تجليات الأسماء الحسنى.
ثم إننا إذا أدركنا أن دنيانا الخاصة مزرعةٌ مؤقتة للآخرة والجنة، وحوّلنا أحاسيسَنا الشديدة ومشاعرنا القوية نحوها كالحرص والطلب والمحبة وأمثالِها، إلى نتائج تلك المزرعة وثمراتها وسنابلها، تلك هي فوائدها الأخروية. ينقلب عندها ذلك العشقُ المجازي إلى عشق حقيقي.
وبخلاف هذا نكون ممن قال الله تعالى في حقهم ﴿نَسُوا اللّٰهَ فَاَنْسٰيهُمْ اَنْفُسَهُمْۜ اُو۬لٰٓئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (الحشر: ١٩). فالذي ينسى نفسه ويغفل عنها، ولم يفكر بزوال حياته، وحسِبَ دنياه الخاصة الفانية ثابتةً كالدنيا العمومية، ناسياً زوال الحياة، عادّاً نفسه خالداً فيها فسكن إليها وتمسك بها بجميع حواسه ومشاعره يغرق فيها وينتهي أمره. فتكون تلك المحبةُ وبالاً عليه وعذاباً أليما، لأنها تولد شفقةً ورقّةَ قلبٍ يائسٍ يأسَ اليتيم، فيقاسي الألم من أحوال ذوي الحياة حتى يستشعر ألمَ الرقة والفراق مما يصيب المخلوقاتِ الجميلةَ المعرَّضةَ لصفعات الزَّوال والفراق، ويجد نفسه مكتوفَ الأَيدي إزاءها فيتجرعُ الألم في يأس مرير.
أما الشخص الأول الذي نجى من شِباك الغفلة، فإنه يجد بلسماً شافياً إزاء شدة ألم الشفقة تلك، إذ يشاهد في موت ذوي الحياة وفي زوال مَن يتألم لأوضاعهم، بقاءَ مرايا أرواحِهم التي تمثل تجلياتٍ دائمة لأسماءٍ دائمة لذاتٍ جليلة باقية خالدة.
وعندئذٍ تنقلب شفقتُه إلى سرور دائم، ويشاهد وراء جميع المخلوقات الجميلة المعرّضة للفناء والزوال، نقشاً وإتقاناً وتجميلاً وتزييناً وإحساناً وتنويراً دائمياً، يُشعره بجمال منـزّه وحُسن مقدس، حتى يرى ذلك الزوالَ والفناء نمطاً لتزييد الحُسن وتجديد اللذة وتشهير الصنعة، مما يزيد لذته وشوقَه وإعجابه.
الباقي هو الباقي
سعيد النورسي
- ↑ هذا معنى أحاديثَ كثيرة في الباب، انظر البخاري، الأنبياء ٤٩؛ مسلم، الإيمان ٢٤٤-٢٤٦.
- ↑ انظر: الطبراني، المعجم الكبير ١٥١/٣؛ المعجم الأوسط ٢٣٨/٤؛ الحاكم، المستدرك ٢١٩/٣.
- ↑ انظر: أحمد بن حنبل، المسند ٣٧٠/٢، ٢٨٧/٤؛ ابن أبي شيبة، المصنف ٥٥/٣؛ البيهقي، شعب الإيمان ٣٣١/١، ٣٥٧/١، ٣٣٤/٤؛ الحاكم، المستدرك ٦١٢/٤.
- ↑ ورد في شدة نار جهنم وأانها أشد من نار الدنيا أحاديث منها، انظر: البخاري، بدء الخلق ١٠؛ مسلم، المساجد ١٨٠-١٨٧؛ الترمذي، الصلاة ٥؛ أبو داود، الصلاة ٥.
- ↑ انظر: البخاري، المواقيت ٩؛ مسلم، المساجد ١٨٠-١٨٧.