اللمعة التاسعة

    Risale-i Nur Tercümeleri sitesinden
    16.59, 1 Nisan 2024 tarihinde Said (mesaj | katkılar) tarafından oluşturulmuş 91795 numaralı sürüm ("------ <center>⇐ اللمعة الثامنة | اللمعات | اللمعة العاشرة ⇒</center> ------" içeriğiyle yeni sayfa oluşturdu)
    (fark) ← Önceki sürüm | Güncel sürüm (fark) | Sonraki sürüm → (fark)
    Diğer diller:

    لا يسع كل واحد أن يرى نقائص «وحدة الوجود» الدقيقة ولا هو بحاجة إليها، لذا لا حاجة له لقراءة هذه اللمعة.

    بِاسْمِهِ سُبْحَانَهُ

    ﴿ وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه۪ ﴾

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    أخي العزيز الوفي المخلص الخالص!

    إنَّ سبب عدم إرسالي رسالةً مستقلة إلى أخينا «عبد المجيد»(∗) هو أن رسائلي التي أبعثها إليكم تفي بالغرض، فإن «عبد المجيد» أخ قديرٌ وطالب مجدٌّ بعد «خلوصي»(∗)، وأنا أذكره باسمه في دعائي كلَّ صباح ومساء مع «خلوصي» وأحيانا قبله. هذا وإن «صبري»(∗) ثم «حقي أفندي» يستفيدان من رسائلي، فلا أرى داعياً لأبعثَ إليهما رسائلَ مستقلة. فلقد أنعم الله عليك وجعلك أخاً كبيراً مباركاً لهما، فراسل عبد المجيد بدلاً مني، وطَمئِنه لئلا يقلق، فأنا أفكر فيه بعد خلوصي. .

    سؤالكم الأول

    وهو سؤال خاص يعود إلى إمضاء أحد أجدادكم باسم «السيد محمد» (أي من آل البيت).

    أخي!

    إنني لا أملك الإجابة عن هذا السؤال جواباً مبنياً على العلم والتحقيق والكشف، ولكن كنت أقول لأصحابي: إن خلوصي لا يشبه الأتراك الحاليين، ولا الأكراد، فإني أرى فيه خاصيةً أخرى، وكانوا يصدّقونني. فكنا نقول: إن ظهور عراقة وأصالة في خلوصي دليل على نيله عطاء الحق، بمضمون القاعدة:

    «دَادِ حَقْ رَا قَابِلِيَّتْ شَرْط نِييسْت» ([1])

    واعلم قطعاً أن للرسول الأكرم ﷺ نوعين من الآل:

    الأول: آله النَسَبي.

    والآخر: آله من حيث شخصه المعنوي النوراني، أي من حيث الرسالة.

    فأنت داخل قطعاً في هذا الآل الثاني، فضلاً عن دخولك في الآل الأول حسب قناعتي بلا دليل. فإن إمضاء جدّك باسم «السيد» ليس عبثاً ولا جزافاً.

    خلاصة سؤالكم الثاني:

    أخي العزيز!

    إن «محي الدين بن عربي»(∗) قد قال: «إن مخلوقية الروح عبارةٌ عن انكشافها». إنك يا أخي بسؤالك هذا تضطرني إلى أن أناقشَ وأنا الضعيف العاجز خارقةَ الحقيقة وداهيةَ علم الأسرار «محي الدين بن عربي». ولكن لما كنتُ سأخوض في البحث معتمداً على نصوص القرآن الكريم فسوف أستطيع أن أحلّقَ أعلى من ذلك الصقر وأسمى منه وإن كنتُ ذبابة!

    أخي: اعلم أن «محي الدين بن عربي» لا يَخدع ولكن ينخدع، فهو مُهتدٍ، ولكنه لا يكون هادياً لغيره في كل ما كَتبه. فما رآه صدقٌ وصوابٌ ولكن ليس هو الحقيقة.

    ولقد وضّحت «الكلمة التاسعة والعشرون» في مبحث الروح، الحقيقةَ التي يدور عليها سؤالُكم.

    نعم، إنَّ الروح من حيث الماهية قانونٌ أمري. ولكن أُلبسَت وجوداً خارجياً، فهي ناموسٌ ذو حياة، وقانونٌ ذو وجود خارجي.

    فالشيخ محي الدين قد نظر إلى الروح من حيث ماهيتِها فحسب، ويرى الأشياءَ خيالاً حسب مشرب «وحدة الوجود».

    ولما كان الشيخ قد انتهج مسلكاً مستقلاً وكان صاحبَ مشرب مهم وله كشفيات ومشاهدات خارقة فإنه يلجأ باضطرار إلى تأويلاتٍ ضعيفة وتكلّف وتمحّل ليطبّق بعضَ الآيات الكريمة حسب مَشربه ومشهوداته، مما يخدشُ صراحة الآية الكريمة ويجرحُها.

    ولقد بيّنا في رسائل أخرى المنهجَ القرآني ومنهجَ أهل السنة السنية القويم.

    فالشيخ ابن عربي له مقام خاص لذاته، وهو من المقبولين، إلّا أنه بكشفياته التي لا ضوابطَ لها خرقَ الحدود وتجاوزها وخالَف جمهور المحققين العلماء في كثير من المسائل.

    ولأجل هذا تكاد تقتصر طريقتُه الخاصةُ به لفترة قصيرة جداً في «صدر الدين القونوي»(∗) ويندر أن يُستفاد من آثاره استفادةً ذاتَ استقامة، مع كونه شيخاً عظيماً عاليَ القدر وقطباً خارقاً فريدَ زمانه. بل لا يحث كثيرٌ من العلماء المحققين والأصفياءُ على قراءة آثاره القيّمة، بل قسمٌ منهم يمنعون قراءتها.

    إنَّ بيان الفرق الأساس بين مشرب الشيخ محي الدين بن عربي وأهلِ التحقيق من العلماء، وبيان منابعهما ومصادرهما يحتاج إلى دراسةٍ عميقة وبحثٍ دقيق ونظرٍ واسع رفيع.

    نعم، إن الفرقَ دقيقٌ جداً وعميق جداً إلى درجة كبيرة، والمصدر رفيع وسام إلى حدٍ كبير، بحيث لم يؤاخَذ الشيخ ابن عربي على خطئه، وإنما ظل مقبولاً لدى العلماء. إذ لو كان الفرق والمصدر مشهودَين واضحين علماً وفكراً وكشفاً لكان سقوطاً مريعاً للشيخ وخطأً جسيماً له.

    ولكن لما كان الفرقُ عميقاً جداً، فإننا نحاول أن نبين خطأَ الشيخ في تلك المسألة فحسب ونوضح ذلك الفرق وتلك المنابع في مثال باختصار شديد:

    فمثلا: الشمس تشاهَد في مرآة. فهذه المرآةُ هي مظروفُ الشمس، وموصوفُها. بمعنى أن الشمس توجد فيها من جهة، ومن جهة أخرى تزيّن المرآةَ حتى تكون صفتَها اللامعة وصبغتَها الساطعة. فإن كانت تلك المرآة، مرآةَ آلةِ تصوير فإنها ستنقل صورةَ الشمس على ورقة حساسة بصورة ثابتة. ففي هذه الحالة فالشمسُ المشهودة في المرآة وماهيتُها المرتسمة على الورقة وصفاتُها، وتزيينُها المرآة -حتى غدت كأنها صفتها- هي غيرُ الشمس الحقيقية. فهي ليست شمساً، بل هي دخولُ تجلي الشمس في وجود آخر. أما وجودُ الشمس المشهودة في المرآة فهو وإن لم يكن عينَ وجودِ الشمس الموجودة في الخارج إلّا أنه قد ظُن أنه عينُ وجودِها لارتباطه بها وإشارته إليها.

    فبناءً على هذا المثال فإن القول بأنه: «ليس في المرآة غيرُ الشمس الحقيقية» يمكن أن يكون صواباً باعتبار كون المرآة ظرفاً وأن المقصود من الشمس التي فيها وجودُها الخارجي. ولكن إذا قيل: إنَّ صورة الشمس المنبسطة على المرآة -التي أخذت حكمَ صفة المرآة- والصورةَ التي انتقلت إلى الورقة الحساسة هي الشمسُ، فهذا خطأ، أي إن عبارة «ليس في المرآة غير الشمس» تكون عبارة خطأ، ذلك لأن هناك صورةَ الشمس التي تظهر على المرآة وهناك الصورة المرتسمة خلفَها على الورق الحساس، فكل منها لها وجودٌ خاص بها. فمع أن ذينك الوجودَين هما من تجلي الشمس إلّا أنهما ليسا الشمسَ نفسها.

    وكذا فإن ذهنَ الإنسان وخيالَه شبيهان بمثال المرآة هذا. وذلك:

    إِنَّ المعلومات الموجودة في مرآة فكرِ الإنسان لها وجهان أيضا: فهي بوجهٍ علمٌ، وبوجهٍ آخر معلومٌ. فإذا اعتبرنا الذهنَ ظرفاً لذلك المعلوم، أصبح ذلك الموجودُ المعلومُ معلوماً ذهنياً. فوجودُه شيء آخر. وإن اعتبرنا الذهنَ موصوفاً بذلك الشيء الذي حلَّ فيه أصبح صفةً للذهن، وذلك الشيء يكون عندئذٍ علماً، وله وجودٌ خارجي. وحتى لو كان لذلك المعلوم وجودٌ وجوهرٌ فسيكون وجوداً خارجياً عرضياً.

    فبناءً على هذين التمثيلين.

    الكونُ مرآة، وماهيةُ كل موجود مرآة أيضاً. هذه المرايا معرّضة إلى الإيجاد الإلهي بالقدرة الأزلية.

    فكل موجود -من جهة- يُصبح مرآةً لاسم من أسماء الله يبين نقشاً من نقوشه.

    فالذين هم على مشرب الشيخ ابن عربي قد كشفوا العالَم من حيث المرآتية والظرفية والموجود المثالي في المرآة -من زاوية النفي- ومن حيث منعكس صورة ذلك الشيء في المرآة هو عينه. وقالوا: «لا موجود إلّا هو»، دون أن يفكروا بالمراتب الأخرى، فأخطأوا حتى بلغ بهم الأمر أن ينكروا القاعدة الأساسية المعروفة: «حقائق الأشياء ثابتة».

    أما أهل الحقيقة فإنهم يرون بسر الوراثة النبوية وبصراحة القرآن الكريم وآياته البينات:

    أنَّ النقوش التي توجد في مرايا الموجودات بقدرة الله وإرادته إنما هي من آثاره سبحانه وتعالى. فكلُّ موجود إنما هو منه تعالى وهو الذي يوجِدُه، وليس كلُّ موجود هو، حتى يقال: «لا موجود إلّا هو». إذ للأشياء وجودٌ، وهو وجودٌ ثابتٌ إلى حد ما، وإن كان هذا الوجودُ وجوداً ضعيفاً كأنه وهمي وخيالي بالنسبة إلى وجوده تعالى، إلّا أنه موجود بإيجاد القدير الأزلي وإرادته وقدرته.

    إنَّ للشمس المشهودةِ في المرآة وجوداً مثالياً عدا وجودها الخارجي الحقيقي.

    ولها وجودٌ خارجي عرَضي آخر يلوّن المرآة بزينته إذ تنبسط عليها صورتُها.

    ولها وجود خارجي عرضي أيضا، وهو وجودٌ ثابتٌ إلى حد ما وهو الصورة المنتقشة على الورقة الحساسة خلف المرآة.

    فكما أن للشمس وجوداتٍ هكذا في المثال كذلك الأمر في مرآة الكون ومرايا ماهية الأشياء. فإن نقوشَ المصنوعات الظاهرة بتجليات الأسماء الإلهية الحسنى الحاصلة بالإرادة الإلهية واختيارها وقدرتها، لها وجودٌ حادثٌ غيرُ وجود الواجب الوجود. وقد مُنح بالقدرة الإلهية ثباتاً لهذا الوجود ولكن لو انقطع الارتباط فنيت الأشياءُ وانعدمت مباشرة. فكلُّ شيء محتاجٌ لبقائه في كل آن إلى إبقاء خالِقه له، فإن حقائق الأشياء وإن كانت ثابتة ولكن ثابتةٌ بإثباته سبحانه لها وتثبيته إياها.

    وهكذا فإن قولَ الشيخ ابن عربي: «إن الروح ليست مخلوقة وإنما هي حقيقةٌ آتية من عالم الأمر وصفة الإرادة» مخالفٌ لظاهر نصوص كثيرة، كما قد التبس عليه الأمر في ضوء التحقيقات المذكورة آنفاً وانخدع إذ لم يشاهِد الموجودات الضعيفة.

    فلا يمكن أن تكون مظاهرُ «الخلاق والرزاق» من الأسماء الإلهية الحسنى مظاهرَ وهمية خيالية. فما دامت تلك الأسماءُ ذات حقيقة، فإن مظاهرَها أيضاً لها حقائق خارجية.

    سؤالكم الثالث:

    تطلبون فيه درساً يكون مفتاحاً لعلم «الجفر».

    الجواب: إننا يا أخي لسنا في هذه الخدمة القرآنية بإرادتنا ولا بتدبيرنا للأمور. بل إن اختياراً -وهو خير لنا- فوق اختيارنا وخارج إرادتنا يهيمن على أعمالنا واختيارنا.

    اعلم أن علم الجفر يُشغل الإنسانَ عن وظيفته الحقيقية ويصرفه عنها، لما فيه من ذوق ووَلَع. حتى كانت تُحلُّ لي أسرارٌ تخص القرآن بذلك المفتاح لمرات عدة، ولكن ما إن أتوجّه إليه بشوق وذوق حتى توصَد الأبواب دوني. فوجدت في هذا الأمر حكمتين:

    الأولى: احتمال الوقوع في موضع ينافي الأدبَ اللائق بالقاعدة الأساسية «لا يعلم الغيبَ إلّا الله».

    الثانية: إنَّ العمل على إرشاد الأمة إلى حقائق الإيمان والقرآن بوساطة البراهين الدامغة، له من الفضائل والمزايا ما يفوق مائةَ درجة على العمل بإرشادهم بالعلوم الخفية كعلم الجفر. حيث إن الحجج القاطعة والدلائل الثابتة لا تدع مجالاً للمداخلة في تلك الوظيفة السامية. بينما علمُ الجفر وأمثالُه من العلوم الخفية غير المنضبطَة بقواعد محكمة، قد يساء استعماله بولوج الماكرين فيه. علماً أنه متى ما احتاج الأمرُ إليه لخدمة الحقائق، فإن الله سبحانه يفتح علينا نبذةً منه حسب الحاجة.

    واعلم أن أيسرَ مفتاح من بين مفاتيح علم الجفر، وأنقاها، بل أجملها وأحسنها هو أنواع التوافقات الناشئة من اسم «البديع» والتي أظهرت شعاعاً من نورها في توافق لفظ الجلالة في القرآن الكريم وزيّنت الآثار التي نقوم بنشرها. علماً أنه وُضّح شيءٌ منها في عدة مواضع من «رسالة الكرامة الغوثية». نذكر منها:

    إن التوافق إذا ما أظهر شيئاً في عدة جهات، فهو إشارةٌ بدرجة الدلالة، علماً أنه قد يكون توافق واحد أحياناً مع بعض القرائن بمثابة دليل ويحلّ محلَّه.

    وعلى كل حال، يكفي هذا القدر من الإجابة عن سؤالك في الوقت الحاضر. ومتى ما كانت الحاجة جادة إليه ستُبلّغون به.

    سؤالكم الرابع:

    أي سؤال إمام الجامع «عمر أفندي» وليس سؤالكم، وهو:

    أن طبيباً شقياً يدّعي أنه كان لعيسى عليه السلام والدٌ، وزعم أنه يستشهد لنفسه بآية كريمة بتأويل جنوني. ([2])

    إن ذلك العاجز قد سعى سابقاً لإحداث خطٍ بحروف مقطّعة، بل سعى سعياً حثيثاً في الأمر. فعلمتُ حينذاك أن ذلك الرجل قد استشعر من أطوار الزنادقة وتصرفاتهم أنهم سيحاولون رفع الحروف الإسلامية وإزالتها. وكأنه أراد أن يصدّ ذلك التيار الجارف، ولكن دون جدوى.

    وقد شعر الآن في هذه المسألة، وفي مسألته الثانية، بهجوم الزنادقة العنيف على الأسس الإسلامية. وأظن أنه يحاول فتحَ طريق للمصالحة والسلام، بمثل هذه التأويلات السخيفة التي لا معنى لها.

    إنه لا والدَ لعيسى عليه السلام، كما تبينُه يقيناً الآية الكريمة: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّٰهِ كَمَثَلِ اٰدَمَ ﴾ (آل عمران: ٥٩) وأمثالها من النصوص القاطعة. لذا لا يؤبَه بكلام مَن يحاول تغيير هذه الحقيقة الرصينة الراسخة، بل لا يُقام لقوله وزنٌ ولا يستحق الاهتمام به أصلاً، حيث يَعدّ مخالفةَ قانونٍ في التناسل غير ممكنٍ فيتشبث بتأويلات واهية.

    لاشك أنه لا قانون دون شذوذٍ منه، ودون نوادر له، ودون أفرادٍ خارجةٍ عنه، وليست هناك قاعدة كلية لم تُخصّص بأفراد خارقة. وإنه لا يمكن ألّا يشذَّ فرد - أيا كان - من قانون، ولا يخرج منه، منذ زمن آدم عليه السلام.

    فأولاً: إنَّ هذا القانون، قانون التناسل قد خُرق باعتبار المبدأ، بمبادئ مائتي ألف نوع من أنواع الحيوانات وختم بها. أي أن آباء تلك الحيوانات الأولين، وهم بمثابة أوادم لها، قد خرقوا قانونَ التناسل. أي أن مائتي ألف أب من أولئك الآباء لم يأتوا إلى الوجود من أب وأم. بل أُعطي لهم وجودٌ خارج ذلك القانون.

    ثم إننا نشاهد بأبصارنا في كل ربيع، أن القسمَ الأعظم من مائة ألف نوع من الكائنات الحية ومما لا يُعد ولا تحصى من أفرادها، تُخلق خارج ذلك القانون، قانون التناسل، تُخلق على وجوه الأوراق وعلى المواد المتعفنة.

    تُرى إن قانوناً يُخرق بشواذ، بهذه الكثرة الكاثرة، في مبدئه، بل في كل سنة. ثم يأتي أحدُهم ولا يتمكن أن يسعَ عقلُه شذوذَ فرد واحد لذلك القانون خلال ألف وتسعمائة سنة، فيتشبث بتأويلات تافهة تجاه النصوص القرآنية القاطعة.. أقول تُرى كم يكون مرتكباً حماقة وبلاهة! قس ذلك بنفسك. علماً أن الأشياء التي يطلق عليها أولئك الشقاة اسم «القوانين الطبيعية» إنما هي قوانينُ عادة الله التي هي تجلٍ كلّي للأمر الإلهي والإرادة الإلهية، بحيث يغيّر سبحانه وتعالى عاداتِه تلك لبعض الحِكَم؛ مُظهراً هيمنةَ إرادته واختياره على كل شيء وعلى كل قانون. فيخرق العادةَ في بعض الأفراد الخارقين، وقولُه تعالى: ﴿ اِنَّ مَثَلَ ع۪يسٰى عِنْدَ اللّٰهِ كَمَثَلِ اٰدَمَ ﴾ يبيّن هذه الحقيقة.

    السؤال الثاني لعمر أفندي فيما يخص ذلك الطبيب.

    لقد تصرف ذلك الطبيب في تلك المسألة تصرفَ معتوه، وارتكب حماقة بلهاء بحيث لا يستحق إلقاء السمع له، ولا الاهتمام به فضلاً عن الإجابة عن سؤاله. إذ يريد هذا البائس أن يوجِد الوسط بين الكفر والإيمان.

    فأنا أقول جواباً عن استفسار «عمر أفندي»، وليس جواباً للكلام التافه لذلك الطبيب.

    إن العلّة في الأوامر والنواهي الشرعية هي الأمر الإلهي ونهيه. أما المصالح والحِكم فهي مرجِّحات يمكن أن تكون أسباباً لمتعلقات الأمر الإلهي ونهيِه من زاوية اسم الله الحكيم..

    فمثلاً: يقصر المسافرُ الصلاة. وهذا القصر له علة وحكمة، فالعلةُ هي السفر والحكمةُ هي المشقة. فإذا وجد السفر تُقصر الصلاة وإن لم تكن مشقة. ولكن لو وُجدت مائة مشقة في البيت فلا تُقصر الصلاة دون سفر. إذ وجود المشقة أحياناً في عامة السفر كافية لتكون حكمةً لقصر الصلاة وكافية أيضاً لتجعل السفر علّة للقصر.

    فبناءً على هذه القاعدة الشرعية لا تتغير الأحكامُ الشرعية بحسب الحِكم، بل بحسب العلل الحقيقية.

    فإن لحم الخنزير -كما ذكره ذلك الطبيب- فيه ضرر، حسب قاعدة «من أكل لحم الخنزير يتصف بصفاته» ([3]) ففيه ما لا يعلمه ذلك الطبيب من أضرار وأمراض. فذلك الحيوان لا يشبه سائر الحيوانات الأهلية النافعة التي لا ضرر لها. بل أكلُ لحمه يورث أضراراً أكثر من نفعه. علاوة على الشحم القوي الموجود في لحمه له أضرار طبية كثيرة في غير بلاد الإفرنج الباردة. بل تحققَ أنَّ له أضراراً كثيرة معنوية وحقيقية.

    فلمثل هذه الحِكَم، أصبح لتحريمه حكمة ولتعلّق النهي الإلهي به، ولا يلزم أن تكون الحكمةُ في كل فرد وفي كل وقت. ولا تتبدل العلةُ بتبدل تلك الحكمة. وإن لم تتبدل العلةُ لا يتبدل الحُكم. فليُعلم حسب هذه القاعدة مدى ما يتفوه به ذلك الطبيب البائس من كلام بعيد عن روح الشريعة.

    لذا لا يُعبأ بكلامه باسم الشريعة. فإن للخالق سبحانه حيواناتٍ لا يعقلون كثيرون في صور فلاسفة!.

    ذيل السؤال الوارد حول ابن عربي

    سؤال: إن «ابن عربي» يعدّ مسألة «وحدة الوجود» أرفع مرتبة إيمانية، حتى إن قسماً من أولياء عظام من أهل العشق اتبعوه في مسلكه. بيد أنك تقول: إن هذا المسلك ليس هو من أرفع المراتب الإيمانية، ولا هو بمسلكٍ حقيقي، وإنما هو مشربُ أهل السُكر والاستغراق وأصحابِ الشوق والعشق.

    فإن كان الأمر هكذا كما تقول، فبيّن لنا باختصار: ما أعلى مرتبةٍ من مراتب التوحيد التي بينتها وراثةُ النبوة وصراحةُ القرآن الكريم؟.

    الجواب: إنَّ عاجزاً مسكيناً مثلي، لا قيمةَ له ولا أهمية، أنّى له أن يقتحمَ غمار هذه المراتب السامية الرفيعة ويجري فيها محاكماتٍ عقلية بعقله القاصر، إنما هو أمر فوق الحد بمائة مرة.. ولكني سأذكر ذكراً مختصراً جداً نكتتين فقط وردتا من فيض القرآن الكريم إلى القلب، فلعل فيهما فائدة ونفعاً.

    النكتة الأولى:

    إنَّ هناك أسباباً عدة للانجذاب نحو مشرب «وحدة الوجود». سأبين باختصار شديد سببين منها:

    السبب الأول: إنهم لم يستطيعوا أن يستوعبوا في أذهانهم خلّاقية الربوبية في أعظم مراتبها، وكذا لم يستطيعوا أن يمكّنوا في قلوبهم تمكيناً تاماً أنه سبحانه بأحديته مالكٌ بالذات لزمام كل شيء في قبضة ربوبيته، وأن كلَّ شيء يُخلق بقدرته واختياره وإرادته سبحانه. فلأنهم لم يستطيعوا إدراك ذلك فقد رأوا أنفسهم مضطرين أمام القول: كلُّ شيء هو «تعالى»، أو: لاشيء موجودٌ، أو: أن الموجود خيال، أو: من التظاهر أو من الجلوات.

    السبب الثاني: إنَّ صفة العشق لا تريد الفراق أصلاً، وتفرّ منه بشدة، وترتعد فرائصُ العاشق من الافتراق، ويرهب من التنائي رهبتَه من جهنم، وينفر من الزوال نفرةً شديدة، ويحب الوصال حبَّه لروحه ونفسه، ويرغب بشوق لا حد له -كشوقه للجنة- للقرب الإلهي، لذا يرى أن التشبث بتجلي الأقربية الإلهية في كل شيء، يجعل الفراقَ والتنائي كأنهما معدومان، فيظن اللقاءَ والوصال دائمين بقوله: «لا موجود إلّا هو».

    ولأنهم يتصورون بسُكر العشق وبمقتضى شوق البقاء واللقاء والوصال، أن في وحدة الوجود مشرباً حالياً في منتهى الذوق، لذا يجدون ملجأهم في مسألة «وحدة الوجود» لأجل التخلص من فراقاتٍ رهيبة.

    أي إن منشأ السبب الأول هو عدم بلوغ العقل قسماً من حقائق الإيمان الواسعة للغاية والسامية جداً، وعدم استطاعته الإحاطة بها، مع عدم انكشاف العقل انكشافا تاماً من حيث الإيمان.

    أما منشأ السبب الثاني فهو انكشاف القلب انكشافاً فوق المعتاد، بتأثير العشق وانبساطه انبساطاً خارقاً للعادة.

    أما مرتبة التوحيد العظمى التي يراها بصراحة القرآن الأولياءُ العظام أعنى الأصفياء الذين هم أهلُ الصحو وأهل وراثة النبوة، فإنها مرتبةٌ رفيعة عالية جداً، إذ تفيد المرتبة العظمى للربوبية والخلاقية الإلهية، وتبين أن جميع الأسماء الحسنى هي أسماء حقيقية، وهي تحافظ على الأسس من دون إخلالٍ بموازنة أحكام الربوبية، لأن أهلها يقولون:

    إنَّ الله سبحانه بأحديته الذاتية وتنزّهه عن المكان قد أحاط -من دون وساطة- بكل شيء علماً وشخّصه بعلمه ورجَّحه وخصَّصه بإرادته وأوجَده وأبقاه بقدرته. فإنه سبحانه يوجِد جميع الكون ويخلقه ويدبر أموره كإيجاده لشيءٍ واحد وإرادته إياه، فكما أنه يخلق الزهرة بسهولة فإنه يخلق الربيع العظيم بالسهولة نفسها. فلا يمنع شيء شيئاً قط، فلا تجزؤ في توجهه سبحانه. فهو موجودٌ بتصرفه وبقدرته وبعلمه في كل مكان، في كل آن. فلا انقسام ولا توزّع في تصرفه سبحانه.

    ولقد وضحنا هذا الأمر وأثبتناه في «الكلمة السادسة عشرة»، وفي «المقصد الثاني من الموقف الثاني من الكلمة الثانية والثلاثين».

    سأورد هنا مثالاً ينطوي على نقص كثير (ولا مشاحة في الأمثال) وذلك لفهم شيءٍ من الفرق بين المشربين:

    لنفرض أنَّ هناك طاووساً خارقاً لا مثيلَ له، وهو في غاية الكبر، ومنتهى الزينة وأنه يتمكن من الطيران من الشرق إلى الغرب في لمحة بصر، وله القدرةُ على بسط جناحيه الممتدين من الشمال إلى الجنوب، وقبضهما في آن واحد، وعليه مئات ألوف النقوش البديعة حتى إن على كل ريش من جناحيه إبداعاً واتقاناً في منتهى الجمال والروعة.

    ولنفرض الآن أن هناك شخصين يتفرجان على هذا الطاووس العجيب، ويريدان التحليق بجناحي العقل والقلب إلى المراتب العالية الرفيعة لهذا الطير وبلوغ زينته الخارقة.

    فطفق الأول يتأمل في وضع هذا الطاووس وهيكلِه ونقوشِ خوارق القدرة في كل ريشة منه، فيغمره العشقُ والشوق والمحبة تجاه هذا الطير فيترك شيئاً من التفكير العميق إلى جانب مستمسكاً بالعشق، ولكنه يرى أن تلك النقوش المحبوبة تتحول وتتبدل يوماً بعد يوم، وأن تلك المحبوبات التي يوليها الحب والشغف تغيب وتزول كل يوم. فكان ينبغي له أن يقول: إن هذه النقوش المتقنة إنما هي لنقّاشٍ مالك للخلاقية الكلية مع أحديته الذاتية، وله الربوبية المطلقة مع وحدانيته الحقيقية. إلّا أنه لم يتمكن من أن يستوعب هذا ويدركه، فبدأ يُسلّي نفسه ويقول بدلاً من ذلك الاعتقاد:

    «إنَّ روح هذا الطاووس روحٌ سامية عالية بحيث إن صانعَه فيه، أو قد أصبح هو نفسَه، وأن تلك الروحَ العالية متحدةٌ مع جسد الطاووس، ولأن جسده ممتزج مع صورته الظاهرة، فإن كمالَ تلك الروح وعلوَّ ذلك الجسد هما اللذان يُظهران هذه الجلوات على هذه الصورة البديعة، حتى يظهر في كل دقيقة نقشاً جديداً وحسناً مجدداً، فليس هذا إيجاداً باختيار حقيقي، بل هو جلوة وتظاهر».

    أما الشخص الآخر فيقول: «إنَّ هذه النقوشَ الموزونة المنظمة المتقنة تقتضي يقيناً إرادةً واختياراً وقصداً ومشيئة، فلا يمكن أن تكون جلوةً بلا إرادة ولا تظاهراً بلا اختيار».

    نعم، إن ماهية الطاووس جميلة ورائعة، ولكن ماهيتَه ليست فاعلةً قطعاً وإنما هي منفعلة، ولا يمكن أن تتحد مع فاعلها مطلقاً. وإن روحَه عاليةٌ سامية ولكن ليست موجِدةً ولا متصرفة، وإنما هي مظهرٌ ومدار ليس إلّا. لأنه يشاهَد في كل ريش منه إتقانٌ قد تم بحكمة مطلقة بالبداهة، ونقش زينة نقشها بالقدرة المطلقة.

    وهذا لا يمكن أن يكون دون إرادة واختيار قطعاً.

    فهذه المصنوعات البديعة التي تبين كمال الحكمة في كمال القدرة، وكمال الربوبية والرحمة في كمال الاختيار، لا يمكن أن تكون هذه المصنوعات نتيجة جلوة أو ما شابهها.

    إنَّ الكاتب الذي كتب سطور هذا السجل المذهّب لا يمكن أن يكون في السجل نفسه، ولا يمكن أن يتحد معه. وليس لذلك السجل إلّا تماساً بطرف قلم ذلك الكاتب. لذا فإن زينةَ جمال ذلك الطاووس المثالي الذي هو يمثل الكائنات، ليس إلّا رسالةً من قلم خالق ذلك الطاووس.

    فالآن تأمل في طاووس الكائنات واقرأ تلك الرسالة، وقل لكاتبها: ما شاء الله.. تبارك الله.. سبحان الله...

    فالذي يظن الرسالة كاتبَها أو يتخيل الكاتبَ في الرسالة نفسها، أو يتوهم الرسالةَ خيالاً لاشك أنه قد ستر عقلَه بستار العشق ولم يبصر الصورة الحقيقية للحقيقة.

    إنَّ أهم جهة من أنواع العشق التي تسبب الانسلاك إلى مشرب وحدة الوجود هي عشق الدنيا، إذ حينما يتحول عشقُ الدنيا الذي هو عشق مجازي إلى عشق حقيقي ينقلب إلى «وحدة الوجود».

    إن شخصاً إذا أحب إنساناً محبة مجازية، ما إن يشاهد فناءه لا يستطيع أن يمكّن هذا الزوال في قلبه، تراه يمنح معشوقَه عشقاً حقيقياً، فيتشبث بحقيقة عشقه ليُسلّي بها نفسَه، وذلك بإضفاء البقاء على محبوبه بعشق حقيقي فيقول: إنه مرآة جمال المعبود والمحبوب الحقيقي.

    كذلك الأمر فيمن أحبّ الدنيا العظيمة وجعل الكونَ برمته معشوقه، فحينما تتحول هذه المحبة المجازية إلى محبة حقيقية بسياط الزوال والفراق التي تنزل بالمحبوب، يلتجئ ذلك العاشق إلى «وحدة الوجود» إنقاذاً لمحبوبه العظيم من الزوال والفراق.

    فإن كان ذا إيمان رفيع راسخ يكون له هذا المشرب مرتبة ذات قيمة نورانية مقبولة كما هي لدى «ابن عربي» وأمثاله، وإلَّا فلربما يسقط في ورطات وينغمس في الماديات ويغرق في الأسباب.

    أما «وحدة الشهود» فلا ضرر فيها، وهي مشرب عال لأهل الصحو.

    اللّهم أرِنا الحقَّ حقاً وارزُقنا اتّباعَه.

    ﴿ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَٓا اِلَّا مَا عَلَّمْتَنَاۜ اِنَّكَ اَنْتَ الْعَل۪يمُ الْحَك۪يمُ ﴾


    اللمعة الثامنة | اللمعات | اللمعة العاشرة

    1. أي إن الفضل الإلهي لا يشترط القابلية في ذات الشخص.
    2. إن الذي ترأس ربع البشرية، وانتقل -بجهة- من نوع البشر إلى نوع الملائكة، وترك الأرض متخذاً السماء له موطناً.. إن هذا الفرد الإنساني الخارق، وهذه أوضاعه الخارقة يقتضي أن تكون له صورة خارقة من قانون التناسل. بينما لا ينسجم ضمه بتأويل داخل قانون التناسل بوجه مشكوك مجهول غير فطري، بل بأدنى وجه وطراز من وجوه قانون التناسل، كما لا اضطرار إلى ذلك أصلاً.
      ثم إن صراحة القرآن الكريم لا تتحمل التأويل. ويا عجباً أتُهدم قوانين ثابتة رصينة لم تُخرق في أية جهة كانت، وظلت خارقة عن قانون التناسل؛ كقانون الجنس الملائكي وقانون صراحة القرآن، في سبيل ترميم قانون التناسل المتخرق الممزق بمائة جهة وجهة؟ (المؤلف).
    3. إنه مع سبق بلاد الإفرنج في رقيها الخارق وتقدمها في المدنية وفي العلوم الحديثة وفي العلوم الإنسانية فإن ضلالهم ضلال الخنازير في ظلمات الفلسفة المادية ومتاهات الطبيعة منافٍ كلياً لذلك الرقي والتقدم والعلوم. أسائل ألا يكون في ذلك دخل لأكل لحم الخنزير؟
      وان الدليل على أن مزاج الإنسان يتأثر بما يتغذى به هو المثل المشهور: «من دام على أكل اللحم أربعين يوماً أصيب بقساوة القلب».(المؤلف).