اللوامع
اللوامع
من بين هلال صوم وهلال العيد
أزاهير تفتحت عن نوى الحقائق وديوان شعر إيماني لطلاب النور
تـأليـــف
بديع الزمان سعيد النّورسيّ
تنبيه
إنّ هذا الديوان الموسوم بـ«اللوامع» لا يجري مجرى الدواوين الأخرى على نمط واحد متناولا عددا من المواضيع؛ ذلك لأن المؤلف المحترم قد وضح فيه المقولات البليغة المختصرة جدا لأحد مؤلفاته القديمة «نوى الحقائق»، ولأنه قد كتب على أسلوب النثرِ، زد على ذلك لا يجنح إلى الخيالات والانطلاق من أحاسيس غير موزونة، كما هو في سائر الدواوين. فلا يضم هذا الديوان بين دفتيه إلّا ما هو موزون بميزان المنطق وحقائق القرآن والإيمان. فهو درس علمي بل قرآني وإيماني ألقاه المؤلف على مسامع ابن أخيه وأمثاله من الطلاب الذين لازموه. ولقد اقتدى أستاذنا واستفاض من نور ﴿ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ ﴾ فما كان له ميل إلى النظم والشعر ولم يشغل نفسه بهما أبدا، كما بيّنه في التنبيه المتصدر للأثر وأدركنا نحن أيضا منه هذا الأمر.
وقد تمَّ تأليف هذا الديوان الشبيه بالمنظوم خلال عشرين يوما، بعد سعي متواصل لساعتين أو زيادة نصف ساعة من الزمان يوميا، مع كثرة المشاغل والمَهام الجليلة لـ«دار الحكمة الإسلامية».
إن تأليفا كهذا ضمن هذا الوقت القصير جدا، مع ما في كتابة صحيفة واحدة من المنظوم صعوبة تفوق عشر صفحات من غيره، ومع وروده فطريا وطبعه كما ورد دون أن يطرأ عليه تصحيح أو تشذيب أو تدقيق.. يجعلنا نراه خارقة من خوارق رسائل النور، فلا نعلم ديوان شعر مثل هذا يسهل قراءته نثرا دون تكلّف .
نسأل الله أن يجعل هذا المؤلَّف النفيس بمثابة المثنوي (الرومي) لطلاب النور، إذ هو خلاصة قيمة لرسائل النور وفي حكم فهرس يبشر بقدومها ويشير إشارة مستقبلية إليها، تلك الرسائل التي ظهرت بعد عشر سنوات واكتملت في غضون ثلاث وعشرين سنة.
صنغور، محمد فيضي، خسرو
من طلاب النور
* * *
تنبيه([1])
لم أقدر النظم والقافية قدرهما، لعدم معرفتي بهما، فالمرء عدوّ لما جهل.
ولم أشأ قط تغيير صورة الحقيقة لتوافِق أهواء القافية، نظير «التضحية بصافية فداء للقافية» ([2]) ولأجل هذا فقد ألبستُ أسمى الحقائق أردأ الملابس في هذا الكتاب الخالي من القافية والنظم. وذلك:
أولا: لأنني لا أعلم أفضل من هذا. فكنت أحصر فكري في المعنى وحده، دون اللفظ.
ثانيا: أردت أن أبين بهذا الأسلوب نقدي لأولئك الشعراء الذين ينحتون الجسد ليوافق اللباس!
ثالثا: أردت إشغال النفس أيضا بالحقائق العالية مع انشغال القلب بها في هذا الشهر المبارك، شهر رمضان.
ولأجل هذه الأسباب اِختيرَ هذا الأسلوب الشبيه بأساليب المبتدئين.
ولكن أيها القارئ الكريم!
لئن كنت قد أخطأت -وأنا أعترف به- فإياك أن تخطئ فتنظرَ إلى الأسلوب المتهرئ ولا تنعم النظر في تلك الحقائق الرفيعة، ومن ثم تهوّن من شأنها.
إيضاح
أيها القارئ الكريم! إنني أعترف سلفا بضجري من فقر قابليتي في صنعة الخطّ وفن النظم، إذ لا أستطيع الآن حتى كتابة اسمي كتابة جيدة، ولم أتمكن طوال حياتي من نظم بيتٍ واحد أو من وزنه. ولكن، وعلى حين غرّة ألحّتْ على فكري رغبةٌ قوية في النظم، وقد كانت روحي ترتاح لما في كتاب «قول نوالا سيسيبان» ([3]) من نظمٍ فطري عفوي على نمط مدائح تصف غزوات الصحابة الكرام رضوان الله عليهم. فاخترتُ لنفسي طراز نظمه، وكتبتُ نثرا شبيها بالنظم. ولم أتكلف للوزن قطعا. فليقرأه مَن شاء نثرا قراءة سهلة دون تذكّر النظم والاهتمام به، بل عليه أن يعدّه نثرا ليفهم المعنى، إذ هناك ارتباط في المعنى بين القِطعَ، وعليه ألّا يتوقف في القافية. ([4]) فكما تكون الطاقية والطربوش بلا شُرّابة كذلك يكون الوزن أيضا بلا قافية، والنظم بلا قاعدة. بل اعتقد انه لو كان اللفظ والنظم جذابين صنعةً يُشغلان فكر الإنسان بهما ويشدّانه إليهما، فالأولى إذن أن يكون اللفظ بسيطا من غير تزويق لئلا يصرف النظر إليه.
إن أستاذي ومرشدي في هذا الكتاب: القرآن الكريم.. وكتابي الذي أقرأه: الحياة.. ومخاطبي الذي أوجّه له الكلام: نفسي..أما أنت أيها القارئ العزيز، فمستمع ليس إلّا، والمستمع لا يحق له الانتقاد، بل يأخذ ما يعجبه ولا يتعرض لما لا يعجبه.
إن أستاذي ومرشدي في هذا الكتاب: القرآن الكريم.. وكتابي الذي أقرأه: الحياة.. ومخاطبي الذي أوجّه له الكلام: نفسي..أما أنت أيها القارئ العزيز، فمستمع ليس إلّا، والمستمع لا يحق له الانتقاد، بل يأخذ ما يعجبه ولا يتعرض لما لا يعجبه.
ولما كان كتابي هذا نابعا من فيض الشهر الكريم، شهر رمضان المبارك، ([5]) فإنني آمل أن يؤثر في قلب أخي في الدين، فيهدي لي بظهر الغيب دعاءً بالمغفرة أو قراءة سورة الفاتحة.
الداعي([6])
قبري المهدّم ([7]) يضم تسعا وسبعين جثة([8])
لسعيد ذي الآثام والآلام
وقد غدا تمام الثمانين شاهد قبري
والكل يبكي ([9]) لضياع الإسلام.
فيئن ذلك القبر المليء بالأموات مع شاهده.
وغدا أنطلقُ مسرعا إلى ساحة عقباي
وأنا على يقينٍ: أن مستقبل آسيا بأرضها وسمائها
يستسلم ليد الإسلام البيضاء
إذ يمينه يمن الإيمان
يمنح الطمأنينة والأمان للأنام. ([10])
* * *
بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين،
وعلى آله وصحبه أجمعين.
برهانان عظيمان للتوحيد
هذا الكون بذاته برهان عظيم.
إذ لسان الغيب ولسان الشهادة يسبّحان بالتوحيد، توحيد الرحمن. ويذكُران بصوت هائل:
«لا إله إلّا هو».
فكل ذرات الكون، وحجيراته، وأركانه، وأعضائه؛ لسان ذاكر يلهج مع ذلك الصوت الداوي بـ:
«لا إله إلّا هو».
في تلك الألسنة تنوّع، وفي تلك الأصوات مراتب، إلّا أنها تنطلق معا بـ:
«لا إله إلّا هو».
هذا الكون إنسان أكبر.. يذكر ربَّه بصوت عالٍ، والأصوات الرقيقة لأجزائه وذراته كلها تدوي مع ذلك الصوت الهادر:
«لا إله إلّا هو».
نعم، إن هذا العالم يتلو آيات القرآن في حلقة ذكر عظيمة. وهذا القرآن المشرق المنور يترنم مع ذوي الأرواح كلها بـ:
«لا إله إلّا هو».
هذا الفرقان الحكيم، برهان ناطق لذلك التوحيد. آياتُه كلها ألسنة صادقة.. وأشعة ساطعة بالإيمان.. فالجميع يذكر معا:
«لا إله إلّا هو».
فإذا ما ألصقتَ الأذن بصدر هذا الفرقان، ستسمع من أعمق الأعماق صدىً سماويا صريحا ينبعث:
«لا إله إلّا هو».
فذلك الصوت اللطيف، صوت رفيع عالٍ، في منتهى الجدية وغاية الإيناس، ونهاية الصدق والإخلاص. ومدعم بالبرهان القاطع المقنع.. يقول مكررا:
«لا إله إلّا هو».
هذا البرهان المنور، جهاتُه الست شفافة رائقة إذ:
عليه نقش الإعجاز الظاهر.
وبداخله يلمع نور الهداية، ويقول:
«لا إله إلّا هو».
تحته نسيج البرهان والمنطق... في يمينه استنطاق العقل، ويصدّقه بـ:
«لا إله إلّا هو».
وفي شماله -الذي هو يمين- استشهاد الوجدان... أمامه الحسن والخير... وهدفه السعادة... مفتاحه دائما:
«لا إله إلّا هو».
ومن ورائه الذي هو أمام. أي استناده؛ سماوي وهو: الوحي المحض. فهذه الجهات الست منيرة مضيئة، يتجلى في بروجها:
«لا إله إلّا هو».
فأنّى للوهم أن يسترق منها السمع، وأنّى للشبهة أن تطرق بابها.
أفيمكن أن يدخل ذلك المارق هذا الصرح البارق الشارق!!
فأسوار سوره شاهقة، وكل كلمة منه مَلَك ناطق بـ:
«لا إله إلّا هو».
فذلك القرآن العظيم بحر ناطق للتوحيد.
لنأخذ قطرة منه مثالا؛ «سورة الإخلاص». نتناولها رمزا قصيرا مما لا يعد من الرموز.
إنها تردّ الشرك بجميع أنواعه ردّا قاطعا. وتثبت سبعة أنواع من التوحيد في جملها الست: ثلاث جملٍ منها مثبتة وثلاث منها منفية.
الجملة الأولى: ﴿ قُلْ هُوَ ﴾: إشارة بلا قرينة، أي هو تعيين بالإطلاق، ففي ذلك التعيين تعيّن. أي
لا إله إلّا هو.
وهذا إشارة إلى توحيد الشهود. فلو استغرقت البصيرةُ النافذة إلى الحق في التوحيد، لقالت:
«لا مشهود إلّا هو».
الجملة الثانية: ﴿ اللّٰهُ اَحَدٌ ﴾ تصريح بتوحيد الألوهية، إذ الحقيقة تقول بلسان الحق:
«لا معبود إلّا هو».
الجملة الثالثة: ﴿ اَللّٰهُ الصَّمَدُ ﴾ صدف لدرّين من درر التوحيد.
الأول: توحيد الربوبية: فلسان نظام الكون يقول:
«لا خالق إلّا هو».
الثاني: توحيد القيومية: أي إن لسان الحاجة إلى مؤثر حقيقي في الكون كله يقول:
«لا قيوم إلّا هو».
الجملة الرابعة: ﴿ لَمْ يَلِدْ ﴾ يستتر فيها توحيد الجلال، ويردّ أنواع الشرك، ويقطع دابر الكفر:
لأن الذي يتغير ويتناسل ويتجزأ لاشك أنه ليس بخالق ولا قيوم ولا إله.
و ﴿ لَمْ يَلِدْ ﴾ : يردّ مفهوم البنوة والتولد، إذ يقطع قطعا شركَ بنوة عيسى وعزير «عليهما السلام» والملائكة أو العقول.
فلقد ضل كثير من الناس، وهووا في غياهب الضلال من هذا الشرك.
خامستها: ﴿ وَلَمْ يُولَدْ ﴾ توحيد سرمدي يشير إلى إثبات الأحدية.
فمن لم يكن واجبا قديما أزليا لا يكون إلها، أي إن كان حادثا زمانيا، أو متولدا مادةً، أو منفصلا عن أصل، لا يمكن أن يكون إلها لهذا الكون.
هذه الجملة تردّ شرك عبادة الأسباب، وعبادة النجوم، وعبادة الأصنام، وعبادة الطبيعة.
سادستها: ﴿ وَلَمْ يَكُنْ ﴾ توحيد جامع، أي لا نظير له في ذاته، ولا شريك له في أفعاله. ولا شبيه له في صفاته. كل ذلك مندمج معا يوجه النظر إلى «لم».
فهذه الجمل الست متضمنة سبع مراتب من مراتب التوحيد، كل منها نتيجة للأخرى، وبرهان لها في الوقت نفسه.
أي إن «سورة الإخلاص» تشتمل على ثلاثين سورة من سور الإخلاص سورٍ منتظمة مركبة من دلائل يثبت بعضها بعضا.
لا يعلم الغيب إلّا الله.
* * *
السبب ظاهري بحت
تقتضي عزة الألوهية وعظمتها، أن تكون الأسباب الطبيعية أستارا بين يدي قدرته تعالى أمام نظر العقل.
ويقتضي التوحيد والجلال، أن تسحب الأسباب الطبيعية يدَها عن التأثير الحقيقي في آثار القدرة الإلهية. ([11])
* * *
الوجود غير منحصر في العالم الجسماني
إنّ أنواع الوجود المختلفة التي لا تحصى، لا تنحصر في هذا العالم، عالم الشهادة.
فالعالم الجسماني (المادي) شبيه بستار مزركش ملقىً على عوالم الغيب المنورة.
* * *
الاتحاد في قلم القدرة يعلن التوحيد
إنّ ظهور أثر الإبداع في كل زاوية من زوايا الفطرة يردّ بالبداهة إيجاد الأسباب لها.
إنّ نقش القلم نفسه والقدرة عينها، في كل نقطة في الخلقة، يرفض -بالضرورة- وجود الوسائط.
* * *
لا شيء دون الأشياء كلها
إنّ سر التساند والترابط، المستتر في الكائنات كلها، المنتشر فيها.. وكذا انبعاث روح التجاوب والتعاون من كل جانب..
يبين أنه ليست إلّا قدرة محيطة بالعالم كله، تخلق الذرة وتضعها في موضعها المناسب.
فكل حرف وكل سطر من كتاب العالم، حيّ، تسوقه الحاجة،
وتعرّف الواحد الآخر، فيُلبي النداء أينما انطلق.
وبسر التوحيد تتجاوب الآفاق كلها،
إذ توجّه القدرة كل حرف حي إلى كل جملة من جمل الكتاب وتبصّرها.
* * *
حركة الشمس للجاذبية، وهي لشدّ منظومتها
الشمس شجرة مثمرة، تنتفض لئلا تسقط ثمارها السيارات المنتشية المنجذبة إليها..
ولو سكنتْ بِصَمتها وسكونها لزالت الجذبةُ، وتبخرت النشوةُ، وبكتْ -شوقا إليها- مجاذيبُها السيارات المنتظمة في الفضاء الوسيع.
* * *
الأشياء الصغيرة مربوطة بالكبيرة
إنّ الذي خلق عين البعوضة، هو الذي خلق الشمس ودرب التبانة..
والذي نظّم معدة البرغوث هو الذي نظّم المنظومة الشمسية..
والذي أدرج الرؤية في العين وغرز الحاجة في المعدة هو الذي كَحّل عين السماء بإثمد النور وبسط سُفرة الأطعمة على وجه الأرض.
* * *
في نظم الكون إعجاز عظيم
شَاهِد الإعجاز في تأليف الكون؛ فلو أصبح كلُ سببٍ من الأسباب الطبيعية فاعلا مختارا مقتدرا -بفرضٍ محال-
لسجدتْ تلك الأسباب عاجزةً ذليلةً أمام ذلك الإعجاز قائلة:
سبحانك.. لا قدرة فينا.. ربنا أنت القدير الأزلي ذو الجلال.
كل شيء أمام القدرة سواء
﴿ مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ اِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ (لقمان:٢٨)
القدرة الإلهية ذاتية وأزلية لا يتخللها العجز أصلا،
فلا مراتب فيها، ولا تداخلها العوائق قطعا، فالكل والجزء إزاءها سواء، لا يتفاوتان؛
لأن كل شيء مرتبط بالأشياء كلها. فمن لا يقدر على خلق كل الأشياء لا يقدر على خلق شيء واحد.
* * *
مَن لم يقبض على زمام الكون كلّه لا يقدر على خلق ذرة
إن من لا يملك قبضة قوية يرفع بها أرضنا والشموس والنجوم التي لا تحصى، ويضعها على هامة الفضاء، وفوق صدره، بانتظام وإتقان، ليس له أن يدّعي الخلق والإيجاد قطعا.
* * *
إحياء النوع كإحياء الفرد
كما أن إحياء ذبابة غطت في نومٍ شبيه بالموت في الشتاء، ليس عسيرا على القدرة الإلهية،
كذلك إحياء هذه الدنيا بعد موتها، بل إحياء ذوي الأرواح قاطبة، سهل ويسير عليها.
* * *
الطبيعة صنعة إلهية
الطبيعة ليست طابعة، بل مطبع.. ولا نقاشة بل نقش، ولا فاعلة بل قابلة للفعل.. ولا مصدرا، بل مسطر..
ولا ناظما بل نظام.. ولا قدرة بل قانون.
فهي شريعة إرادية، وليست حقيقة خارجية.
* * *
الوجدان يعرف الله بوَجْده ونَشوته
في الوجدان انجذاب وجذب، مندمجان فيه دوما، لذا ينجذب، والانجذاب إنما يحصل بجذبِ جاذبٍ.
وذو الشعور ينجذب انجذابا، إذا ما بدا ذو الجمال وتجلّى ببهاء دون حُجُب.
هذه الفطرة الشاعرة تشهد شهادة قاطعة على الواجب الوجود ذي الجلال والجمال.
شاهِدُها الأول ذلك الجذب.. والآخر ذلك الانجذاب.
* * *
شهادة الفطرة صادقة
لا كذبَ في الفطرة، فما تقوله صدق؛ فميَلان النمو الكامن في النواة يقول:
سأنمو وأثمر. والواقع يصدّقه.
في داخل البيضة، يقول ميَلان الحياة، في تلك الأعماق:
سأكون فرخا..
ويكون بإذن الله فعلا، ويُصدَّق كلامُه.
وإذا نوت غرفة من ماء داخل كرة من حديد الانجمادَ،
فإن ميلان انبساطها في أثناء البرودة يقول: توسَّع أيها الحديد، أنا محتاج إلى مكان أوسع.
فيحاول الحديد الصلب ألّا يكذّبه، بل ما فيه من إخلاص وصدقِ الجنان يفتّت ذلك الحديد.
كلُّ ميلٍ من هذه الميول، أمر تكويني، حكم إلهي،
شريعة فطرية، تجلٍّ للإرادة الإلهية في إدارة الأكوان.
فكلُّ ميل، وكل امتثال، انقياد لأمر إلهي تكويني.
فالتجلي في الوجدان جلوة كهذه، بحيث إن الانجذاب والجذبة صافيان كالمرآة المجلوة،
ينعكس فيهما نور الإيمان وتجلّي الجمال الخالد.
النبوة ضرورية للبشرية
إنّ القدرة الإلهية التي لا تترك النمل من دون أمير، والنحل من دون يعسوب،
لا تترك حتما البشر من دون نبي، من دون شريعة... نعم، هكذا يقتضي سر نظام العالم.
* * *
المعراج معجزة للملائكة مثلما انشقاق القمر معجزة للإنسان
المعراجُ ولاية عظمى في نبوة مسلَّمة بها رأته الملائكة رؤية حقة كرامةً.
ركب النبي الباهر «البُراق» وغدا بَرقا، فدار الوجود كالقمر مشاهدا عالم النور أيضا.
فكما أن انشقاق القمر معجزة حسيّة عظمى للإنسان المنتشر في عالم الشهادة،
فهذا المعراج أيضا هو أعظم معجزة لساكني عالم الأرواح.
* * *
كلمة الشهادة برهانها فيها
كلمتا الشهادة: كل منها شاهدة للأخرى، ودليل، وبرهان.
فالأولى: برهان لِمّي للثانية، والثانية: برهان إنِّي للأولى. ([12])
* * *
الحياة طراز من تجلّي الوحدة
الحياة نور الوحدة.. فالتوحيد يتجلى بالحياة في هذه الكثرة.
نعم، إن تجلّيا من تجليات الوحدة يجعل الكثرة الكاثرة من الموجودات وجودا واحدا؛
لأن الحياة تجعل الشيء الواحد مالكا لكل شيء.. بينما كل الأشياء عند فاقد الحياة عدم.
الروح قانون أُلبِس وجودا خارجيا
الروح قانون نوراني، وناموس ألبس وجودا خارجيا. أُودع فيه الشعور.
فهذا الروح الموجود -وجودا خارجيا- وذاك القانون المعقول -المدرَك عقلا- أصبحا أخوَين وصديقين.
إذ هذا الروح آتٍ من عالم الأمر، ومن صفة الإرادة، كالقوانين الفطرية الثابتة الدائمة.
وإن القدرة الإلهية تكسو الروحَ وجودا حسيا، وتودع فيه الشعور، فتَجعل سيالةً لطيفة صَدَفةً لذلك الجوهر.
ولو ألبست قدرةُ الخالق القوانينَ الجارية في الأنواع، وجودا خارجيا، لأصبح كل منها روحا.
ولو نـزع الروحُ هذا الوجودَ، وطرح عنه الشعور، لأصبح قانونا باقيا.
* * *
الوجود بلا حياة كالعدم
الضياء والحياة، كلاهما كشّافان للموجودات.
إن لم يكن هناك نور الحياة، فالوجود معرّض للعدم، بل هو كالعدم.
نعم، إنّ ما لا حياة فيه غريب، يتيم، حتى لو كان قمرا.
* * *
النملة بالحياة أكبر من الأرض
إذا وازنتَ النملةَ بميزان الوجود، فالكون الذي تنطوي عليه النملة بسر الحياة، لا تسعه كرتنا الأرضية.
فلو قارنّا هذه الكرة الأرضية -التي أراها حية ويراها البعض ميتة- مع النملة،
فإنها لا تعدل نصف رأس هذا الكائن المجهز بالشعور.
* * *
النصرانية ستسلِّم أمرها للإسلام
ستجد النصرانية أمامها الانطفاء أو الاصطفاء. وسوف تلقي السلاح وتستسلم للإسلام.
لقد تمزقت عدة مرات، حتى آلت إلى «البروتستانتية» ولم تسعفها كذلك، وتمزق الستار مرة أخرى، فوقعت في ضلالة مطلقة.
إلّا أن قسما منها اقترب من التوحيد، وسيجد فيه الفلاح.
وهي الآن على وشك التمزق، ([13]) إن لم تنطفئ فإنها تتصفّى وتكون مُلكَ الإسلام (إذ تجد نفسها أمام الحقائق الإسلامية الجامعة لأسس النصرانية الحقيقية).
هذا سر عظيم أشار إليه الرسول الكريم ﷺ بنـزول عيسى عليه السلام، وأنه سيكون من أمته ويعمل بشريعته. ([14])
* * *
النظر التقليدي يرى المحال ممكنا
لقد اشتهرت حادثة: أنه بينما كان الناس يراقبون هلال العيد، ولم يرَ أحد شيئا،
إذا بشيخ هرم يحلف أنه قد رأى الهلال، ثم تبين أن ما رآه لم يكن هلالا بل شعرة بيضاء تقوست من أهدابه.
فأصبحت تلك الشعرةُ هلالا له. فأين تلك الشعرة المقوسة من الهلال؟.
فهلا فهمت هذا الرمز!
لقد أصبحت حركات الذرات شعرات مظلمة لأهداب العقل، أسدلت على البصر المادي وأعمَته،
فلم يعد يرى الفاعلَ لتشكيل الأنواع كلها. وهكذا تقع الضلالة.
فأين حركات الذرات من نظّام الكون؟.
إنّ توهم صدور تلك الأنواع من تلك الحركات محال في محال.
* * *
القرآن لا يحتاج إلى وكيل بل إلى مرآة
إنّ ما في المصدر من قدسية هي التي تحض جمهور الأمة والعوام على الطاعة وتسوقهم إلى امتثال الأوامر أكثر من قوة البرهان.
إن تسعين بالمئة من أحكام الشريعة مسلَّمات وضروريات دينية، شبيهة بأعمدة من الألماس،
أما المسائل الاجتهادية الخلافية الفرعية، فلا تبلغ إلّا عشرة بالمئة. فلا ينبغي أن يكون تسعون عمودا من الألماس تحت حماية عشرة منها من ذهب، ولا تابعة لها.
إنّ معدن أعمدة الألماس وكنـزها الكتاب والسنة. فهي مُلكهما ولا تُطلب إلّا منهما.
أما الكتب الأخرى والاجتهادات فينبغي أن تكون مرايا عاكسة للقرآن أو مناظير إليه ليس إلّا. إذ إن تلك الشمس المنيرة المعجزة لا ترضى لها ظلا ولا وكيلا.
* * *
المبُطل يأخذ الباطل بظن الحق
إنّ الإنسان يقصد الحق ويتحراه دوما، لما يحمل من فطرة مكرّمة، وقد يعثر على باطل فيظنه حقا ويحافظ عليه،
وقد يقع عليه الضلالُ من دون اختيار وهو ينقّب عن الحقيقة، فيظنه حقا ويصدّقه.
* * *
مرايا القدرة كثيرة
إنّ مرايا القدرة الإلهية كثيرة جدا، كل منها يفتح نوافذ أشفّ وألطف من الأخرى إلى عالم من عوالم المثال.
فابتداءً من الماء إلى الهواء، ومن الهواء إلى الأثير، ومن الأثير إلى عالم المثال، ومن عالم المثال إلى عالم الأرواح، ومن عالم الأرواح إلى الزمان، ومن الزمان إلى الخيال،
ومن الخيال إلى الفكر، كلها مرايا متنوعة تتمثل فيها الشؤون الإلهية السيالة.
فتأمل بأذنك في مرآة الهواء ترَ الكلمة الواحدة تصبح مليونا من الكلمات.
هكذا يسطّر قلمُ القدرة الإلهية سرّ هذا التناسل والاستنساخ العجيب.
* * *
أقسام التمثلات مختلفة
ينقسم التمثل في المرآة إلى أربع صور: فإما أنها صورة تمثل الهوية فحسب، أو تمثل معها الخاصية، أو تمثل الهوية ونور الماهية، أو ماهية الهوية.
فإن شئت مثالا، فدونك الإنسان والشمس، والمَلَك والكلمة.
إن تمثلات الكثيف تصبح أمواتا متحركة في المرآة.
وتمثلات روح نورانية في مراياها كل منها حية مرتبطة، ونور منبسط. إن لم يكن عينه فليس هو غيره.
فلو كانت للشمس حياة، لكانت حرارتُها حياتها، وضياؤها شعورَها. فصورتُها المنعكسة في المرآة تملك هذه الخواص.
فهذا هو مفتاح هذه الأسرار:
إنّ جبرائيل عليه السلام وهو في سدرة المنتهى يتمثل في صورة «دحية الكلبي» في المجلس النبوي وفي أماكن أخرى كثيرة. ([15])
وإنّ عزرائيل يقبض الأرواح في مكان وفي أماكن كثيرة لا يعلمها إلّا الله.
وإنّ الرسول ﷺ يظهر لأمته في وقت واحد، في كشف الأولياء، وفي الرؤى الصادقة، ويقابلهم جميعا بشفاعته لهم يوم القيامة يوم الحشر الأعظم.
وإن الأبدال في الأولياء يظهرون هكذا في أماكن عدة في آن واحد.
* * *
قد يكون المستعد مجتهدا لا مشرعا
كل من لديه استعداد وقابلية على الاجتهاد وحائز على شروطه، له أن يجتهد لنفسه في غير ما ورد فيه النص، من دون أن يُلزِم الآخرين به،
إذ لا يستطيع أن يشرّع ويدعو الأمة إلى مفهومه. إذ فهمه يُعدّ من فقه الشريعة ولكن ليس الشريعة نفسها، لذا ربما يكون الإنسان مجتهدا ولكن لا يمكن أن يكون مشرّعا.
فالدعوة إلى أي فكر كان؛ مشروطـة بقبول جمهور العلماء له،
وإلّا فهو بدعة مردودة. تنحصر بصاحبها ولا تتعداه. لأن الإجماع وجمهور الفقهاء هم الذين يميزون ختم الشريعة عليه.
* * *
نور العقل يشعّ من القلب
على المفكرين الذين غشيَهم ظلام أن يدركوا الكلام الآتي:
لا يتنور الفكر من دون ضياء القلب؛
فإن لم يمتزج ذلك النور وهذا الضياء، فالفكر
ظلام دامس يتفجّر منه الظلم والجهل. فهو ظلام قد لبس لبوس النور «نور الفكر» زورا وبهتانا.
ففي عينك نهار لكنه بياض مظلم، وفيها سواد لكنه منوَّر؛ فإن لم يكن فيها ذلك السواد المنور،
فلا تكون تلك الشحمة عينا، ولا تقدر على الرؤية.
وهكذا، لا قيمة لبصر بلا بصيرة.
فإن لم تكن سويداء القلب في فكرة بيضاء ناصعة، فحصيلةُ الدماغ لا تكون علما ولا بصيرة... فلا عقل دون قلب.
* * *
مراتب العلم في الدماغ مختلفة وملتبسة
في الدماغ مراتب، يلتبس بعضها ببعض، أحكامها مختلفة؛ يحصل التخيل أولا، ثم يأتي التصور، ثم يرد التعقل،
ثم التصديق، ثم يصبح إذعانا، ثم يأتي الالتزام، ثم الاعتقاد.
فاعتقادك بشيء غير التزامك به.
وعن كلٍ من هذه المراتب تصدر حالة؛ فالصلابة تصدر عن الاعتقاد،
والتعصب عن الالتزام، والامتثال عن الإذعان، والالتزام عن التصديق، ويحصل الحياد في التعقل، والتجرد في التصور،
والسفسطة في التخيل إن عجز عن المزج.
إنّ تصوير الأمور الباطلة تصويرا جيدا
جرح للأذهان الصافية وإضلال لها.
* * *
لا يُلقَّن مالا يُستوعب من علم
إنّ العالم المرشد الحقيقي يهب للناس علمه في سبيل الله دون انتظار عوض، ويصبح كالشاة لا كالطير،
فالشاة تُطعم بَهْمتها لبنا خالصا،
والطير تلقم فراخها قيئها المليء باللعاب.
* * *
التخريب أسهل والضعيف يكون مخرّبا
إنّ وجود الشيء يتوقف على وجود جميع أجزائه، بينما عدمه يحصل بانعدام جزءٍ منه، لذا يكون التخريب أسهل.
ومن هنا يميل الضعيفُ العاجز إلى التخريب وارتكابِ أعمال سلبية تخريبية. بل لا يدنو من الإيجابية أبدا.
* * *
ينبغي للقوة أن تخدم الحق
إن لم تمتزج دساتير الحكمة ونواميس الحكومة وقوانين الحق وقواعد القوة بعضها ببعض ولم يستمد كل من الآخر ولم يستند إليه،
فلا تكون مثمرة ولا مؤثرة لدى جمهور الناس. فتُهمَل شعائر الشريعة وتعطّل، فلا يستند إليها الناس في أمورهم ولا يثقون بها.
* * *
الشيء يتضمن ضدَّه أحيانا
سيكون زمان يُخفي الضدُّ ضدَّهُ، وإذا باللفظ ضد المعنى في لغة السياسة. وإذا بالظلم ([16]) يلبس قلنسوة العدالة،
وإذا بالخيانة ترتدي رداء الحمية بثمن زهيد. ويُطلق اسم البغي على الجهاد في سبيل الله،
ويسمّى الأسر الحيواني والاستبداد الشيطاني حرية.
وهكذا تتماثل الأضداد، وتتبادل الصور، وتتقابل الأسماء، وتتبادل المقامات المواضعَ.
* * *
السياسة الدائرة على المنفعة وحش رهيب
إنّ السياسة الحاضرة الدائرة رحاها على المنافع وحش رهيب،
فالتودد إلى وحش جائع لا يدرّ عطفه بل يثير شهيته،
ثم يعود ويطلب منك أجرة أنيابه وأظفاره!
* * *
تتعاظم جناية الإنسان لعدم تحدد قواه
إنّ القوى المودعة في الإنسان لم تُحدد فطرةً خلافا للحيوان، فالخير والشر الصادران عنه لا يتناهيان.
فإذا ما اقترن غرور من هذا وعناد من ذاك، يولدان ذنبا عظيما ([17]) إلى حد لم يعثر له البشر على اسم.
إنّ هذا دليل على وجود جهنم، إذ لا جزاء له إلّا النار.
ومثلا: يتمنى أحدُهم أن تحل بالمسلمين مصيبة كي يظهر صدق كلامه وصواب تنبيئه!!.
ولقد أظهر هذا الزمان أيضا أن الجنة غالية ليست رخيصة، وأن جهنم ليست زائدة عن الحاجة.
* * *
رُبَّ خير يكون وسيلة لشر
إنّ المزية التي يتحلّى بها الخواص، في الحقيقة سبب لدفعهم إلى التواضع وإنكار الذات. ولكن مع الأسف أصبحت وسيلة للتحكم بالآخرين والتكبر عليهم.
وكذلك عجز الفقراء وفقر العوام، هما داعيان في الحقيقة للإشفاق عليهم، ولكن مع الأسف انجرا -في الوقت الحاضر- إلى سوقهم إلى الذل والأسر.
لو حصل شرف ومحاسن في شيء ما، فإنه يُسند إلى الخواص والرؤساء. أما إن حصلت منه السيئات والشرور فإنها توزع على الأفراد والعوام.
فالشرف الذي نالته العشيرة الغالبة يقابل بـ: «أحسنت يا شيخ العشيرة!».
ولكن لو حصل العكس فيقال: «سحقا لأفرادها».
وهذا هو الشر المؤلم في البشر!
* * *
إن لم تكن للجماعة غاية وهدف فالأنانية تقوى
إن لــم يكن لـفـكـر الجماعة غـايـة وهــدف مثـالـي، أو نُســـيت تـلك الغــايـــة، أو تنوســـــيت، تحولـت الأذهـان إلى أنانيـات الأفـراد وحـامـت حـولها.
أي يتقوى « أنا » كلِ فرد، وقد يتحدد ويتصلب حتى لا يمكن خرقه ليصبح «نحن» فالذين يحبون « أنا » أنفسِهم لا يحبون الآخرين حبا حقيقيا.
انتعاش الاضطرابات بموت الزكاة وحياة الربا
إن معدن جميع أنواع الاضطرابات والقلاقل والفساد وأصلها، وان محرك جميع أنواع السيئات والأخلاق الدنيئة ومنبعها كلمتان اثنتان أو جملتان فقط:
الكلمة الأولى: إذا شبعتُ أنا فمالي إن مات غيري من الجوع.
الكلمة الثانية: تحمّل أنتَ المشاق لأجل راحتي، اعمل أنت لآكل أنا. لك المشقة وعليّ الأكل.
والدواء الشافي الذي يستأصل شأفة السم القاتل في الكلمة الأولى هو الزكاة، التي هي ركن من أركان الإسلام.
والذي يجتث عرق شجرة الزقوم المندرجة في الكلمة الثانية هو تحريم الربا.
فإن كانت البشرية تريد صلاحا وحياة كريمة فعليها أن تفرض الزكاة وترفع الربا.
* * *
على البشرية قتل جميع أنواع الربا إن كانت تريد الحياة
لقد انقطعت صلة الرحم بين طبقة الخواص والعوام.
فانطلقت من العوام أصداء الاضطرابات وصرخات الانتقام، ونفثات الحسد والحقد.
ونـزلت من الخواص على العوام نار الظلم والإهانة، وثقل التكبر ودواعي التحكم.
بينما ينبغي أن يصعد من العوام الطاعةُ والتودد والاحترام والانقياد، بشرط أن ينـزل عليه من الخواص الإحسان، والرحمة، والشفقة، والتربية.
فإن أرادت البشرية دوام الحياة فعليها أن تستمسك بالزكاة وتطرد الربا.
إذ إنّ عدالة القرآن واقفة بباب العالم وتقول للربا: «ممنوع، لا يحق لك الدخول ارجع!».
ولكن البشرية لم تصغِ إلى هذا الأمر، فتلقّت صفعة قوية. ([18]) وعليها أن تصغي إليه قبل أن تتلقى صفعة أخرى أقوى وأمرّ.
لقد كسر الإنسان قيد الأسر وسيكسر قيد الأجر
لقد قلتُ في رؤيا: إن الحروب الطفيفة بين الدول والشعوب تتخلى عن مواضعها إلى صراعات أشد ضراوةً بين طبقات البشر؛
لأن الإنسان لم يرضَ في أدواره التاريخية بالأسر، بل كسر الأغلال بدمه. ولكن الآن أصبح أجيرا يتحمل أعباءه، وسيكسرها يوما ما.
لقد اشتعل رأس الإنسان شيبا، بعد أن مرّ بأدوار خمسة:
الوحشية، والبداوة، والرَّق، وأسر الإقطاع، وهو الآن أجير. هكذا بدأ وهكذا يمضي.
* * *
الطريق غير المشروع يؤدي إلى خلاف المقصود
«القاتل لا يرث» ([19]) دستور عظيم.
إن الذي يسلك طريقا غير مشروع لبلوغ مقصده، غالبا ما يجازى بخلاف مقصوده..
فمحبة أوروبا غير المشروعة وتقليدها والألفة بها كان جزاؤها العداء الغادر من المحبوب! وارتكاب الجرائم.
نعم، فالفاسق محروم لا يجد لذةً ولا نجاة.
* * *
في الجبرية والمعتزلة حبة من حقيقة
يا طالب الحقيقة! إنّ الشريعة تنظر إلى الماضي وإلى المصيبة غير نظرتها إلى المستقبل وإلى المعصية.
إذ تنظر إلى الماضي وإلى المصائب بنظر القدر الإلهي، فالقول هنا للجبرية.
أما المستقبل والمعاصي فتنظر إليهما بنظر التكليف الإلهي، فالقول هنا للمعتزلة. وهكذا تتصالح الجبرية والمعتزلة.
ففي هذه المذاهب الباطلة تندرج حبة من حقيقة، لها محلها الخاص بها، وينشأ الباطل من تعميمها.
* * *
العجز والجزع شأن الضعفاء
إن رُمتَ الحياة، فلا تتشبث بالعجز فيما يمكن حلّه.
وإن رُمتَ الراحة فلا تستمسك بالجزع فيما لا علاج له.
* * *
قد يؤدي الشيء الصغير إلى عظائم الأمور
ستكون هناك أحوال، بحيث إن حركة بسيطة عندها تسمو بالإنسان إلى أعلى عليين.
وكذا تحدث حالات، بحيث إن فعلا بسيطا يردي بصاحبه إلى أسفل سافلين.
* * *
آن واحد يعدل سنة عند بعضهم
فطرة الإنسان قسمان: قسم يسطع في الحال، وقسم آخر يتألق بالتدرج، ويسمو رويدا رويدا.
فطبيعة الإنسان تشبه كليهما معا.
وهي تتبدل حسب الشروط والأحوال.
فتمضي أحيانا بشكل تدريجي، وأحيانا تتفجر نارا مضيئة تفجر البارود الأسود.
ورُبَّ نظرة تحول الفحم ألماسا.
ورُبَّ مسّ يحوِّلُ الحجر إكسيرا.
فنظرة من النبي ﷺ
تقلب الأعرابي الجاهل عارفا بالله منورا في الحال.
وإن سألت ميزانا، فدونك عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل الإسلام وبعده.
ومثالهما: البذرة والشجرة التي أعطت ثمارها اليانعة دفعة واحدة.
فحوّل ذاك النظرُ النبوي وهمّتُه الفِطرَ المتفحمة في الجزيرة العربية إلى ألماسات لامعات.
وتحولت السجايا المظلمة المحرقة -كالبارود الأسود- إلى خصال فاضلة نيّرة.
* * *
الكذب لفظ كافر
حبة واحدة من صدق تبيد بيدرا من الأكاذيب.
إنّ حقيقة واحدة تهدم صرحا من خيال.
فالصدق أساس عظيم وجوهر ساطع،
وربما يتخلى عن مكانه للسكوت، إن كان فيه ضرر، ولكن لا موضع للكذب قطعا، مهما يكن فيه من فائدة ونفع.
ليكن كلامُك كله صدقا ولتكن أحكامك كلها حقا،
ولكن عليك أن تدرك هذا: أنه لا حقَّ لك أن تبوح بالصدق كله.
اتخذ هذه القاعدة دستورا لك: «خذ ما صفا دع ما كدر».
فانظر بُحسن وشاهد بُحسنٍ ليكون فكرُك حسنا، وظُنّ ظنا حسنا، وفكِّر حسنا لتجد الحياة اللذيذة الهانئة.
إن الأمل المندرج في حسن الظن ينفخ الحياة في الحياة،
بينما اليأس المخبوء في سوء الظن ينخر سعادة الإنسان ويقتل الحياة.
* * *
مجلس في عالم المثال
(موازنة بين الحضارة الحاضرة والشريعة الغراء، والدهاء العلمي والهدى الإلهي)
إبان الهدنة، نهاية الحرب العالمية الأولى، وفي ليلة من ليالي الجمعة، دخلت مجلسا مهيبا في عالم المثال، وذلك في رؤيا صادقة، فسألوني:
ماذا سيحدث لعالم الإسلام عقب هذه الهزيمة؟
أجبت بصفتي ممثلا عن العصر الحاضر، وهم يستمعون إليّ:
إن هذه الدولة التي أخذت على عاتقها -منذ السابق- حماية استقلال العالم الإسلامي،
وإعلاء كلمة الله بالقيام بفريضة الجهاد -فرضا كفائيا-
ووضعت نفسها موضع التضحية والفداء عن العالم الإسلامي الذي هو كالجسد الواحد حاملةً راية الخلافة، أقول: إن هذه الدولة،
وهذه الأمة الإسلامية، ستعوّض عن هذا البلاء الذي أصابها، سعادة يرفل بها العالم الإسلامي، وحرية يتمتع بها، وستتلافى المصائب والأضرار الماضية،
فالذي يكسب ثلاثمائة بدفع ثلاثٍ لا شك أنه غير خاسر، وذو الهمة يبدل حاله الحاضرة إلى مستقبل زاهر.
فهذه المصيبة قد بعثت الشفقة والأخوة والترابط بين المسلمين بعثا خارقا.
إن تنامي الأخوة بين المسلمين يُسرع في هزّ المدنية الحاضرة ويقرب دمارها، وستتبدل صورة المدنية الحاضرة، وسيقوَّض نظامُها.
وعندها تظهر المدنية الإسلامية، وسيكون المسلمون أول من يدخلونها بإرادتهم.
وإن أردت الموازنة بين المدنية الشرعية والمدنية الحاضرة، فدقق النظر في أسس كلٍّ منهما ثم انظر إلى آثارهما.
إن أسس المدنية الحاضرة سلبية، وهي أسس خمسة، تدور عليها رحاها.
فنقطة استنادها: القوة بدل الحق، وشأن القوة الاعتداء والتجاوز والتعرض، ومن هذا تنشأ الخيانة.
هدفها وقصدها: منفعة خسيسة بدل الفضيلة، وشأن المنفعة: التزاحم والتخاصم، ومن هذا تنشأ الجناية.
دستورها في الحياة: الجدال والخصام بدل التعاون، وشأن الخصام: التنازع والتدافع، ومن هذا تنشأ السفالة.
رابطتها الأساس بين الناس: العنصرية التي تنمو على حساب غيرها، وتتقوى بابتلاع الآخرين.
وشأن القومية السلبية والعنصرية: التصادم المريع، وهو المشاهد. ومن هذا ينشأ الدمار والهلاك.
وخامستها: هي أن خدمتها الجذابة، تشجيع الأهواء والنوازع، وتذليل العقبات أمامهما، وإشباع الشهوات والرغبات.
وشأن الأهواء والنوازع دائما: مسخ الإنسان، وتغيير سيرته، فتتغير بدورها الإنسانية وتمسخ مسخا معنويا.
إن معظم هؤلاء المدنيين، لو قلبتَ باطنَهم على ظاهرهم، لرأيت في صورتهم سيرة القرد و الثعلب والثعبان و الدب والخنـزير.
نعم، إن خيالك لَيَمَسُّ فراء تلك الحيوانات وجلودها.. وآثارهم تدل عليهم.
إنه لا ميزان في الأرض غير ميزان الشريعة. إنها رحمة مهداة نـزلت من سماء القرآن العظيم.
أما أسس مدنية القرآن الكريم، فهي إيجابية تدور سعادتُها على خمسة أسس إيجابية.
نقطة استنادها: الحق بدل القوة، ومن شأن الحق دائما: العدالة والتوازن. ومن هذا ينشأ السلام ويزول الشقاء.
وهدفها: الفضيلة بدل المنفعة، وشأن الفضيلة: المحبة والتقارب، ومن هذا تنشأ السعادة وتزول العداوة.
دستورها في الحياة: التعاون بدل الخصام والقتال، وشأن هذا الدستور: الاتحاد والتساند اللذان تحيا بهما الجماعات.
وخدمتها للمجتمع: بالهدى بدل الأهواء والنوازع، وشأن الهدى: الارتقاء بالإنسان ورفاهه إلى ما يليق به مع تنوير الروح ومدّها بما يلزم.
رابطتها بين المجموعات البشرية: رابطة الدين والانتساب الوطني وعلاقة الصنف والمهنة وأخوة الإيمان.
وشأن هذه الرابطة: أخوة خالصة، وطرد العنصرية والقومية السلبية.
وبهذه المدنية يعم السلام الشامل، إذ هو في موقف الدفاع ضد أي عدوان خارجي.
والآن ندرك لِمَ أعرض العالم الإسلامي عن المدنية الحاضرة، ولَم يقبلها، ولَم يدخل المسلمون فيها بإرادتهم.
إنها لا تنفعهم، بل تضرهم. لأنها كبّلتهم بالأغلال، بل صارت سما زعافا للإنسانية بدلا من أن تكون لها ترياقا شافيا؛
إذ ألقت ثمانين بالمائة من البشرية في شقاء، لتعيش عشرةٌ بالمائة منها في سعادة مزيفة. أما العشرة الباقية فهم حيارى بين هؤلاء وهؤلاء.
وتتجمع الأرباح التجارية بأيدي أقلية ظالمة، بينما السعادة الحقة، هي في إسعاد الجميع، أو في الأقل أن تصبح مبعث نجاة الأكثرية.
والقرآن الكريم النازل رحمة للعـالمين لا يقبل إلّا طرازا من المدنية التي تمنح السعادة للجميع أو الأكثرية،
بينما المدنية الحاضرة قد أطلقت الأهواء والنوازع من عقالها، فالهوى حر طليق طلاقة البهائم،
بل أصبح يستبد، والشهوة تتحكم، حتى جعلتا الحاجات غير الضرورية في حكم الضرورية. وهكذا مُحيت راحة البشرية؛
إذ كـان الإنسان في البداوة محتاجا إلى أشياء أربعة، بينما أفقرته المدنية الحاضرة الآن وجعلته في حاجة إلى مائة حاجة وحاجة. حتى لم يعد السعي الحـلال كافيا لسد النفقات،
فدفعت المدنية البشرية إلى ممارسة الخداع والانغماس فـي الحرام. ومن هنا فسدت أسس الأخلاق، إذ أحاطت المجتـمع والبشرية بهالة من الهيبة ووضعت في يدها ثروة الناس فأصبح الفرد فقيرا وفاقدا للأخلاق.
والشاهد على هذا كثير، حتى إن مجموع ما ارتكبته البشرية من مظالم وجرائم وخيانات في القرون الأولى قاءتها واستفرغتها هذه المدنية الخبيثة مرة واحدة.
وسوف تصاب بالمزيد من الغثيان في قابل أيامها ([20]) ومن هنا ندرك لِمَ يتوانى العالم الإسلامي في قبولها ويتحرج. إن استنكافه منها له مغزى يلفت النظر.
نعم، إن النور الإلهي في الشريعة الغراء يمنحها خاصة مميزة وهي الاستقلال الذي يؤدي إلى الاستغناء.
هذه الخاصية لا تسمح أن يتحكم في ذلك النــور دهاء ([21]) روما -الممثل لروح هذه المدنية- ولا يطعّم بها ولا يمتزج معها.
ولن تكون الشريعة تابعة لذلك الدهاء.
اذ الشريعة تُربّي في روح الإسلام الشفقة وعزة الإيمان.
فلقد اخذ القرآن بيده حقائق الشريعة. كل حقيقة منها عصا موسى (في تلك اليد).
وستسجد له تلك المدنية الساحرة سجدة تبجيل وإعجاب.
والآن دقق النظر في هذا: كانت روما القديمة واليونان يملكان دهاءً، وهما دهاءان توأمان، ناشئان من أصل واحد. أحدهما غلب الخيال عليه. والآخر عبد المادة.
ولكنهما لم يمتزجا، كما لا يمتزج الدهن بالماء. فحافظ كل منهما على استقلاله رغم مرور الزمان، ورغم سعي المدنية لمزجهما، ومحاولة النصرانية لذلك.
إلّا أن جميع المحاولات باءت بالإخفاق. والآن، بدلت تلكما الروحان جسديهما، فأصبح الألمان جسد أحدهما والفرنسيون جسد الآخر.
وكأنهما قد تناسخا منهما. ولقد أظهر الزمان أن ذينك الدهاءين التوأمين قد ردّا أسباب المزج بعنف، ولم يتصالحا إلى الوقت الحاضر.
فلئن كان التوأمان الصديقان الأخوان الرفيقان في الرقي قد تصارعا ولم يتصالحا،
فكيف يمتزج هدى القرآن -وهـو من أصل مغاير ومعدنٍ آخر ومطلع مختلف- مع دهاء روما وفلسفتها؟!
فذلك الدهاء، وهذا الهدى مختلفان في المنشأ.
الهدى نـزل من السماء.. والدهاء خرج من الأرض.
الهدى فعّال في القلب، يدفع الدماغ إلى العمل والنشاط.
بينما الدهاء فعال في الدماغ، ويعكرّ صفو القلب ويكدّره.
الهدى ينور الروح حتى تثمر حباتها سنابل، فتتنور الطبيعة المظلمة،
وتتوجه الاستعدادات نحو الكمال، ولكن يجعل النفس الجسمانية خادمة مطيعة، فيضع في سيماء الإنسان الساعي الجاد صورة المَلَك...
أما الدهاء فيتوجّه مقدما إلى النفس والجسم ويخوض في الطبيعة، ويجعل النفس المادية مزرعة لإنماء الاستعداد النفساني وترعرعه.
بينما يجعل الروح خادمة، حتى تتيبس بذورها وحباتها، فيضع في سيماء الإنسان صورة الشيطان.
الهدى يمنح السعادة لحياة الإنسان في الدارين وينشر فيهما النور والضياء، ويدفع الإنسان إلى الرقي.
أما الدهاء الأعور كالدجال، فيفهم الحياة أنها دار واحدة فحسب، لذا يدفع الإنسان ليكون عبد المادة، متهالكا على الدنيا حتى يجعله وحشا مفترسا.
نعم، إن الدهاء يعبد الطبيعة الصماء، ويطيع القوة العمياء. أما الهدى فإنه يعرف الصنعة المالكة للشعور، ويقدّر القدرة الحكيمة.
الدهاء يسدل على الأرض ستار الكفران.. والهدى ينثر عليها نور الشكر والامتنان.
ومن هذا السر: فالدهاء أعمى أصم.. والهدى سميع بصير.
إذ في نظر الدهاء: لا مالك للنعم المبثوثة على الأرض ولا مولى يرعاها،
فيغتصبها دون شكران، إذ الاقتناص من الطبيعة يولد شعورا حيوانيا... أما في نظر الهدى فان النعم المبسوطة على الأرض هي ثمرات الرحمة الإلهية، وتحت كلٍ منها يد المحسن الكريم.
مما يحض الإنسان على تقبيل تلك اليد بالشكر والتعظيم.
زد على ذلك: فمما لا ينبغي أن ننكر أن في المدنية محاسن كثيرة، إلّا أنها ليست من صنع هذا العصر، بل هي نتاج العالم وملك الجميع،
إذ نشأت بتلاحق الأفكار وتلاقحها، وحث الشرائع السماوية -ولا سيما الشريعة المحمدية- وحاجة الفطرة البشرية.
فهي بضاعة نشأت من الانقلاب الذي أحدثه الإسلام. لذا لا يتملكها أحد من الناس.
وهنا عاد رئيس المجلس فسأل قائلا:
يا رجل هذا العصر! إن البلاء ينـزل دوما نتيجة الخيانة، وهو سبب الثواب. ولقد صفع القدر صفعته ونـزل القضاء بهذه الأمة.
فبأيٍ من أعمالكم قد سمحتم للقضاء والقدر حتى أنـزل القضاء الإلهي بكم البلاء ومسّكم الضر؟
فإن سبب نـزول المصائب العامة هو خطأ الأكثرية من الناس.
قلت: إن ضلال البشرية وعنادها النمرودي وغرورها الفرعوني،
تَضخَّم وانتفش حتى بلغ السماء ومسّ حكمة الخلق، وأنـزل من السماوات العلى ما يشبه الطوفان والطاعون والمصائب والبلايا..
تلك هي الحرب العالمية الحاضرة. إذ أنـزل الله سبحانه لطمة قوية على النصارى بل على البشرية قاطبة.
لأن أحد أسبابها التي يشترك فيها الناس كلهم هو الضلال الناشئ من الفكر المادي، والحرية الحيوانية، وتحكّم الهوى.
أما ما يعود إلينا من سبب فهو: إهمالنا أركان الإسلام وتركنا الفرائض؛ إذ طلب منا سبحانه وتعالى ساعة واحدة من أربع وعشرين ساعة،
طلبها لأجلنا نحن، لأداء الصلوات الخمس، فتقاعسنا عنها.
وأهملناها غافلين،
فجازانا بتدريب شاق دائم لأربع وعشرين ساعة طوال خمس سنوات متواليات، أي أرغمنا على نوع من الصلاة!
وأنه سبحانه طلب منا شهرا من السنة نصوم فيه رحمة بأنفسنا. فعزّت علينا نفوسُنا فأرغمنا على صوم طوال خمس سنوات، كفّارة لذنوبنا.
وأنه سبحانه طلب منا الزكاة عُشرا أو واحدا من أربعين جزءا من ماله الذي أعطاه لنا،
فبخلنا وظلمنا وخلطناه بالحرام، ولم نعطها طوعا.
فأرغمنا على دفع زكاة متراكمة. وأنقذنا من الحرام، فالجزاء من جنس العمل.
إن العمل الصالح نوعان: أحدهما:
إيجابي واختياري. والآخر: سلبي واضطراري.
فالآلام والمصائب كلها أعمال صالحة سلبية اضطرارية، كما ورد في الحديث الشريف وفيه سلواننا وعزاؤنا. ([22])
ولهذا، فلقد تطهرت هذه الأمة المذنبة وتوضأت بدمها. وتابت توبة فعلية.
وكان ثوابها العاجل رفع خُمس هذه الأمة العثمانية -أي أربعة ملايين من الناس- إلى مرتبة الولاية ومنحهم درجة الشهادة والمجاهدين.. هكذا كفّر عن الذنوب.
استحسن مَن في المجلس الرفيع المثالي هذا الكلام. وانتبهتُ من نومي، بل قد نمتُ مجددا باليقظة.
لأنني أعتقد أن اليقظة رؤيا والرؤيا نوع من اليقظة.
سعيد النورسي هنا، ممثل العصر هناك.
* * *
إذا تسلَّم الجهلُ المجازَ حوّله إلى حقيقة
إذا وقع المجاز من يد العلم إلى يد الجهل ينقلب حقيقة ويفتح أبوابا إلى الخرافات.
فلقد رأيتُ أيام صباي خسوف القمر، سألتُ والدتي عن السبب، فقالت: ابتلعه الثعبان. قلت: لِمَ يشاهد إذن؟.
قالت: الثعابين هناك نصف شفافة!
وهكذا ظُن المجاز حقيقة.
إذ يخسف القمر بأمر إلهي بحيلولة الأرض بين الشمس والقمر وعند نقطتي تقاطع مدارهما وهما الرأس والذنب.
وقد أطلق على ذينك القوسين الموهومين اسم «التنين» أي الثعبان ولكن الاسم الذي أطلق حسب تشبيه خياليّ تحوّل إلى مسمىً (حقيقي).
* * *
المبالغة ذم ضمني
إذا وصفت شيئا فصفْه على ما هو عليه. أعتقد أن المبالغة في المدح ذم ضمني. لا إحسان أكثر من الإحسان الإلهي.
* * *
الشهرة ظالمة
الشهرة مستبدة متحكمة، إذ تُمَلِّكُ صاحبَها مالا يملِكْ؛
فالخواجة نصر الدين (جحا) لا يملك من لطائفه المنتشرة غير العُشر.
وهالة الخيال التي وضعت حول «رستم السيستاني» قد أغارت على مفاخر إيران لعصر كامل. فلقد انتعش الغصب وتضخم ذلك الخيال،
حتى اختلط بالخرافات وألقى الإنسان فيها.
* * *
الذين يعزلون الدين عن الحياة يردون المهالك
إنّ خطأ «تركيا الفتاة» ([23]) نابع من عدم معرفتهم أن الدين أساس الحياة؛ فظنوا أن الأمة شيء والإسلام شيء آخر؛
وهما متمايزان! ذلك لأن المدنية الحاضرة، أوحت بذلك واستولت على الأفكار بقولها: إن السعادة هي في الحياة نفسها.
إلاّ أن الزمان أظهر الآن أن نظام المدنية فاسد ومضرّ. ([24]) والتجارب القاطعة أظهرت لنا:
أن الدين حياة للحياة ونورها وأساسها.
إحياء الدين إحياء لهذه الأمة. والإسلام هو الذي أدرك هذا.
إن رقي أمتنا هو بنسبة تمسكها بالدين، وتدنيها هو بمقدار إهمالها له، بخلاف الدين الآخر.
هذه حقيقة تاريخية، قد تنوسيت.
* * *
الموت ليس مرعبا كما يُتوهم
الموت تبديل مكان، وتحويل موضع، وخروج من سجن إلى بستان.
فليطلب الشهادةَ من يريد الحياة. والقرآن الكريم ينص على حياة الشهيد.
الشهيد الذي لم يذق ألم السكرات يَعدّ نفسه حيا. وهو يرى نفسه هكذا، إلّا أنه يجد حياته الجديدة نـزيهة طاهرة أكثر من قبل، فيعتقد أنه لم يمت. والنسبة بين الأموات والشهداء شبيهة بالمثال الآتي:
رجلان يتجولان في الرؤيا في بستان زاهر جامع لأنواع اللذائذ؛ أحدهما يعرف أن الذي يراه هو رؤيا، لذا لا يستمتع كثيرا، وربما يتحسر.
والآخر يظن أن ما يراه في الرؤيا حقيقة في عالم اليقظة فيستمتع ويتلذذ حقيقة.
الرؤيا ظلُ عالم المثال، وعالم المثال ظلُ عالم البرزخ، ومن هنا تتشابه دساتير هذه العوالم.
* * *
السياسة الحاضرة شيطان في عالم الأفكار ينبغي الاستعاذة منها
إنّ سياسة المدنية الحاضرة تُضحي بالأكثرية في سبيل الأقلية، بل تُضحي قلة قليلة من الظلمة بجمهور كبير من العوام في سبيل مقاصدها.
أما عدالة القرآن الكريم، فلا تُضحي بحياة بريء واحد، ولا تهدر دمه لأي شيء كان، لا في سبيل الأكثرية، ولا لأجل البشرية قاطبة.
إذ الآية الكريمة: ﴿ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ اَوْ فَسَادٍ فِي الْاَرْضِ فَكَاَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَم۪يعًا ﴾ (المائدة:٣٢) تضع سرّين عظيمين أمام نظر الإنسان:
الأول: العدالة المحضة، ذلك الدستور العظيم الذي ينظر إلى الفرد والجماعة والشخص والنوع نظرة واحدة،
فهم سواء في نظر العدالة الإلهية مثلما أنهم سواء في نظر القدرة الإلهية. وهذه سُنة دائمة. إلّا أن الشخص يستطيع -برغبة من نفسه- أن يُضحي بنفسه،
من دون أن يُضحّى به قطعا، حتى في سبيل الناس جميعا. لأن إزهاق حياته وإزالة عصمته وهدر دمه بإبطال حق الناس جميعا شبيه بإزالة عصمتهم جميعا وهدر دمائهم جميعا.
والسر الثاني: هو لو قتل مغرور بريئا دون ورع، تحقيقا لحرصه وإشباعا لنـزواته وهوى رغباته، فإنه مستعد لتدمير العالم والجنس البشري إن استطاع.
* * *
الضعف يشجع الخصم
أيها الخائف الضعيف! إنّ خوفك وضعفك يذهبان سدىً، لا طائل وراءه، بل يكونان عليك لا لك. لأنهما يشجعان الآخرين ويثيران شهيتهم لافتراسك.
أيها المرتاب! إنّ مصلحة محققة لا يُضحى بها في سبيل مضرة موهومة. فعليك بالسعي والنتيجة موكولة إلى الله تعالى.
فإن لله أن يختبر عبده ويقول لك إن قمتَ بهذا سأكافئك بكذا،
ولكن ليس للعبد أن يختبر ربه قائلا: فليوفقني الله تعالى في هذا لأعمل هذا كذا. فإن قال هكذا فقد تجاوز حدّه.
وقد قال إبليس يوما لعيسى بن مريم عليه السلام: مادام الأمر كله لله، ولن يصيبك إلّا ما كتبه عليك فارمِ نفسك من ذروة هذا الجبل، وانظر ماذا يفعل بك؟
فقال له عيسى عليه السلام: يا ملعون إن لله أن يختبر عبده وليس للعبد أن يختبر ربه!
* * *
لا تفرط فيما يعجبك
قد يكون دواء مرضٍ داءً لداء آخر وينقلب بلسَمُه الشافي سما زعافا، إذ لو جاوز الدواءُ حدَّه انقلبَ إلى ضدّه.
* * *
عين العناد ترى المَلَك شيطانا
أمر العناد هو: أنه إذا ما ساعد شيطان امرءا قال له: إنه «مَلَك» وترحّم عليه.
بينما إذا رأى مَلكا في صف مَن يخالفه في الرأي؛ قال: «إنه شيطان قد بدّل لباسه» فيعاديه ويلعنه.
* * *
لا تثر الاختلاف لأجل الأحق بعد وجدانك الحق
يا طالب الحقيقة! إن كان الاتفاق في الحق اختلافا في الأحق، يكون الحقُ أحقَّ من الأحقِّ، والحَسنُ أحسنَ من الأحسن.
* * *
الإسلام دين السلام والأمان، يرفض النـزاع والخصام في الداخل
أيها العالم الإسلامي! إن حياتك في الاتحاد.
إن كنت طالبا للاتحاد فاتخذ هذا دستورك:
لابد أن يكون «هو حق» بدلا من «هو الحق». و«هو حسن» بدلا من «هو الحسن».
إذ يحق لكل مسلم أن يقول في مسلكه ومذهبه: إن هذا «حق» ولا أتعرض لما عداه. فإن يكُ جميلا فمذهبي أجمل.
بينما لا يحق له القول في مذهبه: إن هذا هو «الحق» وما عداه باطل. وما عندي هو «الحسن» فحسب وغيره قبيح وخطأ!
إنّ ضيق الذهن وانحصاره على شيء، ينشأ من حب النفس ثم يكون داءً. ومنه ينجم النـزاع.
فالأدوية تتعدد حسب تعدد الأدواء، ويكون تعددها حقا.. وهكذا الحق يتعدد. والحاجات والأغذية تتنوع، وتنوعها حق.. وهكذا الحق يتنوع.
والاستعدادات ووسائل التربية تتشعب، وتشعبها حق.. وهكذا الحق يتشعب.
فالمادة الواحدة قد تكون داءً ودواءً حسب مزاجين اثنين..
إذ تعطى نسبية مركبة وفق أمزجة المكلفين، وهكذا تتحقق وتتركب.
إن صاحب كل مذهب يحكم حكما مطلقا مهملا من دون أن يعين حدود مذهبه، إذ يدعه لاختلاف الأمزجة، ولكن التعصب المذهبي هو الذي يولد التعميم.
ولدى الالتزام بالتعميم ينشأ النـزاع.
كانت هناك هوّات سحيقة بين طبقات البشر، قبل الإسلام.
مع بُعدٍ شاسع عجيب بينهما. فاستوجب تعدد الأنبياء وظهورهم في وقت واحد، كما استوجب تنوع الشرائع وتعدد المذاهب.
ولكن الإسلام أوجد انقلابا في البشرية فتقارب الناس واتحد الشرع وأصبح الرسول واحدا.
وما لم تتساو المستويات فان المذاهب تتعدد. ومتى ما تساوت وأوفت التربية الواحدة بحاجات الناس كافة تتحد المذاهب.
* * *
في إيجاد الأضداد وجمعها حكمة عظيمة،
في قبضة القدرة سواء
يا أخي يا ذا القلب اليقظ! إنّ القدرة تتجلى في جمع الأضداد؛ فوجود الألم في اللذة، والشر في الخير،
والقبح في الحسن، والضر في النفع، والنقمة في النعمة، والنار في النور.. فيه سر عظيم. أَتَعرف لماذا؟
إنه لكي تثبت الحقائق النسبية وتتقرر، وتتولد أشياء كثيرة من شيء واحد، وتنال الوجود وتظهر؛ فالنقطة تتحول خطا بسرعة الحركة،
واللمعة تتحول بالدوران دائرة من نور. فوظيفة الحقائق النسبية في الدنيا هي حبات تنشأ منها سنابل،
إذ هي التي تشكل طينة الكائنات وروابط نظامها وعلائق نقوشها.
أما في الآخرة فهذه الأوامر النسبية تصبح حقائق حقيقية.
فالمراتب التي في الحرارة إنما هي ناشئة من تخلل البرودة فيها. ودرجات الحسن هي من تداخل القبح، فالسبب يصبح علة.
فالضوء مدين للظلام، واللذة مدينة للألم، ولا متعة للصحة من دون المرض، ولولا الجنة لما عَذَّبت جهنم، فهي لا تكمل إلّا بالزمهرير،
بل لولاه لما أحرقت جهنم إحراقا تاما.
فذلك الخلاّق القديم أظهر حكمته العظيمة في خلق الأضداد، فتجلت هيبته وبهاؤه.
وذلك القدير الدائم أظهر قدرته في جمع الأضداد، فظـهرت عظمته وجلاله.
فما دامت تلك القدرة الإلهية لازمة للذات الجليلة،
فبالضرورة لا ضد في تلك الذات. ولا يتخللها العجز، ولا مراتب في القدرة، ونسبتها واحدة لكل شئ، لا يثقل عليها شئ.
وقد أصبحت الشمس مشكاةً لضوء تلك القدرة، وغدا وجه الأرض مرآة لتلك المشـكاة بل حتى عيون الندى أصبحت مرايا لها.
فالوجه الواسع للبحر مرآة لتلك الشمس كما تظهرها حبابات ذلك الوجه المتموج. وعيون الندى تتلمع كالنجوم.
كل منها يبين الهوية نفسها. فـفي نظر الشمس يتساوى البحر والندى، فالقدرة نظير هذا. إذ بؤبؤ عين الندى شُميسة تلمع،
والشمس الضخمة هي ندى صغير، يستلم بؤبؤ عينها النور من شمس القدرة الإلهية فتدور دورانَ القمر حول تلك القدرة.
والسماوات بحر عظيم لا ساحل له. تتماوج على وجهها بأمر الرحمن الحبابات، تلك هي الشموس والنجوم.
وهكذا تجلت القدرة ونثرت على تلك القطرات لمعات النور. فكل شمس قطرة وكل نجم ندى. وكل لمعة صورة.
فتلك الشمس العظيمة -الشبيهة بالقطرة- انعكاس خافت لتجلي ذلك الفيض العظيم فلُميعة من ذلك الفيض تُحوّل الشمس كوكبا دريّا.
وذلك النجم الشبيه بالندى يمكّن تلك اللميعة من عينه، وتغدو سراجا، وعينه زجاجة، تزيد المصباحَ ضياءً.
ادفن مزاياك تحت تراب الخفاء لتنمو
يا ذا المزايا ويا صاحب الخاصية! لا تظلِم بالتعيّن والتشخص، فلو بقيتَ تحت ستار الخفاء، منحتَ إخوانك بركةً وإحسانا.
إذ من الممكن ظهورك في كل أخٍ لك، وان يكون هو أنت بالذات، وبهذا تجلب الأنظار والاحترام إلى كل أخ.
بينما تلقي الظل هنا، بالتعين والتشخص، بعد أن كنت شمسا هناك.
فتُسقط شأن إخوانك وتقلل من احترامهم... بمعنى أن التعيّن والتشخص أمران ظالمان. فلئن كان هذا هو أمر المزايا الصحيحة،
وصاحبها الصادق وأنت تراه، فكيف بكسب الشهرة والتشخص بالتصنع الكاذب والرياء؟!
فهو إذن سر عظيم وحكمة إلهية ونظام أكمل، أنّ فردا خارقا في نوعه يمنح القيمة والأهمية إلى أفراد نوعه بالستر والخفاء،
ودونك المثال:
الولي في الإنسان، والأجل في العمر، فقد ظلا مخفيين. وكذا ساعة الإجابة في الجمعة
وليلة القدر في رمضان، والاسم الأعظم في الأسماء الحسنى.
والسر اللطيف في هذه الأمثلة وقيمتها العظيمة هي: أنّ في الإبهام إظهارا وفي الإخفاء إثباتا.
فمثلا: في إبهام الأجل موازنة لطيفة بين الخوف والرجاء،
موازنة بين توهم البقاء في الدنيا وثواب العاقبة؛
فالعمر المجهول الذي يستغرق عشرين سنة أرجح من ألف سنة من عمر معلوم النهاية، لأنه بعد قضاء نصف هذا العمر يكون المرء كأنه يخطو خطوات إلى منصة الإعدام.
فالحزن المستمر المتلاحق لا يدع صاحبه يتمتع بالراحة والسلوان.
* * *
لا رحمة أوسع من رحمته تعالى ولا غضب أشد من غضبه سبحانه
لا رحمة تفوق رحمة الله، ولا غضب يفوق غضبه.
فدع الأمور للعادل الرحيم. إذ فرط الشفقة أليم وفرط الغضب ذميم.
* * *
الإسراف باب السفاهة وهي تقود إلى السفالة
يا أخي المسرف! لقمتان مغذيتان؛ إحداهما بقرش والأخرى بعشرة،
هما سيّان قبل دخولهما الفم، وسيّان كذلك بعد مرورهما من الحلقوم... فلا فرق إلّا ذوق يدوم لبضع ثوان، للغافل الأحمق؛
إذ تخدعه حاسة الذوق دوما بهذا الفرق.
فهذه الحاسة حارسة الجسم وناظرة مفتشة للمعدة،
ولها تأثير سلبي لا إيجابي، إن أصبحت وظيفتها إرضاء الحارس، كي يديم الذوق للغافل،
فيتعكر صفو وظيفتها بدفع أحد عشر قرشا بدلا من واحد، فيجعلها تابعة للشيطان.
لا تتقرب من هذا، فيسوقك إلى أبشع أنواع الإسراف. وأفظع أنواع التبذير.
* * *
== حاسة الذوق مأمورة البرق لا تجعل اللذة همها فتفسدها == ([25])
لقد أسس سبحانه بفضل ربوبيته وحكمته وعنايته في فم الإنسان وأنفه مركزين:
وضع فيهما حرّاسَ حدودِ هذا العالم الصغير وعيونه. ونصب كل عرق، بمثابة الهاتف، وجعـل كل عصب في حكم البرق.
وجعلت عنايتُه الكريمة حاسةَ الشم مأمورةَ إرسالِ المكـالمات الهاتفية، وحاسة الذوق موظفةَ إرسال البرقيات.
ومن رحمة ذلك الرزاق الحقيقي أنه وضع قائمة الأثمان على الأرزاق، تلك هي: الطعم، واللون، والرائحة.
فهذه الخواص الثلاثة -من حيث الإرزاق- لوحة إعلان، وبطاقة دعوة، وتذكرة رخصة، ومنادية الزبائن وجالبة المحتاجين.
وقد منح ذلك الرزاق الكريم، الأحياء المرزوقة أعضاءً للذوق والرؤية والشم.
وزين الأطعمة بمختلف ألوان الزينة والجمال.. ليسلّي بها القلوب المشتاقة ويثير شوق غير المبالين.
فحالما يدخل الطعام الفم، تخبر حاسةُ الذوق أنحاءَ الجسم برقيا به، وتُبلّغ الشم هاتفيا نوع الطعام الوارد وصنفه.
فالحيوانات المتباينة في الرزق والحاجات، تتصرف وفق تلك الأخبار وتتهيأ على حسبها.
أو يأتي الجواب بالرد، فيلفظ الفم الطعام خارجا، بل قد يبصق عليه.
ولما كانت حاسة الذوق مأمورة من قبل العناية الإلهية فلا تفسدها بالتذوق المستمر، ولا تخدعها بالتلذذ دوما؛
إذ ستنسى ما الشهية الحقة؟ لورود الشهية الكاذبة إليها، تلك التي تأخذ بلبّها.. فيجازى صاحبُها بالمرض ويعاقب بالعلل جراء خطئها.
اعلم أن اللذة الحقيقية، إنما تنبع من شهية حقيقية.
وأن الشهية الحقة الصادقة تنبع من حاجة حقيقية صادقة.
وفي هذه اللذة الحقة -الكافية للإنسان- يتساوى السلطان والشحاذ.
* * *
نوع النظر كالنية يقلب العادات إلى عبادات
لاحظ بدقة، هذه النقطة: كما تصبح العادات المباحة بالنية عبادات، كذلك تكون العلوم الكونية بنوع النظر معارفَ إلهية.
فإذا ما نظرت إلى هذه العلوم نظرا حرفيا، مع دقة الملاحظة والتفكر العميق، من حيث الصنعة والإتقان. أي أن تقول: «ما أبدعَ خلق هذا! ما أجملَ صنع الصانع الجليل!» بدلا من قولك: «ما أجملَه»...
نعم، إذا ما نظرت إلى الكون من هذه الزاوية تجد أن نقوش المصور الجليل ولمعةَ القصد والإتقان في نظامه وحكمته تنور الشبهات وتبددها... وعندها تتبدل العلوم الكونية معارف إلهية.
ولكن لو نظرت إلى الكائنات بالمعنى الاسمي، ومن حيث «الطبيعة» أي أنها تولدت بذاتها، فعندها تتحول دائرة العلوم إلى ميدان جهل.
فيا لضياع الحقائق في الأيادي الوضيعة، وما أكثر الأمثلة الشاهدة على هذه الحقيقة.
* * *
في مثل هذا الزمان لا يأذن الشرع لنا باختيار الترفّه
كلما نادت اللذائذ ينبغي الإجابة: «كأنني أكلت»
فالذي جعل هذا دستورا له، لم يأكل مسجدا. ([26])
لم يكن أكثر المسلمين في السابق جائعين. فكان الترفّه جائز الاختيار إلى حدٍ ما.
أما الآن فمعظمهم يبيتون جياعا، فلم يعد لنا إذن شرعي للتلذذ.
إذ إن معيشة السواد الأعظم وغالبية المسلمين بسيطة. فينبغي الاقتداء بهم في الطعام الكفاف البسيط.
وهذا هو الأفضل بألف مرة من الانسياق وراء أقلية مسرفة أو ثلة من السفهاء في ترفههم في الطعام.
* * *
سيكون عدم النعمة نعمة
قوة الذاكرة نعمة، ولكن يرجّح عليها النسيان في شخص سفيه وفي زمن البلاء.
والنسيان كذلك نعمة، لأنه لا يذيق إلّا آلام يوم واحد وينسي الآلام المتراكمة.
* * *
في كل مصيبة جهة خير
أيها المبتلى ببلية! إنّ نعمةً ما مندرجةٌ ضمن كل مصيبة. لاحظْها بدقة لتشاهدها.
إذ كما توجد درجة حرارةٍ في كل شئ، ففي كل مصيبة توجد درجة من النعمة.
شاهد درجة النعمة هذه في البلية الصغرى،
وفكّر بالعظمى واشكر ربك الرحيم. وإلّا، فكلما استعظمتها جفلتَ منها، ü
لأنك إذا ما تأسفت عليها تستعظم وتكبر حتى تتضخم ويصيبك الرعب منها. وإذا ما زدتها بالقلق والأوهام، تتوأمتْ بعد أن كانت واحدة،
لأن صورتها الوهمية التي في القلب تنقلب إلى حقيقة ثم تعود تُنـزل بضرباتها الموجعة على القلب.
لا تظهر بزي الكبير فتصغر
يا من يحمل «أنا» مضاعفا، ويحمل في رأسه غرورا وكبرا! عليك أن تعرف هذا الميزان:
لكل شخص نافذة يطل منها على المجتمع -للرؤية والإراءة- تسمى مرتبة. فإذا كانت تلك النافذة أرفع من قامة قيمته، يتطاول بالتكبر.
أما إذا كانت أخفض من قامة همته يتواضع بالتحدّب ويتخفض، حتى يشهد في ذلك المستوى ويشاهِد.
إن مقياس العظمة في الكاملين هو التواضع.
أما الناقصون القاصرون فميزان الصُغر فيهم هو التكبر.
* * *
تتغير ماهية الخصال بتغير المنازل
خصلة واحدة في مواضع متباينة وصورة واحدة تكون تارة غولا بشعا وتارة مَلَكا رقيقا ومرةً صالحة وأخرى طالحة. أمثلة ذلك الآتي:
إنّ عزة النفس التي يشعر بها الضعيف تجاه القوي، لو كانت في القويّ لكانت تكبرا وغرورا.
وكذا التواضع الذي يشعر به القوي تجاه الضعيف لو كان في الضعيف لكان تذللا ورياءً.
إنّ جدّية ولي الأمر في مقامه وقار، أما لينه فذلة.
كما أن جديته في بيته دليل على الكبر، ولينه دليل على التواضع.
إنّ صفح المرء عن المسيئين وتضحيته بما يملك، عمل صالح.
بينما هو خيانة وعمل طالح إن كان متكلما عن الجماعة.
إنّ التوكل في ترتيب المقدمات كسل، بينما تفويض الأمر إلى الله في ترتّب النتيجة توكل يأمر به الشرع.
إنّ رضى المرء عن ثمرة سعيه وقسمته قناعة ممدوحة، تقويّ فيه الرغبةَ في مواصلة السعي.
بينما الاكتفاء بالموجود قناعة لا ترغب، بل تقاصر في الهمة.
وهناك أمثلة كثيرة على هذا:
فالقرآن الكريم يذكر «الصالحات» و«التقوى» ذكرا مطلقا. ويرمز في «إبهامهما» إلى تأثير المقامات والمنازل. فإيجازه تفصيل. وسكوته كلام واسع.
* * *
== الحق يعلو == ([27])
أيها الصديق! سألني أحدهم ذات يوم: لما كان «الحق يعلو» أمرا حقا لا مراء فيه، فلِمَ ينتصر الكافرُ على المسلم، وتغلُب القوة على الحق؟.
قلت: تأمل في النقاط الأربع الآتية، تنحل المعضلة.
النقطة الأولى:
لا يلزم أن تكون كلُّ وسيلةٍ من وسائل كل حقٍّ حقا، كما لا يلزم أيضا أن تكون كلُّ وسيلةٍ من وسائل كلِّ باطلٍ باطلا.
فالنتيجة إذن: إنّ وسيلةً حقة (ولو كانت في باطل) غالبة على وسيلةٍ باطلة (ولو كانت في الحق). وعليه يكون: حقٌ مغلوب لباطلِ مغلوب بوسيلته الباطلة، أي مغلوب موقتا،
وإلّا فليس مغلوبا بذاته، وليس دائما، لأن عاقبة الأمور تصير للحق دوما.
أما القوة، فلها من الحق نصيب، وفيها سرّ للتفوق كامن في خلقتها.
النقطة الثانية:
بينما يجب أن تكون كلُّ صفةٍ من صفات المسلم مسلمةً مثله، إلّا أن هذا ليس أمرا واقعا، ولا دائما!
ومثله، لا يلزم أيضا أن تكون صفات الكافر جميعها كافرةً ولا نابعةً من كفره.
وكذا الأمر في صفات الفاسق، لا يشترط أن تكون جميعُها فاسقة، ولا ناشئة من فسقه.
إذن، صفة مسلمة يتصف بها كافر تتغلب على صفةٍ غير مشروعة لدى المسلم. وبهذه الوساطة (والوسيلة الحقة) يكون ذلك الكافر غالبا على ذلك المسلم (الذي يحمل صفة غير مشروعة).
ثم إن حقّ الحياة في الدنيا شامل وعام للجميع. والكفر ليس مانعا لحق الحياة الذي هو تجلٍ للرحمة العامة والذي ينطوي على سر الحكمة في الخلق.
النقطة الثالثة:
لله سبحانه وتعالى تجليان -يتجلى بهما على المخلوقات- وهما تجليان شرعيان صادران من صفتين من صفات كماله جل وعلا.
أولهما: الشرع التكويني -أو السنة الكونية- الذي هو المشيئة والتقدير الإلهي الصادر من صفة «الإرادة الإلهية».
والثاني: الشريعة المعروفة الصادرة من صفة «الكلام الرباني».
فكما أن هناك طاعةً وعصيانا تجاه الأوامر الشرعية المعروفة، كذلك هناك طاعة وعصيان تجاه الأوامر التكوينية.
وغالبا ما يرى الأول (مطيع الشريعة والعاصي لها) جزاءه وثوابه في الدار الآخرة.
والثاني (مطيع السنن الكونية والعاصي لها) غالبا ما ينال عقابه وثوابه في الدار الدنيا.
فكما أن ثواب الصبر النصرُ، وجزاء البطالة والتقاعس الذلُّ والتسفّل.
كذلك ثواب السعي الغنى، وثواب الثبات التغلب.
مثلما أن نتيجة السمِّ المرضُ، وعاقبةَ الترياقِ والدواء الشفاء والعافية.
وتجتمع أحيانا أوامر الشريعتين معا في شيء.. فلكلٍ جهة.
فطاعةُ الأمر التكويني الذي هو حقٌ،
هذه الطاعة غالبة -لأنها طاعة لأمر إلهي- على عصيان هذا الأمر بالمقابل، لأن العصيان -لأي أمر تكويني- يندرج في الباطل ويصبح جزءا منه.
فإذا ما أصبح حق وسيلةً لباطلٍ فسينتصر على باطلٍ أصبح وسيلةً لحق، وتظهر النتيجة:
حق مغلوب أمام باطل! ولكن ليس مغلوبا بذاته، وإنما بوسيلته.
إذن فـ«الحق يعلو» يعلو بالذات، والعقبى هي المرادة -فليس العلو قاصرا في الدنيا- إلّا أن التقيّد والأخذ بحيثيات الحق مقصود ولابد منه.
النقطة الرابعة:
إن ظلَّ حقٌ كامنا في طور القوة (أي لم يخرج إلى طور الفعل المشاهَد) أو كان مشوبا بشيء آخر، أو مغشوشا، وتطلّب الأمر كشف الحق وتزويده بـقوة جديدة،
وجعله خالصا زكيا، يُسلّط عليه مؤقتا باطل حتى يخلُص الحق -نتيجة التدافع- من كل درن فيكونَ طيبا، ولتظهرَ مدى قيمة سبيكة الحق الثمينة جدا.
فإذا ما انتصر الباطل في الدنيا -في مكان وزمان معينين- فقد كسب معركةً ولم يكسب الحربَ كلها، لأن ﴿ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّق۪ينَ ﴾ هي المآل الذي يؤول إليه الحق.
وهكذا الباطل مغلوب -حتى في غلبه الظاهر- وفي «الحق يعلو» سرّ كامن عميق يدفع الباطل قهرا إلى العقاب في عقبى الدنيا أو الآخرة، فهو يتطلع إلى العقبى. وهكذا الحق غالب مهما ظهر أنه مغلوب!.
* * *
دساتير اجتماعية
إن شئت دساتير في المجتمع فدونك:
إن العدالة التي لا مساواة فيها ليست عدالة أصلا..
فالتماثل سبب مهم للتضاد. وأما التناسب فهو أساس التساند.
منبع التكبر إظهار صغر النفس، ومنبع الغرور ضعف القلب.
وقد أصبح العجز منشأ الخلاف.
أما حب الاستطلاع فهو أستاذ العلم.
الحاجة أم الاختراع.
والضيق معلم السفاهة.
ولقد أصبح الضيق منبع السفاهة. ومنبع الضيق نفسه هو اليأس وسوء الظن.
فالضلالة ضلالة الفكر.
والظلمات تعم القلب.
والإسراف يكون في الأمور الجسدية.
أضلت النساء البشرية بخروجهن من بيوتهن فعليهن العودة إليها
«إذا تأنث الرجال السفهاء بالهوسات إذن ترجل النساء الناشزات بالوقاحات» ([28])
لقد أطلقت المدنية السفيهة النساء من أعشاشهن. وامتهنت كرامتهن. وجعلتهن متاعا مبذولا.
بينما شرعُ الإسلام يدعو النساء إلى أعشاشهن رحمة بهنّ. فكرامتهن فيها، وراحتهن في بيوتهن وحياتهن في دوام العائلة.
الطهـر زينتهنّ، الخُـلق هيبتهنّ، العفة جمالهنّ، الشفقة كمالهنّ، الأطفال لهوهنّ.
ولا تصمد إزاء جميع هذه الأسباب المفسدة إلّا إرادة من حديد.
كلما دخلتْ حسناء في مجلس تسود فيه الأخوّة، أثارت فيهم عروق الرياء والمنافسة والحسد والأنانية، فتتنبه الأهواء الراقدة.
إنّ تكشّف النساء تكشفا دون قيد، أصبح سببا لتكشّف أخلاق البشر السيئة وتناميها.
هذه الصور التي هي جنائز مصغرة، وأموات متبسمة، لها دور خطير جدا في الروح الرعناء للإنسان المتحضر. بل إن تأثيرها مخيف مرعب. ([29])
إن الهياكل والتماثيل الممنوعة شرعا والصور المحرمة، إما إنها ظلم متحجر، أو رياء متجسد، أو هوى منجمد، أو طلسم يجلب تلك الأرواح الخبيثة.
* * *
سعة تصرف القدرة، تردّ الوسائط
إنّ شمسنا تصبح كالذرة إزاء تصرف قدرة القدير ذي الجلال وسعة تأثيرها.
إنّ مساحة تصرفه العظيم في النوع الواحد واسعة جدا.
خذ القوة الجاذبة بين ذرتين،
ثم ضعها قرب القوة الجاذبة الموجودة في شمس الشموس وفي درب التبانة... واجلب المَلَك الذي يحمل حبة البَرَد مع المَلَك الشبيه بالشمس الذي يحمل الشمس...
وضع أصغر سمكة -صغر الإبرة- جنب الحوت العظيم وبعد ذلك تصوَّر التجلي الواسع للقدير ذي الجلال وإتقانه الكامل في أصغر شيء وفي أكبره...
عندها تعلم أن الجاذبية والنواميس كلها إن هي إلّا وسائل سيالة وأوامر عرفية،
وليست إلّا أسماء وعناوين لتجلي القدرة وتصرف الحكمة... فهذا هو التفسير لا غير.
فكِّر في هذه الأمور معا تجد بالضرورة؛ إن الأسباب الحقيقية والوسائط المعينة،
وكذا الشركاء، ما هي إلّا أمور باطلة وخيال محال في نظر تلك القدرة الجليلة.
إنّ الحياة كمال الوجود. ولجلالة مقامها أقول: لِمَ لا تكون كرتنا وعالمنا مسخرا مطيعا كالحيوان؟
فلله سبحانه كثير من أمثال هذه الحيوانات الطائرة منتشرة في الفضاء الواسع تنشر البهاء والجمال والعظمة والهيبة.
إنه سبحانه يديرها ويسيّرها في بستان خلقه.
فالنغمات التي تبعثها تلك الكائنات والحركات التي تقوم بها هذه الطيور..
تلك الأقوال والأحوال تسبيحات وعبادات للقديم الذي لم يزل، وللحكيم الذي لا يزال.
إن كرتنا الأرضية كثيرة الشبه بالحيوان، إذ إنها تبرز آثار الحياة،
فلو صغرت كبيضة صغيرة -بفرض محال- لتحولت إلى حيوان لطيف...
ولو كبر حيوان مجهرى كروي وأصبح كالكرة الأرضية، لصار شبيها بها... فلو صغر عالمنا صغر الإنسان وانقلبت نجومه إلى ما يشبه الذرات، ربما يكون حيوانا ذا شعور.
والعقل يجد مجالا في هذا الاحتمال.
فالعالَم إذن عابد مسبّح بأركانه، كل ركن مسخّر مطيع، للخالق القدير القديم.
فليس من الضروري أن يكون الكبير كَمًّا كبيرا نوعا، بل الساعة الصغيرة صغر الخردل
أبدعُ صنعةً وأعظم جزالة من كبيرتها التي هي بكبر «آيا صوفيا»..
فخلق الذبابة أعجب من خلق الفيل.
لو كتب قرآن بقلم القدرة بالجواهر الفردة للأثير على جزءٍ فردٍ،
فان دقة صفحاته تعادل في صنعة الإتقان القرآن الكريم المكتوب بمداد النجوم في صحيفة السماء. فهما سيّان في الجزالة والإبداع.
فالصنعة الباهرة بالجمال والكمال للمصور الأزلي مبثوثة هكذا في كل جهة، والاتحاد الكامل الأتم في كمالها يعلن التوحيد.
خذ هذا الكلام البيّن بعين الاعتبار.
* * *
الملائكة أمة مأمورة لتنفيذ الشريعة الفطرية
الشريعة الإلهية اثنتان، وهما آتيتان من صفتين إلهيتين، والمخاطب إنسانان وهما مكلفان بهما:
أولاهما: الشريعة التكوينية الآتية من صفة الإرادة الإلهية،
وهي الشريعة والمشيئة الربانية التي تنظّم أحوال العالم -الإنسان الأكبر- وحركاته التي هي ليست اختيارية.
وقد يطلق عليها خطأً اسم الطبيعة.
أما الأخرى: فهي الشريعة الآتية من صفة الكلام الإلهي،
هذه الشريعة تنظم أفعال الإنسان الاختيارية، ذلك العالم الأصغر. وتجتمع الشريعتان أحيانا معا.
أما الملائكة فهم أمة عظيمة، جند الله،
حَمَلة الشريعة الأولى وممثلوها وممتثلوها...قسم منهم عباد مسبّحون، وقسم منهم مستغرقون في العبادة وهم مقربو العرش الأعظم.
* * *
كلما رقّت المادة اشتدت الحياة فيها
الحياة أساس الوجود وأصله. والمادة تابعة لها وقائمة بها.
فإذا ما قارنت الحواس الخمس في الإنسان والحيوان المجهري تجد:
كم يكبر الإنسان عن ذلك المجهري، فإن حواسه أدنى من حواسه بالنسبة نفسها. فذلك المجهري يسمع صوت أخيه ويرى رزقه.
فلو كَبُر كبر الإنسان لتوسعت حواسه إلى حدّ محيّر للألباب. فحياته تنشر الشعاع، وبصرُه نور سماوي يضاهي البرق.
والإنسان نفسه ليس كائنا ذا حياة مركّب من كتلة من موات. بل هو حجيرة كبيرة مركبة من مليارات من الحجيرات الحية.
«إن الإنسان كصورة «يس» كُتب فيها سورة يس»
فتبارك الله أحسن الخالقين.
الفلسفة المادية طاعون معنوي
الفلسفة المادية طاعون معنوي، حيث سبّبت في سريان حمّى مهلكة في البشرية، ([30]) وعرّضها للغضب الإلهي.
فكلما توسعت قابلية التمرد والانتقاد -بالتلقين والتقليد- توسّع ذلك الطاعون أيضا وانتشر.
فانبهار الإنسان بالعلوم، وانغماره في تقليد المدنية الحاضرة أعطاه
الحرية وروح الانتقاد والتمرد، فظهر الضلال من غروره.
* * *
لا تعطُّلَ في الوجود، العاطل يسعى في الوجود في سبيل العدم
إن أشد الناس شقاءً واضطرابا وضيقا هو العاطل عن العمل، لأن العطل هو «عدم» ضمن الوجود، أي موت ضمن حياة.
أما السعي فهو حياة الوجود ويقظة الحياة.
* * *
الربا ضرر محض في الإسلام
الربا يسبب العطل، ويطفئ جذوة الشوق إلى السعي.
إن أبواب الربا ووسائطه (هذه البنوك) إنما تعود بالنفع إلى أفسد البشر وأسوأهم.
وهم الكفار.. وإلى أسوأ هؤلاء وهم الظلمة، وإلى أسوأ هؤلاء وهم أسفههم.
إن ضرر الربا على العالم الإسلامي ضرر محض. والشرع لا يرى تحقيق رفاهية البشر قاطبة في كل حين.
إذ الكافر الحربي، لا حرمة له ولا عصمة لدمه.
* * *
== القرآن يحمي نفسه بنفسه وينفذ حكمه == ([31])
رأيت شخصا قد ابتلي باليأس، وأصيب بالتشاؤم. يقول: لقد قلّ العلماء في هذه الأيام، وغلبت الكميةُ النوعيةَ، نخشى أن ينطفئ ديننا في يوم من الأيام.
قلت: كما لا يمكن إطفاء نور الكون ولا يمكن إطفاء إيماننا الإسلامي، كذلك سيسطع الإسلام في كل آن إن لم تطفأ منارات الدين، معابد الله،
معالم الشرع، تلك هي شعائر الإسلام، الأوتاد الراسخة في الأرض.
فلقد أضحى كل معبد من معابد الله معلّما بطبعه يعلّم الطبائع. وصار كلُ مَعْلَمٍ من معالم الشرع أستاذا، يلقن الدين بلسان حاله. من دون خطأ ولا نسيان،
وأصبحت كل شَعيرة من شعائر الإسلام، عالما حكيما بذاته، يدرّس روح الإسلام ويبسطه أمام الأنظار بمرور العصور.
حتى كأن روح الإسلام قد تجسم في شعائره. وكأن زلال الإسلام قد تصلب في معابده، عمودا ساندا للإيمان،
وكأن أحكام الإسلام قد تجسدت في معالمه. وكأن أركان الإسلام قد تحجرت في عوالمه، كل ركن عمود من الألماس يربط الأرض بالسماء.
ولا سيما هذا القرآن العظيم، الخطيب المعجز البيان، يلقي خطابا أزليا في أقطار عالم الإسلام.. لم تبقَ ناحية ولا زاوية إلّا واستمعت له واهتدت بهديه.
حتى صار حفظُه مرتبة جليلة يسري فيها سر الآية الكريمة: ﴿ .. وَاِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ (الحجر:٩) وغدت تلاوته عبادة الإنس والجان.
فيه تعليم، فيه تذكير بالمسلّمات. إذ النظريات تنقلب إلى مسلّمات بمرور الأزمان، ثم إلى بديهيات حتى لا تدع حاجة إلى بيان.
فقد خرجت الضروريات الدينية من طور النظريات. فالتذكير بها إذن كافٍ والتنبيه وافٍ، والقرآن شافٍ في كل وقتٍ وآن، إذ فيه التنبيه والتذكير.
ويقظة المسلمين وصحوتهم الاجتماعية تسلّم لكل فرد ما يخص العموم من الدلائل، وتضع لهم الميزان.
فإيمان كل شخص لا ينحصر بدليله، ولا يستند الوجدان إليه وحده، بل والى أسباب لا تحد في قلب الجماعة أيضا.
فلئن كان رفض مذهب ضعيف يصعب كلما مرّ عليه الزمن؛ فكيف بالإسلام الذي هيمن طوال هذه العصور هيمنة تامة،
وهو المستنِد إلى أساسين عظيمين هما: الوحي الإلهي، والفطرة السليمة.
لقد التحم الإسلام وتغلغل في أعماق نصف المعمورة، بأسسه الراسخة وآثاره الباهرة. فسرى روحا فطريا فيه. فأنّى يستُره كسوف وقد انـزاح عنه الكسوف توا.
ولكن ويا للأسف! يحاول بعض الكفرة البلهاء وأهل السفسطة أن يتعرضوا لأسس هذا القصر الشاهق العظيم، كلما سنحت لهم الفرصة.
ولكن هيهات.. فهذه الأسس لا تتضعضع أبدا.
فليخرس الإلحاد الآن، ولقد أفلس ذلك الديوث.
ألا تكفيه تجربة الكفران ومزاولة الكذب والبهتان.
كانت هذه الدار، دار الفنون (الجامعة). في مقدمة قلاع عالم الإسلام تجاه الكفر والطغيان، بيد أن اللامبالاة والغفلة والعداوة، تلك الطبيعة الثعبانية المنافية للفطرة،
شقّت فرجة خلف الجبهة فهاجم منها الإلحاد، واهتزت عقيدة الأمة أي اهتزاز.
فلابد أن تكون طليعة الحصون المستنيرة بروح الإسلام،
أكثَرها صلابة وأزيدها انتباها ويقظة، هكذا تكون وإلّا فلا. فلا ينبـغي أن يُخدع المسلمون.
إن القلب مستقر الإيمان، بينما الدماغ مرآة لنوره،
وقد يكون مجاهدا، وقد يزاول كنس الشبهات وأدران الأوهام.
فإن لم تدخل الشبهات التي في الدماغ إلى القلب فلا يزيغ إيمان الوجدان.
ولو كان الإيمان في الدماغ -كما هو ظن البعض- فالاحتمالات الكثيرة والشكوك تصبح أعداءا ألدّاء لروح الإيمان الذي هو حق اليقين.
إن القلب والوجدان محل الإيمان.
والحدس والإلهام دليل الإيمان.
وحسّ سادس طريق الإيمان.
والفكر والدماغ حارس الإيمان.
* * *
تدعو الحاجة إلى التذكير بالمسلّمات أكثر من تعليم النظريات
لقد استقرت في القلوب الضروريات، والمسلّمات الشرعية.
ويحصل المطلوب بمجرد التنبيه للاطمئنان، والتذكير للاستشعار.
والعبارة العربية ([32]) تُنبّه وتذكّر على أفضل وجه وأسماه ولهذا؛
فخطبة الجمعة باللغة العربية كافية ووافية للتنبيه على الضروريات والتذكير بالمسلّمات.
إذ تعليم النظريات ليس مقصود الخطبة.
ثم إن هذه العبارة العربية تمثل شعار الوحدة الإسلامية في أعماق وجدان الإسلام الذي يرفض التشتت.
* * *
الحديث يقول للآية: بلوغك محال
إذا قارنت بين الحديث والآية، ترى بالبداهة أن أبلغ البشر (وهو مبلّغ الوحي الإلهي) لا يبلغ أيضا شأوَ بلاغة الآية، فالحديث لا يشبهها.
بمعنى أن ما يصدر من فم النبوة من كلام ليس دائما كلام النبي.
* * *
بيان موجز لإعجاز القرآن
رأيت في الماضي فيما يرى النائم: أنني تحت جبل (آرارات). انفلق الجبل على حين غرة، وقذف صخورا بضخامة الجبال إلى أنحاء العالم، فهزّ العالم وتزلزل.
وفجأة وقف بجنبي رجل، قال لي: بيّن بإيجاز ما تعرفه مجملا من أنواع الإعجاز.. إعجاز القرآن.
فكرتُ في تعبير الرؤيا، وأنا ما زلت فيها وقلت:
إن ما حدث هنا من انفلاق مثال لما يحدث في البشرية من انقلاب،
وسيكون هدى القرآن -بلا ريب- عاليا ومهيمنا في هذا الانقلاب. وسيأتي يوم يبين فيه إعجازه.
أجبتُ ذلك السائل قائلا:
إن إعجاز القرآن يتجلى من سبعة منابع كلية، ويتركب من سبعة عناصر.
المنبع الأول:
سلاسة لسانه من فصاحة اللفظ؛
إذ تنشأ بارقةُ بيانه من جزالة النظم، وبلاغة المعنى، وبداعة المفاهيم، وبراعة المضامين، وغرابة الأساليب.
فيتولد نقش بياني عجيب، وصنعة لسان بديع، من امتزاج كل هذه في نوع إعجاز لا يملّ الإنسان من تكراره أبدا.
أما العنصر الثاني:
فهو الإخبار السماوي عن الغيوب في الحقائق الغيبية الكونية والأسرار الغيبية للحقائق الإلهية.
فمن أمور الغيب المنطوية في الماضي، ومن الأحوال المستترة الباقية في المستقبل تنشأ خزينة علم الغيوب.
فهو لسان عالم الغيوب يتكلم مع عالم الشهادة، في أركان «الإيمان» يبينها بالرموز، والهدف هو نوع الإنسان، وما هذا إلّا نوع من لمعة نورانية للإعجاز.
أما المنبع الثالث فهو:
أنّ للقرآن جامعية خارقة من خمس جهات: في لفظه، في معناه، في أحكامه، في علمه، في مقاصده.
لفظه: يتضمن احتمالات واسعة ووجوها كثيرة بحيث إن كل وجهٍ تستحسنه البلاغة، ويستصوبه علم اللغة العربية، ويليق بسر التشريع.
في معناه: لقد أحاط ذلك البيان المعجز بمشارب الأولياء وأذواق العارفين، ومذاهب السالكين، وطرق المتكلمين، ومناهج الحكماء، بل قد تضمن كلَّها.
ففي دلالاته شمول وفي معناه سعة. فما أوسع هذا الميدان إن أطللت من هذه النافذة!.
الاستيعاب في الأحكام: هذه الشريعة الغراء قد اسُتنبطتْ منه، إذ قد تضمن طراز بيانه جميع دساتير سعادة الدارين،
ودواعي الأمن والاطمئنان، وروابط الحياة الاجتماعية، ووسائل التربية، وحقائق الأحوال.
استغراق علمه: لقد ضم ضمن سُورِ سُوَرِه العلومَ الكونية والعلوم الإلهية، مراتب ودلالات ورموزا وإشارات.
في المقاصد والغايات: لقد راعى الرعاية التامة في الموازنة والاطراد والمطابقة لدساتير الفطرة، والاتحاد في المقاصد والغايات، فحافَظَ على الميزان.
وهكذا، الجامعية الباهرة في إحاطة اللفظ وسعة المعنى واستيعاب الأحكام واستغراق العلم وموازنة الغايات.
أما العنصر الرابع:
فإفاضته النورانيةُ حسب درجة فهم كل عصر، ومستوى أدب كل طبقة من طبقاته وعلى وفق استعدادها ورتب قابليتها.
فبابُه مفتوح لكل عصر ولكل طبقة من طبقاته، حتى كأن ذلك الكلام الرحماني ينـزل في كل مكان في كل حين.
فكلما شاب الزمان شبّ القرآنُ وتوضحت رموزه. فذلك الخطيب الإلهي يمزق ستار الطبيعة وحجاب الأسباب فيفجّر نورَ التوحيد من كل آية، في كل وقت.
رافعا راية الشهادة شهادة التوحيد على الغيب.
إن علو خطابه يلفت نظر الإنسان ويدعوه إلى التدبّر؛
إذ هو لسان الغيب يتكلم بالذات مع عالم الشهادة.
يخلص من هذا العنصر: أن شبابيته الخارقة شاملة محيطة،
وأنسيته جعلته محبوب الإنس والجان، وذلك بالتنـزلات الإلهية إلى عقول البشر لتأنيس الأذهان، والمتنوعة بتنوع أساليب التنـزيل.
أما المنبع الخامس:
فنُقولُه وأخبارُه في أسلوب بديع غزير المعاني، فينقل النقاط الأساس للأخبار الصادقة كالشاهد الحاضر لها.
ينقل هكذا لينبّه بها البشر.
ومنقولاته هي الآتية: أخبار الأولين وأحوال الآخرين، وأسرار الجنة والجحيم،
حقائق عالم الغيب، وأسرار عالم الشهادة، والأسرار الإلهية، والروابط الكونية. تلك الأخبار المشاهَدة شهود عيان حتى إنه لا يردّها الواقع ولا يكذّبها المنطق بل لا يستطيع ردّها أبدا ولو لم يدركها.
فهو مطمَح العالم في الكتب السماوية،
إذ ينقل الأخبار عنها مصدّقا بها في مظان الاتفاق، ويبحث فيها مصححا لها في مواضع الاختلاف.
ألا إنه لَمعجزة هذا الزمان أن يصدر مثل هذه الأمور النقلية من «أميّ»!
أما العنصر السادس:
فإنه مؤسس دين الإسلام ومتضمنه. ولن تجد مثلَ الإسلام إن تحريت الزمانَ والمكان، لا في الماضي ولا في المستقبل.
إنه حبل الله المتين، يمسك الأرض لئلا تفلت، ويديرها دورانا سنويا ويوميا. فلقد وضع وقاره وثقله على الأرض، وساسها وقادها وحال بينها وبين النفور والعصيان.
أما المنبع السابع:
فإن الأنوار الستة المفاضة من هذه المنابع الستة يمتزج بعضها مع بعض، فيصدر شعاع حُسنٍ فائق، ويتولد حدس ذهني، وهو الوسيلة النورانية.
والذي يصدر عن هذا: ذوق، يُدرَك به الإعجاز.
لساننا يعجز عن التعبير عنه، والفكر يقصر دونه.
فتلك النجوم السماوية تُشاهَد ولا تُستمسك.
طوال ثلاثة عشر قرنا من الزمان يحمل أعداء القرآن روح التحدي والمعارضة..
وتولدت في أوليائه وأحبائه.. روح التقليد والشوق إليه.
وهذا هو بذاته برهان للإعجاز،
إذ كُتبت من جراء هاتين الرغبتين الشديدتين ملايين الكتب بالعربية، فلو قورنت تلك الملايينُ من الكتب مع القرآن الكريم،
لقال كلُ من يشاهد ويسمع، حتى أكثر الناس عامية، دونك الذكي الحكيم: إنّ هذه الكتب بشرية.. وهذا القرآن سماوي.
وسيحكم حتما: إنّ هذه الكتب كلها لا تشبه هذا القرآن ولا تبلغ شأوه قطعا.
لذا فإما أنه أدنى من الكل. وهذا معلوم البطلان وظاهر بالبداهة. إذن فهو فوق الكل.
ولقد فتح أبوابه على مصراعيه للبشر ونشر مضامينه أمامهم طوال هذه المدة الطويلة. ودعا لنفسه الأرواح والأذهان.
ومع هذا لم يستطع البشر معارضته، ولا يمكنهم ذلك. فلقد انتهى زمن الامتحان.
إن القرآن لا يقاس بسائر الكتب ولا يشبهها قطعا. إذ نزل في عشرين سنة ونيف نجما نجما -لحكمة ربانية- لمواقع الحاجات نزولا متفرقا متقطعا،
ولأسباب نـزول مختلفة متباينة، وجوابا لأسئلة مكررة متفاوتة، وبيانا لحادثات أحكام متعددة متغايرة، وفي أزمان نـزول مختلفة متفارقة،
وفي حالات تَلَقٍّ متنوعة متخالفة.
ولأفهامِ مخاطبين متعددة متباعدة. ولغايات إرشاداتٍ متدرجة متفاوتة.
وعلى الرغم من هذه الأسس فقد أظهر كمال السلاسة والسلامة والتناسب والتساند في بيانه وجوابه وخطابه، ودونك علم البيان وعلم المعاني.
وفي القرآن خاصية لا توجد في أي كلام آخر، لأنك إذا سمعت كلاما من أحدٍ فإنك ترى صاحب الكلام خلفه أو فيه فالأسلوب مرآة الإنسان.
أيها السائل المثالي! لقد أردت الإعجاز، وها قد أشرتُ إليه. وإن شئت التفصيل، فذلك فوق حدّي وطوقي، أَتَقْدر الذبابة مشاهدة السماوات؟
وقد بيّن كتاب «إشارات الإعجاز» واحدا من أربعين نوعا من ذلك الإعجاز، ولم تفِ مائة صفحة من تفسير لبيان نوع واحد.
بل أنا الذي أريد منك التفصيل، فقد تفضّل المولى عليك بفيضٍ من إلهامات روحية.
* * *
لا تبلغ يد الأدب الغربي ذي الأهواء والنـزوات والدهاء..
شأن أدب القرآن الخالد ذي النور والهدى والشفاء.
إذ الحالة التي ترضي الأذواق الرفيعة للكاملين من الناس وتُطمئنهم، لا تسرّ أصحاب الأهواء الصبيانية وذوي الطبائع السفيهة،
ولا تسلّيهم، فبناءً على هذه الحكمة؛
فإن ذوقا سفيها سافلا، تَرعرع في حمأة الشهوة والنفسانية، لا يَستلذ بالذوق الروحي، ولا يعرفه أصلا.
فالأدب الحاضر؛ المترشح من أدب أوروبا، عاجز عن رؤية ما في القرآن الكريم من لطائف عالية ومزايا سامية، من خلال نظرته الروائية،
بل هو عاجز عن تذوقها، لذا لا يستطيع أن يجعل معياره محكّا له.
والأدب يجول في ثلاثة ميادين، دون أن يحيد عنها:
ميدان الحماسة والشهامة.. ميدان الحسن والعشق.. ميدان تصوير الحقيقة والواقع..
فالأدب الأجنبي:
في ميدان الحماسة؛ لا ينشد الحق، بل يلقّن شعور الافتتان بالقوة بتمجيده جَور الظالمين وطغيانهم.
وفي ميدان الحسن والعشق؛
لا يعرف العشقَ الحقيقي، بل يغرز ذوقا شهويا عارما في النفوس.
وفي ميدان تصوير الحقيقة والواقع؛ لا ينظر إلى الكائنات على أنها صنعة إلهية،
ولا يراها صبغة رحمانية، بل يحصر همه في زاوية الطبيعة ويصور الحقيقة في ضوئها، ولا يقدر الفكاك منها.. لذا يكون تلقينه عشق الطبيعة،
وتأليه المادة، حتى يمكّن حبها في قرارة القلب، فلا ينجو المرء منه بسهولة.
ثم إن ذلك الأدب المشوب بالسفه، لا يغني شيئا عن اضطرابات الروح وقلقها الناشئة من الضلالة والواردة منه أيضا، ولربما يهدئها وينيّمها.
وفي حسبانه أنه قد وجد حلا، وكأن العلاج الوحيد، وهو رواياته. وهي:
في كتاب.. ذلك الحي الميت.
وفي سينما.. وهي أموات متحركة.
وفي مسرح.. الذي تبعث فيه الأشباح وتخرج سراعا من تلك المقبرة الواسعة المسماة بالماضي!
هذه هي أنواع رواياته.
وأنّى للميت أن يهب الحياة!..
وبلا خجل ولا حياء!.. وضع الأدب الأجنبي لسانا كاذبا في فم البشر.. وركّب عينا فاسقة في وجه الإنسان.. وألبس الدنيا فستانَ راقصةٍ ساقطة.
فمن أين سيعرف هذا الأدب؛ الحسنَ المجرد؟!
حتى لو أراد أن يُري القارئَ الشمسَ؛ فإنه يذكّره بممثلة شقراء حسناء.
وهو في الظاهر يقول: «السفاهة عاقبتها وخيمة، لا تليق بالإنسان»..
ثم يبين نتائجها المضرة.. إلّا أنه يصورها تصويرا مثيرا إلى حد يسيل منه اللعاب، ويفلت منه زمام العقل، إذ يضرم في الشهوات، ويهيج النـزوات.
حتى لا يعود الشعور ينقاد لشيء.
أما أدب القرآن الكريم:
فإنه لا يحرك ساكن الهوى، ولا يثيره، بل يمنح الإنسان الشعور بنشدان الحق وحبه، والافتتان بالحسن المجرد، وتذوّق عشق الجمال، والشوق إلى محبة الحقيقة.. ولا يخدع أبدا.
فهو لا ينظر إلى الكائنات من زاوية الطبيعة، بل يذكرها صنعة إلهية، صبغة رحمانية، دون أن يحير العقول.
فيلقّن نور معرفة الصانع.. ويبين آياته في كل شيء..
والأدَبان.. كلاهما يورثان حزنا مؤثرا. إلّا أنهما لا يتشابهان.
فما يورثه أدب الغرب هو حزن مهموم، ناشئ من فقدان الأحباب، وفقدان المالك.
ولا يقدر على منح حزن رفيع سامٍ؛ إذ استلهام الشعور من طبيعة صماء، وقوة عمياء يملؤه بالآلام والهموم حتى يغدو العالم مليئا بالأحزان،
ويلقي الإنسان وسط أجانب وغرباء دون أن يكون له حامٍ ولا مالك! فيظل في مأتمه الدائم... وهكذا تنطفئ أمامه الآمال.
فهذا الشعور المليء بالأحزان والآلام يهيمن على كيان الإنسان، فيسوقه إلى الضلال، وإلى الإلحاد، وإلى إنكار الخالق.. حتى يصعب عليه العودة إلى الصواب، بل قد لا يعود أصلا.
أما أدب القرآن الكريم: فإنه يمنح حزنا ساميا علويا، ذلك هو حزن العاشق، لا حزن اليتيم.. هذا الحزن نابع من فراق الأحباب، لا من فقدانهم.
ينظر إلى الكائنات؛ على أنها صنعة إلهية، رحيمة، بصيرة بدلا من طبيعة عمياء.
بل لا يذكرها أصلا، وإنما يبين القدرة الإلهية الحكيمة، ذات العناية الشاملة، بدلا من قوة عمياء.
فلا تلبس الكائنات صورة مأتم موحش، بل تتحول -أمام ناظريه- إلى جماعة متحابّة، إذ في كل زاوية تجاوب. وفي كل جانب تحابب. وفي كل ناحية تآنس.. لا كدر ولا ضيق...
هذا هو شأن الحزن العاشقي.
وسط هذا المجلس يستلهم الإنسان شعورا ساميا، لا حزنا يضيق منه الصدر.
الأدبان.. كلاهما يعطيان شوقا وفرحا.
فالشوق الذي يعطيه ذلك الأدب الأجنبي؛ شوق يهيج النفس، ويبسط الهوس.. دون أن يمنح الروح شيئا من الفرح والسرور؛
بينما الشوق الذي يهبه القرآن الكريم؛ شوق تهتز له جنبات الروح، فتعرج به إلى المعالي.
وبناءً على هذا السر: فقد نهت الشريعة الغراء عن اللهو، وما يُلهي..
فحرّمت بعض آلات اللهو، وأباحت أخرى.
بمعنى: أن الآلة التي تؤثر تأثيرا حزينا حزنا قرآنيا وشوقا تنـزيليا، لا تضر.
بينما إن أثرت في الإنسان تأثيرا يتيميا وهيّجت شوقا نفسانيا شهويا، تحرم الآلة.
تتبدل حسب الأشخاص هذه الحالة.. والناس ليسوا سواء.
* * *
الأغصان تقدم الثمرات باسم الرحمة الإلهية
إن أغصان شجرة الخليقة تقدم ثمرات النعم وتوصلها ظاهرا إلى أيدي الأحياء في كل ناحية من أنحاء العالم.
بل تقدم إليكم تلك الثمراتِ بتلك الأغصان من يد الرحمة ويد القدرة.
فقبِّلوا يد الرحمة تلك، بالشكر،
وقدّسوا يد القدرة تلك، بالامتنان.
* * *
بيان الطرق الثلاث المشار إليها في ختام سورة الفاتحة
يا أخي! يا من امتلأ صدره بالأمل المشرق! أمسكْ خيالك في يدك، وتعال معي.. نحن الآن في أرض واسعة، ننظر إلى جوانبها، دون أن يرانا أحد،
ولكن أُلقي علينا غيم أسود مظلم، فهبط على جبالٍ شُمٍّ، حتى غطى وجه أرضنا بالظلمات، بل كأنه سقف صلب كثيف..
إلّا أنه سقفٌ تُرى الشمسُ من جهته الأخرى.
ولكننا نحن تحت ذلك الغيم الكثيف، لا نكاد نطيق ضيق الظلمات،
ويخنقنا الضجر والانقباض، ففقدان الهواء مميت!.
وإذ نحن في هذه الحالة من الضيق الخانق انفتحت أمامنا ثلاث طرق تؤدي إلى ذلك العالم المضيء. ولقد أتيناه مرةً وشاهدناه من قبل.
فمضينا من الطرق الثلاث، كل على انفراد:
الطريق الأولى: معظم الناس يمرون منها، فهي سياحة حول العالم؛ والسياحة تشدّنا إليها..
فها نحن ندرج في الطريق نسير مشيا على الأقدام.. فها تجابهنا بحار الرمال في هذه الصحراء الواسعة.. انظر كيف تغضب علينا. وتستطير غيظا وتزجرنا زجرا..
وانظر إلى أمواجٍ كالجبال لهذا البحر العظيم.. إنها تحتد علينا وها نحن في الجهة الأخرى.. والحمد لله. نتنفس الصعداء.. نرى وجه الشمس المضيء.
ولكن لا أحد يقدّر مدى ما قاسينا من أتعاب وآلام.
ولكن وا أسفى! لقد رجعنا مرة ثانية إلى هذه الأرض الموحشة التي أطبقت عليها الغيوم بالظلمات ونحن أحوج ما نكون إلى عالم مضيء يفتح بصيرتنا.
إن كنت ذا شجاعة فائقة فرافقني في الطريق المليئة بالمخاطر، سنخوضها بشجاعة.
وهي طريقنا الثانية:
نثقب طبيعة الأرض، ننقب فيها لننفذ ونبلغ الجهة الأخرى. نمضي في أنفاق فطرية في الأرض والخوفُ يحيطنا..
فلقد شاهدتُ -في زمن ما- هذه الطريق ومضيت فيها بوجل واضطراب ولكن كانت في يدي آلة أو مادة تذيب أرض الطبيعة وتخرقها وتمهد السبيل..
تلك المادة أعطانيها القرآن الكريم في الطريق الثالثة.
يا أخي! لا تتركني. اتبعني. لا تخف أبدا. انظر فها أمامك كهوف ومغارات كالأنفاق تحت الأرض، تنتظرنا وتسهّل لنا الطريق إلى الجهة الأخرى.
لا تروّعك صلابة الطبيعة، فإن تحت ذلك الوجه العبوس القمطرير وجهَ مالكها الباسم.
إن تلك المادة القرآنية مادة مشعة كالراديوم.
بشراك يا أخي! فلقد خرجنا إلى العالم المنور.. انظر إلى الأرض الجميلة، والسماء اللطيفة المزينة..
ألا ترفع رأسك يا أخي لتشاهد هذا الذي غطى وجه السماء كلها وسما عليها وعلى الغيوم. إنه القرآن الكريم..
شجرة طوبى الجنة.. مدّت أغصانها إلى أرجاء الكون كله. وما علينا إلّا التعلق بهذا الغصن المتدلي والتشبث به، فهو بقربنا ليأخذنا إلى هناك..
إلى تلك الشجرة السماوية الرفيعة.
إن الشريعة الغراء نموذج مصغر من تلك الشجرة المباركة.
فلقد كان باستطاعتنا إذن بلوغُ ذلك العالم المضيء بتلك الطريق.. طريق الشريعة، من دون أن نرى صعوبة وكللا.
بيد أننا أخطأنا السير. فلنرجع القهقرى إلى ما كنا فيه لنسلك الطريق المستقيم.. فانظر فها هي:
طريقنا الثالثة: الداعية العظيم يقف منتصبا على هذه الشواهق الراسية..
إنه ينادي مؤذنا بـ«حيهلوا إلى عالم النور».. إنه يشترط علينا الدعاء والصلاة.. إنه المؤذن الأعظم محمد الهاشمي ﷺ.
انظر إلى هذه الجبال..
جبال الهدى، وقد اخترقت الغيوم، إنها تناطح السماوات.
وانظر إلى جبال الشريعة الشاهقة إنها جمّلت وجهَ أرضنا وأزهَرتها.
وعلينا أن نحلّق بالهمة لنرى الضياء هناك ونرى نور الجمال.
نعم، فها هنا.. أُحُد التوحيد.. ذلك الجبل الحبيب العزيز.
وها هناك.. جوديُّ الإسلام.. ذلك الجبل الأشم.. جبل السلامة والاطمئنان.
وها هو جبل القمر، القرآن الأزهر.. يسيل منه زلال النيل. فاشرب هنيئا ذلك الماء العذب السلسبيل.
فتبارك الله أحسن الخالقين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
فيا أخي! اطرحْ الآن الخيال، وتقلّد العقل.
إن الطريقين الأوليين، هما طريق: «المغضوب عليهم والضالين» ففيهما مخاطر كثيرة، فهما شتاء دائم لا ربيع فيهما.
بل ربما لا ينجو إلّا واحد من مائة شخص قد سلك فيهما.. كأفلاطون وسقراط.
أما الطريق الثالثة: فهي سهلة قصيرة، لأنها مستقيمة، الضعيف والقوي فيها سيّان. والكل يمكنه أن يمضي فيها.
أما أفضل الطرق وأسلمها فهو: أن يرزقك الله الشهادة أو شرف الجهاد.
فها نحن الآن على عتبة النتيجة.
إن الدهاء العلمي يسلك في الطريقين الأوليين.
أما الهدى القرآني، وهو الصراط المستقيم، فهو الطريق الثالثة فهي التي تبلغنا هناك.
اللّهم ﴿ اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَق۪يمَۙ ❀ صِرَاطَ الَّذ۪ينَ اَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْۙ
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّٓالّ۪ينَ ﴾ . آمين.
* * *
كل الآلام في الضلالة، وكل اللذائذ في الإيمان
(حقيقة كبرى تزيّت بزي الخيال)
أيها الصديق الفطن! إن شئت أيها العزيز أن ترى الفرق الواضح بين «الصراط المستقيم» ذلك المسلك المنور «وطريق المغضوب عليهم والضالين» ذلك الطريق المظلم!
تناول إذن يا أخي وهْمَك واركب متن الخيال. سنذهب سوية إلى ظلمات العدم، تلك المقبرة الكبرى المليئة بالأموات.
إن القدير الجليل قد أخرجَنا من تلك الظلمات بيد قدرته، وأركبنا هذا الوجود، وأتى بنا إلى هذه الدنيا.. الخالية من اللذة الحقة.
فها نحن قد أتينا إلى هذا العالم، عالم الوجود.. هذه الصحراء الواسعة. وأعيُننا قد فُتحت فنظرْنا إلى الجهات الست،
وصوّبنا نظرنا إلى الأمام وإذا البلايا والآلام تريد الانقضاض علينا كالأعداء.. ففزعنا منها، وتراجعنا عنها.
ثم نظرنا إلى اليمين والى الشمال مسترحمين العناصر والطبائع،
فرأيناها قاسية القلوب لا رحمة فيها، وقد كشرت عن أسنانها تنظر إلينا بنظرات شزرة. لا تسمع دعاءً ولا تلين بكثرة التوسل.
فرفعنا أبصارنا مضطرين إلى الأعلى مستمدين العون من الأجرام، ولكن رأيناها مرعبة مهيبة، تهددنا،
إذ إنها كالقذائف المنطلقة تسير بسرعة فائقة تجوب بها أنحاء الفضاء، من دون اصطدام،
يا تُرى لو أخطأتْ سيرها وضلّت، إذن لانفلق كبد العالم، عالم الشهادة. والعياذ بالله. أليس أمره موكولا إلى المصادفة، هل يأتي منها خير؟!
فصرفنا أنظارنا عن هذه الجهة يائسين، ووقعنا في حيرة أليمة، وخفضنا رؤوسنا وفي صدورنا استترنا، ننظر إلى نفوسنا ونطالع ما فيها..
فإذا بنا نسمع ألوف صيحات الحاجات وألوف أنّات الفاقات، تنطلق كلها من نفوسنا الضعيفة. فنستوحش منها في الوقت الذي ننتظر منها السلوان،
لا جدوى إذن من هذه الجهة كذلك.
لجأنا إلى وجداننا، نبحث عن دواء. ولكن وا أسفاه لا دواء.
بل علينا وقع العلاج، إذ تجيش فيه ألوف الآمال والرغبات وألوف المشاعر والنـزعات، الممتدة إلى أطراف الكون.. تراجعنا مذعورين.. نحن عاجزون عن إغاثتها.
فلقد تزاحمت الآمال في الإنسان حتى امتدت أطرافها من الأزل إلى الأبد، بل لو ابتلعت الدنيا كلها لما شبعت.
وهكذا أينما ولّينا وجوهنا، قابَلَنا البلاء.. هذا هو طريق «الضالين والمغضوب عليهم» لأن النظر مصوّب إلى المصادفة والضلال.
وحيث إننا قلّدنا ذلك المنظار، وقعنا في هذه الحال، ونسينا موقتا الصانع والحشر والمبدأ والمعاد.
إنها أشد إيلاما للروح من جهنم وأشد إحراقا منها..
فما جنينا من تلك الجهات الست إلّا حالة مركبة من خوف واندهاش وعجز وارتعاش وقلق واستيحاش مع يتم ويأس.. تلك التي تعصر الوجدان..
فلنحاول دفعها ولنجابهها..
فنبدأ مقدما بالنظر إلى قدرتنا. فوا أسفاه! إنها عاجزة ضعيفة.
ثم نتوجه إلى تطمين حاجات النفس العطشى،
تصرخ دون انقطاع ولكن ما من مجيب ولا من مغيث لإسعاف تلك الآمال التي تستغيث!
فظننا كل ما حولنا أعداءً.. كل شيء غريب. فلا نستأنس بشيء، ولا شيء يبعث الاطمئنان.. فلا متعة ولا لذة حقيقية.
ومن بعد ذلك كلما نظرنا إلى الأجرام، امتلأ الوجدان خوفا وهلعا ووحشة، وامتلأت العقول أوهاما وريبا.
فيا أخي! هذه هي طريق الضلال. وتلك ماهيتها. فلقد رأينا فيها ظلام الكفر الدامس.
هيا الآن يا أخي لنرجع إلى العدم،
ثم لنَعُد منه، فطريقنا هذه المرة في «الصراط المستقيم» ودليلنا العناية الإلهية، وإمامُنا القرآن الكريم.
نعم، لما أرادنا المولى الكريم، أخرجتنا قدرتُه من العدم، رحمةً منه وفضلا. وأركَبَنا قانون المشيئة الإلهية، وسيّرنا على الأطوار والأدوار..
ها قد أتى بنا، وخلع علينا خلعة الوجود وهو الرؤوف، وأكرمنا منـزلة الأمانة، شارتُها الصلاة والدعاء.
كل دور وطور منـزل من منازل الضعف في طريقنا الطويلة هذه، وقد كتَب القدر على جباهنا أوامره لتيسير أمورنا،
فأينما حللنا ضيوفا نُستقبل بالترحاب الأخوي. نسلّمهم ما عندنا ونتسلّم من أموالهم.. هكذا تجري التجارة في محبة ووئام.
يغذّوننا، ثم يحمّلوننا بالهدايا، ويشيّعوننا.. هكذا سرنا في الطريق، حتى بلغنا باب الدنيا، نسمع منها الأصوات.
وها قد أتيناها، ودخلناها، وطأت أقدامنا عالم الشهادة، معرض الرحمن، مشهر مصنوعاته، وموضع صخب الإنسان وضجيجه.
دخلناها ونحن جاهلون بكل ما حولنا، دليلنا وإمامنا مشيئة الرحمن، ووكيلها عيوننا اللطيفة.
ها قد فتحت عيونُنا، أجَلْناها في أقطار الدنيا.. أتذكر مجيئنا السابق إلى ههنا؟
كنا أيتاما غرباء، بين أعداء لا يعدّون من دون حامٍ ولا مولى.
أما الآن، فنور الإيمان «نقطة استناد» لنا، ذلك الركن الشديد تجاه الأعداء.
حقا، إن الإيمان بالله نور حياتنا، ضياء روحنا، روح أرواحنا،
فقلوبنا مطمئنة بالله لا تعبأ بالأعداء، بل لا تعدّهم أعداء.
في الطريق الأولى، دخلنا الوجدان، سمعنا ألوف الصيحات والاستغاثات، ففزعنا من البلاء.
إذ الآمال والرغبات والمشاعر والاستعدادات لا ترضى بغير الأبد. ونحن نجهل سبيل إشباعها. فكان الجهل منا، والصراخ منها.
أما الآن، فلله الحمد والمنة، فقد وجدنا «نقطة استمداد» تبعث الحياة في الآمال والاستعدادات، وتسوقها إلى طريق أبد الآباد.
فيتشرب الاستعداد منها والآمال ماء الحياة، وكل يسعى لكماله.
فتلك النقطة المشوقة، «نقطة الاستمداد»، هي القطب الثاني من الإيمان، وهو الإيمان بالحشر. والسعادة الخالدة هي درّة ذلك الصدف.
إن برهان الإيمان هو القرآن والوجدان، ذلك السر الإنساني.
إرفعْ رأسك يا أخي، وألق نظرة في الكائنات، وحاورها، أما كانت موحشة في طريقنا الأولى والآن تبتسم وتنشر البشر والسرور؟
ألا ترى قد أصبحت عيوننا كالنحلة تطير إلى كل جهة في بستان الكون هذا، وقد تفتحت فيه الأزهار في كل مكان، وتمنح الرحيق الطهور.
ففي كل ناحية انس وسلوان، وفي كل زاوية محبة ووئام.. فهي ترتشف تلك الهدايا الطيبة، وتقطّر شهد الشهادة، عسلا على عسل.
وكلما وقعت أنظارنا على حركات النجوم والشموس، تسلِّمها إلى يد حكمة الخالق، فتستلهم العبرة وجلوة الرحمة.
حتى كأن الشمس تتكلم معنا قائلة:
«يا إخوتي! لا تستوحشوا مني ولا تضجروا! فأهلا وسهلا بكم. فقد حللتم أهلا ونـزلتم سهلا. أنتم أصحاب المنـزل، وأنا المأمور المكلف بالإضاءة لكم.
أنا مثلكم خادم مطيع سخرّني الأحد الصمد للإضاءة لكم، بمحض رحمته وفضله. فعليّ الإضاءة والحرارة وعليكم الدعاء والصلاة.
فيا هذا! هلّا نظرت إلى القمر.. إلى النجوم.. إلى البحار.. كل يرحب بلسانه الخاص ويقول: حياكم وبياكم. فأهلا وسهلا بكم!
فانظر يا أخي بمنظار التعاون، واستمع بصماخ النظام، كل منها يقول: «نحن أيضا خدّام مسخرون. نحن مرايا رحمة الرحمن. لا نسأم من العمل أبدا. لا تتضايقوا منا».
فلا تخيفنكم نعرات الزلازل وصيحات الحوادث، فهي ترنمات الأذكار ونغمات التسبيحات، وتهاليل التضرعات..
نعم، إنّ الذي أرسلكم إلى هنا، هو ذلك الجليل الجميل الذي بيده زمام كل أولئك.. إنّ عين الإيمان تقرأ في وجوهها آيات الرحمة.
أيها المؤمن يا ذا القلب اليقظ! ندع عيوننا لتخلد إلى شيء من الراحة، ونسلّم آذاننا للإيمان بدلا منها. ولنستمع من الدنيا إلى نغمات لذيذة..
فالأصوات التي كانت تتعالى في طريقنا السابقة -وظنناها أصوات مآتم عامة ونعيات الموت- هي أصوات أذكار في هذه الطريق وتسابيح وحمد وشكر.
فترنمات الرياح ورعدات الرعود ونغمات الأمواج.. تسبيحات سامية جليلة وهزجات الأمطار وسجعات الأطيار.. تهاليل رحمة وعناية..
كلها مجازات تومئ إلى حقيقة.
نعم، إن صوت الأشياء، صدى وجودها، يقول: أنا موجود.وهكذا تنطق الكائنات كلها معا وتقول: أيها الإنسان الغافل! لا تحسبنا جامدات؛
فالطيور تنطق، في تذوق نعمةٍ، أو نـزول رحمةٍ، فتزقزق بأصوات عذبة، بأفواه دقيقة ترحابا بنـزول الرحمة المهداة. حقا، النعمة تنـزل عليها، والشكر يديمها،
وهي تقول رمزا: أيتها الكائنات! يا إخوتي! ما أطيب حالنا! ألا نُربَّى بالشفقة والرأفة.. نحن راضون عما نحن عليه من أحوال.. وهكذا تبث أناشيدها بمناقيرها الدقيقة،
حتى تحول الكائنات كلها إلى موسيقى رفيعة.
إنّ نور الإيمان هو الذي يسمع أصداء الأذكار وأنغام التسابيح، حيث لا مصادفة ولا اتفاقية عشواء.
أيها الصديق! ها نحن نغادر هذا العالم المثالي، ونقف على عتبة العقل وندخل ميدانه، لنـزن الأمور بميزانه كي نميّز الطرق المختلفة.
فطريقنا الأولى: طريق المغضوب عليهم والضالين. تُورِث الوجدان حسا أليما وعذابا شديدا حتى في أعمق أعماقه، فتطفح تلك المشاعر المؤلمة إلى الوجوه،
فنخادع أنفسنا مضطرين للنجاة من تلك الحالة، ونحاول التسكين والتنويم وإبطال الشعور وإلغائه.. وإلّا فلا نطيق تجاه استغاثات وصيحات لا تنقطع!
فالهوى يبطل الحس ويخدّر الشعور، والشهوات الساحرة تطلب اللهو، كي تخدع الوجدان وتستغفله وتنوم الروح وتسكّنها لئلا تشعر بالألم.
لأن ذلك الشعور يحرق الوجدان حتى لا يكاد يطاق صراخه من شدة الألم.. ألا إن ألم اليأس لا يطاق حقا!
إذ كلما ابتعد الوجدان عن الصراط المستقيم اشتدت عليه تلك الحالة، حتى إن كل لذة تترك أثرا من الألم،
ولا تجدي بهرجة المدنية الممزوجة بالشهوات والهوى واللهو.. إنها مَرْهَم فاسد وسمّ منوّم للضيق الذي يولده الضلال.
فيا صديقي العزيز! لقد شعرنا بالراحة من حالتنا في الطريق الثانية المنورة، فتلك هي منبع اللذات وحياة الحياة، بل تنقلب فيها الآلام إلى لذائذ..
هكذا عرفناها، فهي تبعث الاطمئنان إلى الروح -حسب قوة الإيمان- والجسد متلذذ بلذة الروح، والروح تتنعم بنعم الوجدان.
إنّ في الوجدان سعادة عاجلة مندرجة فيه، إنها فردوس معنوي مندمج في سويداء القلب. والتفكر يقطّرها ويذيقها الإنسان. أما الشعور فهو الذي يُظهرها.
ونعلم الآن: أنه بمقدار تيقظ القلب، وحركة الوجدان، وشعور الروح، تزداد اللذة والمتعة، وتنقلب نار «الحياة» نورا وشتاؤها صيفا.
وهكذا تنفتح أبواب الجنان على مصراعيها في الوجدان، وتغدو الدنيا جنة واسعة تجول فيها أرواحنا، بل تعلو علو الصقور، بجناحي الصلاة والدعاء.
وأستودعكم الله يا صديقي الحميم. ولْندْعُ معا كل لأخيه. نفترق الآن وإلى لقاءٍ.
اللّهم اهدنا الصراط المستقيم.
جواب موجّه إلى الكنيسة الأنكليكية
سأل ذات يوم قسيس حاقد، ذلك السياسي الماكر، العدوّ الألدّ للإسلام، عن أربعة أمور طالبا الإجابة عنها في ستمائة كلمة.
سألها بغية إثارة الشبهات، مستنكرا ومتعاليا، وبشماتة متناهية، وفي وقت عصيب حيث كانت دولته تشد الخناق في مضايقنا.
فينبغي الإجابة بـ: «تبا لك!» تجاه شماتته، وبالسكون عليه بسخط تجاه مكره ودسيسته، فضلا عن جواب مسكت ينـزل به كالمطرقة تجاه إنكاره.
فأنا لا أضعه موضع خطابي، بل أجوبتنا لمن يلقي السمع وينشد الحق وهي الآتية:
فلقد قال في السؤال الأول: ما دين محمد ﷺ؟. قلت: إنه القرآن الكريم. أساسُ قصده ترسيخ أركان الإيمان الستة وتعميق أركان الإسلام الخمسة.
ويقول في الثاني: ماذا قدّم للفكر وللحياة؟ قلت: التوحيد للفكر، والاستقامة للحياة. وشاهدي في هذا قوله تعالى:
﴿ قُلْ هُوَ اللّٰهُ اَحَدٌ ﴾ (الإخلاص:١)، ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَٓا اُمِرْتَ ﴾ (هود: ١١٢).
ويقول في الثالث: كيف يعالج الصراعات الحاضرة؟. أقول: بتحريم الربا وفرض الزكـاة. وشاهدي قوله تعالى:
﴿ وَاَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبٰوا ﴾ (البقرة:٢٧٥)، ﴿ يَمْحَقُ اللّٰهُ الرِّبٰوا ﴾ (البقرة:٢٧٦)، ﴿ وَاَق۪يمُوا الصَّلٰوةَ وَاٰتُوا الزَّكٰوةَ ﴾ (البقرة:٤٣)
ويقول في الرابع:
“İhtilal-i beşere ne nazarla bakıyor?” Derim: “Sa’y, asıl esastır. Servet-i insaniye, zalimlerde toplanmaz, saklanmaz ellerinde.
Buna dair şahidim:
لَي۟سَ لِل۟اِن۟سَانِ اِلَّا مَا سَعٰى وَالَّذٖينَ يَك۟نِزُونَ الذَّهَبَ وَال۟فِضَّةَ
وَلَا يُن۟فِقُونَهَا فٖى سَبٖيلِ اللّٰهِ فَبَشِّر۟هُم۟ بِعَذَابٍ اَلٖيمٍ
(Yüz mâşâallah bu cevaba.)
- ↑ ملاحظة: هذا الديوان الشبيه بالمنظوم هو آخر ما ألّفه «سعيد القديم» وطبعه ونشره في سنة ١٣٣٧ (١٩٢١م) وبعد تأليفه لرسائل النور وانتشارها، أوصى تلاميذه أن يلحقوه بمجموعة «الكلمات» بعد حذفه أبحاثاً وفقرات منه. وفي أوائل الخمسينات وضع هوامش جديدة وأمر بنشره على هذه الصورة النهائية.
- ↑ مثل تركي: يُحكى أن رجلا كان يقرض الشعر ضحّى بزوجته المسماة «صافية» وطلقها كي تستقيم قافية شعره.
- ↑ قصيدة طويلة تنوف على أربعمائة بيت في وصف غزوات الصحابة الكرام، باللغة الكردية الكرمانجية الشمالية، نظَمها الملا خالد آغا الزيباري المعروف بزهده وتقواه.
- ↑ ولقد وفّقنا الله لترجمة هذا الديوان الرائع نثرا أيضا مكتفين بالمعنى دون القافية أو اللفظ.
- ↑ حتى إن تاريخ تأليفه ظهر في العبارة الآتية: «نجم أدب وُلِد لهلالَي رمضان» مجموع أرقامه:١٣٣٧ (المؤلف).
- ↑ هذه القطعة توقيعه. (المؤلف).
- ↑ فلقد أخرجت السلطات آنذاك جثمانه ودفنته في مكان مجهول، وذلك بعد مرور أربعة أشهر على وفاته ١٩٦٠م.
- ↑ يعني أن سعيدين يموتان في السنة الواحدة، حيث يتجدد الجسم في السنة مرتين. فضلا عن أن سعيدا سيعيش إلى هذا التاريخ، أي إلى هذه السنة، التاسعة والسبعين، إذ يموت في كل سنة سعيد. (المؤلف).
- ↑ فلقد أحس قبل الوقوع بهذه الأحوال قبل عشرين سنة من وقوعها. (المؤلف).
- ↑ هذه الفقرات المنتهية بعلامة (∗) أضافها المؤلف نفسه إلى الكتاب بعد سنة ١٩٥١.
- ↑ أي ألّا تتدخل في الإيجاد والتأثير الحقيقي قطعا. (المؤلف).
- ↑ الاستدلال من العلّة إلى المعلول برهان لمّيّ، ومن المعلول إلى العلّة برهان إنّيّ. (التعريفات للجرجاني).
- ↑ إشارة إلى النتائج الرهيبة للحرب العالمية الأولى، بل يخبر عن الحرب العالمية الثانية.(المؤلف).
- ↑ انظر: البخاري، الأنبياء ٤٩، البيوع ١٠٢، المظالم ٣١؛ مسلم، الإيمان ٢٤-٢٤٧؛ أبو داود، الملاحم ١٤؛ الترمذي، الفتن ٥٤؛ ابن ماجه، الفتن ٣٣؛ أحمد بن حنبل، المسند ٢٤٠/٢-٢٧٢؛ ابن حبان، الصحيح ٣٧٧/١٦؛ الحاكم، المستدرك ٦٥١/٢.
- ↑ انظر: البخاري، المناقب ٢٥، فضائل القرآن ١؛ مسلم، الإيمان ٢٧١، فضائل الصحابة ١٠٠؛ الترمذي، المناقب ١٢؛ النسائي، الإيمان ٦؛ أحمد بن حنبل، المسند ١٠٧/٢، ٣٣٤/٣.
- ↑ يذكر هذا وكأنه قد شهد هذا الزمان. (المؤلف).
- ↑ في هذا إشارة إلى ما سيقع في المستقبل. (المؤلف).
- ↑ إشارة مستقبلية قوية حيث لم تسمع البشرية هذا النداء فتلقت صفعة قوية من يد الحرب العالمية الثانية. (المؤلف).
- ↑ أبو داود، الديات ١٨؛ الترمذي، الفرائض ١٧؛ ابن ماجه، الفرائض ٨، الديات ١٤؛ الدارمي، الفرائض ٤١؛ أحمد بن حنبل، المسند ٤٩/١.
- ↑ معنى أنها ستتقيأ قيئاَ اشد وافظع. نعم، لقد قاءت واستفرغت بحربين عالميتين حتى لطخت بالدم البر والبحر والهواء (المؤلف).
- ↑ كلمة «الدهاء» في هذا المبحث يقصد منها، المفاهيم المادية التي تتبناها حضارة الغرب. أو الفكر المادي في فلسفته. ولقد أبقينا الكلمة كما هي لما فيها من تجانس جميل مع الهدى.
- ↑ انظر: مسلم، الزهد ٦٤؛ الدارمي، الرقاق ٦١؛ أحمد بن حنبل، المسند ٣٣٢/٤، ٢٤/٥؛ ابن حبان، الصحيح ١٥٥/٧؛ الطبراني، المعجم الكبير ٤٠/٨.
- ↑ تركيا الفتاة أو «جون ترك»: يطلق هذا الاسم على الجماعات والأفراد المعارضين للحكم في الدولة العثمانية منذ عهد السلطان عبد العزيز وحتى عزل السلطان عبد الحميد الثاني (١٩٠٩) حيث استطاعت جمعية الاتحاد والترقي أن تحل محلها، وبالتعاون مع قوى خارجية وبإسناد من الدول الكبرى استطاعت هذه الجمعية من عزل السلطان عبد الحميد الثاني من الحكم. وأصبح تعبير «تركيا الفتاة» علما للمعارضة السياسية آنذاك، لذا قد يطلق على منتسبي الاتحاد والترقي كذلك.
- ↑ إشارة واضحة إلى المدنية الظالمة الملحدة التي تعاني السكرات.(المؤلف).
- ↑ هذه القطعة نواة رسالة الاقتصاد. وكأنه قد لَخّص تلك الرسالة في هذه السطور. (المؤلف).
- ↑ يقع هذا المسجد في حي السلطان محمد الفاتح بإسطنبول. وقد بناه صاحبه مما ادّخره من الأموال اللازمة لبنائه بقوله: «كأنني أكلت» كلما اشتهت نفسه شيئا. ومن هنا جاءت التسمية. (المؤلف).
- ↑ «الاسلام يعلو ولا يعلى». انظر: الدارقطني، السنن ٢٥٢/٣؛ البيهقي، السنن الكبرى ٢٠٥/٦؛ الطبراني، المعجم الأوسط ١٢٨/٦، المعجم الصغير ١٥٥/٢. والمشهور أيضا على الألسنة: الحق يعلو ولا يعلى عليه، كشف الخفاء ١٢٧/١.
- ↑ هذه القطعة أساس رسالة «الحجاب» التي أبرزتها المحكمة تهمة لإدانة مؤلفها. إلّا أنها أدانت نفسها وحاكميها إدانة أبدية وألزمتهم الحجة. (المؤلف).
- ↑ كما أن النظر إلى جثة امرأة نظرة شهوانية، دليل على دناءة النفس وخستها، كذلك النظر بشهوة إلى صورة جميلة لحسناء ميتة محتاجة إلى الرحمة يطمس مشاعر الروح السامية. (المؤلف).
- ↑ إشارة إلى الحرب العالمية الأولى. (المؤلف).
- ↑ كأن هذا البحث الذي كتب قبل خمس وثلاثين سنة قد كتب هذه السنة، فهو إشارة مستقبلية أمْلَتْهَا إذَن بركة شهر رمضان. (المؤلف).
- ↑ لقد أحسّ بحادثة تقع بعد عشر سنوات، فحاول صدها. (المؤلف).
(المقصود فرض إيراد خطبة الجمعة باللغة التركية وحظرها باللغة العربية والذي نفّذ في أواخر العشرينات). (المترجم).