المكتوب الرابع والعشرون

    Risale-i Nur Tercümeleri sitesinden
    09.21, 16 Şubat 2024 tarihinde Said (mesaj | katkılar) tarafından oluşturulmuş 76952 numaralı sürüm ("وهكذا فالتمثيلات الواردة في أغلب مباحث «الكلمات» تبيّن طرفاً وجزءاً من مثل هذه القوانين في مثال جزئي، فهي إذن تشير إلى وجود ذلك القانون نفسه في المدعي. فمادام التمثيل يبيّن تحقق القانون فهو إذن يثبت المدعي كالبرهان المنطقي. بمعنى أن معظم التمثيلات الم..." içeriğiyle yeni sayfa oluşturdu)
    Diğer diller:

    المكتوب الرابع والعشرون

    بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ

    ﴿ وَيَفْعَلُ اللّٰهُ مَا يَشَٓاءُ ﴾ (إبراهيم: ٢٧) و ﴿ يَحْكُمُ مَا يُر۪يدُ ﴾ (المائدة: ١)

    سؤال: إنَّ ما يقتضيه اسم الله «الرحيم» من تربية شفيقة، واسم الله «الحكيم» من تدبير وِفق المصالح، واسم الله «الودود» من لُطف ومحبة.. كيف تتلائم مقتضيات هذه الأسماء الحسنى العظام مع ما هو مُرعب وموحش كالموت والعدم والزوال والفراق والمصائب والمشقات؟

    ولنسلّم أن ما يراه الإنسان في طريق الموت لا بأس به وهو خيرٌ وحَسنٌ حيث سيمضي إلى السعادة الأبدية. ولكن أيةُ رحمةٍ وشفقة تَسع، وأيةُ حكمةٍ ومصلحة توجَد، وأيُّ لطف ورحمة في إفناء هذه الأنواع من الأشجار والنباتات اللطيفة والأزهار الجميلة والحيوانات المؤهَّلة للوجود والشغوفةِ بالحياة والتوّاقة للبقاء، وباستمرار ودون استثناء وإعدامِها دون إمهالِ أحدٍ منها؟ وفي تسخيرها في المشاق وتغييرها بالمصائب دون السماح لأحدٍ منها بالدَعَة والراحة؟ وفي إماتتها وزوالها وفراقها بلا توقّف، دون أن يُسمح لأحدٍ بالمكوث قليلاً ودون رضىً من أحد؟

    الجواب: لكي نحلّ هذا السؤال نحاول أن ننظر إلى هذه الحقيقة العظمى من بعيد، فهي حقيقة واسعة جداً وعميقة جداً ورفيعة جداً، لنرى الحقيقة بوضوح. فنبين الداعي والمقتضى لها في خمسة رموز ونبين الغايات والفوائد منها في خمس إشارات.

    المقام الأول

    وهو في خمسة رموز

    الرمز الأول

    لقد ذكرنا في خواتيم «الكلمة السادسة والعشرين»: إنَّ صنّاعاً ماهراً، يكلّف رجلاً فقيراً لقاء أجرةٍ يستحقُّها، ليقومَ له بدور النموذج «الموديل» ليَخيط لباساً راقياً، فاخراً في أجمل زينة وأكثرِها بهاءً، إظهاراً لمهارته وصنعته. لذا يفصّل على ذلك الرجلِ اللباسَ ويقُصّه ويقصِّره ويطوِّله، ويُقعِد الرجلَ ويُنهِضَه، ويجعله في أوضاع مختلفة.. فهل يحق لهذا الرجل الفقير أن يقول للصنّاع: لِمَ تبدّل هذا اللباس الذي يجمّلني؟ ولِمَ تغيّره؟ فتُقعدني تارة وتُنهضني أخرى فتفسد راحتي؟!

    وكذلك الصانع الجليل (وله المثل الأعلى) قد اتخذ ماهيةَ كلِّ نوع من الموجودات مقياساً ونموذجاً «موديلاً» فألبس كلَّ شيء لباساً مرصّعاً بالحواس، ونقش عليه نقوشاً بقلم قضائه وقَدَره، وأظهر جلوات أسمائه الحسنى، إبرازاً لكمال صنعته بنقوش أسمائه. فضلاً عن أنه سبحانه يمنح كل موجود أيضاً كمالاً ولذة وفيضاً بمثابة أجرةٍ ملائمة له.

    فهل يحق لشيء أن يخاطب ذلك الصانع الجليل الذي هو مالكُ الملك يتصرّف في ملكه كيف يشاء ويقول: «إنك تتعبني وتفسد عليّ راحتي»؟ حاش لله وكلا!

    إنه ليس للموجودات حق بأية جهة كانت إزاء واجب الوجود، وليس لها أن تدّعي بأي حقٍ مهما كان، بل حقُّها القيام بالشكر الدائم والحمد الدائم، أداءً لحق مراتب الوجود التي منحها إياها. لأن جميع مراتب الوجود الممنوحة للموجود إنما هي وقوعات تحتاج إلى علّة. بينما مراتبُ الوجود التي لم تُمنح هي إمكاناتٌ، والإمكاناتُ عدمٌ، وهي لا تتناهى، والعدم لا يحتاج إلى علة، فما لا نهاية له لا علة له.

    مثلاً: لا يحق للمعادن أن تشكو قائلةً: لِمَ لم نصبح نباتاتٍ؟ بل حقُّها أن تشكر فاطرَها الجليل على ما أُنعم عليها من نعمة الوجود كمعادن.

    وكذا النبات ليس له حق الشكوى، فليس له أن يقول: لِمَ لم أصبح حيواناً؟ بل حقُّه الشكر لله الذي وهب له الوجود والحياة معاً. وكذا الحيوان ليس له حق الشكوى ويقول: لِمَ لم أكن إنساناً؟ بل عليه حق الشكر لما أنعم الله عليه من الوجود، والحياة وجوهر الروح الراقي.. وهكذا فقِس.

    أيها الإنسان الشاكي! إنك لم تبقَ معدوماً، بل لبستَ نعمة الوجود. وذُقت طعمَ الحياة. ولم تبق جماداً ولم تصبح حيواناً، فقد وجدت نعمة الإسلام، ولم تبق في غياهب الضلال، وتنعّمت بنعمة الصحة والأمان.. وهكذا..

    أيها الغارق في الكفران! أفَبَعد هذا تدعّي حقاً لك على ربك، إنك لم تشكر ربَّك بعدُ على ما أنعم عليك من مراتب الوجود التي هي نِعمٌ خالصة. بل تشكو منه جلّ وعلا لما لم ينعم عليك من نِعم غالية من أنواع الإمكانات وأنواع العدم ومما لا تقدر عليه ولا تستحقه، فتشكو بحرص باطل وتكفر بنعَمِه سبحانه.

    تُرى لو أن رجلاً أُصعد على قمة منارة عالية ذات درجات وتسلَّم في كل درجة منها هدية ثمينة ثم وجد نفسَه في قمة المنارة، في مكان رفيع، أيحقُّ له أن لا يشكر صاحب تلك النعم ويبكي ويتأفف ويتحسر قائلاً: لِمَ لم أقدر على صعود ما هو أعلى من هذه المنارة..

    ترى كم يكون عملُه هذا باطلاً لو تصرّف هكذا وكم يسقط في هاوية كفران النعمة! وكم هو في ضلالة مقيتة!. حتى البُلهاء يدركون هذا.

    أيها الإنسان الحريص غير القانع! ويا أيها المسرف غير المقتصد! ويا أيها الشاكي بغير حق! أيها الغافل!

    اعلم يقيناً: أن القناعة شكران رابح، بينما الحرص كفران خاسر، والاقتصاد توقيرٌ للنعمة جميل ونافع، بينما الإسراف استخفاف بالنعمة مضرّ ومشين.

    فإن كنت راشداً، عوّد نفسك على القناعة وحاول بلوغ الرضى. وإن لم تطق ذلك فقل: يا صبور! وتجمّل بالصبر. وأرض بحقك ولا تشكُ. واعلم ممن وإلى مَن تشكو! إلزَم الصمت. وإذا أردت الشكوى لا محالة فاشكُ نفسَك إلى الله، فإن القصور منها.

    الرمز الثاني

    لقد ذكرنا في ختام «المسألة الأخيرة للمكتوب الثامن عشر» أنه:

    إنَّ حكمةً من حِكم تبديل الخالق الجليل للموجودات دوماً وتجديدِه لها باستمرار تبديلاً وتجديداً محيّراً مذهلاً بفعالية ربوبيته الجليلة هي أن الفعالية والحركة في المخلوقات نابعةٌ من شهية، من اشتياق، من لذة، من محبة، حتى يصح القول:

    ولما كانت الفعالية تشير إلى كمال، إلى لذة، إلى جمال، وإن الواجب الوجود سبحانه الذي هو الكمال المطلق والكامل ذو الجلال،

    جامعٌ في ذاته وصفاته وأفعاله لجميع أنواع الكمالات، فلا شك أن لذلك الواجب الوجود سبحانه شفقةً مقدسة لا حدّ لها ومحبةً منـزّهة لا نهاية لها تليق بوجوب وجوده وقدسيته وتوافق تعاليه الذاتي وغناه المطلق وتناسب كماله المطلق وتنـزُّهه الذاتي ولا شك أن له شوقاً مقدّساً لا حدّ له، نابعاً من تلك الشفقة المقدسة، ومن تلك المحبة المنـزَّهة، وأن له سروراً مقدساً لا حدّ له نابعاً من ذلك الشوق المقدس، وأن له لذةً مقدسة لا حدّ لها -إن جاز التعبير- ناشئةٌ من ذلك السرور المقدس.

    ولاشك أن له مع تلك اللذة المقدسة رضىً مقدساً لا حدّ له وافتخاراً مقدّساً لا نهاية له -إن جاز التعبير- ناشئَين من رضىً وامتنان مخلوقاته من انطلاق استعداداتها من القوة إلى الفعل، حينما تنطلق وتتكامل بفعالية قدرته ضمن رحمته الواسعة.. فذلك الرضى المقدس المطلق والافتخار المطلق يقتضيان هذه الفعالية المطلقة في صورتها المطلقة. وتلك الفعالية أيضاً تقتضي تبديلاً وتغييراً وتحويلاً وتخريباً لا حدّ لهما وذلك التغيير والتبديل غير المحدودَين يقتضيان الموت والعدم والزوال والفراق.

    ولقد رأيت -في وقت ما- أن كل ما تبيِّنُه حكمةُ البشر (فلسفتُه وعلومُه) من فوائد تخص غايات المصنوعات، تافهةٌ لا قيمةَ لها، وعلمتُ حينها أن تلك الحكمة تُفضي إلى العبثية، ومن هنا فإن الفيلسوف الراسخ قدمُه في الفلسفة: إما أن يضل في ضلالة الطبيعة، أو يكون سوفسطائياً، أو ينكر الإرادة والعلم الإلهي، أو يطلق على الخالق: «الموجب بالذات».

    وفي ذلك الوقت بعثَت الرحمةُ الإلهية اسم الله «الحكيم» لإغاثتي، فأظهر لي الغايات الجليلة للمصنوعات، أي أنَّ كل مصنوعٍ مكتوبٌ رباني حكيم بحيث يطالعه جميعُ ذوي الشعور.

    كفَتني هذه الغاية مدةَ سنة من الزمن، ثم انكشفت الخوارقُ البديعة في الصنعة، فلم تعُد تلك الغايةُ كافيةً وافية. وأُظهرتْ لي غايةٌ أخرى أعظمُ بكثير من الأولى.

    أي إن أهم غاية للمصنوع هي النظرُ إلى صانعه الجليل، أي يعرِض المصنوعُ كمالات صنعةِ صانعه، ونقوشَ أسمائه الحسنى ومرصَّعات حكمته القيمة وهدايا رحمته الواسعة أمام نظره سبحانه ويكون مرآةً لجماله وكماله جل وعلا. هكذا فهمتُ هذه الغاية، وكفَتني مدةً مديدة.

    ثم ظهرت معجزاتُ القدرة وشؤون الربوبية في التغيير والتبديل السريع جداً، ضمن فعالية محيّرة في إيجاد الأشياء وإتقانها، حتى بدت تلك الغايةُ غير وافيةً، وعلمتُ أن لابد من داعٍ عظيم ومقتضى جليل يعادل هذه الغاية العظمى،

    وعند ذلك أُظهرت لي المقتضياتُ الموجودة في الرمز الثاني والغايات المذكورة في الإشارات التي ستأتي.

    وأُعلمت يقيناً: أن فعالية القدرة في الكون وسيرَ الأشياء وسيلانها، تحمِل من المعاني الغزيرة بحيث يُنطِق الصانعُ الحكيم أنواعَ الكائنات بتلك الفعالية، حتى كأن حركات السماوات والأرض وحركات موجوداتها هي كلماتُ ذلك النُطق وأن سيرَها ودورانَها تكلّم ونطق،

    بمعنى أنَّ الحركات والزوال النابعَين من الفعالية ما هي إلا كلماتٌ تسبيحية، وأن الفعالية الموجودة في الكون هي نطقٌ وإنطاقٌ صامتٌ للكون ولما فيه من أنواع.

    الرمز الثالث

    إن الأشياء لا تمضي إلى العدم، ولا تصيرُ إلى الفناء، بل تمضي من دائرة القُدرة إلى دائرة العِلم، وتدخل من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، وتتوجّه من عالَم التغيّر والفناء إلى عالم النور والبقاء. وإن الجمال والكمال في الأشياء يعودان إلى الأسماء الإلهية وإلى نقوشها وجلواتها من زاوية نظر الحقيقة.

    وحيث إن تلك الأسماء باقيةٌ وتجلياتها دائمة، فلاشك أن نقوشها تتجدد وتتجمّل وتتبدل، فلا تذهب إلى العدم والفناء، بل تتبدل تعيّناتها الاعتبارية.

    أما حقائقُها وماهياتُها وهوياتها المثالية التي هي مدارُ الحسن والجمال ومظهرُ الفيض والكمال فهي باقيةٌ فالحُسن والجمال في الأشياء التي لا تملك روحاً يعودان إلى الأسماء الإلهية مباشرة فالشرف لها والمدح والثناء لها. إذ الحُسن حسنُها والمحبة توجّه إليها. ولا يورث تبدل تلك المرايا ضرراً للأسماء.

    وإن كانت الأشياء من ذوي الأرواح ولكن لم تكن من ذوي العقول، فإن فراقها وزوالها ليس فناءً ولا عدماً بل ينجو الشيءُ الحي من وجود جسماني ومن اضطرابات وظائف الحياة، مودعاً ثمرات وظائفه التي كسبها إلى روحه الباقية. فأرواحُ هذه الأشياء تستند أيضاً إلى أسماء إلهية حسنى. فتدوم وتستمر، وتمضي إلى سعادة ملائمة لها.

    أما إن كان أولئك الأحياءُ من ذوي العقول، فإنهم أصلاً يمضون إلى سعادة أبدية وإلى عالم البقاء المؤسس على كمالات مادية ومعنوية.

    لذا فإن فراقهم وزوالَهم ليس موتاً وعدماً ولا زوالاً وفراقاً حقاً، بل هو وِصالٌ مع الكمالات وهو سياحة مُمتعة إلى عوالم نورانية للصانع الحكيم، عوالم أجملَ من الدنيا وأزهى منها كعالم البرزخ وعالم المثال وعالم الأرواح وإلى ممالكه الأخرى من منازله سبحانه وتعالى.

    حاصل الكلام: إنَّ الله موجودٌ وباقٍ، وإن صفاته سرمديةٌ وأسماءه دائمة، إذن لابد أن تجليات تلك الأسماء ونقوشها تتجدد في بقاءٍ معنوي فليس تخريباً ولا فناءً ولا إعداماً وزوالاً. إذ من المعلوم أن الإنسان ذو علاقة -من حيث الإنسانية- مع أكثر الموجودات، فيتلذذ بسعادتها ويتألم بمصائبها، ولاسيما مع ذوي الحياة، وبخاصة مع الإنسان وبالأخص مع من يحبّهم ويعجب بهم ويحترمهم من أهل الكمال، فهو أشدُّ تألماً بآلامهم وأكثرُ سعادة بسعادتهم حتى يضحّي بسعادته في سبيل إسعادهم كتضحية الوالدة الشفيقة بسعادتها وراحتها من أجل ولدها.

    فكل مؤمن يستطيع أن يكون بنور القرآن والإيمان سعيداً بسعادة جميع الموجودات وبقائها ونجاتها من العدم وصيرورتها مكاتيبَ ربانية ويغنم نوراً عظيماً بعِظَم الدنيا. فكلٌّ يستفيد من هذا النور حسب درجته.

    أما إن كان من أهل الضلال، فإنه يتألم علاوة على آلامه بهلاك الموجودات وبفنائها وبإعدامها الظاهري وبآلام ذوي الأرواح منها. أي أن كفره يملأ دنياه بالعدم ويفرغها على رأسه، فيمضي إلى جهنم (معنوية) قبل أن يساق إلى جهنم (في الآخرة).

    الرمز الرابع

    مثلما ذُكر في مواضع عدة: إن للسلطان دوائرَ مختلفة ناشئةً من عناوينه المتنوعة، فله اسمُ السلطان، الخليفة، الحاكم، القائد، وأمثالُها من العناوين والصفات.

    ﴿ وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى ﴾ فإن للأسماء الحسنى تجلياتٍ متنوعة لا تُحد، فتنوُّع المخلوقات ناشئٌ عن تنوع تلك التجليات، وحيث إن صاحبَ كلِّ جمال وكل كمال يرغب في مشاهدة جماله وكماله وإشهادِهما.

    فإن تلك الأسماء المختلفة -لكونها دائميةً وسرمدية- تقتضي ظهوراً دائمياً سرمدياً أي تقتضي رؤيةَ نقوشها. أي تقتضي رؤيةَ وإراءةَ جلوةِ جمالِها وانعكاس كمالها في مرايا نقوشها. أي تقتضي تجديدَ كتابِ الكون الكبير، آناً فآناً. أي كتابتُها كتابةً مجددة ذات مغزى. أي تقتضي كتابةَ ألوفٍ من الرسائل المتنوعة في صحيفة واحدة، وإظهار كلِّ رسالة لنظر شهودِ الذات المقدسة والمسمّى الأقدس مع عرضِها على مطالعة أنظار ذوي الشعور واستقرائهم. تأمل في هذا الشعر الذي يشير إلى هذه الحقيقة:

    صحائفُ كتاب العالم.. هذه الأنواع غير المعدودة

    حروفُه وكلماته.. هذه الأفراد غير المحدودة

    لقد سُطّر في لوح الحقيقة المحفوظ:

    إن كلَّ موجود في العالم لفظٌ بليغ مجسّم

    تَأَمَّلْ سُطُورَ الْكَائِنَاتِ فَإنَّهَا مِنَ الْمَلإ الاَعْلَى إلَيْكَ رَسَائِلُ ([1])

    الرمز الخامس

    عبارة عن نكتتين

    النكتة الأولى:

    إنَّ الله موجودٌ، فكل شيء موجود إذن، وحيث إن هناك انتساباً للواجب الوجود، فكل الأشياء إذن موجودة لكل شيء، لأن كل موجود بانتسابه إلى واجب الوجود يرتبط بجميع الموجودات، بسرّ الوحدة بمعنى أن كل موجود يَعرف انتسابه إلى واجب الوجود أو يُعرَف انتسابه إليه تعالى، فهو ذو علاقة مع جميع الموجودات المنتسبة إلى واجب الوجود، وذلك بسر الوحدة. أي أن كل شيء من نقطة الانتساب ينال أنوارَ وجودٍ غير محدودة بحدود، فلا فراقَ ولا زوال إذن في تلك النقطة.. لذا يكون العيشُ في آن سيال واحد مبعثَ أنوارِ وجودٍ غير محدود.

    بينما إن لم يكن ذلك الانتساب، ولم يُعرف، فإن كل شيء ينال ما لا يحد من أنواع الفراق وصنوف الزوال وأنماط العدم، لأن الشيء في تلك الحالة له فراق وافتراق وزوال تجاه كل موجود يمكن أن يرتبط به. أي يَحملُ على وجوده الشخصي أنواعاً لا تحد من العدم وصنوفاً لا تحصى من الفراق، فلو ظل في الوجود مليوناً من السنين دون انتساب لما عَدلَ قطعاً آناً من العيش مع الانتساب الذي كان فيه.

    ولهذا قال أهل الحقيقة: إنَّ آناً سيالاً من وجود منوّر يفضُل على مليون سنة من وجود أبتر. أي إنَّ آناً من وجود منتسب إلى الواجب الوجود مُرجّح على مليون سنة من وجود لا انتساب فيه. ولأجل هذا قال أهل التحقيق: إن أنوار الوجود هي معرفةُ واجب الوجود. أي إن الكائنات في تلك الحالة وهي تَنعم بأنوار الوجود، تكون مملوءةً بالملائكة والروحانيات وذوي الشعور. وبخلاف ذلك، أي إن لم تكن هناك معرفةُ واجب الوجود، فإن ظلماتِ العدم وآلامَ الفراق وأوجاعَ الزوال تحيط بكل موجود، فالدنيا تكون موحشةً خاوية في نظر ذلك الشخص.

    نعم، كما أنَّ لكل ثمرة من ثمار شجرة، علاقةً مع كل الثمرات التي على تلك الشجرة وتكوّن نوعاً من رابطة الأخوة والصداقة والعلاقات المتينة فيما بينها.. فلها إذن وجوداتٌ عرَضية بعدد تلك الثمرات.

    ولكن متى ما قُطفَت تلك الثمرة من الشجرة، فإن فراقاً وزوالاً يحصلان تجاه كل ثمرة من الثمرات. وتصبح الثمراتُ بالنسبة للمقطوفة في حُكم المعدوم، فيعمّها الظلامُ، ظلام عدم خارجي.

    وكذلك فإن كل شيء له الأشياء كلها، من نقطة الانتساب إلى قدرة الأحد الصمد. وإن لم يكن هناك انتسابٌ فإن أنواعاً من العدم الخارجي بعدد الأشياء كلها تصيب كلَّ شيء.

    فانظر من خلال هذا الرمز إلى عظمة أنوار الإيمان، وشاهِد الظلمةَ المخيفة المحيطة بالوجود في الضلال.

    فالإيمان إذن هو عنوان الحقيقة السامية التي بُيّنت في هذا الرمز، ولا يمكن الاستفادة من تلك الحقيقة إلّا بالإيمان، إذ كما أن كل شيء معدوم للأعمى والأصم والأبكم والمجنون، كذلك كل شيء معدوم مظلم بانعدام الإيمان.

    النكتة الثانية:

    إن للدنيا وللأشياء ثلاثةَ وجوه:

    الوجه الأول:

    ينظر إلى الأسماء الإلهية الحسنى، فهو مرآةٌ لها، ولا يمكن أن يعرِض الزوالُ والفراق على هذا الوجه، بل فيه التجدّد.

    الوجه الثاني:

    ينظر إلى الآخرة، ويرنو إلى عالم البقاء، وهو في حُكم مزرعتها. ففي هذا الوجه تنضج ثمراتٌ باقيات. فهذا الوجه يخدم البقاء، لأنه يحوّل الفانيات إلى حُكم الباقيات، وفيه جلوات الحياة والبقاء لا الموت والزوال.

    الوجه الثالث:

    ينظر إلى الفانين، أي ينظر إلينا نحن، فهو وجهٌ يعشقه الفانون وأهلُ الهوى، وهو موضعُ تجارة أهل الشعور، وميدانُ امتحان الموظفين المأمورين. وهكذا ففي حقيقة هذا الوجه الثالث جلواتُ اللقاء والحياة تكون مرهماً على جراحات آلام الفناء والزوال والموت والعدم في هذا الوجه للدنيا.

    حاصل الكلام: إنَّ هذه الموجودات السيالة، وهذه المخلوقات السيارة، ما هي إلّا مرايا متحركة، ومظاهر متبدّلة لتجديد أنوار إيجاد الواجب الوجود .

    المقام الثاني

    عبارة عن مقدمة وخمس إشارات

    المقدمة

    والمقدمة عبارة عن مبحثين

    المبحث الأول

    ستُكتب في هذه الإشارات الخمس الآتية تمثيلاتٌ، بمثابة مراصدَ ومناظير صغيرة وخافتة، لرصد حقيقة شؤون الربوبية، فهذه التمثيلات لا تستوعب قطعاً حقيقةَ الربوبية، ولا يمكن أن تحيط بها، ولا أن تكون مقياساً لها، إلّا أنها تمكّن المرءَ من أن ينظر إلى تلك الشؤون البديعة من خلالها. ثم إن التعابير التي لا تناسب شؤون الذات الجليلة في التمثيلات الآتية وفي الرموز السابقة إنما هي من قصور التمثيل نفسه.

    فمثلاً: إن المعاني المعروفة لدينا للّذة والسرور والرضى والامتنان لا يمكن أن تعبِّر عن الشؤون المقدّسة لله سبحانه، ولكنها مجرد عناوينُ ملاحظة ليس إلّا، ومراصدُ تفكر فحسب.

    ثم إن هذه التمثيلات تثبت حقيقة قانون رباني عظيم حول شؤون الربوبية بإظهارها جزءاً وطرَفاً من ذلك القانون في مثال صغير.

    فمثلاً؛ لقد ذُكر أنَّ الزهرة ترحل من الوجود، إلّا أنها تترك آلافاً من أنواع الوجود، ثم ترحل. وبهذا المثال يُبيَّن قانونٌ عظيم للربوبية، حيث يجري هذا القانون في الربيع كله كما يجري في جميع موجودات الدنيا.

    نعم، إنَّ الخالق الرحيم، بأي قانونٍ يبدّل لباسَ طائر وريشَه، ويجدّده، يبدّل ذلك الصانع الحكيم بالقانون نفسه لباسَ الكرة الأرضية كل سنة، ويبدل بالقانون نفسه صورة الكون قاطبة عند قيام الساعة ويغيرها..

    وكذا بأي قانون يحرّك سبحانه الذرة كالمريد المولوي يدور حول نفسه وحول حلقة الذكر فإنه يحرك بالقانون نفسه الكرةَ الأرضية كانجذاب المريد المولوي بالذكر، بل يحرك العوالم بالقانون نفسه، ويسيّر المنظومة الشمسية به..

    وكذا بأي قانون يجدّد سبحانه ذرات خلايا جسمك ويحللها ويعمّرها، فإنه يجدّد بالقانون نفسه، في كل سنة، في كل موسم بستانَك مرات ومرات ويجدد بالقانون نفسه سطح الأرض في كل ربيع ويبسط بساطاً جديداً..

    وكذا، بأي قانونٍ حكيمٍ يحيي الصانعُ القدير ذبابةً، فإنه سبحانه يحيي بالقانون نفسه شجرة الدلب الضخمة هنا -وهي أمامنا- في كل ربيع، ويحيي الأرض بالقانون نفسه في الربيع، ويحيي المخلوقات قاطبة بالقانون نفسه يوم الحشر الأعظم.

    ويشير القرآن الحكيم إلى هذا بقوله تعالى: ﴿ مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ اِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ (لقمان: ٢٨).. وهكذا فقس.

    فهناك قوانين ربوبية كثيرة جداً أمثال هذه تجري من الذرة إلى مجموع العالَم.

    فتأمل في عظمة هذه القوانين التي تتضمنها فعاليةُ الربوبية وتدبَّر في سعتها وشاهِد سرّ الوحدة فيها. واعلم أنّ كل قانونٍ برهانُ توحيد بذاته.

    نعم، إن كل قانون من هذه القوانين الكثيرة والعظيمة جداً، لكونه قانوناً واحداً ومحيطاً بالوجود في الوقت نفسه فإنه يثبت وحدانيةَ الصانع الجليل وعلمَه وإرادته إثباتاً قاطعاً فضلاً عن أنه تجلٍ من تجليات العلم والإرادة.

    وهكذا فالتمثيلات الواردة في أغلب مباحث «الكلمات» تبيّن طرفاً وجزءاً من مثل هذه القوانين في مثال جزئي، فهي إذن تشير إلى وجود ذلك القانون نفسه في المدعي. فمادام التمثيل يبيّن تحقق القانون فهو إذن يثبت المدعي كالبرهان المنطقي. بمعنى أن معظم التمثيلات الموجودة في «الكلمات» كلٌّ منها في حكم برهان يقيني، وحجة قاطعة.

    المبحث الثاني

    لقد ذُكر في «الحقيقة العاشرة من الكلمة العاشرة»: أن لكلِّ ثمرة ولكل زهرة غاياتٍ وحِكَماً بقدر ثمرات الشجرة وأزاهيرها. وتلك الحكم على ثلاثة أقسام:

    قسم منها متوجّه إلى الصانع الجليل؛ يبين نقوش أسمائه.

    وقسم آخر يتوجه إلى ذوي الشعور، فالموجودات في نظرهم رسائلَ قيّمة وكلمات بليغة ذات مغزى.

    وقسم آخر يتوجه إلى الشيء نفسه، وإلى حياته وإلى بقائه، وله حِكمٌ حسب منافع الإنسان، إن كان مفيداً للإنسان.

    فعندما كنت أتأمل وجود هذه الغايات الكثيرة لكل موجود. وردتْ هذه الفقرات باللغة العربية إلى خاطري، دوّنتُها على صورة ملاحظات على أسس تلك الإشارات الخمس الآتية:

    وَهٰذِهِ الْمَوْجُودَاتُ الْجَلِيَّةُ مَظَاهِرُ سَيَّالَةٌ وَمَرَايَا جَوَّالَةٌ لِتَجَدُّدِ تَجَلِّيَاتِ أَنْوَارِ إيجَادِه سُبْحَانَهُ، بِتَبَدُّلِ التَّعَيُّنَاتِ الْإِعْتِبَارِيَّةِ:

    أَوَّلاً: مَعَ اسْتِحْفَاظِ الْمَعَانِي الْجَميلَةِ وَالْهُوِيَّاتِ الْمِثَالِيَّةِ،

    وَثَانِيًا: مَعَ إِنْتَاجِ الْحَقَائِقِ الْغَيْبِيَّةِ وَالنُّسُوجِ اللَّوْحِيَّةِ،

    وَثَالِثًا: مَعَ نَشْرِ الثَّمَرَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ وَالْمَنَاظِرِ السَّرْمَدِيَّةِ،

    وَرَابِعًا: مَعَ إِعْلَانِ التَّسْبيحَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ وَإِظْهَارِ الْمُقْتَضَيَاتِ الْأَسْمَائِيَّةِ،

    وَخَامِسًا: لِظُهُورِ الشُّؤُونَاتِ السُّبْحَانِيَّةِ وَالْمَشَاهِدِ الْعِلْمِيَّةِ.

    ففي هذه الفقرات الخمس أسس الإشارات الآتية التي سنبحثها:

    نعم، إنَّ لكل موجود، ولاسيما من ذوي الحياة، خمسَ طبقات مختلفة من الحِكَم والغايات المختلفة.

    فكما أن شجرة مثمرةً، تثمر أغصانُها التي يعلو بعضُها على بعض، كذلك كل كائن حي له غايات وحِكَم مختلفة في خمس طبقات.

    أيها الإنسان الفاني! إنْ كنت تريد تحويل حقيقتِك التي هي كنواة جزئية إلى شجرة باقية مُثمرة، وتحصل على الطبقات العشر من الثمرات المشار إليها في خمس إشارات وعشرة أنواع من الغايات. اغتنم الإيمان الحقيقي وإلّا تُحرَم من جميع تلك الغايات والثمرات فضلاً عن أنك تَضمُر وتَفسُد داخل تلك النواة الصغيرة.

    الإشارة الأولى:

    [ أَوَّلاً: بِتَبَدُّلِ التَّعَيُّنَاتِ الْإِعْتِبَارِيَّةِ مَعَ اسْتِحْفَاظِ الْمَعَانِي الْجَميلَةِ وَالْهُوِيَّاتِ الْمِثَالِيَّةِ ].

    هذه الفقرة تفيد: أن كل موجود، بعد ذهابه من الوجود، يذهب إلى العدم والفناء ظاهراً. ولكن تبقى المعاني التي كان قد أفادها وعبّر عنها وتُحفظ، وتبقى كذلك هويتُه المثالية وصورتُه وماهيتُه في عالم المثال، وفي الألواح المحفوظة التي هي نماذج عالم المثال، وفي القوى الحافظة (الذاكرة) التي هي نماذجُ الألواح المحفوظة.

    بمعنى أن الموجود يفقد وجوداً ظاهرياً صورياً، ويكسب مئاتٍ من الوجود المعنوي والعلمي.

    مثلاً: تعطى للحروف المطبعية ترتيباً معيناً ووضعاً خاصاً كي تطبع بها صحيفة معينة، فصورة تلك الصحيفة الواحدة وهويتُها تعطى إلى صحائف مطبوعة متعددة، وتنشر معاني ما فيها إلى عقول كثيرة، وبعد ذلك تتبدل أوضاع تلك الحروف وتُغيّر، لانتفاء الحاجة إليها، وللحاجة إلى تنضيد صحائف أخرى بتلك الحروف.

    وهكذا، فإن قلم القَدر الإلهي يعطي هذه الموجودات الأرضية، ولاسيما النباتية منها، ترتيباً معيناً ووضعاً معيناً، والقدرة الإلهية توجِدها في صحيفة موسم الربيع، فتعبّر عن معانيها الجميلة. وحيث إن صورَها وهوياتها تنقل إلى سجل عالم الغيب، كعالم المثال، فإن الحكمة تقتضي أن يتبدل ذلك الوضع، كي تُكتب صحيفة جديدة للربيع المقبل لتعبّر عن معانيها كذلك.

    الإشارة الثانية:

    [ وَثَانِياً: مَعَ إِنْتَاجِ الْحَقَائِقِ الْغَيْبِيَّةِ وَالنُّسُوجِ اللَّوْحِيَّةِ ].

    هذه الفقرة تشير إلى أن كل شيء، سواءً أكان جزئياً أم كلياً، بعد ذهابه من الوجود (ولاسيما إن كان ذا حياة) ينتج حقائقَ غيبية كثيرة فضلاً عن أنه يدع صوراً بعدد أطوار حياته في الألواح المثالية، التي هي في سجلات عالم المثال، فيُكتَبُ تاريخُ حياته ذو المغزى من تلك الصور والذي يسمى بالمقدّرات الحياتية، ويكون في الوقت نفسه موضع مطالعة الروحانيات، بعد ذهابه من الوجود.

    مثال ذلك: إن زهرة ما تذبُل ثم ترحل من الوجود، إلّا أنها تترك مئات من البُذيرات في الوجود وتدع ماهيتَها في تلك البذيرات، فضلاً عن أنها تترك ألوفاً من صورها في ألواح محفوظة صغيرة، وفي القوى الحافظة التي هي نماذج مصغرة للألواح المحفوظة، فتستقرئ ذوي الشعور التسبيحات الربانية ونقوش الأسماء الحسنى التي أدتها في أطوار حياتها. ومن بعد ذلك ترحل عن الوجود.

    وهكذا فإن موسم الربيع المزدان بالمصنوعات الجميلة على سطح الأرض الشبيه بمَزهرة عظيمة، إنما هو زهرة ناضرة تزول في الظاهر، وتذهب إلى العدم. بيد أنه -أي الربيع- يترك الحقائق الغيبية التي أفادها بعدد بذوره، ويترك الهويات المثالية التي نشرها بعدد الأزاهير، ويدع الحِكم الربانية التي أظهرها بعدد الموجودات.

    فيترك الربيع كلَّ أنواع الوجود هذه، ثم يغيب عن أنظارنا، زد على ذلك فإنه يُفرغ المكان لأقرانه من جموع الربيع التي ستأتي إلى الوجود لتؤدي وظائفها.

    بمعنى أن ذلك الربيع يَنـزع عنه وجوداً ظاهرياً ويلبس ألفاً من الوجود معنىً.

    الإشارة الثالثة:

    [ وَثَالِثاً: مَعَ نَشْرِ الثَّمَرَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ وَالْمَنَاظِرِ السَّرْمَدِيَّةِ ].

    هذه الفقرة تفيد: أن الدنيا مزرعة ومعمل ينتج المحاصيل التي تناسب سوق الآخرة.

    إذ كما أن أعمال الجن والإنس تُرسل إلى سوق الآخرة، كذلك تؤدي بقيةُ الموجودات في الدنيا أعمالاً كثيرة أيضاً في سبيل الآخرة وتنشئ محاصيل وفيرة لها، بل تجري كرة الأرض لأجل تلك الأعمال، بل يصح القول:

    إنَّ هذه السفينة الربانية تقطع مسافة أربعة وعشرين ألف سنة في سنة واحدة، لتدور حول ميدان الحشر. كما أثبتنا في «كلمات» كثيرة.

    مثلا: لاشك أن أهل الجنة يرغبون أن يتذاكروا خواطرَهم في الدنيا، ويتحاوروا فيما بينهم حول ذكرياتها، وربما يتلهفون لرؤية ألواح (مشاهد) تلك الذكريات والحوادث ومناظرها، إذ يستمتعون كثيراً بمشاهدة تلك الحوادث وتلك الألواح كمن يستمتع بمشاهدة المناظر على شاشة السينما.

    فما دام الأمر هكذا فالجنة التي هي دار اللذة ومنـزل السعادة توجد فيها لا محالة المناظرُ السرمدية لمحاورات الأحداث الدنيوية ومناظرُ أحداثها. كما تشير إلى ذلك الآيـة الكريمة:

    ﴿ عَلٰى سُرُرٍ مُتَقَابِل۪ينَ ﴾ (الحجر: ٤٧)

    وهكذا، فإن فناء هذه الموجودات الجميلة، بعد ظهورها في آن واحد، وتعاقب بعضها بعضاً يبيّن كأنما هي آلات معمل لتشكيل المناظر السرمدية.

    مثال: إن أهل المدنية يلتقطون صورَ الأوضاع الغريبة والجميلة ويهدونها إلى أبناء المستقبل تذكاراً لهم، كما هو على شاشة السينما. فيمنحون نوعاً من البقاء لأوضاع فانية، ويدرجون الزمان الماضي ويظهرونه في الزمان الحالي وفي المستقبل.

    كذلك هذه الموجودات الربيعية والدنيوية عامة، بعد قضاء حياة قصيرة، كما يدوّن صانعُها الحكيمُ غاياتِها التي تخص عالمَ البقاء في ذلك العالم، كذلك يسجّل الوظائف الحياتية والمعجزات السبحانية التي أدّوها في أطوار حياتها، في مناظر سرمدية، وذلك بمقتضى اسم الله الحكيم والرحيم والودود.

    الإشارة الرابعة:

    [ وَرَابِعاً: مَعَ إعْلَانِ التَّسْبِيحَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ وَإِظْهَارِ الْمُقْتَضَيَاتِ الْأَسْمَائِيَّةِ ].

    هذه الفقرة تفيد: أن الموجودات تؤدي أنواعاً من التسبيحات الربانية في أطوار حياتها، وتظهر ما تستلزمه الأسماء الإلهية وتقتضيها من حالات.

    مثلا: يقتضي اسم الرحيم الإشفاق، ويقتضي اسم الرزاق إعطاء الرزق، ويستلزم اسم اللطيف التلطيف.. وهكذا. فكل اسم من الأسماء الإلهية له مقتضى. وكل ذي حياة يبين مقتضى تلك الأسماء، بحياته ووجوده، وهو في الوقت نفسه يسبّح لله الحكيم بعدد أجهزته.

    مثلاً: إذا أكل الإنسان فواكه طيبة، فإنها تتجزأ وتتلاشى في معدته وتهضم وتمحى ظاهراً، إلّا أنها تعطى كل خلية من خلايا جسمه، لذة وذوقاً ضمن فعالية، فضلاً عن الفم والمعدة، ويكون مدار حِكَم كثيرة جداً كإنماء الحياة في أقطار الجسم وإدامتها، والطعام نفسه يرقى من الوجود النباتي إلى مرتبة حياة الإنسان.

    كذلك عندما تختفي الموجودات وراء ستار الزوال تظل بدلاً عنها تسبيحات باقية كثيرة جداً لكل موجود من الموجودات وتودع نقوش كثير من الأسماء الإلهية ومقتضياتها في يد تلك الأسماء، أي تودعها إلى وجودٍ باق. وهكذا تمضي وترحل. تُرى لو بقيت ألوف من أنواع الوجود -التي نالت نوعاً من البقاء- بديلاً عن ذهاب وجود موقت فانٍ، أيمكن أن يُقال: يا حسرةً على ذلك الوجود الموقت! أو أنه مضى إلى عبث! أو لِمَ رحل هذا المخلوق اللطيف؟! أفيمكن أن يُشتكى على هذه الصورة؟.

    بل إن الرحمة والحكمة والمحبة في حق ذلك المخلوق تقتضي هكذا، بل هو هكذا. وإلّا يلزم ترك ألوف المنافع للحيلولة دون حدوث ضرر واحد. وعندئذٍ تحدث ألوف الأضرار!.

    بمعنى أن الأسماء الحسنى: الرحيم، الحكيم، الودود تستلزم مضي الموجودات وراء أستار الزوال والفراق وتقتضيهما ولا تعارضهما.

    الإشارة الخامسة:

    [ وَخَامِساً: لِظُهُورِ الشُّؤُونَاتِ السُّبْحَانِيَّةِ وَالْمَشَاهِدِ الْعِلْمِيَّةِ ]

    تفيد هذه الفقرة: إن الموجودات -ولاسيما الأحياء منها- بعد ارتحالها من وجودها الظاهري تترك كثيراً من الأمور الباقية ثم تمضي إلى شأنها.

    وقد بينا في الرمز الثاني:

    إن في شؤون الربوبية محبةً مطلقة وشفقة مطلقة وافتخاراً مطلقاً -إن جاز التعبير- ورضى مقدساً مطلقاً وسروراً مقدساً مطلقاً -إن جاز التعبير- ولذة مقدسة مطلقة وفرحاً منـزّهاً مطلقاً بما يليق بذاته الجليلة المقدسة ويوافق تعاليه وتنـزّهه وتقدُّسه سبحانه،

    إذ تُشاهد آثار تلك الشؤون المنـزّهة، لأن ما تقتضيه تلك الشؤون هو سَوق الموجودات بسرعة في فعالية محيّرة، ضمن تبديل وتغيير وزوال وفناء، فتُرسل -الموجودات- باستمرار من عالم الشهادة إلى عالم الغيب. فالمخلوقات ضمن تجليات تلك الشؤون الربانية في سير وسياحة دائمَين، في حركة وجولان مستمرين. فهي بهذه السياحة والحركة الدائمتين تملأ آذان أهل الغفلة بنعيات الفراق والزوال، وتشنّف أسماع أهل الإيمان بنغمات الذكر والتسبيح.

    وبناءً على هذا السرّ، فما من موجود يرحل عن الوجود إلّا ويترك في الوجود من المعاني والكيفيات والحالات ما يكون مداراً باقياً لظهور شؤون باقية لواجب الوجود سبحانه.

    ثم إن ما قضاه ذلك الموجود من أطوار وأحوال، يتركه عندما يرحل وجوداً مفصلاً -يمثل وجوده الخارجي- في دوائر الوجود العلمي من أمثال الإمام المبين والكتاب المبين واللوح المحفوظ، تلك الدوائر التي هي عناوين العلم الأزلي.

    فكلُّ فانٍ إذن يترك وجوداً ويكسب لنفسه ولغيره ألوفاً من أنواع الوجود.

    مثلاً: تُلقى مواد اعتيادية إلى ماكنة مصنع عظيم، فتحترق تلك المواد وتمحى ظاهراً، ولكن تترسب مواد كيمياوية ثمينة وأدوية مهمة في أنابيق ذلك المصنع، فضلاً عن قيام قوة بخارها بتحريك دواليب ذلك المعمل مما يؤدي إلى نسج الأقمشة من جهة وطبع الكتب من جهة أخرى وإنتاج السكر من جهة أخرى مثلاً.

    بمعنى، أن في احتراق تلك المواد الاعتيادية وفنائها الظاهري تجد ألوفُ الأشياء الوجود.

    بمعنى، يذهب وجود اعتيادي ويفنى، ولكن يورث أنواعاً من وجود رفيع.

    فهل يقال في مثل هذه الحالة: يا خسارة على تلك المواد الاعتيادية؟ أفيُشكى هكذا؟ أيُقال: لِمَ لم يرأف صاحبُ المصنع بحال تلك المواد وحرقها ومحاها؟

    ﴿ وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى ﴾ إنَّ الخالق الحكيم والرحيم والودود، يُشغل مصنع الكائنات جاعلاً من كل وجود فانٍ نواةً لأنواع من الوجود الباقي، ومداراً لإظهار مقاصده الربانية مظهراً به شؤونه السبحانية متخذاً إياه مداداً لقلم قدره، ومكوكاً لنسج قدرته، وذلك بمقتضى الرحمة والحكمة والودودية. فيدفع سبحانه بفعالية قدرته الكائنات لتؤدي مهامها وفعالياتها لأجل كثير مما لا نعرفه من عنايات غالية ومقاصد عالية. فتسوق تلك الفعالية الموجودات كلها حتى تجعل الذرات تجول جولاناً، والموجودات تسير سيراناً، والحيوانات تسيل سيلاناً، والسيارات تدور دوراناً. فتجعل الكون يتكلم وينطق ويتلو آيات خالقه بصمت ويستكتبها.

    ومن حيث الربوبية قد جعل سبحانه المخلوقات الأرضية عروشاً له؛ إذ جعل الهواءَ نوعاً من عرش لأمره وإرادته، وعنصرَ النور عرشاً آخر لعلمه وحكمته، والماءَ عرشاً آخر لإحسانه ورحمته، والترابَ نوعاً من عرش لحفظه وإحيائه. ويسيّر ثلاثة من تلك العروش فوق المخلوقات الأرضية.

    فاعلم علماً قاطعاً! أن الحقيقة السامية التي بُيّنَت في هذه الرموز الخمسة والإشارات الخمس إنما تشاهَد بنور القرآن ولا تُمتلك إلّا بقوة الإيمان، وإلّا ستعم ظلمات مرعبة بدلاً من تلك الحقيقة الباقية، وتمتلئ الدنيا لأهل الضلالة بألوان الفراق وأصناف الزوال وتطفح بأنواع العدم ويصبح الكون بالنسبة له جحيماً معنوياً لا يطاق، إذ يحيط بوجود آني بالنسبة له ما لا يحد من العدم كلَّ شيء، فالماضي والمستقبل جميعاً مملوءان بظلمات العدم. فلا يجد الضال إلّا نوراً كئيباً حزيناً في حاله الحاضرة وهي زمان قصير جداً.

    ولكن ما إن يأتي سرُّ القرآن ونور الإيمان إذا بنور وجودٍ يُشاهد من الأزل إلى الأبد فيتعلق به ويحقق به سعادته الأبدية.

    خلاصة الكلام:

    نقول كما قال (نيازي المصري)(∗):

    «لو كان النَفَسُ بحراً زاخراً

    وتقطّع هذا الصدرُ إرباً إرباً

    أناجى إلى أن يبحّ هذا الصوت»

    وأقول:

    يا حق يا موجود يا حي يا معبود

    يا حكيم يا مقصود يا رحيم يا ودود

    وأقول صارخاً:

    لا إله إلّا اللّه الملك الحق المبين

    محمد رسول اللّه صادق الوعد الأمين.

    واعتقد جازماً وأثبت:

    إِنَّ الْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوتِ حَقٌّ وَالْجَنَّةَ حَقٌ وَالنَّارَ حَقٌّ وَإِنَّ السَّعَادَةَ الْأَبَدِيَّةَ حَقٌّ وَإِنَّ اللّه رَحيمٌ

    حَكيمٌ وَدُودٌ وَإِنَّ الرَّحْمَةَ وَالْحِكْمَةَ وَالْمَحَبَّةَ مُحيطَةٌ بِجَميعِ الْأَشْيَاءِ وَشُؤُونَاتِهَا.

    ﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلّٰهِ الَّذ۪ي هَدٰينَا لِهٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَٓا اَنْ هَدٰينَا اللّٰهُۚ لَقَدْ جَٓاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّۜ ﴾

    ﴿ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَٓا اِلَّا مَا عَلَّمْتَنَاۜ اِنَّكَ اَنْتَ الْعَل۪يمُ الْحَك۪يمُ ﴾

    ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَٓا اِنْ نَس۪ينَٓا اَوْ اَخْطَأْنَا ﴾

    اللّهمَّ صَلِّ عَلٰى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَاةً تَكُونُ لَكَ رِضَاءً وَلِحَقِّه أَدَاءً

    وَعَلٰى أٰلِه وَصَحْبِه وَسَلِّمْ. أٰمينَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ

    سُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ حَديقَةَ أَرْضِه مَشْهَرَ صَنْعَتِه، مَحْشَرَ خِلْقَتِه، مَظْهَرَ قُدْرَتِه، مَدَارَ حِكْمَتِه، مَزْهَرَ رَحْمَتِه، مَزْرَعَ جَنَّتِه، مَمَرَّ الْمَخْلُوقَاتِ، مَسيلَ الْمَوْجُودَاتِ، مَكيلَ الْمَصْنُوعَاتِ.

    فَمُزَيَّنُ الْحَيَوَانَاتِ مُنَقَّشُ الطُّيُورَاتِ، مُثَمَّرُ الشَّجَرَاتِ مُزَهَّرُ النَّبَاتَاتِ.

    مُعْجِزَاتُ عِلْمِه، خَوَارِقُ صُنْعِه، هَدَايَا جُودِه، بَرَاهينُ لُطْفِه، دَلَائِلُ الْوَحْدَةِ،

    لَطَائِفُ الْحِكْمَةِ، شَوَاهِدُ الرَّحْمَةِ.

    تَبَسُّمُ الْأَزْهَارِ مِنْ زينَةِ الْأَثْمَارِ،

    تَسَجُّعُ الْأَطْيَارِ فِى نَسْمَةِ الْأَسْحَارِ،

    تَهَزُّجُ الْأَمْطَارِ عَلى خُدُودِ الْأَزْهَارِ،

    تَزَيُّنُ الْأَزْهَارِ، تَبَرُّجُ الْأَثْمَارِ في هذِهِ الْجِنَانِ،

    تَرَحُّمُ الْوَالِدَاتِ عَلَى الْأَطْفَالِ الصِّغَارِ في كُلِّ الْحَيَوَانَاتِ وَاْلإِنْسَانِ.

    تَعَرُّفُ وَدُودٍ،

    تَوَدُّدُ رَحْمَانٍ،

    تَرَحُّمُ حَنَّانٍ،

    تَحَنُّنُ مَنَّانٍ لِلْجِنِّ وَاْلإِنْسَانِ وَالرُّوحِ وَالْحَيَوَانِ وَالْمَلَكِ وَالْجَانِّ.

    الذيل الأول

    بِاس۟مِهٖ

    ﴿وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه۪﴾

    بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ

    ﴿ قُلْ مَا يَعْبَؤُ۬ا بِكُمْ رَبّ۪ي لَوْلَا دُعَٓاؤُ۬كُمْ ﴾ (الفرقان: ٧٧)

    النكتة الأولى

    اعلم أنَّ الدعاء سر عظيم للعبادة، بل هو مخ العبادة وروحُها، ([2]) والدعاء -مثلما ذكرناه في مواضع أخرى كثيرة- على أنواع ثلاثة.

    النوع الأول من الدعاء:

    هو دعاءٌ بلسان الاستعداد والقابلية الموْدعة في الشيء. فالحبوب والنُويَّات جميعُها تسأل فاطرَها الحكيم بلسان استعدادها وقابلياتها المودعة فيها قائلة: اللهم يا خالقنا هيئ لنا نمواً نتمكن به من إبراز بدائع أسمائك الحسنى، فنعرِضها أمام الأنظار.. فحوِّل اللهم حقيقتَنا الصغيرة إلى حقيقة عظيمة.. تلك هي حقيقةُ الشجرة والسنبل.

    وثمة دعاء من هذا النوع -أي بلسان الاستعداد- هو اجتماع الأسباب. فاجتماع الأسباب دعاءٌ لإيجاد المسبب، أي أن الأسباب تتخذ وضعاً معيّناً وحالة خاصة بحيث تكون كلسان حال يطلب المسبَّب من القدير ذي الجلال، فالبذور مثلاً تسأل بارءها القدير أن تكون شجرةً، وذلك بلسان استعدادها فيتخذ كلٌّ من الماء والحرارة والتراب والضوء حالة معينة حول البذرة حتى تكون تلك الحالة كأنها لسانٌ ينطق بالدعاء قائلاً : اللهم يا خالقنا اجعل هذه البذرة شجرة.

    نعم، إنَّ الشجرة التي هي معجزةُ قدرة إلهية خارقة لا يمكن بحال من الأحوال أن يُفوَّض أمرُها ويُسند خلقُها إلى تلك المواد البسيطة الجامدة الفاقدة للشعور، بل محال إحالتها إلى تلك الأسباب.. فاجتماع الأسباب إذن إنما هو نوعٌ من الدعاء.

    النوع الثاني من الدعاء:

    هو الدعاء الذي يُسأل بلسان حاجة الفطرة، فالكائنات الحية جميعُها تطلب مطاليبها وتسأل حاجاتِها -الخارجة عن طوقها واختيارها- من خالقها الرحيم وتُستجاب لها مطاليبُها وحاجاتُها في أنسب وقت ومن حيث لا تَحتسب، إذ إن أيديها قاصرةٌ عن أن تصل إلى ما تريد أو دفع حاجة لها، فإرسال كل ما تطلبه إذن مما هو خارجٌ عن طوقها واختيارها وفي أنسب وقت ومن حيث لا تُحتسب إنما هو من قِبَل حكيم رحيم. وإغداقُ هذا الإحسان والإنعام ما هو إلّا استجابةٌ لدعاء فطري.

    نحصل من هذا: أنَّ هذا النوع من الدعاء الفطري تنطلق به ألسنةُ حاجةِ الفطرة لجميع الكائنات فتسأل الخالق القدير مطاليبَها، والتي هي من قبيل الأسباب تسأل القدير العليم المسببات.

    النوع الثالث من الدعاء:

    هو الدعاء الذي يسأله ذوو الشعور لتلبية حاجاتهم. وهذا الدعاء نوعان أيضاً:

    فالقسم الأول: مستجاب على الأغلب إنْ كان قد بلغ درجةَ الاضطرار، أو كان ذا علاقة قوية مع حاجة الفطرة ومتوافقاً معها، أو كان قريباً من لسان الاستعداد والقابلية، أو كان خالصاً صافياً نابعاً من صميم القلب.

    إن ما أحرزه الإنسان من رقيٍّ، وما نال من كشوفات ما هو إلّا نتيجة هذا النوع من الدعاء، إذ ما يطلقون عليه من خوارق الحضارة والأمور التي يحسبونها مدار افتخار اكتشافاتهم ما هو إلّا ثمرةُ هذا الدعاء المعنوي الذي سألته البشريةُ بلسان استعداد خالص فاستُجيب لها. فما من دعاء يُسأل بلسان الاستعداد وبلسان حاجة الفطرة إلّا استُجيب إن لم يكن هناك مانع، وكان ضمن شرائطه المعينة.

    أما القسم الثاني: فهو الدعاء المعروف لدينا. وهذا أيضاً فرعان:

    أحدهما: فعلي والآخر: قولي.

    فمثلا: حرثُ الأرض نوعٌ من دعاء فعلي، يطلب الإنسان الرزقَ من رزّاقه الحكيم، يطلبه منه، لا من التراب، فالتراب بابٌ لخزينة رحمته الواسعة ليس إلّا، يطرقه الإنسان بالمحراث.

    سنطوي تفاصيلَ الأقسام الأخرى ونذكر بضعةَ أسرار للدعاء «القولي» وذلك في بضع نكات آتية:

    النكتة الثانية

    اعلم أن تأثير الدعاء عظيم، ولا سيما إذا دام واكتسب الكلّية. فهذا الدعاء يُثمر على الأغلب ويُستجاب دائماً. حتى يصح أن يقال: إن سبب خلق العالم إنما هو دعاء، حيث إن الدعاء العظيم للرسول الأعظم ﷺ وهو يتقدم العالم الإسلامي الذي يدعو الدعاء نفسه، وهم يتقدمون البشرية جمعاء التي تسأل الدعاء نفسه.. ذلك الدعاء هو: السعادة الأبدية، وهو سبب من أسباب خلق العالم. أي أن رب العالمين قد علم بعلمِه الأزلي أن ذلك الرسول الكريم ﷺ سيسأله السعادةَ الأبدية والحظوة بتجلٍ من تجليات أسمائه الحسنى، سيسأله باسم البشرية قاطبة بل باسم الموجودات.. فاستجاب سبحانه وتعالى لذلك الدعاء العظيم فخلق هذا العالم.

    فما دام الدعاء قد اكتسب هذه الأهمية العظيمة والسعة الشاملة فهل يمكن ألّا يستجاب؟ وهل يمكن لدعاء يلهج به مئاتُ الملايين من البشر -في الأقل- ومنذ ألف وثلاث مائة سنة، يدعونه متفقين، في كل حين، بل يدعو معهم كل الطيبين من الجن والملك والروحانيات ممن لا يحصون ولا يعدون.. هل يمكن ألّا يستجابَ هذا الدعاء الذي يدعونه للرسول الكريم ﷺ لينال الرحمة الإلهية العظيمة والسعادة الخالدة.

    فما دام قد اكتسب هذا الدعاءُ الكليةَ والسعةَ والدوام إلى هذا الحد حتى بلغ درجة لسان الاستعداد وحاجة الفطرة، فلابد أن ذلك الرسول الكريم محمد بن عبد الله ﷺ قد اعتلى -نتيجة الدعاء- مرتبةً رفيعة عالية بحيث لو اجتمعت العقولُ جميعاً للإحاطة بحقيقة تلك المرتبة لعجزت عجزاً تاماً.

    فبُشراك أيها المسلم! إن لك شفيعاً كريماً في يوم الحشر الأعظم، هو هذا الرسول الحبيب ﷺ... فاسعَ لنيل شفاعته باتباع سنته المطهرة.

    فإن قلت: ما حاجة الرسول الكريم ﷺ وهو حبيب رب العالمين إلى هذه الكثرة من الدعاء والصلوات عليه؟

    الجواب: إنه ﷺ ذو علاقة قوية مع سعادة أمته قاطبة، فله حصتُه مما ينالُه كل فرد من أفراد أمته من أنواع السعادة، وهو يحزن أيضاً ويتألم لكل مصيبة تُصيبهم.

    فعلى الرغم من أن مراتب الكمال والسعادة بحقّه لا حدَّ لها، فإن الذي يرغب رغبة شديدة في أن ينال أفرادُ أمته الذين لا يحدّون أنواعاً لا تُحد من السعادة وفي أزمان لا تُحد، ويتألم بأنواع لا حد لها من شقائهم ومصائبهم، لابد أنه محتاج وحريٌّ به صلواتٌ لا حد لها وأدعية لا حد لها ورحمة لا حد لها.

    فإن قلت: يُدعى أحياناً بدعاء خالص لأمور تقع قطعاً، كالدعاء في صلاة الكسوف والخسوف، وقد يدعى أحياناً لأمور لا يمكن وقوعها..

    الجواب: لقد أوضحنا في «كلمات أخرى»: أنَّ الدعاء نوعٌ من العبادة، حيث يعلن الإنسان عجزَه وفقره بالدعاء. أما المقاصد الظاهرية فهي أوقاتُ تلك الأدعية والعبادة الدعائية، وهي ليست نتائج الأدعية وفوائدها الحقيقية، لأن فائدة العبادة وثمرتَها متوجهةٌ إلى الآخرة، أي يجنيها الداعي في الآخرة، لذا لو لم تحصل المقاصدُ الدنيوية التي يتضمنها الدعاء فلا يجوز القول: إن الدعاء لم يُستجب، وإنما يصح القول: إنه لم ينقضِ بعدُ 
وقتُ الدعاء.

    فهل يمكن يا ترى ألاّ يُستجاب دعاء للسعادة الخالدة، يسألها جميعُ أهل الإيمان في جميع الأزمنة، يسألونه بإلحاح وخلوص نية وباستمرار. فهل يمكن ألّا يَقبل الرحيمُ المطلق والكريم المطلق -التي تشهد الكائناتُ بسِعَة رحمته وشمول كرمه- هذا الدعاء، وهل يمكن ألّا تتحقق تلك السعادة الأبدية!؟ كلا ثم كلا..

    النكتة الثالثة

    إن استجابة «الدعاء القولي الاختياري» تكون بجهتين:

    فإما أن يُستجاب الدعاء بعينه، أو بما هو أفضل منه وأولى.

    فمثلاً: يدعو أحدهم أن يرزقه الله مولوداً ذكراً، فيرزقه الله تعالى مولودةً، كمريم عليها السلام، فلا يُقال عندئذ: أن دعاءه لم يستجب، بل قد استُجيب بما هو أفضل من دعائه.

    ثم إنَّ الإنسان قد يدعو لنيل سعادة دنيوية، فيستجيب الله له لسعادة أخروية، فلا يقال: أن دعاءه لم يستجب، بل قد استجيب بما هو أنفع له... وهكذا.

    فنحن إذن ندعوه سبحانه ونسأل منه وحدَه، وهو يستجيب لنا، إلّا أنه يتعامل معنا على وفق حكمته لأنه حكيم عليم.. فلا ينبغي للمريض أن يتهم حكمةَ الطبيب الذي يعالجه، إذ ربما يطلب منه أن يداويه بالعسل، فلا يعطيه الطبيب إلّا دواء مرّاً علقماً، لعلمه أنه مصاب بالحمى. فلا يحق للمريض أن يقول: الطبيب لا يستجيب لدعائي، بل قد استمع لأناته وصراخه، وأجابه فعلاً، وبأفضل منه.

    النكتة الرابعة

    إنَّ أطيبَ ثمرة حاضرة يجنيها المرءُ من الدعاء وألذَّها، وإن أجملَ نتيجة آنية يحصل عليها المرء من الدعاء وألطفَها هي الآتي:

    إنَّ الداعي يعلم يقيناً أن هناك من يسمعه، ويترحّم عليه ويسعفه بدوائه، وقدرتُه تصل إلى كل شيء. وعندها يستشعر في نفسه أنه ليس وحيداً فريداً في هذه الدنيا الواسعة بل هناك كريمٌ ينظر إليه بنظر الكرم والرحمة، فيدخل الأنسُ إلى قلب الداعي، ويتصور أنه في كنف الرحيم المقتدر على قضاء حاجاته غير المحدودة ودفع أعدائه غير المعدودة. وفي حضور دائم أمامه، فيغمره الفرحُ والانشراح، ويشعر أنه قد ألقى عن كاهله عبئاً ثقيلاً، فيحمد الله قائلاً:

    ﴿ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ الْعَالَم۪ينَ ﴾.

    النكتة الخامسة

    إنَّ الدعاء روحُ العبادة ومخُّها، وهو نتيجة إيمان خالص، لأن الداعي يُظهر بدعائه أن الذي يهيمن على العالم كله ويطّلع على أخفى أموري ويحيط بكل شيء علماً هو القادر على إغاثتي وإسعاف أبعدَ مقاصدي وهو البصير بجميع أحوالي والسميع لندائي، لذا فلا أطلب إلّا منه وحده، فهو يسمع أصوات الموجودات كلها، ولابد أنه يسمع صوتي وندائي أيضاً.. وهو الذي يدير الأمور كلها فلا أنتظر تدبير أدق أموري إلّا منه وحده.

    وهكذا فيا أيها المسلم! تأمل في سعة التوحيد الخالص الذي يهبه الدعاءُ للمرء، وانظر مدى ما يظهره الدعاءُ من حلاوة خالصة لنور الإيمان وصفائه، وافهم منه حكمة قوله تعالى: ﴿ قُلْ مَا يَعْبَؤُ۬ا بِكُمْ رَبّ۪ي لَوْلَا دُعَٓاؤُ۬كُمْ ﴾ (الفرقان: ٧٧) واستمع إلى قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُون۪ٓي اَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ (غافر: ٦٠).. وإنه لحقٌّ ما قيل: (اَگر نَه خُوَاهِي دَاد نَه دَادِى خُوَاه) أي لو لم يُرِد القضاءَ ما ألهَم الدعاءَ.

    ﴿ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَٓا اِلَّا مَا عَلَّمْتَنَاۜ اِنَّكَ اَنْتَ الْعَل۪يمُ الْحَك۪يمُ ﴾

    اَللهمَّ صَلِّ عَلٰى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ عَدَدَ مَا في عِلْمِ الله وَعَلٰى أٰلِه وَصَحْبِه وَسَلِّمْ. سَلِّمْنَا وَسَلِّمْ دينَنَا. أمينَ .

    وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ.

    الذيل الثاني

    «يخص المعراج النبوي»

    بِاسْمِهِ سُبْحَانَهُ

    ﴿ وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه۪ ﴾

    بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ

    ﴿ وَلَقَدْ رَاٰهُ نَزْلَةً اُخْرٰىۙ ❀ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهٰى ❀ عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوٰىۜ ❀ اِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشٰىۙ ❀ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغٰى ❀ لَقَدْ رَاٰى مِنْ اٰيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرٰى ﴾ (النجم:١٣-١٨).

    سنبين خمس نكات تدور حول قسم المعراج من قصيدة المولد النبوي.

    النكتة الأولى

    إن «السيد سليمان أفندي»(∗) الذي كتب قصيدة حول المولد النبوي الشريف، يبين فيها أحداث عشق حزين حول البُراق الذي جِيءَ به من الجنة. ولأنه من الأولياء الصالحين ويستند في قصيدته إلى روايات في السيرة، لا شك أنه يعبّر بتلك الصورة عن حقيقة معينة. والحقيقة هي الآتية:

    إن لمخلوقات عالم البقاء علاقة قوية بنور رسول الله ﷺ، إذ بالنور الذي أتى به ستعمّر الجنة ودار الآخرة بالجن والإنس، ولولاه لمَا كانت تلك السعادة الأبدية، ولمَا عمرت الجن والإنس الجنةَ، ولا تنعّموا بجميع أنواع مخلوقات الجنة، أي لولاه لبقيت الجنة خاوية وخالية من سكنتها.

    ولقد ذكرنا في «الغصن الرابع من الكلمة الرابعة والعشرين»:

    لقد انتخب من كل نوع من الأنواع بلبلاً، خطيباً، يعبّر عن طائفته، وفي مقدمة أولئك الخطباء، البلبل العاشق للورد، الذي يعلن عن حاجات طائفة الحيوانات البالغة حدّ العشق، إزاء قافلة النباتات الآتية من خزينة الرحمة الإلهية والحاملة لأرزاق الحيوانات.. تعلنها هذه البلابل بنغماتها الرقيقة على رؤوس أجمل النباتات تعبيراً عن حسن الاستقبال المفعم بالتسبيح والتهليل.

    فالرسول الكريم محمد الأمين ﷺ الذي هو سببُ خلق الأفلاك، ووسيلةُ سعادة الدارين، وحبيب رب العالمين، فكما كان سيدنا جبريل عليه السلام ممثلاً عن نوع الملائكة، في طاعته وخدمته بكمال المحبة مبيناً سرّ سجود الملائكة وانقيادهم لسيدنا آدم عليه السلام.. فأهل الجنة كذلك، بل حتى حيواناتها لها علاقات بذلك الرسول الكريم ﷺ. وقد عبّر «السيد سليمان أفندي» عن هذه الحقيقة بمشاعر الحب والعشق التي أطلقها البراق الذي ركبه الرسول ﷺ.

    النكتة الثانية

    إنَّ أحد أحداث «قصيدة المعراج النبوي» هو أن «السيد سليمان» قد عبّر عن المحبة النـزيهة لله سبحانه وتعالى تجاه الرسول الكريم ﷺ بجملة: «قد عشقتُك».

    فهذه التعابير بمعانيها العُرفية لا تليق بقدسيته وتعاليه سبحانه، ولكن لأن «السيد سليمان أفندي» من أهل الولاية وأهل الحقيقة، حيث إن قصيدته هذه لقيت القبول والرضى لدى عامة المسلمين، فلا شك أن المعنى الذي أظهره صحيح، وهو هذا:

    أن لله سبحانه وتعالى جمالاً وكمالاً مطلقَين، وأن جميع أنواع الجمال والكمال المنقسمة على الكائنات جميعِها، هي أماراتٌ على جماله وكماله وإشارات إليهما وعلامات عليهما.

    وحيث إن كل صاحب جمال وكمال، يحب جمالَه وكماله بالبداهة، فالله سبحانه وتعالى يحب جماله ([3]) بحبٍ يليق بذاته الجليلة. وأنه يحب أيضاً أسماءه التي هي شعاعات جماله جلّ وعلا.

    وإذ إنه يحب أسماءه، فإنه يحب إذن صنعتَه التي تُظهر جمالَ أسمائه.

    ويحب إذن مصنوعاته التي هي مرايا لجماله وكماله.

    وإذ إنه يحب ما يبيّن جماله وكماله، فإنه يحب محاسن مخلوقاته التي تشير إلى جمال أسمائه وكمالها.

    ويشير القرآن الحكيم في آياتها إلى هذه الأنواع الخمسة من المحبة.

    وهكذا فالرسول الكريم ﷺ الذي هو أكمل فرد في مصنوعات الله، وأبرز شخصية في مخلوقاته..

    وهو الذي يقدّر ويعلن عن الصنعة الإلهية بذكرٍ جذاب وتسبيح وتهليل..

    وهو الذي فتح بلسان القرآن خزائن جمال الأسماء الحسنى وكمالها..

    Hem kâinatın âyât-ı tekviniyesinin, Sâni’inin kemaline delâletlerini, parlak ve kat’î bir surette lisan-ı Kur’an’la beyan ediyor.

    Hem küllî ubudiyetiyle rububiyet-i İlahiyeye âyinedarlık ediyor.

    Hem mahiyetinin câmiiyetiyle bütün esma-i İlahiyeye bir mazhar-ı etem olmuştur.

    Elbette bunun için denilebilir ki Cemil-i Zülcelal, kendi cemalini sevmesiyle o cemalin en mükemmel âyine-i zîşuuru olan Muhammed-i Arabî aleyhissalâtü vesselâmı sever.

    Hem kendi esmasını sevmesiyle o esmanın en parlak âyinesi olan Muhammed-i Arabî aleyhissalâtü vesselâmı sever ve Muhammed-i Arabî aleyhissalâtü vesselâma benzeyenleri dahi derecelerine göre sever.

    Hem sanatını sevdiği için elbette onun sanatını en yüksek bir sadâ ile bütün kâinatta neşreden ve semavatın kulağını çınlatan, berr ve bahri cezbeye getiren bir velvele-i zikir ve tesbih ile ilan eden Muhammed-i Arabî aleyhissalâtü vesselâmı sever ve ona ittiba edenleri de sever.

    Hem masnuatını sevdiği için o masnuatın en mükemmeli olan zîhayatı ve zîhayatın en mükemmeli olan zîşuuru ve zîşuurun en efdali olan insanları ve insanların bi’l-ittifak en mükemmeli olan Muhammed-i Arabî aleyhissalâtü vesselâmı elbette daha ziyade sever.

    Hem kendi mahlukatının mehasin-i ahlâkiyelerini sevdiği için mehasin-i ahlâkiyede bi’l-ittifak en yüksek mertebede bulunan Muhammed-i Arabî aleyhissalâtü vesselâmı sever ve derecata göre ona benzeyenleri dahi sever. Demek Cenab-ı Hakk’ın rahmeti gibi muhabbeti dahi kâinatı ihata etmiş.

    İşte o hadsiz mahbublar içindeki mezkûr beş vechinin her bir vechinde en yüksek makam, Muhammed-i Arabî aleyhissalâtü vesselâma mahsustur ki “Habibullah” lakabı ona verilmiş.

    İşte bu en yüksek makam-ı mahbubiyeti, Süleyman Efendi “Ben sana âşık olmuşum.” tabiriyle beyan etmiştir. Şu tabir, bir mirsad-ı tefekkürdür, gayet uzaktan uzağa bu hakikate bir işarettir. Bununla beraber madem bu tabir, şe’n-i rububiyete münasip olmayan manayı hayale getiriyor; en iyisi, şu tabir yerine: “Ben senden razı olmuşum.” denilmeli.

    Üçüncü Nükte

    Mi’raciye’deki maceralar, malûmumuz olan manalarla o kudsî ve nezih hakikatleri ifade edemiyor. Belki o muhavereler; birer unvan-ı mülahazadır, birer mirsad-ı tefekkürdür ve ulvi ve derin hakaike birer işarettir ve imanın bir kısım hakaikine birer ihtardır ve kabil-i tabir olmayan bazı manalara birer kinayedir. Yoksa malûmumuz olan manalar ile bir macera değil. Biz, hayalimiz ile o muhaverelerden o hakikatleri alamayız; belki kalbimizle heyecanlı bir zevk-i imanî ve nurani bir neşe-i ruhanî alabiliriz.

    Çünkü nasıl Cenab Hakk’ın zat ve sıfâtında nazir ve şebih ve misli yoktur, öyle de şuunat-ı rububiyetinde misli yoktur. Sıfâtı nasıl mahlukat sıfâtına benzemiyor, muhabbeti dahi benzemez. Öyle ise şu tabiratı, müteşabihat nevinden tutup deriz ki: Zat-ı Vâcibü’l-vücud’un vücub-u vücuduna ve kudsiyetine münasip bir tarzda ve istiğna-i zatîsine ve kemal-i mutlakına muvafık bir surette, muhabbeti gibi bazı şuunatı var ki mi’raciye macerasıyla onu ihtar ediyor. Mi’rac-ı Nebeviyeye dair Otuz Birinci Söz, hakaik-i mi’raciyeyi usûl-ü imaniye dairesinde izah etmiştir. Ona iktifaen burada ihtisar ediyoruz.

    Dördüncü Nükte

    “Yetmiş bin perde arkasında Cenab-ı Hakk’ı görmüş.” tabiri, bu’diyet-i mekânı ifade ediyor. Halbuki Vâcibü’l-vücud mekândan münezzehtir, her şeye her şeyden daha yakındır. Bu ne demektir?

    Elcevap: Otuz Birinci Söz’de mufassalan, bürhanlar ile o hakikat beyan edilmiştir. Burada yalnız şu kadar deriz ki:

    Cenab-ı Hak bize gayet karibdir, biz ondan gayet derecede uzağız. Nasıl ki güneş, elimizdeki âyine vasıtasıyla bize gayet yakındır ve yerde her bir şeffaf şey, kendine bir nevi arş ve bir çeşit menzil olur. Eğer güneşin şuuru olsaydı bizimle âyinemiz vasıtasıyla muhabere ederdi. Fakat biz ondan dört bin sene uzağız. Bilâ-teşbih velâ-temsil; Şems-i Ezelî, her şeye her şeyden daha yakındır. Çünkü Vâcibü’l-vücud’dur, mekândan münezzehtir. Hiçbir şey ona perde olamaz. Fakat her şey nihayet derecede ondan uzaktır.

    İşte mi’racın uzun mesafesiyle, وَ نَح۟نُ اَق۟رَبُ اِلَي۟هِ مِن۟ حَب۟لِ ال۟وَرٖيدِ in ifade ettiği mesafesizliğin sırrıyla hem Resul-i Ekrem aleyhissalâtü vesselâmın gitmesinde, çok mesafeyi tayyederek gitmesi ve ân-ı vâhidde yerine gelmesi sırrı, bundan ileri geliyor. Resul-i Ekrem aleyhissalâtü vesselâmın mi’racı, onun seyr ü sülûkudur, onun unvan-ı velayetidir. Ehl-i velayet, nasıl ki seyr ü sülûk-u ruhanî ile kırk günden tâ kırk seneye kadar bir terakki ile derecat-ı imaniyenin hakkalyakîn derecesine çıkıyor.

    Öyle de bütün evliyanın sultanı olan Resul-i Ekrem aleyhissalâtü vesselâm; değil yalnız kalbi ve ruhu ile belki hem cismiyle hem havassıyla hem letaifiyle kırk seneye mukabil kırk dakikada, velayetinin keramet-i kübrası olan mi’racı ile bir cadde-i kübra açarak hakaik-i imaniyenin en yüksek mertebelerine gitmiş, mi’rac merdiveniyle arşa çıkmış, “Kab-ı Kavseyn” makamında, hakaik-i imaniyenin en büyüğü olan iman-ı billah ve iman-ı bi’l-âhireti aynelyakîn gözüyle müşahede etmiş, cennete girmiş, saadet-i ebediyeyi görmüş, o mi’racın kapısıyla açtığı cadde-i kübrayı açık bırakmış; bütün evliya-yı ümmeti seyr ü sülûk ile derecelerine göre, ruhanî ve kalbî bir tarzda o mi’racın gölgesi içinde gidiyorlar.

    Beşinci Nükte

    Mevlid-i Nebevî ile Mi’raciye’nin okunması, gayet nâfi’ ve güzel âdettir ve müstahsen bir âdet-i İslâmiyedir. Belki hayat-ı içtimaiye-i İslâmiyenin gayet latîf ve parlak ve tatlı bir medar-ı sohbetidir. Belki hakaik-i imaniyenin ihtarı için en hoş ve şirin bir derstir. Belki imanın envarını ve muhabbetullah ve aşk-ı Nebevîyi göstermeye ve tahrike en müheyyic ve müessir bir vasıtadır.

    Cenab-ı Hak, bu âdeti ebede kadar devam ettirsin ve Süleyman Efendi gibi mevlid yazanlara Cenab-ı Hak rahmet etsin, yerlerini cennetü’l-firdevs yapsın, âmin!

    Hâtime

    Madem şu kâinatın Hâlık’ı, her nevide bir ferd-i mümtaz ve mükemmel ve câmi’ halk edip o nev’in medar-ı fahri ve kemali yapar. Elbette esmasındaki ism-i a’zam tecellisiyle, bütün kâinata nisbeten mümtaz ve mükemmel bir ferdi halk edecek. Esmasında bir ism-i a’zam olduğu gibi masnuatında da bir ferd-i ekmel bulunacak ve kâinata münteşir kemalâtı o fertte cem’edip kendine medar-ı nazar edecek.

    O fert herhalde zîhayattan olacaktır. Çünkü enva-ı kâinatın en mükemmeli zîhayattır. Ve herhalde zîhayat içinde o fert, zîşuurdan olacaktır. Çünkü zîhayatın envaı içinde en mükemmeli zîşuurdur. Ve herhalde o ferd-i ferîd, insandan olacaktır. Çünkü zîşuur içinde hadsiz terakkiyata müstaid, insandır. Ve insanlar içinde herhalde o fert Muhammed aleyhissalâtü vesselâm olacaktır. Çünkü zaman-ı Âdem’den şimdiye kadar hiçbir tarih, onun gibi bir ferdi gösteremiyor ve gösteremez.

    Zira o zat, küre-i arzın yarısını ve nev-i beşerin beşten birisini, saltanat-ı maneviyesi altına alarak bin üç yüz elli sene kemal-i haşmetle saltanat-ı maneviyesini devam ettirip bütün ehl-i kemale, bütün enva-ı hakaikte bir “Üstad-ı Küll” hükmüne geçmiş. Dost ve düşmanın ittifakıyla ahlâk-ı hasenenin en yüksek derecesine sahip olmuş. Bidayet-i emrinde, tek başıyla bütün dünyaya meydan okumuş. Her dakikada yüz milyondan ziyade insanların vird-i zebanı olan Kur’an-ı Mu’cizü’l-Beyan’ı göstermiş bir zat, elbette o ferd-i mümtazdır, ondan başkası olamaz. Bu âlemin hem çekirdeği hem meyvesi odur.

    عَلَي۟هِ وَعَلٰى اٰلِهٖ وَصَح۟بِهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِعَدَدِ اَن۟وَاعِ ال۟كَائِنَاتِ وَ مَو۟جُودَاتِهَا

    İşte böyle bir zatın mevlid ve mi’racını dinlemek, yani terakkiyatının mebde ve müntehasını işitmek, yani tarihçe-i hayat-ı maneviyesini bilmek, o zatı kendine reis ve seyyid ve imam ve şefî telakki eden mü’minlere; ne kadar zevkli, fahirli, nurlu, neşeli, hayırlı bir müsamere-i ulviye-i diniye olduğunu anla.

    Yâ Rab! Habib-i Ekrem aleyhissalâtü vesselâm hürmetine ve ism-i a’zam hakkına, şu risaleyi neşredenlerin ve rüfekasının kalplerini, envar-ı imaniyeye mazhar ve kalemlerini esrar-ı Kur’aniyeye nâşir eyle ve onlara sırat-ı müstakimde istikamet ver, âmin!

    سُب۟حَانَكَ لَا عِل۟مَ لَنَٓا اِلَّا مَا عَلَّم۟تَنَٓا اِنَّكَ اَن۟تَ ال۟عَلٖيمُ ال۟حَكٖيمُ

    اَل۟بَاقٖى هُوَ ال۟بَاقٖى

    Said Nursî

    1. لرجل نحوى مشهور يُعرف بركن الدين بن القَوْبَع (ت ٧٣٨ هـ) - (قول على قول ١٥٧/١١ للكرمى).
    2. انظر: الترمذي، الدعاء ١، تفسير سورة البقرة ١٦، غافر ١؛ أبو داود، الوتر ٢٣؛ ابن ماجه، الدعاء ١.
    3. انظر: مسلم، الإيمان ١٤٧؛ ابن ماجه، الدعاء، ١٠؛ أحمد بن حنبل، المسند ١٣٣/٤، ١٣٤، ١٥١.