اللمعة الحادية والعشرون
تخص الإخلاص
كانت هذه اللمعة المسألة الرابعة للمسائل السبع للمذكّرة السابعة عشرة من «اللمعة السابعة عشرة» إلّا أنها أصبحت النقطة الثانية من «اللمعة العشرين». لمناسبة موضوعها -الإخلاص- وبناء على نورانيتها صارت «اللمعة الحادية والعشرين»، فدخلت في كتاب «اللمعات».
[تُقرأ هذه اللمعة كل خمسة عشر يوماً في الأقل]
بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ
﴿ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ ر۪يحُكُمْ ﴾ (الأنفال: ٤٦)
﴿ وَقُومُوا لِلّٰهِ قَانِت۪ينَ ﴾ (البقرة: ٢٣٨)
﴿ قَدْ اَفْلَحَ مَنْ زَكّٰيهَاۙۖ ❀ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسّٰيهَا ﴾ (الشمس: ٩-١٠)
﴿ وَلَا تَشْتَرُوا بِاٰيَات۪ي ثَمَنًا قَل۪يلًا ﴾ (البقرة: ٤١)
يا إخوة الآخرة! ويا أصحابي في خدمة القرآن! اعلموا -وأنتم تعلمون- أنَّ الإخلاص في الأعمال ولاسيما الأخروية منها، هو أهم أساس، وأعظم قوة، وأرجى شفيع، وأثبت مُرتكز، وأقصر طريق للحقيقة، وأبرّ دعاء معنوي، وأكرم وسيلة للمقاصد، وأسمى خصلة، وأصفى عبودية.
فما دام في الإخلاص أنوار مشعة، وقوى رصينة كثيرة أمثال هذه الخواص.. ومادام الإحسان الإلهي قد ألقى على كاهلنا مهمة مقدسة ثقيلة، وخدمة عامة جليلة، تلك هي وظيفة الإيمان وخدمة القرآن.. ونحن في غاية القلة والضعف والفقر، ونواجه أعداءً ألدّاء ومضايقات شديدة، وتُحيط بنا البدع والضلالات التي تصول وتجول في هذا العصر العصيب.. فلا مناص لنا إلّا ببذل كل ما في وسعنا من جهد وطاقة كي نظفر بالإخلاص. فنحن مضطرون إليه، بل مكلفون به تكليفاً، وأحوج ما نكون إلى ترسيخ سر الإخلاص في ذواتنا،
إذ لو لم نفز به لضاع منا بعض ما كسبناه من الخدمة المقدسة -لحد الآن- ولمَاَ دامت ولا استمرت خدمتنا، ثم نحاسَب عليها حساباً عسيراً،
حيث نكون ممن يشملهم النهي الإلهي وتهديده الشديد في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَشْتَرُوا بِاٰيَات۪ي ثَمَنًا قَل۪يلًا ﴾ بما أَخللنا بالإخلاص فأفسدنا السعادة الأبدية، لأجل مطامع دنيوية دنيئة، مقيتة، مضرة، مكدرة، لا طائل من ورائها ولا فائدة، إرضاء لمنافع شخصية جزئية تافهة، أمثال الإعجاب بالنفس والرياء. ونكون أيضاً من المتجاوزين على حقوق إخواننا في هذه الخدمة ومن المتعدين على نهج الخدمة القرآنية، ومن الذين أساءوا الأدب فلم يقدروا قُدسِيَّة الحقائق الإيمانية وسُمُوَّها حق قدرها.
فيا إخوتي! إن الأمور المهمة للخير والدروب العظيمة للصلاح، تعترضها موانع وعقبات مضرة كثيرة. فالشياطين يكدون أنفسهم ويجهدونها مع خُدام تلك الدعوة المقدسة، لذا ينبغي الاستناد إلى الإخلاص والاطمئنانُ إليه، لدفع تلك الموانع وصَدِّ تلك الشياطين. فاجتنبوا - يا إخوتي - الأسبابَ التي تقدح بالإخلاص وتثلمه كما تجتنبون العقارب والحيات. فلا وثوق بالنفس الأمارة ولا اعتماد عليها قط، كما جاء في القرآن الكريم على لسان سيدنا يوسف عليه السلام: ﴿ وَمَٓا اُبَرِّئُ نَفْس۪يۚ اِنَّ النَّفْسَ لَاَمَّارَةٌ بِالسُّٓوءِ اِلَّا مَا رَحِمَ رَبّ۪ي ﴾ (يوسف: ٥٣) فلا تخدعنّكم الأنانيةُ والغرور ولا النفس الأمارة بالسوء أبداً.
ولأجل الوصول إلى الظفر بالإخلاص وللحفاظ عليه، ولدفع الموانع وإزالتها، اجعلوا الدساتير الآتية رائدكم:
دستوركم الأول:
ابتغاء مرضاة الله في عملكم.
فإذا رضي هو سبحانه فلا قيمةَ لإعراض العالم أجمع ولا أهمية له. وإذا ما قَبِل هو سبحانه فلا تأثير لردّ الناس أجمعين. وإذا أراد هو سبحانه واقتضته حكمتُه بعد ما رضي وقَبِل العمل، جعل الناس يقبلونه ويرضون به، وإن لم تطلبوه أنتم، لذا ينبغي جعل رضى الله وحده دون سواه القصد الأساس في هذه الخدمة.. خدمة الإيمان والقرآن.
دستوركم الثاني:
هو عدم انتقاد إخوانكم العاملين في هذه الخدمة القرآنية، وعدم إثارة نوازع الحسد بالتفاخر والاستعلاء.
لأنه كما لا تحاسد في جسم الإنسان بين اليدين، ولا انتقاد بين العينين، ولا يعترض اللسان على الأذن، ولا يرى القلبُ عيبَ الروح، بل يكمّل كلٌّ منه نقصَ الآخر ويستر تقصيره ويسعى لحاجته، ويعاونه في خدمته.. وإلّا انطفأت حياة ذلك الجسد، ولغادرته الروحُ وتمزق الجسم...
وكما لا حسدَ بين تروس المعمل ودواليبه، ولا يتقدم بعضها على بعض ولا يتحكم، ولا يدفع أحدها الآخر إلى التعطل بالنقد والتجريح وتتبع العورات والنقائص، ولا يثبط شوقه إلى السعي، بل يعاون كل منها الآخر بكل ما لديه من طاقة موجهاً حركات التروس والدواليب إلى غايتها المرجوة، فيسير الجميع إلى ما وُجدوا لأجله، بالتساند التام والاتفاق الكامل. بحيث أنه لو تدخل شيء غريب أو تحكّم في الأمر -ولو بمقدار ذَرة- لاختل المعمل وأصابه العطبُ ويقوم صاحبه بدوره بتشتيت أجزائه وتقويضه من الأساس.
فيا طلاب رسائل النور ويا خدام القرآن! نحن جميعاً أجزاء وأعضاء في شخصية معنوية جديرة بأن يُطلق عليها: الإنسان الكامل.. ونحن جميعاً بمثابة تروسِ ودواليبِ معمل ينسج السعادة الأبدية في حياة خالدة. فنحن خدام عاملون في سفينة ربانية تسير بالأمة المحمدية إلى شاطئ السلامة وهي دار السلام.
نحن إذن بحاجة ماسة بل مضطرون إلى الإتحاد والتساند التام وإلى الفوز بسر الإخلاص الذي يهيئ قوة معنوية بمقدار ألف ومائة وأحد عشر «١١١١» ناتجة من أربعة أفراد.
نعم، إنْ لم تتحد ثلاث «ألفات» فستبقى قيمتُها ثلاثاً فقط، أما إذا اتحدت وتساندت بسر العددية، فإنها تكسب قيمة مائة وأحد عشر «١١١»، وكذا الحال في أربع «أربعات» عندما تكتب كل «٤» منفردة عن البقية فإن مجموعها «١٦» أما إذا اتحدت هذه الأرقام واتفقت بسر الأخوة ووحدة الهدف والمهمة الواحدة على سطر واحد فعندها تكسب قيمة أربعة آلاف وأربعمائة وأربع وأربعين «٤٤٤٤» وقوتها. هناك شواهد ووقائع تاريخية كثيرة جداً أثبتت أن ستة عشر شخصاً من المتآخين المتحدين المضحين بسر الإخلاص التام تزيد قوتُهم المعنوية وقيمتُهم على أربعة آلاف شخص.
أما حكمة هذا السر فهي أنَّ كل فرد من عشرة أشخاص متفقين حقيقةً يمكنه أن يرى بعيون سائر إخوانه ويسمع بآذانهم. أي إن كلاً منهم يكون له من القوة المعنوية والقيمة ما كأنه ينظر بعشرين عيناً ويفكر بعشرة عقول ويسمع بعشرين أُذناً ويعمل بعشرين يداً. ([1])
دستوركم الثالث:
اعلموا أنَّ قوتكم جميعاً في الإخلاص والحق.
نعم، إنَّ القوة في الحق والإخلاص، حتى إن أهل الباطل يحرزون القوةَ لما يبدون من ثبات وإخلاص في باطلهم.
نعم، إن خدمتنا هذه في سبيل الإيمان والقرآن هي دليل بذاتها على أن القوة في الحق والإخلاص.
فشيء يسير من الإخلاص في سبيل هذه الخدمة يُثبت دعوانا هذه ويكون دليلاً عليه. ذلك: لأن ما قمنا به في أزيد من عشرين سنة في مدينتي ([2]) وفي إستانبول من خدمة في سبيل الدين والعلوم الشرعية، قد قمنا معكم بأضعافه مائة مرة هنا ([3]) في غضون ثماني سنوات. علماً بأن الذين كانوا يعاونونني هناك هم أكثر مائة مرة بل ألف مرة ممن يعاونونني هنا. إنَّ خدماتنا هنا في ثماني سنوات مع أنني وحيد غريب شبه أمّي ([4]) وتحت رقابة موظفين لا إنصاف لهم وتحت مضايقاتهم قد أكسبتنا بفضل الله قوة معنوية أظهرت التوفيق والفلاح بمائة ضعف مما كان عليه سابقاً، لذا حصلت لديّ قناعة تامة من أن هذا التوفيق الإلهي ليس إلّا من صميم إخلاصكم.
وإنني أعترف بأنكم أنقذتموني بإخلاصكم التام -إلى حد ما- من الرياء، ذلك الداء الوبيل الذي يداعب النفس تحت ستار الشهرة والصيت. نسأل الله أن يوفقكم جميعاً إلى الإخلاص الكامل وتقحموني فيه معكم.
تعلمون أنَّ الإمام علياً رضي الله عنه والشيخ الكيلاني (قدس الله سره)، قد توجها إليكم ونظرا بعين اللطف والاهتمام والتسلية في كراماتهما الخارقة، ويباركان خدماتكم معنىً. فلا يساورنّكم الشك في أن ذلك التوجه والالتفات والتسلية ليس إلّا بما تتمتعون به من إخلاص. فإن أفسدتم هذا الإخلاص متعمدين، تستحقون إذن لطماتهما. تذكّروا دائماً «لطمات الرأفة والرحمة» التي هي في «اللمعة العاشرة».
ولو أردتم أن يظل هذان الفاضلان أستاذَين وظهيرَين معنويين لكم فاظفروا بالإخلاص الأتم بامتثالكم الآية الكريمة: ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلٰٓى اَنْفُسِهِمْ ﴾ (الحشر: ٩). أي عليكم أن تفضلوا إخوانكم على أنفسكم في المراتب والمناصب والتكريم والتوجّه، حتى في المنافع المادية التي تهش لها النفس وترتاح إليها.
بل في تلك المنافع التي هي خالصة زكية كتعليم حقائق الإيمان إلى الآخرين، فلا تتطلعوا ما استطعتم أن يتم ذلك بأيديكم، بل ارضوا واطمئنوا أن يتم ذلك بيد غيركم لئلا يتسرب الإعجابُ إلى أنفسكم. وربما يكون لدى أحدكم التطلع للفوز بالثواب وحده، فيحاول أن يبين أمراً مهماً في الإيمان بنفسه، فرغم أن هذا لا إثم فيه ولا ضرر فقد يعكر صفو الإخلاص فيما بينكم.
دستوركم الرابع:
هو الافتخار شاكرين بمزايا إخوانكم، وتصوّرها في أنفسكم، وعدّ فضائلهم في ذواتكم.
هناك اصطلاحات تدور بين المتصوفة أمثال: «الفناء في الشيخ»، «الفناء في الرسول». وأنا لست صوفياً، ولكن «الفناء في الإخوان» دستور جميلٌ يناسب مسلَكنا ومنهجنا تماماً. أي أن يفنى كل في الآخر، أي أن ينسى كل أخ أحاسيسه النفسانية، ويعيش فكراً مع مزايا إخوانه وفضائلهم.
حيث إن أساس مسلكنا ومنهجنا هو «الأخوة» في الله، وأن العلاقات التي تربطنا هي الأخوة الحقيقية، وليست علاقة الأب مع الابن ولا علاقة الشيخ مع المريد. وإن كان لابد فمجرد العلاقة بالأستاذ. وما دام مسلكنا هو «الخليلية» فمشربنا إذن «الخلَّة». والخلة تقتضي صديقاً صدوقاً، ورفيقاً مضحياً، وأخاً شهماً غيوراً.. وأس الأساس لهذه الخلة هو الإخلاص التام. فمن يقصّر منكم فيه فقد هوى من على برج الخلة العالي، ولربما يتردى في وادٍ سحيق، إذ لا موضع في المنتصف.
نعم، إنَّ الطريق طريقان، فمن يفارقنا الآن في مسلك الإخلاص التام -وهو الجادة الكبرى للقرآن الكريم- فربما يكون من الذين يخدمون الإلحاد أعداءَ القرآن دون أن يشعر.
فالذين دخلوا ميدان خدمة القرآن الكريم المقدسة بوساطة «رسائل النور» لا يهوون بإذن الله في مثل تلك الهاوية، بل سيمدون النورَ والإخلاص والإيمان قوة.
فيا إخوتي في خدمة القرآن!
إنَّ أهم سبب لكسب الإخلاص وأعظم وسيلة مؤثرة للمحافظة عليه هو: «رابطة الموت».
فكما أن طول الأمل يُثلِم الإخلاص ويفسده ويسوق إلى حُب الدنيا وإلى الرياء، فإن «رابطة الموت» تنفّر من الرياء، وتجعل المرابط معه يحرز الإخلاص. إذ تخلّصه من دسائس النفس الأمارة، وذلك بتذكر موته وبملاحظة فناء الدنيا وزوالها.
هذا ولقد اتخذ المتصوفة وأهل الحقيقة العلمية «رابطة الموت» أساساً في منهج سلوكهم، وذلك بما تعلّموه من الآية الكريمة: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَٓائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾ (آل عمران: ١٨٥) و ﴿ اِنَّكَ مَيِّتٌ وَاِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ﴾ (الزمر: ٣٠) فأزالوا بتلك الرابطة توهم البقاء وحلم الأبدية الذي يولد طول الأمل، حيث افترضوا خيالاً وتصوروا أنفسهم أمواتاً.. فالآن يُغسلون.. والآن يوضعون في القبر.. وحينما يتفكرون بهذه الصورة تتأثر النفسُ الأمارة بهذا التخيل أكثر فتتخلى شيئاً فشيئاً عن آمالها العريضة. فلهذه الرابطة إذن فوائد جمة ومنافع شتى. ويكفى أن الحديث الشريف يرشدنا إليها بقوله ﷺ: (اَكْثِروُا ذِكْرَ هَاذِمِ الَّلذَّاتِ). ([5])
وحيث إن مسلكنا حقيقة علمية وليست طريقة صوفية، فلا نرى أنفسنا مضطرين مثلهم إلى مباشرة تلك الرابطة بالافتراض والخيال. فضلاً عن أن هذا الأسلوب لا يلائم منهج الحقيقة. إذ التفكر بالعقبى ليس هو بجلب المستقبل إلى الحاضر خيالاً، بل الذهاب فكراً من الحاضر إلى المستقبل، ومشاهدة المستقبل من خلال الحاضر الواقع كما هو الحقيقة،
فلا حاجة إلى الخيال، ولا يلزم الافتراض، إذ الإنسان يمكنه مشاهدة جنازته وهي ثمرة محمولة على شجرة عمره القصير، وإذا ما حول نظره قليلاً لا يرى موته وحده، بل يرى أيضاً موت عصره، حتى إذا جال بنظره أكثر يرى موت الدنيا ودمارها، وعندها ينفتح أمامه الطريق إلى الإخلاص التام.
والسبب الثاني في إحراز الإخلاص هو: أن يكسب المرء حضوراً وسكينة بالإيمان التحقيقي وباللمعات الواردة عن «التفكر الإيماني في المخلوقات». هذا التأمل يسوق صاحبه إلى معرفة الخالق سبحانه؛ فتنسكب الطمأنينةُ والسكينة في القلب. حقاً إنَّ تلمع هذا النوع من التأمل في فكر الإنسان يجعله يفكر دائماً في حضور الخالق الرحيم سبحانه ورؤيته له، أي أنه حاضر وناظر إليه دائماً؛ فلا يلتفت عندئذٍ إلى غيره، ولا يستمد من سواه. حيث إن النظر والالتفات إلى ما سواه يخلّ بأدب الحضور وسكينة القلب. وبهذا ينجو الإنسان من الرياء ويتخلص منه، فيظفر بالإخلاص بإذن الله.
وعلى كل حال ففي هذا «التأمل» درجات كثيرة ومراتب عدة. وحظُّ كل شخص ما يكسبه، وربحه ما يستفيد منه حسب قابلياته وقدراته.
نكتفي بهذا القدر ونحيل إلى «رسائل النور» حيث ذكرت كثيراً من الحقائق حول النجاة من الرياء وإحراز الإخلاص.
سنُبين باختصار بعضاً من الأسباب العديدة التي تخل بالإخلاص وتمنعه، وتسوق إلى الرياء وتدفع إليه:
المانع الأول للإخلاص
الحسد الناشئ من المنافع المادية. هذا الحسد يفسد الإخلاص تدريجياً، بل يشوه نتائجَ العمل، بل يفوّت حتى تلك المنافعَ المادية أيضاً.
نعم، لقد حملت هذه الأمة دائماً التوقيرَ والقدر للعاملين بجد للحقيقة والآخرة، ومدت لهم يدَ العون فعلاً، وذلك بنيّة مشاركتهم في تلك الأعمال والخدمات الصادقة الخالصة لوجه الله. فقدمت لهم هدايا وصدقات لدفع حاجاتهم المادية ولئلا ينشغلوا بها عن خدماتهم الجليلة؛ فأظهروا بذلك ما يكنّونه من احترام للعاملين في سبيل الله؛ إلّا أن هذه المساعدات والمنافع يجب ألّا تُطلَب قط، بل تُوهب. فلا يُسأل حتى بلسان الحال كمن ينتظرها قلباً. وإنما تُعطى من حيث لا يحتسب وإلّا اختلّ إخلاصُ المرء وانتقض، وكاد يدخلَ ضمن النهي الإلهي في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَشْتَرُوا بِاٰيَات۪ي ثَمَنًا قَل۪يلًا ﴾ فيحبط قسم من أعماله.
فالرغبة في هذه المنافع المادية وترقّبها بدافع من أثَرة النفس الأمارة وحرصها على كسب المنافع لذاتها، تثير عرق الحسد وتحرك نوازعه تجاه أخيه الحقيقي وصاحبه المخلص في الخدمة الإيمانية، فيفسد إخلاصه ويفقد قدسية دعوته لله، ويتخذ طوراً منفّراً لدى أهل الحقيقة، بل يفقد المنافع المادية أيضاً.. وعلى كل حال فالمسألة طويلة.
وسأذكر ما يزيد سرّ الإخلاص ويديم الوفاق الصادق بين إخوتي الصادقين. أذكره ضمن مثالين:
المثال الأول لإدامة الإخلاص:
لقد اتخذ أرباب الدنيا «الاشتراك في الأموال» قاعدة يسترشدون بها لأجل الحصول على ثروة طائلة أو قوة شديدة، بل اتخذ مَن لهم التأثير في الحياة الاجتماعية -من أشخاص أو جماعات وبعض الساسة- هذه القاعدة رائداً لهم. وكسبوا نتيجة اتّباعهم هذه القاعدة قوة هائلة وانتفعوا منها نفعاً عظيماً، رغم ما فيها من أضرار واستعمالات سيئة، ذلك لأن ماهيةَ الاشتراك لا تتغير بالمساوئ والأضرار التي فيها، لأن كل شخص -وفق هذه القاعدة- يحسب نفسه بمثابة المالك لجميع الأموال، وذلك من زاوية مشاركته في المال ومن جهة مراقبته وإشرافه عليه، بالرغم أنه لا يمكنه أن ينتفع من جميع الأموال.. وعلى كل حال فإن هذه القاعدة إذا دخلت في الأعمال الأخروية فستكون محوراً لمنافع جليلة بلا مساوئ ولا ضرر. لأن جميع تلك الأموال الأخروية تحمل سر الدخول بتمامها في حوزة كل فرد من أولئك الأفراد المشتركين فيها، دون نقصان أو تجزئة.
ولنفهم هذا بمثال:
اشترك خمسةُ أشخاص في إشعال مصباح زيتي. فوقع على أحدهم إحضار النفط، وعلى الآخر الفتيلة، وعلى الثالث زجاجة المصباح، وعلى الرابع المصباح نفسه وعلى الأخير علبة الكبريت.. فعندما أشعلوا المصباح أصبح كل منهم مالكاً لمصباح كامل. فلو كان لكل من أولئك المشتركين مرآةٌ كبيرة معلقة بحائط، إذن لأصبح منعكساً في مرآته مصباحٌ كامل -مع ما في الغرفة- من دون تجزؤ أو نقص..
وهكذا الأمر في الاشتراك في الأمور الأخروية بسر الإخلاص، والتساند بسر الأخوة، وضم المساعي بسر الاتحاد؛ إذ سيدخل مجموعُ أعمال المشتركين، وجميع النور النابع منها، سيدخل بتمامه في دفتر أعمال كل منهم.. وهذا أمر مشهود وواقع بين أهل الحقيقة، وهو من مقتضيات سعة رحمة الله سبحانه وكرمه المطلق.
فيا إخوتي..! آمل ألَّا تسوقكم المنافعُ المادية إلى الحسد فيما بينكم إن شاء الله تعالى. إلّا أنكم قد تنخدعون كما انخدع قسمٌ من أهل الطرق الصوفية، من باب المنافع الأخروية. ولكن تذكّروا.. أين الثواب الشخصي والجزئي من ذلك الثواب العظيم الناشئ في أُفق الاشتراك في الأعمال المذكورة في المثال، وأين النور الجزئي من ذلك النور الباهر.
المثال الثاني لإدامة الإخلاص:
يحصل الصناعيون وأهل الحرف على الإنتاج الوفير وعلى ثروة هائلة نتيجة إتباعهم قاعدة «المشاركة في الصنعة والمهارة». وإليك المثال:
قام عشرة من صناعي إبر الخياطة بعملهم، كل على انفراد، فكانت النتيجة ثلاث إبر فقط لكل منهم في اليوم الواحد.. ثم اتفق هؤلاء الأشخاص حسب قاعدة «توحيد المساعي وتوزيع الأعمال» فأتى أحدهم بالحديد والآخر بالنار، وقام الثالث بثقب الإبرة والآخر بإدخالها النار والآخر بدأ يحدها.. وهكذا. فلم يذهب وقت أحد منهم سُدىً، حيث انصرف كل منهم إلى عملٍ مُعين وأنجزه بسرعة، لأنه عمل جزئي بسيط أولاً ولاكتسابه الخبرة والمهارة فيه ثانياً. وحينما وزعوا حصيلةَ جهودهم رأوا أن نصيب كل منهم في يوم واحد ثلاثمائة إبرة بدلاً من ثلاث إبر.. فذهبت هذه الحادثة أنشودةً يترنم بها أهل الصناعة والحرف، الذين يدعون إلى توحيد المساعي وتوزيع الأعمال.
فيا إخوتي! ما دامت تحصل مثل هذه الفوائد العظيمة نتيجة الاتحاد والاتفاق في أمور دنيوية وفي مواد كثيفة، فكم يكون ثواب أعمال أخروية ونورانية! وكم يكون الثواب المنعكس من أعمال الجماعة كلها بالفضل الإلهي في مرآة كل فرد منها! تلك الأعمال التي لا تحتاج إلى تجزئة ولا انقسام. فلكم أن تقدروا ذلك الربح العظيم.. فإن مثل هذا الربح العظيم لا يُفوَّت بالحسد وعدم الإخلاص..!
المانع الثاني للإخلاص:
هو إعطاء ما يداعب أنانية النفس الأمارة بالسوء وما تستشرفه من منزلة ومكانة، تتوجه إليها الأنظار، وحب إقبال الناس وطلب توجههم بدافع من حب الشهرة وذياع الصيت الناشئ من التطلع إلى الجاه وحبه. فكما أنَّ هذا داء روحي وبيل، فهو باب إلى «الشرك الخفي» الذي هو الرياء والإعجاب بالنفس الماحق للإخلاص.
يا إخوتي!
لما كان مسلكنا في خدمة القرآن الكريم مبنياً على الحقيقة وعلى الأخوة، وأن سر الأخوة هو في إفناء الفرد شخصيته في شخصية إخوانه ([6]) وإيثارهم على نفسه، فما ينبغي أن يؤثر فينا مثل هذا الحسد الناجم من حُب الجاه، حيث هو مناف كلياً لمسلكنا. إذ مادامت كرامةُ جميع الإخوان وشرفهم تعود إلى كل أخ في الجماعة، فلا يمكن أن تُضحّى بتلك المنزلة الرفيعة والكرامة الفائقة والشرف المعنوي السامي للجماعة، لأجل شهرة جزئية وعزة شخصية ناجمة من الأنانية والحسد.. فأنا على ثقة وآمل أن ذلك بعيد كل البعد عن طلاب النور.
نعم، إن قلوب طلاب النور وعقولَهم وأرواحهم لا تنحدر إلى مثل هذه الأمور السافلة، إلّا أنه ما من أحد إلّا يحمل نفساً أمارة بالسوء، فقد تسري أمورٌ ونوازع نفسانية في العروق وتتعلق بالأعصاب وتجري أحكاماً برغم العقل والقلب والروح. فاعتماداً على ما تتركه «رسائل النور» فيكم من آثار، فلا أتهم قلوبَكم وعقولكم وأرواحكم. إلّا أن النفس والهوى والحس والوهم قد يُخدع؛ لذا يأتيكم التحذير والتنبيه أحياناً بشدة وعنف. فتلك الشدة موجهةٌ إلى النفس والهوى والحس والوهم، فكونوا على حذر دائماً.
نعم لو كان مسلكنا طريقة خاصة ومشيخة، لكان إذن مقام واحد، أو عدد محدود منه، ولكان مرشحون كثيرون لذلك المقام. وعندها كان يمكن أن تحدث المنافسة والأنانية في النفوس. ولكن مسلكنا هو الأخوة، لا غير. فلا يدّعي الأخ على أخيه الأبوة، ولا يتزيَّ بزي المرشد له. فالمقام هنا في الأخوة فسيح واسع، لا مجال فيه للمزاحمة بالمنافسة، وإن كان لابد فالأخ معاون لأخيه مكمّل لعمله، وظهير له.
ومما يدل على أن في المسالك التي فيها مقام الأبوة والإرشاد والأستاذية نتائج خطرة مهلكة تنجم من المنافسة والحسد حرصاً على الثواب وتطلعاً إلى علو الهمة، أقول إن الدليل على ذلك هو تلك الاختلافات والمشاحنات الدائرة في ثنايا المزايا الجليلة والمنافع العظيمة التي يتمتع بها أهل الطرق الصوفية، والتي أدّت بهم إلى نتائج وخيمة جعلت قواهم السامية الهائلة لا تثبت أمام أعاصير البدع.
المانع الثالث للإخلاص:
هو الخوف والطمع. نحيل إلى رسالة «الهجمات الست» ([7]) حيث شرحت هذا المانع مع موانع أخرى بوضوح تام.
نسأل الله الرحمن الرحيم سبحانه مُشَفِّعِينَ جميع أسمائه الحسنى أن يوفقنا إلى الإخلاص التام. آمين.
اَللّهمَّ بِحَقِّ سُوَرَةِ الإخلاص اِجعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الْمُخْلِصينَ الْمُخلَصينَ. آمينْ.. آمين.
﴿ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَٓا اِلَّا مَا عَلَّمْتَنَاۜ اِنَّكَ اَنْتَ الْعَل۪يمُ الْحَك۪يمُ ﴾
رسالة خاصة إلى قسم من إخواني
سأذكر نكتة لطيفة لحديثين شريفين لأولئك الأخوة الذين يملّون من كتابة «رسائل النور»، والذين يفضّلون قراءة الأوراد في الشهور الثلاثة وهي شهور العبادات على كتابة «رسائل النور» التي تعدّ عبادة بخمس جهات. ([8])
الحديث الأول: ( يُوزن مداد العلماء بدماء الشهداء) ([9]) أو كما قال. أي إن ما يصرفه علماء الحقيقة من حبر يوزن يوم القيامة مع دماء الشهداء ويعادلها.
الحديث الثاني: (مَن تمسك بسنتي عند فساد أمتي فله أجر مائة شهيد) ([10])
أو كما قال، أي إن من يتمسك بالسنة الشريفة والحقائق القرآنية ويعمل لأجلها عند استيلاء البدع وتغلب الضلالة ، فله أجر مائة شهيد.
فيا مَن يملّ تكاسلاً عن الكتابة ويا أيها الأخوة الذين ينحون منحى التصوف! إن حصيلة مفهومَي الحديثين الشريفين هي أن درهماً مما يقطر من نور أسود وماء باعث للحياة من الأقلام المباركة الزكية لأولئك الذين يخدمون حقائق الإيمان وأسرار الشريعة والسنة النبوية الشريفة في مثل هذه الظروف يمكن أن يفيد كمائة درهم من دم الشهداء يوم الحشر الأكبر.
فاسعوا يا إخوتي لتظفروا بهذا الثواب العظيم.
فإن قلتم: إن ما ورد في الحديث هو بخصوص العالِم بينما قسم منا كتّاب فحسب؟
الجواب: إن الذي يقرأ هذه الرسائل، وهذه الدروس في غضون سنة واحدة ويفهمها ويقبل بها، يمكن أن يكون عالماً مهماً ذا حقيقة في هذا الزمان. وإذا ما قرأها ولم يفهمها، فإن طلاب النور الذين لهم شخصية معنوية، لا شك أن هذه الشخصية هي بمثابة عالم من علماء هذا الزمان. أما أقلامكم فهي أصابع تلك الشخصية الحقيقية، وهَب أنكم قد ارتبطتم بهذا الفقير ومنحتموه بحُسن ظنكم مكانة عالم وأستاذ في نظركم وإن كنت أرى أنني لا أستحقها ولكن لما كنت أمياً لا أجيد الكتابة، فإن أقلامكم تعدّ أقلامي أنا. فتثابون بالأجر المبيّن في الحديث الشريف.
سعيد النورسي
- ↑ نعم، كما أنّ تسانداً حقيقياً، واتحاداً تاماً، نابعاً من «الإخلاص» هو محور تدور عليه منافع لا تنتهي، كذلك فهو ترس عظيم، ومرتكز قوي للوقوف تجاه المخاوف العديدة، بل أمام الموت، لأن الموت لا يسلب إلا روحاً واحدة، فالذي ارتبط بإخوانه بسر الاخوة الخالصة في الأمور المتعلقة بالآخرة وفي سبيل مرضاة الله، يحمل أرواحاً بعدد إخوانه، فيلقى الموت مبتسماً وقائلاً: لتَسلَم أرواحي الأخرى.. ولتبق معافاة، فإنها تديم لي حياة معنوية بكسبها الثواب لي دائما. فأنا لم أمت إذن. ويُسلّم روحه وهو قرير العين، ولسان حاله يقول: أنا أعيش بتلك الأرواح من حيث الثواب ولا أموت إلا من حيث الذنوب والآثام. (المؤلف).
- ↑ المقصود مدينة «وان» في جنوب شرقي تركيا.
- ↑ المقصود قرية «بارلا» في غربي تركيا نفي إليها سنة ١٩٢٦.
- ↑ المقصود رداءة الخط.
- ↑ الترمذى، صفات القيامة ٢٦، الزهد ٤؛ النسائي، الجنائز ٣؛ ابن ماجه، الزهد ٣١؛ أحمد بن حنبل، المسند ٢/ ٢٩٢. ومعنى هاذم: قاطع.
- ↑ نعم، إن السعيد هو مَن يرمي شخصيته، ويذيب أنانيته التي هي كقطعة ثلج في الحوض العظيم اللذيذ المترشح من كوثر القرآن الكريم كي يغنم ذلك الحوض. (المؤلف).
- ↑ يراجع القسم السادس من المكتوب التاسع والعشرين في مجموعة «المكتوبات».
- ↑ لقد سألنا أستاذنا عن الأنواع الخمسة من العبادة التي أشار إليها في هذه الرسالة القيمة، ندرج إيضاحه أدناه:
١ـ إنها جهاد معنوي تجاه أهل الضلالة، ذلك الجهاد الأهم.
٢ـ إنها خدمة لأستاذه ومعاونة له على نشر الحقيقة.
٣ـ إنها خدمة للمسلمين كافة من حيث الإيمان.
٤ـ إنها تحصيل للعلم بالكتابة.
٥ـ إنها عبادة فكرية التي قد تكون ساعة منها بمثابة سنة من العبادة.
«رشدي، خسرو، رأفت» - ↑ انظر: الغزالي، إحياء عاوم الدين ١/ ٦، ٨؛ ابن الجوزي، العلل المتناهية ١/ ١٨١؛ ابن حجر، لسان الميزان ٥/ ٢٢٥؛ المناوي، فيض القدير ٦/ ٤٦٦؛ العجلوني، كشف الخفاء ١/ ٢٦٢، ٥٤٣.
- ↑ تقدم تخريجه في اللمعة الحادية عشرة.