64.622
düzenleme
Değişiklik özeti yok Etiketler: Mobil değişiklik Mobil ağ değişikliği |
Değişiklik özeti yok Etiket: Elle geri alma |
||
(2 kullanıcıdan 39 ara revizyon gösterilmiyor) | |||
1. satır: | 1. satır: | ||
<languages/> | <languages/> | ||
<span id="HAŞİR_BAHSİ"></span> | <span id="HAŞİR_BAHSİ"></span> | ||
96. satır: | 94. satır: | ||
تعالَ، وانظُر إلى هذه القاطراتِ الضَّخمةِ، وإلى هذه الطائراتِ المشحونةِ، وإلى هذه المخازِنِ الهائلةِ المملوءَةِ، وإلى هذه المعارِضِ الأنيقَةِ الجذّابَةِ.. وتأمّل في الإجراءاتِ وسَيرِ الأمورِ.. إنها جميعا تُبيِّن أنَّ هناك سلطنةً عظيمةً حقا (*<ref>* | تعالَ، وانظُر إلى هذه القاطراتِ الضَّخمةِ، وإلى هذه الطائراتِ المشحونةِ، وإلى هذه المخازِنِ الهائلةِ المملوءَةِ، وإلى هذه المعارِضِ الأنيقَةِ الجذّابَةِ.. وتأمّل في الإجراءاتِ وسَيرِ الأمورِ.. إنها جميعا تُبيِّن أنَّ هناك سلطنةً عظيمةً حقا (*<ref>* | ||
فكما أنَّ الجيشَ الهائلَ في ميدانِ المناوراتِ أو مباشرةِ الحرب، يتَحوّلُ إلى ما يُشبِه غابةَ أشواكٍ، بمُجرَّد تَسلُّمه أمرَ: «خُذوا السلاحَ، رَكِّبوا الحِرابَ»، وكما يتَحوّلُ المعسكرُ برُمّتِه في كل عيدٍ وعرْضٍ عسكريٍّ إلى ما يُشبِه حديقةً جميلةً ذاتَ أزهارٍ ملوّنةٍ بمجرّدِ تسلُّمِه أمرَ: «احملُوا شاراتِكم، تَقلّدُوا أوسِمتَكم».. كذلك النباتاتُ غيرُ ذاتِ الشعورِ والتي هي نوعٌ من جُنودٍ غيرِ متناهيّةٍ لله سبحانَه -كما أنَّ الملائِكةَ والجنَّ والإنسَ والحيوانَ جُنودُه- فهي عندَما تَتسلَّم أمرَ ﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ أثناءَ جهادِها لحفظِ الحياةِ وتُؤمَرُ بالأمرِ الإلهيّ «خذوا أسلحتَكم وعتادَكم لأجلِ الدّفاعِ» تُهيِّئُ الأشجارُ والشُّجَيراتُ المشوكَةُ رُميحَاتِها، فيتَحوّلُ سطحُ الأرضِ إلى ما يُشبِه المعسكرَ الضخمَ المدجَّجَ بالسلاحِ الأبيضِ. | فكما أنَّ الجيشَ الهائلَ في ميدانِ المناوراتِ أو مباشرةِ الحرب، يتَحوّلُ إلى ما يُشبِه غابةَ أشواكٍ، بمُجرَّد تَسلُّمه أمرَ: «خُذوا السلاحَ، رَكِّبوا الحِرابَ»، وكما يتَحوّلُ المعسكرُ برُمّتِه في كل عيدٍ وعرْضٍ عسكريٍّ إلى ما يُشبِه حديقةً جميلةً ذاتَ أزهارٍ ملوّنةٍ بمجرّدِ تسلُّمِه أمرَ: «احملُوا شاراتِكم، تَقلّدُوا أوسِمتَكم».. كذلك النباتاتُ غيرُ ذاتِ الشعورِ والتي هي نوعٌ من جُنودٍ غيرِ متناهيّةٍ لله سبحانَه -كما أنَّ الملائِكةَ والجنَّ والإنسَ والحيوانَ جُنودُه- فهي عندَما تَتسلَّم أمرَ ﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ أثناءَ جهادِها لحفظِ الحياةِ وتُؤمَرُ بالأمرِ الإلهيّ «خذوا أسلحتَكم وعتادَكم لأجلِ الدّفاعِ» تُهيِّئُ الأشجارُ والشُّجَيراتُ المشوكَةُ رُميحَاتِها، فيتَحوّلُ سطحُ الأرضِ إلى ما يُشبِه المعسكرَ الضخمَ المدجَّجَ بالسلاحِ الأبيضِ. | ||
<br> | <br> | ||
فتُظهِرُ كلُّ طائفةٍ منها ما وَهبَه لها سُلطانُها من هدايا جميلةٍ، وما أنعمَ عليها من أوسِمةٍ مرصّعةٍ، فتَعرِضُ نفسَها -بما يُشبِه العرْضَ العسكريّ- أمامَ نظرِ الشُّهودِ والإشْهادِ للسلطانِ الأزلي، كأنها تَسمَعُ أمرا ربّانيا: «تقلّدوا مُرصّعاتِ الصنعةِ الربانية، وأوْسِمةَ الفِطرةِ الإلهية التي هي الأزهارُ والثمارُ... وفتِّحُوا الأزهارَ»؛ عندئذٍ يعودُ سطحُ الأرضِ كأنه مُعسكرٌ عظيمٌ في يومِ عيدٍ بهيجٍ، وفي استعراضٍ هائلٍ رائع يَزخَرُ بالأوسمة البراقةِ والشاراتِ اللماعة. | فتُظهِرُ كلُّ طائفةٍ منها ما وَهبَه لها سُلطانُها من هدايا جميلةٍ، وما أنعمَ عليها من أوسِمةٍ مرصّعةٍ، فتَعرِضُ نفسَها -بما يُشبِه العرْضَ العسكريّ- أمامَ نظرِ الشُّهودِ والإشْهادِ للسلطانِ الأزلي، كأنها تَسمَعُ أمرا ربّانيا: «تقلّدوا مُرصّعاتِ الصنعةِ الربانية، وأوْسِمةَ الفِطرةِ الإلهية التي هي الأزهارُ والثمارُ... وفتِّحُوا الأزهارَ»؛ عندئذٍ يعودُ سطحُ الأرضِ كأنه مُعسكرٌ عظيمٌ في يومِ عيدٍ بهيجٍ، وفي استعراضٍ هائلٍ رائع يَزخَرُ بالأوسمة البراقةِ والشاراتِ اللماعة. | ||
<br> | <br> | ||
البديع يُرِي لمن لم يَفقِد بصرَه أنه أمرُ سلطانٍ قَديرٍ لا منتهَى لقدرتِه، وأمرُ حاكمٍ حَكيمٍ لا نهايةَ لحكمتِه. (المؤلف) | البديع يُرِي لمن لم يَفقِد بصرَه أنه أمرُ سلطانٍ قَديرٍ لا منتهَى لقدرتِه، وأمرُ حاكمٍ حَكيمٍ لا نهايةَ لحكمتِه. (المؤلف) | ||
119. satır: | 114. satır: | ||
هيا انظُر إلى ذاك الجبلِ الشاهِقِ فقد نُصبَت عليه آلةُ تصويرٍ ضَخمةٌ تخصُّ السلطانَ نفسَه(*<ref>* | هيا انظُر إلى ذاك الجبلِ الشاهِقِ فقد نُصبَت عليه آلةُ تصويرٍ ضَخمةٌ تخصُّ السلطانَ نفسَه(*<ref>* | ||
لقد وُضِّحَ قسمٌ من هذه المعاني التي تُشيرُ إليها هذه الصورةُ في «الحقيقةِ السَّابعةِ»؛ فآلةُ التصويرِ الكبرَى هنا -التي تخص السلطان- تُشير إلى اللوحِ المحفوظِ، وإلى حقيقتِه، وقد أثبَتَت «الكلمةُ السادِسةُ والعشرون» اللوحَ المحفُوظَ وتَحقُّقَ وُجودِه بما يأتي: | لقد وُضِّحَ قسمٌ من هذه المعاني التي تُشيرُ إليها هذه الصورةُ في «الحقيقةِ السَّابعةِ»؛ فآلةُ التصويرِ الكبرَى هنا -التي تخص السلطان- تُشير إلى اللوحِ المحفوظِ، وإلى حقيقتِه، وقد أثبَتَت «الكلمةُ السادِسةُ والعشرون» اللوحَ المحفُوظَ وتَحقُّقَ وُجودِه بما يأتي: | ||
<br> | <br>كما أنَّ الهُوياتِ الشخصِيةَ الصغيرةَ تَرمُزُ إلى وجودِ سِجلٍّ كبير للهويات، والسنداتِ الصغيرةَ تُشعِر بوُجود سِجلٍّ أساسٍ للسنداتِ، ورَشحاتِ قطراتٍ صَغيرةً وغزيرةً تدل على وجودِ منبعٍ عظيمٍ.. كذلك فإنّ القوَى الحافظةَ في الإنسانِ، وأثمارَ الأشجارِ، وبُذورَ الثِّمارِ؛ التي كل منها بمَثابةِ هوياتٍ صغيرة، وبمعنى «لوح محفوظ صغير» وبصُورةِ ترشحاتِ نِقاطٍ صغيرةٍ ترشَّحتْ من القلم الذي كتَبَ اللوحَ المحفوظَ الكبيرَ.. لابدَّ أن كلا منها تُشعرُ بوجودِ الحافِظةِ الكبرَى، والسِّجل الأكبرِ، واللوحِ المحفوظِ الأعظم، بل تُثبتُه وتُبرِزُه إلى العقولِ النافِذةِ. (المؤلف) </ref>) تَلتقِطُ صورَ كلِّ ما يجرِي في هذه المملكةِ؛ بمعنى أنَّ السلطانَ أصْدرَ أوامرَه لتَسجيلِ الأمورِ كلِّها، وتدوِينِ المعاملاتِ في مملكتِه.. مما يعني أنَّ ذلك السلطانَ المعظَّمَ يَستكتِبُ الحوادثَ جميعَها، ويأمرُ بتَصوِيرِها.. فهذا الاهتِمامُ البالغُ، وهذا الحفظُ الدقيقُ للأمورِ، وراءَه مُحاسَبةٌ بلا شكٍّ، | ||
كما أنَّ الهُوياتِ الشخصِيةَ الصغيرةَ تَرمُزُ إلى وجودِ سِجلٍّ كبير للهويات، والسنداتِ الصغيرةَ تُشعِر بوُجود سِجلٍّ أساسٍ للسنداتِ، ورَشحاتِ قطراتٍ صَغيرةً وغزيرةً تدل على وجودِ منبعٍ عظيمٍ.. كذلك فإنّ القوَى الحافظةَ في الإنسانِ، وأثمارَ الأشجارِ، وبُذورَ الثِّمارِ؛ التي كل منها بمَثابةِ هوياتٍ صغيرة، وبمعنى «لوح محفوظ صغير» وبصُورةِ ترشحاتِ نِقاطٍ صغيرةٍ ترشَّحتْ من القلم الذي كتَبَ اللوحَ المحفوظَ الكبيرَ.. لابدَّ أن كلا منها تُشعرُ بوجودِ الحافِظةِ الكبرَى، والسِّجل الأكبرِ، واللوحِ المحفوظِ الأعظم، بل تُثبتُه وتُبرِزُه إلى العقولِ النافِذةِ. (المؤلف) </ref>) تَلتقِطُ صورَ كلِّ ما يجرِي في هذه المملكةِ؛ بمعنى أنَّ السلطانَ أصْدرَ أوامرَه لتَسجيلِ الأمورِ كلِّها، وتدوِينِ المعاملاتِ في مملكتِه.. مما يعني أنَّ ذلك السلطانَ المعظَّمَ يَستكتِبُ الحوادثَ جميعَها، ويأمرُ بتَصوِيرِها.. فهذا الاهتِمامُ البالغُ، وهذا الحفظُ الدقيقُ للأمورِ، وراءَه مُحاسَبةٌ بلا شكٍّ، | |||
إذ هل يمكن لحاكمٍ حَفيظٍ -لا يُهمِلُ أدنى مُعامَلةٍ لأبسطِ رعاياهُ- أن لا يَحفَظَ ولا يُدوِّن الأعمالَ العظيمةَ لكِبار رعاياهُ، ولا يُحاسبَهم ولا يُجازِيهم على ما صَنعُوا، مع أنهم يُقدِمونَ على أعمال تمَسُّ الملِكَ العزيزَ، وتتَعرَّضُ لكبريائِه، وتأباهُ رَحمتُه الواسِعةُ؟.. | إذ هل يمكن لحاكمٍ حَفيظٍ -لا يُهمِلُ أدنى مُعامَلةٍ لأبسطِ رعاياهُ- أن لا يَحفَظَ ولا يُدوِّن الأعمالَ العظيمةَ لكِبار رعاياهُ، ولا يُحاسبَهم ولا يُجازِيهم على ما صَنعُوا، مع أنهم يُقدِمونَ على أعمال تمَسُّ الملِكَ العزيزَ، وتتَعرَّضُ لكبريائِه، وتأباهُ رَحمتُه الواسِعةُ؟.. | ||
157. satır: | 150. satır: | ||
فالمقصودُ من هذه الاحتفالاتِ إذن هو بلوغُ سعادةٍ عُظمَى، ومَـحكمةٍ كُبرَى، وغاياتٍ ساميةٍ مَستورةٍ عنَّا. | فالمقصودُ من هذه الاحتفالاتِ إذن هو بلوغُ سعادةٍ عُظمَى، ومَـحكمةٍ كُبرَى، وغاياتٍ ساميةٍ مَستورةٍ عنَّا. | ||
=== الصورة الحادية عشْرَةَ | === الصورة الحادية عشْرَةَ === | ||
تعال أيها الصديقُ المُعانِدُ.. لنَركَبَ طائرةً أو قطارا، لنَذهَبَ إلى الشَّرقِ أو إلى الغربِ -أي إلى الماضِي أو إلى المستقبَل- لنشاهِدَ ما أظهره السلطانُ من معجزاتٍ متنوِّعةٍ في سائر الأماكن؛ فما رأيناهُ هنا في المعرِضِ، أو في الميدانِ، أو في القصرِ، من الأمورِ العجيبة له نَماذجُ في كل مكان، إلّا أنه يَختلِف من حيثُ الشَّكلُ والتَّركيبُ. | تعال أيها الصديقُ المُعانِدُ.. لنَركَبَ طائرةً أو قطارا، لنَذهَبَ إلى الشَّرقِ أو إلى الغربِ -أي إلى الماضِي أو إلى المستقبَل- لنشاهِدَ ما أظهره السلطانُ من معجزاتٍ متنوِّعةٍ في سائر الأماكن؛ فما رأيناهُ هنا في المعرِضِ، أو في الميدانِ، أو في القصرِ، من الأمورِ العجيبة له نَماذجُ في كل مكان، إلّا أنه يَختلِف من حيثُ الشَّكلُ والتَّركيبُ. | ||
407. satır: | 400. satır: | ||
انظر إلى هذا النَّبيِّ الكريمِ.. إلامَ يدعُو؟ إنه يَدعُو إلى السعادةِ الأبديَّةِ في صَلاةٍ كُبرَى شامِلة، وفي عبادةٍ رفيعةٍ مُستَغرِقَةٍ، حتى إنَّ الجزيرةَ العربيةَ، بل الأرضَ برُمَّتِها، كأنها تُصَلِّي مع صلاتِه، وتَبتَهِلُ إلى الله بابْتِهالِه الجميلِ، ذلك لأن عُبوديتَه ﷺ تتَضمَّنُ عبوديةَ جميعِ أُمَّتِه الذين اتَّبعوهُ، كما تتضَمَّنُ -بسر الموافقَةِ في الأصول- سرَّ العبوديةِ لجميع الأنبياءِ عليهم السلام؛ | انظر إلى هذا النَّبيِّ الكريمِ.. إلامَ يدعُو؟ إنه يَدعُو إلى السعادةِ الأبديَّةِ في صَلاةٍ كُبرَى شامِلة، وفي عبادةٍ رفيعةٍ مُستَغرِقَةٍ، حتى إنَّ الجزيرةَ العربيةَ، بل الأرضَ برُمَّتِها، كأنها تُصَلِّي مع صلاتِه، وتَبتَهِلُ إلى الله بابْتِهالِه الجميلِ، ذلك لأن عُبوديتَه ﷺ تتَضمَّنُ عبوديةَ جميعِ أُمَّتِه الذين اتَّبعوهُ، كما تتضَمَّنُ -بسر الموافقَةِ في الأصول- سرَّ العبوديةِ لجميع الأنبياءِ عليهم السلام؛ | ||
فهو يَؤُمُّ صلاةً كُبرَى أيَّما صلاةٍ! ويَتضرَّعُ بدعاءٍ -ويا له من تضرُّعٍ رَقيقٍ- في خُلُقٍ عظيمٍ، كأن الذين تنوَّروا بنور الإيمان -من لدُن آدمَ عليه السلام إلى الآنَ وإلى يومِ القيامة- اقتدوا به، وأمَّنوا على دُعائِه.(<ref> | |||
نعم، إن جميعَ الصلواتِ التي تُقيمُها الأمةُ كلُّها، منذ المناجاةِ الأحمدية -على صاحبها الصلاةُ والسلامُ- وجميعَ الصلوات والتسليمات التي تبعثُها إلى النبي ﷺإن هي إلّا تأمينٌ دائمٌ لدعائِه، ومُشاركةٌ عامةٌ معه، حتى إن كلَّ صلاةٍ وسلام عليه هو تأمينٌ على ذلك الدعاء؛ وأن ما يؤديه كلُّ فردٍ من أفرادِ الأمَّةِ من الصلوات عليه في الصلاة، ومن الدعاءِ عَقِب الإقامة -لدى الشافعية- إنما هو تأمينٌ عامٌ على ذلك الدعاء الذي يدعو به للسعادة الأبدية.. فالنبيُّ ﷺ يرجو في دعائِه باسم البشريَّة قاطبةً البقاءَ والسعادةَ الأبدية، وهذا هو ما يريدُه الإنسانُ ويرجوهُ بكل ما أوتي من قوةٍ بلسان حالِ فطرتِه، لذا يؤمِّنُ خَلفَه جميعُ الذين تَنوَّروا بنورِ الإيمان.. فهل يمكنُ ألّا يُقرَنَ هذا الدعاءُ بالقبولِ والاستجابة؟! (المؤلف) | نعم، إن جميعَ الصلواتِ التي تُقيمُها الأمةُ كلُّها، منذ المناجاةِ الأحمدية -على صاحبها الصلاةُ والسلامُ- وجميعَ الصلوات والتسليمات التي تبعثُها إلى النبي ﷺإن هي إلّا تأمينٌ دائمٌ لدعائِه، ومُشاركةٌ عامةٌ معه، حتى إن كلَّ صلاةٍ وسلام عليه هو تأمينٌ على ذلك الدعاء؛ وأن ما يؤديه كلُّ فردٍ من أفرادِ الأمَّةِ من الصلوات عليه في الصلاة، ومن الدعاءِ عَقِب الإقامة -لدى الشافعية- إنما هو تأمينٌ عامٌ على ذلك الدعاء الذي يدعو به للسعادة الأبدية.. فالنبيُّ ﷺ يرجو في دعائِه باسم البشريَّة قاطبةً البقاءَ والسعادةَ الأبدية، وهذا هو ما يريدُه الإنسانُ ويرجوهُ بكل ما أوتي من قوةٍ بلسان حالِ فطرتِه، لذا يؤمِّنُ خَلفَه جميعُ الذين تَنوَّروا بنورِ الإيمان.. فهل يمكنُ ألّا يُقرَنَ هذا الدعاءُ بالقبولِ والاستجابة؟! (المؤلف) | ||
</ref>) | </ref>) | ||
436. satır: | 429. satır: | ||
فهل من الممكن يا تُرَى لاِنتِظامِ العالَمِ البَديعِ الذي حَيَّرَ العقولَ، والصَّنعةِ المُتقنَةِ وجَمالِ الربوبيةِ الشامِلةِ في إِطارِ الرحمةِ الواسِعةِ، أنْ يَقبلَ قُبحا فظيعا وظُلما شنِيعا وفوضَى ضاربةً أطنابَها، بعدمِ استجابَة ذلك الدعاءِ أي أن لا يُراعِيَ ولا يسمعَ ولا يُنجِزَ أكثرَ الرغباتِ أهمّيةً، وأشدَّها ضرورةً في حينِ أنه يُراعِي باهتمام بالغ أبسطَ الرغباتِ وأصْغرَها، ويَسمعُ أخْفتَ الأصواتِ وأدقَّها ويقضِي لكلِّ ذي حاجةٍ حاجتَه! كلّا ثُمَّ كلّا أَلفُ أَلفِ مَرة، إن مثلَ هذا الجمالِ يَأبَى التَّشوُّهَ ولنْ يكونَ قَبيحًا؛(<ref>نعم، إنَّ انقلابَ الحقائقِ محالٌ بالاتِّفاقِ، وأشدُّ مُحالاتِه هو انقِلابُ الضِّدِّ إلى ضدِّه؛ وضِمنَ عدَمِ إمكانِ انقلابِ الحقائق إلى أضدادِها حَقيقةٌ لا تَقبلُ الضِّدَّ قطعا، وهي انقلابُ الشَّيءِ مع احتفاظِهِ بماهيَّتِه إلى عينِ ضِدِّه، كأن يَنقلبَ الجمالُ المطلقُ مع احتفاظِه بهذا الجمالِ إلى القُبحِ الحقيقيِّ! فتَحوُّلُ جمالِ الربوبيةِ الواضحِ والظاهرِ ظهورا جَليا إلى ضِدِّهِ مع بقائِه على ماهيَّتِه هو أشَدُّ مُحالا وأكثرُ عجبا في أحكامِ العقل. (المؤلف)</ref>) | فهل من الممكن يا تُرَى لاِنتِظامِ العالَمِ البَديعِ الذي حَيَّرَ العقولَ، والصَّنعةِ المُتقنَةِ وجَمالِ الربوبيةِ الشامِلةِ في إِطارِ الرحمةِ الواسِعةِ، أنْ يَقبلَ قُبحا فظيعا وظُلما شنِيعا وفوضَى ضاربةً أطنابَها، بعدمِ استجابَة ذلك الدعاءِ أي أن لا يُراعِيَ ولا يسمعَ ولا يُنجِزَ أكثرَ الرغباتِ أهمّيةً، وأشدَّها ضرورةً في حينِ أنه يُراعِي باهتمام بالغ أبسطَ الرغباتِ وأصْغرَها، ويَسمعُ أخْفتَ الأصواتِ وأدقَّها ويقضِي لكلِّ ذي حاجةٍ حاجتَه! كلّا ثُمَّ كلّا أَلفُ أَلفِ مَرة، إن مثلَ هذا الجمالِ يَأبَى التَّشوُّهَ ولنْ يكونَ قَبيحًا؛(<ref>نعم، إنَّ انقلابَ الحقائقِ محالٌ بالاتِّفاقِ، وأشدُّ مُحالاتِه هو انقِلابُ الضِّدِّ إلى ضدِّه؛ وضِمنَ عدَمِ إمكانِ انقلابِ الحقائق إلى أضدادِها حَقيقةٌ لا تَقبلُ الضِّدَّ قطعا، وهي انقلابُ الشَّيءِ مع احتفاظِهِ بماهيَّتِه إلى عينِ ضِدِّه، كأن يَنقلبَ الجمالُ المطلقُ مع احتفاظِه بهذا الجمالِ إلى القُبحِ الحقيقيِّ! فتَحوُّلُ جمالِ الربوبيةِ الواضحِ والظاهرِ ظهورا جَليا إلى ضِدِّهِ مع بقائِه على ماهيَّتِه هو أشَدُّ مُحالا وأكثرُ عجبا في أحكامِ العقل. (المؤلف)</ref>) | ||
فالرسولُ ﷺ إذن يَفتَحُ بعبوديّتِه بابَ الآخِرةِ مثلما فَتحَ برسالتِه بابَ الدنيا. | |||
عَلَيْهِ صَلَوَاتُ الرَّحْمٰنِ مِلْءَ الدُّنْيَا وَدَارِ الْجِنَانِ | عَلَيْهِ صَلَوَاتُ الرَّحْمٰنِ مِلْءَ الدُّنْيَا وَدَارِ الْجِنَانِ | ||
583. satır: | 576. satır: | ||
نعم، إن الذي يُحيِي هذه الأرضَ الهائلةَ -وهي مَعرِضُ العجائبِ- ويميتُها كأدنى حيوانٍ، والذي جعلَها مهدًا مُريحا وسفينةً جميلةً للإنسان والحيوان، وجعلَ الشمسَ ضياءً وموقِدا لهذا المضيف، وجعل الكواكبَ السيّارةَ والنجومَ اللامِعةَ مساكنَ طائراتٍ للملائكة.. إن ربوبيةً خالدةً جليلةً إلى هذا الحدِّ، وحاكميةً محيطةً عَظِيمةً إلى هذه الدرجةِ، لا تَستقِران ولا تَنحصِرانِ في أمورِ الدنيا الفانيةِ الزائِلةِ الواهيةِ السَّيالَةِ التافِهةِ المتغَيرةِ.. | نعم، إن الذي يُحيِي هذه الأرضَ الهائلةَ -وهي مَعرِضُ العجائبِ- ويميتُها كأدنى حيوانٍ، والذي جعلَها مهدًا مُريحا وسفينةً جميلةً للإنسان والحيوان، وجعلَ الشمسَ ضياءً وموقِدا لهذا المضيف، وجعل الكواكبَ السيّارةَ والنجومَ اللامِعةَ مساكنَ طائراتٍ للملائكة.. إن ربوبيةً خالدةً جليلةً إلى هذا الحدِّ، وحاكميةً محيطةً عَظِيمةً إلى هذه الدرجةِ، لا تَستقِران ولا تَنحصِرانِ في أمورِ الدنيا الفانيةِ الزائِلةِ الواهيةِ السَّيالَةِ التافِهةِ المتغَيرةِ.. | ||
فلابدَّ أن هناك دارًا أخرى باقيةً، دائِمةً، جَليلةً، عظِيمةً، مُستقِرةً، تليقُ به سبحانَه فهو يسوقُنا إلى السعي الدائبِ لأجل تلك الممالِكِ والديارِ ويدعونا إليه ويَنقُلُنا إلى هناك.. يَشهَد على هذا أصحابُ الأرواحِ النيِّرَةِ، وأقطابُ القلوبِ المنوَّرةِ، وأربابُ العقولِ النُّورانِيةِ، الذين نَفَذُوا من الظاهر إلى الحقيقة، والذين نالوا شرفَ التقرب إليه سبحانه، فهم يُبلِّغونَنا متفقِين أنه سبحانه قد أعدَّ ثوابا وجزاءً، وأنه يَعِد وعدا قاطعا، ويوعِدُ وعيدا جازمًا. | |||
فإخلافُ الوعد لا يمكن أن يَدنوَ إلى جلاله المقدَّسِ، لأنه ذلّةٌ وتذَللٌ، وأما إخلافُ الوعيد فهو ناشئٌ من العفو أو العجزِ؛ والحال أن الكفرَ جنايةٌ مطلقةٌ (<ref> | فإخلافُ الوعد لا يمكن أن يَدنوَ إلى جلاله المقدَّسِ، لأنه ذلّةٌ وتذَللٌ، وأما إخلافُ الوعيد فهو ناشئٌ من العفو أو العجزِ؛ والحال أن الكفرَ جنايةٌ مطلقةٌ (<ref> | ||
621. satır: | 614. satır: | ||
وإذا افتُرضَ المُحالُ، وهو أنَّ السلطانَ السَّرمدِيَّ -الذي يُديرُ هذه الأمورَ، ويُغيِّرُ هؤلاءِ الضيوفَ والمستضافاتِ باستِمرارٍ- ليستْ لهُ منازِلُ دائِمةٌ ولا أماكِنُ راقيةٌ سامِيةٌ ولا مَقاماتٌ ثابتةٌ ولا مساكنُ باقِيةٌ ولا رَعايَا خالِدُون، ولا عِبادٌ سُعداءُ في مملكتِه الخالدةِ؛ يَلزَمُ عِندَئذٍ إنكارُ الحقائقِ الأربعةِ: «الحِكمة والعَدالَة والعِنايَة والرَّحمَة» التي هِي عَناصِرُ معنوِيةٌ قوِيّةٌ شامِلةٌ، كالنورِ والهواءِ والماءِ والتُّرابِ، وإنكارُ وجودِها الظاهِرِ ظهورَ تلك العناصِرِ، لأنه من المعلومِ أنَّ هذه الدنيا وما فيها لا تَفِي لظُهورِ تلكَ الحقائِقِ، فَلوْ لم يكن هناكَ في مكانٍ آخرَ ما هو أهلٌ لها، فيَجبُ إنكارُ هذه الحِكمةِ الموجودَةِ في كلِّ شيءٍ أمامَنا -بجُنونِ من يُنكِرُ الشمسَ التي يَملأُ نورُها النهارَ- وإنكارُ هذه العنايَةِ التي نُشاهِدُها دائما في أنفسِنا وفي أغلبِ الأشياء.. | وإذا افتُرضَ المُحالُ، وهو أنَّ السلطانَ السَّرمدِيَّ -الذي يُديرُ هذه الأمورَ، ويُغيِّرُ هؤلاءِ الضيوفَ والمستضافاتِ باستِمرارٍ- ليستْ لهُ منازِلُ دائِمةٌ ولا أماكِنُ راقيةٌ سامِيةٌ ولا مَقاماتٌ ثابتةٌ ولا مساكنُ باقِيةٌ ولا رَعايَا خالِدُون، ولا عِبادٌ سُعداءُ في مملكتِه الخالدةِ؛ يَلزَمُ عِندَئذٍ إنكارُ الحقائقِ الأربعةِ: «الحِكمة والعَدالَة والعِنايَة والرَّحمَة» التي هِي عَناصِرُ معنوِيةٌ قوِيّةٌ شامِلةٌ، كالنورِ والهواءِ والماءِ والتُّرابِ، وإنكارُ وجودِها الظاهِرِ ظهورَ تلك العناصِرِ، لأنه من المعلومِ أنَّ هذه الدنيا وما فيها لا تَفِي لظُهورِ تلكَ الحقائِقِ، فَلوْ لم يكن هناكَ في مكانٍ آخرَ ما هو أهلٌ لها، فيَجبُ إنكارُ هذه الحِكمةِ الموجودَةِ في كلِّ شيءٍ أمامَنا -بجُنونِ من يُنكِرُ الشمسَ التي يَملأُ نورُها النهارَ- وإنكارُ هذه العنايَةِ التي نُشاهِدُها دائما في أنفسِنا وفي أغلبِ الأشياء.. | ||
وإنكارُ هذه العدالةِ الجليَّةِ الظاهِرةِ الأماراتِ..(<ref> | |||
نعم، إنَّ العدالةَ شِقّانِ أحدُهُما إيجابيّ، والآخرُ سَلبِيّ: أما الإيجابيُّ فهو: إعطاءُ كلِّ ذي حقٍ حَقَّهُ؛ فهذا القِسمُ من العدالةِ مُـحيطٌ وشامِلٌ لكلِّ ما في هذه الدنيا لدرجةِ البداهَةِ، فكما أثبتنا في «الحقيقة الثالثة» بأنَّ ما يطلُبُه كلُّ شيءٍ وما هو ضَرورِيٌّ لوجودِه وإدامَةِ حياتِه، تلك المطالِبُ التي يطلُبُها بلسان استِعدادِه وبِلُغةِ حاجاتِه الفطريَّةِ وبلسانِ اضطرارِهِ من الفاطرِ ذي الجلالِ تَأتِيهِ بميزانٍ خاصٍ دَقِيـقٍ، وبمعايِيرَ ومقايِيسَ مُعيَّنةٍ، أي إن هذا القِسمَ من العَدالةِ ظاهرٌ ظهورَ الوجودِ والحياةِ؛ وأما القِسمُ السَّلبيّ فهو: تأديبُ غيرِ المحِقِّين، أي إحقاقُ الحقِّ بإنزالِ الجزاءِ والعذابِ عليهم، | نعم، إنَّ العدالةَ شِقّانِ أحدُهُما إيجابيّ، والآخرُ سَلبِيّ: أما الإيجابيُّ فهو: إعطاءُ كلِّ ذي حقٍ حَقَّهُ؛ فهذا القِسمُ من العدالةِ مُـحيطٌ وشامِلٌ لكلِّ ما في هذه الدنيا لدرجةِ البداهَةِ، فكما أثبتنا في «الحقيقة الثالثة» بأنَّ ما يطلُبُه كلُّ شيءٍ وما هو ضَرورِيٌّ لوجودِه وإدامَةِ حياتِه، تلك المطالِبُ التي يطلُبُها بلسان استِعدادِه وبِلُغةِ حاجاتِه الفطريَّةِ وبلسانِ اضطرارِهِ من الفاطرِ ذي الجلالِ تَأتِيهِ بميزانٍ خاصٍ دَقِيـقٍ، وبمعايِيرَ ومقايِيسَ مُعيَّنةٍ، أي إن هذا القِسمَ من العَدالةِ ظاهرٌ ظهورَ الوجودِ والحياةِ؛ وأما القِسمُ السَّلبيّ فهو: تأديبُ غيرِ المحِقِّين، أي إحقاقُ الحقِّ بإنزالِ الجزاءِ والعذابِ عليهم، | ||
<br> | <br> | ||
فهذا القِسمُ وإن كان لا يَظهَرُ بجلاءٍ في هذه الدنيا إلّا أن هنالك إشاراتٍ وأماراتٍ تدل على هذه الحقيقةِ؛ خذ مثلا سَوْطَ العذابِ وصَفعاتِ التأديبِ التي نَزلتْ بقوم عادٍ وثَمودَ بل بالأقوام المتمرِّدَةِ في عصرنا هذا، مما يُظهِرُ بالحدْسِ القَطعِيِّ هَيمَنةَ العدالةِ الساميةِ وسِيادَتَها. (المؤلف). | فهذا القِسمُ وإن كان لا يَظهَرُ بجلاءٍ في هذه الدنيا إلّا أن هنالك إشاراتٍ وأماراتٍ تدل على هذه الحقيقةِ؛ خذ مثلا سَوْطَ العذابِ وصَفعاتِ التأديبِ التي نَزلتْ بقوم عادٍ وثَمودَ بل بالأقوام المتمرِّدَةِ في عصرنا هذا، مما يُظهِرُ بالحدْسِ القَطعِيِّ هَيمَنةَ العدالةِ الساميةِ وسِيادَتَها. (المؤلف). | ||
</ref>) وإنكارُ هذه الرَّحمةِ التي نراها في كلِّ مكان.. | </ref>) وإنكارُ هذه الرَّحمةِ التي نراها في كلِّ مكان.. وكذلك يَلزَمُ أن يُعتبَرَ صاحبُ ما نراهُ من الإجراءاتِ الحكِيمةِ والأفعالِ الكريمةِ، والآلاءِ الرَّحِيمةِ -حاشَ لله ثُمَّ حاشَ لله- لاهيًا لاعِبا ظَالِما غدَّارا تعالى الله عن ذلك عُلوا كبيرا، وما هذا إلَّا انقِلابُ الحقائِقِ بأضْدادِها، وهو مُنتهَى المُحال، حتى السُّوفسطائيُّون الذين ينكرون وجودَ كلِّ شيءٍ حتى وُجودَ أنفسِهم لا يَدنُون إلى تَصوُّرِ هذا المُحالِ بسهولَةٍ. | ||
وكذلك يَلزَمُ أن يُعتبَرَ صاحبُ ما نراهُ من الإجراءاتِ الحكِيمةِ والأفعالِ الكريمةِ، والآلاءِ الرَّحِيمةِ -حاشَ لله ثُمَّ حاشَ لله- لاهيًا لاعِبا ظَالِما غدَّارا تعالى الله عن ذلك عُلوا كبيرا، وما هذا إلَّا انقِلابُ الحقائِقِ بأضْدادِها، وهو مُنتهَى المُحال، حتى السُّوفسطائيُّون الذين ينكرون وجودَ كلِّ شيءٍ حتى وُجودَ أنفسِهم لا يَدنُون إلى تَصوُّرِ هذا المُحالِ بسهولَةٍ. | |||
والخلاصة: أنه لَيستْ هناك علاقةٌ أو مُناسَبةٌ بين ما يُشاهَدُ في شؤونِ العالمِ من تَجمعاتٍ واسِعةٍ للحياةِ، وافتراقاتٍ سَريعةٍ للموتٍ، وتَكتُّلاتٍ ضَخمةٍ، وتَشتُّتاتٍ سريعةٍ، واحتِفالاتٍ هائلةٍ، وتَجلِّياتٍ رائِعةٍ.. وبينَ ما هو معلومٌ لدينا من نَتائِجَ جُزئيةٍ، وغاياتٍ تافِهةٍ مُؤقَّتةٍ، وفَترةٍ قَصيرةٍ تعودُ إلى الدنيا الفانيةِ؛ لذا فالرَّبطُ بينهُما بعلاقةٍ، أو إيجادِ مُناسَبةٍ، لا يَنسجِمُ مع عَقلٍ ولا يتوافقُ مع حكمةٍ، إذ يُشبِه ذلك رَبْطَ حِكَمٍ هائلةٍ وغَاياتٍ عظيمةٍ كالجبلِ بحصاةٍ صَغيرةٍ جدا، ورَبْطَ غايةٍ تافهةٍ جُزئيةٍ مُؤقتَةٍ بحجمِ الحَصاةِ بجبلٍ عَظيمٍ!! | والخلاصة: أنه لَيستْ هناك علاقةٌ أو مُناسَبةٌ بين ما يُشاهَدُ في شؤونِ العالمِ من تَجمعاتٍ واسِعةٍ للحياةِ، وافتراقاتٍ سَريعةٍ للموتٍ، وتَكتُّلاتٍ ضَخمةٍ، وتَشتُّتاتٍ سريعةٍ، واحتِفالاتٍ هائلةٍ، وتَجلِّياتٍ رائِعةٍ.. وبينَ ما هو معلومٌ لدينا من نَتائِجَ جُزئيةٍ، وغاياتٍ تافِهةٍ مُؤقَّتةٍ، وفَترةٍ قَصيرةٍ تعودُ إلى الدنيا الفانيةِ؛ لذا فالرَّبطُ بينهُما بعلاقةٍ، أو إيجادِ مُناسَبةٍ، لا يَنسجِمُ مع عَقلٍ ولا يتوافقُ مع حكمةٍ، إذ يُشبِه ذلك رَبْطَ حِكَمٍ هائلةٍ وغَاياتٍ عظيمةٍ كالجبلِ بحصاةٍ صَغيرةٍ جدا، ورَبْطَ غايةٍ تافهةٍ جُزئيةٍ مُؤقتَةٍ بحجمِ الحَصاةِ بجبلٍ عَظيمٍ!! | ||
710. satır: | 701. satır: | ||
وكلُّ ما تَقدَّمَ من الأمثلةِ والإيضاحاتِ -منذُ البدايةِ- لصُوَر الحشرِ وحقائقِه ما هي إلَّا من فيضِ القرآنِ الكَريمِ، وما هي إلّا لتهيئةِ النَّفسِ للتَّسليمِ والقلبِ للقَبولِ؛ إذ القولُ الفصلُ للقرآنِ الكريمِ والكلامُ كلامُه، والقولُ قولُه، فلْنستَمِعْ إليه.. | وكلُّ ما تَقدَّمَ من الأمثلةِ والإيضاحاتِ -منذُ البدايةِ- لصُوَر الحشرِ وحقائقِه ما هي إلَّا من فيضِ القرآنِ الكَريمِ، وما هي إلّا لتهيئةِ النَّفسِ للتَّسليمِ والقلبِ للقَبولِ؛ إذ القولُ الفصلُ للقرآنِ الكريمِ والكلامُ كلامُه، والقولُ قولُه، فلْنستَمِعْ إليه.. | ||
فللّه الحجَّة البالغة.. | |||
فَانْظُرْ اِلٰٓى آثَارِ رَحْمَتِ اللّٰهِ كَيْفَ يُحْيِي الْاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا اِنَّ ذٰلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتٰى وَهُوَ عَلٰى كُلِّ شَىْءٍ قَد۪يرٌ (الروم:50) | فَانْظُرْ اِلٰٓى آثَارِ رَحْمَتِ اللّٰهِ كَيْفَ يُحْيِي الْاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا اِنَّ ذٰلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتٰى وَهُوَ عَلٰى كُلِّ شَىْءٍ قَد۪يرٌ (الروم:50) | ||
798. satır: | 789. satır: | ||
إن الحياةَ العائِليةَ هي مَركزٌ جامِعٌ لحياةِ البشرِ الدُّنيويةِ ولَولبُها وهي جَنةُ سَعادتِها وقَلعتُها الحصِينةُ وملجؤُها الأمينُ؛ وإنَّ بيتَ كلِّ فردٍ هو عالَمُه ودنياه الخاصَّةُ، فلا سَعادةَ لِروحِ الحياةِ العائِليةِ إلّا بالاحترامِ المتبادَلِ الجادِّ والوفاءِ الخالصِ بينَ الجميعِ، والرأفةِ الصَّادقةِ والرحمةِ التي تَصِلُ إلى حدِّ التضحيةِ والإيثارِ؛ ولا يَحصُلُ هذا الاحْترامُ الخالصُ والرَّحمةُ المتبادَلةُ الوَفيّةُ إلّا بالإيمانِ بوُجودِ علاقاتِ صداقةٍ أبديَّةٍ، ورِفقةٍ دائِمةٍ، ومَعيَّةٍ سرمديةٍ، في زَمنٍ لا نهايةَ له، وتحتَ ظِلِّ حياةٍ لا حدودَ لها، تربطُها علاقاتُ أُبوَّةٍ مُحترمةٍ مَرموقةٍ، وأُخوَّةٍ خالصةٍ نَقيةٍ، وصَداقةٍ وفيَّةٍ نزيهةٍ، حيث يُحدِّثُ الزوجُ نفسَه: | إن الحياةَ العائِليةَ هي مَركزٌ جامِعٌ لحياةِ البشرِ الدُّنيويةِ ولَولبُها وهي جَنةُ سَعادتِها وقَلعتُها الحصِينةُ وملجؤُها الأمينُ؛ وإنَّ بيتَ كلِّ فردٍ هو عالَمُه ودنياه الخاصَّةُ، فلا سَعادةَ لِروحِ الحياةِ العائِليةِ إلّا بالاحترامِ المتبادَلِ الجادِّ والوفاءِ الخالصِ بينَ الجميعِ، والرأفةِ الصَّادقةِ والرحمةِ التي تَصِلُ إلى حدِّ التضحيةِ والإيثارِ؛ ولا يَحصُلُ هذا الاحْترامُ الخالصُ والرَّحمةُ المتبادَلةُ الوَفيّةُ إلّا بالإيمانِ بوُجودِ علاقاتِ صداقةٍ أبديَّةٍ، ورِفقةٍ دائِمةٍ، ومَعيَّةٍ سرمديةٍ، في زَمنٍ لا نهايةَ له، وتحتَ ظِلِّ حياةٍ لا حدودَ لها، تربطُها علاقاتُ أُبوَّةٍ مُحترمةٍ مَرموقةٍ، وأُخوَّةٍ خالصةٍ نَقيةٍ، وصَداقةٍ وفيَّةٍ نزيهةٍ، حيث يُحدِّثُ الزوجُ نفسَه: | ||
«إن زَوجتِي هذه رفيقةُ حياتي وصَاحبتِي في عالَمِ الأبَدِ والحياةِ الخالدةِ، فلا ضَيرَ إنْ أصبحَتِ الآن دميمةً أو عجوزًا، إذ إن لها جمالا أبَديًّا سيأتي، لذا فأنا مُستعِدٌّ لتقديمِ أقصَى ما يَستوجِبُه الوفاءُ والرأفةُ، وأُضحِّي بِكلِّ ما تتطلَّبُه تلك الصداقةُ الدائِمةُ».. | |||
وهكذا يُمكِن أن يُكِنَّ هذا الرجلُ حُبًّا ورحمةً لزوجتِه العجوزِ كما يُكِنُّه للحورِ العِين؛ وإلّا فإنَّ صُحبةً وصداقةً صُورِيةً تَستغرِقُ ساعةً أو ساعتَينِ ومن ثَم يعقُبُها فراقٌ أبديٌّ ومُفارَقةٌ دائِمةٌ لهيَ صُحبةٌ وصداقةٌ ظاهرِيَّةٌ لا أساسَ لها ولا سَندَ، ولا يُمكنُها أن تُعطِيَ إلّا رَحمةً مَجازِيةً، واحترامًا مُصطَنعًا، وعَطفًا حَيوانيَّ المشاعرِ، فضلا عن تدخُّلِ المصالحِ والشهواتِ النَّفسانِيةِ وسَيطرتِها على تلك الرَّحمةِ والاحترامِ فتَنقلِبُ عِندَئذٍ تلك الجنةُ الدُّنيويةُ إلى جَحيمٍ لا يُطاقُ. | وهكذا يُمكِن أن يُكِنَّ هذا الرجلُ حُبًّا ورحمةً لزوجتِه العجوزِ كما يُكِنُّه للحورِ العِين؛ وإلّا فإنَّ صُحبةً وصداقةً صُورِيةً تَستغرِقُ ساعةً أو ساعتَينِ ومن ثَم يعقُبُها فراقٌ أبديٌّ ومُفارَقةٌ دائِمةٌ لهيَ صُحبةٌ وصداقةٌ ظاهرِيَّةٌ لا أساسَ لها ولا سَندَ، ولا يُمكنُها أن تُعطِيَ إلّا رَحمةً مَجازِيةً، واحترامًا مُصطَنعًا، وعَطفًا حَيوانيَّ المشاعرِ، فضلا عن تدخُّلِ المصالحِ والشهواتِ النَّفسانِيةِ وسَيطرتِها على تلك الرَّحمةِ والاحترامِ فتَنقلِبُ عِندَئذٍ تلك الجنةُ الدُّنيويةُ إلى جَحيمٍ لا يُطاقُ. | ||
867. satır: | 858. satır: | ||
وما دام مالِكُ الملكِ قد اختارَ الأرضَ من الكَونِ، واختارَ الإنسانَ من الأرضِ، ووَهبَ له مَكانةً سامِيةً، وأَوْلاهُ الاهتِمامَ والعِنايةَ، واختارَ الأنبياءَ والأولياءَ والأصفياءَ من بينِ الناسِ، وهمُ الذينَ انسجَموا مع المقاصِدِ الربانِيّةِ، وحبَّبُوا أنفسَهم إليهِ بالإيمانِ والتسلِيمِ، وجَعَلهُم أولياءَه المحبوبِينَ المخاطَبِينَ له، وأكرمَهم بالمعجزاتِ والتوفيقِ في الأعمالِ وأدَّبَ أعداءَهم بالصفَعاتِ السماوِيّةِ، | وما دام مالِكُ الملكِ قد اختارَ الأرضَ من الكَونِ، واختارَ الإنسانَ من الأرضِ، ووَهبَ له مَكانةً سامِيةً، وأَوْلاهُ الاهتِمامَ والعِنايةَ، واختارَ الأنبياءَ والأولياءَ والأصفياءَ من بينِ الناسِ، وهمُ الذينَ انسجَموا مع المقاصِدِ الربانِيّةِ، وحبَّبُوا أنفسَهم إليهِ بالإيمانِ والتسلِيمِ، وجَعَلهُم أولياءَه المحبوبِينَ المخاطَبِينَ له، وأكرمَهم بالمعجزاتِ والتوفيقِ في الأعمالِ وأدَّبَ أعداءَهم بالصفَعاتِ السماوِيّةِ، | ||
واصْطفَى من بينِ هؤلاءِ المحبوبِينَ إمامَهم ورَمْزَ فَخرِهِم واعتِزازِهِم، ألا وهو محمدٌ ﷺ؛ فنوَّرَ بنورِه نِصفَ الكُرةِ الأرضيّةِ ذاتِ الأهميةِ، وخُمُسَ البشريّةِ ذوِي الأهميةِ، طَوالَ قرُونٍ عِدّةٍ، حتى كأن الكائناتِ قد خُلِقتْ لأجلِه، لبُروزِ غاياتِها جَميعًا به، وظُهورِها بالدينِ الذي بُعِثَ به، وانجِلائِها بالقرآنِ الذي أُنزِلَ عليه؛ | |||
فبينما يَستَحِقُّ أن يُكافأَ على خِدماتِه الجليلةِ غيرِ المحدودةِ بعمُرٍ مديدٍ غيرِ مَحدودٍ وهو أهـلٌ له، إلّا أنه قضَى عمُرًا قصِيرًا وهو ثَلاثٌ وسِتونَ سنةً في مُجاهَدةٍ ونصَبٍ وتَعبٍ! فهل يُمكِن، وهل يُعقلُ مطلقًا، وهل هناك أيُّ احتمالٍ ألّا يُبعَثَ هو وأمثالُه وأحبّاؤُه معا؟! وألّا يكونَ الآنَ حيًّا بروحِه؟! وأن يفنَى نهائيا ويصيرَ إلى العَدمِ؟ كلا.. ثم كلا.. وحاشاه ألفَ ألفِ مَرّةٍ؛ نعم، إن الكونَ وجميعَ حقائِقِ العالمِ يدعُو إلى بعثِه ويُريدُه ويطلُبُ من ربِّ الكونِ حياتَه. | فبينما يَستَحِقُّ أن يُكافأَ على خِدماتِه الجليلةِ غيرِ المحدودةِ بعمُرٍ مديدٍ غيرِ مَحدودٍ وهو أهـلٌ له، إلّا أنه قضَى عمُرًا قصِيرًا وهو ثَلاثٌ وسِتونَ سنةً في مُجاهَدةٍ ونصَبٍ وتَعبٍ! فهل يُمكِن، وهل يُعقلُ مطلقًا، وهل هناك أيُّ احتمالٍ ألّا يُبعَثَ هو وأمثالُه وأحبّاؤُه معا؟! وألّا يكونَ الآنَ حيًّا بروحِه؟! وأن يفنَى نهائيا ويصيرَ إلى العَدمِ؟ كلا.. ثم كلا.. وحاشاه ألفَ ألفِ مَرّةٍ؛ نعم، إن الكونَ وجميعَ حقائِقِ العالمِ يدعُو إلى بعثِه ويُريدُه ويطلُبُ من ربِّ الكونِ حياتَه. | ||
895. satır: | 886. satır: | ||
<nowiki>*</nowiki> * * | <nowiki>*</nowiki> * * | ||
==القِطعَة الثانيةُ من الذَّيلِ == | |||
هي المقامُ الأوَّلُ من تِسعةِ مَقاماتٍ لطبقاتِ البراهِين التِّسعِ التي تَدورُ حولَ الحشرِ والتي أشارتْ إليها بإعجازٍ الآيُ الكريمةُ الآتِيةُ: | هي المقامُ الأوَّلُ من تِسعةِ مَقاماتٍ لطبقاتِ البراهِين التِّسعِ التي تَدورُ حولَ الحشرِ والتي أشارتْ إليها بإعجازٍ الآيُ الكريمةُ الآتِيةُ: | ||
962. satır: | 953. satır: | ||
وهكذا يُفهَم وجهٌ من أوجهِ الإيمانِ بالقَضاءِ والقدَرِ من سرِّ الحياةِ ويَثبُتُ به ويتَّضِحُ، أي كما تَظهَرُ حيويّةُ عالمِ الشهادةِ والموجُوداتِ الحاضرةِ بانتِظامِها وبنتائِجِها، كذلك المخلوقاتُ الماضيةُ والآتيةُ التي تُعدّ من عالمِ الغيبِ لها وجودٌ مَعنويٌّ، ذو حياةٍ معنًى، ولها ثبوتٌ عِلميٌّ ذو روحٍ بحَيثُ يَظهرُ باسمِ المقدَّراتِ أثرُ تلك الحياةِ المعنويّةِ بوساطةِ لوحِ القضاءِ والقَدَرِ. | وهكذا يُفهَم وجهٌ من أوجهِ الإيمانِ بالقَضاءِ والقدَرِ من سرِّ الحياةِ ويَثبُتُ به ويتَّضِحُ، أي كما تَظهَرُ حيويّةُ عالمِ الشهادةِ والموجُوداتِ الحاضرةِ بانتِظامِها وبنتائِجِها، كذلك المخلوقاتُ الماضيةُ والآتيةُ التي تُعدّ من عالمِ الغيبِ لها وجودٌ مَعنويٌّ، ذو حياةٍ معنًى، ولها ثبوتٌ عِلميٌّ ذو روحٍ بحَيثُ يَظهرُ باسمِ المقدَّراتِ أثرُ تلك الحياةِ المعنويّةِ بوساطةِ لوحِ القضاءِ والقَدَرِ. | ||
<span id="Zeylin_Üçüncü_Parçası"></span> | |||
== القِطعةُ الثالِثةُ من الذَّيلِ == | == القِطعةُ الثالِثةُ من الذَّيلِ == | ||
سؤالٌ يرِدُ بمناسبةِ مبحثِ الحشرِ: | سؤالٌ يرِدُ بمناسبةِ مبحثِ الحشرِ: | ||
إنَّ ما وَردَ في القرآنِ الكريمِ مِرارًا ﴿ اِنْ كَانَتْ اِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً ﴾ (يس:29)، | إنَّ ما وَردَ في القرآنِ الكريمِ مِرارًا ﴿ اِنْ كَانَتْ اِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً ﴾ (يس:29)، ﴿ وَمَٓا اَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ ﴾ (النحل:77) يُبيِّنُ لنا أنَّ الحشرَ الأعظمَ سيَظهَرُ فجأةً إلى الوُجودِ، في آنٍ واحدٍ بلا زَمانٍ؛ ولكنَّ العُقولَ الضيِّقةَ تَطلبُ أمثلةً واقعيّةً مشهودةً كي تَقبلَ وتُذعِنَ لهذا الحدَثِ الخارقِ جدا والمسألةِ التي لا مَثيلَ لها. | ||
الجواب: إنَّ في الحشرِ ثلاثَ مسائِلَ هي: عَودةُ الأرواحِ إلى الأجسادِ، وإحياءُ الأجسادِ، وإنشاءُ الأجْسادِ وبِناؤُها. | الجواب: إنَّ في الحشرِ ثلاثَ مسائِلَ هي: عَودةُ الأرواحِ إلى الأجسادِ، وإحياءُ الأجسادِ، وإنشاءُ الأجْسادِ وبِناؤُها. | ||
983. satır: | 973. satır: | ||
نعم، لما كانتِ الدنيا هي دارُ «الحِكمَةِ» والدارُ الآخِرةُ هي دارُ «القُدرَةِ» فإنَّ إيجادَ الأشياءِ في الدنيا صارَ بشيءٍ من التّدرِيجِ ومعَ الزمنِ، بمُقتضَى الحكمةِ الرَّبانِيّةِ وبموجِبِ كثيرٍ من الأسماءِ الحسنَى أمثالِ «الحكيمِ، المُرتِّبِ، المدبِّرِ، المربِّي». | نعم، لما كانتِ الدنيا هي دارُ «الحِكمَةِ» والدارُ الآخِرةُ هي دارُ «القُدرَةِ» فإنَّ إيجادَ الأشياءِ في الدنيا صارَ بشيءٍ من التّدرِيجِ ومعَ الزمنِ، بمُقتضَى الحكمةِ الرَّبانِيّةِ وبموجِبِ كثيرٍ من الأسماءِ الحسنَى أمثالِ «الحكيمِ، المُرتِّبِ، المدبِّرِ، المربِّي». | ||
أمّا في الآخرةِ فإنَّ «القُدرةَ» و«الرَّحمةَ» تتظاهَرانِ أكثرَ من «الحِكمةِ» فلا حَاجةَ إلى المادّةِ والمُدّةِ والزَّمنِ ولا إلى الانتِظارِ، فالأشياءُ تُنشأُ هناكَ نشأةً آنيّةً؛ وما يُشِيرُ إليهِ القرآنُ الكريمُ بـ | أمّا في الآخرةِ فإنَّ «القُدرةَ» و«الرَّحمةَ» تتظاهَرانِ أكثرَ من «الحِكمةِ» فلا حَاجةَ إلى المادّةِ والمُدّةِ والزَّمنِ ولا إلى الانتِظارِ، فالأشياءُ تُنشأُ هناكَ نشأةً آنيّةً؛ وما يُشِيرُ إليهِ القرآنُ الكريمُ بـ وَمَٓا اَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ اَوْ هُوَ أَقْرَبُ (النحل:77)،هو أنَّ ما يَنشأُ هنا من الأشياءِ في يومٍ واحِدٍ وفي سنةٍ واحدةٍ ينشأُ في لَمْحةٍ واحدةٍ كلمحِ البصرِ في الآخِرةِ. | ||
وإذا كنتَ تَرغبُ أنْ تفهمَ أنَّ مجيءَ الحشرِ أمرٌ قطعيٌّ كقطعِيّةِ مجيءِ الربيعِ المقبلِ وحَتمِيّتِهِ، فانْعِمِ النظرَ في «الكلمةِ العاشِرةِ» و«الكلمةِ التاسِعةِ والعشرينَ»، وإن لم تُصدِّق به كمَجيءِ هذا الربيعِ، فلكَ أن تُحاسِبَنِي حِسابًا عَسيرًا. | وإذا كنتَ تَرغبُ أنْ تفهمَ أنَّ مجيءَ الحشرِ أمرٌ قطعيٌّ كقطعِيّةِ مجيءِ الربيعِ المقبلِ وحَتمِيّتِهِ، فانْعِمِ النظرَ في «الكلمةِ العاشِرةِ» و«الكلمةِ التاسِعةِ والعشرينَ»، وإن لم تُصدِّق به كمَجيءِ هذا الربيعِ، فلكَ أن تُحاسِبَنِي حِسابًا عَسيرًا. | ||
1.006. satır: | 992. satır: | ||
كذلك، فإن الذي أوجدَ أجسادَ الحيواناتِ كافّةً، وذوِي الحياةِ كافّةً من العَدمِ، تلكَ الأجسادَ التي هي كالفِرقِ العسكَريّةِ للكائناتِ الشبِيهةِ بالجيشِ الضَّخمِ ونظَّمَ ذرَّاتِها ولطائِفَها ووضَعَها في موضِعِها اللائقِ، بنظامٍ كاملٍ وميزانٍ حَكيمٍ بأمرِ «كنْ فيكونُ»، وهو الذي يَخلقُ في كلِّ قَرنٍ بل في كلِّ ربيعٍ، مئاتِ الآلافِ من أنواعِ ذوِي الحياةِ وطوائفِها الشَّبيهَةِ بالجيشِ.. فهل يمكنُ أن يُسألَ هذا القَديرُ وهذا العلِيمُ كيفَ سيَجمعُ بصَيحةٍ واحِدةٍ من بوقِ إسرافيلَ جميعَ الذراتِ الأساسيّةِ والأجزاءِ الأصليّةِ من الجنودِ المتعارِفينَ تحتَ لواءِ فِرْقةِ الجسَدِ ونظامِه؟! وهل يمكن أن يُستَبعَدَ هذا منه؟ أوَ ليسَ استِبعادُه بلاهةً وجنونًا؟ | كذلك، فإن الذي أوجدَ أجسادَ الحيواناتِ كافّةً، وذوِي الحياةِ كافّةً من العَدمِ، تلكَ الأجسادَ التي هي كالفِرقِ العسكَريّةِ للكائناتِ الشبِيهةِ بالجيشِ الضَّخمِ ونظَّمَ ذرَّاتِها ولطائِفَها ووضَعَها في موضِعِها اللائقِ، بنظامٍ كاملٍ وميزانٍ حَكيمٍ بأمرِ «كنْ فيكونُ»، وهو الذي يَخلقُ في كلِّ قَرنٍ بل في كلِّ ربيعٍ، مئاتِ الآلافِ من أنواعِ ذوِي الحياةِ وطوائفِها الشَّبيهَةِ بالجيشِ.. فهل يمكنُ أن يُسألَ هذا القَديرُ وهذا العلِيمُ كيفَ سيَجمعُ بصَيحةٍ واحِدةٍ من بوقِ إسرافيلَ جميعَ الذراتِ الأساسيّةِ والأجزاءِ الأصليّةِ من الجنودِ المتعارِفينَ تحتَ لواءِ فِرْقةِ الجسَدِ ونظامِه؟! وهل يمكن أن يُستَبعَدَ هذا منه؟ أوَ ليسَ استِبعادُه بلاهةً وجنونًا؟ | ||
وكذلكَ فإنَّ القرآنَ الكريمَ قد يذكرُ من أفعالِ الله الدنيويّةِ العَجيبةِ والبديعةِ كي يُعِدَّ الأذْهانَ للتّصدِيقِ ويُحضِّرَ القُلوبَ للإيمانِ بأفعالِه المعجِزةِ في الآخرةِ؛ أو أنه يُصَوِّرُ الأفعالَ الإلهيّةَ العجيبةَ التي ستَحدُثُ في المستقبلِ والآخِرةِ بشَكلٍ نَقنَعُ ونَطمئِنُّ إليه بما نشاهِدُه من نظائرِها العديدةِ، فمثلا: | وكذلكَ فإنَّ القرآنَ الكريمَ قد يذكرُ من أفعالِ الله الدنيويّةِ العَجيبةِ والبديعةِ كي يُعِدَّ الأذْهانَ للتّصدِيقِ ويُحضِّرَ القُلوبَ للإيمانِ بأفعالِه المعجِزةِ في الآخرةِ؛ أو أنه يُصَوِّرُ الأفعالَ الإلهيّةَ العجيبةَ التي ستَحدُثُ في المستقبلِ والآخِرةِ بشَكلٍ نَقنَعُ ونَطمئِنُّ إليه بما نشاهِدُه من نظائرِها العديدةِ، فمثلا: اَوَلَمْ يَرَ الْاِنْسَانُ اَنَّاخَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَاِذَا هُوَخَص۪يمٌ مُب۪ينٌ إلى آخرِ سُورةِ (يس).. هنا في قَضيّةِ الحشرِ، يُثبِتُ القرآنُ الكريمُ ويسُوقُ البراهينَ عليها، بسبعِ أو ثماني صُوَرٍ مُختلِفةٍ مُتنوِّعةٍ. | ||
إلى آخرِ سُورةِ (يس).. هنا في قَضيّةِ الحشرِ، يُثبِتُ القرآنُ الكريمُ ويسُوقُ البراهينَ عليها، بسبعِ أو ثماني صُوَرٍ مُختلِفةٍ مُتنوِّعةٍ. | |||
إنه يُقدِّمُ النشأةَ الأُولى أوّلا، ويَعرِضُها للأنظارِ قائلا: إنكم ترَونَ نشأتكُم من النطفةِ إلى العَلقةِ ومن العلقةِ إلى المضغةِ ومن المضغةِ إلى خَلقِ الإنسانِ، فكيفَ تُنكِرونَ إذن النشأةَ الأُخرَى التي هي مثلُ هذه بل أهْونُ مِنها؟.. | إنه يُقدِّمُ النشأةَ الأُولى أوّلا، ويَعرِضُها للأنظارِ قائلا: إنكم ترَونَ نشأتكُم من النطفةِ إلى العَلقةِ ومن العلقةِ إلى المضغةِ ومن المضغةِ إلى خَلقِ الإنسانِ، فكيفَ تُنكِرونَ إذن النشأةَ الأُخرَى التي هي مثلُ هذه بل أهْونُ مِنها؟.. | ||
ثم يُشِيرُ بـ | ثم يُشِيرُ بـ(اَلَّذ۪ي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْاَخْضَرِ نَارًا) (يس:80) إلى تلك الآلاءِ وذلك الإحسانِ والإنعامِ الذي أنعمَه الحقُّ سُبحانَه على الإنسانِ، قائلًا: إنَّ الذي يُنعِمُ عليكم مثلَ هذه النِّعمِ، لن يَترُكَكم سُدًى ولا عبثًا، لتدخُلوا القبرَ وتناموا دونَ قيامٍ.. | ||
(اَلَّذ۪ي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْاَخْضَرِ نَارًا) (يس:80) | |||
إلى تلك الآلاءِ وذلك الإحسانِ والإنعامِ الذي أنعمَه الحقُّ سُبحانَه على الإنسانِ، قائلًا: إنَّ الذي يُنعِمُ عليكم مثلَ هذه النِّعمِ، لن يَترُكَكم سُدًى ولا عبثًا، لتدخُلوا القبرَ وتناموا دونَ قيامٍ.. | |||
ثم إنَّه يقولُ رمزا: إنكم ترَونَ إحياءَ واخْضِرارَ الأشجارِ الميِّتةِ، فكيفَ تَستَبعِدونَ اكتسابَ العظامِ الشبيهةِ بالحطبِ للحياةِ ولا تَقيسُونَ عليها؟.. | ثم إنَّه يقولُ رمزا: إنكم ترَونَ إحياءَ واخْضِرارَ الأشجارِ الميِّتةِ، فكيفَ تَستَبعِدونَ اكتسابَ العظامِ الشبيهةِ بالحطبِ للحياةِ ولا تَقيسُونَ عليها؟.. | ||
1.068. satır: | 1.046. satır: | ||
وكذا، عِشقُ البقاءِ، والشوقُ إلى الأبديةِ وآمالُ السرمَديةِ الشديدةُ المغروزةُ غَرزًا لا انفصامَ لها في فطرةِ هذا الإنسانِ الذي هو أكملُ ثمَرةٍ لهذا الكونِ، وأحبُّ مخلوقٍ إلى خالقِ الكونِ،
وهو أَوْثقُ صلةً مع موجوداتِ الكون كلِّه، لا شكَّ أنه يشيرُ بالبداهةِ إلى وجودِ عالَم باقٍ بعدَ هذا العالمِ الفانِي، وإلى وجودِ عالمِ الآخرةِ ودارِ السَّعادةِ الأبديَّةِ. | وكذا، عِشقُ البقاءِ، والشوقُ إلى الأبديةِ وآمالُ السرمَديةِ الشديدةُ المغروزةُ غَرزًا لا انفصامَ لها في فطرةِ هذا الإنسانِ الذي هو أكملُ ثمَرةٍ لهذا الكونِ، وأحبُّ مخلوقٍ إلى خالقِ الكونِ،
وهو أَوْثقُ صلةً مع موجوداتِ الكون كلِّه، لا شكَّ أنه يشيرُ بالبداهةِ إلى وجودِ عالَم باقٍ بعدَ هذا العالمِ الفانِي، وإلى وجودِ عالمِ الآخرةِ ودارِ السَّعادةِ الأبديَّةِ. | ||
فجميعُ هذه الدلائلِ تُثبِتُ وجودَ الآخرةِ إلى حدٍّ يَستلزِمُ قبولَها بمثل بداهةِ وجودِ الدُّنيا. (<ref> | فجميعُ هذه الدلائلِ تُثبِتُ وجودَ الآخرةِ إلى حدٍّ يَستلزِمُ قبولَها بمثل بداهةِ وجودِ الدُّنيا. (<ref> | ||
إنَّ مدى السُّهولةِ في «إخبارِ الأمر الثبوتي» ومدَى الصعوبةِ والإشكالِ في «نفي وإنكار» ذلك، يَظهَر في المثالِ الآتي:إذا قال أحدُهم: إن هناك -على سطح الأرض- حديقةً خارقةً جدا ثمارُها كعُلبِ الحليبِ، وأنكرَ عليهِ الآخرُ قولَه هذا قائلا: لا، لا توجدُ مثلُ هذه الحديقةِ؛ فالأوَّلُ يستطيعُ بكلِّ سهولةٍ أن يثبت دعواهُ بمُجرَّدِ إراءةِ مكانِ تلك الحديقةِ أو بعض ثمارِها؛ أما الثاني (أي المنكِر) فعليه أن يرَى ويُرِيَ جميعَ أنحاءِ الكرةِ الأرضية لأجل أن يُثبِتَ نفيَه، وهو عدمُ وجود مثل هذه الحديقة.. وهكذا الأمرُ في الذين يُخبرون عن الجنةِ، فإنهم يُظهِرون مئاتِ الآلافِ من ترشُّحاتِها، ويُبيِّنونَ ثمارَها وآثارَها، علما أن شاهدَين صادقَين منهم كافيانِ لإثباتِ دعواهُم، بينما المنكِرون لوجودِها، لا يسعُهم إثباتُ دعواهم إلّا بعدَ مُشاهَدَةِ الكون غيرِ المحدودِ، والزمنِ غيرِ المحدودِ، مع سَبرِ غَوْرِهِما بالبحثِ والتفتِيشِ، وعند عَدمِ رؤيتهِم لها، يُمكنِهم إثباتُ دعواهم! فيا من بَلغَ به الكبرُ عِتيًّا ويا أيها الإخوة.. اعلموا ما أعظمَ قوّةَ الإيمانِ بالآخرةِ وما أشدَّ رصانتَه!.(المؤلف). | إنَّ مدى السُّهولةِ في «إخبارِ الأمر الثبوتي» ومدَى الصعوبةِ والإشكالِ في «نفي وإنكار» ذلك، يَظهَر في المثالِ الآتي:إذا قال أحدُهم: إن هناك -على سطح الأرض- حديقةً خارقةً جدا ثمارُها كعُلبِ الحليبِ، وأنكرَ عليهِ الآخرُ قولَه هذا قائلا: لا، لا توجدُ مثلُ هذه الحديقةِ؛ فالأوَّلُ يستطيعُ بكلِّ سهولةٍ أن يثبت دعواهُ بمُجرَّدِ إراءةِ مكانِ تلك الحديقةِ أو بعض ثمارِها؛ أما الثاني (أي المنكِر) فعليه أن يرَى ويُرِيَ جميعَ أنحاءِ الكرةِ الأرضية لأجل أن يُثبِتَ نفيَه، وهو عدمُ وجود مثل هذه الحديقة.. وهكذا الأمرُ في الذين يُخبرون عن الجنةِ، فإنهم يُظهِرون مئاتِ الآلافِ من ترشُّحاتِها، ويُبيِّنونَ ثمارَها وآثارَها، علما أن شاهدَين صادقَين منهم كافيانِ لإثباتِ دعواهُم، بينما المنكِرون لوجودِها، لا يسعُهم إثباتُ دعواهم إلّا بعدَ مُشاهَدَةِ الكون غيرِ المحدودِ، والزمنِ غيرِ المحدودِ، مع سَبرِ غَوْرِهِما بالبحثِ والتفتِيشِ، وعند عَدمِ رؤيتهِم لها، يُمكنِهم إثباتُ دعواهم! فيا من بَلغَ به الكبرُ عِتيًّا ويا أيها الإخوة.. اعلموا ما أعظمَ قوّةَ الإيمانِ بالآخرةِ وما أشدَّ رصانتَه!.(المؤلف).</ref>) | ||
فما دامَ أهمُّ درسٍ يُلقِّنُنا القرآنُ إيّاه هو «الإيمانُ بالآخِرةِ»؛ وهذا الإيمانُ رصينٌ ومَتينٌ إلى هذه الدرجةِ، وفي ذلك الإيمانِ نورٌ باهرٌ ورجاءٌ شدِيدٌ وسُلوانٌ عظِيمٌ ما لوِ اجتمَعتْ مئةُ ألفِ شيخوخةٍ في شخصٍ وَاحدٍ لكفاها ذلك النُّورُ، وذلك الرجاءُ، وذلك السُّلوانُ النابعُ من هذا الإيمانِ؛ لذا علينا نحنُ الشيوخَ أنْ نفرَحَ بشيخوخَتِنا ونبتَهِجَ قائلينَ: «الحمدُ لله على كمالِ الإيمانِ». | فما دامَ أهمُّ درسٍ يُلقِّنُنا القرآنُ إيّاه هو «الإيمانُ بالآخِرةِ»؛ وهذا الإيمانُ رصينٌ ومَتينٌ إلى هذه الدرجةِ، وفي ذلك الإيمانِ نورٌ باهرٌ ورجاءٌ شدِيدٌ وسُلوانٌ عظِيمٌ ما لوِ اجتمَعتْ مئةُ ألفِ شيخوخةٍ في شخصٍ وَاحدٍ لكفاها ذلك النُّورُ، وذلك الرجاءُ، وذلك السُّلوانُ النابعُ من هذا الإيمانِ؛ لذا علينا نحنُ الشيوخَ أنْ نفرَحَ بشيخوخَتِنا ونبتَهِجَ قائلينَ: «الحمدُ لله على كمالِ الإيمانِ». | ||
------ | ------ | ||
<center> [[Dokuzuncu_Söz/ar|الكلمة التاسعة]] | <center>⇐ [[Dokuzuncu_Söz/ar|الكلمة التاسعة]] | [[Sözler/ar|الكلمات]] | [[On Birinci_Söz/ar|الكلمة الحادية عشرة]] ⇒</center> | ||
------ | ------ |
düzenleme