المكتوب العشرون

    Risale-i Nur Tercümeleri sitesinden
    10.30, 12 Şubat 2024 tarihinde Said (mesaj | katkılar) tarafından oluşturulmuş 75405 numaralı sürüm ("== ذيل الكلمة العاشرة من المكتوب العشرين ==" içeriğiyle yeni sayfa oluşturdu)
    Diğer diller:

    المكتوب العشرون

    بِاسْمِه سُبحَانَهُ

    ﴿وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه۪﴾

    «لَا إِلٰهَ إِلَّا الله وَحْدَهُ لَا شَريكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ

    وَ لَهُ الْحَمْدُ يُحْيي وَيُميتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ

    وَهُوَ عَلٰى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ وَإِلَيْهِ الْمَصيرُ» ([1])

    إن هذه الجملة التي تلخّص التوحيد، عبارة عن إحدى عشرةَ كلمة، ولقراءتها عقب صلاتَي الفجر والمغرب فضائلُ جمّة، حتى ورد في إحدى الروايات الصحيحة أنها تحمل مرتبة «الاسم الأعظم». ([2]) فلا غرو إذن أن تُقطّر كلُّ كلمة من كلماتها أملاً شافياً وبشرى سارة، وأن تحمل مرتبةً جليلة من مراتب توحيد الربوبية، وتبيّن من زاوية الاسم الأعظم كبرياءَ الوحدانية وكمالَ التوحيد.

    وحيث إن هذه الحقائق الواسعة الرفيعة قد وضّحت بجلاء في سائر «الكلمات» فنحيل إليها. ونكتفي هنا بوضع فهرس لها، بناءً على وعد سابق، على صورة خلاصة مجملة جداً، تتكون من «مقامين» و «مقدمة».

    المقدمة

    اعلم يقيناً أن أسمى غايةٍ للخلق، وأعظمَ نتيجةٍ للفطرة الإنسانية.. هو «الإيمانُ بالله»..

    واعلم أن أعلى مرتبة للإنسانية، وأفضل مقام للبشرية.. هو «معرفةُ الله» التي في ذلك الإيمان..

    واعلم أن أزهى سعادةٍ للإنس والجن، وأحلى نعمة.. هو «محبةُ الله» النابعة من تلك المعرفة..

    واعلم أن أصفى سرور لروح الإنسان، وأنقى بهجةٍ لقلبه.. هو «اللذةُ الروحية» المترشحة من تلك المحبة.

    أجل، إنَّ جميع أنواع السعادة الحقة، والسرورَ الخالص، والنعمةَ التي ما بعدَها نعمةٌ، واللذةَ التي لا تفوقُها لذةٌ، إنما هي في «معرفة الله».. في «محبة الله». فلا سعادةَ، ولا مسرّة، ولا نعمة حقاً بدونها.

    فكلُّ من عرف الله تعالى حق المعرفة، وملأ قلبَه من نور محبته، سيكونُ أهلاً لسعادة لا تنتهي، ولنعمةٍ لا تنضب، ولأنوارٍ وأسرار لا تنفد، وسينالها إما فعلاً وواقعاً أو استعداداً وقابلية.

    بينما الذي لا يعرف خالقَه حقَّ المعرفة، ولا يكنّ له ما يليق من حُبٍ ووُدٍّ، يصاب بشقاء مادي ومعنوي دائمَين، ويظل يعاني من الآلام والأوهام ما لا يُحصر.

    نعم، إنَّ هذا الإنسان البائس الذي يتلوّى ألماً من فقده مولاه وحاميه، ويضطرب من تفاهةِ حياته وعدم جدواها، وهو عاجزٌ وضعيف بين جموع البشرية المنكودة.. ماذا يغنيه عمّا يعانيه ولو كان سلطانَ الدنيا كلِّها!

    فما أشد بؤس هذا الإنسان المضطرب في دوّامة حياةٍ فانية زائلة وبين جموع سائبةٍ من البشر إنْ لم يجد مولاه الحق، ولم يعرف مالكَه وربَّه حق المعرفة!

    ولكن لو وجد ربَّه وعرف مولاه ومالكَه لالتجأ إلى كنف رحمته الواسعة، واستند إلى جلال قدرته المطلقة.. ولتحولت له الدنيا الموحشة روضةً مؤنسة، وسوقَ تجارةٍ مربحة.

    المقام الأول

    كل كلمة من كلمات هذا الكلام التوحيدي الرائع تزفّ بشرى سارة، وتبث أملاً دافئاً. وفي كل بشرى شفاء وبلسم.. وفي كل شفاء لذة معنوية وانشراح روحي.

    الكلمة الأولى:

    «لَا إِلٰهَ إِلَّا الله»

    هذه الكلمة تتقطر بشرى عظيمة وأملاً بهيجاً كالآتي:

    إنَّ روح الإنسان المتلهفة إلى حاجات غير محدودة، والمستهدَفة من قِبل أعداءٍ لا يُعدّون.. هذه الروح المبتلاة بين حاجات لا تنتهي وأعداءٍ لا يحصرون، تجد في هذه الكلمة العظيمة منبعاً ثراً من الاستمداد، بما يفتح لها أبوابَ خزائن رحمة واسعة ترِدُ منها ما يُطمئِن جميعَ الحاجات وتضمن جميع المطالب.. وتجد فيها كذلك مرتَكزاً شديداً ومستنَداً رضيّاً يدفع عنها جميعَ الشرور، ويصرف عنها جميعَ الأضرار. وذلك بما تُري الإنسانَ من قوة مولاه الحق، وترشده إلى مالكه القدير، وتُدلّه على خالقه ومعبوده. وبهذه الرؤية السديدة والتعرّف على الله الواحد الأحد، تنقذ -هذه الكلمة- قلبَ الإنسان من ظلام الوحشة والأوهام، وتُنجي روحَه من آلام الحزن والكمد، بل تضمن له فرحاً أبدياً، وسروراً دائماً.

    الكلمة الثانية:

    «وَحْدَهُ»

    هذه الكلمة تشرق أملاً وتزفّ بشرى سارة كالآتي:

    إنَّ روح البشر، وقلبَه المرهقَين بل الغارقَين إلى حد الاختناق تحت ضغوط ارتباطاتٍ شديدة وأواصرَ متينة مع أغلب أنواع الكائنات.. يجدان في هذه الكلمة ملجأ أميناً، ينقذهما من تلك المهالك والدوامات. أي أن كلمة «وحده» تقول معنىً:

    إنَّ الله واحد أحد، فلا تتعب نفسك، أيها الإنسان، بمراجعة الأغيار. ولا تتذلَّل لهم، فترزح تحت منَّتهم وأذاهم.. ولا تحنِ رأسَك أمامهم وتتملّق لهم.. ولا تُرهق نفسَك فتلهث وراءهم.. ولا تخف منهم وترتعد إزاءهم.. لأنَّ سلطان الكون واحد، وعنده مفاتيح كلِّ شيء، بيده مقود كلِّ شيء، تنحلّ عُقد كلِّ شيء بأمره، وتنفرج كل شدة بإذنه.. فإن وجدتَه فقد ملكتَ كل شيء، وفُزت بما تطلبه، ونجوتَ من أثقال المنّ والأذى ومن أسر الخوف والوهم.

    الكلمة الثالثة:

    «لَا شَريكَ لَهُ»

    أي كما لا ندّ له ولا ضدّ في ألوهيته، لأنَّ الله واحد. فإنّ ربوبيتَه وإجراءاتِه وإيجادَه الأشياء منـزّهةٌ كذلك من الشرك. بخلاف سلاطين الأرض، إذ يحدث أنْ يكون السلطانُ واحداً متفرداً في سلطنته إلّا أنه ليس متفرداً في إجراءاته، حيث إن موظفيه وخدَمه يُعدّون شركاء له في تسيير الأمور وتنفيذ الإجراءات. ويمكنهم أن يحولوا دون مثول الجميع أمامه، ويطلبوا منهم مراجعتهم أولاً! ولكن الحق سبحانه وتعالى وهو سلطان الأزل والأبد، واحد لا شريك له في سلطنته، فليس له حاجة قط في إجراءات ربوبيته أيضاً إلى شركاء ومُعينين للتنفيذ، إذ لا يؤثر شيءٌ في شيء إلّا بأمره وحَوله وقوته. فيمكن للجميع أن يراجعوه دون وسيط، لعدم وجود شريك أو مُعين. ولا يقال عندئذٍ للمراجِع: لا يجوز لك الدخول في الحضرة الإلهية.

    وهكذا تحمل هذه الكلمة في طياتها أملاً باسماً وبشارة بهيجة، فتقول:

    إنَّ الإنسان الذي استنارت روحُه بنور الإيمان، ليَستطيع عرضَ حاجاته كلها بلا حاجز ولا مانع بين يدي ذلك الجميل ذي الجلال، ذلك القدير ذي الكمال، ويطلب ما يحقق رغباته، أينما كان هذا الإنسان وحيثما حلّ. فيفرش حاجاتِه ومطالبَه كلها أمام ذلك الرحيم الذي يملك خزائن الرحمة الواسعة، مستنداً إلى قوته المطلقة، فيمتلئ عندئذ فرحاً كاملاً وسروراً غامراً.

    الكلمة الرابعة:

    «لَهُ الْمُلْكُ»

    أي أنَّ المُلك كلَّه له، دون استثناء.. وأنت أيضاً ملكه، كما أنك عبدُه ومملوكه، وأنت عامل في مُلكه..

    فهذه الكلمة تفوح أملاً وتقطر بشرى شافية، وتقول:

    أيها الإنسان! لا تحسب أنك مالك نفسَك.. كلا.. لأنك لا تقدر على أن تدير أمور نفسك.. وذلك حملٌ ثقيل، وعبء كبير، ولا يمكنك أن تحافظ عليها، فتنجيها من البلايا والرزايا، وتوفّر لها لوازم حياتك.. فلا تجرّع نفسَك إذن الآلام سدىً، فتلقي بها في أحضان القلق والاضطراب دون جدوى، فالمُلك ليس لك، وإنما لغيرك، وذلك المالكُ قادرٌ، وهو رحيم. فاستند إلى قدرته، ولا تتهم رحمتَه.. دع ما كدر، خذ ما صفا.. انبذ الصعابَ والأوصاب وتنفّس الصعداء، وحُز على الهناء والسعادة.

    وتقول أيضاً: أنَّ هذا الوجود الذي تهواه معنىً، وتتعلق به، وتتألم لشقائه واضطرابه، وتحسّ بعجزك عن إصلاحه.. هذا الوجود كلُّه مُلكٌ لقادر رحيم. فسلّم الملكَ لمولاه، وتخلّ عنه فهو يتولاه، واسعد بمسراته وهنائه، دون أنْ تكدّرك معاناتُه ومقاساته، فالمولى حكيم ورحيم، يتصرف في مُلكه كيف يشاء وفق حكمته ورحمته.

    وإذا ما أخذك الروعُ والدهشة، فأطل من النوافذ ولا تقتحمها، وقل كما قال الشاعر إبراهيم حقي (∗):

    لنرَ المولى ماذا يفعلُ

    فما يفعل هو الأجمل.

    الكلمة الخامسة:

    «وَ لَهُ الْحَمْدُ»

    أي أنَّ الحمد والثناء والمدح والمنّة خاصّ به وحدَه، ولائق به وحده، لأنَّ النِعم والآلاء كلَّها منه وحده، وتفيض من خزائنه الواسعة، والخزائن دائمة لا تنضب.

    وهكذا تمنح هذه الكلمة بشرى لطيفة، وتقول:

    أيها الإنسان! لا تقاسِ الألمَ بزوال النعمة، لأنَّ خزائنَ الرحمة لا تنفد. ولا تصرخ من زوال اللذة، لأنَّ تلك النعمة ليست إلّا ثمرةُ رحمة واسعة لا نهاية لها. فالثمار تتعاقب ما دامت الشجرةُ باقية.

    واعلم أيها الإنسان أنك تستطيع أن تجعل لذة النعمة أطيبَ وأعظم منها بمائة ضعف، وذلك برؤيتك التفاتةَ الرحمة إليك، وتكرّمَها عليك، وذلك بالشكر والحمد.

    إذ كما أن ملِكاً عظيماً وسلطاناً ذا شأن إذا أرسل إليك هديةً، ولتكن تفاحة مثلا، فإن هذه الهدية تنطوي على لذة تفوق لذةَ التفاح المادية بأضعاف الأضعاف، تلك هي لذةُ الالتفات الملَكي والتوجّه السلطاني المكلل بالتخصيص والإحسان، كذلك كلمةُ «له الحمد» تفتح أمامك باباً واسعاً تتدفق منه لذةٌ معنوية خالصة هي ألذ من تلك النعم نفسِها بألف ضعف وضعف، وذلك بالحمد والشكر. أي بالشعور بالإنعام عن طريق النعمة، أي بمعرفة المُنعم بالتفكر في الإنعام نفسه، أي بالتفكر والتبصر في التفات رحمته سبحانه وتوجّههِ إليك وشفقتِه عليك، ودوام إنعامه عليك.

    الكلمة السادسة:

    «يُحْيي»

    أي هو الذي يهَب الحياة، وهو الذي يديمُها بالرزق، وهو المتكفّل بكل ضروراتها وحاجاتها، وهو الذي يهيئ لوازمَها ومقوّماتها. فالغايات السامية للحياة تعود إليه، والنتائج المهمة لها تتوجه إليه، وتسعٌ وتسعون بالمائة من ثمراتها ونتائجها تقصده وترجع إليه.

    وهكذا فهذه الكلمة تنادي هذا الإنسان الفاني العاجز، وتُزجي له البشارة، نافخةً فيه روحَ الأمل، وتقول:

    أيها الإنسان! لا ترهق نفسك بحمل أعباء الحياة الثقيلة على كاهلك الضعيف، ولا تذهب نفسُك حسراتٍ على فناء الحياة وانتهائها. ولا تُظهر الندمَ والتذمر من مجيئك إلى الحياة كلما ترى زوالَ نعيمها وتفاهةَ ثمراتها.. واعلم أن حياتك التي تعمّر وجودَك إنما تعود إلى «الحي القيوم» فهو المتكفل بكل حاجاتها ولوازمها. فهذه الحياة تعود إليه وحدَه، بغاياتها الوفيرة، ونتائجها الكثيرة. وما أنت إلّا عامل بسيط في سفينة الحياة. فقُم بواجبك أحسنَ قيام، ثم اقبض أجرتَك وتمتّع بها، وتذكّر دائماً: مدى عِظم هذه الحياة التي تمخر عباب الوجود، ومدى جلالةِ فوائدها، وثمراتِها، ومدى كرم صاحبها وسعةِ رحمة مولاها.. تأمل ذلك واسبح في فضاء السرور، واستبشر به خيراً، وأدِّ شكر ما عليك تجاه مولاك. واعلم بأنك إن استقمتَ في أعمالك تُسجّل في صحيفتها أولا نتائجُ سفينة الحياة هذه، فتوهَب لك حياة باقية، وتحيا حياة أبدية.

    الكلمة السابعة:

    «وَيُميتُ»

    أي أنه هو الذي يهَب الموت، أي هو الذي يسرّحك من وظيفة الحياة، ويبدّل مكانك في الدنيا الفانية، ويُنقذك من عبء الخدمة، ويحرّرك من مسؤولية الوظيفة. أي يأخذك من هذه الحياة الفانية إلى الحياة الباقية.

    وهكذا فهذه الكلمة تصرخ في أذن الإنس والجن الفانين وتقول:

    بُشراكم.. الموتُ ليس إعداماً، ولا عبثاً ولا سدى ولا انقراضاً، ولا انطفاءً، ولا فراقاً أبدياً .. كلا فالموت ليس عدماً، ولا مصادفة، ولا انعداماً ذاتياً بلا فاعل.. بل هو تسريحٌ من لدن فعال حكيم رحيم، وتبديلُ مكان، وتغييرُ مقام، وسَوقٌ نحو السعادة الخالدة.. حيث الوطنُ الأصلي.. أي هو بابُ وصالٍ لعالم البرزخ.. عالمٌ يجمع تسعةً وتسعين بالمائة من الأحباب.

    الكلمة الثامنة:

    «وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ»

    أي أن الكمال والحُسن والإحسان الظاهر في الموجودات وسيلةً للمحبة، يتجلى بما لا يمكن وصفُه وبما لا يحدّه حدود وفوق الدرجات العلى من مالك الجمال والكمال والإحسان. فومضةٌ من تجليات جماله سبحانه تعادل جميعَ محبوبات الدنيا بأسرها.. هذا الإله المحبوبُ المعبود له حياةٌ أبدية دائمة منـزّهة عن كل شوائب الزوال وظلال الفناء، مبرأةٌ عن كل عوارض النقص والقصور.

    إذن فهذه الكلمة تعلن للملأ جميعاً من الجن والإنس و أرباب المشاعر والفطنة وأهل العشق والمحبة وتقول:

    إليكم البشرى.. إليكم نسمةُ أمل وخير، إن لكم محبوباً أزلياً باقياً، يداوي الجروح المتمخضة من لوعة الفراق الأبدي لمحبوبتكم الدنيوية ويمسّها ببلسمه الشافي بمَرهم رحمته. فما دام هو موجوداً، وما دام هو باقياً فكلُّ شيء يهون.. فلا تقلقوا ولا تبتئسوا. فإن الحُسن والإحسان والكمال الذي جعلكم مشغوفين بأحبائكم ليس إلّا لمحةٌ من ظل ضعيف انشقّ عن ظلال الحُجب والأستار الكثيرة جداً لتجلٍ واحدٍ من تجليات جمال ذلك المحبوب الباقي. فلا يعذبنّكم زوالُ أولئك وفراقهم، لأنهم جميعاً ليسوا إلّا نوعاً من مرايا عاكسة. وتبديلُ المرايا وتغييرُها يجدّد ويجمّل انعكاسات تجلي الجمال وشعشعتِه الباهرة، فما دام هو موجوداً، فكل شيء موجود إذن.

    الكلمة التاسعة:

    «بِيَدِهِ الْخَيْرُ»

    أي إنَّ الخير كلَّه بيده، وأعمالُكم الخيّرة كلها تسجّل في سجله، وما تقدموه من صالحات الأعمال جميعُها تدرَجُ عنده.

    فهذه الكلمة تنادي الجن والإنس، وتزفّ لهم البشرى، وتهَب لهم الأمل والشوق فتقول:

    أيها المساكين! لا تقولوا عندما تغادرون الدنيا إلى المقبرة: «أواه.. وا أسفاه.. وا حسرتاه، لقد ذهبت أموالُنا هباءً، وضاع سعيُنا هدراً، فدخلنا ضيقَ القبر بعد فسحة الدنيا!..» لا.. لا تصرخوا يائسين، لأن كل ما لديكم محفوظٌ عنده سبحانه، وكل ما قدمتموه من عمل وجهد قد سُجِّل ودُوِّنَ عنده، فلا شيء يضيع ولا جُهد يُنسى، لأن ذا الجلال الذي بيده الخير كلِّه سيثيبكم على أعمالكم، وسيدعوكم للمثول أمامه بعد أن يضعكم في التراب.. مثواكم الموقت.

    فما أسعدَكم أنتم إذن، وقد أتممتم خدماتِكم، وأنهيتُم وظائفَكم، برئت ساحتُكم.. وانتهت أيامُ المعاناة والأعباء الثقيلة. فأنتم ماضون الآن لقبض الأجور واستلام الأرباح.

    أجل، إنَّ القادر الجليل الذي حافظ على البذور والنوى، التي هي صُحف أعمال الربيع الماضي ودفاترُ خدماته وحجرات وظائفه، ونشرها في هذا الربيع الزاهي وفي أبهى حُلّة، وفي غاية التألق، وفي أكثر بركة وغزارة، وفي أروع صورة... إنَّ هذا القدير الجليل لا ريب يحافظ أيضاً على نتائج حياتكم ومصائرِ أعمالكم، وسيجازيكم بها أحسنَ الجزاء وأجزل الثواب.

    الكلمة العاشرة:

    «وَهُوَ عَلٰى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ»

    أي أنه واحدٌ أحدٌ. قادر على كل شيء، لا يشقّ عليه شيء، ولا يؤوده شيء، ولا يصعب عليه أمر، فخلقُ ربيع كامل -مثلاً- سهل ويسير عليه كخلق زهرة واحدة. وخلقُ الجنة عنده كخلق ذلك الربيع وبالسهولة واليسر الكاملين. فالمخلوقات غير المحدودة التي يوجِدها ويجدّدها كل يوم، كل سنة، كل عصر، لتشهد كلُّها بألسنة غير محدودة على قدرته غير المحدودة.

    فهذه الكلمة أيضاً تمنح أملاً وبشرى وتقول:

    أيها الإنسان! إنَّ أعمالك التي أديتَها، وعبوديتَك التي قمت بها، لا تذهب هباءً منثوراً، فهناك دار جزاء خالدة، ومقامُ سعادة هانئة قد هيئ لك. فأمامُك جنة خالدة متلهفة لقدومك، مشتاقةٌ إليك. فثق بوعد خالقك ذي الجلال الذي تخرّ له ساجداً عابداً، وآمن به واطمئن إليه، فإنه محال أن يخلف وعداً قطعَه على نفسه، إذ لا تشوب قدرتَه شائبةٌ أو نقص، ولا يداخل أعمالَه عجزٌ أو ضعف، فكما خلق لك حديقتَك الصغيرة ويحييها، فهو قادر على أن يخلق لك الجنة الواسعة، بل قد خلقها فعلاً، ووعدك بها. ولأنه وعدَ فسيفي بوعده حتماً ويأخذك إلى تلك الجنة.

    وما دمنا نرى أنه يحشر وينشر في كل عام على وجه البسيطة أكثر من ثلاثمائة ألف نوع من أنواع النباتات وأمم الحيوانات وبانتظام كامل وميزان دقيق، وفي سرعة فائقة وسهولة تامة.. فلابد أنَّ هذا القادر الجليل، قادر أيضاً على أنْ يضع وعده موضع التنفيذ.

    وما دام القادر المطلق يوجِد في كل سنة آلاف النماذج للحشر والجنة وبمختلف الأنماط والأشكال.. وما دام أنه يبشّر بالجنة الموعودة، ويعِد بالسعادة الأبدية في جميع أوامره السماوية.. وما دامت جميعُ إجراءاته وشؤونه حقاً وحقيقة وصدقاً وصائبة.. وما دامت جميعُ آثاره تشهد على أن الكمالات قاطبة إنما هي دلالات على أنه منـزّه عن كل نقص أو قصور.. وما دام نقضُ العهد وخلافُ الوعد والكذب والمماطلة هو من أقبح الصفات فضلاً عن أنه نقص وقصور..

    فلا بد أنَّ ذلك القدير ذا الجلال، وذلك الحكيم ذا الكمال، وذلك الرحيم ذا الجمال سينفّذ وعدَه حتماً مقضياً، وسيفتح أبوابَ السعادة الأبدية، وسيدخلكم أيها المؤمنون الجنةَ.. موطنَ أبيكم آدم عليه السلام.

    الكلمة الحادية عشرة:

    «وَإِلَيْهِ الْمَصيرُ»

    أي أن الذين يُرسلون إلى دار الدنيا.. دار الامتحان والاختبار، للتجارة وإنجاز الوظائف، سيرجعون مرة أخرى إلى مرسِلهم الخالق ذي الجلال، بعد أن أدّوا وظائفَهم وأتمّوا تجارتهم وأنهَوا خدماتهم، وسيلاقون مولاهم الكريم الذي أرسلهم.. أي أنهم سيتشرفون بالمثول بين يدي ربّهم الرحيم، في مقعد صِدق عند مليكهم المقتدر، ليس بينهم وبينه حجاب. وقد خلُصوا من مخاض الأسباب وظلام الحجب والوسائط، وسيجد كلُّ واحد منهم ويعرف معرفةً خالصة كاملة خالقَه وربه وسيده ومليكه.

    فهذه الكلمة تشع أملاً وتتألق بشرى تفوق كل تلك الآمال والبشارات اللذيذة، وتقول:

    أيها الإنسان! هل تعلم إلى أين أنت سائر؟ وإلى أين أنت تُساق؟

    فقد ذكر في ختام «الكلمة الثانية والثلاثين»: أنَّ قضاء ألف سنة من حياة الدنيا وفي سعادة مرفّهة، لا يساوي ساعةً واحدة من حياة الجنة! وأن قضاء حياة ألف سنة وسنة بسرور كامل في نعيم الجنة لا يساوي ساعةً من فرحة رؤية جمال الجميل سبحانه. ([3])

    فأنت إذن أيها الإنسان راجعٌ إلى ميدان رحمته، صائرٌ إلى أعتاب ديوان حضرته. فما الحُسن والجمال الذي تراه في أحبتك المجازيين، فتشتاق إليهم وتُفتَن بهم، بل ما الحسن والجمال في جميع موجودات الدنيا، إلّا نوعُ ظلٍ من تجلي جماله سبحانه وحُسن أسمائه جلّ وعلا. فالجنةُ بلطائفها ولذائذها وحورها وقصورها ما هي إلّا تجلٍ من تجليات رحمته سبحانه. وجميعُ أنواع الشوق والمحبة والانجذاب والجواذب ما هي إلّا لمعةٌ من محبة ذلك المعبود الباقي وذلك المحبوب القيوم! فأنتم ذاهبون إذن إلى دائرة حظوَته ومقام حضرته الجليلة.. وأنتم مدعوون إذن إلى دار ضيافته الأبدية.. إلى الجنة الخالدة.

    فلا تحزنوا ولا تبكوا عند دخولكم القبر، بل استبشروا خيراً واستقبلوه بابتسامة وفرح.

    وتتابع هذه الكلمة وظيفتها في بث نور الأمل والبشرى وتقول:

    أيها الإنسان! لا تتوهم أنك ماضٍ إلى الفناء، والعدم، والعبث، والظلمات، والنسيان، والتفسخ، والتحطم، والانهشام، والغرق في الكثرة والإنعدام. بل أنت ذاهب إلى البقاء لا إلى الفناء، وأنت مسوقٌ إلى الوجود الدائم لا إلى العدم، وأنت ماضٍ إلى عالم النور لا إلى الظلمات، وأنت سائر نحو مولاك ومالكك الحق، وأنت عائد إلى مقر سلطان الكون.. سلطان الوجود.. سترتاح وتنشرح في ميدان التوحيد دون الغرق في الكثرة أبداً، فأنت متوجهٌ إلى اللقاء والوصال دون البعاد والفراق!.


    المقام الثاني

    (إشارة مختصرة إلى إثبات التوحيد، من حيث الاسم الأعظم)

    الكلمة الأولى:

    [لا إله إلّا الله]

    تتضمن هذه الكلمة، توحيدَ الألوهية وتوحيدَ المعبودية، نشير إليهما ببرهان قوي هو:

    إنه يُشاهد على وجه هذا العالَم، ولاسيما على صحيفة الأرض فعاليةً منتظمة غاية الانتظام.. ونشاهد خلاقيةً حكيمة في غاية الحكمة.. ونشاهد بعين اليقين فتاحيةً في غاية النظام -أي إعطاء كلَّ شيء ما يلائمه من شكل وإلباسَه ما يلائمه من صورة- ونشاهد وهّابيّة وإحسانات في غاية الشفقة والكرم والرحمة.

    فهذه الأوضاع وهذه الأحوال تُثبت بالضرورة وجوبَ وجود ربٍّ ذي جلال، فعّالٍ خلّاق فتّاح وهّاب، بل تُشعر بوحدانيته.

    نعم، إنَّ زوالَ الموجودات دائماً وتجدّدَها باستمرار يبينان أنَّ تلك الموجودات هي تجلياتُ أسماءٍ لصانع قدير.. وظلالُ أنوارِ أسمائه الحسنى.. وآثارُ أفعاله.. ونقوشُ قلم قدَره وصحائفُ قدرته.. ومرايا جمال كماله.

    وإنَّ رب العالمين يبيّن هذه الحقيقة العظمى، وهذه المرتبة العليا للتوحيد بجميع كتبه وصُحفه المقدسة التي أنـزلها، كما أنَّ جميع أهلِ التحقيق العلماء والكاملين من البشر يثبتون مرتبةَ التوحيد نفسها بتحقيقاتهم العلمية وكشفياتهم.. وكذا الكونُ مع عجزه وفقره يشير إلى مرتبة التوحيد نفسها بما نال من معجزات الصنعة وخوارق القدرة وخزائن الثروة.

    بمعنى أنَّ الله سبحانه وتعالى، وهو الشاهد الأزلي، بجميع كتبه وصحفه، وأهلَ الشهود بجميع تحقيقاتهم وكشفياتهم، وعالمَ الشهادة بجميع شؤونه الحكيمة وأحواله المنتظمة، يتفقون بالإجماع على تلك المرتبة التوحيدية.

    فمن لا يقبل بذلك الواحد الأحد جلّ وعلا إلهاً ومعبوداً، عليه أن يقبل ما لا نهاية له من الآلهة، أو أن ينكر نفسَه وينكر الكائنات قاطبة، كالسوفسطائي الأحمق.

    الكلمة الثانية:

    [وحده]

    هذه الكلمة تبيّن مرتبة توحيدٍ صريحة. نشير إلى برهان في غاية القوة يثبت إثباتاً تاماً هذه المرتبة، وهو:

    إننا كلما فتحنا أعيُننا وصوّبنا نظرَنا في وجه الكائنات، لفت نظرنا -أولَ ما يلفت- نظامٌ عام كامل، وميزانٌ دقيق شامل.. فكلُّ شيء في نظام دقيق، وكل شيء يوزن بميزان حساس، وكل شيء محسوبٌ حسابُه بدقة..

    وإذا ما دققنا النظر، يلفت نظرنا تنظيم ووزان ([4]) متجددان، أي أنَّ واحداً أحداً يغير ذلك النظام بانتظام ويجدّد ذلك الميزان بمقدار.. فيصبح كلُّ شيء نموذجاً «موديلاً» تُخلَع عليه صورٌ موزونة منتظمة كثيرة جداً..

    وإذا ما أنعمنا النظر أكثر، نرى أن عدالة وحكمة تشاهَدان من تحت ذلك التنظيم والوِزان حتى إن كلَّ حركة ونأمة تعقبُها حكمةٌ ومصلحة ويردفُها حقٌ وفائدة.

    وإذا ما دققنا النظر بإنعام أكثر؛ تلفت نظرَ شعورنا، مظاهرُ قدرةٍ ضمن فعاليةٍ حكيمة في غاية الحكمة، وجلواتُ علمٍ محيط بكل شيء. بل محيط بكل شأن من شؤونه..

    بمعنى أن هذا النظام والميزان الموجودَين في الموجودات كافة، يبيّنان تنظيماً ووزاناً عامَّين شاملين لكل الموجودات. وأن ذلك التنظيم والوزان يظهران حكمةً وعدالة شاملتين، وأن تلك الحكمة والعدالة تبينان لأنظارنا قدرة وعلماً. أي أن قديراً على كل شيء وعليماً بكل شيء يُرى للعقل من وراء تلك الحجب.

    ثم ننظر إلى بداية كل شيء ونهايتِه، ولاسيما في ذوي الحياة، فنرى أن بداياتِها وأصولَها وجذورَها، وكذا ثمراتها ونتائجها على نمط وطراز بحيث كأن تلك النوى والأصول برامجُ وفهارسُ وتعاريفُ تتضمن جميعَ أجهزة ذلك الموجود، وكذا يتجمع في نتيجة ذلك الموجود وفي ثمرته، ويترشح فيها معنى ذلك الكائن الحي كله، فيودع فيها تاريخَ حياته. فكأن نواةَ ذلك الكائن الحي التي هي أصلُه، سجلٌ صغير لدساتير إيجاده، أما ثمراتُه فهي في حُكم فهرس لأوامر إيجاده.

    ثم ننظر إلى ظاهر ذلك الكائن الحي وباطنِه، فنشاهد؛ تدبيراً وتصريفاً للأمور لقدرة في منتهى الحكمة، وتصويراً وتنظيماً لإرادة في منتهى النفوذ. أي أن قوة وقدرة توجِدان ذلك الشيء وأن أمراً وإرادة تلبسانه الصورةَ.

    وهكذا كلما دققنا النظرَ في أول كل موجود وبدايتِه رأينا ما يدل على علم عليم، وكلما دققنا النظر في آخره شاهدنا برامجَ صانع، وكلما دققنا في ظاهر الشيء رأينا حُلّة بديعة في غاية الإتقان لفاعل مختار مريد، وكلما نظرنا إلى باطن الشيء شاهدنا جهازاً في غاية الانتظام لصانع قدير.

    فهذه الأوضاع والأحوال تعلن بالضرورة والبداهة؛ أنه لا يمكن أن يكون شيءٌ ولا وقتٌ ولا مكان خارجَ قبضة الصانع الجليل الواحد الأحد وخارجَ تدبيره وتصريفه الأمور. بل كلُّ شيء وكلُّ شأن من شؤونه يُدبّر في قبضة قدير مريد، ويُجمّل ويُنظم بلطف رحمن رحيم، ويُحسّن ويزيّن برحمة حنّان منّان.

    نعم، إنَّ هذا النظام والميزان والتنظيم والوزان في موجودات هذا الكون كله يدل دلالة واضحة على واحدٍ أحدٍ فرد قدير مريد عليم حكيم، ويري مرتبةَ وحدانية عظمى لكل من كان مالكاً لشعور وبصر.

    نعم، إنَّ في كل شيء توجد وحدة، والوحدةُ تدل على الواحد. فمثلاً: الشمس التي هي سراج الدنيا واحدةٌ، بمعنى أن مالك الدنيا واحدٌ. والهواء والنار والماء مثلاً -وهي الخدَمة لأحياء الأرض- واحدة، بمعنى أن من يستخدم هذه الأشياء ويسخّرها لنا واحد أيضاً.

    الكلمة الثالثة:

    [لا شريك له]

    لقد أُثبتت هذه الكلمة في الموقف الأول من «الكلمة الثانية والثلاثين» إثباتاً واضحاً جلياً. لذا نحيل شرحها إلى هناك، إذ لا بيان يفوق بيانه، ولا داعي إلى بيان غيره إذ لا يوَضَّح مثلُه قط.

    الكلمة الرابعة:

    [له الملك]

    أي أن السماوات والأرض والدنيا والآخرة وكل موجود، من الفرش إلى العرش، من الثرى إلى الثريا، من الذرات إلى السيارات، من الأزل إلى الأبد هو ملكه. فله سبحانه المرتبة العظمى للمالكية التي تتجلى في أعظم مرتبة للتوحيد.

    ولقد أُلقيت إلى خاطر هذا العاجز خاطرة لطيفة في وقت لطيف بعبارات عربية أثبتُّها كما هي وأبينُها حُجةً كبرى لهذه المرتبة العظمى للمالكية والمقام الأعظم للتوحيد:

    لَهُ الْمُلْكُ لِأَنَّ ذَاكَ الْعَالَمَ الْكَبيرَ كَهٰذَا الْعَالَمِ الصَّغير، مَصْنُوعُ قُدْرَتِه مَكْتُوبُ قَدَرِه. إِبْدَاعُهُ لِذَاكَ صَيَّرَهُ مَسْجِدًا.

    إيجَادُهُ لِهٰذَا صَيَّرَهُ سَاجِدًا. إِنْشَاؤُهُ لِذَاكَ صَيَّرَ ذَاكَ مِلْكًا. إيجَادُهُ لِهٰذَا صَيَّرَهُ مَمْلُوكًا. صَنْعَتُهُ في ذَاكَ تَظَاهَرَتْ كِتَابًا. صِبْغَتُهُ في هٰذَا تَزَاهَرَتْ خِطَابًا. قُدْرَتُهُ في ذَاكَ تُظْهِرُ حِشْمَتَهُ. رَحْمَتُهُ في هٰذَا تُنَظِّمُ نِعْمَتَهُ. حِشْمَتُهُ في ذَاكَ تَشْهَدُ هُوَ الْوَاحِدُ. نِعْمَتُهُ في هٰذَا تُعْلِنُ هُوَ الْأَحَدُ. سِكَّتُهُ في ذَاكَ فِي الْكُلِّ وَالْأَجْزَاءِ.

    خَاتَمُهُ في هٰذَا فِي الْجِسْمِ وَالْأَعْضَاءِ.

    الفقرة الأولى:

    «ذاك العالم الكبير... إلخ».

    إنَّ العالمَ الأكبرَ أي الكون كله، والإنسانَ وهو العالم الأصغر ومثاله المصغر، يُظهران معاً دلائل الوحدانية المسطّرة في الآفاق والأنفس بقلم القدَر والقُدرة.

    نعم، إنَّ في الإنسان النموذج المصغر للصنعة المنتظمة المتقنة الموجودة في الكون، وإذ تشهد الصنعة التي في تلك الدائرة الكبرى على الصانع الواحد، تشير الصنعة الدقيقة المجهرية الموجودة في الإنسان إلى ذلك الصانع أيضاً وتدل على وحدته،

    وكما أن هذا الإنسان مكتوبٌ رباني ذو مغزى عميق، وقصيدةٌ منظومة للقدر الإلهي، كذلك الكائنات قصيدة قدَرية منظومة دُبجت بذلك القلم نفسه، وبمقياس مكبر.

    فهل يمكن لغير الواحد الأحد أن يتدخل في سكة التوحيد المضروبة على وجه الإنسان والمتوجهة بالعلامات الفارقة إلى ما لا يحد من الناس، أو أن يتدخل في ختم الوحدانية المضروب على الكائنات الجاعل موجوداتِها كلِّها متعاونةً متكاتفة؟.

    الفقرة الثانية:

    «إبداعه لذاك... إلخ».

    إنَّ الصانع الحكيم قد خلق العالم الأكبر خلقاً بديعاً ونقش آيات كبريائه عليه، بحيث جعل الكون على صورة مسجد كبير. وأنشأ سبحانه هذا الإنسان في أحسن تقويم، واهباً له العقل، بحيث جعله يسجد سجدةَ إعجاب أمام معجزات صنعته وبديع قدرته. واستقرأه آياتِ كبريائه، حتى صيّره عبداً ساجداً في ذلك المسجد الكبير بما غرز في فطرته من العبودية والخضوع له.

    فهل من الممكن أن يكون المعبود الحقيقي للساجدين العابدين في هذا المسجد الكبير غيرَ الصانع الواحد الأحد؟.

    الفقرة الثالثة:

    «إنشاؤه لذاك... إلخ».

    إنَّ مالك الملك ذا الجلال قد أنشأ العالم الأكبر، ولاسيما وجهَ الأرض، إنشاءً كأنها دوائرٌ متداخلة بما لا تعد ولا تحصى، كلُّ دائرة بمثابة مزرعة أو حقل يزرع فيها، كلَّ وقت وكل موسم وكل عصر، ويحصد ويحصّل على المحاصيل، وهكذا يُشغل مُلكَه باستمرار ويتصرف في أموره كل حين.

    حتى إنه جعل أعظم دائرة من تلك الدوائر وهي دائرة الذرات في الكون مزرعةً واسعة يزرع فيها ويحصل منها بقدرته وحكمته محاصيلَ بقدر الكون، ويرسل تلك المحاصيل من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، ومن دائرة القدرة إلى دائرة العلم.

    وجعل سبحانه سطح الأرض الذي هو دائرة متوسطة بمثابة مزرعة كذلك، بحيث يزرع فيها كلَّ موسم وباستمرار عوالمَ وأنواعاً شتى ويحصدها ويحصّل منها محاصيلها كلَّ فصل وموسم محاصيل معنوية يبعثها أيضاً إلى عوالمه الغيبية والأخروية والمثالية والمعنوية..

    ثم إنه سبحانه يملأ بستاناً في الأرض -وهو دائرة صغيرة- يملأه مرات ومرات بل ألف مرة بقدرته ويفرغه بحكمته.

    ثم إنه سبحانه يحصل من الكائن الحي الذي هو دائرة أصغر -كالشجرة والإنسان- يحصل منه مائة ضعف وضعف من المحاصيل.

    بمعنى أن ذلك المالك الملك ذا الجلال قد أنشأ كلَّ شيء -جزئيّه وكليّه، صغيرَه وكبيره- بمثابة «موديل» يُلبسه مئات منسوجات صنائعه المنقشة بنقوش متجددة بمئات الأشكال والأنماط. مُظهِراً به تجليات أسمائه الحسنى ومعجزات قدرته. وأنشأ كلَّ شيء في مُلكه بمثابة صحيفة يكتب فيها كتاباته البليغة بمئات الأشكال والوجوه، مُظهراً بها آياتِه الحكيمة ويستقرئها أهلَ الشعور من مخلوقاته.

    وكما أنه قد أنشأ هذا العالم الأكبر مُلكاً له، كذلك خلق هذا الإنسان مملوكاً له ومنحه من الأجهزة والجوارح والحواس والمشاعر، ولاسيما النفس الأمارة والهوى والحاجة والشهية والحرص والطلب، بحيث جعله في ذلك الملك الواسع مملوكاً وعابداً محتاجاً إلى جميع ملكه.

    فهل من الممكن أن يتصرف في ذلك المُلك، ويكون سيداً على ذلك المملوك، سوى ذلك المالك للملك الذي جعل الموجودات كلَّها بدءاً من عالم الذرات ذلك العالم الواسع جداً إلى جناح الذباب ملكاً ومَزارِعَ، وجعل الإنسان الصغير ناظراً على ذلك الملك الواسع العظيم ومفتشاً فيه ومزارعاً وتاجراً ودلالاً وعابداً ومملوكاً واتخذه ضيفاً عزيزاً عليه ومخاطباً محبوباً؟

    الفقرة الرابعة:

    «صنعته في ذاك... إلخ».

    إنَّ صنعة الصانع الجليل في العالم الأكبر تحمل من المعاني الغزيرة ما يظهرها كأنها كتاب بديع، مما دفع عقلَ الإنسان إلى استلهام حكمة العلوم الحقيقية منه، ويكتب مكتبتها على وفقه. فذلك الكتاب البديع الحكيم موثوق الصلة بالحقيقة، ومستمدٌ منها إلى حدّ أُعلن عنه في صورة قرآن حكيم -منظور- والذي هو نسخةٌ من الكتاب المبين.

    ومثلما اتخذت صنعتُه سبحانه في الكون كله صورةَ كتاب بليغ، لكمال انتظامها، كذلك تفتحت صبغتُه ونقشُ حكمته في الإنسان عن زهرةِ خطاب.. أي أن تلك الصنعة البديعة ذاتُ مغازٍ دقيقة وجميلة بحيث أنطقت ما في تلك الماكنة الحية من أجهزة.. وأن ما صبغ بها من صبغة ربانية جعلتها في أحسن تقويم حتى تفتّحت عن زهرة البيان والخطاب، تلك الزهرة الحيوية المعنوية الغيبية في ذلك الرأس المادي الجامد.. فمنح سبحانه وتعالى رأس الإنسان من قابلية النطق والبيان حتى انكشف ما فيه من أجهزة سامية معنوية عن مراتبَ كثيرةٍ وكثيرة جداً أهّلته لموضع خطاب السلطان الأزلي الجليل، مما نال رقياً ورفعةً وسمواً.

    أي أنَّ الصبغة الربانية التي في فطرة الإنسان قد فتّحت زهرةَ الخطاب الإلهي.

    فهل من الممكن أنْ يتدخل غيرُ الواحد الأحد في الصنعة التي بلغت حدّ الإتقان والانتظام في الموجودات كلها حتى كأنها كتاب؟ وهل من الممكن أن يتدخل غيرُه سبحانه في الصبغة التي في فطرة الإنسان التي ارتقت به إلى مقام الخطاب؟! حاشَ لله.. وكلا.

    الفقرة الخامسة:

    إنَّ القدرة الإلهية تُظهر عظمةَ الربوبية في العالم الأكبر، أما الرحمةُ الربانية فإنها تنظّم النِعم في الإنسان، العالم الأصغر.

    أي أن قدرة الصانع -من حيث الكبرياء والجلال- أوجدت العالم كلَّه كأنه قصر عظيم، وجعلت الشمسَ فيه سراجاً وهاجاً، والقمرَ قنديلاً، والنجومَ مصابيح، وجعلت سطحَ الأرض سُفرة مبسوطة للطعام، ومزرعة جميلة، وبستاناً زاهياً، وجعلت الجبال مخازن ومستودعات، وأوتاداً للتثبيت، وقلاعاً عظيمة.. وهكذا جعلت جميعَ الأشياء لوازم وأثاثاً لذلك القصر المنيف، بمقياس مكبر..

    وأظهرت عظمةُ ربوبيته سبحانه مثلما أسبغت رحمتُه سبحانه -من حيث الجمال- صنوفَ نعمِه على كل كائن حي، حتى على أصغره، ونظّمت عليه، فجمّلت الكائنات طراً بالنِعم وزيّنتها باللطف والكرم، دافعة هذه الألسنة الصغيرة الناطقة بجمال الرحمة أن تقابل تلك الألسنة العظيمة الناطقة بجلال العظمة.

    أي أن الأجرام الكبيرة، كالشمس والعرش حينما تنطق بلسان العظمة: «يا جليل.. يا كبير.. يا عظيم» تقابلها ألسنةُ الرحمة في البعوض و السمك والحيوانات الصغيرة بـ«يا جميل.. يا رحيم.. يا كريم».. مكونة بذلك نغماتٍ منسجمة في موسيقى كبرى، تزيدها حلاوةً ولذة.

    فهل من الممكن أن يتدخل غيرُ ذلك الجليل ذي الجمال، الجميل ذي الجلال في هذا العالم الأكبر والأصغر، من حيث الخلق والإيجاد؟ حاشَ لله... وكلا.

    الفقرة السادسة:

    «حشمَته في ذاك... إلخ».

    إنَّ عظمة الربوبية الظاهرة في مجموع الكون، تثبت الوحدانية الإلهية وتدل عليها، كما أن النعمة الربانية التي تعطي الأرزاق المقننة حتى لجزئيات ذوي الحياة، تثبت الأحدية الإلهية وتدل عليها.

    أما الواحدية فتعني أن جميع تلك الموجودات ملكٌ لصانع واحد، وتتوجه إلى صانع واحد، وكلها إيجاد موجِد واحد.

    أما الأحدية فهي أن أكثر أسماء خالق كل شيء يتجلى في كل شيء.

    فمثلا: إن ضوء الشمس -بصفة إحاطته بسطح الأرض كافة- يبين مثال الواحدية، وأنَّ وجود ضوء الشمس وألوانه السبعة وحرارتها، وظلاً من ظلالها في كل جزء شفاف وفي كل قطرة ماء يبين مثال الأحدية. وكذا فإن تجلي أكثر أسماء ذلك الصانع في كل شيء، ولاسيما في كل كائن حي، وبخاصة في كل إنسان يبين مثال الأحدية.

    وهكذا فإن هذه الفقرة تشير إلى عظمة الربوبية التي تصرّف الأمور في العالم والتي جعلت تلك الشمس العظيمة سراجاً وهّاجاً وخادمةً لأحياء الأرض. والكرة الأرضية الضخمة مهداً للأحياء ومنـزلاً، ومتجراً لها. وجعلت النار طباخة وصديقة مستعدة للقيام بالعمل في كل مكان، والسحاب مصفاة للهواء ومرضعة للأحياء، والجبال مخازن ومستودعات والهواء مروّحاً للأنفس والنفوس، والماء مبعثاً للحياة وكالأم الرَؤوم للأحياء الجدد. فهذه الربوبية الإلهية تبين الوحدانية الإلهية بوضوح تام.

    نعم، من ذا الذي يجعل الشمس مسخرةً لسكنة الأرض غيرُ الخالق الواحد؟ ومن ذا غير ذلك الواحد الأحد يمسك الهواء ويسخره في وظائف جليلة وعلى سطح الأرض كافة؟ ومن غيرُ ذلك الواحد الأحد يقدر على استخدام النار طباخة للأحياء ويجعلها تلتهم أشياء أكبر من حجمها بآلاف المرات؟ وهكذا.. فكل شيء وكل عنصر وكل جرم سماوي يدل على الواحد ذي الجلال من حيث تلك الربوبية المهيبة.

    فكما تظهر الواحديةُ من حيث الجلال والعظمة، تعلن النعمةُ والإحسان الأحديةَ الإلهية من حيث الجمال والرحمة، لأن الأحياء ولاسيما الإنسان من حيث الصنعة الجامعة المتقنة، يملك من الأجهزة والجوارح بحيث تعرف أنواعَ النعم التي لا تعد ولا تحصى، وتتقبلها وتطلبها. حتى حظي الإنسان بتجليات أسماء الله الحسنى كلها كما تتجلى في الكون كله، وكأنه بؤرة تُظهر جميع الأسماء الحسنى دفعة واحدة في مرآة ماهيته، فيعلن بذلك الأحدية الإلهية.

    الفقرة السابعة:

    «سكّته في ذاك... إلخ».

    أي كما أن للصانع الجليل سكةً كبرى وعلامة عظمى على العالم الأكبر كله، كذلك وضع سكةَ وحدانيته وعلامتها على كل جزء من أجزاء الكون وعلى كل نوع من أنواعه أيضاً.. وكما أنه وضع ختم الوحدانية على وجه الإنسان -وهو العالم الأصغر- وعلى جسمه كذلك، وضع الختم نفسه على كل عضو من أعضائه.

    نعم، إنَّ ذلك القدير ذا الجلال، وضع آية توحيد جلية على كل شيء، على الكلّي والجزئي، فالنجوم والذرات، تشهد عليه. ووضع ختم الوحدانية على كل شيء ليدل عليه.

    وحيث إنَّ هذه الحقيقة العظيمة قد أثبتت إثباتاً قاطعاً في «الكلمة الثانية والعشرين» و«الكلمة الثانية والثلاثين» و«المكتوب الثالث والثلاثين»، نحيل البحث إلى تلك الكلمات ونختمه هنا.

    الكلمة الخامسة:

    [له الحمد]

    أي أنَّ الكمالات التي هي سببُ المدح والثناء، في الموجودات كافة، تخصّه وحدَه سبحانه. ولهذا فالحمد أيضاً له وحده، فكلُّ ما صدر وما يصدر من مدح وثناء من الأزل إلى الأبد، وممن صدر وعلى مَن وقع، يخصُّه وحده. لأنَّ كل ما هو سببُ المدح والثناء من كمال وجمال ومن نعم وآلاء وكل ما هو مدار الحمد، هو لله تعالى، يخصّه وحده.

    نعم، إنَّ ما يصعد إليه سبحانه دوماً من الموجودات جميعاً عبوديةٌ وتسبيح وسجود ودعاء وحمدٌ وثناء، تصعد كلُّها إلى تلك الحضرة المقدسة باستمرار. كما يُفهم من الإشارات القرآنية. نشير إلى برهان عظيم يثبت هذه الحقيقة التوحيدية:

    عندما ننظر إلى العالم نشاهده كبستان عظيم، سقفُه مرصّع بالنجوم، وأرضُه زُيّنت بموجودات جميلة زاهية.. فهذه الأجرام العلوية النورانية المنتظمة، والموجودات الأرضية الحكيمة المزينة، في هذا البستان العظيم، كلٌّ منها يقول بلسانه الخاص، وجميعُها تقول معاً:

    نحن معجزاتُ قدرة قدير جليل، نشهد على وحدانية خالق حكيم وصانع قدير.

    وفي رياض العالم هذا ننظر إلى الأرض نرى أنها كروضة نثرت فيها مئات الآلاف من طوائف النباتات ذات الألوان الزاهية والأشكال الجميلة، وانتشرت فيها مئات الآلاف من أنواع الحيوانات المتنوعة.

    فجميع تلك النباتات الزاهية والحيوانات المزينة في روضة الأرض، تعلن بصورها المنتظمة وبأشكالها الموزونة:

    نحن معجزاتُ صانع واحد حكيم وخوارقه وأدلّاء على وحدانيته وشهداء عليها.

    وكذا ننظر إلى قمم الأشجار في تلك الروضة البهية نرى أن ثمارَها وأزاهيرها مخلوقةٌ بمنتهى العلم والحكمة وبغاية الكرم واللطف والجمال.. فكل تلك الثمرات والأزاهير الجميلة تعلن بأشكالها وألوانها المتنوعة، بلسان واحد:

    نحن معجزاتُ هدايا رحمن ذي جمال، وخوارقُ عطايا رحيم ذي كمال.

    فما في بستان العالم من أجرام وموجودات وما في روضة الأرض من نباتات وحيوانات، وما على قمم الأشجار من أزاهير وثمرات يشهد، بل يُعلن بصوت عالٍ رفيع:

    إنَّ خالقنا ومصوّرَنا -الذي أهدانا إليكم- القادر ذو الجمال والحكيم الكريم، قدير على كل شيء، لا يصعب عليه شيء، لا يخرج عن دائرة قدرته شيء قط. فالنجومُ والذرات سواء بالنسبة إلى قدرته، والكلّي سهلٌ عليه كالجزئي، والجزءُ نفيسٌ كالكل، وأكبرُ شيء يسيرٌ عليه كأصغره، والصغيرُ متقن الصنع كالكبير، وربما الصغير أبدعُ إتقاناً من الكبير.

    فجميعُ الوقوعات الماضية التي هي عجائبُ قدرته، تشهد أنَّ ذلك القدير المطلق قادرٌ على عجائب الإمكانات التي ستحدث في المستقبل. فكما أنَّ الذي أتى بالأمس قادرٌ على إتيان الغد، فإن ذلك القدير الذي أنشأ الماضي قادرٌ على إيجاد المستقبل أيضاً، وذلك الصانع الحكيم الذي خلق الدنيا قادرٌ على خلق الآخرة.

    نعم؛ كما أنَّ ذلك القادرَ الجليل هو المعبودُ الحق، فالمحمود بالحق أيضاً إنما هو وحدَه. وكما أنَّ العبادةَ خاصةٌ به وحده، فالحمد والثناء أيضاً يخصّانه سبحانه.

    فهل من الممكن أن الصانع الحكيم الذي خلق السماوات والأرض يترك هذا الإنسان سدىً، وهو الذي خلقه أعظم نتيجة للسماوات والأرض وأكمل ثمرات العالم؟ وهل يمكن أن يحيله إلى الأسباب والمصادفات، فيقلبَ حكمتَه الباهرة عبثاً؟ حاشَ لله.. وكلا..

    وهل يعقل أنَّ الحكيم العليم الذي يرعى الشجرةَ، ويدبّر أمورَها بعناية ويربّيها في منتهى الحكمة أنْ يهمل ثمرات تلك الشجرة التي هي غايتُها وفائدتها ولا يهتمّ بها، فتتشتت وتتفرق في أيدي السراق وأيدي العبث، وتضيع؟ لاشك أن عدم الاهتمام هذا محال قطعاً، إذ الاهتمام بالشجرة إنما هي لأجل ثمراتها.

    وهكذا فإن أكملَ ثمراتِ هذا العالم ونتيجتَه ذات الشعور وغايتَه هو الإنسان، فهل يمكن أن يعطي صانعُ هذا العالم الحكيم، الحمدَ والعبادة والشكر والمحبة التي هي ثمرةُ الثمار ذات الشعور إلى غيره تعالى.. فيضيّع حكمتَه الباهرة ويُنـزلها إلى دركة العدم.. أو يقلبَ قدرتَه المطلقة إلى عجز.. أو يحوّل علمَه المحيط إلى جهل؟ حاشَ لله وكلا.. ألف ألف مرة!

    فهل من الممكن أن يصلَ الشكر والعبادة التي يقدّمها ذوو الشعور الذين هم مدارُ المقاصد الإلهية في بناء قصر الكون ولاسيما الإنسان الذي هو أفضلُهم إزاء النعم التي نالوها، إلى غير صانع قصر الكون وأن يسمح ذلك الصانع الجليل أن يقدم الشكر والعبادة وهي غايةُ المقاصد، إلى غيره تعالى؟

    وهل من الممكن أن مَن يُحبّبُ نفسَه إلى ذوي الشعور بأنواع نِعَمه التي لا تُعد ولا تحصى، ويعرّف نفسه إليهم بما لا يُحد من معجزات صنعته ثم يدَع شكرهم وعباداتهم وحمدهم ومحبتهم ومعرفتهم ورضاهم إلى الأسباب والطبيعة، ولا يهتم بها فيدفعهم إلى إنكار حكمته المطلقة ويهوّن من شأن سلطان ربوبيته وينـزلها إلى دركة العدم؟ كلا حاش لله مائة ألف مرة.

    وهل يمكن أن يكون شريكاً مَن يعجز عن خلق الربيع وعن إيجاد الثمرات كلِّها وعن خلق ثمرة التفاح -المتحدة في العلامات- على الأرض كافة..في الحمد مع المحمود المطلق سبحانه بأن يخلق تفاحة واحدة منها ويقدمها نعمةً إلى أحدهم، ويحصل على شكره؟ حاشَ لله وكلا.. لأن الذي يخلق التفاحة الواحدة هو خالقُ ثمرة التفاح في العالم كله. إذ السكةُ واحدة والعلامةُ واحدة. ثم إنَّ الذي خلق التفاح كله في العالم هو الذي أوجد الحبوب والثمرات التي هي محور الرزق.

    بمعنى أن من يُنعم بأصغرَ نعمة جزئية على أصغر كائن حي جزئي، هو خالق العالم، وهو الرزاق الجليل لا غيرُه، لذا فالحمد والشكر يخصانه وحده. وأن حقيقة العالم تقول دائماً بلسان الحق:

    له الحمد من كل أحد من الأزل إلى الأبد.

    الكلمة السادسة:

    [يحيي]

    أي أنه هو الذي يهب الحياة، فهو إذن وحده خالق كل شيء، لأن الحياة هي روحُ الكون ونوره وخميرته ونتيجتُه وخلاصته. فمن وهب الحياة وأعطاها فهو خالق الكون جميعاً، وهو المحيي الحي القيوم.

    نشير إلى برهان عظيم لمرتبة التوحيد هذه بالآتي:

    إننا نشاهد خيَماً منصوبة على أرجاء الأرض كافة لجيش ذوي الحياة العظيم، ونشاهد أيضاً أن جيشاً حديثاً من جيوش لا تعد ولا تحصى للحي القيوم يأتي من عالم الغيب ويتسلم أعتدته وتجهيزاته كل ربيع.

    فإذ نحن نتأمل هذا الجيش الضخم نرى أن طوائف النباتات تربو على مائتي ألف نوع، وأممَ الحيوانات تنوف على مائة ألف نوع من الأنواع المختلفة. كلُّ أمة من هذه الأمم، وكل طائفة منها تلبس ملابس خاصة بها، ولها أرزاقُها المعينة، ولها تدريبات وتعليمات مخصوصة، ولها رُخص تخصها، ومزودة بأسلحة وأعتدة تلائمها، ومدة خدماتها العسكرية معينة. ولكن مع كل هذا الاختلاف والتباين فإن قائداً أعظم بقدرته المطلقة وحكمته المطلقة وعلمه غير المحدود وإرادته غير المحدودة ورحمته الواسعة وخزينته التي لا تنضب، لا ينسى جندياً قط، ولا يلتبس عليه شيءٌ من أمرهم ولا يؤخر عنهم أي شيء يحتاجونه، بل كل طائفة من الطوائف والأمم التي تزيد على ثلاثمائة ألف من الطوائف والأمم يُرسل إليها أرزاقُها المتباينة وملابسُها المختلفة وأسلحتُها المتغايرة، وتُدرّب تدريبات متنوعة وتُسرح من وظائفها في أوقات متخالفة، كل ذلك في انتظام كامل وبميزان تام وفي الوقت المناسب. يشاهد هذا كلُّ ذي عين باصرة، ويدركه كل ذي قلب شهيد إدراكاً بعين اليقين، كما أثبتنا ذلك في كلمة أخرى.

    فهل من الممكن أن يتدخل ويكون له حصةٌ في هذا الإحياء والإدارة، وهذه التربية والإعاشة سوى صاحبِ علم محيط يحيط بكل ما يخص ذلك الجيش وبشؤونه كافة، وصاحبِ قدرة مطلقة تدير أُموره بجميع لوازمه؟ حاشَ لله ألف ألف مرة.

    إذ من المعلوم؛ أنه إذا وُجد في فوج واحد عشرُ أمم مختلفة، فإن تجهيز كل أمة بأعتدة مميزة، عسيرٌ بعشرة أضعاف تجهيز الفوج كله بالأعتدة نفسها. ومن هنا يلجأ الإنسان العاجز إلى تجهيزهم بالملابس والأعتدة الموحدة. بينما الحيُّ القيوم سبحانه يجهّز هذا الجيش العظيم الذي تربو طوائفُه وأممُه على ثلاثمائة ألف طائفة بتجهيزات حياتية متباينة الواحدة عن الأخرى، وبكل سهولة ويسر، وبغير عناء، وبانتظام كامل، وفي منتهى الحكمة. حتى يسوق كلَّ فرد من أفراد ذلك الجيش للقول بلسان حاله: «هو الذي يحيي» بل يجعل تلك الجماعة العظمى تتلو في مسجد الكون العظيم:

    ﴿ اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ (البقرة: ٢٥٥).

    الكلمة السابعة:

    [ويميت]

    أي أنه هو الذي يهَب الموت، أي كما أنه واهب الحياة، فهو الذي يسلبها ويمنح الموت كذلك.

    نعم؛ الموت ليس تخريباً وانطفاءً كي يُسند إلى الأسباب، ويُحال على الطبيعة، بل الموت مهما يبدو ظاهراً انحلالا وانطفاءً إلّا أنه في الحقيقة مبدأ ومقدمةٌ لحياة باقية للإنسان وعنوان لتلك الحياة، مثلما تضمر البذرةُ تحت الأرض وتموت ظاهراً إلّا أنها تمضي باطناً من حياة البذرة الجزئية إلى حياة السنبل الكلية.

    لذا فإن القدير المطلق الذي يهب الحياة ويديرها هو الذي يخلق الموت بلا ريب.

    نشير إلى برهان عظيم لمرتبة التوحيد العظمى التي تتضمنها هذه الكلمة فنقول:

    لقد بينا في النافذة الرابعة والعشرين من «المكتوب الثالث والثلاثين»:

    إنَّ هذه الموجودات سيالةٌ بالإرادة الإلهية.. وإنَّ هذه الكائنات سيارةٌ بالأمر الرباني.. وإنَّ هذه المخلوقات تجري باستمرار في نهر الزمان بإذن الله، وتُرسَل من عالم الغيب ويُخلع عليها الوجودُ الظاهري في عالم الشهادة، ثم تنـزل بانتظام على عالم الغيب. فتأتي دوماً من المستقبل بالأمر الإلهي وتمر على الحال الحاضرة وتتنفس فيها ثم تصب في الماضي..

    فسيلانُ هذه المخلوقات في دائرة الرحمة والإحسان يتم بأسلوب في منتهى الحكمة، وسريانُها ضمن دائرة الحكمة والانتظام يكون في غاية العلم.. وجريانها ضمن دائرة الشفقة والميزان يكون في رحمة واسعة.

    وهكذا تمضي هذه المخلوقات منذ البدء إلى النهاية وتكلل بالحِكَم والمصالح والنتائج والغايات الجليلة.

    بمعنى أن قديراً ذا جلال وحكيماً ذا كمال يمنح الحياة باستمرار بقدرته المطلقة ويوظّف طوائف الموجودات، وجزئيات كل طائفةٍ، والعوالم المتشكلة من تلك الطوائف.. ثم يسرّحها بحكمة، مُظهراً عليها الموت ويرسلها إلى عالم الغيب. أي أنه يحوّلها من دائرة القدرة إلى دائرة العلم.

    فمن لا يقدر على إدارة الكون برمّته، ولا ينفذ حكمُه في الأزمان كلها، ولا تبلغ قدرتُه لتمنح العوالم كلها الموت والحياة -كما يمنحها فرداً واحداً- ويعجز عن أن يجعل الربيع كالزهرة الواحدة، يمنحها الحياة، ويضعها على وجه الأرض، ثم يقطفها بالموت.. إن الذي لا يقدر على هذه الأمور لا يقدر على الإماتة والإحياء قطعاً.

    أي أن موت أي كائن حي -مهما كان جزئياً- لابد أن يكون كحياته، أي يجري بقانون ربّ ذي جلال، بيده حقائق الحياة كلها وأنواع الموت جميعها، ويجريها بإذنه وبقوته وبعلمه.

    الكلمة الثامنة:

    [وهو حي لا يموت]

    أي أنَّ حياته دائمة، أزلية أبدية. لا يعرض عليها الموتُ والفناء والعدم والزوال قطعاً. لأنَّ الحياة ذاتيةٌ له، فالذاتي لا يزول قط.

    نعم، إنَّ الأزلي أبدي بلا شك، والقديمُ باقٍ بلا ريب، والذي هو واجب الوجود، سرمدي البتة.

    نعم، إنَّ حياةً.. يكون جميعُ الوجود بجميع أنواره ظلاً من ظلالها، كيف يعرض عليها العدمُ!

    نعم، إنَّ حياةً.. يكون الوجودُ الواجب عنوانُها ولازمُها، لن يعرِض لها العدم والفناء قطعاً.

    نعم، إنَّ حياةً.. يظهر بتجليها جميعُ أنواع الحياة باستمرار، ويستند إليها جميعُ الحقائق الثابتة للكائنات بل هي قائمةٌ بها، لن يعرِض لها الفناءُ والزوال قطعاً.

    نعم، إنَّ حياةً.. تُورِث لمعةٌ من تجلٍ منها وحدةً للأشياء الكثيرة المعرَّضة للفناء والزوال وتجعلها باقيةً وتُنجيها من التشتت والتبعثر وتحفظ وجودَها وتجعلها مُظهراً لنوع من البقاء -أي تمنح الكثرةَ وحدةً وتُبقيها، فإذا ولّت تبعثرت الأشياءُ وفَنِيَت- لاشك إن الزوال والفناء لا يدنُوان من هذه الحياة الواجبة التي تُعد هذه اللمعات الحياتية جلوةً من جلواته.

    والشاهد القاطع لهذه الحقيقة هو زوالُ هذه الكائنات وفناؤها، أي أن الكائنات كما تدل وتشهد بأنواع وجودها وصنوفِ حياتها على حياة ذلك الحي الذي لا يموت وعلى وجوب وجود تلك الحياة ([5]) تدل وتشهد بأنواع موتِها وصنوف زوالها على بقاء تلك الحياة وعلى سرمديتها؛ لأنَّ الموجودات بعد زوالها تأتي عَقِبَها أمثالُها فتنال الحياةَ مثلَها وتحلّ محلها، مما يدل على أن حياً دائماً موجودٌ، وهو الذي يجدّد باستمرار تجلي الحياة؛

    إذ كما أن الحباب التي تعلو سطحَ النهر وتقابل الشمس تتلمع ثم تذهب، والتي تعقبها تتلمع أيضاً مثلها، وهكذا.. طائفة إثر طائفة، كلٌ منها تتلمع، ثم تنطفئ وتذهب إلى شأنها.. فهذا التعاقب في الالتماع والانطفاء يدل على شمس دائمة عالية.. كذلك يشهد تبدلُ الحياة والموت ومناوبتِهما في هذه الموجودات السيارة على بقاء حيّ باقٍ وعلى دوامه.

    نعم، إنَّ هذه الموجودات مرايا، ولكن مثلما الظلامُ يكون مرآة للنور بحيث كلما اشتد الظلام ازداد سطوعُ النور، فالموجودات أيضاً من حيث الضدية ومن جهات كثيرة جداً تقوم مقام المرايا.

    فمثلاً: إنَّ الموجودات تؤدي وظيفة المرآة بإظهار قدرة الصانع بعَجزها، وبيان غناه سبحانه بفقرِها، كذلك تدل بفنائِها على بقائه سبحانه.

    نعم، إنَّ لباسَ الجوع وجلباب الفقر الذي يلبسه سطحُ الأرض وما عليه من أشجار في موسم الشتاء، وتبدُّل تلك الملابس بحُلل الربيع الزاهية الطافحة بالغنى والثروات، دليل على قدير مطلق القدرة وعلى غني مطلق الغنى، وعلى أن الموجودات مرآة صافية لإظهار قدرته ورحمته سبحانه.

    نعم، لكأن جميعَ الموجودات تقول بلسان حالها وتناجي ربَّها بمناجاة «أويس القرني» وتقول:

    «يا إلهنا..

    أنت ربُّنا، إذ نحن العبيد العاجزون عن تربية أنفسنا، فأنت الذي تربينا.

    وأنت الخالق، إذ نحن مخلوقون، مصنوعون.

    وأنت الرزاق، إذ نحن المحتاجون إلى الرزق، أيدينا قاصرةٌ فأنت الذي تخلقنا وترزقنا.

    وأنت المالك، إذ نحن مملوكون، يتصرف في أمورنا غيرُنا فأنت مالكنا.

    وأنت العزيز العظيم، إذ نحن الأذلاء، لبسنا ثوبَ الذل ولكن علينا جلواتُ عزٍّ، فنحن مرايا عزّتك.

    وأنت الغني المطلق، إذ نحن الفقراء يُسلَّم إلى يد فَقرنا غنى يصل إلى ما لا نقدر عليه، فأنت الغني وأنت الوهاب.

    وأنت الحي الباقي، إذ نحن نموت، نرى جلوةَ حياة دائمة في موتنا وحياتنا.

    وأنت الباقي، إذ نحن فانون ، نرى دوامَك وبقاءك في فنائنا وزوالنا.

    وأنت المجيب وأنت المعطي، إذ نحن والموجودات كلُّها نسأل بألسنةِ أقوالنا وأحوالنا ونصرخ ونتضرع ونستغيث، فتتحقق مطالبُنا، وتُنفَّذ رغباتُنا، وتوهب مقاصدُنا. فأنت المجيب يا إلهي...».

    وهكذا تناجي جميعُ الموجودات جزئيّها وكليّها ربَّها كـ«أويس القرني» مناجاة معنوية، وكل منها تؤدي وظيفة المرآة، ويعلن كل موجود بعَجزه وفَقره وتقصيره قدرةَ الله وكماله سبحانه.

    الكلمة التاسعة:

    [بيده الخير]

    أي أن الخيراتِ كلَّها بيده، الحسناتُ كلُّها في سجله، الآلاءُ كلها في خزينته، لذا من يريد الخيرَ فليسأله منه، ومن يرغب في الإحسان فليتضرع إليه.

    نشير إلى أمارات دليلٍ واسع جداً ولمعاته من أدلة العلم الإلهي التي لا تحصى، إظهاراً لحقيقة هذه الكلمة بجلاء. فنقول:

    إن الصانع الجليل الذي يوجِد ويتصرّف بأفعاله الظاهرة في هذا الكون، له علمٌ محيط بكل شيء، وإن ذلك العلمَ خاصّةٌ لازمة ضرورية لذاته الجليلة، محالٌ انفكاكه عنها، إذ كما لا يُتصوَّر وجودُ ذات الشمس بلا ضياء، كذلك الصانع الجليل الذي أوجد هذه الموجودات بانتظام رائع -لا يمكن بألوف المرات- أن ينفكّ علمُه عنه.

    فهذا العلمُ المحيط بكل شيء ضروري لتلك الذات الجليلة، فهو ضروري أيضاً لكل شيء من حيث التعلق. أي لا يمكن أن يتستّر ويتخفى عنه أيُّ شيء كان بأي حال من الأحوال. إذ كما لا يمكن أن لا ترى الأشياءُ المبثوثة على سطح الأرض الشمسَ وهي التي تقابلها دون حجاب، كذلك لا يمكن بل محالٌ بألوف المرات أن تتستر الأشياءُ عن نور علم ذلك العليم الجليل سبحانه. وذلك لوجود الحضور، أي أن كل شيء ضمن دائرة نظره سبحانه، ويقابله، وضمن دائرة شهوده جلّ وعلا، وإن علمه نافذ في كل شيء.

    فلئن كان شعاعُ هذه الشمس الجامدة، ونورُ هذا الإنسان العاجز، وشعاع الأشعة السِّينيّة التي لا تملك شعوراً، وأمثالُها من الأشعة.. أقول: لئن كانت هذه الأشعة وهي حادثة، ناقصة، عارضة، تُشاهد أنوارُها كلَّ ما يقابلها وتنفذ فيه، فكيف بنور العلم الأزلي، الواجب، المحيط، الذاتي.

    إذن.. لابد أن لا يتستر عنه شيء قط ولا يبقى شيء خارجَه قطعاً.

    وفي الكون من العلامات والآيات المبثوثة ما لا يعد ولا يحصى كلُّها تشير إلى هذه الحقيقة، نورد منها ما يأتي:

    إن جميع الحِكَم المشاهدة في الموجودات تشير إلى ذلك العلم المحيط، لأن إنجاز العمل بحكمة إنما يكون بالعلم.

    وكذا العناية والتزيين في الموجودات تشيران أيضاً إلى ذلك العلم المحيط، لأن الذي يعمل باللطف والعناية، لابد أنه يعلم، وأنه يعمل بعلم.

    وكذا كل موجود من الموجودات المنتظم الموزون بميزان دقيق، وكلُّ هيئة من هيئاتها الموزونة والمقدَّرة أيضاً، تشير إلى ذلك العلم المحيط، لأن أداء العمل بانتظامٍ يكون بالعلم.

    وكذا جميع العنايات والتزيينات تشير إلى ذلك العلم. لأن الذي يخلق مصنوعاته بمكيال وميزان وتقدير وإتقان، لاشك أنه يعمل ما يشاء مستنداً إلى علم قوي.

    وكذا جميع المقادير المنتظمة المشاهَدة في الموجودات كلها، والأشكال التي فُصِّلت على وفق الحِكَم والمصالح، والهيئات المنتجة، والأوضاع المثمرة التي نظّمت على وفق دساتير القضاء وضوابط القدر، إنما تدل على علم محيط.

    نعم، تصوير الأشياء على اختلافها تصويراً منتظماً، وتشكيلُ كل شيء بشكل مخصوص به وملائم لوجوده ولمصالح حياته، إنما يكون بعلم محيط، لا غير.

    وكذا إرسال الرزق لجميع ذوي الحياة -من حيث لا يحتسب- وفي الوقت المناسب، وبشكل ملائم لكل واحد منها، إنما يكون بعلم محيط؛ لأن الذي يرزق لا ريب أنه يعلم حال من يحتاج إلى الرزق ويعرفه ويعلم بوقت رزقه ويدرك حاجاته، ثم يرزقه على أفضل صورة.

    وكذا وفاة جميع ذوي الحياة بآجالها المعقودة بقانون من التعيّن -مع تستّرها بعنوان الإبهام- تدل على علم محيط بكل شيء، لأن أجَلَ كل طائفة من طوائف ذوي الحياة معيّنٌ في زمن محدود بين حدّين، وإن كان لا يشاهد ظاهراً وقتٌ معين لحلول آجال أفرادها. لذا فالحفاظ على نتاج ذلك الشيء وثمرته ونواته بعد حلول أجلِه يديم وظيفتَه عقبه، ويحوّل تلك الثمرات والنوى إلى حياة جديدة، إنما يدل على ذلك العلم المحيط أيضاً.

    وكذا ألطاف الرحمة السابغة على الموجودات كلها، كلٌّ بما يليق به، إنما تدل على علم محيط ضمن رحمة واسعة، لأن الذي يربّي أطفال ذوي الحياة وصغارها باللبن ويغيث النباتات الأرضية المحتاجة إلى الماء بالغيث، لابد أنه يعرف أولئك الصغار ويعلم بحاجاتهم ويرى تلك النباتات ويدرك ضرورة المطر لها، ومن بعد ذلك يرسله إليها.

    وهكذا تدل جلواتٌ لا تحد لرحمته الواسعة سبحانه والمكللة بالعناية والحكمة، على علم محيط.

    وكذا ما في إتقان الصنعة للأشياء كلِّها من اهتمام بالغ وتصوير بديع وتزيين فائق يدل على علم محيط. لأن انتقاء وضعٍ منتظم حكيم مزيّن بديع من بين ألوف الأوضاع المختلفة المحتملة إنما يكون بعلم نافذ، فهذا النوع من الانتقاء في الأشياء كلها يدل على علم محيط.

    وكذا السهولةُ المطلقة في إيجاد الأشياء وإبداعِها بيسر تام تدل على علم كامل، لأن اليُسر في عمل ما والسهولة في إيجاد وضعٍ ما، يتناسبان مع مدى العلم والمهارة، إذ كلما زاد العلم سهُل العملُ.

    فبناء على هذا السر ننظر إلى الموجودات فنرى أن كلاً منها معجزةٌ من معجزات الصنعة والإبداع، وإنها توجد إيجاداً محيّراً للألباب، في منتهى اليسر والسهولة، وبلا تكاليف ولا تكلّف وفي أقصر وقت وفي أتم صورة معجزة. بمعنى أن هناك علماً لا يحد له حدود يؤدي إلى هذا العمل بسهولة مطلقة.

    وهكذا فالأمارات المذكورة وأمثالها من ألوف العلامات الصادقة تدل على أن الرب الجليل الذي يدبّر شؤون الكون ويصرّف أموره، له علمٌ محيط بكل شيء. فهو الذي يحيط علمُه بجميع شؤون الشيء ويأتي عملُه فيه وفق ذاك.

    وحيث إن رب العالمين له علم كهذا فلابد أنه يرى الإنسان أيضاً وأعمال الإنسان كذلك ويعلم ما يليق به وما يستحقه فيعامله بمقتضى حكمته ورحمته.

    فيا أيها الإنسان! عُد إلى رشدك، وتدبّر في عظمة من يعلم بحالك ويراقبك. اعلم ذلك وانتبه!.

    وإذا قيل: إن العلم وحده لا يكفي، فالإرادة ضرورية أيضاً، إذ إن لم تكن الإرادةُ موجودةً فلا يكفي العلم وحده!.

    الجواب: الموجودات كلها تدل على علم محيط وتشهد له، كذلك تدل على الإرادة المطلقة لذلك العليم بكل شيء وذلك:

    إنَّ إعطاء تشخّص في غاية الانتظام لكل شيء، ولاسيما لكل ذي حياة، باحتمال معيَّن من بين احتمالات كثيرة جداً ومختلَطة، بطريق مُنتجٍ من بين طرق كثيرة جداً وعقيمة، وهو الذي يتردد ضمن إمكانات واحتمالات كثيرة، إنما يدل على إرادة كلية بجهات غير محدودة.

    لأن إعطاء شكلٍ موزون وتشخّص منتظم، المحسوبُ حسابُه بميزان في منتهى الدقة والحساسية، وبمكيال دقيق للغاية، مع انتظام في غاية الدقة والرقة، من بين إمكانات واحتمالات غير محدودة تحيط بوجود كل شيء، وتحفّه طرقٌ عقيمة غير مثمرة لاتحد وفي خضم عناصر جامدة مختلَطة تسيل سيلاً دون ميزان.. إنما يدل بالبداهة والضرورة بل بالمشاهدة على أنه أثرٌ لإرادة كلية.

    لأن انتخاب وضع معيّن من بين أوضاع غير محدودة، إنما يكون بتخصيص وبترجيح، وبقصد وبإرادة، ويخصَّصُ بطلب وقصد.

    فلا شك أن التخصيص يقتضي مخصِّصاً، والترجيح يستلزم مرجِّحاً، وما المخصِّص والمرجِّح إلّا الإرادة.

    فمثلاً: إن إيجاد جسم الإنسان الشبيه بماكنة مركبة من مئات الأجهزة المتباينة والآلات المختلفة من نطفة، وإيجاد الطير الذي يملك مئات الجوارح المختلفة من بيضة بسيطة، وإيجاد الشجرة التي لها مئات الفروع والأعضاء المتنوعة من بذرة صغيرة.. هذا الإيجاد لا ريب أنه يدل على القدرة والعلم، كما يشهد شهادة قاطعة وضرورية للإرادة الكلية لصانعها الجليل. حيث إنه سبحانه بتلك الإرادة يخصّص كلَّ ما يتطلبه ذلك الشيء، ويعطي شكلاً خاصاً لكل جزء من أجزاء ذلك الشيء ولكل عضو ولكل قسم منه فيُلبسه وضعاً معيناً.

    حاصل الكلام: كما أنَّ تشابه الأعضاء المهمة في الأشياء والأحياء -مثلاً- من حيث الأساس والنتائج وتوافقَها، وإظهارها سكة واحدة -وعلامة واحدة من علامات الوحدة- يدل دلالة قاطعة على أن صانع جميع الحيوانات واحد أحد. كذلك التشخّصات المختلفة للحيوانات والتمييز الحكيم والتعيين الدقيق في سيماها -مع اختلافاتها وتخالفها- تدل دلالة واضحة على أن صانعها الواحد فاعل مختار ومريد، يفعل ما يشاء، فما شاء فعل وما لم يشأ لا يفعل. فهو يعمل بقصد وإرادة.

    فهناك إذن دلالات وشهادات على العلم الإلهي والإرادة الربانية بعدد الموجودات بل بعدد شؤونها، لذا فإن نفي قسم من الفلاسفة للإرادة الإلهية، وإنكار قسم من أهل البدع للقدر الإلهي، وإدعاء قسم من أهل الضلالة عدم اطلاعه سبحانه على الجزئيات، وإسناد الطبيعيين لقسم من الموجودات إلى الطبيعة والأسباب، كذبٌ مضاعَف وافتراء شنيع ترفضه الموجوداتُ بعددها، بل ضلالةٌ وبلاهة أضعاف أضعاف عدد الموجودات وشؤونها. لأن الذي يكذّب شهاداتٍ صادقة لا تُحد، يفتري كذباً غير محدود.

    ومن هنا يمكنك أن تقيس كم هو عِظَم الخطأ، وكم هو عِظم البُعد عن الحقيقة وكم هو منافٍ للصواب وإجحافٌ بالحق،

    قولُ البعض عن قصد: «أمر طبيعي» بدلاً من قوله: «إن شاء الله.. إن شاء الله» في الأمور التي لا تظهر للوجود إلّا بمشيئته سبحانه!.

    الكلمة العاشرة:

    [وهو على كل شيء قدير]

    أي لا يثقل عليه شيء. فما من شيء في دائرة الإمكان إلّا وهو قادر على أن يُلبسه الوجود بكل سهولة ويُسر. فهذا الأمر سهل عليه إلى حد أنه بمجرد أمره إليه يحصل الشيءُ بمقتضى قوله تعالى:

    ﴿ اِنَّمَٓا اَمْرُهُٓ اِذَٓا اَرَادَ شَيْـًٔا اَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ (يس:٨٢).

    إذ كما أنَّ صنّاعاً ماهراً جداً، ما إنْ يكاد تمسّ يدُه الشيءَ إلّا ويبدأ بالعمل كالماكينة. ويقال تعبيراً عن تلك السرعة والمهارة: أنَّ ذلك العمل وتلك الصنعة سهل عليه ومسخّر بيده حتى كأن العمل يتم بمجرد أمره ومسّه، فالأعمال تُنجَز والمصنوعات توجد.

    وكذلك الأشياء إزاء قدرة القدير ذي الجلال مسخّرةٌ في منتهى التسخير، ومنقادةٌ انقياداً تاماً، وإن تلك القدرة تعمل الأشياءَ وتنجزها في منتهى السهولة، وبلا معالجة ولا كُلفة حتى عبّر القرآن الكريم عن ذلك بقوله تعالى:

    ﴿ اِنَّمَٓا اَمْرُهُٓ اِذَٓا اَرَادَ شَيْـًٔا اَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾

    سنبيّن خمساً من الأسرار غير المحدودة لهذه الحقيقة العظمى وذلك في خمس نكاتٍ:

    أُولاها:

    إنَّ أعظم شيء سهلٌ ويسير على القدرة الإلهية كأصغر شيء، فإيجادُ نوع من الأحياء بجميع أفراده سهلٌ كإيجاد فرد واحد. وخلقُ الجنة الواسعة يسيرٌ عليها كيُسر خلق الربيع. وخلقُ الربيع سهلٌ كسهولة خلق زهرة واحدة.

    ولقد أوضحنا هذا السر في أواخر «الكلمة العاشرة»، وفي بيان «الأساس الثاني من الكلمة التاسعة والعشرين» وذلك في ستةٍ من الأسرار التمثيلية، وهي: سرُّ النورانية وسرُّ الشفافية وسرُّ المقابلة وسرُّ الموازنة وسرُّ الانتظام وسرُّ الطاعة وسرُّ التجرد.. وأثبتنا هناك؛ بأن النجوم والذرات سيّان في السهولة إزاء القدرة الإلهية وإنها تَخلق أفراداً غير محدودين بسهولة خلق الفرد الواحد بلا تكلف ولا معالجة.

    ولما كانت هذه الأسرار الستة قد وضّحت في تلكما الكلمتين، نختصر الكلام هنا، ونحيل إليهما.

    ثانيتها:

    إنَّ الدليل القاطع والبرهان الساطع على أن كل شيء سواءٌ بالنسبة إلى القدرة الإلهية،

    هي أننا نشاهد بأعيننا أنَّ في إيجاد الحيوانات والنباتات منتهى الإتقان وغايةَ حسن الصنعة ضمن سخاءٍ مطلق وكثرةٍ مطلقة.

    ويُشاهَد فيها أيضاً منتهى الامتياز والتفريق ضمن منتهى الاختلاط والامتزاج.

    ويشاهد فيها أيضاً منتهى القيمة الراقية في الصنعة وجمال الخلقة ضمن منتهى الوفرة والوسعة.

    وتُخلق الأشياء في سهولة وسرعة مطلقتين مع حاجتها إلى أجهزة كثيرة وزمان مديد لإبراز الصنعة المتقنة. حتى كأن تلك المعجزات للصنعة البديعة تبرُز للوجود دفعة من غير شيء.

    فما نراه من فعالية القدرة الإلهية الواسعة على سطح الأرض كافة وفي كل موسم تدل دلالة قاطعة على أن أكبر شيء إزاء هذه القدرة التي هي منبعُ هذه الفعالية سهل ويسير كأصغرِه، وأن إيجاد أفرادٍ غير محدودين وإدارتهم يسيرٌ عليها كإيجاد فرد واحد وأدارته.

    ثالثتها:

    إنَّ أكبر كلٍّ كأصغر جزءٍ هيّن إزاء قدرة الصانع القدير الذي يهيمن بأفعاله وتصريفه الأمور في الكون وكما هو مشاهد. فإيجاد الكلّي بكثرة من حيث الأفراد سهل كإيجاد جزئي واحد. ويمكن إظهار إبداع الصنعة المتقنة في أصغر جزئي اعتيادي.

    وينبع سر الحكمة لهذه الحقيقة من ثلاثة منابع:

    الأول: إمداد الواحدية.

    الثاني: يُسر الوحدة.

    الثالث: تجلي الأحدية.

    المنبع الأول: وهو إمداد الواحدية

    أي إن كان كلُّ شيء وكلُّ الأشياء مُلكاً لمالك واحد فعندئذ يمكن من حيث الواحدية أن يحشّد قوة جميع الأشياء وراء كل شيء، ويدبّر أمور جميع الأشياء بسهولة إدارة الشيء الواحد. ولأجل تقريب هذا السر إلى الأفهام نقول في تمثيل:

    بلد يحكمها سلطان واحد يستطيع أن يحشّد قوةً معنوية لجيش كامل وراء كلِّ جندي من جنوده، وذلك من حيث قانون السلطنة الواحدة. لذا يستطيع ذلك الجندي الفرد أن يأسر القائد الأعظم للعدو بل يمكن أنْ يسيطر بإسم سلطانه على مَن هو فوق ذلك القائد.

    ثم إن ذلك السلطان، مثلما يستخدم موظفاً أو جندياً، ويدبّر أمور جميع الموظفين وجميع الجنود أيضاً بسر السلطنة الواحدة، وكأنه يُرسل كلَّ شخص وكل شيء بسر سلطنته الواحدة لإمداد أي فردٍ كان. يمكن أن يستند كل فرد من أفراد رعيته إلى قوة جميع الأفراد، أي يستطيع أن يستمد منها.

    ولكن لو حُلّت حبالُ تلك الواحدية للسلطنة، وأصبحت السلطنةُ سائبةً وفوضى؛ فإن كل جندي عندئذٍ يفقد -بالمرة- قوةً لا تُحد، ويهوي من مقام نفوذٍ رفيع، ويصبح في مستوى إنسان اعتيادي. وعندها تنجم مشاكلٌ للإدارة والاستخدام بعدد الأفراد.

    كذلك ﴿وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى﴾ فصانع هذا الكون لكونِه واحداً، فإنه يحشّد أسماءه المتوجهة إلى جميع الأشياء، تجاه كل شيء. فيوجِد المصنوع بإتقان تام وبصورة رائعة. وإن لزم الأمر يتوجّه بجميع الأشياء إلى الشيء الواحد، ويوجهها إليه، ويمدّه بها ويقويه بها.

    وإنه يخلق جميعَ الأشياء أيضاً بسر الواحدية، ويتصرف فيها ويدبّر أمورَها كإيجاد الشيء الواحد.

    ومن هذا السر -سر إمداد الواحدية- تُشاهَد في الكائنات نوعيات رفيعة قيمة متقنة جداً ضمن وفرةٍ مطلقة ورُخص مطلق.

    المنبع الثاني: الذي هو يُسر الوحدة

    أي أنَّ الأفعال التي تتم بأصول الوحدة ومن مركز واحد بتصرفٍ واحد وبقانون واحد، تورث سهولةً مطلقة. بينما إن كانت تدارُ من مراكز متعددة، وبقوانين متعددة، وبأيدٍ متعددة تنجم مشكلاتٌ عويصة.

    مثلاً: إذا جُهّز جميعُ أفراد الجيش بالأعتدة والتجهيزات من مركز واحد، وبقانون واحد، وبأمر قائد عظيم واحد، يكون الأمر سهلاً سهولةَ تجهيز جندي واحد. بينما إذا أُحيل التجهيز إلى معامل متفرقة، ومراكز متعددة يلزم عندئذٍ لتجهيز جندي واحد جميعَ المعامل العسكرية التي تزود الجيش بالتجهيزات اللازمة.

    بمعنى أنه إذا أُسند الأمرُ إلى الوحدة فإن تجهيز الجيش كاملاً يكون سهلاً كتجهيز جندي واحد، ولكن إنْ لم يُسند إلى الوحدة فإن تزويد جندي واحد بالتجهيزات الأساسية يولد مشاكل بعدد أفراد الجيش.

    وكذا إذا زُوّدت ثمراتُ شجرة ما -من حيث الوحدة- بالمادة الحياتية من مركز واحد وبقانون واحد واستناداً إلى جذر واحد. فإن ألوفَ الثمرات تتزود بها بسهولة كسهولة ثمرة واحدة. بينما إذا رُبطت كلُّ ثمرة إلى مراكز متعددة، وأُرسلت إلى كل منها موادها الحياتية، عندها تنجم مشكلاتٌ بقدر عدد ثمرات الشجرة، لأن المواد الحياتية التي تلزم شجرة كاملة تلزم كل ثمرة من الثمرات أيضاً.

    وهكذا فبمثل هذين التمثيلين ﴿وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى﴾ فإن صانع هذا الكون لكونه واحداً أحداً، يفعل ما يريد بالوحدة. ولأنه يفعل بالوحدة، تسهل جميع الأشياء كالشيء الواحد. فضلاً عن أنه يعمل الشيء الواحد بإتقان تام كالأشياء جميعاً. ويخلق أفراداً لا حدّ لها في قيمة رفيعة. فيُظهر جُوده المطلق بلسان هذا البذل المشاهد والرخص غير المتناهي، ويظهر بها سخاءه المطلق وخلاقيته المطلقة.

    المنبع الثالث: وهو تجلي الأحدية

    أي إن الصانع الجليل منـزّه عن الجسم والجسمانية، لذا لا يحصره زمانٌ ولا يقيّده مكان، ولا يتداخل في حضوره وشهوده الكون والمكان، ولا تحجب الوسائطُ والأجرام فعلَه بالحُجب. فلا انقسام ولا تجزؤ في توجهه سبحانه ولا يمنع شيءٌ شيئاً، يفعل ما لا يحد من الأفعال كالفعل الواحد، ولهذا فإنه يُدرج معنىً شجرةً ضخمة جداً في بذرة صغيرة، ويدرج العالمَ في فرد واحد، ويدير أمور العالم كله بيد قدرته كإدارة فرد واحد.

    فكما أوضحنا هذا السر في كلمات أخرى نقول أيضاً:

    إنَّ ضوء الشمس الذي لا قيد له إلى حدٍ ما، يدخل في كل شيء لمّاع، حيث إنه نوراني، فلو واجهَتها ألوفُ بل ملايين المرايا، فإن صورتها النورانية المثالية تدخل في كل مرآة دون انقسام، كما هي في مرآة واحدة. فلو كانت المرآةُ ذات قابلية، فإن الشمس بعظمتها يمكن أن تُظهر فيها آثارَها، فلا يمنع شيء شيئاً. إذ يدخل -مثال الشمس- في المرآة الواحدة كما في الألوف منها بسهولة تامة، وهي توجد في مكان واحد بسهولة وجودها في ألوف الأماكن. وتكون كل مرآة وكل مكان مظهراً لجلوة تلك الشمس كما هي لألوف الأماكن.

    ﴿وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى﴾ إنَّ لصانع هذا الكون ذي الجلال تجلياً، بسرّ توجّه الأحدية، بجميع صفاته الجليلة التي هي أنوار، وبجميع أسمائه الحسنى التي هي نورانية، فيكون حاضراً ناظراً في كل مكان، ولا يحدّه مكان، ولا انقسام في توجهه سبحانه، يفعل ما يريد فيما يشاء في كل مكان، في آن واحد ومن دون تكلف ولا معالجة ولا مزاحمة.

    فبسرّ إمداد الواحدية ويُسر الوحدة وتجلي الأحدية هذه إذا أُسندت جميعُ الموجودات إلى الصانع الواحد، فالموجودات كلُّها تسهل كالموجود الواحد ويكون كل موجود ذا قيمة عالية كالموجودات كلها من حيث الإتقان والإبداع. كما أن دقائق الصنعة المتقنة الموجودة في كل موجود رغم الوفرة في الموجودات تبين هذه الحقيقة.

    بينما إنْ لم تُسند تلك الموجودات إلى الصانع الواحد بالذات فإن كل موجود عندئذٍ يكون ذا مشاكل بقدر مشاكل الموجودات كلها. وإن قيمة الموجودات كلها تسقط إلى قيمة موجود واحد. وفي هذه الحالة لا يأتي شيءٌ إلى الوجود، أو إذا وُجد فلا قيمة له ولا يساوي شيئاً.

    ومن هذا السرّ، تجد السوفسطائيين الموغلين في الفلسفة، السابقين فيها قد نظروا إلى طريق الضلالة والكفر معرضين عن طريق الحق ورأوا أنَّ طريق الشرك عويصة وعسيرة وغير معقولة قطعاً بألوف المرات من طريق التوحيد، طريق الحق؛ لذا اضطروا إلى إنكار وجود كل شيء وتخلّوا عن العقل.

    النكتة الرابعة:

    إنَّ إيجاد الجنة سهل كإيجاد الربيع، وإيجاد الربيع يسير كإيجاد زهرة واحدة بالنسبة إلى قدرة رب العالمين الذي يصرّف أمور هذا الكون بأفعاله الظاهرة المشهودة، ويمكن أنْ تكون إزاء تلك القدرة قيمةُ محاسن الصنعة البديعة لزهرة واحدة ولطفُ خلقتها بقيمة لطافة الربيع الزاهر.

    إنَّ سر هذه الحقيقة ثلاثة أشياء:

    الأول: الوجوب والتجرد في الصانع الجليل.

    الثاني: عدم التقيد مع مباينة ماهيته.

    الثالث: عدم التحيّز مع عدم التجزء.

    السر الأول: إنَّ الوجوب والتجرد يسببان السهولة المطلقة واليسر المطلق.

    هذا السر عميق للغاية ودقيق للغاية. وسنقرّبه بتمثيل إلى الفهم، وذلك:

    إنَّ مراتب الوجود مختلفة، وعوالم الموجودات متباينة، لذا فإن ذرة من طبقة وجود ذات رسوخ في الوجود تعدل جبلا من طبقة وجود أقل منها رسوخاً، وتستوعب ذلك الجبل، فمثلاً:

    إنَّ القوة الحافظة الموجودة في الإنسان -وهي لا تعدل حبة خردل من عالم الشهادة- تستوعب وجوداً من عالم المعنى بمقدار مكتبة ضخمة.

    وإن مرآة صغيرة صغر الأظفر من العالم الخارجي، تضم مدينة عظيمة جداً من طبقة وجود من عالم المثال.

    فلو كانت لتلك المرآة ولتلك القوة الحافظة من العالم الخارجي شعور وقوة للإيجاد، لأحدثتا تحولات وتصرفات غير محدودة في ذلك الوجود المعنوي والمثالي، رغم ما فيهما من قوة وجود خارجي صغير ضئيل.

    وهذا يعني أنه كلما ترسّخ الوجود ازداد قوة، فالشيء القليل يأخذ حُكمَ الكثير، ولاسيما إن كان الوجود مجرداً عن المادة ولم يدخل تحت ضوابط القيد وكَسبَ الرسوخ التام، فإن جلوة جزئية منه تستطيع أن تدير عوالم كثيرة من سائر الطبقات الخفيفة من عالم الوجود.

    ﴿وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى﴾ إنَّ الصانع الجليل لهذا الكون العظيم هو واجب الوجود. أي أنَّ وجوده ذاتي أزلي، أبدي، عدمُه ممتنع، زوالُه محال، وأن وجوده أرسخ طبقة من طبقات الوجود وأرساها وأقواها وأكملها، بينما سائر طبقات الوجود بالنسبة لوجوده سبحانه بمثابة ظلٍ في منتهى الضعف.

    وإن هذا الوجود، واجب، راسخ، ذو حقيقة، إلى حدٍ عظيم. ووجود الممكنات خفيف وضعيف في منتهى الخفة والضعف، بحيث دفع الشيخ محي الدين بن عربي وأمثاله الكثيرين من أهل التحقيق أن يُنـزلوا سائر طبقات الوجود منـزلة الأوهام والخيالات، فقالوا: «لا موجود إلّا هو»، وقرروا أنه لا ينبغي أن يقال لما سوى الوجود الواجب وجوداً، إذ لا تستحق هذه الأنواع من الوجود عنوان الوجود.

    وهكذا فوجود الموجودات التي هي عَرَضية وحادثة، و ثبوت الممكنات التي لا قرار ولا قوة لها، يسيرٌ في منتهى اليسر إزاء قدرة واجب الوجود الذاتية الواجبة. فإحياء جميع الأرواح في الحشر الأعظم ومحاكمتِها سهلٌ ويسير على تلك القدرة كسهولة حشر وإحياء الأوراق والأزهار والثمار في الربيع بل في حديقة صغيرة بل في شجرة.

    السر الثاني: إن مباينة الماهية مع عدم التقيّد يسببان السهولة المطلقة، وذلك:

    إنَّ صانع الكون جلَّ جلالُه ليس من جنس الكون بلا شك، فلا تشبه ماهيتُه أية ماهية كانت، لذا فإن الموانع والقيود التي هي ضمن دائرة الكائنات لا تتمكن قطعاً أن تعترض إجراءاته وتقيّدها، فهو القادر على إدارة الكون كله في آن واحد ويتصرف فيه تصرفاً مباشراً.

    فلو أُحيل تصريف الأمور وأفعاله الظاهرة في الكون إلى الكائنات أنفسها، لنجمت من المشكلات والاختلاطات الكثيرة بحيث لا يبقى أي انتظام أصلاً ولا أي شيء في الوجود بل لا يأتي أصلاً إلى الوجود.

    فمثلاً: لو أُحيلت المهارةُ في بناء القبة إلى أحجارها، وفُوّض ما يخص الضابط في إدارة الفوج إلى الجنود أنفسهم، فإما لا تحصل تلك النتيجة ولا تأتي إلى الوجود أصلاً، أو يحدث فوضى من عدم الانتظام ومشكلات واختلاط الأمور. بينما إذا أُسندت المهارة في بناء القبب إلى صناع ليس من نوع الحجر، وفُوضت إدارة الجنود في الفوج إلى ضابط حاز ماهية الضابط -من حيث الرتبة -فإن الصنعة تُسهّل والإدارة تتيسر، حيث إن الأحجار وكذا الجنود يمنع أحدُها الآخر. بينما البنّاء والضابط ينظران ويتوجهان ويديران كل نقطة من نقاط البناء أو الجنود دون مانع أو عائق.

    ﴿وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى﴾ إن الماهية المقدسة لواجب الوجود ليست من جنس ماهية الممكنات. بل جميعُ حقائق الكائنات ليست إلّا أشعة لإسم «الحق» الذي هو اسم من الأسماء الحسنى لتلك الماهية.

    ولما كانت ماهيتُه المقدسة، واجبةَ الوجود، ومجرّدةً عن المادة، ومخالفةً للماهيات كافة، إذ لا مثل ولا مثال ولا مثيل لها، فإن إدارة الكون إذن وتربيتَه بالنسبة إلى قدرة ذلك الرب الجليل الأزلية، سهلٌ كإدارة الربيع بل كإدارة شجرة واحدة، وإيجاد الحشر الأعظم والدار الآخرة والجنة وجهنم سهل كإحياء الأشجار مجدداً في الربيع بعد موتها في الخريف.

    السر الثالث: إنَّ عدم التحيّز وعدم التجزؤ سببٌ للسهولة المطلقة وذلك:

    إن الصانع القدير لما كان منـزّهاً عن المكان فهو حاضر إذن بقدرته في كل مكان قطعاً. وحيث لا تجزؤ ولا انقسام، فيمكن إذن أن يتوجه إلى كل شيء بجميع أسمائه الحسنى.

    وحيث إنه حاضر في كل مكان ومتوجه إلى كل شيء فإن الموجودات والوسائط والأجرام لا تعيق أفعاله ولا تمانعها. بل لو افترضت الحاجة إلى الأشياء -ولا حاجة إليها أصلا- فإنها تصبح وسائلَ تسهيل ووسائط وصول الحياة وأسباباً للسرعة في إنجاز الأفعال كأسلاك الكهرباء وأغصان الشجرة وأعصاب الإنسان. فلا تعويق إذن ولا تقييد ولا تمانع ولا مداخلة قطعاً، إذ كل شيء بمثابة وسيلة تسهيل ووساطة سرعة وأداة إيصال،

    أي لا حاجة إلى شيء من حيث الطاعة والانقياد تجاه تصاريف قدرة القدير الجليل، وحتى لو افترضت الحاجة -ولا حاجة أصلا- فإن الأشياء تكون وسائل تسهيل ووسائط تيسير.

    حاصل الكلام: إنَّ الصانع القدير يخلق كلَّ شيء بما يليق به بلا كلفة ولا معالجة ولا مباشرة، وفي منتهى السهولة والسرعة، فهو سبحانه يوجِد الكليات بسهولة إيجاد الجزئيات ويخلق الجزئيات بإتقان الكلّيات.

    نعم، إنَّ خالق الكلّيات والسماوات والأرض هو خالق الجزئيات وأفراد ذوي الحياة من الجزئيات التي تضمها السماوات والأرض، وليس غيرُه. لأن تلك الجزئيات الصغيرة إنما هي مثالٌ مصغر لتلك الكليات وثمراتها ونواها.

    وإن من كان خالقاً لتلك الجزئيات لاشك أنه هو الخالق لما يحيط بها من العناصر والسماوات والأرض، لأننا نشاهد أن الجزئيات في حُكم نوى بالنسبة للكليات ونسخة مصغرة منها، لذا لابد أن تكون العناصرُ الكلية والسماوات والأرض في يد خالق تلك الجزئيات كي يمكن أن يُدرج خلاصةَ تلك الموجودات الكلية والمحيطة ومعانيها ونماذجها في تلك الجزئيات التي هي نماذجها المصغرة على وفق دساتير حكمته وموازين علمه.

    نعم، إنَّ الجزئيات ليست قاصرةً عن الكليات من حيث عجائب الصنعة وغرائب الخلق. فالأزهار ليست أدنى جمالاً من النجوم الزاهرة ولا البذور أحطّ قيمة من الأشجار اليافعة. بل الشجرة المعنوية المُدرَجة بنقش القدر في البذرة الصغيرة أعجب من الشجرة المجسمة بنسج القدرة في البستان. وإن خلق الإنسان أعجب من خلق العالم.

    فكما لو كُتب قرآنُ الحكمة بذرات الأثير على جوهرٍ فردٍ يمكن أن يكون أعظمَ قيمةً من قرآن العظمة المكتوبة على السماوات بالنجوم، كذلك هناك كثيرٌ جداً من الجزئيات هي أرقى من الكليات من حيث الصنعة.

    النكتة الخامسة:

    لقد بيّنا آنفاً شيئاً من أسرار وحكم ما يُشاهد في إيجاد الأشياء والمخلوقات من منتهى اليسر والسهولة ومنتهى السرعة في إنجاز الأفعال.

    فوجود الأشياء بهذه السهولة غير المحدودة والسرعة المتناهية، يورث قناعةً قاطعة لدى أهل الإيمان؛

    أن إيجاد الجنة إزاء قدرة خالق المخلوقات سهلٌ كإيجاد الربيع، والربيع كالبستان والبستان كالزهرة.

    وإن حشر البشر قاطبة وبعثَهم سهل كسهولة إماتة فرد وبعثه وذلك مضمون الآية الكريمة:

    ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ اِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ (لقمان: ٢٨).

    وكذلك فإنَّ إحياء جميع الناس يوم الحشر الأعظم يسيرٌ كيُسر جمع الجنود المتفرقين في الاستراحة بصوت من بوق، وهو مضمون صراحة الآية الكريمة:

    ﴿ اِنْ كَانَتْ اِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَاِذَا هُمْ جَم۪يعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ﴾ (يس: ٥٣).

    فهذه السرعة غير المتناهية والسهولة غير المحدودة، مع أنها -بالبداهة- دليل قاطع وبرهان يقيني على كمال قدرة الصانع جل جلاله، وسهولة كل شيء بالنسبة له، إلّا أنها أصبحت سبباً للالتباس على أهل الضلالة. فالتبس في نظرهم تشكيلُ الأشياء وإيجادُها بقدرة الصانع الجليل الذي هو سهلٌ بدرجة الوجوب ، وتشكّلُ الأشياء بنفسها والذي هو محال بألف محال. إذ لأنهم يرون مجيء بعض الأشياء المعتادة إلى الوجود في غاية السهولة فيتوهمون أنها لا تُخلق بل تتشكل بنفسها.

    فتأمل في دَرَك الحماقة السحيق حيث يجعلون دليلَ القدرة المطلقة دليلاً على عدمها، ويفتحون أبواباً لا نهاية لها من المحالات. إذ يلزم عندئذٍ أن تُعطى كلُّ ذرة من ذرات كل مخلوق أوصافَ الكمال التي هي لازمة ذاتية للصانع الجليل كالقدرة المطلقة والعلم المحيط وأمثالِها حتى تتمكن من تشكيل نفسها بنفسها.

    الكلمة الحادية عشرة:

    [وإليه المصير]

    أي إليه المآب من دار الفناء إلى دار البقاء، وإليـه الرجعى في المقر الأبـدي للقديم الباقي، وإليه المساق من دائرة الأسباب الكثيرة إلى دائرة قدرة الواحد الأحد، وإليه المضي من الدنيا إلى الآخرة. أي مرجِعكُم إنما هـو ديوانُه وملجؤكم إنما هو رحمتـه.

    وهكذا تفيد هذه الكلمة كثيراً من أمثـال هذه الحقائـق.

    أما ما في هذه الحقائق من الحقيقة التي تفيد الرجوع إلى الجنة ونيل السعادة الأبدية فقد أثبتناها إثباتاً قاطعاً لا تدع حاجة إلى بيان آخر، وذلك في البراهين الاثني عشر القاطعة في «الكلمة العاشرة» وفي الأسس الستة التي تتضمنها «الكلمة التاسعة والعشرون» ودلائلها الكثيرة القاطعة بقطعية شروق الشمس بعد مغيبها. وقد أثبتت تلكما الكلمتان:

    أنَّ الحياة التي هي شمس معنوية لهذه الدنيا ستطلع طلوعاً باقياً صباح الحشر بعد غروبها بخراب الدنيا. وسيفوز قسمٌ من الجن والإنس بالسعادة الأبدية وينال قسم منهم الشقاء الدائم.

    ولما كانت الكلمتان «العاشرة» و «التاسعة والعشرون» قد أثبتتا هذه الحقيقة على أتم وجه نحيل الكلام إليهما ونقول:

    إنَّ الصانع الحكيم لهذا الكون والخالق الحكيم لهذا الإنسان الذي له علم محيط مطلق وإرادة كلية مطلقة وقدرة مطلقة -كما أثبتت في التوضيحات السابقة إثباتاً قاطعاً- قد وعد بالجنة والسعادة الأبدية للمؤمنين في جميع كتبه وصحفه السماوية. وإذ قد وعدَ فلاشك أنه سيُنجزه. لأن إخلاف الوعد محال عليه، إذ إن عدم إيفاء الوعد نقصٌ مشين. والكامل المطلق منـزّه عن النقص ومقدس عنه. وإن عدم إنجاز الموعود، إمّا أنه ناتج من الجهل أو العجز، والحال أنه محال في حق ذلك القدير المطلق والعليم بكل شيء الجهلُ والعجزُ قطعاً. فخُلف الوعد إذن محال.

    ثم إنَّ جميع الأنبياء عليهم السلام وفي مقدمتهم فخرُ العالم ﷺ وجميع الأولياء وجميع الأصفياء وجميع المؤمنين يسألون دوماً ذلك الرحيم الكريم ما وعده من سعادة أبدية ويتضرعون إليه ويطلبونها منه.

    فضلاً عن أنهم يسألونها مع جميع أسمائه الحسنى، لأن أسماءه وفي المقدمة رأفتُه ورحمتُه وعدالته وحكمته، واسمُ الرحمن والرحيم واسم العادل والحكيم وربوبيتُه المطلقة وسلطنته المهيبة واسم الرب واسم الله سبحانه وتعالى، وأمثالها من أكثر الأسماء الحسنى تقتضي الآخرة والسعادة الأبدية وتستلزمها وتشهد لتحققها وتدل عليها، بل إن جميع الموجودات بجميع حقائقها تشير إلى دار الآخرة (كما أثبت في الكلمة العاشرة).

    ثم إن القرآن الحكيم بألوف آياته الجليلة وبيّنات براهينه الصادقة القاطعة تدل على تلك الحقيقة وتعلّمها.

    ثم إن الحبيب الكريم ﷺ وهو فخرُ الإنسانية قد درّس تلك الحقيقة وعلّمها، مستنداً إلى ألوف معجزاته الباهرة، طوال حياته المباركة، وبكل ما آتاه الله من قوة وأثبتها وأعلنها وشاهدها وأشهدها.

    اللّهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ وَعَلٰى أٰلِه وَصَحْبِه بِعَدَدِ أَنْفَاسِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ وَاحْشُرْنَا وَنَاشِرَهُ وَرُفَقَاءَهُ وَصَاحِبَهُ سَعيدًا وَوَالِدينَا وَإِخْوَانَنَا وَأَخَوَاتِنَا تَحْتَ لِوَائِه وَارْزُقْنَا شَفَاعَتَهُ وَأَدْخِلْنَا الْجَنَّةَ مَعَ أٰلِه وَأَصْحَابِه بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمينَ.

    أٰمينَ أٰمينَ.

    ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَٓا اِنْ نَس۪ينَٓا اَوْ اَخْطَأْنَا ﴾

    ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ اِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةًۚ اِنَّكَ اَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾

    ﴿رَبِّ اشْرَحْ ل۪ي صَدْر۪يۙ ❀ وَيَسِّرْ ل۪ٓي اَمْر۪يۙ ❀ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَان۪يۙ ❀ يَفْقَهُوا قَوْل۪ي ﴾

    ﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّاۜ اِنَّكَ اَنْتَ السَّم۪يعُ الْعَل۪يمُ ﴾ ﴿وَتُبْ عَلَيْنَاۚ اِنَّكَ اَنْتَ التَّوَّابُ الرَّح۪يمُ ﴾

    ﴿ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَٓا اِلَّا مَا عَلَّمْتَنَاۜ اِنَّكَ اَنْتَ الْعَل۪يمُ الْحَك۪يمُ ﴾

    ذيل الكلمة العاشرة من المكتوب العشرين

    بِاسْمِهِ سُبحَانَهُ

    ﴿وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه۪﴾

    بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ

    ﴿ اَلَا بِذِكْرِ اللّٰهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ (الرعد: ٢٨)

    ﴿ ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلًا رَجُلًا ف۪يهِ شُرَكَٓاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍۜ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًاۜ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِۚ بَلْ اَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ (الزمر: ٢٩)

    سؤال: لقد ذكرتَ في مواضع عديدة:

    إنَّ في الوحدة منتهى السهولة، وفي الكثرة والشرك غايةَ الصعوبات. وتقول أيضاً: إن في الوحدة سهولةً بدرجة الوجوب، وفي الشرك صعوبةً بدرجة الامتناع، والحال أن ما بينتَه من المشكلات والمحالات تجري أيضاً في جهة الوحدة. فمثلاً؛ تقول: إن لم تكن الذراتُ مأمورات، يلزم أن يكون في كل ذرة إما علمٌ محيط وقدرةٌ مطلقة أو مكائن ومطابع معنوية غير محدودة وهذا محال بمائة ضعف، بينما لو أصبحت تلك الذرات مأموراتٌ إلهية يلزم أيضاً أن تكون مظهراً لتلك الأمور كي تستطيع القيام بالوظائف التي أُنيطت بها وهي وظائف لا تُحد.

    الجواب: لقد أثبتنا في «كلمات» كثيرة أنه:

    إذا أُسند إيجاد الموجودات كلِّها إلى صانع واحد يكون الأمر سهلاً هيناً بسهولة إيجاد موجود واحد. وإن أُسند إلى الأسباب الكثيرة والطبيعة، فإن خلق ذبابة واحدة يكون صعباً كخلق السماوات، ويكون خلق الزهرة عسيراً بقدر خلق الربيع، وكذا الثمرة بقدر البستان.

    ولما كانت هذه المسألة قد وُضحت وأُثبتت في «كلمات» أخرى، نحيل إليها، إلّا أننا نشير هنا بثلاث إشارات في ثلاث تمثيلات تحقق اطمئنان النفس تجاه هذه الحقيقة.

    التمثيل الأول:

    إن ذرة صغيرة شفافة لماعة لا تسع نور عود ثقاب بالذات، ولا تكون مصدراً له، إذ يمكن أن يكون له نور بالأصالة بقدر جِرمه وبمقدار ماهيته كذرة جزئية. ولكن إذا ما انتسبت إلى الشمس وفتحت عينَها تجاهها ونظرت إليها، فإن تلك الذرة الصغيرة يمكن أن تستوعب تلك الشمس بضيائها وألوانها السبعة وحرارتها حتى بمسافتها، وتنال نوعاً من مظاهر تجليها الأعظم. بمعنى أن تلك الذرة إن بقيت سائبة دون انتساب مستندة إلى ذاتها، لا تعمل شيئاً إلّا بقدر الذرة، ولكن إن عُدّت مأمورة لدى الشمس ومنسوبة إليها ومرآة لها، فإنها تستطيع أن تظهر قسماً من نماذج جزئية لإجراءات الشمس.
    

    ﴿وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى﴾ فإن كلَّ موجود، حتى كل ذرة، إذا أُسندت إلى الكثرة والشرك وإلى الأسباب وإلى الطبيعة وإلى نفسها. فإما أن تكون كلُّ ذرة وكل موجود، مالكةً لعلم محيط بكل شيء ولقدرة مطلقة، أو تتشكل فيها مطابع ومكائن معنوية لا حدّ لها، كي تؤدي أعمالها التي أُودعت فيها.

    ولكن إذا أُسندت تلك الذرات إلى الواحد الأحد، فعندئذٍ ينتسب إليه كلُّ مصنوع وكل ذرة ويكون كالموظف المأمور لديه، وانتسابه هذا يجعله ينال تجلياً منه، وبهذه الحظوة والانتساب يستند إلى علم مطلق وقدرة مطلقة، فينجز من الأعمال ويؤدي من الوظائف ما يفوق قوتَه بملايين المرات، وذلك بقوة خالقه وبسر ذلك الاستناد والانتساب.

    التمثيل الثاني:

    أخَوان: أحدهما شجاع يعتمد على نفسه ويعتدّ بها، والآخر شهم غيور يملك حمية الدفاع عن الوطن. فعند نشوب الحرب، لا ينتسب الأول إلى الدولة لاعتداده بنفسه. بل يرغب أن يؤدي الأعمال بنفسه مما يضطره هذا إلى حمل منابع قوته على ظهره، ويُلجئُه إلى نقل تجهيزاته وعتاده بقدرته المحدودة، لذا لا يستطيع هذا أن يحارب العدو إلّا بمقدار تلك القوة الشخصية الضئيلة، فتراه لا يستطيع أن يجابه إلّا قوة عريف في الجيش، لا أكثر.

    أما الأخ الآخر، غير المعتدّ بنفسه بل يعدّ نفسه عاجزاً لا قوة له، فانتسب إلى السلطان وانخرط في سلك الجندية، فأصبح جيشُ الدولة العظيم نقطةَ استناد له بذلك الانتساب. وخاض غمار الحرب بقوة معنوية عظيمة يمدّها ذلك الانتساب، تعادل قوة جيش عظيم حيث يمكن للسلطان أن يحشّدها له. فحارب العدو حتى جابه مشيراً عظيماً من العدو المغلوب فأمسك به أسيراً وجلبه إلى معسكره باسم السلطان.

    وسرّ هذه الحالة وحكمتُها هي:

    إن الشخص الأول السائب لكونه مضطراً إلى حمل منابع قوته وتجهيزاته، لم يقدر إلّا على عمل جزئي جداً، أما هذا الموظف فليس مضطراً إلى حمل منابع قوته بنفسه بل يحمل عنه ذلك الجيش بأمر السلطان، فيربط نفسه بتلك القوة العظيمة بالانتساب، كمن يربط جهاز هاتفه بسلك بسيط بأسلاك هواتف الدولة.

    ﴿ وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى ﴾ إذا أُسند كل مخلوق وكل ذرة، مباشرةً إلى الواحد الأحد، وانتسب إليه. فعندئذ، يهدم النملُ صرحَ فرعون ويهلكه، ويصرع البعوض نمرود ويقذفه إلى جهنم وبئس المصير، وتُدخل جرثومةٌ صغيرة ظالماً جباراً القبرَ، وتصبح بذرةُ الصنوبر الصغيرة بمثابة مصنع لشجرة الصنوبر الضخمة ضخامة الجبل، وتتمكن ذرات الهواء أن تؤدي من أعمال منتظمة مختلفة للأزهار والثمرات وتدخل في تشكيلاتها المتنوعة. كل ذلك بحول سيد المخلوق وبقوة ذلك الانتساب. فهذه السهولة المشاهدة كلُّها نابعةٌ بالبداهة من التوظيف والانتساب،

    بينما إذا انقلب الأمر إلى التسيب والفوضى، وتُرك الحبل على غاربه، وعلى نفس الشيء والأسباب والكثرة، وسُلك طريق الشرك، فعندئذٍ لا ينجز الشيء من الأعمال إلّا بقدر جرمه ومقدار شعوره.

    التمثيل الثالث:

    صديقان يرغبان في كتابة بحث يحوي معلومات إحصائية جغرافية حول بلاد لم يشاهداها أصلاً،

    فأحدهما ينتسب إلى سلطان تلك البلاد ويدخل دائرة البريد والبرق، ويتم معاملات ربط خط هاتفه ببدّالة الدولة لقاء أجرة زهيدة، ويتمكن بهذه الوسيلة أن يتصل مع الجهات ويتسلم منها المعلومات. وهكذا كتب بحثاً فيما يخص الإحصائيات الجغرافية، في غاية الجودة والإتقان والعلمية.

    أما الآخر: فإما أنه سيسيح دوماً طوال خمسين سنة ويقتحم المصاعب والمهالك ليشاهد تلك الأماكن بنفسه وليسمع الأحداث بنفسه.. أو ينفق ملايين الليرات ليمدّ أسلاك الهاتف كما هي للدولة، ويكون مالكاً لأجهزة المخابرة البرقية كما للسلطان كي يكون بحثُه قيّماً كبحث صاحبه.

    ﴿ وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى ﴾ إذا أُسندت المخلوقات غير المحدودة والأشياء غير المعدودة إلى الواحد الأحد، فكل شيء عندئذٍ يكون -بذلك الارتباط- قد نال مظهراً من ذلك الانتساب، ويكون موضعَ تجلٍ من ذلك النور الأزلي، فيمدّ علاقات ارتباطه بقوانين حكمته، وبدساتير علمه، وبنواميس قدرته جل وعلا، وعندها يرى كل شيء بحول الله وبقوته، ويحظى بتجلٍ رباني يكون بمثابة بصره الناظر إلى كل شيء ووجهه المتوجه إلى كل شيء 
وكلامه النافذ في كل شيء.

    وإذا قُطع ذلك الانتساب، ينقطع أيضاً كل شيء من الأشياء عن ذلك الشيء. وينكمش الشيء بقدر جِرمه. وفي هذه الحالة عليه أن يكون صاحب أُلوهية مطلقة ليتمكن من أن يجري ما يجري في الوضع الأول!!

    زبدة الكلام: إن في طريق الوحدة والإيمان سهولةً مطلقة بدرجة الوجوب، بينما في طريق الشرك والأسباب والكثرة مشكلات وصعوبات بدرجة الامتناع، لأن الواحد يعطي وضعاً معيناً لكثير من الأشياء، ويستحصل منها نتيجة معينة دون عناء، بينما لو أُحيل اتخاذ ذلك الوضع واستحصال تلك النتيجة إلى تلك الأشياء الكثيرة، لما أمكن ذلك إلّا بتكاليف وصعوبات كثيرة جداً وبحركات كثيرة جداً.

    فكما ذُكر في «المكتوب الثالث»: إن جولان جيوش النجوم وجريانها في ميدان السماوات تحت رياسة الشمس والقمر وإعطاء كل ليلة وكل سنة منظراً رائعاً بهيجاً، منظراً للذِكر والتسبيح، ووضعاً مؤنساً جذّاباً، وتبديل المواسم وإيجاد أمثالها من المصالح والنتائج الأرضية الحكيمة الرفيعة.. إذا أُسندت هذه الأفعال إلى الوحدة فذلك السلطان الأزلي يجريها بكل سهولة ويُسر كتحريك جندي واحد، مسخراً الأرض -التي هي كجندي في جيش السماوات- ومعيّناً إياها قائداً عاماً على الأجرام العلوية. وبعد تسلّمها الأمر تنتشي بنشوة التوظيف وتهتز لسماعها كالمولوي في انجذاب واشتياق، فتحصل تلك النتائج المهمة، وذلك الوضع الجميل بتكاليف قليلة جداً.

    ولكن إذا قيل للأرض: قفي لا تتدخلي في الأمر وأُحيل استحصال تلك النتيجة وذلك الوضع إلى السماوات نفسها، وسُلكت طريق الكثرة والشرك بدل الوحدة، يلزم عندئذٍ أن تقطع ملايين النجوم كلٌّ منها أكبر بألوف المرات من الكرة الأرضية، أن تقطع كل يوم وكل سنة مسافة مليارات السنين في أربع وعشرين ساعة.

    نتيجة الكلام:

    إنَّ القرآن الكريم يفوض أمر المخلوقات غير المحدودة إلى الصانع الواحد، ويسند إليه كل شيء مباشرة، فيسلك طريقاً سهلاً بدرجة الوجوب، ويدعو إليها وكذلك يفعل المؤمنون.

    أما أهل الشرك والطغيان فإنهم بإسنادهم المصنوع الواحد إلى أسباب لا حدّ لها يسلكون طريقاً صعباً إلى درجة الامتناع، بينما جميع المصنوعات التي هي في مسلك القرآن مساوية لمصنوع واحد في هذا المسلك، بل إن صدور جميع الأشياء من الواحد الأحد أسهل وأهون بكثير من صدور شيء واحد من أشياء لا حدّ لها. حيث إن ضابطاً واحداً يدبّر أمر ألف جندي بسهولة أمر جندي واحد، بينما إذا أُحيل تدبير أمر جندي واحد إلى ألفٍ من الضباط فالأمر يستشكل ويصعب بألف ضعف وضعف وتنشأ الاختلاطات والاضطرابات والمماحكات.

    وهكذا تُنـزل الآية الكريمة الآتية ضرباتها القوية وصفعاتها على رأس أهل الشرك وتصدّعه:

    ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾

    ﴿ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَٓا اِلَّا مَا عَلَّمْتَنَاۜ اِنَّكَ اَنْتَ الْعَل۪يمُ الْحَك۪يمُ ﴾

    اَللّهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلٰى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ بِعَدَدِ ذَرَّاتِ الْكَائِنَاتِ وَعَلٰى أٰلِه وَصَحْبِه أَجْمَعينَ. أٰمينَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ

    اَللّهمَّ يَا أَحَدُ يَا وَاحِدُ يَا صَمَدُ. يَا مَنْ لَا إِلٰهَ إِلَّا هُوَ وَحْدَهُ لَا شَريكَ لَهُ.

    يَا مَنْ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ. وَيَا مَنْ يُحْيي وَيُميتُ. يَا مَنْ بِيَدِهِ الْخَيْرُ.

    يَا مَنْ هُوَ عَلٰى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ. يَا مَنْ إِلَيْهِ الْمَصيرُ بِحَقِّ أَسْرَارِ هٰذِهِ الْكَلِمَاتِ

    اجْعَلْ نَاشِرَ هٰذِهِ الرِّسَالَةِ وَرُفَقَائَهُ وَصَاحِبَهَا سَعيدًا مِنَ الْمُوَحِّدينَ الْكَامِلينَ

    وَمِنَ الصِّدّيقينَ الْمُحَقِّقينَ وَمِنَ الْمُؤْمِنينَ الْمُتَّقينَ. أٰمينَ.

    أَللّهمَّ بِحَقِّ سِرِّ أَحَدِيَّتِكَ إِجْعَلْ نَاشِرَ هٰذَا الْكِتَابِ نَاشِرًا لِأَسْرَارِ التَّوْحيدِ وَقَلْبَهُ مَظْهَرًا لِأَنْوَارِ الْإيمَانِ وَلِسَانَهُ نَاطِقًا بِحَقَائِقِ الْقُرْأٰنِ

    أٰمينَ أٰمينَ أٰمينَ.



    المكتوب التاسعة عشرة | المكتوبات | المكتوب الحادية والعشرون

    1. أحمد بن حنبل، المسند، ٢٢٧/٤؛ ابن أبي شيبة، المصنف ٢٧/٦، ١٧١/٧؛ البزار، المسند ٢٦٠/٣؛ الطبراني، المعجم الكبير ٦٥/٢٠.
    2. انظر: الترمذي، الدعوات ٦٣؛ أبو داود، الوتر ٢٣؛ النسائي، السهو ٥٨؛ ابن ماجه، الدعاء ٩؛ أحمد بن حنبل، المسند ٢٣٠/١، ١٢٠/٣.
    3. انظر: مسلم، الإيمان ٢٩٧؛ الترمذي، تفسير سورة ١٠؛ ابن ماجة، المقدمة ١٣.
    4. وزان: موازنة، وازن موازنة وزانا.
    5. إن انتقال سيدنا إبراهيم عليه السلام في أثناء محاججته نمرود في الإماتة والإحياء، إلى إتيان الله سبحانه بالشمس من المشرق وتعجيز نمرود بإتيانها من المغرب، هو انتقال وترقٍ من إماتة وإحياءٍ جزئيين إلى إماتة وإحياء كليين، أي انتقال إلى أوسع دائرة من دوائر ذلك الدليل وأسطعها، وليس هو صعود إلى دليل ظاهر وترك الدليل الخفي، كما يقوله بعض المفسرين.. (المؤلف).