اللمعة الثانية

    Risale-i Nur Tercümeleri sitesinden
    15.26, 29 Mart 2024 tarihinde Said (mesaj | katkılar) tarafından oluşturulmuş 90894 numaralı sürüm ("تَبسَّمْ بالتوكُّلِ في وجه البلاء، ليبتسمَ البلاء. فكُلَّما تبسّم صَغُر وتَضَاءَلَ حتى يَزول." içeriğiyle yeni sayfa oluşturdu)
    (fark) ← Önceki sürüm | Güncel sürüm (fark) | Sonraki sürüm → (fark)

    بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ

    ﴿ وَاَيُّوبَ اِذْ نَادٰى رَبَّهُٓ اَنّ۪ي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَاَنْتَ اَرْحَمُ الرَّاحِم۪ينَ ﴾ (الأنبياء: ٨٣)

    هذه المناجاةُ اللطيفة التي نادى بها رائدُ الصابرين سيدُنا أيوب عليه السلام مجرّبةٌ، وذاتُ مفعول مؤثّر، فينبغي أن نقتبس من نور هذه الآية الكريمة ونقول في مناجاتنا: «ربِّ إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين».

    وقصة سيدنا أيوب عليه السلام المشهورة، نلخصها بما يأتي:

    إنه عليه السلام ظل صابراً ردحاً من الزمن يكابد ألَمَ المرض العضال، حتى سرت القروحُ والجروحُ إلى جسمه كله، ومع ذلك كان صابراً جلداً يرجو ثوابَه العظيم من العلي القدير. وحينما أصابت الديدانُ الناشئة من جروحه قلبَه ولسانَه اللذين هما محلُّ ذكر الله وموضعُ معرفته، تضرّع إلى ربّه الكريم بهذه المناجاة الرقيقة: ﴿ اَنّ۪ي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَاَنْتَ اَرْحَمُ الرَّاحِم۪ينَ ﴾ خشية أنْ يصيب عبادتَه خللٌ، ولم يتضرع إليه طلباً للراحة قط. فاستجاب الله العلي القدير لتلك المناجاة الخالصة الزكية استجابةً خارقة بما هو فوق المعتاد، وكشف عنه ضرَّه وأحسنَ إليه العافيةَ التامة وأسبغَ عليه ألطافَ رحمته العميمة.

    في هذه اللمعة خمس نكات.

    النكتة الأولى

    إنه إزاء تلك الجروح الظاهرة التي أصابت سيدَنا أيوبَ عليه السلام، توجد فينا أمراضٌ باطنية وعللٌ روحية وأسقامٌ قلبية، فنحن مصابون بكلّ هذا. فلو انقلبنا ظاهراً بباطن وباطناً بظاهر، لظهرنا مُثقَلين بجروحٍ وقروح بليغة، ولَبَدَت فينا أمراضٌ وعللٌ أكثر بكثير مما عند سيدنا أيوب عليه السلام، ذلك لأن: كلَّ ما تكسبه أيدينا من إثم، وكلَّ ما يلج إلى أذهاننا من شبهة، يشقّ جروحاً غائرةً في قلوبنا، ويفجّر قروحاً دامية في أرواحنا.. ثم إن جروحَ سيدنا أيوب عليه السلام كانت تهدّد حياتَه الدنيا القصيرة بخطر، أما جروحُنا المعنوية نحن فهي تهدد حياتَنا الأخروية المديدة بخطر.. فنحن إذن محتاجون أشد الحاجة إلى تلك المناجاة الأيوبية الكريمة بأضعافِ أضعاف حاجته عليه السلام إليها.

    وبخاصة أن الديدان المتولدة من جروحه عليه السلام مثلما أصابت قلبَه ولسانَه، فإن الوساوس والشكوك -نعوذ بالله- المتولدة عندنا من جروحنا الناشئة من الآثام والذنوب تصيب باطنَ القلب الذي هو مستقرُّ الإيمان فتزعزعُ الإيمانَ فيه، وتمسّ اللسانَ الذي هو مترجم الإيمان فتُسلبه لذةَ الذكر ومتعتَه الروحية، ولا تزال تنفّره من ذكر الله حتى تُسكته كلياً.

    نعم، الإثمُ يتوغل في القلب ويمدّ جذورَه في أعماقه، وما ينفك ينكُتُ فيه نكتاً سوداء حتى يتمكن من إخراج نور الإيمان منه، فيبقى مظلماً مقفراً، فيغلظ ويقسو.

    نعم، إن في كل إثم وخطيئةٍ طريقاً مؤدياً إلى الكفر، فإن لم يُمحَ ذلك الإثم فوراً بالاستغفار يتحول إلى دودة معنوية، بل إلى حية معنوية تعض القلبَ وتؤذيه.

    ولنوضح ذلك بما يأتي:

    مثلاً: إن الذي يرتكب سراً إثماً يُخجَل منه، وعندما يستحي كثيراً من اطلاع الآخرين عليه، يثقُل عليه وجودُ الملائكة والروحانيات، ويرغب في إنكارهم بأمارة تافهة.

    ومثلاً: إن الذي يقترف كبيرة تُفضي إلى عذاب جهنم. إنْ لم يتحصّن تجاهها بالاستغفار، فما إنْ يسمع نذيرَ جهنم وأهوالَها يرغب من أعماقه في عدم وجودها، فيتولد لديه جرأةٌ لإنكار جهنم من أمارة بسيطة أو شبهة تافهة.

    ومثلاً: إن الذي لا يقيم الفرائضَ ولا يؤدي وظيفةَ العبودية حق الأداء وهو يتألم من توبيخ آمره البسيط لتقاعسه عن واجب بسيط، فإنّ تكاسله عن أداء الفرائض إزاء الأوامر المكررة الصادرة من الله العظيم، يورثه ضِيقاً شديداً وظلمةً قاتمةً في روحه، ويسوقُه هذا الضيقُ إلى الرغبة في أن يتفوّه ويقول ضمناً: «ليته لم يأمر بتلك العبادة!» وتثير هذه الرغبةُ فيه الإنكارَ، الذي يُشمّ منه عداءً معنوياً تجاه ألوهيته سبحانه!، فإذا ما وردت شبهةٌ تافهة إلى القلب حول وجوده سبحانه، فإنه يميل إليها كأنها دليل قاطع. فينفتح أمامَه بابٌ عظيمٌ للهلاك والخسران المبين. ولكن لا يدرك هذا الشقي أنه قد جعل نفسه -بهذا الإنكار- هدفاً لضيق معنوي أرهبَ وأفظعَ بملايين المرات من ذلك الضيق الجزئي الذي كان يشعر به من تكاسله في العبادة، كمن يفرّ من لسع بعوضة إلى عض حية!

    فليُفهَم في ضوء هذه الأمثلة الثلاثة سرّ الآية الكريمة:

    ﴿ بَلْ۔ رَانَ عَلٰى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ (المطففين: ١٤).

    النكتة الثانية

    مثلما وُضّح في «الكلمة السادسة والعشرين» الخاصة بالقدر: إن الإنسان ليس له حق الشكوى من البلاء والمرض بثلاثة وجوه:

    الوجه الأول:

    أنَّ الله سبحانه يجعل ما ألبسَه الإنسانَ من لباس الوجود دليلا على صنعته المُبدعة، حيث خلقه على صورة نموذج (موديل) يفصّل عليه لباسَ الوجود، يبدّلُه ويقصُّه ويغيّرُه، مبيناً بهذا التصرف تجليات مختلفة لأسمائه الحسنى. فمثلما يستدعي اسمُ «الشافي» المرضَ، فإن اسم «الرزاق» أيضاً يقتضي الجوعَ. وهكذا فهو سبحانه مالكُ المُلك يتصرف في مُلكه كيف يشاء.

    الوجه الثاني:

    أنَّ الحياة تتصفّى بالمصائب والبلايا، وتتزكّى بالأمراض والنوائب، وتجد بها الكمال وتتقوى وتترقى وتسمو وتثمر وتنتج وتتكامل وتبلغ هدفَها المراد لها، فتؤدي مهمتَها الحياتية. أما الحياةُ الرتيبة التي تمضى على نسق واحد وتمر على فراش الراحة، فهي أقربُ إلى العدم الذي هو شرّ محضٌ منه إلى الوجود الذي هو خيرٌ محض. بل هي تُفضي إلى العدم.

    الوجه الثالث:

    أنَّ دار الدنيا هذه ما هي إلّا ميدانُ اختبار وابتلاء، وهي دارُ عمل ومحل عبادة، وليست محلَّ تمتّع وتلذذ ولا مكان تسلّم الأجرة ونيل الثواب.

    فمادامت الدنيا دارَ عمل ومحلَّ عبادة، فالأمراضُ والمصائب عدا الدينية منها وبشرط الصبر عليها تكون ملائمةً جداً مع ذلك العمل، بل منسجمةً تماماً مع تلك العبادة، حيث إنها تمد العملَ بقوة وتشدّ من أزر العبادة، فلا يجوز التشكّي منها، بل يجب التحلي بالشكر لله بها، حيث إن تلك الأمراضَ والنوائب تحوّل كلَّ ساعة من حياة المصاب عبادةً ليوم كامل.

    نعم، إن العبادة قسمان: قسم إيجابي وقسم سلبي..

    فالقسم الأول معلوم لدى الجميع، أما القسم الآخر فإن البلايا والضر والأمراض تجعل صاحبَها يشعر بعَجزه وضَعفه، فيلتجئ إلى ربه الرحيم، ويتوجّه إليه ويلوذ به، فيؤدي بهذا عبادة خالصة. هذه العبادة خالصةٌ زكيّةٌ لا يدخل فيها الرياءُ قط. فإذا ما تجمّل المصابُ بالصبر وفكّر في ثواب ضرّه عند الله وجميلِ أجره عنده، وشكَر ربَّه عليها، تحولت عندئذ كلُّ ساعة من ساعات عمره كأنها يومٌ من العبادة، فيغدو عمرُه القصير جداً مديداً طويلاً، بل تتحول -عند بعضهم- كلُّ دقيقة من دقائق عمره بمثابة يوم من العبادة.

    ولقد كنتُ أقلق كثيراً على ما أصاب أحد إخوتي في الآخرة وهو «الحافظ احمد المهاجر»(∗) بمرض خطير، فخطر إلى القلب ما يأتي: «بشّره، هنّئه، فإن كلَّ دقيقة من دقائق عمره تمضي كأنها يومٌ من العبادة».. حقاً إنه كان يشكر ربَّه الرحيم من ثنايا الصبر الجميل.

    النكتة الثالثة

    مثلما بينّا في «الكلمات» السابقة أنه إذا ما فكّر كلُّ إنسان فيما مضى من حياته فسَيردُ إلى قلبه ولسانه «وا أسفاه»، أو: «الحمد لله». أي إما أنه يتأسف ويتحسر، أو يحمد ربَّه ويشكره.

    فالذي يقطّر الأسف والأسى إنما يكون بسبب الآلام المعنوية الناشئة من زوال اللذائذ السابقة وفراقها، ذلك لأن زوالَ اللذة ألَمٌ، بل قد تورث لذةٌ زائلةٌ طارئةٌ آلاماً دائمة مستمرة، فالتفكر فيها يُعصِر ذلك الألَمَ ويُقطّر منه الأسف والأسى،

    بينما اللذةُ المعنوية والدائمة الناشئة من زوال الآلام المؤقتة التي قضاها المرء في حياته الفائتة، تجعل لسانَه ذاكراً بالحمد والثناء لله تعالى.. هذه حالةٌ فطرية يشعر بها كل إنسان، فإذا ما فكر المصاب -علاوة على هذا- بما أدّخر له ربُّه الكريم من ثوابٍ جميل وجزاءٍ حَسن في الآخرة وتأملَ في تحوُّل عمره القصير بالمصائب إلى عمر مديد فإنه لا يصبر على ما انتابه من ضُرّ وحده، بل يرقى أيضاً إلى مرتبة الشكر لله والرضا بقَدَره، فينطلق لسانُه حامداً ربَّه وقائلاً: «الحمد لله على كلِّ حال سوى الكفر والضلال».

    ولقد سار مثلا عند الناس: «ما أطولَ زمنَ النوائب!». نعم، هو كذلك ولكن ليس بالمعنى الذي في عُرفِ الناس وظنِّهم من أنه طويل بما فيه من ضيق وألَم، بل هو طويلٌ مديد كالعمر الطويل بما يُثمر من نتائج حياتية عظيمة.

    النكتة الرابعة

    لقد بينّا في «المقام الأول للكلمة الحادية والعشرين»: أنَّ الإنسان إنْ لم يشتّت ما وهَبه البارئ سبحانه من قوةِ الصبر، ولم يبعثرها في شعاب الأوهام والمخاوف، فإنّ تلك القوة يمكن أن تكون كافيةً للثبات حيال كل مصيبة وبلاء، ولكن هيمنةَ الوهم وسيطرةَ الغفلة عليه والاغترارَ بالحياة الفانية كأنها دائمة.. يؤدي إلى الفتّ من قوة صبره وتفريقها إلى آلام الماضي ومخاوف المستقبل، فلا يكفيه ما أودعه الله من الصبر على تحمّل البلاء النازل به والثبات دونه، فيبدأ ببث الشكوى حتى كأنه يشكو الله للناس، مبدياً من قلة الصبر ونفاده ما يشبه الجنون. فضلاً عن أنه لا يحق له أن يجزع جزعَه هذا أبداً؛

    ذلك لأن كل يوم من أيام الماضي -إن كان قد مضى بالبلاء- فقد ذهب عسرُه ومشقتُه وتركَ راحتَه، وقد زال تعبُه وألَمُه وترك لذتَه، وقد ذهب ضنكُه وضيقُه وثبت أجرُه، فلا يجوز إذن الشكوى منه، بل ينبغي الشكر لله تعالى عليه بشوق ولهفة. ولا يجوز كذلك الامتعاضُ من المصيبة والسخط عليها بل ينبغي ربطُ أواصر الحب بها؛ لأن عمر الإنسان الفاني الذي قد مضى يتحول عمراً سعيداً باقياً مديداً بما يعاني فيه من البلاء. فمن البلاهة والجنون أن يبدد الإنسانُ قسماً من صبره ويهدره بالأوهام والتفكر في البلايا التي مضت والآلام التي ولّت.

    أما الأيام المقبلة، فحيث إنها لم تأت بعدُ ومجهولةٌ مبهمة، فمن الحماقة التفكرُ فيها من الآن والجزعُ عمّا يمكن أن يصيب الإنسان فيها من مرض وبلاء. فكما أنه حماقةٌ أن يأكل الإنسانُ اليوم كثيراً من الخبز ويشرب كثيراً من الماء لما يمكن أن يصيبَه من الجوع والعطش في الغد أو بعد غد، كذلك التألّم والتضجرُ من الآن لما يمكن أن يُبتلى به في المستقبل من أمراض ومصائب هي الآن في حكم العدم، وإظهار الجزع نحوها دون أن يكون هناك مبرر واضطرار، هو بلاهةٌ وحماقة إلى حدٍّ تسلب العطفَ على صاحبها والإشفاق عليه. فوق أنه قد ظلم نفسه بنفسه.

    الخلاصة: إن الشكر مثلما يزيد النعمةَ، فالشكوى تزيد المصيبةَ وتسلب الترحم والإشفاقَ على صاحبها.

    لقد ابتُلى رجل صالح من مدينة «أرضروم» بمرض خطير وبيل، وذلك في السنة الأولى من الحرب العالمية الأولى، فذهبتُ إلى عيادته وبثَّ لي شكواه:

    - لم أذُق طعمَ النوم منذ مائة يوم.

    تألمتُ لشكواه الأليمة هذه، ولكن تذكرتُ حينها مباشرة وقلت:

    - «أخي! إن الأيام المائة الماضية لكونها قد ولّت ومضت فهي الآن بمثابة مائة يوم مُسرِّة مفرحة لك، فلا تفكر فيها ولا تشكُ منها، بل انظر إليها من زاوية زوالها وذهابها، واشكر ربك عليها. أما الأيام المقبلة فلأنها لم تأتِ بعدُ، فتوكّل على رحمة ربك الرحمن الرحيم واطمئن إليها. فلا تبكِ قبل أن تُضرَب، ولا تخف من غير شيء، ولا تمنح العدمَ صبغةَ الوجود. اصرف تفكيرك في هذه الساعة بالذات، فإن ما تملكه من قوة الصبر تكفي للثبات لهذه الساعة. ولا تكن مثلَ ذلك القائد الأحمق الذي شتّت قوته في المركز يميناً وشمالاً في الوقت الذي التحقت ميسَرةُ العدو إلى صفوف ميمنة جيشه فأمدَّتْها، وفي الوقت الذي لم تكُ ميمنةُ العدو متهيئة للحرب بعد.. فما إن علِم العدو منه هذا حتى سدّد قوةً ضئيلة في المركز وقضى على جيشه.

    فيا أخي لا تكن كهذا، بل حشِّد كل قواك لهذه الساعة فقط، وترقَّب رحمة الله الواسعة، وتأمل في ثواب الآخرة، وتدبّر في تحويل المرض لعمرك الفاني القصير إلى عمر مديد باق، فقدِّم الشكرَ الوافر المسرّ إلى العلي القدير بدلاً من هذه الشكوى المريرة».

    انشرح ذلك الشخص المبارك من هذا الكلام وانبسطت أساريرُه حتى شرع بالقول: «الحمد لله. لقد تضاءل ألمي كثيراً».

    النكتة الخامسة

    وهي ثلاث مسائل

    المسألة الأولى:

    إنَّ المصيبة التي تعدّ مصيبةً حقاً والتي هي مُضرةٌ فعلاً، هي التي تصيب الدين. فلابد من الالتجاء إلى الله سبحانه والانطراح بين يديه والتضرع إليه دون انقطاع. أما المصائبُ التي لا تمس الدين فهي في حقيقة الأمر ليست بمصائبَ، لأن قسماً منها:

    تنبيهٌ رحماني يبعثه الله سبحانه إلى عبده ليوقظَه من غفلته، بمثل تنبيه الراعي لشياهه عندما تتجاوز مرعاها، فيرميها بحجر، والشياه بدورها تشعر أن راعيها ينبهها بذلك الحجر ويحذّرها من أمر خطير مضر، فتعود إلى مرعاها برضى واطمئنان. وهكذا النوائبُ الظاهرة فإن الكثير منها تنبيه إلهي، وإيقاظ رحماني للإنسان.

    أما القسم الآخر من المصائب فهو كفارةٌ للذنوب. ([1])

    وقسم آخر أيضاً من المصائب هو منحةٌ إلهية لتطمين القلب وإفراغ السكينة فيه، وذلك بدفع الغفلة التي تصيب الإنسانَ، وإشعاره بعجزه وفقره الكامنين في جبلته.

    أما المصيبة التي تنتاب الإنسان عند المرض -فكما ذكرنا آنفا- فهي ليست بمصيبة حقيقية، بل هي لطفٌ رباني لأنه تطهيرٌ للإنسان من الذنوب وغسلٌ له من أدران الخطايا، كما ورد في الحديث الصحيح: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى، إِلَّا حَاتَّ الله عَنْهُ خَطَايَاهُ، كَمَا تَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ). ([2])

    وهكذا فإن سيدنا أيوب عليه السلام لم يدعُ في مناجاته لأجل نفسه وتطميناً لراحته، وإنما طلب كشفَ الضر من ربه عندما أصبح المرضُ مانعاً لذكر الله لساناً، وحائلاً للتفكر في ملكوت الله قلباً. فطلب الشفاء لأجل القيام بوظائف العبودية خالصةً كاملة. فيجب علينا نحن أيضاً أن نقصد -بتلك المناجاة- أول ما نقصد: شفاءَ جروحنا المعنوية وشروخنا الروحية القادمة من ارتكاب الآثام واقتراف الذنوب، وعلينا الالتجاء إلى الله القدير عندما تحُول الأمراضُ المادية دون قيامنا بالعبادة كاملة، فنتضرع إليه عندئذ بكل ذل وخضوع ونستغيثه دون أن يبدر منا أيُّ اعتراض أو شكوى،

    إذ مادمنا راضين كل الرضا بربوبيته الشاملة فعلينا الرضا والتسليم المطلق بما يمنحه سبحانه لنا بربوبيته.. أما الشكوى التي تومئ إلى الاعتراض على قضائه وقدَره، وإظهارِ التأفف والتحسر، فهي أشبه ما يكون بنقدٍ للقدر الإلهي العادل واتهامٍ لرحمته الواسعة.. فمن ينقد القدرَ يصرعه ومَن يتهم الرحمةَ يُحرم منها. إذ كما أن استعمال اليد المكسورة للثأر يزيدها كسراً، فإن مقابلة المبتلى مصيبته بالشكوى والتضجر والاعتراض والقلق تضاعف البلاء.

    المسألة الثانية:

    كلما استعظمتَ المصائب المادية عظُمَت، وكلما استصغرتَها صغُرت. فمثلاً: كلما اهتم الإنسان بما يتراءى له من وهْم ليلاً يضخم ذلك في نظره، بينما إذا أهمله يتلاشى. وكلما تعرض الإنسان لوكر الزنابير ازداد هجومُها وإذا أهملها تفرقت.

    فالمصائب المادية كذلك، كلما تعاظمها الإنسان واهتم بها وقلق عليها تسربت من نافذة الجسد إلى القلب واستقرت فيه، وعندها تتنامى مصيبةٌ معنوية في القلب وتكون ركيزةً للمادية منها فتستمر الأخيرة وتطول. ولكن متى ما أزال الإنسانُ القلقَ والوهم من جذوره بالرضا بقضاء الله، وبالتوكل على رحمته، تضمحل المصيبةُ المادية تدريجياً وتذهب، كالشجرة التي تموت وتجف أوراقُها بانقطاع جذورها.

    ولقد عبّرتُ عن هذه الحقيقة يوماً بما يأتي: ([3])

    دَع الصُّراخ يا مسكين، وتوكل على اللّه في بلواك.

    إنما الشكوى بلاء.

    بل بلاء في بلاء، وآثام في آثام وعناء.

    إذا وجدتَ مَن ابتلاك،

    عاد البلاءُ عطاءً في عطاء، وصفاءً في صفاء.

    فبغير اللّه دنياك آلام وعذاب، وفناء وزوال، وهباء في هباء.

    فتعالَ، تَوكّلْ عليه في بلواك!

    ما لكَ تصرخ من بلية صغيرة، وأنت مثقل ببلايا تسع الدنيا.

    تَبسَّمْ بالتوكُّلِ في وجه البلاء، ليبتسمَ البلاء.

    فكُلَّما تبسّم صَغُر وتَضَاءَلَ حتى يَزول.

    نعم..! إن الإنسان مثلما يخفف حدَّة خصمه باستقباله بالبِشر والابتسامة، فتتضاءل سَورة العداوة وتنطفئ نارُ الخصومة، بل قد تنقلب صداقةً ومصالحةً، كذلك الأمر في استقبال البلاء بالتوكل على القدير يُذهِبُ أثره.

    المسألة الثالثة:

    أن لكل زمان حُكمَه، وقد غيّر البلاءُ شكلَه في زمن الغفلة هذا، فلا يكون البلاءُ بلاءً عند البعض دوماً، بل إحساناً إلهياً ولطفاً منه سبحانه. وأرى المبتلين بالضر في هذا الوقت محظوظين سعداء بشرط ألّا يمس دينَهم، فلا يولد المرض والبلاء عندي ما يجعلهما مضرَّين في نظري حتى أُعاديهما، ولا يورثانني الإشفاق والتألم على صاحبهما،

    ذلك ما أتاني شاب مريض إلّا وأراه أكثر ارتباطاً من أمثاله بالدين، وأكثر تعلقاً منهم بالآخرة.. فأفهم من هذا أن المرض بحق هؤلاء ليس بلاء، بل هو نعمةٌ من نعمه سبحانه التي لا تعد ولا تحصى، حيث إن ذلك المرض يمد صاحبَه بمنافع غزيرة من حيث حياته الأُخروية ويكون له ضرباً من العبادة، مع أنه يمس حياته الدنيا الفانية الزائلة بشيء من المشقة.

    نعم، قد لا يستطيع هذا الشاب أن يحافظ على ما كان عليه في مرضه من الالتزام بالأوامر الإلهية فيما إذا وجد العافية، بل قد ينجرف إلى السفاهة بطيش الشباب ونزواته وبالسفاهة المستشرية في هذا الزمان.

    خاتمة

    إن الله سبحانه قد أدرج في الإنسان عجزاً لا حد له، وفقراً لا نهاية له، إظهاراً لقدرته المطلقة وإبرازاً لرحمته الواسعة. وقد خلقه على صورة معينة بحيث يتألم بما لا يحصى من الجهات، كما أنه يتلذذ بما لا يعد من الجهات، إظهاراً للنقوش الكثيرة لأسمائه الحسنى. فأبدعه سبحانه على صورة ماكنة عجيبة تحوي مئات الآلات والدواليب، لكل منها آلامها ولذائذها ومهمتها وثوابها وجزاؤها، فكأن الأسماء الإلهية المتجلية في العالم الذي هو إنسان كبير تتجلى أكثرُها أيضاً في هذا الإنسان الذي هو عالم أصغر، وكما أن ما فيه من أمور نافعة -كالصحة والعافية واللذائذ وغيرها- تدفعه إلى الشكر وتسوق تلك الماكنة إلى القيام بوظائفها من عدة جهات، حتى يغدو الإنسانُ كأنه ماكنة شكر.

    كذلك الأمر في المصائب والأمراض والآلام وسائر المؤثرات المهيجة والمحركة، تسوق الدواليبَ الأخرى لتلك الماكنة إلى العمل والحركة وتثيرها من مكمنها فتفجّر كنوزَ العجز والضعف والفقر المندرجة في الماهية الإنسانية. فلا تمنح المصائبُ الإنسانَ الالتجاء إلى البارئ بلسان واحد، بل تجعله يلتجئ إليه ويستغيثه بلسان كل عضو من أعضائه. وكأن الإنسان بتلك المؤثرات والعلل والعقبات والعوارض يغدو قلماً يتضمن آلاف الأقلام، فيكتب مقدّرات حياته في صحيفة حياته أو في اللوح المثالي، وينسج لوحةً رائعة للأسماء الإلهية الحسنى، ويصبح بمثابة قصيدة عصماء ولوحة إعلان.. فيؤدي وظيفة فطرته.



    اللمعة الأول | اللمعات | اللمعة الثالثة

    1. انظر: البخاري، المرضى ١؛ مسلم، البر ٥٠-٥٢؛ الترمذي، تفسير سورة النساء ٢٤؛ أحمد بن حنبل، المسند ٣٠٣/٢، ٣٣٥، ٤٠٢.
    2. البخاري، المرضى ٢، ١٤، تفسير سورة ابراهيم ١؛ مسلم، صفة المنافقين ٦٤؛ الدارمي، الوضوء ٤٥.
    3. جاءت ترجمة هذه الفقرة بشيء من التصرف. وأصلها في «المكتوب السادس».