اللمعة السابعة عشرة
(عبارة عن سبع عشرة مذكِّرة تألقت من الزُّهرة)
بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ
المقدمة
قبل اثنتي عشرة سنة ([1]) من تأليف هذه اللمعة وفقني المولى الكريم وشملني بعنايته ولُطفه، فكتبتُ بعض ما تَألَّق من مسائل التوحيد وبعض ما تظاهر منها في أثناء تأملٍ فكريّ، وتجوالٍ قلبيّ، وانكشافٍ روحيّ عبر العروج في مراتب المعرفة الإلهية، كتبتُها باللغة العربية على صورة مذكِّرات في رسائل موسومة بـ«زُهرة» و«شعلة» و«حبّة» و«شمّة» و«ذرة» و«قطرة» وأمثالِها.
وحيث إن تلك المذكِّرات قد كُتبتْ لأجل إراءة بدايةِ حقيقةٍ عظيمة واسعة، وإبراز مقدمتِها فحسب، ولأجل إظهار شعاعٍ من أشعة نور ساطع باهر، فقد جاءت على شكل خواطر وملحوظات وتنبيهات. سجلتُها لنفسي وحدَها، الأمر الذي جعل الاستفادةَ منها محدودةً، وبخاصة أن القسم الأعظم من أخلص إخواني وخلاصتهم لم يدرسوا اللغةَ العربية، فاضطررتُ إزاء إصرارهم وإلحاحهم إلى كتابةِ إيضاحات باللغة التركية لقسم من تلك المذكّرات واللمعات. وأَكتفي بترجمة القسم الآخر منها. ([2])
ولقد جاءت الترجمة إلى التركية نصاً دون تغيير حيث تراءت «لسعيد الجديد» هذه الخواطر الواردة في الرسائل العربية رؤيةً أشبه ما تكون بالشهود، وذلك حينما شرع بالاغتراف من منهل علم «الحقيقة».. ولأجل هذا فقد ذُكرت بعض الجمل بالرغم من أنها مذكورة في رسائل أخرى بينما ذُكر البعض الآخر في غاية الإجمال ولم يوضّح التوضيح المطلوب وذلك لئلا يفقدَ لطافته الأصلية.
سعيد النورسي
المذكّرة الأولى
كنت قد خاطبتُ نفسي قائلاً: اعلم أيها السعيد الغافل! إنه لا يليق بك أن تربط قلبَك وتعلّقه بما لا يرافقك بعد فناءِ هذا العالم، بل يُفارقُك بخراب الدنيا! فليس من العقل في شيء ربطُ القلب بأشياءَ فانيةٍ! فكيف بما يتركك بانقراض عصرك ويدير ظهرَه لك؟ بل فكيف بما لا يصاحبُك في سَفر البرزخ؟ بل فكيف بما لا يشيّعك إلى باب القبر؟ بل فكيف بما يفارقُك خلال سنة أو سنتين فراقاً أبدياً، مُورّثاً إثْمَه ذمَّتَك، محمّلاً خطاياه على ظهرك؟ بل فكيف بما يتركك على رغمك في آنِ سرورك بحصوله؟
فإنْ كنت فطناً عاقلاً فلا تهتمّ ولا تغتم، واترك ما لا يقتدرُ أن يرافقَك في سفر الأبد والخلود، بل يضمحل ويفنى تحت مصادمات الدنيا وانقلاباتها، وتحت تطورات البرزخ، وتحت انفلاقات الآخرة.
ألا ترى أن فيك لطيفةً لا ترضى إلّا بالأبد والأبدي، ولا تتوجه إلّا إلى ذلك الخالد، ولا تتنزل لما سواه؟ حتى إذا ما أُعطيت لها الدنيا كُلها، فلا تُطَمْأن تلك الحاجة الفطرية.. تلك هي سلطانُ لطائفك ومشاعرك.. فأَطِعْ سلطان لطائفك المطيع لأمر فاطره الحكيم جلّ جلاله، وانجُ بنفسك..
المذكِّرة الثانية
لقد رأيت في رؤيا صادقةٍ ذات حقيقة، أَنني أُخاطب الناس: أيها الإنسان! إنَّ من دساتير القرآن الكريم وأحكامه الثابتة: أن لا تحسبنَّ ما سوى الله تعالى أعظم منك فترفعَه إلى مرتبة العبادة، ولا تحسَبنَّ أنك أعظم من شيء من الأشياء بحيث تتكبّر عليه. إذ يتساوى ما سواه تعالى في البعد عن «المعبودية» وفي نسبة المخلوقية.
المذكِّرة الثالثة
اعلم أَيها السعيد الغافل! أنك ترى الدنيا الزائلة سريعاً، كأَنها دائمةٌ لا تموت، فعندما تنظر إلى ما حولك من الآفاق وتراها ثابتةً مستمرةً -إلى حدٍ ما- نوعاً وجملةً، ومن ثم ترجع بالمنظار نفسِه فتنظر إلى نفسك الفانية، تظنّها ثابتةً أيضاً. وعندها لا تندهش إلّا من هَول القيامة، وكأنك تدوم إلى أن تقوم الساعة!.
عُدْ إلى رشدك، فأنت ودنياك الخاصة بك معرّضان في كلّ آن إلى ضربات الزوال والفناء..
إن مَثَلَكَ في خطأ شعورك وغَلَط حسِّك هذا، يشبه مَن في يده مرآةٌ تواجه قصراً أو بلداً أو حديقةً، وترتسم الصورة المثاليةُ للقصر أو البلد أو الحديقة فيها، فإذا ما تحركت المرآة أَدنى حركة، وتغيرت أَقلّ تغيّر، فسيحدث الهرجُ والمرج في تلك الصورة المثالية، فلا يفيدُك بَعدُ البقاءُ والدوام الخارجيان في نفس القصر أو البلد أو الحديقة، إذ ليس لك منها إلّا ما تعطيك مرآتُك بمقياسها وميزانها.
فاعلم أَنَّ حياتك وعمرَك مرآة! وأنها عمادُ دنياك وسندها ومرآتها ومركزها. فتأمل في مرآتك، وإمكان موتها، وخرابِ ما فيها في كل دقيقة، فهي في وضع كأَنَّ قيامتَك ستقوم في كل دقيقة.
فما دام الأمر هكذا فلا تُحمِّل حياتَك ودنياك ما لا طاقةَ لهما به.
المذكِّرة الرابعة
اعلم أن من سُنَّة الفاطر الحكيم -في الأكثر- ومن عاداته الجارية إعادةُ ما له أهمية وقيمة غالية بعينه لا بمثله. فعندما يجدد أكثرَ الأشياء بمثلها عند تبدل الفصول وتغيرّ العصور، يُعيد تلك الأشياء الثمينة بعينها. فانظر إلى الحشر اليومي -أي الذي يتم في كل يوم- وإلى الحشر السنوي، وإلى الحشر العصري، ترَ هذه القاعدة المطّردة واضحةً جلية في الكل.
وبناء على هذه القاعدة الثابتة نقول:
قد اتفقت الفنونُ وشهدت العلومُ على أَنَّ الإنسان هو أَكملُ ثمرةٍ في شجرة الخليقة، وأَنَّه أَهم مخلوق بين المخلوقات، وأَغلى موجود بين الموجودات، وأَنَّ فرداً منه بمثابة نوع من سائر الأحياء،
لذا يُحكم بالحدس القطعي على أَنَّ كلَّ فردٍ من أفراد البشر سيُعاد في الحشر الأَعظم والنشر الأَكبر بعينِه وجسمهِ واسمهِ ورسمهِ.
المذكِّرة الخامسة
حينما سار «سعيد الجديد» في طريق التأمل والتفكر، انقلبت تلك العلومُ الأوروبية الفلسفية وفنونُها التي كانت مستقرة إلى حدٍّ ما في أفكار «سعيد القديم» إلى أمراض قلبية، نشأت منها مصاعب ومعضلاتٌ كثيرة في تلك السياحة القلبية. فما كان من «سعيد الجديد» إلّا القيام بتمخيض فكره والعمل على نفضِه من أدران الفلسفة المزخرفة ولوثات الحضارة السفيهة. فرأى نفسَه مضطراً إلى إجراء المحاورة الآتية مع الشخصية المعنوية لأوروبا لكبحِ جماح ما في روحه من أحاسيس نفسانية منحازة لصالح أوروبا، فهي محاورة مقتضبةٌ من ناحية ومُسهبةٌ من ناحية أخرى.
ولئلا يُساء الفهمُ لابُدَّ أَنْ نُنبِّهَ: أَنَّ أَوروبا اثنتان:
إحداها: هي أوروبا النافعة للبشرية، بما استفاضت من النصرانية الحقة، وأَدَّتْ خدماتٍ لحياة الإنسان الاجتماعية، بما توصلت إليه من صناعاتٍ وعلومٍ تخدم العدل والإنصاف، فلا أخاطب -في هذه المحاورة- هذا القسم من أوروبا.
وإنما أخاطب أوربا الثانية تلك التي تعفَّنت بظلمات الفلسفة الطبيعية وفسدت بالمادية الجاسية، وحَسبَتْ سيئاتِ الحضارة حسناتٍ لها، وتوهّمت مساوءها فضائل. فساقت البشرية إلى السفاهة وأردَتها الضلالة والتعاسة.
ولقد خاطبتُ في تلك السياحة الروحية الشخصية المعنوية الأوربية بعد أن استثنيتُ محاسن الحضارة وفوائد العلوم النافعة، فوجّهتُ خطابي إلى تلك الشخصية التي أخذت بيدها الفلسفة المضرّة التافهة والحضارة الفاسدة السفيهة.. وخاطبتُها قائلاً:
يا أوروبا الثانية! اعلمي جيداً أنكِ قد أخذتِ بيمينكِ الفلسفة المضلّة السقيمة، وبشمالك المدنية المضرّة السفيهة، ثم تدّعين أن سعادة الإنسان بهما. ألَا شُلّت يداكِ، وبئستِ الهديةُ هديتُكِ، ولتكن وبالاً عليكِ، وستكون.
أيتها الروح الخبيثة التي تنشر الكفر وتبث الجحود! تُرى هل يمكن أن يسعد إنسانٌ بمجرد تملّكه ثروة طائلة، وترفّله في زينة ظاهرة خادعة، وهو المصاب في روحه وفي وجدانه وفي عقله وفي قلبه بمصائبَ هائلة؟ وهل يمكن أن نطلق عليه أنه سعيد؟
ألَا ترين أنّ مَن يَئِس من أمرٍ جزئي، وانقطع رجاؤه من أملٍ وهمي، وخابَ ظنُّه من عملٍ تافهٍ، كيف يتحول خيالُه العذبُ مُرّاً علقماً، وكيف يتعذّب مما حوله من أوضاع لطيفة، فتضيق عليه الدنيا كالسجن بما رحُبت!.
فكيف بمن أُصيب بشؤمك بضربات الضلالة في أَعمق أعماق قلبه، وفي أَغوار روحه، حتى انقطعت -بتلك الضلالة- جميعُ آمالِه، فانشقت عنها جميعُ آلامه، فأيُّ سعادةٍ يمكنك أن تضمَني لمثل هذا المسكين الشقي؟ وهل يمكن أن يُطلَق لمن روحُه وقلبُه يُعذَّبان في جهنم، وجسمه فقط في جنةٍ كاذبة زائلة.. أنه سعيد؟..
لقد أفسدتِ -أيتها الروح الخبيثة- البشريةَ حتى طاشتْ بتعاليمك، فتقاسي منك العذاب المرير، بإذاقتك إياها عذابَ الجحيم في نعيم جنة كاذبة.
أيتها النفس الأمّارة للبشرية! تأملي في هذا المثال وافهمي منه إلى أين تسوقين البشرية:
هَبْ أنَّ أمامنا طريقين، فسلكنا أحدهما، وإذا بنا نرى في كل خطوة نخطوها في الطريق الأول، مساكين عَجَزة يهجم عليهم الظالمون، يغصبون أموالهم ومتاعهم، يخرّبون بيوتهم وأكواخهم، بل قد يجرحونهم جرحاً بليغاً تكاد السماء تبكي على حالتهم المفجعة. فأينما يُمدّ النظر تُرى الحالة نفسها فلا يُسمع في هذا الطريق إلّا ضوضاءُ الظالمين وصَخبَهم، وأنينُ المظلومين ونُواحهم، فكأن مأتماً عاماً قد خيّم على الطريق.
ولما كان الإنسان -بمقتضى إنسانيته- يتألّم بألم الآخرين، فلا يستطيع أن يتحمل ما يراه في هذا الطريق من ألم غير محدود، إذ الوجدانُ لا يطيق ألماً إلى هذا الحد، لذا يضطر سالك هذا الطريق إلى أحد أمرين: إما أن يتجرد من إنسانيته، ويحمل قلباً قاسياً غارقاً في منتهى الوحشة لا يتألم بهلاك الجميع طالما هو سالم معافىً، أو يُبطل ما يقتضيه القلبُ والعقلُ!.
فيا أوروبا التي نأتْ عن النصرانية وابتعدت عنها، وانغمست في السفاهة والضلالة! لقد أهديتِ بدهائك الأعور كالدجال لروح البشر حالةً جهنمية، ثم أدركت أن هذه الحالة داءٌ عضال لا دواءَ له. إذ يهوى بالإنسان من ذروة أعلى عليين إلى درك أسفل سافلين، وإلى أدنى درجات الحيوان وحضيضها،
ولا علاج لك أمام هذا الداء الوبيل إلّا ملاهيكِ الجذابة التي تدفع إلى إبطال الحسّ وتخدير الشعور مؤقتاً، وكمالياتُكِ المزخرفة وأهواؤك المنوِّمة... فتعساً لكِ ولدوائكِ الذي يكون هو القاضي عليك.. نعم، إن ما فتحتيه أمام البشرية من طريق، يشبه هذا المثال المذكور.
أما الطريق الثاني فهو ما أهداه القرآن الكريم من هديةٍ إلى البشرية، فهداهم إلى الصراط السوي، فنحن نرى في كل منزلٍ من منازل هذا الطريق، وفي كل موضع من مواضعه، وفي كل مدينة تقع عليه، جنوداً مطيعين أُمناء لسلطانٍ عادل، يتجولون في كل جهة ينتشرون في كل ناحية، وبين فينة وأخرى يأتي قسمٌ من مأموري ذلك الملك العادل وموظفيه فيُعفي بعضَ أولئك الجنود من وظائفهم بأمر السلطان نفسِهِ ويتسلم منهم أسلحتهم ودوابّهم ومعدّاتهم الخاصة بالدولة ويسلّم إليهم بطاقة الإعفاء. وهؤلاء المعفون يبتهجون ويفرحون -من زاوية الحقيقة- على إعفائهم فرحاً عظيماً لرجوعهم إلى السلطان وعودتهم إلى دار قرار سلطنته، والمثول بزيارته الكريمة، مع أنهم يحزنون في ظاهر الأمر على ما أُخذ منهم من دابة ومعدات ألِفوها..
ونرى أيضاً أنه قد يلتقي أولئك المأمورون مَن لا يعرفهم من الجنود، فعندما يخاطبونه: أَنْ سلِّمْ سلاحَك! يردّ عليهم الجندي: أنا جنديٌ لدى السلطان العظيم وتحت أمره وفي خدمته، وإليه مصيري ومرجعي، فمن أنتم حتى تسلبوا مني ما وهبني السلطانُ العظيم؟ فإن كنتم قد جئتم بإذنه ورضاه فعلى العين والرأس فأروني أمره الكريم، وإلّا تنحَّوا عني، فلأقاتلنّكم ولو كنت وحدي وأنتم أُلوف، إذ لا أقاتل لنفسي لأنها ليست لي، بل أقاتل حفاظاً على أمانة مالكي ومولاي وصيانةً لعزته وعظمته. فأنا لا أرضخ لكم!.
فدونك مثالاً واحداً من ألوف الأمثلة على ما في هذا الطريق الثاني من مصدر فرح ومدار سعادة. فانسج على منواله.
وعلى طول الطريق الثاني، وطوال مدة السفرة كلها نرى سَوقاً إلى الجندية، يتم في فرح وابتهاج وسرور.. تلك هي التي تسمى بـ«المواليد». وهناك إعفاءات ورُخَص من الجندية، تتم في فرح وحبور أيضاً، وسط تهليل وتكبير.. تلك هي التي تسمى بـ«الوفيات».
هذا هو الذي أهداه القرآن الكريم للبشرية، فمن اهتدى به فقد سعد في الدارين ويمضي في طريقه -الثاني- على هذه الصورة اللطيفة بلا حزن وكدَرٍ على ما فات منه، وبلا خوف ووجَل مما سيأتي عليه، حتى تنطبق عليه الآية الكريمة:
﴿ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ (البقرة: ٢٦٢)
يا أوروبا الثانية الفاسدة! إنكِ تستندين إلى أسس واهية نخرة، فتزعمين: أن كلّ كائن حي مالكٌ لنفسه، ابتداءً من أعظم مَلَك وانتهاء إلى أَصغر سمك. كلٌّ يعمل لذاته فقط، ولأجل نفسه فحسب، ولا يسعى أحد إلّا للذته الخاصة، ولأجل هذا له حق الحياة. فغايةُ همَّته وهدف قصده هو ضمان بقائه واستمرار حياته. ثم إنَّكِ ترين «قانونَ التعاون» جارياً فيما بين المخلوقات امتثالاً لأمر الخالق الكريم الذي هو واضح جلي في أرجاء الكون كله كإمداد النباتات للحيوانات والحيوانات للإنسان، ثم تحسبين هذا القانون والسنّة الإلهية وتلك التجليات الكريمة الرحيمة المنبعثة من ذلك التعاون العام جدالاً وخصاماً وصراعاً، حتى حكمتِ ببلاهة أن الحياة جدال وصراع.
فيا سبحانَ الله!! كيف يكون إمدادُ ذرات الطعام إمداداً بكمال الشوق لتغذية خلايا الجسم جدالاً وخصاماً؟ بل ما هو إلّا سُنَّة التعاون، ولا يتم إلّا بأمر ربّ حكيم كريم.
وإن ما تستندين إليه من «أن كل شيء مالكٌ لنفسه» واضح البطلان. وأوضح دليل عليه هو أن أشرف الأسباب وأوسعَها إرادةً واختياراً هو الإنسان. والحال ليس في يد اختياره ولا في دائرة اقتداره من أظهر أفعاله الاختيارية كالأكل والكلام والتفكر، إلّا جزءٌ واحد مُبهَمٌ من بين المائة. فالذي لا يملك واحداً من المائة من مثل هذا الفعل الظاهر، كيف يكون مالكاً لنفسه؟! وإذا كان الأشرف والأوسع اختياراً مغلولَ الأيدي عن التملك الحقيقي والتصرف التام فكيف بسائر الحيوانات والجمادات؟ أليس الذي يطلق هذا الحكم «بأن الحيوان مالك لزمام نفسه» أضلَّ من الأنعام وأفقدَ للشعور من الجمادات؟
فيا أوروبا! ما ورطكِ في هذا الخطأ المُشين إلّا دهاؤك الأعور، أي ذكاؤك المنحوس الخارق، فلقد نسيت بذكائك هذا ربَّ كل شيء وخالقَه، إذ أسندتِ آثارَه البديعة إلى الأسباب والطبيعة الموهومة! وقسّمتِ مُلك ذلك الخالق الكريم على الطواغيت التي تُعبَد من دون الله.. فانطلاقاً من هذه الزاوية التي ينظر منها دهاؤك الأعور يضطر كلُّ ذي حياة وكل إنسان أن يصارع وحده ما لا يعد من الأعداء، ويحصل بنفسه على ما لا يحد من الحاجات، بما يملك من اقتدارٍ كذرة، واختيارٍ كشعرة، وشعورٍ كلمعة تزول، وحياة كشعلة تنطفئ، وعمرٍ كدقيقة تنقضي، مع أنه لا يكفي كلُّ ما في يده لواحدٍ من مطالبه. فعندما يصاب -مثلاً- بمصيبة لا يرجو الدواءَ لدائه إلّا من أسباب صُمّ، حتى يكون مصداق الآية الكريمة: ﴿ وَمَا دُعَٓاءُ الْكَافِر۪ينَ اِلَّا ف۪ي ضَلَالٍ ﴾ (الرعد: ١٤).
إن دهاءك المظلم قد قَلب نهارَ البشرية ليلاً، ذلك الليل البهيم بالجور والمظالم، ثم تريدين أن تنوّري ذلك الظلام المخيف بمصابيح كاذبة مؤقتة!.. هذه المصابيح لا تبتسم بوجه الإنسان، بل تستهزئ به، وتستخف من ضحكاته التي يطلقها ببلاهة وهو متمرغ في أوحال أوضاع مؤلمة مُبكية!
فكل ذي حياة في نظر تلاميذك، مسكينٌ مبتلىً بمصائب ناجمة من هجوم الظلمة. والدنيا مأتمٌ عمومي، والأصوات التي تنطلق منها نعيات الموت، وأناتُ الآلام، ونياحات اليتامى.
إنَّ الذي يتلقى الدرس منك ويسترشد بهَديك يصبح «فرعوناً» طاغية.. ولكنه فرعون ذليل، إذ يعبد أخسّ الأشياء، ويتخذ كل شيء ينتفع منه رباً له.
وتلميذك هذا «متمردٌ» أيضاً.. ولكنه متمرد مسكين، إذ لأجل لذةٍ تافهة يقبّل قدَمَ الشيطان، ولأجل منفعة خسيسة يرضى بمنتهى الذل والهوان.
وهو «جبّار» ولكنه جبار عاجز في ذاته لأنه لا يجد مرتكزاً في قلبه يأوي إليه.
إنَّ غاية ما يصبو إليه تلميذُك وذروة همّته: تطمينُ رغبات النفس وإشباعُ هواها، حتى إنه دسّاس يبحث تحت ستار الحمية والتضحية والفداء عن منافعه الذاتية، فيُطَمْئِنُ بدسيسته وخبثه حرصَه ويُشبع نَهمَ غروره، إذ لا يحب حقاً إلّا نفسَه، بل يضحي بكل شيء في سبيلها.
أما التلميذ المخلص الخالص للقرآن الكريم فهو «عبدٌ» ولكنه لا يتنزل لعبادةِ أعظم مخلوق، فهو «عبدٌ عزيزٌ» لا يرضى حتى بالجنة -تلك النعمة العظمى- غايةً لعبوديته لله.
وهو «ليّن هيّن» ولكنه لا يتذلل لغير فاطره الجليل، ولغير أمره وإذنه، فهو صاحبُ همة عليا وعزيمة صادقة.
وهو «فقير» ولكنه مستغن عن كل شيء بما ادّخر له مالكُه الكريم من الثواب الجزيل.
وهو «ضعيف» ولكنه يستند إلى قوة سيّده المطلقة. فلا يرضى تلميذ القرآن الكريم الخالص حتى بالجنة الخالدة مقصِداً وغاية له، فكيف به بهذه الدنيا الزائلة؟
فافهم من هذا مدى التفاوتِ الكبير والبون الشاسع بين همّة هذين التلميذين!.
وكذلك يمكنكم أن تقيسوا مدى الفرقِ الهائل بين تلاميذ الفلسفة السقيمة وتلاميذ القرآن الحكيم من حيث مدى التضحية والفداء في كل منهما بما يأتي:
إنَّ تلميذ الفلسـفـة يـفـرّ من أخيه إيثاراً لنفســه، ويقيم عليه الدعوى.
أمـا تلميذُ القرآن فإنه يرى جميع عباد الله الصالحين في الأرض والســماوات إخواناً لـه، ويشعر من أعماق روحه بأواصـرِ شـــوق تشدّه نحوهم، فيدعو لهم دعــاءً خالصاً نابعاً من صميم قلبه: «اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات» فهو يســعد بسعادتهم. حتى إنه يرى ما هو أعظم الأشياء كالعرش الأعظم والشمس الضخمة مأموراً مسخَّراً مثلَه.
ثم يمكنك قياس سموّ الروح وانبساطها لدى التلميذين بما يأتي:
إنَّ القرآن الكريم يمنح تلاميذه نماءاً سامياً للروح وانبساطاً واسعاً لها، إذ يسلّم إلى أيديهم بدلاً من تسعٍ وتسعين حبةً من حبّات المِسْبَحة، سلسلةً مركبة من ذراتِ تسع وتسعين عالَماً من عوالم الكون التي يتجلى فيها تسعٌ وتسعون اسماً من الأسماء الحسنى، ويخاطبهم: هاؤم اقرأوا أورادكم بهذه السلسلة، وهم بدورهم يقرأون أورادَهم بتلك المسبحة العجيبة، ويذكرون ربّهم الكريم بأعدادها غير المحدودة.
فإن شئت فانظر إلى تلاميذ القرآن من الأولياء الصالحين أمثال الشيخ الكيلاني والشيخ الرفاعي(∗) والشيخ الشاذلي(∗) رضي الله عنهم، وأنصت إليهم حينما يقرأون أورادَهم، وانظر كيف أخذوا في أياديهم سلاسلَ الذرات، وعدد القطرات، وأنفاس المخلوقات فيذكرون الله بها ويسبّحونه ويقدّسونه..
تأمل كيف يتعالى ذلك الإنسان الهزيل الصغير الذي يصارعه أصغر ميكروب ويصرعه أدنى كَرْب!
وكيف يتسامى في التربية القرآنية الخارقة فتنبسط لطائفُه وتسطع بفيض إرشادات القرآن حتى إنه يستصغر أضخمَ موجودات الدنيا من أن يكون مسبحةً لأوراده، بل يستقلُّ الجنةَ العظمى أن تكون غايةَ ذكره لله سبحانه، مع أنه لا يرى لنفسه فضلاً على أدنى شيء من خلق الله.. إنه يجمع منتهى التواضع في منتهى العزة.. ومن هنا يمكنك أن تقدّر مدى انحطاطِ تلاميذ الفلسفة ومدى دناءتهم.
وهكذا فالحقائقُ التي تراها الفلسفةُ السقيمة الأوربية بدهائها الأعور مشوهةً زائفةً يراها الهديُ القرآني واضحةً جلية، ذلك النور الذي ينظر إلى كلا العالَمين معاً بعينين برَّاقتين نافذتين إلى الغيب، ويشير بكلتا يديه إلى السعادتين، ويخاطب البشرية:
أيها الإنسان! إن ما تملكه من نفسٍ ومال ليس ملكاً لك، بل هو أمانةٌ لديك، فمالِكُ تلك الأمانة قديـــرٌ على كل شـــيء، عليم بكل شـــيء، رحيـمٌ كريـــم، يشــتري منـك ملكه الــذي عنـدك ليحفَظَه لك، لئلا يضيع في يــدك، وســــيكافؤك بــه ثمناً عظيماً، فأنت لســت إلّا جنديــاً مكلّفاً بوظيفة، فاعمل لأجله واسعَ باســمه، فهو الــذي يرســـل إليـك رزقَك الـذي تحتاجه، ويحفظك مما لا تقدر عليه.
إنَّ غاية حياتك هذه ونتيجتَها هي أن تكون مظهراً لتجليات أسماء ذلك المالك، ومعكساً لشؤونه الحكيمة.. وإذا ما أصابتك مصيبةٌ فقل:
﴿ اِنَّا لِلّٰهِ وَاِنَّٓا اِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ . أي أنا طوعُ أمر مولاي، فإن كنتِ قادمةً أيتها المصيبةُ بإذنه وباسمه، فأَهلاً ومرحباً بكِ، فنحن لا محالة راجعون إليه لامناص من ذلك. وسنحظى بالمثول بين يديه، فنحن حقاً مشتاقون إليه.. فما دام سيُعتقُنا يوماً من تكاليف الحياة فليكن ذلك على يديك أيتها المصيبة.. أنا مستسلمٌ راضٍ. ولكن إن كان الأمر والإرادة قد صدر إليك منه سبحانه لأجل الابتلاء والاختبار لمدى محافظتي على الأمانة ولمدى قيامي بواجباتي، فلا أُسَلِّمُ ما استطعت أمانةَ مالكي لأيدٍ غير أمينة. ولا أَستسلم لغير أمره ورضاه سبحانه.
فدونَك مثالاً واحداً من بين الألوف منه على معرفةِ قيمةِ ما يلقّنه دهاءُ الفلسفة، ومرتبة ما يرشده هدي القرآن من دروس.
نعم إن الوضع الحقيقي لكلا الطرفين هو على هذا المنوال، بيد أن درجات الناس متفاوتةٌ في الهداية والضلالة ومراتب الغفلة مختلفة متباينة، فلا يشعر كلُّ واحد بهذه الحقيقة في كل مرتبة، إذ الغفلةُ تُبطل الحسَّ والشعور وتخدّرهما، وقد أبطلتْ في هذا الزمان الحسَّ والشعورَ إلى حدٍ لم يَعُد يَشعر بألم هذا العذاب الأليم ومرارته أولئك السائرون في ركاب المدنية الحاضرة.
ولكن ستار الغفلة يتمزق بتزايد الإحساس العلمي، علاوةً على نذير الموت الذي يعرض جنازة ثلاثين ألف شخص يومياً.
فيا أسفى! ويا ويلَ مَنْ ضَلَّ بطواغيت الأجانب وعلومهم المادية الطبيعية، ويا خسارةَ أولئك الذين يقلّدونهم تقليداً أعمى، ويتبعونهم شبراً بشبرٍ وذراعاً بذراع.
فيا أبناء هذا الوطن! لا تحاولوا تقليد الإفرنج! وهل بعد كل ما رأيتم من ظلم أوروبا الشنيع وعداوتهم اللدود، تتبعونَهم في سفاهتهم، وتسيرون في ركاب أفكارهم الباطلة؟ وتلتحقون بصفوفهم، وتنضمّون تحت لوائهم بلا شعور؟ فأنتم بهذا تحكُمون على أنفسكم، وعلى إخوانكم بالإعدام الأبدي.. كونوا راشدين فطنين! إنكم كلما اتبعتموهم في سفاهتهم وضلالهم ازددتم كذباً وافتراءً في دعوى الحمية والتضحية، لأن هذا الاتباع استخفافٌ بأمتكم واستهزاء بملّتكم.
هدانا الله وإياكم إلى الصراط المستقيم.
المذكِّرة السادسة
يا مَن يضطرب ويقلق من كثرة عدد الكفار، ويا مَن يتزلزل باتفاقهم على إنكار بعض حقائق الإيمان، اعلم أيها المسكين!
أولاً: أنَّ القيمة والأهمية ليستا في وفرةِ الكمية وكثرةِ العدد، إذ الإنسان إن لم يكن إنساناً حقاً انقلب حيواناً شيطاناً، لأن الإنسان يكسب حيوانيةً هي أشدُّ من الحيوان نفسه كلما توغل في النوازع الحيوانية، كبعض الأجانب أو السائرين في ركابهم. فبينما ترى قلةَ عدد الإنسان قياساً إلى كثرة عدد الحيوانات إذا بك تراه قد أصبح سلطاناً وسيداً على جميع أنواعها، وصار خليفةً في الأرض.
فالكفار المنكِرون والذين يتّبعون خطواتهم في السفاهة، هم نوعٌ خبيث من أنواع الحيوانات التي خلَقَها الفاطر الحكيم سبحانه لعمارة الدنيا. وجعلهم «واحداً قياسياً» لمعرفة درجات النعمة التي أسبغها على عباده المؤمنين، وسوف يسلّمهم إلى جهنمَ وبئس المصير التي يستحقونها، حينما يرثُ الأرضَ ومَن عليها.
ثانياً: ليس في إنكار الكفار والضالين لحقيقةٍ من الحقائق الإيمانية قوةٌ، ولا في نفيهم لها سندٌ، ولا في اتفاقهم أهمية ، لأنه نفيٌ. فأَلفٌ من النافين هم في حُكم نافٍ واحد فقط.
مثال ذلك: إذا نَفى أهلُ استانبول جميعُهم رؤيتَهم للهلال في بداية رمضان المبارك، فإن إثبات اثنين من الشهود، يُسقِط قيمةَ اتفاق كل ذلك الجمع الغفير. فلا قيمة إذن في اتفاق الكفار الكثيرين ما دامت ماهيةُ الكفر والضلالة نفياً، وإنكاراً، وجهلاً، وعدماً. ومن هنا يُرجَّح حُكمُ مؤمنَين اثنين يستندان إلى الشهود في المسائل الإيمانية الثابتة إثباتاً قاطعاً على اتفاق ما لا يُحد من أهل الضلالة والإنكار ويتغلب عليهم.
وسرّ هذه الحقيقة هو ما يأتي:
إنَّ دعاوى النافين متعددة، برغم أنها تبدو واحدة في الظاهر، إذ لا يتّحد بعضُها مع البعض الآخر كي يعززه ويشدّ من عضده. بينما دعاوى المُثبتين تتحد وتتساند ويمدّ بعضُها البعض الآخر ويقّويه ويدعمه، فالذي لا يرى هلال رمضان في السماء يقول: إنَّ الهلال في نظري غير موجودٌ، وعندي غير موجود.. والآخر يقول مثلَه، فكلٌّ منهم ينفي من زاوية نظره، وليس من واقع الحال، ومن الأمر بذاته، لذا فاختلافُ نظرهم وتنوعُ الأسباب الداعية إلى حَجب الرؤية، وتعدد موانع النظر لدى الأشخاص، يجعل دعاواهم متباينة ومختلفة لا تسند إحداها الأخرى.
أما المثبتون فلا يقول أحدهم: الهلال موجود في نظري، أو عندي، بل يقول: إن الهلال موجود فعلاً، وهو في السماء بذاته.. والمشاهدون جميعاً يصدّقونه في دعواه هذه، ويؤيدونه في الأمر نفسه قائلين: الهلال موجود في واقع الحال.. أي إن جميع الدعاوى واحدة.
ولما كان نظرُ النافين مختلفاً، فقد أصبحت دعاواهم كذلك مختلفة، فلا يسري حُكمهم على الأمر بذاته، لأنه لا يمكن إثبات النفي في الحقيقة، إذ يلزم الإحاطةُ.
ومن هنا صارت من القواعد الأصولية: أنَّ «العَدَم المطلق لا يُثبَتُ إلّا بمُشكلات عظيمة».
نعم، إذا قلت: إن شيئاً ما موجود في الدنيا، فيكفي لإثباته إراءته فقط. ولكن إنْ قلتَ: إنه معدومٌ، غير موجود في الدنيا. أي إذا نفيت وجوده، فينبغي لإثبات هذا النفي أو العدم أنْ تبحث عنه في أطراف الدنيا كافة وإراءتُه وإشهادُه.
وبناء على هذا السر: يتساوى في إنكار الكفار لحقيقةٍ واحدة الواحدُ مع الألف، لعدم وجود التساند فيه. يشبه ذلك، حلَّ مسألة ذهنية، أو المرورَ من ثقب، أو القفز من فوق الخندق، التي لا تساند فيها.
أما المثبتون فلأنهم ينظرون إلى الأمر نفسه، أي إلى واقع الحال، فإن دعاواهم تتحد وتتعاون ويمدُّ بعضُها البعض الآخر قوةً، بمثل التعاون الحاصل في رفع صخرةٍ عظيمة، فكلما تكاثرت الأيدي عليها، سهُل رفعُها أكثر، حيث يستمد كلٌ منهم القوة من الآخر.
المذكّرة السابعة
يا مَنْ يحثّ المسلمين ويشوّقهم على حُطام الدنيا ويسوقُهم قسراً إلى صنائع الأجانب والتمسك بأذيال رقيّهم. ويا مدّعي الحمية، أيها الشقي!. تمهّل، وتأمّل! واحذر من انقطاع عُرى الدين لبعض أفراد هذه الأمة وانفصام روابطهم معه، لأنه إذا انقطعت تلك الروابط لدى البعض تحت سطوة مطارق التقليد الأعمى والسلوك الأرعن، فسيكونون مُلحدين مضرّين بالمجتمع، مُفسدين للحياة الاجتماعية كالسمّ القاتل، إذ المرتد سمٌّ زعاف للمجتمع، حيث قد فسد وجدانُه وتعفنت طويتُه كلياً، ومن هنا ورد في علم الأصول: «المرتد لا حقّ له في الحياة، خلافاً للكافر الذميّ أو المعاهَدِ فإن له حقاً في الحياة» وأن شهادة الكافر من أهل الذمة مقبولةٌ عند الأحناف بينما الفاسقُ مردودُ الشهادة ([3]) لأنه خائن.
انظر: الترمذي، الشهادة ٢؛ أبو داود، الأقضية ١٦؛ ابن ماجه، الأحكام ٣٠؛ أحمد بن حنبل، المسند ٢/ ١٨١،٢٠٤،٢٠٨. ولتوضح الحكم الفقهي لهذا الموضوع: انظرالكاساني، بدائع الصنائع ١/ ١٥٦؛ المرغيناني، الهداية ٣/ ١٢٤؛ ابن عابدين، الحاشية ٧/ ١١٢.
أيها العقل الأَبله والقلب الفاسد! أتظنُّ أن المسلمين لا يرغبون في الدنيا، ولا يفكرون فيها، حتى أَصبحوا فقراءَ مُعْدَمين، فتراهم بحاجة إلى مَن يوُقظهم من رقدتهم كيلا ينسوا نصيبَهم من الدنيا؟
كلا.. إنَّ ظَنَّك خطأٌ.. بل لقد اشتدّ الحرصُ، فهم يقعون في قبضة الفقر وشِباك الحرمان نتيجة الحرص، إذ الحرص للمؤمن سببُ الخيبة وقائدُ الحرمان والسفالة.
وقد ذهب مثلاً: الحريص خائبٌ خاسر .
نعم، إنَّ الأسباب الداعية إلى الدنيا كثيرة، والوسائل السائقة إليها وفيرة، وفي مقدمتها ما يحمله كلُّ إنسان من نفسٍ أَمَّارة بالسوء، وما يكمن فيه من هوىً وحاجة وحواس ومشاعر وشيطانٍ عدو، فضلاً عن أقران السوء -من أمثالك- وحلاوة العاجلة ولذّتها... وغيرها من الدعاة إليها كثير، بينما الدعاة إلى الآخرة وهي الخالدة والمرشدون إلى الحياة الأبدية قليلون.
فإن كان لديك ذرةٌ من الحَميّة والشّهامة تجاه هذه الأمة، وإن كنت صادقاً في دعواك إلى التضحية والفداء والإيثار، فعليك بمدّ يد المساعدة إلى أولئك القلّة من الداعين إلى الحياة الباقية. وإلّا فإن عاونتَ الكثرة، وكممتَ أفواه أولئك الدعاة القلة، فقد أَصبحتَ للشيطان قريناً. فساء قريناً.
أوَ تظن أن فقرَنا ناجمٌ من زُهد الدين أو من كسلٍ ناشئ من ترك الدنيا؟ إنك مخطئ في ظنك أَشدَّ الخطأ.. ألا ترى أن المجوس والبراهمة في الصين والهند والزنوج في أفريقيا وأمثالَهم من الشعوب المغلوبة على أمرها والواقعة تحت سطوة أوروبا، هم أَفقرُ منّا حالاً.
أوَ لا ترى أنه لا يبقى بأيدي المسلمين سوى ما يسدّ رَمَقَهم ويقيم أَوَدَهم حيث يغصبه كفارُ أوروبا الظالمون منهم أو يسرقه منافقو آسيا بما يحيكون من دسائس خبيثة.
إن كانت غايتكم من سَوق المؤمنين قسراً إلى المدنية التي هي الدنيّة (أي بلا ميم) تسهيلاً لإدارة دفّة النظام وبسط الأمن في ربوع المملكة، فاعلموا جيداً أنكم على خطأ جسيم، إذ تسوقون الأمة إلى هاوية طريق فاسد. لأن إدارةَ مائة من الفاسقين الفاسدين أخلاقياً والمرتابين في اعتقادهم وإيمانهم، وجعلَ الأمن والنظام يسود فيما بينهم لهو أصعبُ بكثير من إدارة ألوف من الصالحين المتقين ونشر الأمن فيما بينهم.
وبناءً على ما تقدم من الأسس فليس بالمسلمين حاجة إلى ترغيبهم وحثّهم على حبّ الدنيا والحرص عليها، فلا يحصل الرقي والتقدم ولا ينشر الأمن والنظام في ربوع البلاد بهذا الأسلوب، بل هم بحاجة إلى تنظيم مساعيهم، وبث الثقة فيما بينهم، وتسهيل وسائط التعاون فيما بينهم، ولا تتم هذه الأمور إلّا باتباع الأوامر المقدّسة في الدين، والثبات عليها، مع التزام التقوى من الله سبحانه وابتغاء مرضاته.
المذكِّرة الثامنة
يا مَن لا يدرك مدى اللذة والسعادة في السعي والعمل.. أَيها الكسلان! اعلم، أَنَّ الحق تبارك وتعالى قد أَدرج لكمالِ كرمه جزاءَ الخدمة في الخدمة نفسها، وأَدمج ثوابَ العمل في العمل نفسِهِ.
ولأَجل هذا كانت الموجودات قاطبة بما فيها الجمادات -من زاوية نظر معينة- تمتثل الأَوامر الربانية بشوق كامل، وبنوع من اللذة، عند أَدائها لوظائفها الخاصة بها والتي تطلق عليها «الأوامر التكوينية». فكل شيء ابتداءً من النحل والنمل والطير.. وانتهاء إلى الشمس والقمر، كلٌّ منها يسعى بلذةٍ تامة في أَداء مهامِّها. أي اللذةُ كامنة في ثنايا وظائف الموجودات، حيث إنها تقوم بها على وجه من الإتقان التام، رغم أَنَّها لا تعقلُ ما تفعل ولا تدركُ نتائج ما تعمل.
فإن قلت: إن وجودَ اللذة في الأَحياء ممكنٌ، ولكن كيف يكون الشوقُ واللذةُ موجودين في الجمادات؟.
فالجواب: أنَّ الجمادات تطلب شَرَفاً ومقاماً وكمالاً وجمالاً وانتظاماً، بل تبحث عن كل ذلك وتفتش عنه لأجل إظهار الأَسماء الإلهية المتجلية فيها، لا لذاتها، لذا فهي تتنور وتترقى وتعلو أثناء امتثالها تلك الوظيفة الفطرية، حيث إنها تكون بمثابة مرايا ومَعاكس لتجليات أَسماء «نور الأنوار».
فمثلاً: قطرةٌ من الماء -وقطعة من الزجاج- رغم أنها تافهةٌ وقاتمة في ذاتها، فإذا ما توجهت بقلبِها الصافي إلى الشمس، تتحول إلى نوعٍ من عرشٍ لتلك الشمس، فتلقاك بوجه مضيء!
وكذلك الذرات والموجودات -على غِرار هذا المثال- من حيث قيامها بوظيفة مرايا عاكسة لتجليات الأسماء الحسنى لذي الجلال والجمال والكمال المطلق، فإنها تسمو وتعلو إلى مرتبة من الظهور والجلاء والتنوّر هي غاية في العلو والسمو، إذ ترتفع تلك القطرةُ وتلك القطعة من حضيض الخمود والظلمة إلى ذروة الظهور والتنور. لذا يمكن القول: بأن الموجودات تقوم بأداء وظائفها في غاية اللذة والمتعة ما دامت تكتسب بها مرتبةً نورانية سامية، واللذة ممكنة إن كانت للموجود حصةٌ من الحياة العامة.
وأظهرُ دليل على أن اللذة كامنةٌ في ثنايا الوظيفة نفسها هو ما يأتي:
تأمل في وظائف أعضائك وحواسّك، ترَ أن كلاً منها يجد لذائذَ متنوعة أثناء قيامه بمهامه -في سبيل بقاء الشخص أو النوع- فالخدمة نفسها، والوظيفةُ عينُها تكون بمثابة ضربٍ من التلذذ والمتعة بالنسبة لها، بل يكون تركُ الوظيفة والعمل عذاباً مؤلماً لذلك العضو.
وهناك دليل ظاهر آخر هو: أن الديك -مثلاً- يُؤْثِرُ الدجاجاتِ على نفسه، فيترك ما يلتقطه من حبوب رزقه إليهن دون أن يأكل منها. ويُشاهد أنه يقوم بهذه المهمة وهو في غاية الشوق وعزِّ الافتخار وذروة اللذة.. فهناك إذن لذةٌ في تلك الخدمة أعظم من لذة الأكل نفسِهِ.
وكذا الحال مع الدجاجة -الراعية لأفراخها- فهي تُؤْثرُها على نفسها، إذ تدع نفسَها جائعةً في سبيل إشباع الصغار، بل تضحي بنفسها في سبيل الأفراخ، فتهاجم الكلب المُغير عليها لأجل الحفاظ على الصغار.
ففي الخدمة إذن لذةٌ تفوق كل شيء، حتى إنها تفوق مرارةَ الجوع وترجّح على ألم الموت. فالوالدات من الحيوانات تجد منتهى اللذة في حمايتها لصغارها طالما هي صغيرة. ولكن ما إن يكبر الصغيرُ حتى تنتهي مهمة الأم فتذهب اللذةُ أيضاً. وتبدأ الأم بضرب الذي كانت ترعاه، بل تأخذ الحَبّ منه.. هذه السُنّة الإلهية جاريةٌ في الحيوانات إلّا في الإنسان إذ تستمر مهمة الأم نوعاً ما، لأن شيئاً من الطفولة يظل في الإنسان حيث الضعفُ والعجز يلازمانه طوال حياته، فهو بحاجة إلى الشفقة والرأفة كل حين.
وهكذا، تأمل في جميع الذكور من الحيوانات كالديك، وجميع الوالدات منها كالدجاج، وافهم كيف أنها لا تقوم بتلك الوظيفة ولا تنجز أي شيء لأجل نفسها ولا لكمالها بالذات حيث تفدي نفسَها إذا احتاج الأمر. بل إنها تقوم بتلك المهمة في سبيل المُنعم الكريم الذي أَنعم عليها، وفي سبيل الفاطر الجليل الذي وظّفها في تلك الوظيفة فأَدرج برحمته الواسعة لذةً ضمن وظيفتها، ومتعةً ضمن خدمتها.
وهناك دليلٌ آخر على أن الأجرة داخلةٌ في العمل نفسه وهو أن النباتات والأشجار تمتثل أوامر فاطرها الجليل بما يُشعر أن فيها شوقاً ولذةً، لأن ما تنشره من روائح طيبة، وما تتزين به من زينة فاخرة تستهوي الأنظار، وما تقدمه من تضحيات وفداء حتى الرَمَق الأخير لأجل سنابلها وثمارها.. كل ذلك يعلن لأهل الفطنة: أنَّ النباتات تجد لذةً فائقة في امتثالها الأوامر بما يفوق أية لذة أخرى، حتى إنها تمحو نفسها وتهلكها لأجل تلك اللذة..
ألا ترى شجرة جوز الهند، وشجرة التين كيف تُطعم ثمرتَها لبناً خالصاً تطلبه من خزينة الرحمة الإلهية بلسان حالها وتتسلمه منها وتظل هي لا تُطعم نفسَها غير الطين. وشجرة الرمان تسقي ثمرتها شراباً صافياً، وَهبَها لها ربُّها، وهي ترضى قانعةً بشراب ماءٍ عكر.
حتى إنك ترى ذلك في الحبوب كذلك، فهي تُظهر شوقاً هائلاً للتسنبل، بمثل اشتياق السجين إلى رحب الحياة.
ومن هذا السرّ الجاري في الكائنات المسمى بـ«سُنّة الله» ومن هذا الدستور العظيم، يكون العاطل الكسلانُ الطريح على فراش الراحة أَشقى حالاً وأضيقَ صدراً من الساعي المجدّ، ذلك لأن العاطل يكون شاكياً من عمره، يريد أن يمضي بسرعة في اللهو والمرح. بينما الساعي المجدّ شاكرٌ لله وحامدٌ له، لا يريد أن يمضي عمرَه سدىً.
لذا أصبح دستوراً عاماً في الحياة: «المستريح العاطل شاكٍ من عمره والساعي المجدّ شاكرٌ». وذهب مثلاً: «الراحةُ مندمجة في الزحمة والزحمة مندمجة في الراحة».
نعم، إذا ما أُمعن النظر في الجمادات فإن السنة الإلهية المذكورة تظهر بوضوح؛ فالجمادات التي لم تتكشف استعداداتُها وباتت ناقصةً من هذه الناحية، تراها تسعى بشدة، وتبذل جهداً عظيماً لكي تنبسط وتنتقلَ من طور «القوة» الكامنة إلى طور «الفعل». وعندها يشاهد عليها ما يشير إلى أن في تلك الوظيفة الفطرية شوقاً، وفي ذلك التحول لذةً، جرياً بدستور سُنّة الله، فإن كانت لذلك الجامد حصة في الحياة العامة، فالشوق يعود إليه، وإلّا فهو يعود إلى الذي يمثل ذلك الجامد ويشرف عليه،
بل يمكن أن يقال بناء على هذا السر: إن الماء اللطيف الرقراق ما إن يتسلم أمراً بالانجماد، حتى يمتثل ذلك الأمر بشدة وشوق إلى حدّ أنه يكسر الحديد ويحطّمه. فإذن عندما تبلّغ البرودةُ ودرجاتُ الانجماد أمراً ربانياً بالتوسع، إلى الماء الموجود داخل كرة حديدٍ مقفلة، فإن الماء يمتثل الأمر بشدة وشوق بحيث يحطّم كرة الحديد تلك، وينجمد.
وعلى هذا فقس جميعَ ما في الكون من سعي وحركة، ابتداءً من دوران الشموس في أفلاكها وانتهاءً إلى دوران الذرات -كالمولوي العاشق- ودوراتِها واهتزازاتها.. فلا تجد أحداً إلاّ ويجري على قانون القَدَر الإلهي، ويظهر إلى الوجود بالأمر التكويني الصادر من يد القدرة الإلهية والمتضمن العلمَ الإلهي وأمره وإرادته..
حتى إن كل ذرة، وكل موجود، وكل ذي حياة، إنما هو كالجندي في الجيش، له علاقات متباينة ووظائف مختلفة، وارتباطات متنوعة مع كل دائرة من دوائره. فالذرة الموجودة في عينيك -مثلاً- لها علاقة مع خلايا العين، ومع أَعصاب العين في الوجه، ومع الشرايين والأوردة في الجسم، وعلى أساس هذه العلاقات والروابط تُعَيَّنُ لها وظيفة، وعلى ضوئها تنتج فوائد ومصالح وهكذا..
فقس على هذا المنوال كل شيء في الوجود.
وعلى هذا الأساس فإن كلَّ شيء في الوجود يشهد على وجوب وجود القدير المطلق من جهتين:
الأولى: قيامُه بوظائفَ تفوق طاقتَه المحدودة بآلاف المرات، مع أنه عاجزٌ عن ذلك، فيشهد بلسان عجزه إذن على وجود ذلك القدير المطلق.
الثانية: توافقُ حركته مع الدساتير التي تكوّن نظامَ العالم، وانسجام عمله مع القوانين التي تديم توازن الموجودات، فيشهد -بهذا الانسجام والتوافق- على وجود ذلك العليم القدير.
ذلك لأن جماداً كالذرة -أو حشرة كالنحلة- لا تستطيع أن تعرفَ النظام والموازنة اللذين هما من المسائل الدقيقة المهمة المسطورة في الكتاب المبين.. إذ أين الذرةُ والنحلة من قراءة ذلك الكتاب الذي هو في يدِ مَن يقول: ﴿ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَٓاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ﴾ (الأنبياء: ١٠٤) فلا يجرؤ أحدٌ أن يردّ هذه الشهادة للذرة إلّا مَن يتوهم بحماقة متناهية أنها تملك عيناً بصيرة تتمكن بها قراءة الحروف الدقيقة لذلك الكتاب المبين؟.
نعم، إنَّ الفاطر الحكيم يدرج دساتيرَ الكتاب المبين وأحكامه دَرجاً في غاية الجمال، ويُجملها في غاية الاختصار، ضمن لذةٍ خاصةٍ لذلك الشيء، وفي ثنايا حاجةٍ مخصوصة له. فإذا ما عمل الشيءَ وفق تلك اللذة الخاصة والحاجة المخصوصة، فإنه يمتثل -من حيث لا يشعر- أحكام ذلك الكتاب المبين.
فمثلاً: إن البعوضة في حين مولدها ومجيئها إلى الدنيا تنطلق من بيتها وتهاجم وجهَ الإنسان وتضربه بعصاها الطويلة وخرطومِها الدقيق وتفجّر به السائل الحيوي، وتمصّه مصاً، وهي في هذا الهجوم تُظهر براعة عسكرية فائقة..
تُرى مَن علّم هذا المخلوق الصغير الذي أتى حديثاً إلى الدنيا وليس له من تجربة سابقة، هذه المهارة البارعة، وهذه الفنون الحربية الدقيقة، وهذا الإتقان في التفجير، فمن أين اكتسب هذه المعرفة؟.. فأنا هذا السعيد المسكين اعترف بأني لو كنتُ بدلاً منه، لما كنت أتعلم تلك المهارة، وتلك الفنون العسكرية من كرّ وفرّ، وتلك الأمور الدقيقة في استخراج السائل الحيوي إلّا بعد تجارب طويلة، ودروس عديدة، ومدة مديدة.
فقس على البعوضة النحلَة الملهمة و العنكبوت و البلبلَ الناسج لعشه نسجاً بديعاً، بل يمكنك قياس النباتات على الحيوانات أيضاً.
نعم إن الجواد المطلق جلّ جلاله قد سلّم بيد كل فردٍ من الأحياء «بطاقة تذكرة» مكتوبةً بمداد اللذة وحبر الاحتياج، فأَودع سبحانه فيها منهاجَ أوامره التكوينية، وفهرس ما يقوم به الفردُ من وظائف.. فسبحانه من حكيم ذي جلال، كيف أَدرج ما يخصّ النحل من دساتير الكتاب المبين في تلك «التذكرة» الصغيرة وسطرَها في رأس النحلة، وجعل مفتاحها لذةً خاصة بالنحلة الدائبة، لتفتح به تلك «التذكرة» المودعة في دماغها وتقرأ منهاج عملها فيها وتدرك وظيفتها، وتسعى وتجدّ وفقها، وتبرز حكمةً من الحكم المكنونة في الآية الكريمة:
﴿ وَاَوْحٰى رَبُّكَ اِلَى النَّحْلِ ﴾ (النحل: ٦٨)
فيا مَن يقرأ أو يسمع هذه المذكِّرة الثامنة! إنْ كنتَ قد فهمتها حقَّ الفهم فقد فهمت إذن سراً من أسرار: ﴿ وَرَحْمَت۪ي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ (الأعراف:١٥٦).
وأدركت حقيقةً من حقائق: ﴿ وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه۪ ﴾ (الإسراء: ٤٤)
وتوصلتَ إلى دستور من دساتير:
﴿ اِنَّمَٓا اَمْرُهُٓ اِذَٓا اَرَادَ شَيْـًٔا اَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ (يس:٨٢)
وتعلمت مسألة لطيفة من مسائل:
﴿ فَسُبْحَانَ الَّذ۪ي بِيَدِه۪ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَاِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ (يس: ٨٣)
المذكِّرة التاسعة
اعلم أن النبوة في البشرية فذلكةُ الخير وخلاصة الكمال وأساسه. وأن الدين الحق فهرسُ السعادة. وأن الإيمان حُسنٌ منزّه وجمال مجرّد. وحيث إن حسناً ساطعاً، وفيضاً واسعاً سامياً، وحقاً ظاهراً، وكمالاً فائقاً مشاهَدٌ في هذا العالم، فبالبداهة يكون الحقُّ والحقيقة في جانب النبوة، وفي يد الأنبياء عليهم السلام، وتكون الضلالة والشر والخسارة في مخالفيهم.
فإن شئت فانظر إلى مثال واحد من بين ألوف الأمثلة على محاسن العبودية التي جاء بها النبي عليه السلام وهو: أن النبي عليه السلام يوحِّد بالعبادة قلوبَ الموحدين في صلاة العيد والجمعة والجماعة، ويجمع أَلسنتهم جميعاً على كلمة واحدة. حتى يقابل هذا الإنسان عظمة الخطاب الصادر من المعبود الحق سبحانه بأصوات قلوبٍ وألسنةٍ لا تحد وبدعواتها، متعاوناً متسانداً، بحيث يُظهر الجميعُ عبوديةً واسعةً جداً إزاء عظمة أُلوهية المعبود الحق فكأَن كرة الأرض برمَّتها هي التي تنطق بذلك الذكر، وتدعو بذلك الدعاء، وتصلّى لله بأقطارها وتمتثل بأرجائها الأمرَ النازل بالعزة والعظمة من فوق السماوات السبع:
﴿ وَاَق۪يمُوا الصَّلٰوةَ ﴾ (البقرة:٤٣)
وبهذا الإتحاد صار الإنسانُ وهو المخلوق الضعيف الصغير الذي هو كالذرة في هذه العوالم، عبداً محبوباً لدى خالق السماوات والأرض من جهة عظمة عبوديته له، وأَصبح خليفةَ الأرض وسلطانَها، وسيد الحيوانات ورئيسها، وغاية خلق الكائنات ونتيجتها.
أَرأيت لو اجتمعت في عالم الشهادة أيضاً -كما هو في عالم الغيب- أصواتُ المكبرين البالغين مئات الملايين من المؤمنين بـ«الله أكبر» عقب الصلوات ولاسيما صلاة العيد، واتحدتْ جميعُها في آن واحد أما كانت متساوية لصوت تكبيرة «الله أكبر» تطلقها كرةُ الأرض ومتناسبةً مع ضخامتها والتي أصبحت كأنها إنسان ضخم، إذ باتحاد تكبيرات أولئك الموحّدين في آن واحد يكون هناك تكبيرةٌ عظيمة جداً كأن الأرض تطلقها، بل كأن الأرض تتزلزل زلزالها في صلاة العيد. إذ تكبّر الله بتكبير العالم الإسلامي بأقطاره وأوتاده وتسبّحه بتسبيحهم وأذكارهم فتنوي من صميم قلب كعبتها المشرّفة التي هي قِبلتُها، وتكبّر بـ «الله أكبر» بلسان عَرَفة من فم مكة المكرمة. فبتموّج صدى «الله أكبر» متمثلاً في هواء كهوف أفواه جميع المؤمنين المنتشرين في العالم بمثل تموج ما لا يحد من الصدى في كلمة واحدة من «الله أكبر». بل تتموج تلك التكبيرات والأذكار في أقطار السماوات وعوالم البرزخ.
فالحمد لله الذي جعل هذه الأرض ساجدةً عابدةً له وهيأها لتكون مسجداً لعباده ومهداً لمخلوقاته. فنحمده سبحانه ونسبّحه ونكبّره بعدد ذرات الأرض ونرفع إليه حمداً بعدد موجوداته أن جعلنا من أمة محمد ﷺ الذي علّمنا هذا النوع من العبادة.
المذكِّرة العاشرة
أيها السعيد الغافل المتخبط بسوء حاله! اعلم، أنَّ الوصول إلى نور معرفة الحق سبحانه، وإلى مشاهدة تجلياته في مرايا الآيات والشواهد والنظر إليه من مسامات البراهين والدلائل يقتضي ألّا تتجسّس بأصابع التنقيد على كل نورٍ جرى عليك، وورَد إلى قلبك، وتظاهر إلى عقلك، وألّا تنقده بيد التردد. فلا تمدّن يدك لأخذ نورٍ أضاء لك. بل تجرّد من أسباب الغفلة، وتعرّض لذلك النور، وتوجّه إليه،
فإني قد شاهدت أن شواهد معرفة الله وبراهينها ثلاثة أقسام:
قسم منها: كالماء، يُرى ويُحسّ، ولكن لا يُمسك بالأصابع. ففي هذا القسم عليك بالتجرّد عن الخيالات، والانغماس فيه بكليتك، فلا تتجسس بإصبع التنقيد، فإنه يسيل ويذهب، إذ لا يرضى ماءُ الحياة ذلك ، بالإصبع محلاً.
القسم الثاني: كالهواء، يُحسّ ولكن لا يُرى، ولا يُتخذ ولا يُستمسك، فتوجَّه لنفحات تلك الرحمة، وتعرّض لها، وقابِلها بوجهك وفمك وروحك، فإنْ نظرتَ إلى هذا القسم بيد التردد والريب ومددت إليه يد التنقيد، بدلاً من الانتعاش روحياً، فإنه ينطلق، إذ لا يتخذ يدك مسكناً له ولا يرضى بها منزلاً.
القسم الثالث: فهو كالنور، يُرى ولكن لا يُحس، ولا يؤخذ ولا يستمسك، فتعرّض له وقابله ببصيرة قلبك ونظر روحك، وتوجّه إليه ببصرك، ثم انتظر، فلربما يأتي بذاته ومن نفسه. لأن النور لا يؤخذ باليد، ولا يُصاد بالأصابع، بل بنور البصيرة يُصاد. فإذا مددت إليه يداً مادية حريصةً، ووزنتَه بموازين مادية، فإنه يختفي وإن لم ينطفئ، لأن نوراً كهذا مثلما أنه لا يرضى بالماديّ حبساً، ولا يدخل بالقيد أبداً، فإنه لا يرضى بالكثيف مالكاً وسيداً عليه.
المذكِّرة الحادية عشرة
انظر إلى درجة رحمة القرآن الواسعة وشفقته العظيمة على جمهور العوام ومراعاته لبساطة أفكارهم ونظرهم غير الثاقب إلى أمور دقيقة، انظر كيف يكرر ويُكثر الآيات الواضحة المسطورة في جباه السماوات والأرض،
فيُقرئهم الحروف الكبيرة التي تُقرأ بكمال السهولة، كخلق السماوات والأرض وإنزال الماء من السماء، وإحياء الأرض.. وأمثالها من الآيات. ولا يوجّه الأنظار إلى الحروف الدقيقة المكتوبة في الحروف الكبيرة إلّا نادراً، كيلا يصعب عليهم الأمر.
ثم انظر إلى جزالة بيان القرآن وسلاسة أسلوبه وفطريته، كيف يتلو على الإنسان ما كتبتْهُ القدرةُ الإلهية في صحائف الكائنات من آياتٍ حتى كأن القرآنَ قراءةٌ لما في كتاب الكائنات وأنظمتها، وتلاوةٌ لشؤون بارئها المصّور وأفعاله الحكيمة. فإن شئت استمع بقلبٍ شهيد لقوله تعالى: ﴿ عَمَّ يَتَسَٓاءَلُونَ ﴾ (النبأ:١) و ﴿ قُلِ اللّٰهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ ﴾ (آل عمران:٢٦) وأمثالهما من الآيات الكريمة.
المذكِّرة الثانية عشرة
يا أحبائي المستمعين لهذه المذكِّرات، اعلموا! أني قد أَكتب تضرّع قلبي إلى ربّي مع أن من شأنه أن يُستَر ولا يُسطَر، رجاءً من رحمته تعالى أن يقبل نُطق كتابي، بدلاً عني إذا أَسكت الموتُ لساني.. نعم، لا تسع توبةُ لساني في عمري القصير كفارةً لذنوبي الكثيرة. فنطقُ الكتاب الثابت الدائم أوفى لها.
فقبل ثلاث عشرة سنة وأثناء اضطراب روحي عارم وفي غمرة تحَولِ ضحكاتِ «سعيد القديم» إلى بكاء «سعيد الجديد» أفقت من ليل الشباب على صبح المشيب فسطرتُ هذه المناجاة باللغة العربية، أوردها كما هي:
يا ربيَ الرحيم ويا إلهيَ الكريم!
قد ضاع بسوء اختياري عمري وشبابي، وما بقي من ثمراته في يدي إلّا آثامٌ مؤلمة مُذلّة، وآلام مضرّة مُضلّة، ووساوسٌ مزعجة معجزة، وأنا بهذا الحمل الثقيل، والقلب العليل، والوجه الخجيل متقربٌ -بالمشاهدة- بكمال السرعة، بلا انحراف وبلا اختيار كآبائي وأحبابي وأقاربي وأقراني إلى باب القبر، بيت الوحدة والانفراد في طريق أبد الآباد، للفراق الأبدي من هذه الدار الفانية الهالكة باليقين، والآفلة الراحلة بالمشاهدة، ولا سيما الغدّارة المكّارة لمثلي ذي النفس الأمارة.
فيا ربي الرحيم ويا ربي الكريم!
أراني عن قريب لبِستُ كفني وركبتُ تابوتي، وودعت أحبابي، وتوجهت إلى باب قبري، فأنادي في باب رحمتك: الأمانَ الأمان يا حنان يا منّان، نجني من خجالة العصيان.
آهٍ.. كفني على عنقي، وأنا قائم عند رأس قبري، أرفع رأسي إلى باب رحمتك أُنادي: الأمانَ الأمان يا رحمن يا حنّان، خلصني من ثقل حمل العصيان.
آهٍ.. أنا ملتف بكفني وساكن في قبري وتركني المشيعون، وأنا منتظر لعفوك ورحمتك.. ومشاهدٌ بأن لا ملجأ ولا منجا إلّا إليك، وأُنادي: الأمان الأمانَ من ضيق المكان، ومن وحشة العصيان، ومن قبح وجه الآثام. يا رحمن يا حنان.. يا منّان.. ويا ديّان نجني من رفاقة الذنوب والعصيان..
إلهي! رحمتُك ملجئي ووسيلتي، وإليك أَرفع بثي وحزني وشكايتي.
يا خالقي الكريم، ويا ربي الرحيم، ويا سيدي، ويا مولاي..
مخلوقُك، ومصنوعك وعبدك العاصي العاجز، الغافل، الجاهل العليل الذليل المسيء المسنّ الشقي الآبق، قد عاد بعد أربعين سنة إلى بابك ملتجئاً إلى رحمتك، معترفاً بالذنوب والخطيئات مبتلىً بالأوهام والأسقام، متضرعاً إليك..
فإن تقبل وتغفر وترحم فأنت لذاك أهلٌ وأنت أرحم الراحمين، وإلّا فأيّ بابٍ يُقصَد غير بابك.. وأنت الرّبُ المقصود والحق المعبود.
ولا إله إلّا أنت وحدك لا شريك لك.. آخر الكلام في الدنيا وأول الكلام في الآخرة وفي القبر: أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ﷺ.
المذكِّرة الثالثة عشرة
عبارة عن خمسِ مسائل قد صارت مدار الالتباس.
أولاها: أن الذين يعملون في طريق الحق ويجاهدون في سبيله، في الوقت الذي ينبغي لهم أن يفكروا في واجبهم وعملهم فإنهم يفكرون فيما يخص شؤونَ الله سبحانه وتدبيره، ويبنون أعمالهم عليه فيخطئون.
ورد في كتاب «أدب الدنيا والدين» أن إبليس -لعنة الله عليه- حين ظهر لعيسى بن مريم عليه السلام قال: ألستَ تقول: إنه لن يُصيبك إلّا ما كتبه الله عليك؟ قال: نعم. قال: فارمِ نفسك من ذروة هذا الجبل فإنه إن يقدِّر لك السلامة تسلم،
فقال له:
يا ملعون! إن لله أن يختبر عبدَه وليس للعبد أن يختبر ربّه. ([4])
أي إن الله سبحانه هو الذي يختبر عبده ويقول له: إذا عملتَ هكذا سأوافيك بكذا، أرأيتك تستطيع القيام به؟. يختبره.. ولكن العبد ليس له الحق ولا في طوقه أصلاً أن يختبر ربّه ويقول: إذا قمتُ بالعمل هكذا فهل تعمل لي كذا؟. فهذا الأسلوبُ من الكلام الذي يومئ بالاختبار سوءُ أدبٍ تجاه الربوبية، وهو منافٍ للعبودية.
فما دام الأمر هكذا، فعلى المرء أن يؤدي واجبَه ولا يتدخل بتدبير الله سبحانه وقَدَره.
كان جلال الدين خوارزم شاه(∗) وهو أحد أبطال الإسلام الذي انتصر على جيش جنكيزخان انتصارات عديدة. كان يتقدم جيشَه إلى الحرب، فخاطبه وزراؤه ومقرّبوه: سيُظهرك الله على عدوك، وتنتصر عليهم!.
فأجابهم: «عليَّ الجهاد في سبيل الله اتباعاً لأمره سبحانه، ولا حقَّ لي فيما لم أُكلف به من شؤونه، فالنصرُ والهزيمة من تقديره سبحانه» ولبلوغ هذا البطل العظيم إدراك هذا السر الدقيق في الاستسلام إلى أمر الله والانقياد إليه، كان النصرُ حليفَه في أَغلب الأحيان نصراً خارقاً.
نعم إنه لا ينبغي أن يفكر الإنسان -بما لديه من الجزء الاختياري- بالنتائج التي يتولّاها الله سبحانه.
فمثلاً: يزداد حماسُ بعض الإخوة وشوقهم إلى «رسائل النور» باستجابة الناس لها، فينشطون أكثر.. ولكن عندما لا يستجيب لها الناسُ، تفتُر قوةُ الضعفاء المعنوية وتنطفئ جذوةُ شوقهم. والحال أن سيدنا الرسول الأعظم ﷺ وهو الأستاذ الأعظم ومقتدى الكل والرائد الأعلى قد اتخذ الأمر الإلهي: ﴿ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ اِلَّا الْبَلَاغُ الْمُب۪ينُ ﴾ (النور: ٥٤) دليلاً ومرشداً له، فكلما أعرض الناسُ عن الإصغاء وتولّوا عنه ازدادَ جهاداً وسعياً في سبيل التبليغ. لأنه عَلِم يقيناً أن جعل الناس يصغون ويهتدون إنما هو من شؤون الله سبحانه، وفق الآية الكريمة: ﴿ اِنَّكَ لَا تَهْد۪ي مَنْ اَحْبَبْتَ وَلٰكِنَّ اللّٰهَ يَهْد۪ي مَنْ يَشَٓاءُۚ ﴾ (القصص: ٥٦). فما كان يتدخل ﷺ في شؤونه سبحانه.
لذا فيا إخوتي! لا تتدخلوا في أعمال وشؤون لا تعود إليكم ولا تبنوا عليها أعمالكم ولا تتخذوا طور الاختبار تجاه خالقكم.
المسألة الثانية: إنَّ غاية العبادة امتثالُ أمر الله ونيلُ رضاه، فالداعي إلى العبادة هو الأمرُ الإلهي، ونتيجتُها نيلُ رضاه سبحانه. أما ثمرتُها وفوائدها فأخروية. إلّا أنه لا تنافي العبادة إذا مُنحت ثمراتٌ تعود فائدتُها إلى الدنيا، بشرط ألّا تكونَ علّتها الغائية، وألّا يُقصد في طلبها. فالفوائدُ التي تعود إلى الدنيا والثمرات التي تترتب عليها من نفسها وتُمنح من دون طلب لا تنافي العبادة، بل تكون بمثابة حث «وترجيح» للضعفاء. ولكن إذا صارت الفوائد الدنيوية أو منافعُها علّةً، أو جزءاً من العلة لتلك العبادة أو لذلك الوِرد أو الذكر فإنها تُبطل قسماً من تلك العبادة. بل تجعل ذلك الورد الذي له خصائص عدة عقيماً دون نتيجة.
فالذين لا يفهمون هذا السر، ويقرأون «الأوراد القدسية للشاه النقشبند» مثلاً التي لها مئات من المزايا والخواص، أو يقرأون «الجوشن الكبير» الذي له ألفٌ من المزايا والفضائل وهم يقصدون بعض تلك الفوائد بالذات، لا يجدون تلك الفوائد، بل لن يجدوها ولن يشاهدوها، وليس لهم الحق لمشاهدتها البتة؛ لأنه لا يمكن أن تكون تلك الفوائد علّةً لتلك الأوراد، فلا تُطلب منها تلك الفوائد قصداً، لأن تلك الفوائد تترتب بصورة فضلٍ إلهي على ذلك الوِرد الذي يُقرأ قراءةً خالصةً دون طلب شيء. فأما إذا نواها القارئ فإن نيّتها تُفسد إخلاصَه جزئياً، بل تُخرجها من كونها عبادةً، فتسقط قيمتُها.
بيد أن هناك أمراً آخر، هو أن أشخاصاً ضعفاء بحاجة دائمة إلى مشوّق ومرجّح فإذا ما قرأ الأوراد قراءة خالصة لله متذكراً تلك الفوائد فلا بأس في ذلك، بل هو مقبول.
ولعدم إدراك هذه الحكمة، يقع الكثيرون فريسةَ الريب والشك عند عدم وجدانهم تلك الفوائد التي رُويت عن الأقطاب والسلف الصالحين، بل قد ينكرونها.
المسألة الثالثة: «طُوبٰى لِمَنْ عَرَفَ حَدَّهُ وَلَمْ يَتَجَاوَزْ طَوْرَهُ». ([5])
إنَّ هناك تجليات للشمس على كل شيء. ابتداءً من أَصغر ذرة وبلورة زجاج وقطرة ماء ومن الحوض الكبير والبحر العظيم، وانتهاءً بالقمر والكواكب السيارة. كلٌّ منها يعرف حدّه ويطبع على نفسه انعكاسَ الشمس وصورتَها حسب قابليته. فتستطيع قطرةُ ماءٍ أن تقول: عندي انعكاسٌ للشمس، وذلك حسب قابليتها. ولكن لا تجرؤ على القول: أنا مرآة للشمس كالبحر.
كذلك الأمر في مقامات الأولياء، ففيها مراتبُ عدّة، حسب تنوّع تجليات الأسماء الإلهية الحسنى، فكلُّ اسم من الأسماء الحسنى له تجلياتٌ -كالشمس في المثال- ابتداءً من القلب وانتهاءً بالعرش. فالقلب عرشٌ، ولكن لا يستطيع أن يقول: «أنا كالعرش الأعظم».
ومن هنا كان السالك في سبيل الفخر والغرور يلتبس عليه الأمر فيجعل قلبَه الصغير جداً كالذرة مساوياً للعرش الأعظم، ويعتبر مقامه الذي هو كالقطرة كفواً مع مقام الأولياء العظام الذي هو كالبحر. فبدلاً من أن يصرف همّه لمعرفة أساس العبادة الذي هو العجز والفقر وإدراك تقصيره ونقصه أمام بارئه القدير والتضرع أمام عتبة ألوهيته سبحانه والسجود عندها بكل ذل وخضوع، تراه يبدر منه التصنّعُ والتكلف لأجل أن يلائم نفسه ويحافظ عليها مع مستوى تلك المقامات السامية، فيقع فيما لا طائل وراءه من الغرور والأنانية والمشاكل العويصة.
الخلاصة: لقد ورد في الحديث الشريف: «هَلَكَ النَّاسُ إلَّا الْعَالِمُونَ وَهَلَكَ الْعَالِمُونَ إلَّا الْعَامِلُونَ وَهَلَكَ الْعَامِلوُنَ إلَّا الْمُخْلِصُونَ وَالْمُخْلِصُونَ عَلٰى خَطَرٍ عَظِيمٍ». ([6])
أي إن محور النجاة ومدارها الإخلاص، فالفوز به إذن أمر في غاية الأهمية لأن ذرةً من عمل خالص أفضل عند الله من أطنانٍ من الأعمال المشوبة. فالذي يجعل الإنسان يحرز الإخلاص هو تفكّره في أن الدافعَ إلى العمل هو الأمر الإلهي لا غير، ونتيجتَه كسبُ رضاه وحده، ثم عدم تدخله في الشؤون الإلهية.
إنَّ هناك إخلاصاً في كل شيء. حتى إن ذرةً من حُبٍّ خالص تفضل على أطنان من الحب الصوري الشكلي. وقد عبّر أحدهم شعراً عن هذا النوع من الحب:
وَمَا أنَا بِالْبَاغِى عَلَى الْحُبِّ رُشْوَةً ضَعِيفُ هَوىً يُبْغىَ عَلَيْهِ ثَوَابُ ([7])
أي لا أطلب على الحب رشوة ولا أجرة ولا عوضاً ولا مكافأة، لأن الحب الذي يطلب ثواباً ومكافأة حبٌّ ضعيف لا يدوم.
فهذا الحب الخالص قد أودعه الله سبحانه في فطرة الإنسان ولاسيما الوالدات عامة، فشفقةُ الوالدة مثال بارز على هذا الحب الخالص.
والدليل على أن الوالدات لا يطلبن تجاه محبتهن لأولادهن مكافأة ولا رشوة قط هو جُودُهن بأنفسهن لأجل أولادهن، بل فداؤهن حتى بأخراهن لأجلهم. حتى ترى الدجاج تهاجم الكلبَ إنقاذاً لأفراخها من فمه - كما شاهدها «خسرو» - علماً أن حياتها هي كل ما لديها من رأسمال.
Dördüncü Mesele: Esbab-ı zâhiriye eliyle gelen nimetleri, o esbab hesabına almamak gerektir. Eğer o sebep ihtiyar sahibi değilse –mesela, hayvan ve ağaç gibi– doğrudan doğruya Cenab-ı Hak hesabına verir. Madem o, lisan-ı hal ile Bismillah der, sana verir. Sen de Allah hesabına olarak Bismillah de, al. Eğer o sebep ihtiyar sahibi ise o Bismillah demeli, sonra ondan al, yoksa alma. Çünkü وَلَا تَا۟كُلُوا مِمَّا لَم۟ يُذ۟كَرِ اس۟مُ اللّٰهِ عَلَي۟هِ âyetinin mana-yı sarîhinden başka bir mana-yı işarîsi şudur ki: “Mün’im-i Hakiki’yi hatıra getirmeyen ve onun namıyla verilmeyen nimeti yemeyiniz!” demektir.
O halde hem veren Bismillah demeli hem alan Bismillah demeli. Eğer o Bismillah demiyor fakat sen de almaya muhtaç isen sen, Bismillah de, onun başı üstünde rahmet-i İlahiyenin elini gör, şükür ile öp, ondan al. Yani nimetten in’ama bak, in’amdan Mün’im-i Hakiki’yi düşün. Bu düşünmek bir şükürdür. Sonra o zâhirî vasıtaya istersen dua et. Çünkü o nimet onun eliyle size gönderildi.
Esbab-ı zâhiriyeyi perestiş edenleri aldatan; iki şeyin beraber gelmesi veya bulunmasıdır ki “iktiran” tabir edilir, birbirine illet zannetmeleridir. Hem bir şeyin ademi, bir nimetin ma’dum olmasına illet olduğundan, tevehhüm eder ki: O şeyin vücudu dahi o nimetin vücuduna illettir. Şükrünü, minnettarlığını o şeye verir, hataya düşer. Çünkü bir nimetin vücudu, o nimetin umum mukaddimatına ve şeraitine terettüp eder. Halbuki o nimetin ademi, bir tek şartın ademiyle oluyor.
Mesela, bir bahçeyi sulayan cetvelin deliğini açmayan adam, o bahçenin kurumasına ve o nimetlerin ademine sebep ve illet oluyor. Fakat o bahçenin nimetlerinin vücudu, o adamın hizmetinden başka, yüzer şeraitin vücuduna tevakkufla beraber, illet-i hakiki olan kudret ve irade-i Rabbaniye ile vücuda gelir. İşte bu mağlatanın ne kadar hatası zâhir olduğunu anla ve esbab-perestlerin de ne kadar hata ettiklerini bil!
Evet iktiran ayrıdır, illet ayrıdır. Bir nimet sana geliyor fakat bir insanın sana karşı ihsan niyeti, o nimete mukarin olmuş fakat illet olmamış. İllet, rahmet-i İlahiyedir. Evet, o adam ihsan etmeyi niyet etmeseydi o nimet sana gelmezdi. Nimetin ademine illet olurdu. Fakat mezkûr kaideye binaen o meyl-i ihsan, o nimete illet olamaz. Ancak yüzer şeraitin bir şartı olabilir.
Mesela, Risale-i Nur’un şakirdleri içinde Cenab-ı Hakk’ın nimetlerine mazhar bazı zatlar (Hüsrev, Re’fet gibi) iktiranı illetle iltibas etmişler; Üstadına fazla minnettarlık gösteriyorlardı. Halbuki Cenab-ı Hak onlara ders-i Kur’anîde verdiği nimet-i istifade ile Üstadlarına ihsan ettiği nimet-i ifadeyi beraber kılmış, mukarenet vermiş.
Onlar derler ki: “Eğer Üstadımız buraya gelmeseydi biz bu dersi alamazdık. Öyle ise onun ifadesi, istifademize illettir.”
Ben de derim: “Ey kardeşlerim! Cenab-ı Hakk’ın bana da sizlere de ettiği nimet beraber gelmiş, iki nimetin illeti de rahmet-i İlahiyedir. Ben de sizin gibi iktiranı illetle iltibas ederek, bir vakit Risale-i Nur’un sizler gibi elmas kalemli yüzer şakirdlerine çok minnettarlık hissediyordum. Ve diyordum ki bunlar olmasaydı benim gibi yarım ümmi bir bîçare nasıl hizmet edecekti? Sonra anladım ki sizlere kalem vasıtasıyla olan kudsî nimetten sonra, bana da bu hizmete muvaffakiyet ihsan etmiş. Birbirine iktiran etmiş, birbirinin illeti olamaz. Ben size teşekkür değil belki sizi tebrik ediyorum. Siz de bana minnettarlığa bedel, dua ve tebrik ediniz.”
Bu dördüncü meselede, gafletin ne kadar dereceleri bulunduğu anlaşılır.
Beşinci Mesele: Nasıl ki bir cemaatin malı bir adama verilse zulüm olur. Veya cemaate ait vakıfları bir adam zapt etse zulmeder. Öyle de cemaatin sa’yleriyle hasıl olan bir neticeyi veya cemaatin haseneleriyle terettüp eden bir şerefi, bir fazileti, o cemaatin reisine veya üstadına vermek hem cemaate hem de o üstad veya reise zulümdür. Çünkü enaniyeti okşar, gurura sevk eder. Kendini kapıcı iken, padişah zannettirir. Hem kendi nefsine de zulmeder. Belki bir nevi şirk-i hafîye yol açar. Evet bir kaleyi fetheden bir taburun ganimetini ve muzafferiyet ve şerefini, binbaşısı alamaz. Evet üstad ve mürşid, masdar ve menba telakki edilmemek gerektir. Belki mazhar ve ma’kes olduklarını bilmek lâzımdır.
Mesela, hararet ve ziya, sana bir âyine vasıtasıyla gelir. Senden güneşe karşı minnettar olmaya bedel, âyineyi masdar telakki edip, güneşi unutup ona minnettar olmak divaneliktir. Evet, âyine muhafaza edilmeli çünkü mazhardır. İşte mürşidin ruhu ve kalbi bir âyinedir. Cenab-ı Hak’tan gelen feyze ma’kes olur, müridine aksedilmesine de vesile olur. Vesilelikten fazla feyiz noktasında makam verilmemek lâzımdır.
Hattâ bazı olur ki masdar telakki edilen bir üstad, ne mazhardır ne masdardır. Belki müridinin safvet-i ihlasıyla ve kuvvet-i irtibatıyla ve ona hasr-ı nazar ile o mürid başka yolda aldığı füyuzatı, üstadının mir’at-ı ruhundan gelmiş görüyor.
Nasıl ki bazı adam, manyetizma vasıtasıyla bir cama dikkat ede ede âlem-i misale karşı hayalinde bir pencere açılır. O âyinede çok garaibi müşahede eder. Halbuki âyinede değil belki âyineye olan dikkat-i nazar vasıtasıyla âyinenin haricinde hayaline bir pencere açılmış görüyor. Onun içindir ki bazen nâkıs bir şeyhin hâlis müridi, şeyhinden daha ziyade kâmil olabilir ve döner şeyhini irşad eder ve şeyhinin şeyhi olur.
On Dördüncü Nota
Tevhide dair dört küçük remizdir.
Birinci Remiz: Ey esbab-perest insan! Acaba garib cevherlerden yapılmış bir acib kasrı görsen ki yapılıyor. Onun binasında sarf edilen cevherlerin bir kısmı yalnız Çin’de bulunuyor. Diğer kısmı Endülüs’te, bir kısmı Yemen’de, bir kısmı Sibirya’dan başka yerde bulunmuyor. Binanın yapılması zamanında aynı günde şark, şimal, garp, cenuptan o cevherli taşlar kolaylıkla celbolup yapıldığını görsen hiç şüphen kalır mı ki o kasrı yapan usta, bütün küre-i arza hükmeden bir hâkim-i mu’cizekârdır.
İşte her bir hayvan, öyle bir kasr-ı İlahîdir. Hususan insan, o kasırların en güzeli ve o sarayların en acibidir. Ve bu insan denilen sarayın cevherleri; bir kısmı âlem-i ervahtan, bir kısmı âlem-i misalden ve Levh-i Mahfuz’dan ve diğer bir kısmı da hava âleminden, nur âleminden, anâsır âleminden geldiği gibi; hâcatı ebede uzanmış, emelleri semavat ve arzın aktarında intişar etmiş, rabıtaları, alâkaları dünya ve âhiret edvarında dağılmış bir saray-ı acib ve bir kasr-ı garibdir.
İşte ey kendini insan zanneden insan! Madem mahiyetin böyledir, seni yapan ancak o zat olabilir ki dünya ve âhiret birer menzil, arz ve sema birer sahife, ezel ve ebed dün ve yarın hükmünde olarak tasarruf eden bir zat olabilir. Öyle ise insanın mabudu ve melcei ve halâskârı o olabilir ki arz ve semaya hükmeder, dünya ve ukba dizginlerine mâliktir.
İkinci Remiz: Bazı eblehler var ki güneşi tanımadıkları için bir âyinede güneşi görse âyineyi sevmeye başlar. Şedit bir his ile onun muhafazasına çalışır. Tâ ki içindeki güneşi kaybolmasın. Ne vakit o ebleh; güneş, âyinenin ölmesiyle ölmediğini ve kırılmasıyla fena bulmadığını derk etse bütün muhabbetini gökteki güneşe çevirir. O vakit anlar ki âyinede görülen güneş; âyineye tabi değil, bekası ona mütevakkıf değil belki güneştir ki o âyineyi o tarzda tutuyor ve onun parlamasına ve nuruna meded veriyor. Güneşin bekası onunla değil belki âyinenin hayattar parlamasının bekası, güneşin cilvesine tabidir.
Ey insan! Senin kalbin ve hüviyet ve mahiyetin, bir âyinedir. Senin fıtratında ve kalbinde bulunan şedit bir muhabbet-i beka, o âyine için değil ve o kalbin ve mahiyetin için değil, belki o âyinede istidada göre cilvesi bulunan Bâki-i Zülcelal’in cilvesine karşı muhabbetindir ki belâhet yüzünden o muhabbetin yüzü başka yere dönmüş. Madem öyledir. يَا بَاقٖى اَن۟تَ ال۟بَاقٖى de. Yani madem sen varsın ve bâkisin; fena ve adem ne isterse bize yapsın, ehemmiyeti yok!
Üçüncü Remiz: Ey insan! Fâtır-ı Hakîm’in senin mahiyetine koyduğu en garib bir halet şudur ki: Bazen dünyaya yerleşemiyorsun. Zindanda boğazı sıkılmış adam gibi “Of, of!” deyip dünyadan daha geniş bir yer istediğin halde, bir zerrecik bir iş, bir hatıra, bir dakika içine girip yerleşiyorsun. Koca dünyaya yerleşemeyen kalp ve fikrin, o zerrecikte yerleşir. En şiddetli hissiyatınla o dakikacık, o hatıracıkta dolaşıyorsun.
Hem senin mahiyetine öyle manevî cihazat ve latîfeler vermiş ki bazıları dünyayı yutsa tok olmaz. Bazıları bir zerreyi kendinde yerleştiremiyor. Baş, bir batman taşı kaldırdığı halde; göz, bir saçı kaldıramadığı gibi; o latîfe, bir saç kadar bir sıkleti, yani gaflet ve dalaletten gelen küçük bir halete dayanamıyor. Hattâ bazen söner ve ölür.
Madem öyledir; hazer et, dikkatle bas, batmaktan kork. Bir lokma, bir kelime, bir dane, bir lem’a, bir işarette, bir öpmekte batma! Dünyayı yutan büyük letaiflerini onda batırma. Çünkü çok küçük şeyler var, çok büyükleri bir cihette yutar. Nasıl küçük bir cam parçasında; gök, yıldızlarıyla beraber içine girip gark oluyor. Hardal gibi küçük kuvve-i hâfızanda, senin sahife-i a’malin ekseri ve sahaif-i ömrün ağlebi içine girdiği gibi; çok cüz’î küçük şeyler var, öyle büyük eşyayı bir cihette yutar, istiab eder.
Dördüncü Remiz: Ey dünya-perest insan! Çok geniş tasavvur ettiğin senin dünyan, dar bir kabir hükmündedir. Fakat, o dar kabir gibi menzilin duvarları şişeden olduğu için birbiri içinde in’ikas edip göz görünceye kadar genişliyor. Kabir gibi dar iken, bir şehir kadar geniş görünür. Çünkü o dünyanın sağ duvarı olan geçmiş zaman ve sol duvarı olan gelecek zaman, ikisi ma’dum ve gayr-ı mevcud oldukları halde, birbiri içinde in’ikas edip gayet kısa ve dar olan hazır zamanın kanatlarını açarlar. Hakikat hayale karışır, ma’dum bir dünyayı mevcud zannedersin.
Nasıl bir hat, sürat-i hareketle bir satıh gibi geniş görünürken, hakikat-i vücudu ince bir hat olduğu gibi; senin de dünyan hakikatçe dar fakat senin gaflet ve vehm ü hayalinle duvarları çok genişlemiş. O dar dünyada, bir musibetin tahrikiyle kımıldansan, başını çok uzak zannettiğin duvara çarparsın. Başındaki hayali uçurur, uykunu kaçırır. O vakit görürsün ki o geniş dünyan; kabirden daha dar, köprüden daha müsaadesiz. Senin zamanın ve ömrün, berkten daha çabuk geçer; hayatın, çaydan daha süratli akar.
Madem dünya hayatı ve cismanî yaşayış ve hayvanî hayat böyledir; hayvaniyetten çık, cismaniyeti bırak, kalp ve ruhun derece-i hayatına gir. Tevehhüm ettiğin geniş dünyadan daha geniş bir daire-i hayat, bir âlem-i nur bulursun. İşte o âlemin anahtarı, marifetullah ve vahdaniyet sırlarını ifade eden لَٓا اِلٰهَ اِلَّا اللّٰهُ kelime-i kudsiyesiyle kalbi söylettirmek, ruhu işlettirmektir.
ON BEŞİNCİ NOTA
Üç meseledir.
Birinci Mesele: İsm-i Hafîz’in tecelli-i etemmine işaret eden فَمَن۟ يَع۟مَل۟ مِث۟قَالَ ذَرَّةٍ خَي۟رًا يَرَهُ وَمَن۟ يَع۟مَل۟ مِث۟قَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ âyetidir. Kur’an-ı Hakîm’in bu hakikatine delil istersen, Kitab-ı Mübin’in mistarı üstünde yazılan şu kâinat kitabının sahifelerine baksan, ism-i Hafîz’in cilve-i a’zamını ve bu âyet-i kerîmenin bir hakikat-i kübrasının naziresini çok cihetlerle görebilirsin.
Ezcümle: Ağaç, çiçek ve otların muhtelif tohumlarından bir kabza al. O muhtelif ve birbirine muhalif tohumların cinsleri birbirinden ayrı, nevileri birbirinden başka olan çiçek ve ağaç ve otların sandukçaları hükmünde olan o kabzayı karanlıkta ve karanlık ve basit ve camid bir toprak içinde defnet, serp. Sonra mizansız ve eşyayı fark etmeyen ve nereye yüzünü çevirsen oraya giden basit su ile sula.
Sonra senevî haşrin meydanı olan bahar mevsiminde gel, bak! İsrafilvari melek-i ra’d; baharda nefh-i sûr nevinden yağmura bağırması, yer altında defnedilen çekirdeklere nefh-i ruhla müjdelemesi zamanına dikkat et ki o nihayet derece karışık ve karışmış ve birbirine benzeyen o tohumcuklar, ism-i Hafîz’in tecellisi altında kemal-i imtisal ile hatasız olarak Fâtır-ı Hakîm’den gelen evamir-i tekviniyeyi imtisal ediyorlar. Ve öyle tevfik-i hareket ediyorlar ki onların o hareketlerinde bir şuur, bir basîret, bir kasd, bir irade, bir ilim, bir kemal, bir hikmet parladığı görünüyor.
Çünkü görüyorsun ki o birbirine benzeyen tohumcuklar, birbirinden temayüz ediyor, ayrılıyor. Mesela bu tohumcuk, bir incir ağacı oldu. Fâtır-ı Hakîm’in nimetlerini başlarımız üstünde neşre başladı. Serpiyor, dallarının elleri ile bizlere uzatıyor. İşte bu, ona sureten benzeyen bu iki tohumcuk ise gün âşığı namındaki çiçek ile hercaî menekşe gibi çiçekleri verdi. Bizler için süslendi. Yüzümüze gülüyorlar, kendilerini bizlere sevdiriyorlar. Daha buradaki bir kısım tohumcuklar, bu güzel meyveleri verdi ve sümbül ve ağaç oldular. Güzel tat ve koku ve şekilleri ile iştihamızı açıp, kendi nefislerine bizim nefislerimizi davet ediyorlar ve kendilerini müşterilerine feda ediyorlar. Tâ nebatî hayat mertebesinden, hayvanî hayat mertebesine terakki etsinler. Ve hâkeza kıyas et.
Öyle bir surette o tohumcuklar inkişaf ettiler ki o tek kabza, muhtelif ağaçlarla ve mütenevvi çiçeklerle dolu bir bahçe hükmüne geçti. İçinde hiçbir galat, kusur yok. فَار۟جِعِ ال۟بَصَرَ هَل۟ تَرٰى مِن۟ فُطُورٍ sırrını gösterir. Her bir tohum, ism-i Hafîz’in cilvesiyle ve ihsanıyla ona pederinin ve aslının malından verdiği irsiyeti; iltibassız, noksansız muhafaza edip gösteriyor.
İşte bu hadsiz hârika muhafazayı yapan Zat-ı Hafîz, kıyamet ve haşirde hafîziyetin tecelli-i ekberini göstereceğine kat’î bir işarettir.
Evet bu ehemmiyetsiz, zâil, fâni tavırlarda bu derece kusursuz, galatsız hafîziyet cilvesi bir hüccet-i kātıadır ki ebedî tesiri ve azîm ehemmiyeti bulunan emanet-i kübra hamelesi ve arzın halifesi olan insanların ef’al ve âsâr ve akvalleri ve hasenat ve seyyiatları, kemal-i dikkatle muhafaza edilir ve muhasebesi görülecek.
Âyâ bu insan zanneder mi ki başıboş kalacak? Hâşâ! Belki insan, ebede mebustur ve saadet-i ebediyeye ve şakavet-i daimeye namzettir. Küçük büyük, az çok her amelinden muhasebe görecek. Ya taltif veya tokat yiyecek.
İşte hafîziyetin cilve-i kübrasına ve mezkûr âyetin hakikatine şahitler hadd ü hesaba gelmez. Bu meseledeki gösterdiğimiz şahit; denizden bir katre, dağdan bir zerredir.
سُب۟حَانَكَ لَا عِل۟مَ لَنَٓا اِلَّا مَا عَلَّم۟تَنَٓا اِنَّكَ اَن۟تَ ال۟عَلٖيمُ ال۟حَكٖيمُ
- ↑ أي في سنة ١٣٤٠ هـ (١٩٢١م) حيث إن تاريخ تأليف هذه الرسالة ١٣٥٢ هـ (١٩٣٣م).
- ↑ وحينما ترجمتها إلى العربية اعتبرت النص التركي الموضّح هو الأساس، إلا أنني آثرت استعمال عبارات الأستاذ النورسي البليغة -في الرسائل العربية المذكورة (من المثنوي العربي النوري)- متى ما كانت مطابقة مع النص التركي.
- ↑ انظر: الترمذي، الشهادة ٢؛ أبو داود، الأقضية ١٦؛ ابن ماجه، الأحكام ٣٠؛ أحمد بن حنبل، المسند ٢/ ١٨١،٢٠٤،٢٠٨. ولتوضح الحكم الفقهي لهذا الموضوع: انظرالكاساني، بدائع الصنائع ١/ ١٥٦؛ المرغيناني، الهداية ٣/ ١٢٤؛ ابن عابدين، الحاشية ٧/ ١١٢.
- ↑ انظر الماوردي، أدب الدنيا والدين ص١٢؛ الكتاب المقدس، متى، الباب الرابع، آية ١-١١.
- ↑ انظر البخاري، التاريخ الكبير ٣/ ٣٣٨؛ الطبراني، المعجم الكبير ٥/ ٧١؛ البيهقي، السنن الكبرى ٤/ ١٨٢.
- ↑ في كشف الخفاء (٢٧٩٦) (الناس هلكى....): قال الصغاني: وهذا حديث مفترىً ملحون، والصواب في الإعراب العالمين والعاملين والمخلصين ا. هـ. وأقول فيه: أن السيوطي نقل في النكت عن أبى حيان أن الإبدال في الاستثناء الموجَب لغةٌ لبعض العرب، وخرج عليها قوله تعالى: ﴿ فَشَرِبُوا مِنْهُ اِلَّا قَل۪يلًا ﴾ ا. هـ. وعليه فالعالمون وما بعده بدل مما قبله.
- ↑ البيت للمتنبي.