الشعاع السادس
«عبارة عن نكتتين فقط»
بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ
سيُبيَّن باختصار في هذا «الشعاع السادس» نكتتان فقط من بين مئات النكات التي يتضمنها التشهد في الصلاة «التحيات المباركات، الصلوات، الطيبات لله..». وهما جوابان مختصران عن سؤالين يتعلقان بنقطتين في التشهد. أما سائر حقائقه فنعلّقه إلى وقت آخر بمشيئة الله.
السؤال الأول
ما حكمةُ قراءة كلمات التشهد المباركة في الصلاة، مع أنها محاورة جرت بين الرب الجليل ورسوله الكريم ﷺ في ليلة المعراج؟
الجواب: أن صلاةَ كلِّ مؤمن معراجُه، ([1]) فالكلمات اللائقة لذلك المثول بين يدي الله سبحانه هي تلك الكلمات التي وردت في المعراج العظيم لسيدنا محمد ﷺ.
ويتذكر الإنسان تلك المحاورةَ السامية والصحبةَ المقدسة بذكر تلك الكلمات، وبذلك التذكّر تصعد معاني تلك الكلمات الطيبة إلى مراقي الكليات متحررةً من الجزئيات، وتُتصوّر -أو يمكن أن تُتصور- تلك المعاني الكلية المحيطة السامية. وبذلك التصوّر تتعالى قيمتُها ويتسامى نورُها ويتسع.
فمثلا: لقد قال الرسول الكريم ﷺ في تلك الليلة المباركة أمام الحضور الإلهي بدلا عن السلام: «التحيات لله». ([2]) أي إن ما يُظهره جميعُ ذوي الحياة من تسبيحات حياتية، بحياتها.. وما يقدّمونه من هدايا فطرية إلى صانعهم الجليل.. يخصّك وحدَك يا ربي. وأنا بدوري أقدم جميعَها بتصوري لها وإيماني بها.
نعم، كما نوى الرسول الكريم ﷺ جميعَ العبادات الفطرية لذوي الحياة وقدّمها إلى ديوان الرب الجليل بكلمة: «التحيات»، كذلك يقول ﷺ بكلمة «المباركات» التي هي خلاصةُ التحيات يقولها بمعنى واسع يضم عباداتٍ وتبركات فطرية وبركاتِ جميع المخلوقات، التي هي مدار البركة والتبريك من قبل الناظرين إليها، والتي هي خلاصة الحياة وذوي الحياة. ولاسيما البذور والنوى والحبوب والبيوض.
وإنه ﷺ بكلمة «الصلوات» التي هي خلاصة «المباركات» يتصور العبادات المخصوصة لذوي الأرواح الذين هم خلاصة ذوي الحياة، ويعرضها إلى ديوان الحضرة الإلهية بمعناها الواسع المحيط.
وإنه ﷺ بكلمة «والطيبات» التي هي خلاصة «الصلوات» يقصد العبادات الرفيعة النورانية للناس الكاملين، وهم خلاصة ذوي الأرواح، والملائكة المقربين. فيقدمها خاصة إلى معبوده سبحانه.
ثم إن ما قاله الرب الجليل في تلك الليلة من: «السلام عليك أيها النبيُّ» يُشعر إشعارا يتسم بالأمر أن يقول كلُ إنسان من مئات الملايين من البشر في المستقبل: السلام عليك يا أيها النبي... يقوله كل يوم عشر مرات في الأقل. فيمنح ذلك السلامُ الإلهي تلك الكلمة نورا محيطا ومعنىً سامياً.
كما أن قول الرسول الأكرم ﷺ: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» ردا للسلام الإلهي يفيد ويذكّر أنه سأل خالقَه الكريم راجيا وداعيا أن تنال في المستقبل أمتُه المعظمة وصالحو أمته الإسلامَ الذي يمثل السلامَ الإلهي، وأن تتبادل الأمة كلهم فيما بينهم: السلام عليكم وعليكم السلام؛ ذلك الشعار الإسلامي العام.
وإن قول جبرائيل عليه السلام الذي له حظ من تلك الصحبة السامية في تلك الليلة بأمر إلهي: «أشهد أنْ لا إله إلّا الله وأشهد أنَّ محمدا رسول الله» يبشر بأن الأمة جميعَهم سيشهدون هذه الشهادة وسينطقون بها إلى يوم القيامة.
وهكذا تسطع معاني الكلمات وتتوسع بتذكّر هذه المحاورة المقدسة السامية.
إن حالة روحية غريبة قد أعانتني على انكشاف هذه الحقيقة، وهي الآتية:
لقد تراءى لخيالي حاضرُ هذا الكون العظيم فيما مضى من خلال غربة مظلمة قاتمة، وفي أثناء ليلة حالكة، ومن ثنايا غفلة دامسة، تراءى في صورة جنازة مخيفة، جامدا لا روح فيه ولا حياة، خاليا قفرا. وخُيّل الزمانُ الماضي الراحل مخيفا لا روح فيه ولا حياة وخاليا قفرا أيضا، واتخذ ذلك المكان الواسع غير المحدود، وذلك الزمان غير المحدود شكلا موحشا مخيفا. فالتجأتُ من روعي إلى الصلاة لأنجو من تلك الحالة الرهيبة وحينما قلت: «التحيات» في الصلاة، إذا بالكون كله تُبعث وتدبّ فيه الحياةُ ويتنور. وغدا مرآةً ساطعة لتجليات الحي القيوم. وعلمت بعلم اليقين بل بحق اليقين وشاهدتُ أن الكون مع جميع أجزائه الحيوية يقدِّم دائما إلى الحي القيوم تحياتٍ وهدايا حياته.
وحينما قلت: «السلام عليك يا أيها النبي»، انقلب ذلك الزمان المقفر الموحش غيرُ المحدود فجأةً إلى متنـزَّه مليء بذوي الأرواح، لطيف مؤنس برئاسة الرسول الأكرم ﷺ.
السؤال الثاني
إن التشبيه الموجود في ختام التشهد وهو «اللّهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم...» ([3]) هذا التشبيه لا يوافق قواعد التشبيه، لأن محمدا ﷺ هو أعظمُ من إبراهيم عليه السلام وأكثرُ حظوة منه للرحمة الإلهية. فما سر هذا التشبيه؟
وما حكمة تخصيص هذا النوع من الصلوات في التشهد؟
وما سر الحكمة في تكرار الدعاء نفسه في الصلوات منذ القدم، وفي كل وقت، ومن قبل ملايين المقبولي الدعاء، وسؤالهم بإلحاح مع أنه يكفي لدعاءٍ أن يُستجاب مرةٌ واحدة؛ ولاسيما إنه قد اقترن بوعد إلهي، حيث قد وعد سبحانه في قوله تعالى:
﴿ عَسٰٓى اَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ﴾ (الإسراء:٧٩)
وروي في الأذان والإقامة قوله ﷺ: «وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته» ([4]) فالأمة جميعا يدعون لإنجاز ذلك الوعد. فما سر هذا؟
الجواب: يتضمن هذا السؤال ثلاثة أسئلة وثلاث جهات:
الجهة الأولى: على الرغم من أن سيدنا إبراهيم لا يبلغ سيدنا محمدا ﷺ، إلّا أن آل إبراهيم هم أنبياء، بينما آلُ محمد ﷺ هم أولياء. والأولياء لا يبلغون الأنبياءَ.
والدليل على قبول هذا الدعاء الذي يخص الآل قبولا واضحا هو:
كون الأولياء الذين جاؤوا من نسل اثنين من آل محمد وهما الحسن والحسين رضي الله عنهما، هم بأكثريتهم المطلقة أئمةُ مسالكِ الحقيقة والطريقة ومرشديها من بين ثلاثمائة وخمسين مليونا من المسلمين ونالوا مرتبةً كمرتبة أنبياء بني إسرائيل كما ورد: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل». ([5]) فكلٌ منهم أرشد القسم الأعظم من الأمة إلى طريق الحقيقة وسبيل حقائق الإسلام. فهؤلاء ثمرات استجابة الدعاء الذي يخص الآل، منهم -في المقدمة- جعفر الصادق(∗) والشيخ الكيلاني والشاه النقشبند رضي الله عنهم.
الجهة الثانية: أما حكمةُ تخصيص هذا النوع من الصلوات بالصلاة فهي تذكُّرُ المرء التحاقَه ورفاقته بذلك الركب الميمون والقافلة العظمى للأنبياء والأولياء الذين هم أنور أفاضل البشر وأكملُهم وأكثرهم استقامةً، وسلوكه الطريق الذي فتحوه ونهجوا ذلك الصراط المستقيم، وهم المؤيَّدون بقوة مئات الإجماع ومئات التواتر، تلك الجماعة المباركة الذين لا يزيغون أبدا. وبتذكّره هذا ينجو من شبهات الشيطان والأوهام الرديئة.
أما الدليل على أن هذه القافلة الميمونة هم أولياءُ رب العالمين المرضيين عنده، وأن معارضيهم هم أعداؤه المبغوضون من مخلوقاته هو: الإمداد الغيبي لذلك الركب الكريم دوما منذ زمن آدم عليه السلام، ونـزولُ المصائب والويلات السماوية بمخالفيهم.
نعم، إن جميع المعارضين من أمثال قوم نوح وثمود وعاد وفرعون ونمرود قد تلقَوا صفعات غيبية تُشعر بالغضب الإلهي وعذابــه؛ بينما نال الركبُ العظيم من أمثال نوح وإبراهيم وموسى عليهم السلام ومحمد ﷺ وأمثالهم من الأنبياء الكرام والأئمة السامين، المعجزاتِ العظيمة والآلاءَ الربانية بصورة خارقة.
ولما كانت صفعةٌ واحدة تدل على الغضب، والإكرامُ الواحد يدل على المحبة. فقد نزلت أُلوف الصفعات على المعارضين وأُلوف الإكرامات والإمدادات على أولئك الأبرار الميامين. مما يشهد بداهة وبوضوح النهار على أحقيةِ وصواب تلك القافلة المباركة وأنهم على هدى وعلى صراط مستقيم.
وأن ما جاء في ختام سورة الفاتحة ﴿ صِرَاطَ الَّذ۪ينَ اَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ متوجه إلى أولئك الأبرار الذين أنعم الله عليهم. بينما «المغضوب عليهم والضالون» تبين معارضيهم. وهذه النكتة التي بيناها وُضِّحتْ بجلاء في ختام سورة الفاتحة.
الجهة الثالثة: إن سر الحكمة الكامن في السؤال الملحّ المكرَّر لشيء يُمنَح قطعا هو:
أن الشيء المراد، كالمقام المحمود إنما هو طرفٌ وغصنٌ من حقيقة عظمى تضم ألوف الحقائق الجليلة كحقيقة المقام المحمود. وهو ثمرةٌ لأعظم نتيجة لخلق الكون.
أما طلبُ تلك الثمرة وذلك الغصن والطرف، فهو طلبُ تحقيق تلك الحقيقة العامة الشاملة العظمى وحصولها، وطلبُ مجيء العالم الباقي الذي هو أعظمُ غصن من شجرة الخلق، وطلب تحققه، وطلب تحقق القيامة والحشر الذي هو أعظم نتيجة للكون وطلب انفتاح دار السعادة.
فيتذكر المرء أنه أيضا -بهذا الطلب والسؤال- يشترك في العبودية البشرية والأدعية الإنسانية التي هي أهم سبب لوجود دار السعادة والجنة الخالدة. ومن هنا نجد أن هذه الأدعية غير المحدودة قليلة أيضا بالنسبة لهذا المقصد العظيم غير المحدود.
وكذا فإن إعطاء «المقام المحمود» لسيدنا الرسول ﷺ إشارة إلى شفاعته الكبرى لأمته عامة فهو إذن ذو علاقة مع سعادة جميع أمته.
ولهذا فإن طلبه أدعية الصلوات غير المحدودة والرحمة غير المحدودة من أمته هو عين الحكمة.
﴿ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَٓا اِلَّا مَا عَلَّمْتَنَاۜ اِنَّكَ اَنْتَ الْعَل۪يمُ الْحَك۪يمُ ﴾
- ↑ انظر: السيوطي، شرح سنن ابن ماجه ص٣١٣؛ المناوي، فيض القدير ٤٩٧/١؛ الآلوسي، روح المعاني ٧٣/١٨.
- ↑ انظر: البخاري، الأذان ١٤٨، العمل في الصلاة ٤، الاستئذان ٣، ٢٨؛ مسلم، الصلاة ٥٥، ٦٠، ٦٢.
- ↑ انظر: البخاري، الأنبياء ١٠، تفسير سورة الأحزاب ١٠؛ الدعوات ٣٢، ٣٣؛ مسلم، الصلاة ٦٥-٦٩.
- ↑ انظر: البخاري، الأذان ٨؛ الترمذي، الصلاة ٤٣؛ أبو داود، الصلاة ٣٩.
- ↑ انظر: المناوي، فيض القدير ٣٨٤/٤؛ علي القاري، المصنوع ص ١٢٣؛ العجلوني، كشف الخفاء ٨٣/٢.