الشعاع الرابع

    Risale-i Nur Tercümeleri sitesinden
    Bu sayfa Dördüncü Şuâ sayfasının çevrilmiş sürümü ve çeviri %100 tamamlandı.
    Diğer diller:

    بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ

    ﴿ حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَك۪يلُ ﴾ (آل عمران:١٧٣)

    هذا الشعاع هو «اللمعة الخامسة» من حيث المعنى والرتبة، وهو «الشعاع الرابع» القيّم من حيث الصورة والمقام، للّمعة الحادية والثلاثين من المكتوب الحادي والثلاثين، وهو عبارة عن نكتة مهمة جليلة للآية الكريمة: ﴿ حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَك۪يلُ ﴾ (آل عمران:١٧٣).

    تنبيه

    إن رسائل النور تخالف الكتب الأخرى، إذ تستهل البحثَ بشيء من الإبهام الذي قد يخفى على القارئ ويغمض عليه، إلّا أنها تتوضّح تدريجيا، وتكشف عن معانيها رويدا رويدا، ولاسيما هذه الرسالة. فالمرتبة الأولى منها دقيقة وعميقة غامضة مع أنها حقيقة قيمة غالية. وقد برزت هذه المرتبة بصفة خاصة بي شفاءً لأدوائي المتنوعة الغائرة، برزت على صورة محاكمة شعورية في غاية الأهمية، ومعاملة إيمانية في غاية الحيوية، ومحاورة قلبية في غاية الخفاء. ومن هنا قد لا يتمكن أن يَتذوقَها تذوقا تاما ويَستشعرَ بها إلّا من كانت مشاعرُه متوافقة معي، متجانسة مع مشاعري.

    حينما جرّدني أربابُ الدنيا من كل شيء، وقعتُ في خمسة ألوان من الغربة، وانتابتني خمسة أنواع من الأمراض الناشئة من الآلام والعنت في زمن الشيخوخة.

    ولم ألتفتْ إلى ما في رسائل النور من أنوار مسلّية وإمدادات مشوّقة -جرّاء غفلة أورثها الضجرُ والضيق- وإنما نظرتُ مباشرة إلى قلبي وتحسست روحي،

    فرأيت أنه يسيطر عليّ عشقٌ في منتهى القوة للبقاء، وتهيمِن عليّ محبةٌ شديدة للوجود، ويتحكّم فيّ شوق عظيم للحياة، مع ما يكمن فيّ من عجز لا حدّ له وفقر لا نهاية له. غير أن فناءً مهولا يطفئ ذلك البقاء ويزيله، فقلت -في حالتي هذه- مثلما قال الشاعر المحترق الفؤاد: ([1])

    حكمة الإله تقضي فناءَ الجسد، والقلب توّاق إلى الأبد،

    لهفَ نفسي من بلاءٍ وكمد، حار لقمانُ في إيجاد الضمد..

    فطأطأتُ رأسي يائسا، وإذا بالآية الكريمة ﴿ حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَك۪يلُ ﴾ تغيثني قائلة:

    اقرأني جيدا، بتدبر وإمعان.. فقرأتُها بدوري خمسمائة مرة في كل يوم. وكتبتُ تسعا فقط من أنوارها ومراتبها القيمة الغزيرة التي انكشفتْ لي بعين اليقين، أما تفاصيلها المعروفة بعلم اليقين، لا بعين اليقين، فأحيلها إلى رسائل النور.

    المرتبة النورية الحسبية الأولى

    إن ما فيّ من عشق البقاء ليس متوجها إلى بقائي أنا، بل إلى وجود ذلك الكامل المطلق وإلى كماله وبقائه. وذلك لوجودِ ظل لتجلٍّ من تجليات اسمٍ من أسماء الكامل المطلق -ذي الكمال والجمال- في ماهيتي، وهو المحبوب لذاته -أي دون داعٍ إلى سبب- إلّا أن هذه المحبة الفطرية ضلّت سبيلَها وتاهت بسبب الغفلة، فتشبثت بالظل وعشقتْ بقاء المرآة.

    ولكن ما إن جاءت ﴿ حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَك۪يلُ ﴾ حتى رفعت الستار،

    فأحسستُ وشاهدت، وتذوقتُ بحق اليقين: أن لذةَ البقاء وسعادتَه موجودة بنفسها، بل أفضلَ وأكملَ منها، في إيماني وإذعاني وإيقاني ببقاء الباقي ذي الكمال، وبأنه ربي وإلهي؛ لأنه ببقائه سبحانه يتحقق لي حقيقة باقية لا تموت، إذ يتقرر بشعور إيماني «أن ماهيتي تكون ظلا لاسم باقٍ، لاسمٍ سرمدي، فلا تموت».

    وكذا تُشبَع بذلك الشعور الإيماني -الباعث على وجود الكمال المطلق وهو المحبوب المطلق- المحبةُ الذاتية، الفطرية الشديدة.

    وكذا تُعرف بذلك الشعور الإيماني -الذي يخصّ بقاء الباقي السرمدي ووجوده سبحانه- كمالاتُ الكائنات ومزاياها، ومزايا نوع الإنسان بالذات وتُكشف عنها، ويُعلَم أن الافتتان الفطري بالكمال يُنقذ من آلام غير محدودة، فيتذوق ويتلذذ.

    وكذا يتولد بذلك الشعور الإيماني انتساب إلى ذلك الباقي السرمدي، وتتولد وشائجُ مع مُلكه عامة بالإيمان بذلك الانتساب، فينظر المرء -بنور الإيمان- إلى مُلكٍ غير محدود كنظره إلى مُلكه، فيستفيد معنىً.

    وكذا يتكون بذلك الشعور الإيماني وبذلك الانتساب والعلاقة ما يشبه الاتصال والارتباط بجميع الموجودات؛ وفي هذه الحالة يتولد وجودٌ غير محدود -غير وجوده الشخصي الذي يأتي بالدرجة الثانية- من جهة ذلك الشعور الإيماني والانتساب والارتباط والعلاقة والاتصال، حتى كأنه وجود كوجوده فيهدأ العشق الفطري تجاه الوجود.

    وكذا تتولد بذلك الشعور الإيماني والانتساب والعلاقة والارتباط أخوةٌ مع جميع أهل الكمال والفضل؛ وعندها لا يضيع ولا يُمحى أولئك الذين لا يعدّون ولا يحصون من أهل الكمال والفضل، بفضل معرفة وجود الباقي السرمدي وبقائه، فيورث بقاءَ ما لا يعد من الأحبّة -الذين يرتبط بهم بحب وتقدير وإعجاب- ودوامَ كمالهم صاحبَ ذلك الشعور الإيماني ذوقا رفيعا ساميا.

    وكذا رأيتُني قادرا على الإحساس بسعادة غير محدودة، ناشئةٍ من سعادة جميع أحبائي -الذين أضحّي بحياتي وببقائي بكل رضىً وسرور من أجل سعادتهم- وذلك بوساطة الشعور الإيماني والانتساب والارتباط والعلاقة والأخوّة؛

    إذ الصديق الرؤوف يَسعد بسعادة صديقه الحميم ويتلذذ بها. ولهذا فإنه ببقاء الباقي ذي الكمال وبوجوده، ينجو جميعُ ساداتي وجميع أحبابي، وهم الأنبياء عليهم السلام والأولياء والأصفياء وفي مقدمتهم الرسول الأكرم ﷺ وينجو آله وأصحابه الكرام، وينجو جميعُ أحبابي الذين لا يُحصَون، ينجون كلُّهم من الإعدام الأبدي وينالون سعادة سرمدية خالدة، فأحسست بهذا بذلك الشعور الإيماني فانعكس عليَّ شيءٌ من سعاداتهم وتذوقتُها ذوقا خالصا، فغمرتني سعادةٌ عظمى، بسبب تلك العلاقة والأخوة والارتباط والمحبة.

    وكذا غمرَتني سعادة روحية لا منتهى لها بنجاتي من آلام غير محدودة، ناشئة من علاقتي بأبناء جنسي، وشفقتي على أقاربي، فقد أحسستُ بشعور إيماني أن جميع أقاربي نسلا ونسبا ومعنىً والذين أفديهم بحياتي وبقائي -بفخر واعتزاز فطري- لأجل خلاصهم من المهالك والمخاطر، وفي المقدمة آبائي وأمهاتي.. أحسست أنهم ينجون من الفناء والعدم والإعدام الأبدي ومن آلام غير محدودة، وينالون رحمة واسعة مطلقة ببقاء الباقي الحقيقي وبوجوده سبحانه؛ وأن رحمة واسعة مطلقة ترعاهم وتحميهم بدلا من شفقتي الجزئية القاصرة التي لا تأثير لها والتي هي مبعث ألمٍ وغمٍ. فكما تتلذذ الوالدةُ بلذّةِ ولدها وتذوق الراحةَ براحته، تلذذتُ أنا كذلك وسعدتُ بنجاة جميع أولئك الذين أشفقُ عليهم، بانضوائهم تحت حماية تلك الرحمة الواسعة، وبتنعمهم في ظلها، وانشرحتُ فرحا جذلا بهذا الشعور، فشكرت الله من الأعماق.

    وكذا علمتُ بذلك الشعور الإيماني نجاة رسائل النور التي هي ثمرةُ حياتي ومبعثُ سعادتي ووظيفة فطرتي، نجاةً من الفناء والضياع والضمور ومن عدم الجدوى والنفع، وعلمتُ بذلك الانتساب الإيماني، بل شعرت ببقاء تلك الرسائل نضِرةً طرية، وأحسست بنمائها معنىً، بل ببقائها ودوامها وإثمارها ثمرات يانعة.

    فحصلتْ لي القناعةُ التامة أن في هذا لذةً معنوية تفوق كثيرا لذةَ بقائي، ولقد أحسست بتلك اللذة إحساسا حقا كاملا،

    لأنني آمنت أنه ببقاء الباقي ذي الكمال وبوجوده لا تُنقَش رسائل النور في ذاكرة الناس وقلوبِهم وحدَها بل تكون أيضا موضع مطالعة لمخلوقات غير محدودين من ذوي الشعور والروحانيين. فضلا عن أنها ترتسم في اللوح المحفوظ وفي الألواح المحفوظة -إن كانت موضعَ رضى الله سبحانه وتعالى- وتتزيّن بثمرات الأجر والثواب، ولاسيما أن وجودَها بآنٍ واحد، وحظوتَها بنظر رباني من حيث انتسابها إلى القرآن الكريم ونيلَها بالقبول النبوي والرضى الإلهي -إن شاء الله- أعظمُ وأجلُّ من إعجاب وتقدير أهل الدنيا كلهم لها.. وعلمتُ أن سعادتي هي في خدمة تلك الرسائل للقرآن الكريم.

    وأنني على استعداد كلَّ حين بالتضحية بحياتي وببقائي لإبقاء كلِ رسالة من تلك الرسائل -التي تثبت الحقائق الإيمانية وتدعمها- ولدوامِها ولإفادتها الآخرين ولمقبوليتها عند الله. وعندها فهمتُ -بذلك الانتساب الإيماني- أن تلك الرسائل تنال بالبقاء الإلهي تقديرا وإعجابا يفوقان تقديرَ الناس وإعجابَهم بها بمائة ضعف. لذا قلت بكل ما أملك من قوة: ﴿ حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَك۪يلُ ﴾ .

    وكذا علمت بذلك الشعور الإيماني أن الإيمان ببقاء الباقي ذي الجلال وبوجوده الذي يمنح بقاءً أبديا وحياةً دائمة، وأن ثمرات الإيمان التي هي الأعمال الصالحة ثمراتٌ باقية لهذه الحياة الفانية، ووسائلُ لبقاء دائم. فأقنعتُ نفسي أن أكونَ كالبذرة التي تترك قشرتَها لتتحول إلى شجرة باسقة مثمرة، أي أقنَعتُها أن تترك بقائي الدنيوي الشبيه بالقشرة لتعطي ثمرات باقية. فقلت مع نفسي: ﴿ حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَك۪يلُ ﴾. نعم، حسبنا بقاؤه سبحانه.

    وكذا علمت بعلم اليقين، بذلك الشعور الإيماني والانتساب بالعبودية؛ أن وراء ستار التراب عالماً منوّراً، وأن الطبقة الترابية الثقيلة التي يرزح تحتها الموتى ستُرفع عنهم، وأن النفق الذي يُدخل إليه من باب القبر لا يؤدي إلى ظلمات العدم كذلك. فقلت من الأعماق:

    ﴿ حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَك۪يلُ ﴾

    وكذا أحسستُ إحساسا تاما، وعلمت بحق اليقين، بذلك الشعور الإيماني أنه في الوقت الذي يتوجه عشقُ البقاء الشديد جدا في فطرتي إلى بقاء الباقي ذي الكمال وإلى وجوده من جهتين، إلّا أنه قد ضلَّ عن محبوبه بسببِ ما أسدلَته الأنانيةُ من أستارٍ دونه، فتَشبَّثَ بالمرآة وافتتن بها، فصار حائرا غويا. إذ إنَّ ما يهيمن على ماهيتي من ظلِّ اسم للكمال المطلق، المحبوب لِذاته، والمحبوب فطرةً، والمعبود المعشوق، قد أورث عشقَ البقاء هذا، الذي هو عميق الغَور والراسخُ القوي. وبينما الكمال الذاتي الذي هو وحده كافٍ ووافٍ للعبادة والافتتان، حيث لا يَدفع لمحبّته سببٌ أو غرض ولا يقتضيه شيء دون ذاته، فإنه بإحسانه وإنعامه ثمراتٍ باقية -كالمذكورة آنفا- والتي تستحق كل منها أن يُضحَّى لأجلها بألوف من الحياة الدنيوية وبقائها لا بحياة واحدة وبقاء واحد، فقد أحسست أن ذلك الكمال الذاتي قد رسّخ بإحسانه هذا ذلك العشقَ الفطري وعمّقه أكثر، فلو تيسّر لي لقلت بجميع ذرات وجودي: ﴿ حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَك۪يلُ ﴾ بل قلتُه بتلك النية.

    ولقد أورثني ذلك الشعور الإيماني الذي يتحرى عن بقائه فوجد البقاء الإلهي -كما أشرتُ إلى عدد من ثمراته بالفقرات المبتدئة بـ«كذا.. كذا..»- ومنحنى ذوقا وشوقا مَلَكَا عليّ كياني كله وأخَذَا بمجامع روحي، فقلت بكل ما أملك من قوة، ومن أعماق قلبي ومع نفسي:

    ﴿ حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَك۪يلُ ﴾

    المرتبة النورية الحسبية الثانية

    إنه مع عجزي غير المتناهي الكامن في فطرتي، ومع الشيخوخة المستقرة في كياني، ومع تلك الغربة التي لفّتني، ومع عدم وجود المعين لي، وقد جُردت من كل شيء، هاجمني أربابُ الدنيا بجواسيسهم وبدسائسهم.. في هذا الوقت بالذات خاطبت قلبي قائلا: «إن جيوشا كثيفة عارمة تهاجم شخصا واحدا ضعيفا مريضا مكبَّلَ اليدين.. أَوَ ليس له -أي لي- من نقطة استناد؟».

    فراجعتُ آية ﴿ حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَك۪يلُ ﴾

    فأعلَمتْني: أنك تستند بهوية الانتساب الإيماني إلى سلطان عظيم ذي قدرة مطلقة، بحيث يجهِّز بانتظام تام في كل موسمِ ربيع على سطح الأرض جميعَ جيوش النباتات والحيوانات المتشكِّلة من أربعمائة ألف نوع من الأمم والطوائف بالأعتدة والأجهزة اللازمة لها. فيجدِّد ملابس جيشَيه العظيمين وهما الأشجار والطيور ويُلبسهما ملابسَ جديدةً، مبدِّلا أنواطهما وشاراتهما، حتى إنه يبدل لباس الجبل ونقاب الصحراء مثلما يبدل فساتين الدجاج اللطيفةَ وأثواب الطيور الجميلةَ.

    ويوزع جميع أرزاق الجيش الهائل للأحياء -وفي مقدمتها الإنسان- لا بشكل ما اكتشفه الإنسان المعاصر في الآونة الأخيرة من مستخلصات اللحم والسكر وغيرهما، بل بصورة مستخلصاتٍ أكملَ وأفضل بكثير بل تفوقها مائة مرة، فهي مستخلصاتُ جميع أنواع الأطعمة، وهي مستخلصاتٌ رحمانية، تلك التي تسمى البذور والنوى. زد على ذلك فإنه يغلّف أيضا تلك المستخلصات بأغلفة قَدَرية تتناسب مع نضجها وانبساطها ونموها، ويحفظها في عُليبات وصنيديقات صغيرة وصغيرة جدا، وهذه الصنيديقات أيضا تُصنع في معمل «ك.ن» بسرعة متناهية جدا وبسهولة مطلقة للغاية وبوفرة هائلة، حتى إن القرآن الكريم يذكر ذلك بقوله تعالى: ﴿ فَاِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ (البقرة:١١٧).

    وعلى الرغم من أن جميع تلك الخلاصات متشابهة ومتكونة من المواد نفسها وقد لا تفي بحاجة مدينةٍ واحدة، فإن الرزاق الكريم يُنضِج منها في موسم صيف واحد ما يمكن أن يملأ مدن الأرض كافة بأطعمة في غاية اللذة والتنوع.

    فما دمتَ قد ظفرتَ بنقطة استناد مثل هذه بهوية الانتساب الإيماني، يمكنك إذن الاستنادُ والاعتماد على قوة عظيمة وقدرة مطلقة.

    وحقا لقد كنتُ أحسّ بقوة معنوية هائلة كلما كنت أتلقى ذلك الدرس من تلك الآية الكريمة، فكنت أشعر أنني أملك من الاقتدار الإيماني ما يمكّنني من أن أتحدّى بها جميعَ أعدائي في العالم وليس الماثلين أمامي وحدهم، لذا ردَّدتُ ومن أعماق روحي: ﴿ حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَك۪يلُ ﴾.

    وراجعت الآية الكريمة نفسها من حيث فقري واحتياجي غير المتناهيين كي أنال نقطة استمداد لهما. فقالت لي: إنك منتسب إلى مالك كريم بعبوديتك وبمملوكيتك، واسمُك مسجّل في دفتر إعاشة المخلوقات، وإنه يَفرش سُفرة نعمِه في كل ربيع وصيف ويرفعُها بل يبسطها ويطويها أكثر من مائة مرة مزيِّنا إياها بأطعمة متنوعة لذيذة يأتيها من عالَم الغيب ومن العدم ومن حيث لا يحتسب العبدُ ومن تراب جامد حتى كأن سني الزمان وأيامَ كل سنة صحونٌ متعاقبة مترادفة لثمرات إحسانه وأطعمة رحمته ومعرضٌ لمراتب آلاء رزاق رحيم، بمراتب كلية وجزئية. فأنت عبد لمثل هذا الغني المطلق. فإن كان لك شعور وإحساس بهذه العبودية له، فإن فقرَك الأليم يصبح مدار شهية لذيذة.

    وأنا بدوري قد أخذت حظي من هذا المعنى من الآية الكريمة. فقلت مع نفسي: نعم.. نعم، إنه الصدق بعينه. وردّدت متوكلا على الله: ﴿ حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَك۪يلُ ﴾.

    المرتبة النورية الحسبية الثالثة

    حينما اشتد خناقُ الأمراض وألوان الغربة وأنواع الظلم عليّ، وجدت أنَّ علاقاتي تنفصم مع الدنيا، وأن الإيمان يرشدني بأنك مرشّح لدنيا أخرى أبدية، وأنك مؤهّل لمملكة باقية وسعادة دائمة. ففي هذه الأثناء تركتُ كل شيء تقطرُ منه الحسرةُ ويجعلني أتأوّه وأتأفف، وأبدَلتُه بكل ما يبشّر بالخير والفرح ويجعلني في حمدٍ دائم. ولكن أنّى لهذه الغاية أن تتحقق -وهي غايةُ المنى ومبتغى الخيال وهدف الروح ونتيجة الفطرة-إلّا بقدرةٍ غير محدودة للقدير المطلق، يعرف جميعَ حركات مخلوقاته وسكَناتهم قولا وفعلا، بل يعرف جميع أحوالهم وأعمالهم ويسجلها كذلك.. وأنّى لها أن تحصل إلّا بعنايته الفائقة غير المحدودة لهذا الإنسان الصغير الهزيل المتقلب في العجز المطلق، حتى كرّمه واتخذه خليلا مخاطبا، واهبا له المقام السامي بين مخلوقاته.

    نعم، حينما كنت أفكر في هاتين النقطتين، أي في فعالية هذه القدرة غير المحدودة، وفي الأهمية الحقيقية التي أولاها البارئ سبحانه لهذا الإنسان الذي يبدو حقيرا، أردت إيضاحا وانكشافا للإيمان بما يُطمئن القلب،

    فراجعت بدوري تلك الآية الكريمة أيضا، فقالت لي: دقِّق النظر في «نا» التي في «حسبنا»، وانظر مَن هم أولاء ينطقون: «حسبنا» معك، سواء ينطقونها بلسان الحال أو بلسان المقال، أَنصتْ إليهم.

    نعم، هكذا أمرَتني الآية! فنظرت.. فإذا بي أرى طيورا محلِّقة لا تحدّ، وطويرات صغيرة صغيرة جدا كالذباب لا تحصى، وحيوانات وحوينات لا تعد ونباتات لا تنتهي وأشجارا وشجيرات لا آخر لها ولا نهاية.. كلُ ذلك يردد مثلي بلسان الحال معنىَ ﴿ حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَك۪يلُ ﴾ ، بل يُذكّر الآخرين بها. ورأيت أن لهم وكيلا -نِعمَ الوكيل- تَكفّل بجميع شرائط حياتهم، حتى إنه يخلق من البيوض المتشابهة المتركبة من المواد نفسها ومن النطف المتماثلة ومن الحبوب الشبيهة بعضها ببعض، مائةَ ألف طراز من الحيوانات ومائة ألف شكل من الطيور ومائة ألف نوع من النباتات، ومائة ألف صنف من الأشجار... يخلقها بلا خطأ وبلا نقص وبلا التباس، يخلقها مزيّنة جميلة وموزونة منظمة مع تميّز بعضها عن البعض الآخر واختلاف بعضها عن بعض. يخلقها باستمرار ولاسيما أيام كل ربيع أمام أعيننا في منتهى السرعة وفي منتهى السهولة وفي منتهى السعة وفي منتهى الوفرة.. فخلقُ جميع هذه المتشابهات المتوافقات المتداخلات من المخلوقات على النمط نفسه والأشكالِ عينها ضمن عظمة هذه القدرة المطلقة وحشمتها يُظهر لنا بوضوح وحدانيتَه سبحانه وتعالى وأحديته.

    وقد أفهَمتْني الآية أنه لا يمكن المشاركة ولا المداخلة قطعا في فعل هذه الربوبية والخلاقية الذي يبرز هذه المعجزات غـير المحدودة.

    ثم نظرت إلى «أنا» الموجودِ في «نا» حسبنا، أي نظرت إلى نفسي وتأملت فيها ورأيت أن الذي خلق الحيوانات من قطرة ماء خلقني أيضا منها. وبرأني معجزةً من معجزاته، وشق سمعي وبصري ووضع دماغا في رأسي وقلبا في صدري ولسانا في فمي، بحيث خَلَق في ذلك الدماغ والقلب واللسان مئاتٍ من الموازين الدقيقة والمقاييس الرقيقة التي تتمكن من أن تزن وتعرف جميع هدايا الرحمن المدّخرة في خزائن الرحمة الإلهية وعطاياه الكريمة، وأدرج في تلك الأعضاء ألوفا من الآلات التي تتمكن من أن تفتح كنوزَ تجليات الأسماء الإلهية التي لا نهاية لها، وأمدّ تلك الآلات والأجهزة معرِّفات مُعينة مساعدة بعدد الروائح والطعوم والألوان.

    وكذا أدرج سبحانه بكمال الانتظام أحاسيسَ شاعرةً وحواسَّ باطنةً، ولطائف معنوية رقيقة في منتهى النظام والإتقان، فضلا عما خلق بكمال الحكمة في وجودي في غاية الكمال والانتظام أجهزةً متقنة وجوارحَ بديعة وضرورية لحياة الإنسان، ليذيقني جميعَ أنواع نعمِه وعمومَ أشكال آلائه ويحسّسني بها جميعا، ويفهّمني ويعرّفني بتجليات أسمائه الحسنى وبمظاهرها المتنوعة، بتلك المشاعر الدقيقة والحواس اللطيفة، ويدفعني إلى تذوّقها والتلذذ بها.

    وعلاوة على أنه جعل وجودي -هذا الذي يبدو حقيرا فقيرا تافها- كوجود كل مؤمن في أحسن تقويم للكون، ونسخة مصغرة للعالم الأكبر، ومثالا مصغرا لهذه الدنيا، ومعجزة زاهرة لمصنوعاته سبحانه، وشاريا طالبا لكل نوع من أنواع نعمه التي لا تعد ولا تحصى، ومركزا لقوانين ربوبيته، ووسيلة لتنفيذ إجراءاته وأوامره، ونموذجا لحديقة أزاهير عطايا حكمته ورحمته، والمخاطَب المدرك لخطابه السبحاني، فإنه سبحانه وهب لي «الحياة» ليجعل الوجود -وهو النعمة الكبرى- كبيرا وكثيرا في وجودي أنا، إذ يمكن لنعمة وجودي هذا أن ينبسط بالحياة بقدر عالَم الشهادة.

    وكذا منح «الإنسـانية» ففتحتْ نعمةُ الوجود بتلك الإنسانية وبانكشافها طريقَ الاستفادة من تلك الموائد المنصوبة الواسعة في العوالم المادية والمعنوية بمشاعر خاصة بالإنسان.

    وكذا أنعم عليّ بـ«الإسلام» فتوسعتْ نعمةُ الوجود -بذلك الإسلام- سعةَ عالم الغيب والشهادة.

    وكذا أنعم عليّ بـ«الإيمان التحقيقي»، فغدتْ نعمةُ الوجود بذلك الإيمان منطوية على نعم الدنيا والآخرة وقادرةً على استيعابها.

    وكذا أعطى «معرفتَه» و«محبته» ضمن ذلك الإيمان التحقيقي، فأحسن إليّ مرتبةً تمكّن نعمةَ الوجود تلك من أن تمدّ أيديها بالحمد والثناء إلى دوائر كثيرة جدا ابتداءً من دائرة الممكنات إلى عالم الوجوب ودائرة الأسماء الحسنى، لتستفيد منها.

    وكذا تَفضّل عليّ -بصفة خاصة- بعلم قرآنيّ وحكمةٍ إيمانية؛ فأولاني بإحسانه هذا تفوقا على كثير من مخلوقاته.

    وهكذا فقد منح -سبحانه- الإنسانَ جامعيةً من جهات كثيرة جدا، كالمذكورة سابقا، ووهب له من الاستعداد ما يجعله مرآةً كاملة لأحديته وصمدانيته، ويمكّنه من أن يلبي بعبوديةٍ كليةٍ واسعةٍ ربوبيةً كلية مقدسة.

    ولقد علمت علما يقينا وآمنت إيمانا كاملا أنه سبحانه يشتري مني أمانتَه المودعة فيّ وهديتَه المهداة إليّ وعطيّـته الكريمة لي، تلك هي وجودي وحياتي ونفسي، يشتريها، كما نص عليه القرآن الكريم وأجمع عليه ما أنزله من الكتب والصحف المقدسة على الأنبياء، واتفق عليه جميعُ الأنبياء والأولياء والأصفياء، يشتريها مني -لئلا تضيعَ عندي ولأجل الحفاظ عليها وإعادتها إليّ- مقابلَ سعادةٍ أبدية وجنة خالدة قد وَعد بها وعدا قاطعا وتَعهَّد لها عهدا صادقا.

    ولقد استلهمتُ من هذه الآية الكريمة: ﴿ حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَك۪يلُ ﴾ أن لي ربًّا عظيما ذا الجلال والإكرام يفتح صور مئات الألوف من أنواع الحيوانات وأصناف النباتات باسمه «الفتّاح»؛ يفتحها من قطرات متشابهة محددة، ومن نوى متماثلة محدودة العدد، يفتحها في منتهى السهولة واليسر وفي غاية السرعة والإتقان، وقد أَولى سبحانه وتعالى هذا الإنسانَ أهميةً عظيمة تُحيِّر العقولَ -كما ذكرناه آنفا- حتى جعله مَدارا لشؤون ربوبيته الجليلة، وأنه سيوجد الحشر كإيجادِه للربيع المقبل في سهولة ويسر وبقطعية مجيئه وتحققه، وسينعم علينا بالجنة والسعادة الأبدية.

    نعم، هذا ما تعلمتُه من هذه الآية الكريمة: ﴿ حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَك۪يلُ ﴾، فلو كنت أستطيع لتلوتُها -فعلا- بألسنة جميع المخلوقات، ولكن تلوتُها بالنية وبالتصور وبالخيال حيث لا أستطيع ذلك فعلا، بل أرغب في أن أكررها دوما إلى أبد الآبدين.

    المرتبة النورية الحسبية الرابعة

    حينما وافَقَت العوارضُ المزلزِلة لكياني -أمثالُ الشيب والغربة والمرض وكوني مغلوبا على أمري- فترةَ غفلتي، وكأن وجودي الذي أتعلق به بشدة يذهب إلى العدم، بل وجود المخلوقات كلها يفنى وينتهي إلى الزوال.. ولّد عندي ذهابُ الجميع إلى العدم قلقا شديدا واضطرابا أليما فراجعتُ الآية الكريمة أيضا ﴿ حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَك۪يلُ ﴾، فقالت لي: «تدبَّرْ في معانيّ، وانظر إليها بمنظار الإيمان».

    وأنا بدوري نظرت إلى معانيها بعين الإيمان، فرأيت: أن وجودي الذي هو ذرة صغيرة جدا، مرآة لوجود غير محدود، ووسيلة للظفر بأنواعٍ مِن وجودٍ غير محدود بانبساط غير متناهٍ.. وهو بمثابة كلمة حكيمة تثمر من أنواع الوجود الكثيرة الباقية ما هو أكثر قيمةً من وجودي وأعلى منه نفاسةً حتى إن لحظةَ عيشٍ له من حيث انتسابه الإيماني ثمينٌ جدا، وله قيمة عالية كقيمة وجودٍ أبدي دائم. فعلمتُ كل ذلك بعلم اليقين؛

    لأني أدركت بالشعور الإيماني أن وجودي هذا أثرٌ من آثار واجب الوجود وصنعةٌ من صنعته وجلوة من جلواته. فنجوت من ظلماتٍ لا حدّ لها تُورِثها أوهامٌ موحشة، وتخلّصت من آلام لا حدّ لها نابعةٍ من افتراقات وفراقات غير متناهية، ودفعتني لأَمُدّ روابطَ أخوةٍ وثيقة إلى جميع الموجودات ولاسيما إلى ذوي الحياة، روابطَ بعدد الأفعال والأسماء الإلهية المتعلقة بالموجودات. وعلمت أن هناك وصالا دائما مع جميع ما أُحبّه من الموجودات من خلال فراق مؤقت.

    ومن المعلوم أن الذين تربطهم رابطةُ القرية الواحدة أو المدينة الواحدة أو البلد الواحد أو الفرقة العسكرية الواحدة أو القائد الواحد أو الأستاذ المرشد الواحد وأمثالها من الروابط الواحدة.. يشعرون بأخوّة لطيفة وصداقة قوية تربط فيما بينهم، بينما المحرومون من مثل هذه الروابط الواحدة يقاسون دائما عذابا مريرا من ظلمات أليمة.

    وكذا لو كانت لثمراتِ شجرة شعورٌ لشعرتْ كلٌّ منها أنها أخت الأخرى وبديلتُها وصاحبتُها وناظرتها. ولكن لو لم تكن شجرة، أو اقتطفت تلك الثمرات منها لشعرت كل ثمرة بآلامِ فراقٍ بعدد الثمرات.

    وهكذا ظفر وجودي أيضا -كأي مؤمن آخر- بالإيمان وبالانتساب الذي فيه، بأنوار لا فراق فيها تشع من أنواع من وجود غير متناه، فلو رحل وجودي فإن بقاء تلك الأنواع من الوجود عقِبه يجعل وجودي راضيا مطمئنا كأنه قد بقي بنفسه كاملا.

    زد على ذلك أن وجودَ كل ذي حياة ولاسيما من ذوي الأرواح، هو بمثابة كلمة تُقال وتُكتب ثم تغيب، بعد أن تترك بدلَها أنواعا من وجودٍ -تعدّ تالية لوجودها- هي معناها وهويتُها المثالية وصورتُها ونتائجها وثوابها -إن كانت كلمة طيبة- وحقيقتُها.. وأمثالُها من أنواع الوجود الكثيرة التي تتركها ثم تغيب وتختفي، وقد أثبتنا ذلك تفصيلا في «المكتوب الرابع والعشرين».

    فوجودي أيضا مثل تلك الكلمة تماما، وكذا وجودُ كل ذي حياة. إذا ما رحل عن الوجود الظاهري، فإنه يترك روحَه -إن كان من ذوي الأرواح- ويترك معناه وحقيقتَه ومثاله ونتائجه الدنيوية لماهيته الشخصية وثمراتها الأخروية وهويته وصورته، يترك كلَّ ذلك في القوى الحافظة لذاكرة الناس وفي الألواح المحفوظة وفي شرائط أفلام المناظر السرمدية وفي مشاهد العلم الأزلي، مُودِعا في دفتر أعماله تسبيحاتِه الفطريةَ التي تمثّله وتمنحُه البقاءَ، وتلبيتَه الفطرية لتجليات الأسماء الإلهية ومقتضياتها، وقيامَه بوظيفة المرآة الظاهرة. فعلمت علم اليقين أن الموجود يَترك بدلا من وجوده الظاهري أنواعا كثيرة من وجود معنوي -أمثال ما ذكر- هي أسمى وأرقى منه ثم يرحل.

    وهكذا يمكن أن يكون الإنسان مالكا لهذه الأنواع المذكورة -من وجود معنوي باقٍ خالد- بالإيمان وبما فيه من شعور وانتساب. وأنه لولا الإيمان لضاع في العبث وذهب إلى العدم، فضلا عن حرمانه من تلك الأنواع من الوجود.

    كنت أتأسف كثيرا -في وقت ما- على زوال أزاهير الربيع وفنائها بسرعة، حتى كنت أتألم لحال تلك اللطيفات، ولكن الحقيقة الإيمانية التي وَضحت هنا قد بيّنتْ أن تلك الأزاهير -كما ذكر- هي بذور ونوى في عالم المعنى تثمر كالشجرة والسنبل جميعَ أنواع ذلك الوجود -عدا الروح- كما ذكر؛ فما تغنمه إذن تلك الأزاهيرُ من حيث نور الوجود هي مائة ضعف وضعف لما تفقده من وجود، إذ وجودُها الظاهري لا يُمحى بل يختفي.. فضلا عن أن تلك الأزاهير هي صورٌ متجددة لحقيقتها النوعية الباقية؛ إذ موجودات الربيع الماضي من أوراقٍ وأزاهيرَ وثمراتٍ وأمثالِها هي أمثالُ ما في هذا الربيع. والفرق هو اعتباريّ فحسب، ففهمت أن هذا الفرق الاعتباري أيضا إنما هو لإضفاء معانيَ متعددة ومختلفة على كلمات الحكمة هذه، وعباراتِ الرحمة وحروفِ القدرة الإلهية هذه. وهذا الفهم دفعني إلى أن أردد: «ما شاء الله، بارك الله»، بدلا من أن تذهب نفسي حسراتٍ على زوال تلك الأزاهير.

    ولقد شعرت من بعيد -بشعور الإيمان ببديع السماوات والأرض وبرابطة الانتساب إليه- كم يكون الإنسان -لو كان ذا شعور- فَخورا ومكرّما، بأنه أثر من آثار ذلك الخالق القدير وأنه مصنوعُ مَن زيّن السماواتِ بمصابيحِ النجوم، وجمّل الأرض بالأزاهير وببدائع المخلوقات، وأظهرَ مئاتِ المعجزات في كل ما أبدعتْه قدرتُه. وكم يكون الإنسان مناطَ قيمة عظيمة وكرامة فائقة بالإيمان به والانتساب إليه والشعور به لاسيما إذا ما كَتب -ذلك الصانعُ المعجز المطلق- كتابَ السماوات والأرض، ذلك الكتابَ الضخم في نسخة مصغرة وهي الإنسان، وإذا ما جَعل هذا الإنسانَ منتخَبا وخلاصةً كاملة لذلك الكتاب، فإنه سيملك ذلك الشرف والكمال والقيمة العالية بالإيمان وبالشعور والانتساب.

    ولما كنت قد تعلمت هذا الدرس من الآية الكريمة: ﴿ حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَك۪يلُ ﴾، فقد تلوتها وأنا أحمل نية وتصورا، وإنني أتلوها بلسان الموجودات كلها.

    المرتبة النورية الحسبية الخامسة

    لقد تصدّعتْ حياتي حينا تحت أعباء ثقيلة جدا، حتى لفتت نظري إلى العمر، وإلى الحياة فرأيت أن عمري يجري حثيثا إلى الآخرة.. وأن حياتي التي قربت إلى الانتهاء قد توجهت نحو الانطفاء تحت المضايقات العديدة. ولكن الوظائف المهمة للحياة ومزاياها الراقية وفوائدها الثمينة المذكورة في الرسالة التي تبحث عن اسم «الحي» لا تليق بهذا الانطفاء السريع، بل تليق بحياة طويلة، مديدة. ففكرت في هذا بكل ألم وأسى، وراجعت أستاذي الآيةَ الكريمة: ﴿ حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَك۪يلُ ﴾ فقالت لي: «انظر إلى الحياة كما يريدها «الحيُّ القيوم» الذي وهب لك الحياة».

    فنظرت إليها بهذا المنظار، وشاهدت أنه إن كان للحياة وجهٌ واحد متوجّه إليّ أنا فإن لها مائة وجه متوجه إلى «الحي المحيي»، وإن كانت لها نتيجة واحدة تعود إليّ أنا، فإن لها ألفا من النتائج تعود إلى خالقي؛ لذا فإن لحظةً واحدة من الحياة، أو آنا من الوقت ضمن هذه الجهة كافٍ جدا، فلا حاجة إلى زمان طويل.

    ولما كانت هذه الحقيقةُ قد وضحت بالبراهين في أجزاء رسائل النور، نبيّن خلاصة مختصرة لها في أربع مسائل:

    المسألة الأولى

    نظرت إلى الحياة من حيث توجُّه ماهيتها وحقيقتها إلى «الحي القيوم» فرأيت وعلمت: أنَّ ماهية حياتي هي مخزنُ مفاتيحِ كنوز الأسماء الإلهية، وخريطةٌ مصغرة لنقوشها البديعة، وفهرس تجلياتها، ومقياس دقيق وميزان حساس لوزن حقائق الكون الكبرى، وكلمةٌ حكيمة مكتوبة تَعرف وتُعرّف الأسماء الجليلة القيمة للحي القيوم وتَفهمها وتُفهّمها. فحقيقة الحياة بهذا النمط تَكسب أُلوفا من مراتب القيمة والمكانة، بل يجد دوامُها ساعةً من الزمان أهميةَ عمر مديد. لذا لا يُنظر إلى طولها وقصرها من حيث علاقتها بالذات الجليلة المنـزّهة عن الزمان.

    المسألة الثانية

    نظرت إلى حقوق الحياة الحقيقية فرأيت: أنَّ حياتي رسالة ربانية تستقرئ نفسَها لأخوتي المخلوقات من ذوات الشعور، وهي موضعُ مطالعةٍ يعرّف الخالق الكريم،

    وهي لوحة إعلان تعلن كمالات خالقي.

    وفهمت أن من حقوقها التزيّنَ بشعور تام بما أنعم عليها خالق الحياة -بالحياة- من هدايا قيّمة وخِلعٍ نفيسة لعرضها أمام نظر السلطان الجليل في العرض اليومي المكرر عرضا مكللا بالإيمان والشعور والشكر والامتنان.

    وكذا من حقوقها إدراك تحيات ذوي الحياة غير المحدودين الذين يصفون بها خالقهم، وفهمُ هدايا تسبيحاتهم التي يقدّمونها شكرا وحمدا لله، ومشاهدتُها والإعلان عنها بالشهادة عليها.

    وكذا من حقوقها إظهار محاسن ربوبية «الحي القيوم» بلسان الحال والمقال والعبودية له..

    وهكذا فلا تتطلب أمثالُ هذه الحقوق الرفيعة للحياة مدةً مديدة، فضلا عن أنها تَرفع من قيمة الحياة ودرجتِها ألف مرة، وهي أعلى وأسمى وأفضل بمائة مرة من حقوق دنيوية للحياة.

    وإذ علمتُ هذا علم اليقين قلت: سبحان الله، ما أعظمَ الإيمان! وما أكثرَه حيويةً، ما دخل في شيء إلّا نفخ فيه الحياة، بل إن شعلةً منه تُحوِّل مثل هذه الحياة الفانية إلى حياة باقية دائمة وتزيل ختمَ الفناء المضروب عليها.

    المسألة الثالثة

    نظرت إلى الفوائد المعنوية والوظائف الفطرية لحياتي المتوجهة إلى خالقي الكريم، فرأيت أن حياتي تؤدي وظيفةَ المرآة لخالق الحياة بثلاثة وجوه:

    الوجه الأول: أن حياتي بضعفها وعجزها وفقرها واحتياجها، تؤدي مهمةَ مرآةٍ عاكسة لقدرةِ خالق الحياة وقوته وغناه ورحمته.

    إذ كما تُعلَم درجاتُ لذة الطعام بمقدار الجوع، وتُعلَم مراتبُ الضوء بمراتب الظلام، وتُعلَم درجاتُ الحرارة بمقياس البرودة. كذلك عرفتُ بالعجز والفقر غيرِ المحدودَين الكامنين في حياتي القدرةَ المطلقة لخالقي ورحمتَه الواسعة من حيث إزالة حاجاتي التي لا تنتهي ودفْع أعدائي الذين لا يعدون، فعلمت وظيفة العبودية وتزودت بالسؤال والدعاء والالتجاء والتذلل.

    الوجه الثاني: هو قيام معاني العلم والإرادة والسمع والبصر وأمثالها من الأوصاف الجزئية في حياتي، قيامُها بوظيفةِ مرآةٍ عاكسة لصفاتٍ كلية محيطة وشؤون جليلة لخالقي الكريم.

    نعم، لقد علمت بجزئيات صفاتٍ كالعلم والسمع والبصر والكلام والإرادة التي تتصف بها حياتي الخاصة وأفعالي التي أؤديها بشعور، علمت بها -بنسبة صغري إلى عِظَم الكون- الصفاتِ الكلية المحيطة لخالقي مِن علم وإرادة وسمع وبصر وحياة وقدرة وفهمت بها كذلك شؤونَه الجليلة أمثالَ المحبة والغضب والرأفة والشفقة. فآمنت بتلك الصفات والشؤون الجليلة وصدّقتُ بها وشهدت عليها ووجدت منها طريقا آخر إلى معرفة الله.

    الوجه الثالث: هو قيام حياتي بوظيفة المرآة للأسماء الإلهية التي تتجلى عليها نقوشُها.

    نعم، كلما نظرت إلى حياتي وإلى جسمي لمستُ مئاتِ الأنماط من آثار المعجزات والنقوش والإبداع، فضلا عن مشاهدتي بأني أُربَّى تربيةً في منتهى الشفقة والرحمة، فعرفت بنور الإيمان أن الذي خلقني ويديم حياتي هو في منتهى السخاء والرحمة واللطف وفي غاية القدرة والإبداع، وعرفت ماذا يعني التسبيحُ والتقديس والحمد والشكر والتكبير والتعظيم والتوحيد والتهليل وأمثالُها من وظائف الفطرة وغايةِ الخلقة ونتائج الحياة.

    فعلمت بعلم اليقين سببَ كون الحياة أرقى مخلوق في الكون، وسرَّ كون كل شيء مسخرا للحياة، وحكمةَ وجود شوقٍ فطري لدى الجميع نحو الحياة، وأن روح الحياة إنما هو الإيمان.

    المسألة الرابعة

    تُرى ما اللذة الحقيقية لحياتي الدنيوية هذه، وما سعادتها؟

    راجعتُ الآية الكريمة أيضا:

    ﴿ حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَك۪يلُ ﴾ لأجد الجواب؛ فرأيت وفهمت منها أن أصفى لذة لحياتي هذه وأنقى سعادتها إنما هو في الإيمان، أي الإيمانِ الجازم بأني مخلوقُ مَن خلقني وربّاني؛ فأنا مصنوعُه وعبده وتحت رعايته وعنايته ومحتاج إليه كلَ حين، وهو ربي وإلهي وهو الرحيم والرؤوف بي.

    فإيماني هذا لذةٌ ما بعدها لذة، لذةٌ كافية وافية دائمة، وسعادةٌ خالصة نقية لا يعكرها ألمٌ. ففهمت من تلك الآية الكريمة كم يكون إذن عبارةُ «الحمد لله على نعمة الإيمان» عبارةً جديرة ولائقة.

    وهكذا وضّحتْ هذه المسائلُ الأربع التي تخص حقيقةَ الحياة وحقوقَها ووظائفَها ولذتَها المعنوية

    أنَّ الحياة كلما توجهتْ إلى «الحي القيوم الباقي» وكان الإيمانُ حياةً وروحا ممّدا لها، اكتسبت البقاءَ، بل أعطت ثمارا باقية، بل رقت وعلت إلى درجة الحظوة بتجلي السرمدية. وعندها لا يُنظَر إلى قِصَر العمر وطوله.

    نعم، هكذا فهمتُ من الآية الكريمة، وتلقيت درسي منها وتلوت: ﴿ حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَك۪يلُ ﴾ نيّةً وتصورا وخيالا باسم جميع أنواع الحياة وذوي الحياة.

    المرتبة النورية الحسبية السادسة

    من خلال الشيب الذي يذكّر بفراقي الخاص، ومن خلال تلك الفراقات العامة الشاملة التي تنبئ عن حوادثِ قيام الساعة ودمار الدنيا، ومن خلال الانكشاف الواسع فوق العادة في أواخر عمري لأحاسيس الجمال والعشق له والافتتان بالكمالات المغروزة في فطرتي.. من خلال كل هذا رأيت أن الزوال والفناء اللذين يدمِّران دائما، وأن الموت والعدم اللذين يفرّقان باستمرار، رأيتهما يفسدان -بشكل مُرعب ومخيف- جمالَ هذه الدنيا الرائعةِ الجمالِ ويشوهانه بتحطيمهما لها، ويُتلفان لطافة هذه المخلوقات.. فتألّمت من أعماقي بالغَ التألم لِما رأيت.

    ففار ما في فطرتي من عشق مجازيّ فورانا شديدا وبدأ يتأجج بالرفض والعصيان أمام هذه الحالة المفجعة، فلم يك لي منها بدّ إلّا مراجعة الآية الكريمة أيضا لأجد المتنفَّس والسلوان، فقالت: «اقرأني جيدا، أَنعِم النظر في معانيَّ». وأنا بدوري دخلت إلى مركز الإرصاد لسورة النور لآيةِ ﴿ اَللّٰهُ نُورُ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ ﴾.. (النور:٣٥)،

    فنظرت من هناك بـ«منظار» الإيمان إلى أبعد طبقات الآية الحسبية، وفي الوقت نفسه نظرت بـ«مجهر» الشعور الإيماني إلى أدق أسرارها، فرأيت أنه مثلما تُظهر المرايا والزجاجُ والمواد الشفافة وحتى زَبدُ البحر وحبابُه الجمالَ المخفيَّ المتنوع لضوء الشمس، ومختلفِ جمال الألوان السبعة لضوئها. وبتجددها وبتحركها وقابليتها المختلفة وانكساراتها المتنوعةِ تجدد الجمالَ المتستر للشمس ولضوئها ولألوانها السبعة.

    فكذلك الأمر في هذه المصنوعات الجميلة وهذه المخلوقات اللطيفة والموجودات الجميلة لا تلبث أن تذهب دون توقف لتقوم مقام مرايا عاكسة للجميل ذي الجلال الذي هو «نور الأزل والأبد» مجدِّدة بذلك تجلياتِ جماله المقدس وتجليات الجمال السرمدي لأسمائه الحسنى جل وعلا. فالجمالُ الظاهر في هذه المخلوقات والحسنُ البارز فيها إذن ليس هو ملكَ ذاتها، وإنما هو إشاراتٌ إلى ذلك الجمال المقدس السرمدي الذي يريد الظهور، وعلاماتٌ ولمعات لذلك الحسن المجرد الدائمِ التجلي والجمال المنـزه الذي يريد المشاهدة والإشهاد. وقد وضّحت هذا مفصلا في رسائل النور بدلائله القاطعة وببراهينه الدامغة لذا سنشير هنا إلى ثلاثة براهين منها فقط إشارة قصيرة.

    البرهان الأول

    إن جمال أثرٍ مصنوع يدل دلالةً قاطعة على جمال صُنعِه، وإن جمال الصنع وإتقانَه هذا يدل على جمال عنوان صانعه الناشئ من تلك الصنعة، وإن جمال عنوان الصانع المتقِن يدل على جمال صفةِ ذلك الصانع التي تعود إلى تلك الصنعة، وإن جمال صفته هذه يدل على جمال قابليته واستعداده، وإن جمال قابليته يدل على جمال ذاته وجمال حقيقته.

    فكما أن هذه الدلالاتِ قاطعةٌ وبدهية، كذلك الحسنُ والجمال الظاهر في المخلوقات الجميلة في هذا العالَم كله، والصنعُ البديع المشاهَد في المصنوعات الجميلة كلها، يشهد شهادة قاطعة على حسن أفعال الصانع الجليل وجمالها. وإنَّ الحسنَ في أفعاله تعالى وجمالَها يدل بلا ريب على حسن العناوين المشرّفة على تلك الأفعال وجمالِها، أي على حسنِ الأسماء وجمالها. وإن حسنَ الأسماء وجمالها يشهد شهادة قاطعة على حسن الصفات المقدسة وجمالها، التي هي منشأ تلك الأسماء. وإن حسن الصفات وجمالها يشهد شهادة قاطعة على حسن الشؤون الذاتية وجمالها، التي هي مبدأ تلك الصفات. وإن حسن الشؤون الذاتية وجمالها يدل بالبداهة ويشهد شهادة قاطعة على حسن «الذات» وجماله، الذي هو الفاعلُ والمسمّى والموصوف، ويدل على الكمال المقدس لماهيته والجمال المنـزّه لحقيقته.

    بمعنى أن للصانع الجميل جمالا وحُسنا لا حدّ له يليق بذاته المقدسة، بحيث إن ظلا من ظلاله قد جمّل هذه الموجودات كلها، وأن له سبحانه جمالا منـزّها مقدسا بحيث إن جلوةً من جلواته قد أضفت الجمال على الكون كله، ونوّرت دائرة الممكنات كلها بلمعاتِ حسن وجمال وزيّنتها بأبهى زينة.

    نعم، إن الأثر المصنوع كما لا يمكن أن يكون بلا فعل، فالفعلُ كذلك لا يمكن أن يكون بلا فاعل، وكما أنه محال أن تكون أسماءٌ بلا مسميات كذلك محال أن تكون الصفات بلا موصوف.

    فما دام وجودُ مصنوعٍ وأثرٍ يدل بالبداهة على فعلِ فاعلِ ذلك الأثر، وأن وجود ذلك الفعل يدل على وجود فاعله وعلى عنوانه وعلى صفاته التي أنتجت ذلك الأثر وعلى اسمه، فلا شك أن كمال أثرٍ ما وجمالَه أيضا يدل على كمال الفعل وجماله الخاصَّين به، وهذا يدل على جمال الاسم الذي يليق به، وهذا يدل على كمال الذات والحقيقة وجمالِها بما يليق ويوافق الذات والحقيقة دلالة قاطعة بعلم اليقين وبالبداهة.

    وكذلك الأمر في الفعالية الدائمة التي تُستشف من خلال حُجب هذه الآثار البديعة؛ فكما أنها محال أن تكون بلا فاعل، كذلك جلوات الأسماء التي تشاهَد نقوشُها على هذه المصنوعات محال أن تكون بلا مسمّى، وكذا القدرةُ والإرادة وأمثالها من الصفات الجليلة -التي تُحسّ إحساسا قاطعا كأنك تراها- محال أن تكون بلا موصوف.

    لذا فإن جميع الآثار والمخلوقات والمصنوعات في هذا الكون كله تدل بوجودها غير المحدود دلالةً قاطعة على وجود أفعالِ خالقها وصانعها وفاعلها وعلى وجود أسمائه وعلى وجود أوصافه وعلى وجود شؤونه الذاتية وعلى وجوب وجود ذاته المقدسة جل جلاله.

    كذلك فإن ما يشاهَد على جميع المصنوعات من أنواع الكمال المتنوعة وأضراب الجمال المختلفة وألوان الحسن المتغايرة يدل دلالة في غاية القطعية ويشهد شهادة في منتهى الصراحة على كمالاتٍ لا حد لها ومحاسنَ لا نهاية لها في أفعال الصانع الجليل وفي أسمائه وفي صفاته وفي شؤونه وفي ذاته المقدسة، بما يلائم ويوافق قدسيتَه ووجوبَه وتعاليه ويدل كذلك على جمالٍ متنوع عالٍ سامٍ هو أرفع من الكون طرا.

    البرهان الثاني: فيه خمس نقاط:

    النقطة الأولى: أن أئمة أهل الحقيقة كلهم -مع الاختلاف في مشاربهم والبُعد في مسالكهم- يعتقدون مستندين إلى الذوق والكشف ويقررون بالإجماع والاتفاق: أن الحسن والجمال الموجود في الموجودات كلها إنما هو ظلُّ جمالٍ مقدس لواجب الوجود وحسنه المنـزَّه، وإنما هو لمعاتُه وجلواته من وراء حجب وأستار.

    النقطة الثانية: أن جميع المخلوقات الجميلة تأتي إلى هذا العالم قافلةً إثر أخرى ثم تغادره وتغيب في أفق الفناء، ولكن الجمال السامي المنـزَّه عن التبدل -والذي يُظهر نفسه بتجليه على تلك المرايا- يبقى ويدوم، مما يدل دلالة قاطعة على أن ذلك الجمال ليس ملك تلك الجميلات ولا جمالَ تلك المرايا، بل هو أشعةُ جمال سرمدي، كما يدل دوامُ جمال أشعة الشمس على حَباب الماء الجاري على جمالها الدائم.

    النقطة الثالثة: أن مجيء النورِ من النوراني، والوجودِ من الموجود، والإحسانِ من الغنى، والسخاءِ من الثروة، والتعليمِ من العلم أمور بدهية، كذلك من البدهي أن مَنْح الحُسن أيضا هو من الحَسن وإضفاءَ الجمالِ لا يكون إلّا من الجميل.

    فبناء على هذه الحقيقة نعتقد ونقول:

    إن جميع أنواع الجمال المشاهَدة على الكائنات كلها، تأتي من جميل لا منتهى لجماله بحيث إن هذه الكائنات المتبدلة دوما والمتجددةَ باستمرار تصف جمال ذلك الجميل وتعرّفه، بجميع موجوداتها وبألسنة أدائها لوظيفةِ مرآةٍ عاكسة لذلك الجمال.

    النقطة الرابعة: كما أن الجسد يستند إلى الروح ويقوم بها وتُبعَث فيه الحياة بها، واللفظَ يتنور على وفق المعنى، والصورةَ تستند إلى حقيقة وتتزود منها قيمتها؛

    كذلك هذا العالمُ، عالَم الشهادة المادي الجسماني إنما هو جسدٌ ولفظ وصورة، يستند إلى الأسماء الإلهية المحتجبة وراء ستار عالم الغيب، فهو يحيا بتلك الأسماء التي تبعث فيه الحيوية، ويتوجه إليها، فيزداد جمالا وبهاءً.

    فجميعُ أنواع الجمال المادي نابعة من جمال معنوي لمعانيها، ومن حُسن معنوي لحقائقها. أما حقائقُها فتستفيض من الأسماء الإلهية، وهي نوع من ظلال تلك الأسماء.

    هذه الحقيقة أُثبتت في رسائل النور إثباتا قاطعا.

    بمعنى أن جميعَ أنواع الجمال الموجود في هذا الكون وجميعَ أنماطه وألوانه، إنما هو تجلياتُ وإشاراتُ وأماراتُ جمال مقدس عن القصور ومجرّدٍ عن المادة تتجلى من وراء عالم الغيب بوساطة أسماء. ولكن كما أن الذات الإلهية المقدسة لا تشبه أبدا أية ذات أخرى، وأن صفاته تعالى جليلة منـزَّهة كليا عن صفات الممكنات. كذلك جمالُه المقدس أيضا لا يشبه جمالَ الممكنات وليس كحسن المخلوقات قطعا. بل هو جمالٌ سامٍ عالٍ رفيعٌ منـزَّه مقدس مطلق.

    نعم، إنْ كانت الجنة الباهرة، الرائعة مع جميع مظاهر حسنها وروعتها هي تجلٍ من تجليات جماله سبحانه وأن رؤية أهل الجنة جمالَه تعالى لساعة من زمان يُنسيهم حتى تلك الجنةَ الجميلة، ([2]) فلا شك أن هذا الجمال السرمدي لا نهاية له، ولا شبيه له، ولا نظير له، ولا مثيل له قطعا.

    ومن المعلوم أن حُسن كل شيء يلائمه ويكون على وفقه، وأنه يوجد بألوف الأنماط من الجمال والألوان فيختلف بعضها عن بعض، كاختلاف الأنواع في المخلوقات.

    فمثلا: الجمالُ الذي يُحَسّ بالعين لا يشبه حتما حُسنا تحس به الأذن، وإن حُسنا عقليا يُدرَك بالعقل لا يشبه حُسن الطعام الذي يُحس بالفم ويتذوقه، كذلك الجمال الذي يستحسنه ويشعر به القلب والروح وسائر الحواس الظاهرة والباطنة، هذا الجمال مختلف كذلك كاختلاف تلك اللطائف والحواس.

    ومثلا: جمالُ الإيمان وجمال الحقيقة وحُسن النور وحسن الزهرة، وجمال الروح وجمال الصورة وجمال الشفقة وجمال العدالة وحُسن الرحمة وحسن الحكمة.. كل نوع من أنواع هذا الجمال مختلف عن الآخر. كذلك جمال الأسماء الحسنى لجميلٍ ذي جلال، هذا الجمال الذي هو جمال مطلق يختلف بعضه عن بعض، لذلك اختلفت أنواع الحُسن والجمال في الموجودات لأجله.

    فإن شئت أن تشاهد جلوة من أنواع حسن أسماء الجميل ذي الجلال المتجلية على مرايا الموجودات، فانظر بعينٍ خيالية واسعة إلى سطح الأرض لتراه كحديقة صغيرة أمامك واعلم أن الرحمانية والرحيمية والحكيمية والعادلية وأمثالَها من التعابير إنما هي إشارات إلى أسماء الله تعالى وإلى أفعاله وإلى صفاته وإلى شؤونه الجليلة.

    فانظر إلى أرزاق الأحياء -وفي مقدمتها الإنسان- إنها ترسَل بانتظام بديع من وراء ستار الغيب.. فشاهدْ جمالَ الرحمانية الإلهية.

    وانظر إلى إعاشة الصغار جميعها إعاشةً خارقة، يسيل لها كالسلسبيل الطاهر ألذُّ غذاءٍ وأصفاه من أثداء أمهاتها المتدلية فوق رؤوسها.. فشاهدْ الجمالَ الجاذب، جمالَ الرحيمية الربانية.

    وانظر إلى الكائنات كلها بأنواعها جميعها كيف جعلتْها الحكمةُ الإلهية ككتاب كبير، كتاب حكمة بليغة بحيث إن في كل حرف منه مائةَ كلمة، وفي كل كلمة مئات الأسطر وفي كل سطر ألف باب وباب وفي كل باب ألوف الكتب الصغيرة.. فشاهد الجمالَ بلا نظير، جمالَ الحكيمية الإلهية.

    وانظر إلى الكون أجمع؛ لقد ضم العدل الإلهي جميع موجوداته تحت جناح ميزانه ويديم موازنة الأجرام العلوية والسفلية، ويعطيها التناسب والتلاؤم الذي هو أهم أساس للجمال، ويجعل كل شيء في أفضل وضع وأجمله، ويعطي كل ذي حياة حق الحياة، فيُحق الحق ويحُدّ من تجاوز المعتدين ويعاقبهم.. فشاهد الجمال الباهر جمال هذه العادلية الإلهية.

    وانظر إلى الإنسان؛ لقد كَتب الحفيظ تاريخَ حياته السابقة في قوة حافظته وذاكرته التي لا تتجاوز حبة حنطة، وأَدرَجَ تاريخَ الحياة التالية لكل نبات وشجر في بُذَيراته ونويّاته وأعطَى كل ذي حياة ما يعينه على حفظ حياته من آلات وأجهزة. فانظر مثلا: إلى جناح النحل وإبرة لسعها، وإلى رماح الأزهار المشوكة الدقيقة، وإلى القشور الصلبة للبذور. فشاهد الجمال اللطيف، جمالَ الحافظية في جمال الحفيظية الربانية.

    وانظر إلى مضايف الرحمن الرحيم الكريم المنصوبة على سُفرة الأرض كلها.

    وانظر إلى ما في هذه الأطعمة غير المحدودة من روائح طيبة متنوعة، وألوان جميلة متباينة ومذاقات لذيذة مختلفة، ثم أَنعِم النظرَ في أجهزةِ كل ذي حياة؛ كيف أنها تتلائم مع أذواق حياته ولذائذها.. فشاهد الجمال الحلو الذي لا جمال فوقه جمالَ الإكرام، والكريمية الربانية.

    وانظر إلى صور الحيوانات ولاسيما الإنسان، تلك الصور البديعة الحكيمة التي تتفتح من نُطف جميع الحيوانات بتجليات اسمَي «الفتاح والمصوّر»، وتأمّل في الوجوه المِلاح لأزاهير الربيع وهي في غاية الجاذبة المتفتحة من بذيرات متناهية في الصغر.. فشاهد الجمالَ المعجز، جمال الفتاحية والمصوِّرية الإلهية.

    وهكذا على غرار هذه الأمثلة المذكورة؛ فإن لكل اسم من الأسماء الحسنى جمالا خاصا به، جمالا مقدسا منـزَّها، بحيث إن جلوةً من جلواته تجمِّل عالَما ضخما بكامله، وتلقي الحسن والبهاء على نوع لا يحد.

    فكما تشاهَد تجلي جمال اسمٍ من الأسماء في زهرة واحدة، فالربيع كذلك زهرة والجنة كذلك زهرة لا يراها النظر.

    فإن كنت تستطيع أن تنظر إلى الربيع، كل الربيع، وترى الجنة بعين الإيمان، فانظر وشاهدْ لتدرك مدى عظمة الجمال السرمدي.

    فإن قابلت ذلك الجمال الباهر بجمال الإيمان وبجمال العبودية تكن أحسنَ مخلوق وفي أحسن تقويم.

    ولكن إن قابلت ذلك الجمال بقبح الضلالة غير المحدود وقبح العصيان البغيض، تكن أقبح مخلوق وأردأه، وأبغض مخلوق معنىً لدى جميع الموجودات الجميلة.

    النقطة الخامسة: أن شخصا عظيما يملك مئات المهارات والإبداعات والمزايا والكمالات والمحاسن، قد بنى قصرا فخما خارقا، ليعرّف ويبيّن به مهاراتِه وإبداعاته وصنعتَه المتقَنة وكمالاته وجماله المخفي، وذلك حسب قاعدةِ: «إن كلَ مهارة تطلب الإعلان عن نفسها، وكلَ صنعة جميلة متقنة تريد أن تدفع الآخرين إلى تقديرها، وكل كمال ومزيّة يحاول إظهار نفسه، وكل جمال وحُسن يريد أن يبين نفسه».

    هذا وإن كل مَن يشاهد هذا القصر المنيف المليء بالمعجزات والخوارق لاشك ينتقل فكرُه مباشرة إلى حذاقةِ بانيه ومهارته، وإبداعِ مالِكه وإتقانه، وجمالِ صاحبه وكمالاته ومزاياه، حتى يقوده هذا التأمل إلى التصديق بتلك الفضائل والمزايا والإيمان بها كأنه يشاهدها بعينه؛ إذ يقول: «إن مَن لم يكن جميلا بنواحيه وجوانبه كافة، ومبدعا في أموره وشؤونه كافة، لا يمكن أن يكون مصدرَ هذا القصر البديع في كل جهة من جهاته ولا يمكن أن يكون موجِدَه وبانيَه ومخترعَه -أي من غير تقليد- بل إن محاسن ذلك الباني المعنويةَ وكمالاتِه كأنها قد تجسمت بهذا القصر». هكذا يقول وهكذا يقضي ويقرر.

    والأمر كذلك فيمن ينظر إلى جمال هذا العالم المسمى بالكون، هذا المعرضِ البديع والقصر الباذخ والمخلوقات العجيبة.. لا شك أنَّ فكرَه ينتقل مباشرة إلى أن هذا القصر الذي تزيّن بهذا الجمال الرائع إنما هو مرآة عاكسة لإظهار محاسن غيره وجماله وكماله، مالم يختل عقلُه ويفسد قلبه.

    نعم، مادام هذا القصر -قصرُ العالم- ليس له مثيل يشبهه، كي يُقتبسَ الجمال منه وتُقلّدَ المحاسن منه، فلا شك أن صانعه وبانيه له من المحاسن والجمال ما يليق به في ذاته وفي أسمائه، بحيث يقتبس العالمُ الجمالَ منه. ولأجل ذلك بني هذا العالم على وفق أنوار ذلك الجمال، وكُتب كالكتاب المتقن البديع ليعبّر عن ذلك الجمال.

    البرهان الثالث: له ثلاث نكات:

    النكتة الأولى: وهي الحقيقة المذكورة في «الموقف الثالث من الكلمة الثانية والثلاثين» والتي جاءت فيه بتفصيل جميل للغاية مع حجج قوية دامغة. نحيل تفاصيلها إلى تلك الرسالة مشيرين هنا إشارات مختصرة إليها على النحو الآتي:

    إننا ننظر إلى هذه المصنوعات ولاسيما الحيوانات والنباتات الماثلة أمامنا، فنرى أن تزيينا دائما وتجميلا لطيفا وتنظيما دقيقا -لا يمكن أحالته على المصادفة- يهيمن عليها، مما يبيّن القصدَ والإرادة ويُشعر بالعلم والحكمة.

    ويشاهَد كذلك أنَّ في كل شيء صنعةً متقنة وحكمةً دقيقة وزينة رفيعة وترتيبا ذا شفقة ووضعا حلوا، لاستجلاب الإعجاب إلى الصنعة ولَفْتِ الأنظار إليها وإرضاءِ المشاهدين، مما يُفهم بداهة أن وراء حجاب الغيب صانعا بديعا يريد أن يعرّف نفسَه إلى ذوي الشعور ويحبّبَ نفسه إليهم ويسوقهم إلى الثناء عليه بإبرازِ كثير من إبداعاته وكمالاته في كل صنعة من مصنوعاته.

    وكذا يشاهَد أنه سبحانه يُحسن إليهم بأنواع من النعم الطيبة اللذيذة، يُحسنها إليهم من حيث لم يحتسبوا -مما لا يمكن حمله على المصادفة- ليجعل أولئك الشاعرين في امتنان ورضى عنه وأودّاءَ له.

    وكذا تُشاهَد معاملةُ معرفةٍ حميمة معنوية مكللة بالكرم، ويُسمع مكالمةٌ ومخاطبة بلسان الحال ينمّ عن الود والمحبة، واستجابة وقبول للأدعية استجابةً تتسم بالرحمة.. مما يشعر شفقة عميقة جدا ورحمة رفيعة جدا.

    بمعنى أن ما يشاهَد من الإكرام بالإنعام وإذاقة اللذة وراء التعريف والتودد الظاهرَين ظهورَ الشمس، إنما ينبعان من إرادةِ شفقةٍ في منتهى الأصالة والرسوخ، ومن رغبةٍ في الرحمة في منتهى القوة والسعة.

    فوجود مثل هذه الإرادة القوية الأصيلة في الشفقة والرحمة في مَن هو مستغنٍ مطلق، أي لا حاجة له إلى أي شيء كان أبدا، دليل على أنه يملك جمالا سرمديا في منتهى الكمال، وحُسنا أزليا لا يزول أبدا، وجمالا لا مثيل له على الإطلاق ولا شبيه. هذا الجمال السرمدي الخالد من مقتضى ماهيته أنه يريد الشهود والإشهاد في المرايا، ومن شأن حقيقته أنه يريد الظهور والبروز حتى اتخذ صورةَ الرحمة والشفقة، لأجل إراءة نفسه ورؤيته في المرايا المختلفة، واتخذ صورة الإنعام والإحسان في المرايا ذات المشاعر، ثم تقلّد وضعَ التحبب والتودّد والتعرف، ثم أعطى النور، نورَ التجميل، وضياء التزيين الكائنات طرا.

    النكتة الثانية: إن وجودَ عشق إلهي شديد ومحبة ربانية قوية لدى مَن لا يحصيهم العد من بنى الإنسان ولاسيما في طبقته العليا -على الرغم من اختلاف مسالكهم- يشير -بالبداهة- إلى جمالٍ لا مثيل له بل يشهد له شهادة قاطعة.

    نعم، إن مثل هذا العشق يصوّب نظرَه إلى مثل هذا الجمال ويقتضيه، وإن مثل هذه المحبة تتطلب مثل هذا الحسن. بل إن ما في جميع الموجودات من حمد وثناء عام -سواء بلسان الحال أو المقال- إنما يتوجه إلى ذلك الحسن الأزلي ويصعد إليه.

    بل إن جميع الانجذابات والأشواق والجاذبات والجواذب الموجودة في الكون كله والحقائق الجذابة إنما هي إشارات إلى حقيقةِ جاذبة أبدية أزلية، وإن دوران الأجرام العلوية والسفلية وحركاتِها التي تؤديها كالمريد المولوي العاشق الذي ينهض للسماع، إنما هو مقابلة ذات عشق في أداء الوظيفة تجاه الظهور المهيمن للجمال المقدس لتلك الحقيقة الجاذبة. كما هو لدى بعض العاشقين أمثال شمس التبريزي.(∗)

    النكتة الثالثة: لقد أجمع أهل التحقيق: «أن الوجود خيرٌ محض ونور، وأن العدم شر محض وظلام»، واتفق أئمة أهل القلب والعقل على: «أن جميع الخيرات والحسنات والمحاسن واللذائذ -نتيجة التحليل- ناشئة من الوجود، وأن جميع المفاسد والشرور والمصائب والآلام -حتى المعاصي- راجعة إلى العدم».

    إن قلت: كيف يكون الوجود منبعَ جميع المحاسن، وفي الوجود كفر وأنانية النفس؟

    الجواب: أما الكفر، فلأنه إنكار لحقائق الإيمان ونفيٌ لها، فهو عدم. وأما وجود الأنانية فهو عدم، إلّا أنه اصطبغ بصبغة الوجود واتّخذ صورتَه حيث إنه تَصوُّرُ الموهومِ حقيقةً واقعة، وتملّكٌ غيرُ حقيقي، وجهلُ الأنانية كونَها مرآةً ليس إلّا.

    فما دام منبعُ جميع أنواع الجمال هو الوجود ومنبعُ جميع أنواع القبائح هو العدم، فلاشك أن أقوى وجودٍ وأعلاه وأسطَعه وأبعدَه عن العدم، هو وجودُ واجبٍ أزلي وأبدي. وهو يتطلب أقوى جمالٍ وأعلاه وأسطعَه وأبعدَه عن القصور، بل يعبّر عن مثل هذا الجمال، بل يكون هذا الجمال، إذ كما تستلزم الشمسُ الضياءَ المحيط بها يستلزم الواجبُ الوجود جمالا سرمديا أيضا، فينور به.

    الحمد لله على نعمة الإيمان

    ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَٓا اِنْ نَس۪ينَٓا اَوْ اَخْطَأْنَا ﴾

    ﴿ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَٓا اِلَّا مَا عَلَّمْتَنَاۜ اِنَّكَ اَنْتَ الْعَل۪يمُ الْحَك۪يمُ ﴾

    ملاحظة:

    كان المؤمَّل أن تُكتب تسعُ مراتب من المراتب النورية الحسبية. إلّا أنه أُجّلت حاليا ثلاثُ مراتب منها بناءً على بعض الأسباب.

    تنبيه:

    إن رسائل النور تفسير للقرآن الكريم، تفسيرٌ نابع من القرآن مدعَم بالبراهين، لذا فإن فيها تكراراتٍ ضروريةً مُساقة لحكمةٍ ومصلحة كالتكرارات القرآنية اللطيفة، الحكيمة، الضرورية، والتي لا تُسئِم القارئ أبدا.

    وكذا لأن رسائل النور هي دلائلُ كلمة التوحيد التي تُكرر باستمرار على الألسنة في ذوق وشوق دون سأم، فإن تكراراتها الضرورية لا تعدّ نقصا فيها، ولا تضجِر القارئ ولا ينبغي لها أن تُضجر.

    الباب الخامس

    في مراتب ﴿ حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَك۪يلُ ﴾ ([3])

    وهو خمس نكت

    النكتة الأولى

    فهذا الكلام دواءٌ مجرّبٌ لمرض العَجز البشري وسَقم الفقر الإنساني.

    ﴿ حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَك۪يلُ ﴾ (آل عمران:١٧٣) إذ هو المُوجِدُ المَوْجُودُ البَاقِي فلا بَأْسَ بِزَوالِ المَوْجُودَاتِ لِدَوامِ الوجودِ المَحْبُوبِ بِبَقَاءِ مُوجِدِهِ الواجِبِ الوجودِ.

    وهو الصَّانِعُ الفَاطِرُ البَاقِي، فلا حُزْنَ عَلَى زَوالِ المَصْنُوعِ لِبَقَاءِ مَدَارِ المَحَبَّةِ فِي صَانِعِهِ.

    وهو المَلِكُ المَالِكُ البَاقِي، فلا تأسُّفَ عَلَى زَوالِ المُلْكِ المُتَجَدِّدِ فِي زَوالٍ وذَهَابٍ.

    وهو الشَّاهِدُ العَالِمُ البَاقِي، فلا تَحَسُّرَ عَلَى غَيْبُوبَةِ المَحْبُوبَاتِ مِنَ الدُّنْيا لِبَقَائِهَا، فِي دَائِرَةِ عِلْمِ شَاهِدِهَا وفِي نَظَرِهِ.

    وهو الصَّاحِبُ الفَاطِرُ البَاقِي، فلا كَدَرَ عَلَى زَوالِ المُسْتَحْسَناتِ لِدَوامِ مَنْشَأِ مَحَاسِنِهَا فِي أسْمَاءِ فَاطِرِهَا.

    وهو الوارِثُ البَاعِثُ البَاقِي، فلا تَلَهُّفَ عَلَى فِرَاقِ الأحباب لِبَقَاءِ مَنْ يَرِثُهُمْ ويَبْعَثُهُمْ.

    وهو الجَمِيلُ الجَلِيلُ البَاقِي، فلا تَحَزُّنَ عَلَى زَوالِ الجَمِيلاتِ الَّتِي هِيَ مَرَايا لِلأسْمَاءِ الجَمِيلاتِ لِبَقَاءِ الأسماء بِجَمَالِهَا بَعْدَ زَوالِ المَرَايا.

    وهو المَعْبُودُ المَحْبُوبُ البَاقِي، فلا تَأَلُّمَ مِنْ زَوالِ المَحْبُوبَاتِ المَجَازِيَّةِ، لِبَقَاءِ المَحْبُوبِ الحَقِيقيِّ.

    وهو الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الودُودُ الرَّؤُوفُ البَاقِي، فلا غَمَّ ولا مَأيُوسِيَّةَ ولا أهمية مِنْ زَوالِ المُنْعِمِينَ المُشْفِقِينَ الظَّاهِرِينَ، لِبَقَاءِ مَنْ وسِعَتْ رَحْمَتُهُ وشَفَقَتُهُ كُلَّ شَيءٍ.

    وهو الجَمِيلُ اللَّطِيفُ العَطُوفُ البَاقِي، فلا حِرْقَةَ ولا عِبْرَةَ بِزَوالِ اللَّطِيفَاتِ المُشْفِقَاتِ، لِبَقَاءِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَ كُلِّهَا، ولا يَقُومُ الكُلُّ مَقَامَ تَجَلٍّ واحِدٍ مِنْ تَجَلِّياتِهِ؛ فَبَقَاؤهُ بِهَذِهِ الأوْصَافِ يَقُومُ مَقَامَ كل مَا فَنِيَ وزَالَ مِنْ أنواع مَحْبُوبَاتِ كل أحد مِنَ الدُّنْيا. ﴿ حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَك۪يلُ ﴾ ، نَعَمْ حَسْبِي مِنْ بَقَاءِ الدُّنْيا وما فِيهَا بقاء مَالِكِهَا وصَانِعِهَا وفَاطِرِهَا.

    النكتة الثانية

    حَسْبِي مِنْ بَقَائِي أنَّ الله هو إلَهِيَ البَاقِي، وخَالِقِيَ البَاقِي، ومُوجِديَ البَاقِي، وفَاطِرِيَ البَاقِي، ومالِكِيَ البَاقِي، وشَاهِدِيَ البَاقِي، ومَعْبُودِيَ البَاقِي وبَاعِثِيَ البَاقِي، فلا بَأْسَ ولا حُزْنَ ولا تَأَسُّفَ ولا تَحَسُّرَ عَلَى زَوالِ وجُودِي لِبَقَاءِ مُوجِدِي، وإيجَادِهِ بِأسْمَائِهِ. وما فِي شَخْصِي مِنْ صِفَةٍ إلّا وهِيَ مِنْ شُعَاعِ اِسْمٍ مِنْ أسمائه البَاقِيَةِ؛ فَزَوالُ تِلْكَ الصِّفَةِ وفَنَاؤهَا لَيْسَ إعْدَاما لَهَا، لأنها مَوْجُودَةٌ فِي دَائِرَةِ العِلْمِ وبَاقِيَةٌ ومَشْهودَةٌ لِخَالِقِهَا.

    وكَذَا حَسْبِي مِنَ البَقَاءِ ولَذَّتِهِ عِلْمِي وإذعَانِي وشُعُورِي وإيمَانِي بِأنَّهُ إلَهِيَ البَاقِي المُتَمَثِّلُ شُعَاعُ اسْمِهِ البَاقِي فِي مِرْآةِ مَاهِيَّتِي؛ وما حَقِيقَةُ ماهِيَّتِي إلّا ظِلٌّ لِذلِكَ الاِسْمِ. فَبِسِرِّ تَمَثُّلِهِ فِي مِرْآةِ حَقِيقَتِي صَارَتْ نَفْسُ حَقِيقَتِي مَحْبُوبَةً، لا لِذاتِهَا بل بِسِرِّ ما فِيهَا. وبقاء مَا تَمَثَّلَ فِيهَا أنواع بَقَاءٍ لَهَا.

    النكتة الثالثة

    ﴿ حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَك۪يلُ ﴾ إذ هو الواجِبُ الوجودِ الذِي مَا هذِهِ المَوْجُودَاتُ السَّيَّالاتُ إلّا مَظَاهِرُ لِتَجَدُّدِ تَجَلِّياتِ إيجَادِهِ ووجودِهِ؛ بِهِ وبِالانتساب إليه وبِمَعْرِفَتِهِ أنوار الوجودِ بِلا حَدٍّ.وبِدُونِهِ ظُلُمَاتُ العَدَمَاتِ وآلامُ الفِرَاقاتِ الغير المحدوداتِ.

    وما هذِهِ المَوْجُودَاتُ السَّيَّالَةُ إلّا وهِيَ مَرَايا وهِيَ مُتَجَدِّدَةٌ بِتَبَدُّلِ التَّعَيُّنَاتِ الاِعْتِبَارِيَّةِ فِي فَنَائِهَا وزَوالِهَا وبَقَائِهَا بِسِتَّةِ وجُوهٍ:

    الأولُ: بقاء مَعَانِيهَا الجَمِيلَةِ وهوِيَّاتِهَا المِثَالِيَّةِ.

    والثَّانِي: بقاء صُورِهَا فِي الألواحِ المِثَالِيَّةِ.

    والثَّالثُ: بقاء ثَمَراِتِها الأخروية.

    والرّابِعُ: بقاء تَسْبِيحَاتِهَا الرَّبَّانِيَّةِ المُتَمَثِّلَةِ لَهَا الَّتِي هِيَ نَوْعُ وجُودٍ لَهَا.

    والخَامِسُ: بَقَاؤها فِي المَشَاهِدِ العِلْمِيَّةِ والمَنَاظِرِ السَّرْمَدِيَّةِ.

    والسَّادِسُ: بقاء أرواحِهَا إن كَانَتْ من ذَوِي الأرواح.

    ومَا وظِيفَتُهَا فِي كَيْفِيَّاتِهَا المُتَخَالِفَةِ فِي مَوْتِهَا وفَنَائِهَا وزَوالِهَا وعَدَمِهَا وظهورِهَا واِنْطِفَائِهَا: إلّا إِظْهَارُ المُقْتَضياتِ للأسماءِ الإلهية، فَمِنْ سِرِّ هذِهِ الوظِيفَةِ صَارَتِ المَوْجُودَاتُ كَسَيْلٍ فِي غَايَةِ السُّرْعَةِ تَتَمَوجُ مَوْتًا وحَياةً ووجودا وعَدَمَا. ومِنْ هذِهِ الوظِيفَةِ تَتَظَاهَرُ الفَعَّالِيَّةُ الدَّائِمَةُ والخَلاقِيَّةُ المُسْتَمِرَّةُ. فلا بُدَّ لِي ولِكُلِّ أحد أنْ يَقُولَ: ﴿ حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَك۪يلُ ﴾ يَعْنِي؛ حَسْبِي مِنَ الوجودِ أنِّي أثَرٌ مِنْ آثَارِ واجِبِ الوجودِ. كَفَانِي آنٌ سَيَّالٌ مِنْ هذا الوجودِ المُنوَّرِ المَظهَرِ مِنْ مَلايينِ سَنَةٍ مِنَ الوجودِ المُزَوَّرِ الأبْتَرِ.

    نَعَمْ بِسِرِّ الانتساب الإيماني تَقُومُ دَقِيقَةٌ مِنَ الوجودِ؛ مَقَامَ أُلُوفِ سَنَةٍ بِلا انتساب إيمَانِيٍّ، بل تِلْكَ الدَّقِيقَةُ أتَمُّ وأوْسَعُ بِمَرَاتِبَ مِنْ تِلْكَ الآلافِ سَنَةٍ.

    وكَذا حَسْبِي مِنَ الوجودِ وقِيمَتِهِ أنِّي صَنْعَةُ مَنْ هو فِي السَّمَاءِ عَظَمَتُهُ، وفِي الأرض آياتُهُ، وخَلَقَ السَّمَاواتِ والأرْضَ فِي سِتَّةِ أيَّامٍ.

    وكَذا حَسْبِيَ مِنَ الوجودِ وكَمالِهِ أنِّي مَصْنُوعُ مَنْ زَيَّنَ ونَوَّرَ السَّمَاءَ بِمَصَابِيحَ، وزَيَّنَ وبَهَّر الأرض بأَزاهيرَ.

    وكَذا حَسْبِي مِنَ الفَخْرِ والشَّرَفِ أنِّي مَخْلُوقٌ ومَمْلُوكٌ وعَبْدٌ لِمَنْ هذِهِ الكَائِنَاتُ بِجَمِيعِ كَمَالاتِهَا ومَحَاسِنِهَا ظِلٌّ ضَعِيفٌ بِالنِّسْبَةِ إلى كَمَالِهِ وجَمَالِهِ، ومِنْ آياتِ كَمَالِهِ وإشَاراتِ جَمَالِهِ.

    وكَذا حَسْبِي مِنْ كُلِّ شيء مَنْ يَدَّخِرُ مَا لا يُعَدُّ ولا يُحصَى مِنْ نِعَمِهِ فِي صُنَيْدِقَاتٍ لَطِيفَةٍ هِيَ بَيْنَ «الكَافِ والنُّونِ» فَيَدَّخِرُ بِقُدْرَتِهِ مَلايِينَ قِنْطَارا فِي قَبْضَةٍ واحِدَةٍ فِيهَا صُنَيْدِقَاتٌ لَطِيفَةٌ تُسَمَّى بُذُورا ونَوايا.

    وكَذا حَسْبِي مِنْ كُلِّ ذِي جَمَالٍ وذِي إحْسَانٍ؛ الجَمِيلُ الرَّحِيمُ الَّذِي مَا هــــذِهِ المَصْنُوعَاتُ الجَمِيلاتُ إلّا مَرايا مُتَفَانِيَةٌ لِتَجَدُّدِ أنوار جَمَالِهِ بِمَرِّ الفُصُولِ والعُصُورِ والدُّهورِ. وهـذِهِ النِّعَمُ المُتَواتِرَةُ والأثْمَارُ المُتَعَاقِبَةُ فِي الرَّبِيعِ والصَّيْفِ مَظَاهِرُ لِتَجَدُّدِ مَـرَاتِـبِ إنْـعَـامِـهِ الـدَّائِــمِ عَلَى مَــرِّ الأنَامِ والأيـَّـامِ والأعْـوامِ.

    وكَذا حَسْبِي مِنَ الحَياةِ وماهِيَّتِهَا أنِّي خَرِيطَةٌ وفِهْرَسْتَةٌ وفَذْلَكَةٌ ومِيزَانٌ ومِقْياسٌ لِجَلَواتِ أسْمَاءِ خَالِقِ المَوْتِ والحَياةِ.

    وكَذا حَسْبِي مِنَ الحَياةِ ووظِيفَتِهَا كَوْنِي كَكَلِمَةٍ مَكْتُوبَةٍ بِقَلَمِ القُدْرَةِ، ومُفْهِمَةٍ دَالَّةٍ عَلَى أسْمَاءِ القَدِيرِ المُطْلَقِ الحَيِّ القَيُّومِ بِمَظْهَرِيَّةِ حَياتِي لِلشُّؤونِ الذَّاتِيَّةِ لِفَاطِرِيَ الَّذِي لَهُ الأسماء الحسنى.

    وكَذا حَسْبِي مِنَ الحَياةِ وحُقُوقِهَا إعْلانِي وتَشْهِيرِي بَيْنَ إخواني المَخْلُوقَاتِ وإعْلانِي وإظْهَارِي لِنَظَرِ شُهودِ خَالِقِ الكَائِنَاتِ بِتَزَيُّنِي بِجَلَواتِ أسْماءِ خَالِقِيَ الَّذِي زَيَّنَنِي بِمُرَصَّعَاتِ حُلَّةِ وجودِي وخِلْعَةِ فِطْرَتِي وقِلادَةِ حَياتِي المُنْتَظَمَةِ الَّتِي فِيهَا مُزَيَّنَاتُ هَدَايا رَحْمَتِهِ.

    وكَذا حَسْبِي مِنْ حُقُوقِ حَياتِي فَهْمِي لِتَحِيَّاتِ ذَوِي الحَياةِ لِواهِبِ الحَياةِ وشُهودِي لَهَا وشَهَادَاتٌ عَلَيْهَا.

    وكَذا حَسْبِي مِنَ حُقُوقِ حَياتِى تَبَرُّجِي وتَزَيُّنِي بِمُرَصَّعَاتِ جَواهِرِ إحْسَانِهِ بِشُعُورٍ إيمَانِىٍّ لِلعَرْضِ لِنَظَرِ شُهودِ سُلْطَانِيَ الأزَلِيِّ.

    وكَذا حَسْبِي مِنَ الحَياةِ ولَذَّتِهَا عِلْمِي وإذعَانِي وشُعُورِي وإيمَانِي، بِأنِّي عَبْدُهُ ومَصْنوعُهُ ومَخْلُوقُهُ وفَقِيرُهُ ومُحْتَاجٌ إلَيْهِ؛ وهو خَالِقِي رَحِيمٌ بِي كَرِيمٌ لَطِيفٌ مُنْعِمٌ عَلَىَّ، يُرَبِّينِي كَما يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ ورَحْمَتِهِ.

    وكَذا حَسْبِي مِنَ الحَياةِ وقِيمَتِهَا مِقْياسِيَّتِي بِأمْثَالِ عَجْزِيَ المُطْلَقِ وفَقْرِيَ المُطْلَقِ وضَعْفِيَ المُطْلَقِ لِمَراتِبِ قُدْرَةِ القَدِيرِ المُطْلَقِ، ودَرَجَاتِ رَحْمَةِ الرَّحِيمِ المُطْلَقِ، وطَبَقَاتِ قُوةِ القَوِيِّ المُطْلَقِ.

    وكَذا حَسْبِي بِمَعْكسِيَّتِي بِجُزْئِيَّاتِ صِفَاتِي من العلم والإرادة والقدرة الجُزْئِيَّةِ لِفَهْمِ الصّفات المحيطَةِ لِخَالِقِي. فَأفْهَمُ عِلْمَهُ المُحِيطَ بِمِيزَانِ عِلْمِي الجُزْئِيِّ.

    وهَكَذا حَسْبِي مِنَ الكَمَالِ عِلْمِي بِأنّ إلَهِي هو الكَامِلُ المُطْلَقُ. فَكُلّ مَا فِي الكَوْنِ مِنَ الكَمَالِ مِنْ آياتِ كَمَالِهِ، وإشَاراتٌ إلى كَمَالِهِ.

    وكَذا حَسْبِي مِنَ الكَمَالِ فِي نَفسِي، الإيمان بِالله. إذ الإيمان لِلْبَشَرِ مَنْبَعٌ لِكُلِّ كَمالاتِهِ.

    وكَذا حَسْبِي مِنْ كُلِّ شيء لأَنْواعِ حَاجَاتِيَ المَطْلُوبَةِ بِأنْواعِ ألْسِنَةِ جِهَازاتِيَ المُخْتَلِفَةِ، إلَهِي ورَبِّي وخَالِقِي ومُصَوِّرِيَ الَّذِي لَهُ الأسماء الحُسْنَى الَّذِي هو يُطْعِمُنِي ويَسْقِينِي ويُرَبِّينِي ويُدَبِّرُنِي ويُكَمِّلُنِي، جَلَّ جَلالُهُ وعَمَّ نَوالُهُ.

    النكتة الرابعة

    حَسْبِي لِكُلِّ مَطَالِبِي مَنْ فَتَحَ صُورَتِي وصُورَةَ أمْثَالِي مِنْ ذَوِي الحَياةِ فِي المَاءِ بِلَطِيفِ صُنْعِهِ ولَطِيفِ قُدْرَتِهِ ولَطِيفِ حِكْمَتِهِ ولَطِيفِ رُبُوبِيَّتِهِ.

    وكَذا حَسْبِي لِكُلِّ مَقَاصِدِي مَنْ أنْشَأَنِي وشَقَّ سَمْعِي وبَصَرِي، وأدْرَجَ فِي جِسْمِي لِسَانا وجَنانا، وأوْدَعَ فِيهَا وفِي جِهَازاتِي؛ مَوازِينَ حَسَّاسَّةً لا تُعَدُّ لِوزْنِ مُدَّخَرَاتِ أنواع خَزَائِنِ رَحْمَتِهِ.

    وكَذا أدْمَجَ فِي لِسَانِي وجَنَانِى وفِطْرَتِي آلاتٍ جَسَّاسَةً لا تُحْصَى لِفَهْمِ أنواعِ كُنُوزِ أسْمَائِهِ.

    وكَذا حَسْبِي مَنْ أدْرَجَ فِي شَخْصِيَ الصَّغِيرِ الحَقِيرِ، وأدْمَجَ فِي وجودِيَ الضَّعِيفِ الفَقِيرِ هذِهِ الأعْضَاءَ والآلاتِ وهذِهِ الجَوارِحَ والجِهَازاتِ وهذِهِ الحَواسَّ والحِسِّياتِ وهذِهِ اللَّطَائِفَ والمَعْنَوِياتِ؛ لإحْسَاسِ جَمِيعِ أنواع نِعَمِهِ، ولإذاقَةِ أكثر تَجَلِّيَّاتِ أسمائه بِجَلِيلِ ألُوهِيَّتِهِ وجَمِيلِ رَحْمَتِهِ وبِكَبِيرِ رُبُوبِيَّتِهِ وكَرِيمِ رَأْفَتِهِ وبِعَظِيمِ قُدْرَتِهِ ولَطِيفِ حِكْمَتِهِ.

    النكتة الخامسة

    لابدَّ لِي ولِكُلِّ أحد أنْ يَقُولَ حَالاً وقَالاً ومُتَشَكِّرا ومُفْتَخِرا: حَسْبِي مَنْ خَلَقَنِي، وأخْرَجَنِي مِنْ ظُلْمَةِ العَدَمِ، وأنْعَمَ عَلَيَّ بِنُورِ الوجودِ.

    وكَذا حَسْبِي مَنْ جَعَلَنِي حَيًّا فَأنْعَمَ عَلَيَّ نِعْمَةَ الحَياةِ الَّتِي تُعْطِي لِصَاحِبِهَا كُلَّ شيء وتُمِدُّ يَدَ صَاحِبِهَا إلى كُلِّ شَيءٍ.

    وكَذا حَسْبِي مَنْ جَعَلَنِي إنْسَانا فَأنْعَمَ عَلَيَّ بِنِعْمَةِ الإنسانية التِي صَيَّرَتِ الإنسان عَالَمَا صَغِيرا أكْبَر مَعْنَىً مِنَ العَالَمِ الكَبِيرِ.

    وكَذا حَسْبِي مَنْ جَعَلَنِي مُؤْمِنا فَأنْعَمَ عَلَيَّ نِعْمَةَ الإيمان الَّذِي يُصَيِّرُ الدُّنْيا والآخِرَةَ كَسُفْرَتَيْنِ مَمْلُوئَتَيْنِ مِنَ النِّعَمِ يُقَدِّمُهُمَا إلى المُؤْمِنِ بِيَدِ الإيمَانِ.

    وكَذا حَسْبِي مَنْ جَعَلَنِي مِنْ اُمَّةِ حَبِيبِهِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَأنْعَمَ عَلَيَّ بِمَا فِي الإيمان مِنَ المَحَبَّةِ والمَحْبُوبِيَّةِ الإلَهِيَّةِ، الَّتِي هِيَ مِنْ أعْلَى مَرَاتِبِ الكَمَالاتِ البَشَرِيَّةِ.. وبِتِلْكَ المَحَبَّةِ الإيمانية تَمْتَدُّ أيادِي اِسْتِفَادَةِ المُؤْمِنِ إلى مَا لا يَتَنَاهى مِنْ مُشْتَمَلاتِ دَائِرَةِ الإمكان والوجوبِ.

    وكَذا حَسْبِي مَنْ فَضَّلَنِي جِنْسا ونَوْعا ودِينا وإيمَانا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ مَخْلُوقاتِهِ، فَلَمْ يَجْعَلْنِي جَامِدا ولا حَيَوانا ولا ضَالا. فَلَهُ الحَمْدُ ولَهُ الشُّكْرُ.

    وكَذا حَسْبِي مَنْ جَعَلَنِي مَظْهَرا جَامِعا لِتَجَلِّياتِ أسْمَائِهِ، وأنْعَمَ عَلَيَّ بِنِعْمَةٍ لا تَسَعُهَا الكَائِنَاتُ بِسِرِّ حَدِيثِ «لا يَسَعُنِي أرْضِي ولا سَمَائِي ويَسَعُنِي قَلْبُ عَبْدِيَ المُؤْمِنِ» ([4]) يَعْنِي أنَّ المَاهِيَّةَ الإنسانية مَظْهَرٌ جَامِعٌ لِجَمِيعِ تَجَلِّياتِ الأسماء المُتَجَلِّيَةِ فِي جَمِيعِ الكَائِنَاتِ.

    وكَذا حَسْبِي مَنِ اشْتَرى مُلْكَهُ الَّذِي عِنْدِي مِنِّي لِيَحْفَظَهُ لِي ثُمَّ يُعِيدَهُ إلَيَّ، وأعْطانا ثَمَنَهُ الجََنَّةَ. فَلَهُ الشُّكْرُ ولَهُ الحَمْدُ بِعَدَدِ ضَرْبِ ذَرَّاتِ وجودِي فِي ذَرَّاتِ الكَائِنَاتِ.

    حَسْـبي رَبِّي جَلَّ اللّه

    نُورْ مُحَمَّدْ صَلَّى اللّه

    لَا إِلَهَ إلّا اللّه

    حَسْبِي رَبِّي جَلَّ اللّه

    سِرُّ قَلْبِي ذِكْرُ اللّه

    ذِكْـرُ أحْمَدْ صَلَّى اللّه

    لَا إِلَهَ إلّا اللّه


    الشعاع الثالث | الشعاعات | الشعاع السادس

    1. المقصود الشاعر نيازي المصري.
    2. انظر: مسلم، الإيمان ٢٩٧؛ الترمذي، الجنة ١٦؛ ابن ماجه، المقدمة ١٣؛ أحمد بن حنبل، المسند ٤/ ٣٣٢-٣٣٣.
    3. هذا الباب هو الباب الخامس من «اللمعة التاسعة والعشرين» العربية أدرجه الأستاذ النورسي هنا من دون الهوامش. فمن شاء فليراجعه كاملا في اللمعة المذكورة.
    4. انظر: أحمد بن حنبل، كتاب الزهد ص٨١؛ الغزالي، إحياء علوم الدين ٣/ ١٥؛ الديلمي، المسند ٣/ ١٧٤؛ الزركشي، التذكرة في الأحاديث المشتهرة ص١٣٥؛ السخاوي، المقاصد الحسنة ص٩٩٠؛ العجلوني، كشف الخفاء ٢/ ٢٥٥.. وقال ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الحديثية: وذكرُ جماعةٍ له من الصوفية لا يريدون حقيقة ظاهره من الاتحاد والحلول لأن كلا منهما كفر، وصالحو الصوفية أعرف الناس بالله وما يجب له وما يستحيل عليه، وإنما يريدون بذلك أن قلب المؤمن يسع الإيمان بالله ومحبته ومعرفته. أ هـ.