Yirminci Söz/ar: Revizyonlar arasındaki fark
("وأيضا: ﴿ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِۙ ❀ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِه۪ مَا يَرْكَبُونَ ﴾ (يس:٤١-٤٢) والآية الكريمة الآتية ترمز إلى الكهرباء علاوة على إشارتها إلى كثير من الأنوار والأسرار: ﴿ اَللّٰهُ نُورُ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ مَثَلُ نُورِه۪ ك..." içeriğiyle yeni sayfa oluşturdu) |
(Kaynak sayfanın yeni sürümü ile eşleme için güncelleniyor) |
||
(Bir diğer kullanıcıdan 106 ara revizyon gösterilmiyor) | |||
1. satır: | 1. satır: | ||
<languages/> | <languages/> | ||
وهي مقامان | وهي مقامان | ||
131. satır: | 129. satır: | ||
فإن كنت قد فهمت من بداية هذه الكلمة إلى نهايتها، فشاهد لمعةَ إعجاز أسلوب الإرشاد القرآني واشكر ربك العظيم عليه. | فإن كنت قد فهمت من بداية هذه الكلمة إلى نهايتها، فشاهد لمعةَ إعجاز أسلوب الإرشاد القرآني واشكر ربك العظيم عليه. | ||
سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَٓا اِلَّا مَا عَلَّمْتَنَاۜ اِنَّكَ اَنْتَ الْعَل۪يمُ الْحَك۪يمُ | |||
اَللّهمَّ فَهِّمْنَا أسْرَارَ الْقُرآنِ كَمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى وَوَفِّقْنَا لِخِدْمَتِهِ.. آمِينَ | اَللّهمَّ فَهِّمْنَا أسْرَارَ الْقُرآنِ كَمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى وَوَفِّقْنَا لِخِدْمَتِهِ.. آمِينَ | ||
175. satır: | 173. satır: | ||
والآية الكريمة الآتية ترمز إلى الكهرباء علاوة على إشارتها إلى كثير من الأنوار والأسرار: ﴿ اَللّٰهُ نُورُ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ مَثَلُ نُورِه۪ كَمِشْكٰوةٍ ف۪يهَا مِصْبَاحٌۜ اَلْمِصْبَاحُ ف۪ي زُجَاجَةٍۜ اَلزُّجَاجَةُ كَاَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍۙ يَكَادُ زَيْتُهَا يُض۪ٓيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌۜ نُورٌ عَلٰى نُورٍۜ يَهْدِي اللّٰهُ لِنُورِه۪ مَنْ يَشَٓاءُ ﴾ (<ref>إن جملة ﴿ يَكَادُ زَيْتُهَا يُض۪ٓيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌۜ نُورٌ عَلٰى نُورٍ ﴾ تضيء ذلك الرمز وتنوره. (المؤلف)</ref>) (النور:٣٥). | والآية الكريمة الآتية ترمز إلى الكهرباء علاوة على إشارتها إلى كثير من الأنوار والأسرار: ﴿ اَللّٰهُ نُورُ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ مَثَلُ نُورِه۪ كَمِشْكٰوةٍ ف۪يهَا مِصْبَاحٌۜ اَلْمِصْبَاحُ ف۪ي زُجَاجَةٍۜ اَلزُّجَاجَةُ كَاَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍۙ يَكَادُ زَيْتُهَا يُض۪ٓيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌۜ نُورٌ عَلٰى نُورٍۜ يَهْدِي اللّٰهُ لِنُورِه۪ مَنْ يَشَٓاءُ ﴾ (<ref>إن جملة ﴿ يَكَادُ زَيْتُهَا يُض۪ٓيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌۜ نُورٌ عَلٰى نُورٍ ﴾ تضيء ذلك الرمز وتنوره. (المؤلف)</ref>) (النور:٣٥). | ||
ولما كان الكثيرون من الفضلاء قد انصرفوا إلى هذا القسم، وبذلوا جهودا كثيرة في توضيحه، علما أنّ القيام ببحثه يتطلب دقة متناهية ويستدعي بسطا للموضوع أكثر من هذا وإيضاحا وافيا. فضلا عن وجود أمثلة وفيرة عليه، لذا لا نفتح هذا الباب، ونكتفي بالآيات المذكورة. | |||
أما القسم الأول الذي يشير إلى تلك الاختراعات الشبيهة بالخوارق ضمن إشارات القرآن إلى معجزات الأنبياء.. سنذكر نماذج منه. | |||
< | <span id="Mukaddime:"></span> | ||
=== | === المقدمة === | ||
يبيّن القرآن الكريم أنّ الأنبياء عليهم السلام قد بُعثوا إلى مجتمعات إنسانية ليكونوا لهم أئمةَ الهدى يُقتدى بهم، في رقيهم المعنوي. ويبين في الوقت نفسِه أنّ الله قد وضع بيد كلٍ منهم معجزة مادية، ونَصَبهم روّادا للبشرية وأساتذة لها في تقدمها المادي أيضا. أي إنّه يأمر بالاقتداء بهم واتباعهم اتباعا كاملا في الأمور المادية والمعنوية؛ | |||
إذ كما يحض القرآنُ الكريم الإنسان على الاستزادة من نور الخصال الحميدة التي يتحلَّى بها الأنبياء عليهم السلام، وذلك عند بحثه عن كمالاتهم المعنوية، فإنّه عند بحثه عن معجزاتهم المادية أيضا يومئ إلى إثارة شوق الإنسان ليقوم بتقليد تلك المعجزات التي في أيديهم، ويشير إلى حضّه على بلوغ نظائرها، بل يصح القول: إنّ يدَ المعجزة هي التي أهدت إلى البشرية الكمالَ المادي وخوارقه لأول مرة، مثلما أهدتْ إليها الكمال المعنوي. فدونك سفينة نوح عليه السلام وهي إحدى معجزاته، وساعة يوسف عليه السلام، وهي إحدى معجزاته. فقد قدمتهما يد المعجزة لأول مرة هدية ثمينة إلى البشرية. | |||
وهناك إشارة لطيفة إلى هذه الحقيقة، وهي اتخاذ أغلب الصنّاع نبيا من الأنبياء رائدا لصنعتهم وقطبا لمهنتهم. فالملاحون -مثلا- اتخذوا سيدنا نوحا عليه السلام رائدهم، والساعاتيون اتخذوا سيدنا يوسف عليه السلام إمامهم، والخياطون اتخذوا سيدنا إدريس عليه السلام مرشدهم.. | |||
ولما كان العلماء المحققون من أهل البلاغة قد اتفقوا جميعا أنّ لكل آية كريمة وجوها عدة للإرشاد، وجهات كثيرة للهداية. فلا يمكن إذن أن تكون أسطعُ الآيات وهي آيات المعجزات، سردا تاريخيا، بل لابد أنها تتضمن أيضا معاني بليغة جمة للإرشاد والهداية. | |||
نعم، إن القرآن الكريم بإيراده معجزات الأنبياء إنما يخط الحدودَ النهائية لأقصى ما يمكن أن يصل إليه الإنسان في مجال العلوم والصناعات، ويشير بها إلى أبعدِ نهاياتها، وغايةِ ما يمكن أن تحققه البشرية من أهداف. فهو بهذا يعيّن أبعدَ الأهداف النهائية لها ويحددها. ومن بعد ذلك يحث البشرية ويحضّها على بلوغ تلك الغاية، ويسوقها إليها. إذ كما أنّ الماضي مستودع بذور المستقبل ومرآة تعكس شؤونه، فالمستقبل أيضا حصيلة بذور الماضي ومرآة آماله. | |||
وسنبين بضعة نماذج مثالا، من ذلك النبع الفياض الواسع: | |||
هذه الآية الكريمة تبين معجزةً من معجزات سيدنا سليمان عليه السلام. وهي تسخير الريح له، أي إنّه قد قطع في الهواء ما يُقطع في شهرين في يوم واحد. فالآية تشير إلى أن الطريق مفتوح أمام البشر لقطع مثل هذه المسافة في الهواء. | |||
فيا أيها الإنسان! حاول أن تبلغ هذه المرتبة، واسعَ للدنو من هذه المنـزلة ما دام الطريق ممهدا أمامك. | |||
فكأن الله سبحانه وتعالى يقول في معنى هذه الآية الكريمة: إن عبدا من عبادي ترك هوى نفسه، فحملتُه فوق متون الهواء. وأنت أيها الإنسان! إن نبذتَ كسل النفس وتركته، واستفدت جيدا من قوانين سنتي الجارية في الكون، يمكنك أيضا أن تمتطي صهوة الهواء. | |||
ومثلا: ﴿ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ﴾ (البقرة:٦٠). | |||
هذه الآية الكريمة تبيّن معجزة من معجزات سيدنا موسى عليه السلام، وهي تشير إلى أنه يمكن الاستفادة من خزائن الرحمة المدفونة تحت الأرض بآلات بسيطة، بل يمكن تفجير الماء، وهو ينبوع الحياة، من أرضٍ صلدة ميتة كالحجر بوساطة عصا. | |||
فهذه الآية تخاطب البشرية بهذا المعنى: يمكنكم أن تجدوا الماء الذي هو ألطفُ فيض من فيوضات الرحمة الإلهية، بوساطة عصا، فاسعوا واعملوا بجد لتجدوه وتكشفوه. | |||
فالله سبحانه يخاطب الإنسان بالمعنى الرمزي لهذه الآية: ما دمتُ أسلّم بيد عبدٍ يعتمد عليّ ويثق بي عصا، يتمكن بها أن يفجّر الماء أينما شاء. فأنت أيها الإنسان إن اعتمدتَ على قوانين رحمتي، يمكنك أيضا أن تخترع آلةً شبيهة بتلك العصا، أو نظيرة لها. فهيَّا اسعَ لتجد تلك الآلة | |||
فأنت ترى كيف أنّ هذه الآية سبّاقة لإيجاد الآلة التي بها يتمكن الإنسان من استخراج الماء في أغلب الأماكن، والتي هي إحدى وسائل رقي البشرية. بل إنّ الآية الكريمة قد وضعت الخط النهائي لحدود استخدام تلك الآلة ومنتهى الغاية منها، بمثل ما عيّنت الآية الأولى أبعد النقاط النهائية، وأقصى ما يمكن أن تبلغ إليه الطائرة الحاضرة. | |||
ومثلا: ﴿ وَاُبْرِئُ الْاَكْمَهَ وَالْاَبْرَصَ وَاُحْيِ الْمَوْتٰى بِاِذْنِ اللّٰهِ ﴾ (آل عمران:٤٩). | |||
فالقرآن الكريم إذ يحث البشرية صراحة على اتباع الأخلاق النبوية السامية التي يتحلّى بها سيدنا عيسى عليه السلام، فهو يرغّب فيها ويحض عليها رمزا إلى النظر إلى ما بين يديه من مهنة مقدسة وطب رباني عظيم. | |||
فهذه الآية الكريمة تشير إلى أنه يمكن أن يُعثر على دواء يشفي أشدَّ الأمراض المزمنة والعلل المستعصية، فلا تيأس أيها الإنسان، ولا تقنط أيها المبتلى المصاب. فكلُّ داء مهما كان، له دواء، وعلاجُه ممكن، فابحث عنه، وجِدْه، واكتشفه، بل حتى يمكن معالجة الموت نفسِه بلون من ألوان الحياة الموقتة. | |||
فالله سبحانه يقول بالمعنى الإشاري لهذه الآية الكريمة: لقد وهبتُ لعبد من عبادي تَرَكَ الدنيا لأجلي، وعافَها في سبيلي، هديتين: إحداهما دواء للأسقام المعنوية، والأخرى علاج للأمراض المادية. فالقلوب الميتة تُبعَث بنور الهداية، والمرضى الذين هم بحكم الأموات يجدون شفاءهم بنفث منه ونفخ، فيبرؤون به. وأنت أيها الإنسان! بوسعك أن تجد في صيدلية حِكمتي دواء لكل داء يصيبك، فاسعَ في هذه السبيل، واكشف ذلك الدواء فإنك لا محالة واجده وظافر به. | |||
وهكذا ترى كيف ترسم هذه الآيةُ الكريمة أقصى المدى وأبعدَ الأهداف التي يصبو إليها الطب البشري من تقدم. فالآية تشير إلى ذلك الهدف وتحث الإنسانَ على الوصول إليه. | |||
ومثلا: ﴿ وَاَلَنَّا لَهُ الْحَد۪يدَ ﴾ (سبأ:١٠) ﴿ وَاٰتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ﴾ (ص:٢٠). | |||
هاتان الآيتان تخصان معجزة سيدنا داود عليه السلام. والآية الكريمة: ﴿ وَاَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ﴾ (سبأ:١٢) تخص معجزة سيدنا سليمان عليه السلام. فهذه الآيات تشير إلى أن تليين الحديد نعمة إلهية عظمى، إذ يبيّن الله به فضلَ نبيٍ عظيم. فتليينُ الحديد وجعلهُ كالعجين، وإذابةُ النحاس وإيجادُ المعادن وكشفها هو أصل جميع الصناعات البشرية، وأساسها. وهو أمُّ التقدم الحضاري من هذا الجانب ومعدنه. | |||
فهذه الآية تشير إلى النعمة الإلهية العظمى في تليين الحديد كالعجين وتحويله أسلاكا رفيعة، وإسالة النحاس، واللذان هما محور معظم الصناعات العامة، حيث وهبها الباري الجليل على صورة معجزة عظمى لرسول عظيم وخليفةٍ للأرض عظيم. | |||
فما دام سبحانه قد كرّم مَن هو رسول وخليفة معا، فوهب للسانه الحكمة وفَصل الخطاب، وسلّم إلى يده الصنعة البارعة، وهو يحض البشرية على الإقتداء بما وهب للسانه حضا صريحا، فلابد أنّ هناك إشارةً ترغّب وتحضّ على ما في يده من صنعة ومهارة.. | |||
فسبحانه يقول بالمعنى الإشاري لهذه الآية الكريمة: يا بني آدم! لقد آتيتُ عبدا من عبادي أطاع أوامري وخضع لما كلّفته به، آتيت لسانَه فصل الخطاب، وملأتُ قلبَه حكمةً ليفصل كل شيء على بينة ووضوح. ووضعت في يده من الحقيقة الرائعة ما يكون الحديدُ كالشمع فيها، فيغيّر شكله كيفما يشاء، ويستمد منه قوة عظيمة لإرساء أركان خلافته وإدامة دولته وحُكمه. فما دام هذا الأمر ممكنا وواقعا فعلا، وذا أهمية بالغة في حياتكم الاجتماعية. فأنتم يا بني آدم إن أطعتم أوامري التكوينية تُوهَب لكم أيضا تلك الحكمة والصنعة، فيمكنكم بمرور الزمن أن تقتربوا منهما وتبلغوهما. | |||
وهكذا فإنّ بلوغَ البشرية أقصى أمانيّها في الصناعة، وكسبَها القدرة الفائقة في مجال القوة المادية، إنما هو بتليين الحديد وبإذابة النحاس (القِطر). فهذه الآيات الكريمة تستقطب أنظار البشرية عامة إلى هذه الحقيقة، وتلفت نظر السالفين وكسالى الحاضرين إليها، فتنبّه أولئك الذين لا يقدرونها حق قَدرها. | |||
ومثلا: ﴿ قَالَ الَّذ۪ي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ اَنَا۬ اٰت۪يكَ بِه۪ قَبْلَ اَنْ يَرْتَدَّ اِلَيْكَ طَرْفُكَۜ فَلَمَّا رَاٰهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ.. ﴾ (النمل:٤٠). | |||
فهذه الآية تشير إلى أنّ إحضار الأشياء من مسافات بعيدة -عينا أو صورة- ممكن، وذلك بدلالتها على تلك الحادثة الخارقة التي وقعت في ديوان سيدنا سليمان عليه السلام، عندما قال أحدُ وزرائه الذي أوتي علما غزيرا في «علم التحضير»: أنا آتيك بعرش بلقيس. ولقد آتى الله سبحانه سيدنا سليمان عليه السلام المُلكَ والنبوة معا، وأكرمه بمعجزة يتمكن بها من الاطلاع المباشر بنفسه وبلا تكلف ولا صعوبة على أحوال رعاياه، ومشاهدة أوضاعهم، وسماع مظالمهم. فكانت هذه المعجزة مناط عصمته وصَونه من الشطط في أمور الرعية. وهي وسيلة قوية لبسط راية العدالة على أرجاء المملكة. | |||
فمن يعتمد على الله سبحانه إذن ويطمئن إليه، ويسأله بلسان استعداداته وقابلياته التي فُطر عليها، وسار في حياته على وفق السنن الإلهية والعناية الربانية، | |||
يمكن أن تتحول له الدنيا الواسعةُ كأنها مدينة منتظمة أمامَه كما حدث لسليمان عليه السلام، الذي طلب بلسان النبوة المعصومة إحضارَ عرش بلقيس فأحضر في طَرفة عَينٍ وصار ماثلا أمامه، بعينه أو بصورته، في بلاد الشام بعد أن كان في اليمن. ولاشك أنّ أصوات رجال الحاشية الذين كانوا حول العرش قد سُمعتْ مع مشاهدة صوَرهم. | |||
فهذه الآية تشير إشارةً رائعة إلى إحضار الصور والأصوات من مسافات بعيدة. فالآية تخاطب: أيّها الحكام! ويا من تسلّمتم أمر البلاد! إن كنتم تريدون أن تسودَ العدالةُ أنحاءَ مملكتكم، فاقتدوا بسليمان عليه السلام واسعَوا مِثلهُ إلى مشاهدة ما يجري في الأرض كافة، ومعرفة ما يحدث في جميع أرجائها. فالحاكم العادل الذي يتطلع إلى بسط راية العدالة في ربوع البلاد، والسلطان الذي يرعى شؤون أبناء مملكته، ويشفق عليهم، لا يصل إلى مبتغاه إلّا إذا استطاع الإطلاع -متى شاء- على أقطار مملكته. وعندئذٍ تعمّ العدالة حقا، وينقذ نفسَه من المحاسبة والتَبِعَات المعنوية. | |||
فالله سبحانه يخاطب بالمعنى الرمزي لهذه الآية الكريمة: يا بني آدم! لقد آتيتُ عبدا من عبادي حُكمَ مملكة واسعة شاسعة الأرجاء، ومنحتُه الإطلاع المباشر على أحوال الأرض وأحداثها ليتمكن من تطبيق العدالة تطبيقا كاملا. ولما كنتُ قد وهبتُ لكل إنسان قابلية فطرية ليكون خليفة في الأرض، فلا ريب أنّي قد زوّدتُه -بمقتضى حكمتي- ما يناسب تلك القابلية الفطرية، من مواهب واستعدادات يتمكن بها من أن يشاهد الأرض بأطرافها ويدرك منها ما يدرك. وعلى الرغم من أنّ الإنسان قد لا يبلغ هذه المرتبة بشخصه إلّا أنه يتمكن من بلوغها بنوعه. وإن لم يستطع بلوغها ماديا، فإنّه يبلغها معنويا، كما يحصل للأولياء الصالحين، فباستطاعتكم إذن الاستفادة من هذه النعمة الموهوبة لكم. فسارعوا إلى العمل الجاد واسعوا سعيا حثيثا كي تحوّلوا الأرضَ إلى ما يشبهُ حديقةً صغيرة غنّاء، تجولون فيها وترون جهاتها كلّها وتسمعون أحداثها وأخبارها من كل ناحية منها غير ناسين وظيفة عبوديتكم. تدبَّروا الآية الكريمة: | |||
﴿ هُوَ الَّذ۪ي جَعَلَ لَكُمُ الْاَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا ف۪ي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِه۪ۜ وَاِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ (الملك:١٥). | |||
وهكذا نرى كيف تومئ الآية الكريمة المتصدرة لهذا المثال إلى إثارة همّة الإنسان، وبعثِ اهتماماته لاكتشاف وسيلة يستطيع بها إحضار الصور والأصوات من أبعد الأماكن وأقصاها ضمن أدق الصناعات البشرية. | |||
ومثلا: | |||
﴿ وَاٰخَر۪ينَ مُقَرَّن۪ينَ فِي الْاَصْفَادِ ﴾ (ص:٣٨)، | |||
﴿ وَمِنَ الشَّيَاط۪ينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذٰلِكَۚ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظ۪ينَ ﴾ (الأنبياء:٨٢) | |||
هذه الآيات الكريمة تفيد تسخير سيدنا سليمان عليه السلام الجنّ والشياطين والأرواح الخبيثة، ومنعه شرورهم واستخدامهم في أمور نافعة. فالآيات تقول: إنّ الجن الذين يلون الإنسان في الأهمية في سكنى الأرض من ذوي الشعور، يمكن أن يُصبحوا خداما للإنسان، ويمكن إيجاد علاقة ولقاء معهم، بل يمكن للشياطين أن يضعوا عداءَهم مع الإنسان ويخدموه مضطرين كما سخّرهم الله سبحانه وتعالى لعبد من عباده المنقادين لأوامره. | |||
بمعنى أنّ الله سبحانه يخاطب الإنسان بالمعنى الرمزي لهذه الآيات: أيها الإنسان! إني أسخّر الجن والشياطين وأشرارهم لعبدٍ قد أطاعني واجعلهم منقادين إليه مسخرين له، فأنتَ إن سخّرت نفسَك لأمري وأطعتني، قد تُسخّر لك موجودات كثيرة بل حتى الجن والشياطين . | |||
فالآية الكريمة تخط أقصى الحدود النهائية، وتعيّن أفضل السبل القويمة للانتفاع، بل تفتح السبيل أيضا إلى تحضير الأرواح ومحادثة الجن، الذي ترشحَ من امتزاج فنون الإنسان وعلومه، وتظاهرَ مما تنطوي عليه من قوى ومشاعر فوق العادة، المادية منها والمعنوية. ولكن ليس كما عليه الأمر في الوقت الحاضر حيث أصبح المشتغلون بهذه الأمور موضعَ استهزاء بل ألعوبة بيد الجن الذين ينتحلون أحيانا أسماءَ الأموات. وغدوا مسخّرين للشياطين والأرواح الخبيثة، وإنما يكون ذلك بتسخير أولئك بأسرار القرآن الكريم مع النّجاة من شرورهم. | |||
ثم إن الآية الكريمة: ﴿ فَاَرْسَلْنَٓا اِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ﴾ (مريم:١٧). | |||
هذه الآية وأمثالُها التي تشير إلى تمثّل الأرواح، وكذا الآيات المشيرة إلى جلب سيدنا سليمان عليه السلام للعفاريت وتسخيرهم له. هذه الآيات الكريمة مع إشارتها إلى تمثل الروحانيات فهي تشير إلى تحضير الأرواح أيضا. غير أنّ تحضير الأرواح الطيبة -المشار إليه في الآيات- ليس هو بالشكل الذي يقوم به المعاصرون من إحضار الأرواح إلى مواضع لَهوهم وأماكن ملاعبهم والذي هو هزْل رخيص واستخفاف لا يليق بتلك الأرواح الموقرة الجادة، التي تعمر عالما كله جدّ لا هَزْلَ فيه، بل يمكن تحضير الأرواح بمثل ما قام به أولياء صالحون لأمر جاد ولقصد نبيل هادف -من أمثال محي الدين بن عربي- الذين كانوا يقابلون تلك الأرواح الطيبة متى شاءوا، فأصبحوا هم منجذبين إليها ومنجلبين لها ومرتبطين معها ومن ثم الذهاب إلى مواضعها والتقرب إلى عالمها والاستفادة من روحانياتها. فهذا هو الذي تشير إليه الآيات الكريمة وتُشعر في إشارتها حضا وتشويقا للإنسان وتخطّ أقصى الحدود النهائية لمثل هذه العلوم والمهارات الخفية، وتعرض أجملَ صورهِ وأفضلَها. | |||
ومثلا: ﴿ اِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْاِشْرَاقِ ﴾ (ص:١٨)، ﴿ يَا جِبَالُ اَوِّب۪ي مَعَهُ وَالطَّيْرَۚ وَاَلَنَّا لَهُ الْحَد۪يدَ ﴾ (سبأ:١٠) ﴿ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ.. ﴾ (النمل:١٦) | |||
هذه الآيات الكريمة التي تذكر معجزات سيدنا داود عليه السلام، تدل على أنّ الله سبحانه قد منح تسبيحاتِه وأذكارَه من القوة العظيمة والصوت الرخيم والأداء الجميل ما جعل الجبالَ في وجدٍ وشوق، وكأنها حاكٍ عظيم تردّد تسبيحاتٍ وأذكارا. أو كأنها إنسان ضخم يُسبّحُ في حلقة ذكر حول رئيس الحلقة. | |||
- أتُراك هذه حقيقة؟ وهل يمكن أن يحدث هذا فعلا؟!. | |||
- نعم، إنها لحقيقة قاطعة، أليس كلُّ جبل ذي كهوف يمكن أن يتكلم مع كل إنسان بلسانه، ويردّد كالببغاء ما يذكره؟ فإن قلت: «الحمد لله» أمام جبل، فهو يقول أيضا: «الحمد لله» وذلك برَجع الصدى.. فما دام الله سبحانه وتعالى قد وهب هذه القابلية للجبال، فيمكن إذن أن تنكشف هذه القابلية وتنبسط أكثرُ من هذا. | |||
وحيث إنّ الله سبحانه قد خصّ سيدنا داود عليه السلام بخلافة الأرض فضلا عن رسالته، فقد كشف بذرةَ تلك القابلية لديه ونماها وبسطها بسطا معجزا عنده، بما يلائم شؤونَ الرسالة الواسعة والحاكمية العظيمة، حتى غدت الجبال الشمّ الرواسي منقادة إليه كأيٍّ جندي مطيع لأمره، وكأيِّ صانع أمين لديه، وكأيِّ مريد خاشع لذكره. فأصبحت تلك الجبالُ تسبّح بحمد الخالق العظيم جلّ جلاله بلسانه عليه السلام وبأمره. فما كان سيدنا داود يذكر ويسبّح إلّا والجبال تردّد ما يذكره. | |||
نعم، إنّ القائد في الجيش يستطيع أن يجعل جنوده المنتشرين على الجبال يرددون: «الله أكبر» بما لديه من وسائل الاتصال والمخابرات، حتى كأنّ تلك الجبال هي التي تتكلم وتهلل وتكبر! فَلئن كان قائدا من الإنس يستطيع أن يستنطق «مجازيا» الجبال بلسان ساكنيها، فكيف بقائد مهيب لله سبحانه وتعالى؟ | |||
ألا يستطيع أن يجعل تلك الجبال تنطق نطقا «حقيقيا» وتُسبِّح تسبيحا حقيقيا؟. هذا فضلا عن أننا قد بينا في «الكلمات» السابقة أنّ لكل جبل شخصيةً معنويةً خاصةً به، وله تسبيح خاص ملائم له، وله عبادة مخصوصة لائقة به. فمثلما يُسبّح كل جبل برجْع الصَّدى بأصوات البشر، فإنّ له تسبيحاتٍ للخالق الجليل بألسنتِهِ الخاصة. | |||
وكذلك: ﴿ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ﴾ (ص:١٩) و ﴿ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ.. ﴾ (النمل:١٦).. | |||
هذه الآيات تبين أنّ الله سبحانه قد علّم سيدنا داود وسليمان عليهما السلام منطق أنواع الطيور، ولغة قابلياتها واستعداداتها، أي أيُّ الأعمال تناسبها؟ وكيف يمكن الاستفادة منها؟ | |||
نعم، هذه الحقيقة هي الحقيقة الجليلة، إذ ما دام سطح الأرض مائدةً رحمانيةً أقيمتْ تكريما للإنسان، فيمكن إذن أن تكون معظمُ الحيوانات والطيور التي تنتفع من هذه المائدة مسخّرةً للإنسان، ضمن تصرفه وتحت خدمته. فالإنسان الذي استخدم النحل ودودة القز -تلكم الخَدَمة الصَّغار- وانتفع مما لديهم من إلهام إلهي، والذي استعمل الحمامَ الزاجل في بعض شؤونه وأعماله، واستنطق الببغاء وأمثالَه من الطيور، فضمَّ إلى الحضارة الإنسانية محاسنَ جديدة، هذا الإنسان يمكنه أن يستفيد إذن كثيرا إذا ما عَلِم لسان الاستعداد الفطري للطيور، وقابليات الحيوانات الأخرى، حيث هي أنواع وطوائفُ كثيرة جدا، كما استفاد من الحيوانات الأليفة. فمثلا: إذا عَلِم الإنسان لسانَ استعداد العصافير «من نوع الزرازير» التي تتغذى على الجراد ولا تدعها تنمو، وإذا ما نسّق أعمالَها فإنّه يمكن أن يسخّرَها لمكافحة آفة الجراد. فيكون عندئذٍ قد انتفع منها واستخدمها مجانا في أمور مهمة. | |||
فمثل هذه الأنواع من استغلال قابليات الطيور والانتفاع منها، واستنطاق الجمادات من هاتف وحاكٍ، تخط له الآية الكريمة المذكورة المدى الأقصى والغايةَ القُصوى. | |||
فيقول الله سبحانه بالمعنى الرمزي لهذه الآيات الكريمة: | |||
يا بني الإنسان! لقد سخرتُ لعبدٍ من بني جنسكم، عبد خالص مخلص، سخرتُ له مخلوقات عظيمة في مُلكي وأنطقتُها له، وجعلتها خُدَّاما أمناء وجنودا مطيعين له، كي تُعصَمَ نبوّتُه، وتُصان عدالتُه في ملكه ودولته. وقد آتيتُ كلا منكم استعدادا ومواهبَ ليصبح خليفة الأرض، وأودعتُ فيكم أمانةً عُظمى، أبَتِ السماواتُ والأرضُ والجبالُ أن يحملنَها، فعليكم إذن أن تنقادوا وتخضعوا لأوامر مَن بيده مقاليدُ هذه المخلوقات وزمامُها، لتنقاد إليكم مخلوقاتُه المبثوثة في ملكه. فالطريق ممهَّد أمامكم إن استطعتم أن تقبضوا زِمام تلك المخلوقات باسم الخالق العظيم، وإذا سمَوتم إلى مرتبة تليق باستعداداتكم ومواهبكم. | |||
فما دامت الحقيقة هكذا فاسعَ أيَّها الإنسان أن لا تنشغل بِلهوٍ لا معنى له، وبلعبٍ لا طائلَ من ورائه، كالانشغال بالحاكي والحمَام والببغاء.. بل اسعَ في طلب لَهوٍ من ألطفِ اللهو وأزكاه، وتَسلَّ بتسلية هي من ألذِّ أنواع التسلية.. فاجعل الجبال كالحاكي لأذكارك، كما هي لسيدنا داود عليه السلام، وشنّف سمعك بنغمات ذِكرٍ وتسبيح الأشجار والنباتات التي تُخرج أصواتا رقيقة عذبة بمجرد مَسِّ النسيم لها وكأنها أوتارُ آلاتٍ صوتية.. فبهذا الذِّكر العُلويِّ تُظهر الجبالُ لك ألوفا من الألسنة الذاكرة المسبِّحة، وتبرز أمامكَ في ماهية عجيبة من أعاجيب المخلوقات. وعندئذٍ تتزيا معظم الطيور وتَلبَسُ -كأنها هدهدُ سليمان- لباسَ الصديق الحميم والأنيس الودود، فتصبح خداما مطيعين لك. فتُسلّيك أيَّما تسلية، وتُلهيك لهوا بريئا لا شائبة فيه، فضلا عن أنّ هذا الذكر السَّامي يسوقك إلى انبساط قابلياتٍ ومواهبَ كانت مغمورةً في ماهيتك، فَتَحُولُ بينك وبين السقوط من ماهية الإنسان السامية ومقامه الرفيع، فلا تجذبك بَعدُ أضراب اللهو التي لا مغزى لها إلى حضيض الهاوية. | |||
ومثلا: ﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُون۪ي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلٰٓى اِبْرٰه۪يمَ ﴾ (الأنبياء:٦٩). | |||
هذه الآية الكريمة تبين معجزة سيدنا إبراهيم عليه السلام، وفيها ثلاث إشارات لطيفة: | |||
أولاها: النار -كسائر الأسباب- ليس أمرها بيدها، فلا تعمل كيفما تشاء حسب هواها وبلا بصيرة، بل تقوم بمهمتها وفق أمر يُفرض عليها. فلم تُحرق سيدَنا إبراهيم لأنّها أُمرَت بعدم الحرق. | |||
< | ثانيتُها: إنّ للنار درجة تحرق ببرودتها، أيْ تؤثر كالاحتراق. فالله سبحانه يخاطب البرودة بلفظة: «سلاما» (<ref>يذكر أحد التفاسير أنه: لو لم يقل «سلاما» لكانت تحرق ببرودتها. (المؤلف)</ref>) بأن لا تحرقي أنتِ كذلك إبراهيم، كما لم تحرقه الحرارة. أي إنّ النار في تلك الدرجة تؤثر ببرودتها كأنّها تحرق، فهي نار وهي برد. | ||
</ | |||
نعم إنّ النار -كما في علم الطبيعيات- لها درجات متفاوتة، منها درجة على صورة نار بيضاء لا تنشر حرارتها بل تكسب مما حولها من الحرارة، فتجمد بهذه البرودة ما حولها من السوائل، وكأنها تحـرق ببرودتها. وهكذا الزمهرير لون من ألوان النار تحرق ببرودتها، فوجودُه إذن ضروري في جهنم التي تضم جميع درجات النار وجميع أنواعها. | |||
ثالثتُها: مثلما الإيمان الذي هو «مادة معنوية» يمنع مفعول نار جهنم، وينجي المؤمنين منها. وكما أنّ الإسلام درع واقٍ وحصن حصين من النار، كذلك هناك «مادة مادية» تمنع تأثير نار الدنيا، وهي درع أمامها، لأنّ الله سبحانه يجري إجراءاته في هذه الدنيا، التي هي دار الحكمة، تحت ستار الأسباب. وذلك بمقتضى اسمه «الحكيم»، لذا لم تحرق النار جسمَ سيدنا إبراهيم عليه السلام مثلما لم تحرق ثيابَه وملابسه أيضا. فهذه الآية ترمز إلى: | |||
«يا ملة إبراهيم! اقتدوا بإبراهيم، كي يكون لباسُكم لباسَ التقوى وهو لباس إبراهيم، وليكون حصنا مانعا ودرعا واقيا في الدنيا والآخرة تجاه عدوكم الأكبر، النار. فلقد خبَّأ سبحانه لكم موادا في الأرض تحفظكم من شر النار، كما يقيكم لباس التقوى والإيمان الذي ألبستموه أرواحكم، شر نار جهنم.. فهلمّوا واكتشفوا هذه المواد المانعة من الحرارة واستخرجوها من باطن الأرض والبسوها». وهكذا وجد الإنسان حصيلة بحوثه واكتشافاته مادة لا تحرقها النار، بل تقاومها فيمكنه أن يصنع منها لباسا وثيابا. | |||
فقارن هذه الآية الكريمة، وقِسْ مدى سموّها وعلوّها على اكتشاف الإنسان للمادة المضادة للنار، واعلم كيف أنها تدل على حلّة قشيبة نُسجت في مصنع «حنيفا مسلما» لا تتمزق ولا تَخلق وتبقى محتفظة بجمالها وبهائها إلى الأبد. | |||
ومثلا: ﴿ وَعَلَّمَ اٰدَمَ الْاَسْمَٓاءَ كُلَّهَا ﴾ (البقرة:٣١) | |||
تبيّن هذه الآية أنّ المعجزة الكبرى لآدم عليه السلام، في دعوى خلافته الكبرى، هي تعليم الأسماء. | |||
فمثلما ترمز معجزاتُ سائر الأنبياء إلى خارقة بشرية خاصة لكل منهم، فإن معجزة أبي الأنبياء وفاتحِ ديوان النبوة آدم عليه السلام، تشير إشارة قريبة من الصراحة إلى منتهى الكمال البشري، وذروة رقيّه، وإلى أقصى أهدافه، | |||
فكأنّ الله سبحانه يقول بالمعنى الإشاري لهذه الآية الكريمة: | |||
يا بني آدم!.. إنّ تفوّق أبيكم آدم في دعوى الخلافة على الملائكة كان بما علمتُه الأسماءَ كلَّها، وأنتم بنوه ووارثو استعداداته، ومواهبه فعليكم أن تتعلموا الأسماء كلها لتُثبتوا جدارتكم أمام المخلوقات لتسنّم الأمانة العظمى، فلقد مُهّد الطريق أمامَكم لبلوغ أسمى المراتب العالية في الكون، وسُخّرت لكم الأرض، هذه المخلوقة الضخمة. فهيَّا انطلقوا وتقدموا، فالطريق مفتوح أمامكم.. واستمسكوا بكل اسم من أسمائي الحسنى، واعتصموا به، لتسموا وترتفعوا. | |||
واحذروا! فلقد أغوى الشيطانُ أباكم مرة واحدة، فهبط من الجنة -تلك المنـزلة العالية- إلى الأرض موقتا. فإياكم أن تتبعوا الشيطان في رقيكم وتقدمكم، فيكون ذريعة ترديكم من سماوات الحكمة الإلهية إلى ضلالة المادية الطبيعية.. ارفعوا رؤوسكم عاليا، وانعموا النظر والفكر في أسمائي الحسنى، واجعلوا علومَكم ورقيّكم سُلّما ومراقي إلى تلك السماوات، لتبلغوا حقائق علومكم وكمالكم، وتصلوا إلى منابعها الأصلية، تلك هي أسمائي الحسنى. وانظروا بمنظار تلك الأسماء ببصيرة قلوبكم إلى ربكم. | |||
< | <span id="Bir_nükte-i_mühimme_ve_bir_sırr-ı_ehemm"></span> | ||
=== بيان نكتة مهمة وإيضاح سرّ أهم === | |||
</ | |||
إن كل ما ناله الإنسان -من حيث جامعية ما أودع الله فيه من استعدادات- من الكمال العلمي والتقدم الفني، ووصولِه إلى خوراق الصناعات والاكتشافات، تعبّر عنه الآية الكريمة بتعليم الأسماء: | |||
﴿ وَعَلَّمَ اٰدَمَ الْاَسْمَٓاءَ كُلَّهَا ﴾. وهذا التعبير ينطوي على رمز رفيع ودقيق، وهو: أن لكلِّ كمالٍ، ولكل علمٍ، ولكل تقدم، ولكل فن -أيا كان- حقيقة سامية عالية. وتلك الحقيقة تستند إلى اسم من الأسماء الحسنى، وباستنادها إلى ذلك الاسم -الذي له حُجُب مختلفة، وتجليات متنوعة، ودوائر ظهور متباينة- يجد ذلك العلمُ وذلك الكمال وتلك الصنعة، كل منها كمالَه، ويُصبح حقيقةً فعلا، وإلّا فهو ظل ناقص مبتور باهت مشوّش. | |||
فالهندسة -مثلا- علم من العلوم، وحقيقتُها وغاية منتهاها هي الوصول إلى اسم «العدل» و«المقدِّر» من الأسماء الحسنى، وبلوغُ مشاهدة التجليات الحكيمة لذلك الاسم بكل عظمتها وهيبتها في مرآة علم «الهندسة». | |||
والطب -مثلا- علم ومهارة ومهنة في الوقت نفسه، فمنتهاه وحقيقتُه يستند أيضا إلى اسم من الأسماء الحسنى وهو «الشافي». فيصل الطبُّ إلى كماله ويُصبح حقيقةً فعلا بمشاهدة التجليات الرحيمة لاسم «الشافي» في الأدوية المبثوثة على سطح الأرض الذي يمثل صيدليةً عظمى. | |||
والعلوم التي تبحث في حقيقة الموجودات -كالفيزياء والكيمياء والنبات والحيوان ..- هذه العلوم التي هي «حكمة الأشياء» يمكن أن تكون حكمةً حقيقية بمشاهدة التجليات الكبرى لاسم الله «الحكيم» جلَّ جلالُه في الأشياء، وهي تجليات تدبير، وتربية، ورعاية. وبرؤية هذه التجليات في منافع الأشياء ومصالحها تصبح تلك الحكمة حكمةً حقا، أي باستنادها إلى ذلك الاسم «الحكيم» وإلى ذلك الظهير تصبح حكمة فعلا، وإلّا فإمَّا أنها تنقلب إلى خرافات وتصبح عبثا لا طائل من ورائها، أو تفتح سبيلا إلى الضلالة، كما هو الحال في الفلسفة الطبيعية المادية. | |||
فإليك الأمثلة الثلاثة كما مرت.. قِسْ عليها بقية العلوم والفنون والكمالات.. | |||
وهكذا يضرب القرآن الكريم بهذه الآية الكريمة يدَ التشويق على ظهر البشرية مشيرا إلى أسمى النقاط وأبعد الحدود وأقصى المراتب التي قصُرت كثيرا عن الوصول إليها في تقدمها الحاضر، وكأنّه يقول لها: هيَّا تقدمي. | |||
نكتفي بهذا الجوهر النفيس من الخزينة العظمى لهذه الآية الكريمة، ونغلق هذا الباب. | |||
< | ومثلا: إنّ خاتم ديوان النبوة، وسيدَ المرسلين، الذي تعدّ جميعُ معجزات الرسل معجزة واحدة لتصديق دعوى رسالته، والذي هو فخرُ العالمين، وهو الآية الواضحة المفصلة لجميع مراتب الأسماء الحسنى كلّها التي علَّمها الله سبحانه آدمَ عليه السلام تعليما مجملا.. ذلكم الرسول الحبيب محمد ﷺ الذي رفع إصبعه عاليا بجلال الله فشقَّ القمرَ، (<ref> | ||
انظر: البخاري، تفسير سورة القمر ١، المناقب ٢٧؛ مسلم، صفة المنافقين ٤٦؛ الترمذي، تفسير سورة القمر ٥؛ أحمد بن حنبل، المسند ٢٠٧/٣، ٢٠، ٨٢/٤. | |||
</ | </ref>) وخَفَضَ الإصبعَ المباركَ نفسَه بجمال الله ففجَّرَ ماءً كالكوثر.. (<ref> | ||
انظر: البخاري، الوضوء ٣٢، المناقب ٢٥، الأشربة ٣١، المغازي ٣٥؛ مسلم، الزهد ٧٤، الفضائل ٥، ٦؛ الترمذي، المناقب ٦؛ النسائي، الطهارة ٦١. | |||
</ref>) وأمثالُها من المعجزات الباهرات التي تزيد على الألف.. هذا الرسول الكريم ﷺ أظهرَ القرآنَ الكريم معجزةً كبرى تتحدى الجنّ والإنس: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْاِنْسُ وَالْجِنُّ عَلٰٓى اَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هٰذَا الْقُرْاٰنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِه۪ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَه۪يرًا ﴾ (الإسراء:٨٨). فهذه الآية الكريمة وأمثالها من الآيات تجلب أنظار الإنس والجن إلى أبرز وجوه الإعجاز في هذه المعجزة الخالدة وأسطعِها، فتلفتُها إلى ما في بيانه -الحق والحقيقةَ- من جزالةٍ، وإلى ما في تعابيره من بلاغةٍ فائقة، والى ما في معانيه من جامعيةٍ وشمول، والى ما في أساليبه المتنوعة من سموٍ ورفعة وعذوبة.. | |||
فتحدّى القرآنُ المعجز، وما زال كذلك يتحدى الإنس والجن قاطبة، مثيرا الشوق في أوليائه، محركا ساكنَ عناد أعدائه، دافعا الجميع إلى تقليده، بشوق عظيم وترغيب شديد، للإتيان بنظيره،بل إنّه سبحانه يضع هذه المعجزة الكبرى أمام أنظار الأنام في موقع رفيع لكأن الغاية الوحيدة من مجيء الإنسان إلى هذه الدنيا ليست سوى اتخاذه تلك المعجزةَ العظمى دستورَ حياته، وغايةَ مناه. | |||
نخلص مما تقدم: أنّ كل معجزة من معجزات الأنبياء عليهم السلام تشير إلى خارقة من خوارق الصناعات البشرية. أمّا معجزة سيدنا آدم عليه السلام فهي تشير إلى فهرس خوارق العلوم والفنون والكمالات، وتشوّق إليها جميعا مع إشارتها إلى أسس الصنعة إشارة مجملة مختصرة. | |||
أما المعجزة الكبرى للرسول الأعظم ﷺ وهي القرآن الكريم ذو البيان المعجِر، فلأنّ حقيقةَ تعليم الأسماء تتجلى فيه بوضوح تام، وبتفصيل أتمّ، فإنّه يبين الأهداف الصائبة للعلوم الحقة وللفنون الحقيقية، ويُظهر بوضوح كمالات الدنيا والآخرة وسعادتهما، فيسوق البشر إليها ويوجّهه نحوَها، مثيرا فيه رغبة شديدة فيها، حتى إنّه يبين بأسلوب التشويق أنْ أيها الإنسان! | |||
إن المقصد الأسمى من خلق هذا الكون هو قيامُك أنت بعبودية كلّية تجاه تظاهر الربوبية، وإنّ الغاية القصوى من خلقك أنت هي بلوغُ تلك العبودية بالعلوم والكمالات. | |||
فيعبّر بتعابير متنوعة رائعة معجزة مشيرا بها إلى أنّ البشرية في أواخر أيامها على الأرض ستنساب إلى العلوم، وتنصبّ إلى الفنون، وستستمد كل قواها من العلوم والفنون فيتسلم العلمُ زمام الحكم والقوة. | |||
ولما كان القرآن الكريم يسوق جزالة البيان وبلاغة الكلام مقدّما ويكررهما كثيرا، فكأنّه يرمز إلى أنّ البلاغة والجزالة في الكلام، وهما من أسطع العلوم والفنون، سيلبسان أزهى حُللهما وأروعَ صوَرهما في آخر الزمان، حتى يغدو الناس يستلهمون أمضى سلاحهم من جزالة البيان وسِحره، ويستلمون أرهبَ قوتهم من بلاغة الأداء؛ وذلك عند بيان أفكارهم ومعتقداتهم لإقناع الآخرين بها، أو عند تنفيذ آرائهم وقراراتهم.. | |||
نحصل مما سبق: أنّ أكثر الآيات الكريمة إنما هي مفتاح لخزينة كمال فائق، ولكنـز علمي عظيم. | |||
< | فإن شئتَ أن تبلغ سماوات القرآن الكريم ونجومَ الآيات فاجعل (الكلمات العشرين السابقة) عشرينَ درجا لسلم الوصول إليها، (<ref>بل إن ثلاثا وثلاثين كلمة وثلاثةً وثلاثين مكتوبا وإحدى وثلاثين لمعة وثلاثة عشر شعاعا سلم ذو مائة وعشرين مرتبة للصعود. (المؤلف)</ref>) وشاهد بها مدى سطوع شمس القرآن العظيم، وتأمّل كيف ينشر القرآنُ نورَه باهرا على حقيقة الألوهية وحقائق الموجودات، والمخلوقات، وكيف ينشر الضياء الساطع على كل الموجودات. | ||
</ | |||
النتيجة: ما دامت الآيات التي تخص معجزات الأنبياء عليهم السلام لها نوع من الإشارة إلى خوارق التقدم العلمي والصناعي الحاضر، ولها طراز من التعبير كأنّه يخط أبعد الحدود النهائية لها.. وحيث إنّه ثابت قطعا أنّ لكل آيةٍ دلالات على معانٍ شتى بل هذا متفق عليه لدى العلماء.. ولما كان هناك أوامر مطلقة لاتباع الأنبياء عليهم السلام والإقتداء بهم، لذا يصح القول: إنّه مع دلالة الآيات المذكورة سابقا على معانيها الصريحة هناك دلالات مشوّقة بأسلوب الإشارة إلى أهم العلوم البشرية وصناعاتها. | |||
< | <span id="İki_mühim_suale_karşı_iki_mühim_cevap"></span> | ||
=== جوابان مهمان عن سؤالين مهمين === | |||
</ | |||
< | <span id="Birincisi:"></span> | ||
==== أحدهما: ==== | |||
</ | |||
إذا قلت: لما كان القرآن الكريم قد نـزل لأجل الإنسان، فلِم لا يصرّح بما هو المهم في نظره من خوارق المدنية الحاضرة؟ وإنّما يكتفي برمز مستتر، وإيماء خفي، وإشارة خفيفة، وتنبيه ضعيف فحسب؟ | |||
فالجواب: إنّ خوارق المدنية البشرية لا تستحق أكثر من هذا القدر، إذ إنّ الوظيفة الأساسية للقرآن الكريم هي تعليم شؤون دائرة الربوبية وكمالاتها، ووظائف دائرة العبودية وأحوالها. لذا فإنّ حق تلك الخوارق البشرية وحصتَها من تلك الدائرتين مجردُ رمزٍ ضعيف وإشارةٍ خفية ليس إلّا.. فإنّها لو ادّعت حقوقَها من دائرة الربوبية، فعندها لا تحصل إلّا على حق ضئيل جدا. | |||
< | فمثلا: إذا طالبتْ الطائرةُ البشرية (<ref>لقد انساق القلم دون إرادتي في هذا الموضوع الجاد إلى هذا الحوار اللطيف فتركته وشأنه، على أمل ألّا يخل لطافة الأسلوب بجدية الموضوع. (المؤلف)</ref>) القرآن الكريم قائلة: اعطني حقا للكلام، وموقعا بين آياتك. فإن طائرات دائرة الربوبية، تلك الكواكب السيّارة والأرض والقمر، ستقول بلسان القرآن الكريم: إنّكِ تستطيعين أن تأخذي مكانكِ هنا بمقدار جِرمك لا أكثر. | ||
</ | وإذا أرادت الغوّاصة البشرية موقعا لنفسها بين الآيات الكريمة فستتصدى لها غواصات تلك الدائرة؛ التي هي الأرض السابحة في محيط الهواء، والنجوم العائمة في بحر الأثير قائلة: إن مكانك بيننا ضئيل جدا يكاد لا يُرى!. | ||
وإذا أرادت الكهرباء أن تدخل حرَم الآيات بمصابيحها اللامعة أمثال النجوم، فإنّ مصابيح تلك الدائرة التي هي الشموس والشُّهب والأنجم المزيّنة لوجه السماء، ستردّ عليها قائلة: إنّكِ تستطيعين أن تدخلي معنا في مباحث القرآن وبيانه بمقدار ما تمتلكين من ضوء! | |||
ولو طالبت الخوارق الحضارية -بلسان صناعاتها الدقيقة- بحقوقها وأرادت لها مقاما بين الآيات.. عندها ستصرخ ذبابة واحدة بوجهها قائلة: اسكتوا.. فليس لكم حق. ولو بمقدار أحد جناحَيّ هذين! ولئن اجتمع كلّ ما فيكم من المصنوعات والاختراعات -التي اكتُشفت اكتسابا بإرادة الإنسان الجزئية- مع جميع الآلات الدقيقة لديكم، لن تكون أعجبَ بمقدار ما في جسمي الصغير جدا من لطائف الأجهزة ودقائق الصنعة. وإنّ هذه الآية الكريمة تبهتكم جميعا: | |||
﴿ اِنَّ الَّذ۪ينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّٰهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُۜ وَاِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْـًٔا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُۜ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ﴾ (الحج:٧٣). | |||
وإذا ذهبت تلك الخوارقُ إلى دائرة العبودية وطلبت منها حقَّها فستتلقى منها مثل هذا الجواب: إنّ علاقتكم معنا واهية وقليلة جدا، فلا يمكنكم الدخول إلى دائرتنا بسهولة، لأنّ منهجَنا هو: أنّ الدنيا دار ضيافة، وأنّ الإنسان ضيف يلبث فيها قليلا، وله وظائف جمّة، وهو مكلف بتحضير وتجهيز ما يحتاجه لحياته الأبدية الخالدة في هذا العمر القصير، لذلك يجب عليه أن يقدّم ما هو الأهم والألزم. | |||
إلّا أنّه تبدو عليكم -على اعتبار الأغلبية- ملامح نُسجت بحبّ هذه الدنيا الفانية تحت أستار الغفلة واللهو، وكأنها دار للبقاء ومستقر للخلود. لذا فإن حظكم من دائرة العبودية المؤسّسة على هدى الحق والتفكر في آثار الآخرة قليل جدا. | |||
ولكن.. إن كان فيكم -أو من ورائكم- من الصنّاع المهَرة والمخترعين الملهمين -وهم قلة- وكانوا يقومون بأعمالهم مخلصين لأجل منافع عباد الله -وهي عبادة ثمينة- ويبذلون جهدَهم للمصلحة العامة وراحتهم لرقيّ الحياة الاجتماعية وكمالِها، فإنّ هذه الرموز والإرشادات القرآنية كافية بلا ريب لأولئك الذوات المرهفي الإحساس، ووافية لتقدير مهاراتهم وتشويقهم إلى السعي والاجتهاد. | |||
<span id="İkinci_suale_cevap:"></span> | |||
==== السؤال الثاني: ==== | |||
وإذا قلت: لم تبقَ لديّ الآن بعد هذا التحقيق شبهة. فقد ثبت عندي بيقين وصدّقتُ أنّ القرآن الكريم فيه جميعُ ما يلزم السعادة الدنيوية والأخروية -كلّ حسب قيمته وأهميته- فهناك رموز وإشارات إلى خوارق المدنية الحاضرة، بل إلى أبعد منها من الحقائق الأخرى مع ما فيه من حقائق جليلة. ولكن لِمَ لم يذكر القرآن الكريم تلك الخوراق بصراحةٍ تامة كي تُجبر الكفرةَ العنيدين على التصديق والإيمان وتُطمئنَ قلوبَنا فتستريح؟. | |||
الجواب: إنّ الدِّين امتحان، وإنّ التكاليف الإلهية تجربة واختبار من أجل أن تتسابق الأرواحُ العالية والأرواح السافلة، ويتميز بعضُها عن بعض في حلبة السباق. فمثلما يُختبر المعدن بالنار ليتميز الألماس من الفحم والذهب من التراب، كذلك التكاليف الإلهية في دار الامتحان هذه. فهي ابتلاء وتجربة وسَوق للمسابقة، حتى تتميز الجواهرُ النفيسة لمعدن قابليات البشر واستعداداته من المعادن الخسيسة. | |||
فما دام القرآن قد نزل، في دار الابتلاء هذه، بصورة اختبار للإنسان؛ ليتم تكاملُه في ميدان المسابقة، فلابد أنّه سيشير -إشارةً فحسب- إلى هذه الأمور الدنيوية الغيبية التي ستتوضح في المستقبل للجميع، فاتحا للعقل بابا بمقدار إقامة حجَّته. وإلاّ فلو ذكرَها القرآن الكريم صراحة، لاختلّتْ حكمةُ التكليف إذ تصبح بديهية، مثل كتابة «لا إله إلّا الله» واضحا بالنجوم على وجه السماء، والذي يجعل الناس -أرادوا أم لم يريدوا- عندئذ مرغَمين على التصديق، فما كانت ثمةَ مسابقة ولا اختبار ولا تمييز، فحينئذٍ تتساوى الأرواحُ السافلة التي هي كالفحم مع التي هي كالألماس. (<ref>فكان أن ظهر أبو جهل اللعين مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه في مستوىً واحد. ولضاع التكليف. (المؤلف)</ref>) | |||
والخلاصة: أنّ القرآن العظيم، حكيم يعطي لكل شيء قدرَه من المقام، ويرى القرآنُ من ثمرات الغيب التقدمَ الحضاري البشري قبل ألفٍ وثلاثمائة سنة المستترة في ظلمات المستقبل، أفضلَ وأوضحَ مما نراها نحن وسنراها. | |||
فالقرآن إذن كلامُ مَن ينظر إلى كل الأزمنة، بما فيها من الأمور والأشياء في آن واحد.. | |||
فتلك لمعة من الإعجاز القرآني، تلمع في وجه معجزات الأنبياء. | |||
اَللّهمَّ فَـهِّمنا أسْرَارَ الْقُرآنِ وَوفِّقْنا لِخدْمَتِهِ في كلِّ آنٍ وَزَمانٍ. | |||
سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَٓا اِلَّا مَا عَلَّمْتَنَاۜ اِنَّكَ اَنْتَ الْعَل۪يمُ الْحَك۪يمُ | |||
رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَٓا اِنْ نَس۪ينَٓا اَوْ اَخْطَأْنَا | |||
اَللّهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ وَكَرِّمْ عَلَى سَيِّدِنَا وَمَولَانَا مُحَمَّدٍ، عَبدِكَ وَنَبِيِّكَ وَرَسُولِكَ النّبِيِّ الْأمِّيِّ وَعَلَى آلِهِ وَأصْحَابِهِ وَأزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّاتِهِ وَعَلَى النّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وَالْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَالْأوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، أفْضَلَ صَلَاةٍ وَأزْكَى سَلَامٍ وَأنمَى بَرَكَاتٍ، بِعَدَدِ سُوَرِ الْقُرآنِ وَآيَاتِهِ وَحُرُوفِهِ وَكَلِمَاتِهِ وَمَعَانِيهِ وَإِشَارَاتِهِ وَرُمُوزِهِ وَدَلَالَاتِهِ، وَاغْفِر لَنَا وَارْحَمْنَا وَالْطُفْ بِنَا يَا إِلَهنَا، يَا خَالِقَنَا، بِكُلِّ صَلَاةٍ مِنهَا بِرَحْمَتِكَ يَا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. | |||
وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ آمِينَ | |||
------ | ------ | ||
<center> [[ | <center>⇐ [[On_Dokuzuncu_Söz/ar|الكلمة التاسعة عشرة]] | [[Sözler/ar|الكلمات]] | [[Yirmi_Birinci_Söz/ar|الكلمة الحادية والعشرون]] ⇒</center> | ||
------ | ------ | ||
17.46, 7 Mayıs 2024 itibarı ile sayfanın şu anki hâli
وهي مقامان
المقام الأول
بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ
﴿ وَاِذْ قُلْنَا لِلْمَلٰٓئِكَةِ اسْجُدُوا لِاٰدَمَ فَسَجَدُٓوا اِلَّٓا اِبْل۪يسَ ﴾ (البقرة:٣٤)
﴿ اِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ اَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ﴾ (البقرة:٦٧)
﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ اَوْ اَشَدُّ قَسْوَةً ﴾ (البقرة:٧٤)
كنت أتلو هذه الآيات الكريمة يوما، فورد إلهام من فيض نور القرآن الكريم في نكات ثلاث ليصدّ إلقاءات إبليس!. وصورة الشبهة الواردة هي:
قال: إنكم تقولون: إنّ القرآن معجِز، وفي ذروة البلاغة، وإِنّه هدىً للعالمين في كل وقت وآن، ولكن ماذا يعني ذكر حوادث جزئية وسردها سردا تاريخيا والتأكيد عليها وتكرارها؟ وما الداعي إلى ذكر حادثة جزئية كذبح بقرةٍ ضمن هالة من الأوصاف، حتى تسمّت السورة باسم «البقرة»؟. ثم إن القرآن يرشد أرباب العقول عامة ويذكر في كثير من مواضعه «أفلا يعقلون» أي يحيل الأمر إلى العقل، في حين أنّ حادثةَ سجود الملائكة لآدم أمر غيبي محض لا يجد العقل إليه سبيلا، إلاَّ بالتسليم أو الإذعان بعد الإيمان القوي الراسخ.. ثم أين وجه الهداية في بيان القرآن حالات طبيعية تحدث مصادفةً للأحجار والصخور وإضفاء أهمية بالغة عليها؟
وصورة النُكَت الملهَمة هي الآتية:
النكتة الأولى
إنّ في القرآن الحكيم حوادثَ جزئية، ولكن وراءَ كل حادث يكمن دستور كلي عظيم. وإنما تذكر تلك الحوادث لأنّها طرف من قانون عام شامل كلي وجزء منه.
فالآية الكريمة: ﴿ وَعَلَّمَ اٰدَمَ الْاَسْمَٓاءَ كُلَّهَا ﴾ (البقرة:٣١) تبيّن أنّ تعليم الأسماء معجزة من معجزات سيدنا آدم عليه السلام تجاه الملائكة، إظهارا لاستعداده للخلافة.
وهي وإن كانت حادثة جزئية إلاّ أنَها طرف لدستور كلي هو: أنّ تعليم الإنسان -المالك لاستعداد جامع- علوما كثيرة لا تحد، وفنونا كثيرة لا تحصى حتى تستغرق أنواع الكائنات، فضلا عن تعليمه المعارف الكثيرة الشاملة لصفات الخالق الكريم سبحانه وشؤونه الحكيمة.. إنّ هذا التعليم هو الذي أهّل الإنسانَ لينال أفضلية، ليس على الملائكة وحدهم، بل أيضا على السماوات والأرض والجبال، في حمل الأمانة الكبرى.
وإذ يذكر القرآنُ خلافةَ الإنسان على الأرض خلافة معنوية، يبين كذلك أنّ في سجود الملائكة لآدم وعدم سجود الشيطان له -وهي حادثة جزئية غيبية- طرفا لدستورٍ مشهود كلي واسع جدا،
وفي الوقت نفسه يبين حقيقة عظيمة هي أنّ القرآن الكريم بذكره طاعة الملائكة وانقيادهم لشخص آدم عليه السلام وتكبُّرَ الشيطان وامتناعه عن السجود، إنما يفهّم أنّ أغلبَ الأنواع المادية للكائنات وممثليها الروحانيين والموكّلين عليها، مسخرة كلُّها ومهيّأة لإفادة جميع حواس الإنسان إفادة تامة، وهي منقادة له.. وأنّ الذي يفسد استعداد الإنسان الفطري ويسوقه إلى السيئات وإلى الضلال هي المواد الشريرة وممثلاتها وسكنتها الخبيثة، مما يجعلها أعداءً رهيبين، وعوائق عظيمة في طريق صعود الإنسان إلى الكمالات.
وإذ يدير القرآن الكريم هذه المحاورة مع آدم عليه السلام وهو فرد واحد ضمن حادثة جزئية، فإنّه في الحقيقة يدير محاورة سامية مع الكائنات برمتها والنوع البشري قاطبة.
النكتة الثانية
من المعلوم أنّ أراضي مصر جرداء قاحلة، إذ هي جزء من الصحراء الكبرى، إلَّا أنها تدرّ محاصيل وفيرة ببركة نهر النيل، حتى غدت كأنّها مزرعة تجود بوفير المحاصيل؛ لذا فإنّ وجود مثل هذه الجنة الوارفة بجنب تلك الصحراء التي تستطير نارا، جعل الزراعةَ والفلاحة مرغوبةً فيها لدى أهل مصر حتى توغلت في طبائعهم. بل أضفت تلك الرغبةُ الشديدة في الزراعة نوعا من السمو والقدسية، كما أضفت بدورها قدسية على واسطة الزراعة من ثور وبقر، حتى بلغ الأمر أنْ مَنح أهلُ مصر -في ذلك الوقت- قدسيةً على البقر والثور إلى حدِّ العبادة، وقد ترعرع بنو إسرائيل في هذه المنطقة وبين أحضان هذه البيئة والأجواء فأخذوا من طبائعهم حظا، كما يُفهم من حادثة «العجل» المعروفة.
وهكذا يعلّمنا القرآن الكريم بذبح بقرة واحدة، أن سيدنا موسى عليه السلام، قد ذَبح برسالته مفهومَ عبادة البقر، ذلك المفهوم الذي سرى في عروق تلك الأمة، وتنامى في استعداداتهم.
فالقرآن الكريم إنّما يبين بهذه الحادثة الجزئية بيانا معجزا، دستورا كليا، ودرسا ضروريا في الحكمة يحتاجه كلّ أحد في كل وقت.
فافهم -قياسا على هذا-: أنّ الحوادث الجزئية المذكورة في القرآن الكريم، على صورة حوادث تاريخية، إنّما هي طرف وجزء من دساتير كلية شاملة ينبئ عنها، حتى إنّ كل جملة جزئية من الجمل السبع لقصة موسى عليه السلام المكررة في القرآن تتضمن دستورا كليا عظيما، كما بيّنا في كتابنا «اللوامع» راجعه إن شئْتَ.
النكتة الثالثة
قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ اَوْ اَشَدُّ قَسْوَةًۜ وَاِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْاَنْهَارُۜ وَاِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَٓاءُۜ وَاِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّٰهِۜ وَمَا اللّٰهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ (البقرة:٧٤).
عند قراءتي لهذه الآيات البينات، قال الموَسوس: ماذا يعني ذكر حالات طبيعية وفطرية للأحجار الاعتيادية وبيانُها كأنّها مسألة عظيمة، مع أنّها معلومة لدى الناس؟ وما وجهُ العلاقة والمناسبة والسبب؟ وهل هناك من داعٍ أو حاجة إليها؟
فألهم قلبي الإلهام الآتي من فيض القرآن لصدّ هذه الشبهة:
نعم، هناك علاقة وسبب، وهناك داعٍ وحاجة، بل العلاقة قوية والمعنى جليل والحقيقة ضرورية وعظيمة بحيث لا يتيسر إلا لإعجاز القرآن وإيجازه ولطف إرشاده أن يسهّلها وييسّرها للفهم.
إنّ الإيجاز الذي هو أساس مهم من أسس الإعجاز، وكذا لطف الإرشاد وحسن الإفهام الذي هو نور من هدي القرآن، يقتضيان أن تُبيَّن الحقائقُ الكلية والدساتيرُ الغامضة العامة، في صور جزئية مألوفة للعوام الذين يمثلون معظم مخاطبي القرآن، وأن لا تبيّن لأولئك البسطاء في تفكيرهم إلَّا طرف من تلك الحقائق المعظمة وصور بسيطة منها.. زِد على ذلك: ينبغي أن تبيّن لهم التدابير الإلهية تحت الأرض التي هي خوارق العادات والتي تسترت بستار العادة والإلفة، بصورة مجملة.
فبناءً على هذا، يقول القرآن الحكيم في هذه الآيات: يا بَنى إسرائيل ويا بَنى آدم! ماذا دهاكم حتى غلظت قلوبُكم وأصبحت أصلب من الحجر وأقسى منها! ألَا ترون أنّ أصلب الصخور وأصمَّها، التي تُشكِّل طبقةً عظيمة من الأحجار الصلدة تحت التراب، مطيعةً للأوامر الإلهية طاعة تامة، ومنقادة إلى الإجراءات الربانية انقيادا كاملا. فكما تجري الأوامر الإلهية في تكوين الأشجار والنباتات في الهواء بسهولة مطلقة، تجري على تلك الصخور الصَّماء الصَّلدة تحت الأرض بالسهولة نفسها وبانتظام كامل. حتى إنّ جداول الماء وعروقها تحت الأرض تجري بانتظام كامل وبحكمة تامة من دون أن تجد عائقا أو مقاومة تُذكر من تلك الصخور، فينساب الماء فيها كانسياب الدم وجريانه داخل العروق في الجسم من دون مقاومة أو صدود. ([1])
ثم إنّ الجذور الرقيقة تنبت وتتوغل في غاية الانتظام بأمر رباني في تلك الصخور التي هي تحت الأرض دون أن يقف أمامها حائل أو مانع، فتنتشر بسهولة كسهولة انتشار أغصان الأشجار والنباتات في الهواء.
فالقرآن الكريم يشير بهذه الآية الكريمة إلى حقيقة واسعة جدا، ويرشد إليها مخاطبا القلوب القاسية مرمزا إليها على النحو الآتي:
يا بَني إسرائيل ويا بَني آدم! ما هذه القلوب التي تحملونها وأنتم غارقون في فقركم وعجزكم! إنّها تقاوم بغلظة وبقساوة أوامر مولىً جليل عظيم، تنقاد له طبقات الصخور الصَّلدة الهائلة، ولا تعصي له أمرا، بل تؤدِّي كل منها وظيفتها الرفيعة في طاعة كاملة وانقياد تام؛ وهي مغمورة في ظلمات الأرض. بل تقوم تلك الصخور بوظيفة المستودع والمخزن لمتطلبات الحياة للأحياء الذين يدبون على تراب الأرض. حتى إنّها تكون لـينة طرية في يد القدرة الحكيمة الجليلة، طراوة شمع العسل، فتكون وسائل لتقسيمات تتم بعدالة، وتكون وسائط لتوزيعات تنتهي بحكمة، بل تكون رقيقة رقةَ هواء النسيم، نعم، إنّها في سجدة دائمة أمام عظمة قدرته جل جلاله.
فهذه المصنوعات المنتظمة المتقنة الماثلة أمامنا فوق الأرض، وهذه التدابير الإلهية ذات الحكمة والعناية الجارية عليها هي أيضا بعينها تجري تحت الأرض بل تتجلى فيها الحكمة الإلهية والعناية الربانية بأعجبَ منها حكمةً وأغرب منها انتظاما.
تأمّلوا جيدا! إنّ أصلب الصخور وأضخمها وأصمّها تلين ليونةَ الشمع تجاه الأوامر التكوينية، ولا تبدي أية مقاومة أو قساوة تُذكر تجاه تلك الموظفات الإلهية أي المياه الرقيقة والجذور الدقيقة والعروق اللطيفة لطافة الحرير، حتى كأنها عاشق يشق قلبَه بمسٍّ من أنامل تلك اللطيفات والجميلات، فتتحول ترابا في طريقهن..
وكذا قوله تعالى: ﴿ وَاِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّٰهِ ﴾ ، فإنه يبيّن طرفا من حقيقة عظيمة جدا هي:
أنّ الجبال التي على سطح الأرض، والتي تجمّدت بعد أن كانت في حالة مائعة وسائلة. وأصبحت كتلا ضخمة من الصخور الصَّلدة، تتفتت وتتصدع، بتجليات جلالية، تتجلى على صورة زلازل وانقلابات أرضية، مثلما تناثر وأصبح دكا ذلك الجبل الذي تجلّى عليه الرب سبحانه في طلب موسى عليه السلام رؤية الله جلّ جلاله.
فتلك الصخور تهبط من ذُرى تلك الجبال، من خشية ظهور تجليات جلالية ورهبة منها، فتتناثر أجزاؤها. فقسم منها ينقلب ترابا تنشأ فيه النباتات.. وقسم آخر يبقى على هيئَة صخور تتدحرج إلى الوديان وتكتسح السهول فيستخدمها أهل الأرض في كثير من الأمور النافعة -كبناء المساكن مثلا- فضلا عن أمورٍ وحكم مخفية ومنافع شتى، فهي في سجدة وطاعة للقدرة الإلهية وانقياد تام لدساتير الحكمة الربانية.
فلا ريب أنّ ترك الصخور لمواضعها الرفيعة من خشية الله واختيارها الأماكن الواطئة في تواضع جم، مسببة منافع جليلة شتى، أمر لا يحدث عبثا ولا سدىً وهو ليس مصادفة عمياء أيضا، بل هو تدبير رب قدير حكيم يُحدثه بانتظام وحكمة وإن بَدا في غير انتظام في ظاهر الأمر.
والدليل على هذا، الفوائد والمنافع التي تُجنى من تفتت الصخور ويشهد عليه شهادة لا ريب فيها كمال الانتظام وحسن الصنعة للحُلل التي تُخلع على الجبال التي تتدحرج منها الصخور، والتي تزدان بالأزاهير اللطيفة والثمرات الجميلة والنقوش البديعة.
وهكذا رأيتم كيف أنّ هذه الآيات الثلاث لها أهميتُها العظيمة من زاوية الحكمة الإلهية.
والآن تدبروا في لطافة بيان القرآن العظيم وفي إعجاز بلاغته الرفيعة، كيف يبين طرفا وجزءا من هذه الحقائق الثلاث المذكورة، وهي حقائق جليلة وواسعة جدا، يبينها في ثلاث فقرات وفي ثلاث حوادث مشهورة مشهودة، وينبه إلى ثلاث حوادث أخرى لتكون مدار عبرة لأولى الألباب ويزجرهم زجرا لا يقاوم.
فمثلا: يشير في الفقرة الثانية:
﴿ وَاِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَٓاءُ ﴾
إلى الصخرة التي انشقَّت بكمال الشوق تحت ضرب عصا موسى فانبجست منها اثنتا عَشْرةَ عينا، وفي الوقت نفسِه يورد إلى الذهن هذا المعنى ويقول:
يا بَني إسرائيل! إنّ الصخور الضخمة تتشتت وتتشقق وتلين تجاه معجزة واحدة من معجزات سيدنا موسى عليه السلام وتذرف الدموعَ كالسيل من خشيتها أو من سرورها، فكيف تتمردون تجاه معجزات موسى عليه السلام كلِّها، ولا تدمع أعينكم بل تجمُد وتغلظ قلوبُكم وتقسو.
ويذكّر في الفقرة الثالثة:
﴿ وَاِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّٰهِ ﴾
تلك الحادثة الجليلة التي حدثت في طور سيناء، أثناء مناجاة سيدنا موسى عليه السلام. تلك هي التجلّيِ الإلهي الأعظم إلى الجبل وجعله دكّا حتى تفتتَ وتناثر في الأرجاء من خشيته سبحانه. ويُرشد في الوقت نفسِه إلى معنى كهذا:
يا قوم موسى -عليه السلام- كيف لا تتقون الله ولا تخشونه، فالجبال الشاهقة التي هي صخور صلدة تتصدع من خشيته وتتبعثر، وفي الوقت الذي ترون أنّه قد أخذ الميثاقَ منكم برفع جبل الطور فوقكم، مع مشاهدتكم وعلمِكم تشققَ الجبل في حادثة الرؤية الجليلة، فكيف تجرأون ولا ترتعد فرائصُكم من خشيته سبحانه، بل تغلظ قلوبُكم؟.
ويذكّر في الفقرة الأولى:
﴿ وَاِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْاَنْهَارُ ﴾
مشيرا إلى أنهار كالنيل ودجلة والفرات النابعة من الجبال ويعلِّم في الوقت نفسه مدى نيل تلك الأحجار للطاعة المعجزة والانقياد الخارق تجاه الأوامر التكوينية ومدى كونِها مسخّرة لها. فيورث بهذا التعليم القلوبَ المتيقظة هذا المعنى:
إنّه لا يمكن قطعا أن تكون هذه الجبال الضخمة منابعَ حقيقية لمثل هذه الأنهار العظيمة لأنّه لو كانت هذه الجبال بحجمها الكامل مملوءةً بالماء، أي لو أصبحت أحواضا مخروطية لتلك الأنهار، فإنّها لا تكفي لصرفيات تلك الأنهار إلَّا لبضعة شهور، وذلك لسيرها السريع وجريانها الدائم. فضلا عن أنّ الأمطار التي لا تنفذ في التراب لأكثر من متر، لا تكون أيضا واردات كافية لتلك الصرفيات الهائلة.
بمعنى أنّ تفجّر هذه الأنهار ليس أمرا اعتياديا طبيعيا، أو من قبيل المصادفة، بل إنّ الفاطر الجليل يُسيّلها من خزينة الغيب وحدَها، ويجريها منها جريانا خارقا.
وإشارة إلى هذا أفادت روايةُ الحديث الشريف بهذا المعنى: أنّ كُلا من تلك الأنهار الثلاثة تقطرُ عليها كل وقت قطرات من الجنة، لذا أصبحت مباركة. ([2]) وفي رواية: إنّ منابع هذه الأنهار الثلاثة من الجنة. ([3]) وحقيقة هذه الرواية هي:
إنّ الأسباب المادية لا تكفي لتفجّر هذه الأنهار وتدفّقها بهذه الكثرة، فلابد أن تكون منابعُها في عالم غيب، وأنّها ترِد من خزينة رحمة غيبية، وعندها تتوازن الواردات والصرفيات وتدوم.
وهكذا يعلّم القرآن الكريم درسا بليغا وينبّه إلى هذا المعنى:
يا بَني إسرائيل ويا بَني آدم! إنّكم بقساوة قلوبكم تعصون أوامر ربٍّ جليل، وبغفلتكم عنه تغمضون عيونَكم عن نور معرفة ذلك النور المصوِّر الذي حوّل أرضَ مصر إلى جنة وارفة الظلال وأجرى النيل العظيم المبارك وأمثاله من الأنهار من أفواه أحجار صلدة بسيطة مُظهرا معجزات قدرته وشواهد وحـدانيته قوية بقوة تلك الأنهار العظيمة ونيّرة بشدة ظهورها وإفاضاتها. فيضع تلك الشواهد في قلب الكائنات ويسلّمها إلى دماغ الأرض، ويسيّلها في قلوب الجن والإنس وفي عقولهم.
ثم إنّه سبحانه وتعالى يجعل صخورا جامدة لا تملك شعورا قط ([4]) تنال معجزات قدرته حتى إنّها تدل على الفاطر الجليل كدلالة ضوء الشمس على الشمس. فكيف لا ترون وتعمى أبصاركم عن رؤية نور معرفته جل جلاله؟
فانظر! كيف لَبِسَتْ هذه الحقائق الثلاث حلل البلاغة الجميلة، ودقِّق النظرَ في بلاغة الإرشاد لترى مدى القساوة والغلظة التي تملك القلوب ولا تنسحق خشية أمام ذلك الإرشاد البليغ.
فإن كنت قد فهمت من بداية هذه الكلمة إلى نهايتها، فشاهد لمعةَ إعجاز أسلوب الإرشاد القرآني واشكر ربك العظيم عليه.
سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَٓا اِلَّا مَا عَلَّمْتَنَاۜ اِنَّكَ اَنْتَ الْعَل۪يمُ الْحَك۪يمُ
اَللّهمَّ فَهِّمْنَا أسْرَارَ الْقُرآنِ كَمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى وَوَفِّقْنَا لِخِدْمَتِهِ.. آمِينَ
بِرَحْمَتِكَ يَا اَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اَللّهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى مَن أنـزِلَ عَلَيهِ الْقُرآنُ الْحَكِيم وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أجْمَعِينَ.
المقام الثاني
من الكلمة العشرين
لمعة إعجاز قرآني تتلألأ على وجه معجزات الأنبياء
« أنعم النظر في الجوابين المذكورين في الختام »
بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ
﴿ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ اِلَّا ف۪ي كِتَابٍ مُب۪ينٍ ﴾ (الأنعام:٥٩)
لقد كتبتُ قبل أربع عشرة سنة ([5]) بحثا يخص سرا من أسرار هذه الآية الكريمة في تفسيري الذي كتبته باللغة العربية الموسوم بـ«إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز» والآن استجابة لطلب أخوين كريمين عزيزين عندي أكتب إيضاحا باللغة التركية لذلك البحث، مستعينا بتوفيق العلي القدير ومستلهما من فيض القرآن الكريم، فأقول:
إن «كتاب مبين» -على قولٍ- هو القرآن الكريم. فهذه الآية الكريمة تبيّن أنّه ما من رطب ولا يابس إلاّ وهو في القرآن الكريم.
- أتراه كذلك؟
- نعم، إنّ في القرآن كلَّ شيء. ولكن لا يستطيع كلُّ واحد أن يرى فيه كلَّ شيء. لأنّ صور الأشياء تبدو في درجات متفاوتة في القرآن الكريم. فأحيانا توجد بذور الشيء أو نواه، وأحيانا مجملُ الشيء أو خلاصتُه، وأحيانا دساتيرُه، وأحيانا توجد عليه علامات. ويرد كلّ من هذه الدرجات؛ إما صراحة أو إشارة أو رمزا أو إبهاما أو تنبيها. فيعبّر القرآنُ الكريم عن أغراضه ضمن أساليب بلاغته، وحسب الحاجة، وبمقتضى المقام والمناسبة.
فمثلا: إنّ الطائرة والكهرباء والقطار واللاسلكي وأمثالها من منجزات العلم والصناعة، التكنولوجيا الحديثة، والتي تعدّ حصيلة التقدم الإنساني ورقيِّه في مضمار الصناعة والعلم، أصبحت هذه الاختراعات موضع اهتمام الإنسان، وتبوّأت مكانة خاصة في حياته المادية. لذا فالقرآن الكريم الذي يخاطب البشريةَ قاطبة، لم يهمل هذا الجانب من حياة البشر، بل قد أشار إلى تلك الخوارق العلمية من جهتين:
الجهة الأولى: أشار إليها عند إشارته إلى معجزات الأنبياء عليهم السلام.
الجهة الثانية: أشار إليها عند سرده بعض الحوادث التاريخية.
فعلى سبيل المثال: فقد أشار إلى القطار في الآيات الكريمة الآتية: ﴿ قُتِلَ اَصْحَابُ الْاُخْدُودِۙ ❀ اَلنَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِۙ ❀ اِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌۙ ❀ وَهُمْ عَلٰى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِن۪ينَ شُهُودٌۜ ❀ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ اِلَّٓا اَنْ يُؤْمِنُوا بِاللّٰهِ الْعَز۪يزِ الْحَم۪يدِ ﴾ (البروج:٤-٨). ([6])
وأيضا: ﴿ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِۙ ❀ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِه۪ مَا يَرْكَبُونَ ﴾ (يس:٤١-٤٢)
والآية الكريمة الآتية ترمز إلى الكهرباء علاوة على إشارتها إلى كثير من الأنوار والأسرار: ﴿ اَللّٰهُ نُورُ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ مَثَلُ نُورِه۪ كَمِشْكٰوةٍ ف۪يهَا مِصْبَاحٌۜ اَلْمِصْبَاحُ ف۪ي زُجَاجَةٍۜ اَلزُّجَاجَةُ كَاَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍۙ يَكَادُ زَيْتُهَا يُض۪ٓيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌۜ نُورٌ عَلٰى نُورٍۜ يَهْدِي اللّٰهُ لِنُورِه۪ مَنْ يَشَٓاءُ ﴾ ([7]) (النور:٣٥).
ولما كان الكثيرون من الفضلاء قد انصرفوا إلى هذا القسم، وبذلوا جهودا كثيرة في توضيحه، علما أنّ القيام ببحثه يتطلب دقة متناهية ويستدعي بسطا للموضوع أكثر من هذا وإيضاحا وافيا. فضلا عن وجود أمثلة وفيرة عليه، لذا لا نفتح هذا الباب، ونكتفي بالآيات المذكورة.
أما القسم الأول الذي يشير إلى تلك الاختراعات الشبيهة بالخوارق ضمن إشارات القرآن إلى معجزات الأنبياء.. سنذكر نماذج منه.
المقدمة
يبيّن القرآن الكريم أنّ الأنبياء عليهم السلام قد بُعثوا إلى مجتمعات إنسانية ليكونوا لهم أئمةَ الهدى يُقتدى بهم، في رقيهم المعنوي. ويبين في الوقت نفسِه أنّ الله قد وضع بيد كلٍ منهم معجزة مادية، ونَصَبهم روّادا للبشرية وأساتذة لها في تقدمها المادي أيضا. أي إنّه يأمر بالاقتداء بهم واتباعهم اتباعا كاملا في الأمور المادية والمعنوية؛
إذ كما يحض القرآنُ الكريم الإنسان على الاستزادة من نور الخصال الحميدة التي يتحلَّى بها الأنبياء عليهم السلام، وذلك عند بحثه عن كمالاتهم المعنوية، فإنّه عند بحثه عن معجزاتهم المادية أيضا يومئ إلى إثارة شوق الإنسان ليقوم بتقليد تلك المعجزات التي في أيديهم، ويشير إلى حضّه على بلوغ نظائرها، بل يصح القول: إنّ يدَ المعجزة هي التي أهدت إلى البشرية الكمالَ المادي وخوارقه لأول مرة، مثلما أهدتْ إليها الكمال المعنوي. فدونك سفينة نوح عليه السلام وهي إحدى معجزاته، وساعة يوسف عليه السلام، وهي إحدى معجزاته. فقد قدمتهما يد المعجزة لأول مرة هدية ثمينة إلى البشرية.
وهناك إشارة لطيفة إلى هذه الحقيقة، وهي اتخاذ أغلب الصنّاع نبيا من الأنبياء رائدا لصنعتهم وقطبا لمهنتهم. فالملاحون -مثلا- اتخذوا سيدنا نوحا عليه السلام رائدهم، والساعاتيون اتخذوا سيدنا يوسف عليه السلام إمامهم، والخياطون اتخذوا سيدنا إدريس عليه السلام مرشدهم..
ولما كان العلماء المحققون من أهل البلاغة قد اتفقوا جميعا أنّ لكل آية كريمة وجوها عدة للإرشاد، وجهات كثيرة للهداية. فلا يمكن إذن أن تكون أسطعُ الآيات وهي آيات المعجزات، سردا تاريخيا، بل لابد أنها تتضمن أيضا معاني بليغة جمة للإرشاد والهداية.
نعم، إن القرآن الكريم بإيراده معجزات الأنبياء إنما يخط الحدودَ النهائية لأقصى ما يمكن أن يصل إليه الإنسان في مجال العلوم والصناعات، ويشير بها إلى أبعدِ نهاياتها، وغايةِ ما يمكن أن تحققه البشرية من أهداف. فهو بهذا يعيّن أبعدَ الأهداف النهائية لها ويحددها. ومن بعد ذلك يحث البشرية ويحضّها على بلوغ تلك الغاية، ويسوقها إليها. إذ كما أنّ الماضي مستودع بذور المستقبل ومرآة تعكس شؤونه، فالمستقبل أيضا حصيلة بذور الماضي ومرآة آماله.
وسنبين بضعة نماذج مثالا، من ذلك النبع الفياض الواسع:
هذه الآية الكريمة تبين معجزةً من معجزات سيدنا سليمان عليه السلام. وهي تسخير الريح له، أي إنّه قد قطع في الهواء ما يُقطع في شهرين في يوم واحد. فالآية تشير إلى أن الطريق مفتوح أمام البشر لقطع مثل هذه المسافة في الهواء.
فيا أيها الإنسان! حاول أن تبلغ هذه المرتبة، واسعَ للدنو من هذه المنـزلة ما دام الطريق ممهدا أمامك.
فكأن الله سبحانه وتعالى يقول في معنى هذه الآية الكريمة: إن عبدا من عبادي ترك هوى نفسه، فحملتُه فوق متون الهواء. وأنت أيها الإنسان! إن نبذتَ كسل النفس وتركته، واستفدت جيدا من قوانين سنتي الجارية في الكون، يمكنك أيضا أن تمتطي صهوة الهواء.
ومثلا: ﴿ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ﴾ (البقرة:٦٠).
هذه الآية الكريمة تبيّن معجزة من معجزات سيدنا موسى عليه السلام، وهي تشير إلى أنه يمكن الاستفادة من خزائن الرحمة المدفونة تحت الأرض بآلات بسيطة، بل يمكن تفجير الماء، وهو ينبوع الحياة، من أرضٍ صلدة ميتة كالحجر بوساطة عصا.
فهذه الآية تخاطب البشرية بهذا المعنى: يمكنكم أن تجدوا الماء الذي هو ألطفُ فيض من فيوضات الرحمة الإلهية، بوساطة عصا، فاسعوا واعملوا بجد لتجدوه وتكشفوه.
فالله سبحانه يخاطب الإنسان بالمعنى الرمزي لهذه الآية: ما دمتُ أسلّم بيد عبدٍ يعتمد عليّ ويثق بي عصا، يتمكن بها أن يفجّر الماء أينما شاء. فأنت أيها الإنسان إن اعتمدتَ على قوانين رحمتي، يمكنك أيضا أن تخترع آلةً شبيهة بتلك العصا، أو نظيرة لها. فهيَّا اسعَ لتجد تلك الآلة
فأنت ترى كيف أنّ هذه الآية سبّاقة لإيجاد الآلة التي بها يتمكن الإنسان من استخراج الماء في أغلب الأماكن، والتي هي إحدى وسائل رقي البشرية. بل إنّ الآية الكريمة قد وضعت الخط النهائي لحدود استخدام تلك الآلة ومنتهى الغاية منها، بمثل ما عيّنت الآية الأولى أبعد النقاط النهائية، وأقصى ما يمكن أن تبلغ إليه الطائرة الحاضرة.
ومثلا: ﴿ وَاُبْرِئُ الْاَكْمَهَ وَالْاَبْرَصَ وَاُحْيِ الْمَوْتٰى بِاِذْنِ اللّٰهِ ﴾ (آل عمران:٤٩).
فالقرآن الكريم إذ يحث البشرية صراحة على اتباع الأخلاق النبوية السامية التي يتحلّى بها سيدنا عيسى عليه السلام، فهو يرغّب فيها ويحض عليها رمزا إلى النظر إلى ما بين يديه من مهنة مقدسة وطب رباني عظيم.
فهذه الآية الكريمة تشير إلى أنه يمكن أن يُعثر على دواء يشفي أشدَّ الأمراض المزمنة والعلل المستعصية، فلا تيأس أيها الإنسان، ولا تقنط أيها المبتلى المصاب. فكلُّ داء مهما كان، له دواء، وعلاجُه ممكن، فابحث عنه، وجِدْه، واكتشفه، بل حتى يمكن معالجة الموت نفسِه بلون من ألوان الحياة الموقتة.
فالله سبحانه يقول بالمعنى الإشاري لهذه الآية الكريمة: لقد وهبتُ لعبد من عبادي تَرَكَ الدنيا لأجلي، وعافَها في سبيلي، هديتين: إحداهما دواء للأسقام المعنوية، والأخرى علاج للأمراض المادية. فالقلوب الميتة تُبعَث بنور الهداية، والمرضى الذين هم بحكم الأموات يجدون شفاءهم بنفث منه ونفخ، فيبرؤون به. وأنت أيها الإنسان! بوسعك أن تجد في صيدلية حِكمتي دواء لكل داء يصيبك، فاسعَ في هذه السبيل، واكشف ذلك الدواء فإنك لا محالة واجده وظافر به.
وهكذا ترى كيف ترسم هذه الآيةُ الكريمة أقصى المدى وأبعدَ الأهداف التي يصبو إليها الطب البشري من تقدم. فالآية تشير إلى ذلك الهدف وتحث الإنسانَ على الوصول إليه.
ومثلا: ﴿ وَاَلَنَّا لَهُ الْحَد۪يدَ ﴾ (سبأ:١٠) ﴿ وَاٰتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ﴾ (ص:٢٠).
هاتان الآيتان تخصان معجزة سيدنا داود عليه السلام. والآية الكريمة: ﴿ وَاَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ﴾ (سبأ:١٢) تخص معجزة سيدنا سليمان عليه السلام. فهذه الآيات تشير إلى أن تليين الحديد نعمة إلهية عظمى، إذ يبيّن الله به فضلَ نبيٍ عظيم. فتليينُ الحديد وجعلهُ كالعجين، وإذابةُ النحاس وإيجادُ المعادن وكشفها هو أصل جميع الصناعات البشرية، وأساسها. وهو أمُّ التقدم الحضاري من هذا الجانب ومعدنه.
فهذه الآية تشير إلى النعمة الإلهية العظمى في تليين الحديد كالعجين وتحويله أسلاكا رفيعة، وإسالة النحاس، واللذان هما محور معظم الصناعات العامة، حيث وهبها الباري الجليل على صورة معجزة عظمى لرسول عظيم وخليفةٍ للأرض عظيم.
فما دام سبحانه قد كرّم مَن هو رسول وخليفة معا، فوهب للسانه الحكمة وفَصل الخطاب، وسلّم إلى يده الصنعة البارعة، وهو يحض البشرية على الإقتداء بما وهب للسانه حضا صريحا، فلابد أنّ هناك إشارةً ترغّب وتحضّ على ما في يده من صنعة ومهارة..
فسبحانه يقول بالمعنى الإشاري لهذه الآية الكريمة: يا بني آدم! لقد آتيتُ عبدا من عبادي أطاع أوامري وخضع لما كلّفته به، آتيت لسانَه فصل الخطاب، وملأتُ قلبَه حكمةً ليفصل كل شيء على بينة ووضوح. ووضعت في يده من الحقيقة الرائعة ما يكون الحديدُ كالشمع فيها، فيغيّر شكله كيفما يشاء، ويستمد منه قوة عظيمة لإرساء أركان خلافته وإدامة دولته وحُكمه. فما دام هذا الأمر ممكنا وواقعا فعلا، وذا أهمية بالغة في حياتكم الاجتماعية. فأنتم يا بني آدم إن أطعتم أوامري التكوينية تُوهَب لكم أيضا تلك الحكمة والصنعة، فيمكنكم بمرور الزمن أن تقتربوا منهما وتبلغوهما.
وهكذا فإنّ بلوغَ البشرية أقصى أمانيّها في الصناعة، وكسبَها القدرة الفائقة في مجال القوة المادية، إنما هو بتليين الحديد وبإذابة النحاس (القِطر). فهذه الآيات الكريمة تستقطب أنظار البشرية عامة إلى هذه الحقيقة، وتلفت نظر السالفين وكسالى الحاضرين إليها، فتنبّه أولئك الذين لا يقدرونها حق قَدرها.
ومثلا: ﴿ قَالَ الَّذ۪ي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ اَنَا۬ اٰت۪يكَ بِه۪ قَبْلَ اَنْ يَرْتَدَّ اِلَيْكَ طَرْفُكَۜ فَلَمَّا رَاٰهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ.. ﴾ (النمل:٤٠).
فهذه الآية تشير إلى أنّ إحضار الأشياء من مسافات بعيدة -عينا أو صورة- ممكن، وذلك بدلالتها على تلك الحادثة الخارقة التي وقعت في ديوان سيدنا سليمان عليه السلام، عندما قال أحدُ وزرائه الذي أوتي علما غزيرا في «علم التحضير»: أنا آتيك بعرش بلقيس. ولقد آتى الله سبحانه سيدنا سليمان عليه السلام المُلكَ والنبوة معا، وأكرمه بمعجزة يتمكن بها من الاطلاع المباشر بنفسه وبلا تكلف ولا صعوبة على أحوال رعاياه، ومشاهدة أوضاعهم، وسماع مظالمهم. فكانت هذه المعجزة مناط عصمته وصَونه من الشطط في أمور الرعية. وهي وسيلة قوية لبسط راية العدالة على أرجاء المملكة.
فمن يعتمد على الله سبحانه إذن ويطمئن إليه، ويسأله بلسان استعداداته وقابلياته التي فُطر عليها، وسار في حياته على وفق السنن الإلهية والعناية الربانية،
يمكن أن تتحول له الدنيا الواسعةُ كأنها مدينة منتظمة أمامَه كما حدث لسليمان عليه السلام، الذي طلب بلسان النبوة المعصومة إحضارَ عرش بلقيس فأحضر في طَرفة عَينٍ وصار ماثلا أمامه، بعينه أو بصورته، في بلاد الشام بعد أن كان في اليمن. ولاشك أنّ أصوات رجال الحاشية الذين كانوا حول العرش قد سُمعتْ مع مشاهدة صوَرهم.
فهذه الآية تشير إشارةً رائعة إلى إحضار الصور والأصوات من مسافات بعيدة. فالآية تخاطب: أيّها الحكام! ويا من تسلّمتم أمر البلاد! إن كنتم تريدون أن تسودَ العدالةُ أنحاءَ مملكتكم، فاقتدوا بسليمان عليه السلام واسعَوا مِثلهُ إلى مشاهدة ما يجري في الأرض كافة، ومعرفة ما يحدث في جميع أرجائها. فالحاكم العادل الذي يتطلع إلى بسط راية العدالة في ربوع البلاد، والسلطان الذي يرعى شؤون أبناء مملكته، ويشفق عليهم، لا يصل إلى مبتغاه إلّا إذا استطاع الإطلاع -متى شاء- على أقطار مملكته. وعندئذٍ تعمّ العدالة حقا، وينقذ نفسَه من المحاسبة والتَبِعَات المعنوية.
فالله سبحانه يخاطب بالمعنى الرمزي لهذه الآية الكريمة: يا بني آدم! لقد آتيتُ عبدا من عبادي حُكمَ مملكة واسعة شاسعة الأرجاء، ومنحتُه الإطلاع المباشر على أحوال الأرض وأحداثها ليتمكن من تطبيق العدالة تطبيقا كاملا. ولما كنتُ قد وهبتُ لكل إنسان قابلية فطرية ليكون خليفة في الأرض، فلا ريب أنّي قد زوّدتُه -بمقتضى حكمتي- ما يناسب تلك القابلية الفطرية، من مواهب واستعدادات يتمكن بها من أن يشاهد الأرض بأطرافها ويدرك منها ما يدرك. وعلى الرغم من أنّ الإنسان قد لا يبلغ هذه المرتبة بشخصه إلّا أنه يتمكن من بلوغها بنوعه. وإن لم يستطع بلوغها ماديا، فإنّه يبلغها معنويا، كما يحصل للأولياء الصالحين، فباستطاعتكم إذن الاستفادة من هذه النعمة الموهوبة لكم. فسارعوا إلى العمل الجاد واسعوا سعيا حثيثا كي تحوّلوا الأرضَ إلى ما يشبهُ حديقةً صغيرة غنّاء، تجولون فيها وترون جهاتها كلّها وتسمعون أحداثها وأخبارها من كل ناحية منها غير ناسين وظيفة عبوديتكم. تدبَّروا الآية الكريمة:
﴿ هُوَ الَّذ۪ي جَعَلَ لَكُمُ الْاَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا ف۪ي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِه۪ۜ وَاِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ (الملك:١٥).
وهكذا نرى كيف تومئ الآية الكريمة المتصدرة لهذا المثال إلى إثارة همّة الإنسان، وبعثِ اهتماماته لاكتشاف وسيلة يستطيع بها إحضار الصور والأصوات من أبعد الأماكن وأقصاها ضمن أدق الصناعات البشرية.
ومثلا:
﴿ وَاٰخَر۪ينَ مُقَرَّن۪ينَ فِي الْاَصْفَادِ ﴾ (ص:٣٨)،
﴿ وَمِنَ الشَّيَاط۪ينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذٰلِكَۚ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظ۪ينَ ﴾ (الأنبياء:٨٢)
هذه الآيات الكريمة تفيد تسخير سيدنا سليمان عليه السلام الجنّ والشياطين والأرواح الخبيثة، ومنعه شرورهم واستخدامهم في أمور نافعة. فالآيات تقول: إنّ الجن الذين يلون الإنسان في الأهمية في سكنى الأرض من ذوي الشعور، يمكن أن يُصبحوا خداما للإنسان، ويمكن إيجاد علاقة ولقاء معهم، بل يمكن للشياطين أن يضعوا عداءَهم مع الإنسان ويخدموه مضطرين كما سخّرهم الله سبحانه وتعالى لعبد من عباده المنقادين لأوامره.
بمعنى أنّ الله سبحانه يخاطب الإنسان بالمعنى الرمزي لهذه الآيات: أيها الإنسان! إني أسخّر الجن والشياطين وأشرارهم لعبدٍ قد أطاعني واجعلهم منقادين إليه مسخرين له، فأنتَ إن سخّرت نفسَك لأمري وأطعتني، قد تُسخّر لك موجودات كثيرة بل حتى الجن والشياطين .
فالآية الكريمة تخط أقصى الحدود النهائية، وتعيّن أفضل السبل القويمة للانتفاع، بل تفتح السبيل أيضا إلى تحضير الأرواح ومحادثة الجن، الذي ترشحَ من امتزاج فنون الإنسان وعلومه، وتظاهرَ مما تنطوي عليه من قوى ومشاعر فوق العادة، المادية منها والمعنوية. ولكن ليس كما عليه الأمر في الوقت الحاضر حيث أصبح المشتغلون بهذه الأمور موضعَ استهزاء بل ألعوبة بيد الجن الذين ينتحلون أحيانا أسماءَ الأموات. وغدوا مسخّرين للشياطين والأرواح الخبيثة، وإنما يكون ذلك بتسخير أولئك بأسرار القرآن الكريم مع النّجاة من شرورهم.
ثم إن الآية الكريمة: ﴿ فَاَرْسَلْنَٓا اِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ﴾ (مريم:١٧).
هذه الآية وأمثالُها التي تشير إلى تمثّل الأرواح، وكذا الآيات المشيرة إلى جلب سيدنا سليمان عليه السلام للعفاريت وتسخيرهم له. هذه الآيات الكريمة مع إشارتها إلى تمثل الروحانيات فهي تشير إلى تحضير الأرواح أيضا. غير أنّ تحضير الأرواح الطيبة -المشار إليه في الآيات- ليس هو بالشكل الذي يقوم به المعاصرون من إحضار الأرواح إلى مواضع لَهوهم وأماكن ملاعبهم والذي هو هزْل رخيص واستخفاف لا يليق بتلك الأرواح الموقرة الجادة، التي تعمر عالما كله جدّ لا هَزْلَ فيه، بل يمكن تحضير الأرواح بمثل ما قام به أولياء صالحون لأمر جاد ولقصد نبيل هادف -من أمثال محي الدين بن عربي- الذين كانوا يقابلون تلك الأرواح الطيبة متى شاءوا، فأصبحوا هم منجذبين إليها ومنجلبين لها ومرتبطين معها ومن ثم الذهاب إلى مواضعها والتقرب إلى عالمها والاستفادة من روحانياتها. فهذا هو الذي تشير إليه الآيات الكريمة وتُشعر في إشارتها حضا وتشويقا للإنسان وتخطّ أقصى الحدود النهائية لمثل هذه العلوم والمهارات الخفية، وتعرض أجملَ صورهِ وأفضلَها.
ومثلا: ﴿ اِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْاِشْرَاقِ ﴾ (ص:١٨)، ﴿ يَا جِبَالُ اَوِّب۪ي مَعَهُ وَالطَّيْرَۚ وَاَلَنَّا لَهُ الْحَد۪يدَ ﴾ (سبأ:١٠) ﴿ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ.. ﴾ (النمل:١٦)
هذه الآيات الكريمة التي تذكر معجزات سيدنا داود عليه السلام، تدل على أنّ الله سبحانه قد منح تسبيحاتِه وأذكارَه من القوة العظيمة والصوت الرخيم والأداء الجميل ما جعل الجبالَ في وجدٍ وشوق، وكأنها حاكٍ عظيم تردّد تسبيحاتٍ وأذكارا. أو كأنها إنسان ضخم يُسبّحُ في حلقة ذكر حول رئيس الحلقة.
- أتُراك هذه حقيقة؟ وهل يمكن أن يحدث هذا فعلا؟!.
- نعم، إنها لحقيقة قاطعة، أليس كلُّ جبل ذي كهوف يمكن أن يتكلم مع كل إنسان بلسانه، ويردّد كالببغاء ما يذكره؟ فإن قلت: «الحمد لله» أمام جبل، فهو يقول أيضا: «الحمد لله» وذلك برَجع الصدى.. فما دام الله سبحانه وتعالى قد وهب هذه القابلية للجبال، فيمكن إذن أن تنكشف هذه القابلية وتنبسط أكثرُ من هذا.
وحيث إنّ الله سبحانه قد خصّ سيدنا داود عليه السلام بخلافة الأرض فضلا عن رسالته، فقد كشف بذرةَ تلك القابلية لديه ونماها وبسطها بسطا معجزا عنده، بما يلائم شؤونَ الرسالة الواسعة والحاكمية العظيمة، حتى غدت الجبال الشمّ الرواسي منقادة إليه كأيٍّ جندي مطيع لأمره، وكأيِّ صانع أمين لديه، وكأيِّ مريد خاشع لذكره. فأصبحت تلك الجبالُ تسبّح بحمد الخالق العظيم جلّ جلاله بلسانه عليه السلام وبأمره. فما كان سيدنا داود يذكر ويسبّح إلّا والجبال تردّد ما يذكره.
نعم، إنّ القائد في الجيش يستطيع أن يجعل جنوده المنتشرين على الجبال يرددون: «الله أكبر» بما لديه من وسائل الاتصال والمخابرات، حتى كأنّ تلك الجبال هي التي تتكلم وتهلل وتكبر! فَلئن كان قائدا من الإنس يستطيع أن يستنطق «مجازيا» الجبال بلسان ساكنيها، فكيف بقائد مهيب لله سبحانه وتعالى؟
ألا يستطيع أن يجعل تلك الجبال تنطق نطقا «حقيقيا» وتُسبِّح تسبيحا حقيقيا؟. هذا فضلا عن أننا قد بينا في «الكلمات» السابقة أنّ لكل جبل شخصيةً معنويةً خاصةً به، وله تسبيح خاص ملائم له، وله عبادة مخصوصة لائقة به. فمثلما يُسبّح كل جبل برجْع الصَّدى بأصوات البشر، فإنّ له تسبيحاتٍ للخالق الجليل بألسنتِهِ الخاصة.
وكذلك: ﴿ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ﴾ (ص:١٩) و ﴿ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ.. ﴾ (النمل:١٦)..
هذه الآيات تبين أنّ الله سبحانه قد علّم سيدنا داود وسليمان عليهما السلام منطق أنواع الطيور، ولغة قابلياتها واستعداداتها، أي أيُّ الأعمال تناسبها؟ وكيف يمكن الاستفادة منها؟
نعم، هذه الحقيقة هي الحقيقة الجليلة، إذ ما دام سطح الأرض مائدةً رحمانيةً أقيمتْ تكريما للإنسان، فيمكن إذن أن تكون معظمُ الحيوانات والطيور التي تنتفع من هذه المائدة مسخّرةً للإنسان، ضمن تصرفه وتحت خدمته. فالإنسان الذي استخدم النحل ودودة القز -تلكم الخَدَمة الصَّغار- وانتفع مما لديهم من إلهام إلهي، والذي استعمل الحمامَ الزاجل في بعض شؤونه وأعماله، واستنطق الببغاء وأمثالَه من الطيور، فضمَّ إلى الحضارة الإنسانية محاسنَ جديدة، هذا الإنسان يمكنه أن يستفيد إذن كثيرا إذا ما عَلِم لسان الاستعداد الفطري للطيور، وقابليات الحيوانات الأخرى، حيث هي أنواع وطوائفُ كثيرة جدا، كما استفاد من الحيوانات الأليفة. فمثلا: إذا عَلِم الإنسان لسانَ استعداد العصافير «من نوع الزرازير» التي تتغذى على الجراد ولا تدعها تنمو، وإذا ما نسّق أعمالَها فإنّه يمكن أن يسخّرَها لمكافحة آفة الجراد. فيكون عندئذٍ قد انتفع منها واستخدمها مجانا في أمور مهمة.
فمثل هذه الأنواع من استغلال قابليات الطيور والانتفاع منها، واستنطاق الجمادات من هاتف وحاكٍ، تخط له الآية الكريمة المذكورة المدى الأقصى والغايةَ القُصوى.
فيقول الله سبحانه بالمعنى الرمزي لهذه الآيات الكريمة:
يا بني الإنسان! لقد سخرتُ لعبدٍ من بني جنسكم، عبد خالص مخلص، سخرتُ له مخلوقات عظيمة في مُلكي وأنطقتُها له، وجعلتها خُدَّاما أمناء وجنودا مطيعين له، كي تُعصَمَ نبوّتُه، وتُصان عدالتُه في ملكه ودولته. وقد آتيتُ كلا منكم استعدادا ومواهبَ ليصبح خليفة الأرض، وأودعتُ فيكم أمانةً عُظمى، أبَتِ السماواتُ والأرضُ والجبالُ أن يحملنَها، فعليكم إذن أن تنقادوا وتخضعوا لأوامر مَن بيده مقاليدُ هذه المخلوقات وزمامُها، لتنقاد إليكم مخلوقاتُه المبثوثة في ملكه. فالطريق ممهَّد أمامكم إن استطعتم أن تقبضوا زِمام تلك المخلوقات باسم الخالق العظيم، وإذا سمَوتم إلى مرتبة تليق باستعداداتكم ومواهبكم.
فما دامت الحقيقة هكذا فاسعَ أيَّها الإنسان أن لا تنشغل بِلهوٍ لا معنى له، وبلعبٍ لا طائلَ من ورائه، كالانشغال بالحاكي والحمَام والببغاء.. بل اسعَ في طلب لَهوٍ من ألطفِ اللهو وأزكاه، وتَسلَّ بتسلية هي من ألذِّ أنواع التسلية.. فاجعل الجبال كالحاكي لأذكارك، كما هي لسيدنا داود عليه السلام، وشنّف سمعك بنغمات ذِكرٍ وتسبيح الأشجار والنباتات التي تُخرج أصواتا رقيقة عذبة بمجرد مَسِّ النسيم لها وكأنها أوتارُ آلاتٍ صوتية.. فبهذا الذِّكر العُلويِّ تُظهر الجبالُ لك ألوفا من الألسنة الذاكرة المسبِّحة، وتبرز أمامكَ في ماهية عجيبة من أعاجيب المخلوقات. وعندئذٍ تتزيا معظم الطيور وتَلبَسُ -كأنها هدهدُ سليمان- لباسَ الصديق الحميم والأنيس الودود، فتصبح خداما مطيعين لك. فتُسلّيك أيَّما تسلية، وتُلهيك لهوا بريئا لا شائبة فيه، فضلا عن أنّ هذا الذكر السَّامي يسوقك إلى انبساط قابلياتٍ ومواهبَ كانت مغمورةً في ماهيتك، فَتَحُولُ بينك وبين السقوط من ماهية الإنسان السامية ومقامه الرفيع، فلا تجذبك بَعدُ أضراب اللهو التي لا مغزى لها إلى حضيض الهاوية.
ومثلا: ﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُون۪ي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلٰٓى اِبْرٰه۪يمَ ﴾ (الأنبياء:٦٩).
هذه الآية الكريمة تبين معجزة سيدنا إبراهيم عليه السلام، وفيها ثلاث إشارات لطيفة:
أولاها: النار -كسائر الأسباب- ليس أمرها بيدها، فلا تعمل كيفما تشاء حسب هواها وبلا بصيرة، بل تقوم بمهمتها وفق أمر يُفرض عليها. فلم تُحرق سيدَنا إبراهيم لأنّها أُمرَت بعدم الحرق.
ثانيتُها: إنّ للنار درجة تحرق ببرودتها، أيْ تؤثر كالاحتراق. فالله سبحانه يخاطب البرودة بلفظة: «سلاما» ([8]) بأن لا تحرقي أنتِ كذلك إبراهيم، كما لم تحرقه الحرارة. أي إنّ النار في تلك الدرجة تؤثر ببرودتها كأنّها تحرق، فهي نار وهي برد.
نعم إنّ النار -كما في علم الطبيعيات- لها درجات متفاوتة، منها درجة على صورة نار بيضاء لا تنشر حرارتها بل تكسب مما حولها من الحرارة، فتجمد بهذه البرودة ما حولها من السوائل، وكأنها تحـرق ببرودتها. وهكذا الزمهرير لون من ألوان النار تحرق ببرودتها، فوجودُه إذن ضروري في جهنم التي تضم جميع درجات النار وجميع أنواعها.
ثالثتُها: مثلما الإيمان الذي هو «مادة معنوية» يمنع مفعول نار جهنم، وينجي المؤمنين منها. وكما أنّ الإسلام درع واقٍ وحصن حصين من النار، كذلك هناك «مادة مادية» تمنع تأثير نار الدنيا، وهي درع أمامها، لأنّ الله سبحانه يجري إجراءاته في هذه الدنيا، التي هي دار الحكمة، تحت ستار الأسباب. وذلك بمقتضى اسمه «الحكيم»، لذا لم تحرق النار جسمَ سيدنا إبراهيم عليه السلام مثلما لم تحرق ثيابَه وملابسه أيضا. فهذه الآية ترمز إلى:
«يا ملة إبراهيم! اقتدوا بإبراهيم، كي يكون لباسُكم لباسَ التقوى وهو لباس إبراهيم، وليكون حصنا مانعا ودرعا واقيا في الدنيا والآخرة تجاه عدوكم الأكبر، النار. فلقد خبَّأ سبحانه لكم موادا في الأرض تحفظكم من شر النار، كما يقيكم لباس التقوى والإيمان الذي ألبستموه أرواحكم، شر نار جهنم.. فهلمّوا واكتشفوا هذه المواد المانعة من الحرارة واستخرجوها من باطن الأرض والبسوها». وهكذا وجد الإنسان حصيلة بحوثه واكتشافاته مادة لا تحرقها النار، بل تقاومها فيمكنه أن يصنع منها لباسا وثيابا.
فقارن هذه الآية الكريمة، وقِسْ مدى سموّها وعلوّها على اكتشاف الإنسان للمادة المضادة للنار، واعلم كيف أنها تدل على حلّة قشيبة نُسجت في مصنع «حنيفا مسلما» لا تتمزق ولا تَخلق وتبقى محتفظة بجمالها وبهائها إلى الأبد.
ومثلا: ﴿ وَعَلَّمَ اٰدَمَ الْاَسْمَٓاءَ كُلَّهَا ﴾ (البقرة:٣١)
تبيّن هذه الآية أنّ المعجزة الكبرى لآدم عليه السلام، في دعوى خلافته الكبرى، هي تعليم الأسماء.
فمثلما ترمز معجزاتُ سائر الأنبياء إلى خارقة بشرية خاصة لكل منهم، فإن معجزة أبي الأنبياء وفاتحِ ديوان النبوة آدم عليه السلام، تشير إشارة قريبة من الصراحة إلى منتهى الكمال البشري، وذروة رقيّه، وإلى أقصى أهدافه،
فكأنّ الله سبحانه يقول بالمعنى الإشاري لهذه الآية الكريمة:
يا بني آدم!.. إنّ تفوّق أبيكم آدم في دعوى الخلافة على الملائكة كان بما علمتُه الأسماءَ كلَّها، وأنتم بنوه ووارثو استعداداته، ومواهبه فعليكم أن تتعلموا الأسماء كلها لتُثبتوا جدارتكم أمام المخلوقات لتسنّم الأمانة العظمى، فلقد مُهّد الطريق أمامَكم لبلوغ أسمى المراتب العالية في الكون، وسُخّرت لكم الأرض، هذه المخلوقة الضخمة. فهيَّا انطلقوا وتقدموا، فالطريق مفتوح أمامكم.. واستمسكوا بكل اسم من أسمائي الحسنى، واعتصموا به، لتسموا وترتفعوا.
واحذروا! فلقد أغوى الشيطانُ أباكم مرة واحدة، فهبط من الجنة -تلك المنـزلة العالية- إلى الأرض موقتا. فإياكم أن تتبعوا الشيطان في رقيكم وتقدمكم، فيكون ذريعة ترديكم من سماوات الحكمة الإلهية إلى ضلالة المادية الطبيعية.. ارفعوا رؤوسكم عاليا، وانعموا النظر والفكر في أسمائي الحسنى، واجعلوا علومَكم ورقيّكم سُلّما ومراقي إلى تلك السماوات، لتبلغوا حقائق علومكم وكمالكم، وتصلوا إلى منابعها الأصلية، تلك هي أسمائي الحسنى. وانظروا بمنظار تلك الأسماء ببصيرة قلوبكم إلى ربكم.
بيان نكتة مهمة وإيضاح سرّ أهم
إن كل ما ناله الإنسان -من حيث جامعية ما أودع الله فيه من استعدادات- من الكمال العلمي والتقدم الفني، ووصولِه إلى خوراق الصناعات والاكتشافات، تعبّر عنه الآية الكريمة بتعليم الأسماء:
﴿ وَعَلَّمَ اٰدَمَ الْاَسْمَٓاءَ كُلَّهَا ﴾. وهذا التعبير ينطوي على رمز رفيع ودقيق، وهو: أن لكلِّ كمالٍ، ولكل علمٍ، ولكل تقدم، ولكل فن -أيا كان- حقيقة سامية عالية. وتلك الحقيقة تستند إلى اسم من الأسماء الحسنى، وباستنادها إلى ذلك الاسم -الذي له حُجُب مختلفة، وتجليات متنوعة، ودوائر ظهور متباينة- يجد ذلك العلمُ وذلك الكمال وتلك الصنعة، كل منها كمالَه، ويُصبح حقيقةً فعلا، وإلّا فهو ظل ناقص مبتور باهت مشوّش.
فالهندسة -مثلا- علم من العلوم، وحقيقتُها وغاية منتهاها هي الوصول إلى اسم «العدل» و«المقدِّر» من الأسماء الحسنى، وبلوغُ مشاهدة التجليات الحكيمة لذلك الاسم بكل عظمتها وهيبتها في مرآة علم «الهندسة».
والطب -مثلا- علم ومهارة ومهنة في الوقت نفسه، فمنتهاه وحقيقتُه يستند أيضا إلى اسم من الأسماء الحسنى وهو «الشافي». فيصل الطبُّ إلى كماله ويُصبح حقيقةً فعلا بمشاهدة التجليات الرحيمة لاسم «الشافي» في الأدوية المبثوثة على سطح الأرض الذي يمثل صيدليةً عظمى.
والعلوم التي تبحث في حقيقة الموجودات -كالفيزياء والكيمياء والنبات والحيوان ..- هذه العلوم التي هي «حكمة الأشياء» يمكن أن تكون حكمةً حقيقية بمشاهدة التجليات الكبرى لاسم الله «الحكيم» جلَّ جلالُه في الأشياء، وهي تجليات تدبير، وتربية، ورعاية. وبرؤية هذه التجليات في منافع الأشياء ومصالحها تصبح تلك الحكمة حكمةً حقا، أي باستنادها إلى ذلك الاسم «الحكيم» وإلى ذلك الظهير تصبح حكمة فعلا، وإلّا فإمَّا أنها تنقلب إلى خرافات وتصبح عبثا لا طائل من ورائها، أو تفتح سبيلا إلى الضلالة، كما هو الحال في الفلسفة الطبيعية المادية.
فإليك الأمثلة الثلاثة كما مرت.. قِسْ عليها بقية العلوم والفنون والكمالات..
وهكذا يضرب القرآن الكريم بهذه الآية الكريمة يدَ التشويق على ظهر البشرية مشيرا إلى أسمى النقاط وأبعد الحدود وأقصى المراتب التي قصُرت كثيرا عن الوصول إليها في تقدمها الحاضر، وكأنّه يقول لها: هيَّا تقدمي.
نكتفي بهذا الجوهر النفيس من الخزينة العظمى لهذه الآية الكريمة، ونغلق هذا الباب.
ومثلا: إنّ خاتم ديوان النبوة، وسيدَ المرسلين، الذي تعدّ جميعُ معجزات الرسل معجزة واحدة لتصديق دعوى رسالته، والذي هو فخرُ العالمين، وهو الآية الواضحة المفصلة لجميع مراتب الأسماء الحسنى كلّها التي علَّمها الله سبحانه آدمَ عليه السلام تعليما مجملا.. ذلكم الرسول الحبيب محمد ﷺ الذي رفع إصبعه عاليا بجلال الله فشقَّ القمرَ، ([9]) وخَفَضَ الإصبعَ المباركَ نفسَه بجمال الله ففجَّرَ ماءً كالكوثر.. ([10]) وأمثالُها من المعجزات الباهرات التي تزيد على الألف.. هذا الرسول الكريم ﷺ أظهرَ القرآنَ الكريم معجزةً كبرى تتحدى الجنّ والإنس: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْاِنْسُ وَالْجِنُّ عَلٰٓى اَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هٰذَا الْقُرْاٰنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِه۪ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَه۪يرًا ﴾ (الإسراء:٨٨). فهذه الآية الكريمة وأمثالها من الآيات تجلب أنظار الإنس والجن إلى أبرز وجوه الإعجاز في هذه المعجزة الخالدة وأسطعِها، فتلفتُها إلى ما في بيانه -الحق والحقيقةَ- من جزالةٍ، وإلى ما في تعابيره من بلاغةٍ فائقة، والى ما في معانيه من جامعيةٍ وشمول، والى ما في أساليبه المتنوعة من سموٍ ورفعة وعذوبة..
فتحدّى القرآنُ المعجز، وما زال كذلك يتحدى الإنس والجن قاطبة، مثيرا الشوق في أوليائه، محركا ساكنَ عناد أعدائه، دافعا الجميع إلى تقليده، بشوق عظيم وترغيب شديد، للإتيان بنظيره،بل إنّه سبحانه يضع هذه المعجزة الكبرى أمام أنظار الأنام في موقع رفيع لكأن الغاية الوحيدة من مجيء الإنسان إلى هذه الدنيا ليست سوى اتخاذه تلك المعجزةَ العظمى دستورَ حياته، وغايةَ مناه.
نخلص مما تقدم: أنّ كل معجزة من معجزات الأنبياء عليهم السلام تشير إلى خارقة من خوارق الصناعات البشرية. أمّا معجزة سيدنا آدم عليه السلام فهي تشير إلى فهرس خوارق العلوم والفنون والكمالات، وتشوّق إليها جميعا مع إشارتها إلى أسس الصنعة إشارة مجملة مختصرة.
أما المعجزة الكبرى للرسول الأعظم ﷺ وهي القرآن الكريم ذو البيان المعجِر، فلأنّ حقيقةَ تعليم الأسماء تتجلى فيه بوضوح تام، وبتفصيل أتمّ، فإنّه يبين الأهداف الصائبة للعلوم الحقة وللفنون الحقيقية، ويُظهر بوضوح كمالات الدنيا والآخرة وسعادتهما، فيسوق البشر إليها ويوجّهه نحوَها، مثيرا فيه رغبة شديدة فيها، حتى إنّه يبين بأسلوب التشويق أنْ أيها الإنسان!
إن المقصد الأسمى من خلق هذا الكون هو قيامُك أنت بعبودية كلّية تجاه تظاهر الربوبية، وإنّ الغاية القصوى من خلقك أنت هي بلوغُ تلك العبودية بالعلوم والكمالات.
فيعبّر بتعابير متنوعة رائعة معجزة مشيرا بها إلى أنّ البشرية في أواخر أيامها على الأرض ستنساب إلى العلوم، وتنصبّ إلى الفنون، وستستمد كل قواها من العلوم والفنون فيتسلم العلمُ زمام الحكم والقوة.
ولما كان القرآن الكريم يسوق جزالة البيان وبلاغة الكلام مقدّما ويكررهما كثيرا، فكأنّه يرمز إلى أنّ البلاغة والجزالة في الكلام، وهما من أسطع العلوم والفنون، سيلبسان أزهى حُللهما وأروعَ صوَرهما في آخر الزمان، حتى يغدو الناس يستلهمون أمضى سلاحهم من جزالة البيان وسِحره، ويستلمون أرهبَ قوتهم من بلاغة الأداء؛ وذلك عند بيان أفكارهم ومعتقداتهم لإقناع الآخرين بها، أو عند تنفيذ آرائهم وقراراتهم..
نحصل مما سبق: أنّ أكثر الآيات الكريمة إنما هي مفتاح لخزينة كمال فائق، ولكنـز علمي عظيم.
فإن شئتَ أن تبلغ سماوات القرآن الكريم ونجومَ الآيات فاجعل (الكلمات العشرين السابقة) عشرينَ درجا لسلم الوصول إليها، ([11]) وشاهد بها مدى سطوع شمس القرآن العظيم، وتأمّل كيف ينشر القرآنُ نورَه باهرا على حقيقة الألوهية وحقائق الموجودات، والمخلوقات، وكيف ينشر الضياء الساطع على كل الموجودات.
النتيجة: ما دامت الآيات التي تخص معجزات الأنبياء عليهم السلام لها نوع من الإشارة إلى خوارق التقدم العلمي والصناعي الحاضر، ولها طراز من التعبير كأنّه يخط أبعد الحدود النهائية لها.. وحيث إنّه ثابت قطعا أنّ لكل آيةٍ دلالات على معانٍ شتى بل هذا متفق عليه لدى العلماء.. ولما كان هناك أوامر مطلقة لاتباع الأنبياء عليهم السلام والإقتداء بهم، لذا يصح القول: إنّه مع دلالة الآيات المذكورة سابقا على معانيها الصريحة هناك دلالات مشوّقة بأسلوب الإشارة إلى أهم العلوم البشرية وصناعاتها.
جوابان مهمان عن سؤالين مهمين
أحدهما:
إذا قلت: لما كان القرآن الكريم قد نـزل لأجل الإنسان، فلِم لا يصرّح بما هو المهم في نظره من خوارق المدنية الحاضرة؟ وإنّما يكتفي برمز مستتر، وإيماء خفي، وإشارة خفيفة، وتنبيه ضعيف فحسب؟
فالجواب: إنّ خوارق المدنية البشرية لا تستحق أكثر من هذا القدر، إذ إنّ الوظيفة الأساسية للقرآن الكريم هي تعليم شؤون دائرة الربوبية وكمالاتها، ووظائف دائرة العبودية وأحوالها. لذا فإنّ حق تلك الخوارق البشرية وحصتَها من تلك الدائرتين مجردُ رمزٍ ضعيف وإشارةٍ خفية ليس إلّا.. فإنّها لو ادّعت حقوقَها من دائرة الربوبية، فعندها لا تحصل إلّا على حق ضئيل جدا.
فمثلا: إذا طالبتْ الطائرةُ البشرية ([12]) القرآن الكريم قائلة: اعطني حقا للكلام، وموقعا بين آياتك. فإن طائرات دائرة الربوبية، تلك الكواكب السيّارة والأرض والقمر، ستقول بلسان القرآن الكريم: إنّكِ تستطيعين أن تأخذي مكانكِ هنا بمقدار جِرمك لا أكثر.
وإذا أرادت الغوّاصة البشرية موقعا لنفسها بين الآيات الكريمة فستتصدى لها غواصات تلك الدائرة؛ التي هي الأرض السابحة في محيط الهواء، والنجوم العائمة في بحر الأثير قائلة: إن مكانك بيننا ضئيل جدا يكاد لا يُرى!.
وإذا أرادت الكهرباء أن تدخل حرَم الآيات بمصابيحها اللامعة أمثال النجوم، فإنّ مصابيح تلك الدائرة التي هي الشموس والشُّهب والأنجم المزيّنة لوجه السماء، ستردّ عليها قائلة: إنّكِ تستطيعين أن تدخلي معنا في مباحث القرآن وبيانه بمقدار ما تمتلكين من ضوء!
ولو طالبت الخوارق الحضارية -بلسان صناعاتها الدقيقة- بحقوقها وأرادت لها مقاما بين الآيات.. عندها ستصرخ ذبابة واحدة بوجهها قائلة: اسكتوا.. فليس لكم حق. ولو بمقدار أحد جناحَيّ هذين! ولئن اجتمع كلّ ما فيكم من المصنوعات والاختراعات -التي اكتُشفت اكتسابا بإرادة الإنسان الجزئية- مع جميع الآلات الدقيقة لديكم، لن تكون أعجبَ بمقدار ما في جسمي الصغير جدا من لطائف الأجهزة ودقائق الصنعة. وإنّ هذه الآية الكريمة تبهتكم جميعا:
﴿ اِنَّ الَّذ۪ينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّٰهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُۜ وَاِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْـًٔا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُۜ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ﴾ (الحج:٧٣).
وإذا ذهبت تلك الخوارقُ إلى دائرة العبودية وطلبت منها حقَّها فستتلقى منها مثل هذا الجواب: إنّ علاقتكم معنا واهية وقليلة جدا، فلا يمكنكم الدخول إلى دائرتنا بسهولة، لأنّ منهجَنا هو: أنّ الدنيا دار ضيافة، وأنّ الإنسان ضيف يلبث فيها قليلا، وله وظائف جمّة، وهو مكلف بتحضير وتجهيز ما يحتاجه لحياته الأبدية الخالدة في هذا العمر القصير، لذلك يجب عليه أن يقدّم ما هو الأهم والألزم.
إلّا أنّه تبدو عليكم -على اعتبار الأغلبية- ملامح نُسجت بحبّ هذه الدنيا الفانية تحت أستار الغفلة واللهو، وكأنها دار للبقاء ومستقر للخلود. لذا فإن حظكم من دائرة العبودية المؤسّسة على هدى الحق والتفكر في آثار الآخرة قليل جدا.
ولكن.. إن كان فيكم -أو من ورائكم- من الصنّاع المهَرة والمخترعين الملهمين -وهم قلة- وكانوا يقومون بأعمالهم مخلصين لأجل منافع عباد الله -وهي عبادة ثمينة- ويبذلون جهدَهم للمصلحة العامة وراحتهم لرقيّ الحياة الاجتماعية وكمالِها، فإنّ هذه الرموز والإرشادات القرآنية كافية بلا ريب لأولئك الذوات المرهفي الإحساس، ووافية لتقدير مهاراتهم وتشويقهم إلى السعي والاجتهاد.
السؤال الثاني:
وإذا قلت: لم تبقَ لديّ الآن بعد هذا التحقيق شبهة. فقد ثبت عندي بيقين وصدّقتُ أنّ القرآن الكريم فيه جميعُ ما يلزم السعادة الدنيوية والأخروية -كلّ حسب قيمته وأهميته- فهناك رموز وإشارات إلى خوارق المدنية الحاضرة، بل إلى أبعد منها من الحقائق الأخرى مع ما فيه من حقائق جليلة. ولكن لِمَ لم يذكر القرآن الكريم تلك الخوراق بصراحةٍ تامة كي تُجبر الكفرةَ العنيدين على التصديق والإيمان وتُطمئنَ قلوبَنا فتستريح؟.
الجواب: إنّ الدِّين امتحان، وإنّ التكاليف الإلهية تجربة واختبار من أجل أن تتسابق الأرواحُ العالية والأرواح السافلة، ويتميز بعضُها عن بعض في حلبة السباق. فمثلما يُختبر المعدن بالنار ليتميز الألماس من الفحم والذهب من التراب، كذلك التكاليف الإلهية في دار الامتحان هذه. فهي ابتلاء وتجربة وسَوق للمسابقة، حتى تتميز الجواهرُ النفيسة لمعدن قابليات البشر واستعداداته من المعادن الخسيسة.
فما دام القرآن قد نزل، في دار الابتلاء هذه، بصورة اختبار للإنسان؛ ليتم تكاملُه في ميدان المسابقة، فلابد أنّه سيشير -إشارةً فحسب- إلى هذه الأمور الدنيوية الغيبية التي ستتوضح في المستقبل للجميع، فاتحا للعقل بابا بمقدار إقامة حجَّته. وإلاّ فلو ذكرَها القرآن الكريم صراحة، لاختلّتْ حكمةُ التكليف إذ تصبح بديهية، مثل كتابة «لا إله إلّا الله» واضحا بالنجوم على وجه السماء، والذي يجعل الناس -أرادوا أم لم يريدوا- عندئذ مرغَمين على التصديق، فما كانت ثمةَ مسابقة ولا اختبار ولا تمييز، فحينئذٍ تتساوى الأرواحُ السافلة التي هي كالفحم مع التي هي كالألماس. ([13])
والخلاصة: أنّ القرآن العظيم، حكيم يعطي لكل شيء قدرَه من المقام، ويرى القرآنُ من ثمرات الغيب التقدمَ الحضاري البشري قبل ألفٍ وثلاثمائة سنة المستترة في ظلمات المستقبل، أفضلَ وأوضحَ مما نراها نحن وسنراها.
فالقرآن إذن كلامُ مَن ينظر إلى كل الأزمنة، بما فيها من الأمور والأشياء في آن واحد..
فتلك لمعة من الإعجاز القرآني، تلمع في وجه معجزات الأنبياء.
اَللّهمَّ فَـهِّمنا أسْرَارَ الْقُرآنِ وَوفِّقْنا لِخدْمَتِهِ في كلِّ آنٍ وَزَمانٍ.
سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَٓا اِلَّا مَا عَلَّمْتَنَاۜ اِنَّكَ اَنْتَ الْعَل۪يمُ الْحَك۪يمُ
رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَٓا اِنْ نَس۪ينَٓا اَوْ اَخْطَأْنَا
اَللّهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ وَكَرِّمْ عَلَى سَيِّدِنَا وَمَولَانَا مُحَمَّدٍ، عَبدِكَ وَنَبِيِّكَ وَرَسُولِكَ النّبِيِّ الْأمِّيِّ وَعَلَى آلِهِ وَأصْحَابِهِ وَأزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّاتِهِ وَعَلَى النّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وَالْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَالْأوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، أفْضَلَ صَلَاةٍ وَأزْكَى سَلَامٍ وَأنمَى بَرَكَاتٍ، بِعَدَدِ سُوَرِ الْقُرآنِ وَآيَاتِهِ وَحُرُوفِهِ وَكَلِمَاتِهِ وَمَعَانِيهِ وَإِشَارَاتِهِ وَرُمُوزِهِ وَدَلَالَاتِهِ، وَاغْفِر لَنَا وَارْحَمْنَا وَالْطُفْ بِنَا يَا إِلَهنَا، يَا خَالِقَنَا، بِكُلِّ صَلَاةٍ مِنهَا بِرَحْمَتِكَ يَا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ آمِينَ
- ↑ عم، إن حجر الزاوية لقصر الأرض المهيب السيار، هو طبقة الصخور، فقد أوكل إليها الفاطر الجليل ثلاث وظائف مهمة، والقرآن الكريم وحده القمين بأن يبين هذه الوظائف، لا غيره.
فوظيفتها الأولى: وظيفة مربية التراب في حجرها بالقدرة الإلهية، والتراب بدوره يؤدي وظيفة الأمومة للنباتات بالقدرة الربانية.. الوظيفة الثانية: العمل على جريان المياه جريانا منتظما في جسم الأرض، والذي يشبه جريان الدم ودورانه في جسم الإنسان.. الوظيفة الفطرية الثالثة: وظيفة الخزان للأنهار والعيون والينابيع، سواء في ظهورها أو استمرارها على وفق ميزان دقيق منتظم.
نعم، إن الصخور بكامل قوتها وبملء فمها بما تسكب من أفواهها من ماء باعث على الحياة تنشر دلائل الوحدانية على الأرض وتسطرها فوقها. (المؤلف) - ↑ انظر: البخاري، بدء الخلق ٦، مناقب الأنصار ٤٢، الأشربة ١٢؛ مسلم، الإيمان ٢٦٤؛ أحمد بن حنبل، المسند ١٦٤/٣، ٢٠٨/٤، ٢٠٩.
- ↑ عن أبى هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «سَيْحان وجَيحان والفرات والنيل كلّ من أنهار الجنة». مسلم، كتاب الجنة ٢٦؛ أحمد بن حنبل، المسند ٢٦٠/٢، ٢٨٩، ٤٤٠؛ الحميدي، المسند ٤٩١/٢؛ أبو يعلى، المسند ٣٢٧/١٠؛ الطبراني، المعجم الكبير ١٨/١٧.
- ↑ ينبع نهر النيل من جبل القمر، وينبع أهم رافد لدجلة من كهف صخرة في ناحية «مكس» التابعة لمحافظة «وان» وإن أعظم رافد لنهر الفرات ينبع من سفح جبل من جهة «ديادين». ولما كان أصل الجبال -حقيقة- متكونة من مادة مائعة تجمدت أحجارا كما هو ثابت في العلوم الحديثة، وكما يدل عليه الذكر النبوي في: «سبحان من بسط الأرض على ماء جَمَدْ» مما يدل دلالة قاطعة على أن أصل خلق الأرض على الوجه الآتي: إن مادة شبيهة بالماء قد انجمدت بالأمر الإلهي وأصبحت حجرا، والحجرُ أصبح ترابا بإذن إلهي، إذ لفظ الأرض الوارد في الذكر يعني التراب. بمعنى أن ذلك الماء (المادة المائعة) لين لطيف جدا بحيث لا يمكن استقرار شيء عليه. والحجر بذاته صلب جدا لا يمكن الاستفادة منه، لذا نشر الحكيم الرحيم التراب فوق الحجر ليكون مستقرا لذوي الحياة. (المؤلف)
- ↑ المقصود السنوات الأولى من الحرب العالمية الأولى.
- ↑ تشير هذه الجملة إلى أن الذي قيّد العالم الإسلامي، ووضعه في الأسر هو القطار، وبه غلب الكفار المسلمين. (المؤلف)
- ↑ إن جملة ﴿ يَكَادُ زَيْتُهَا يُض۪ٓيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌۜ نُورٌ عَلٰى نُورٍ ﴾ تضيء ذلك الرمز وتنوره. (المؤلف)
- ↑ يذكر أحد التفاسير أنه: لو لم يقل «سلاما» لكانت تحرق ببرودتها. (المؤلف)
- ↑ انظر: البخاري، تفسير سورة القمر ١، المناقب ٢٧؛ مسلم، صفة المنافقين ٤٦؛ الترمذي، تفسير سورة القمر ٥؛ أحمد بن حنبل، المسند ٢٠٧/٣، ٢٠، ٨٢/٤.
- ↑ انظر: البخاري، الوضوء ٣٢، المناقب ٢٥، الأشربة ٣١، المغازي ٣٥؛ مسلم، الزهد ٧٤، الفضائل ٥، ٦؛ الترمذي، المناقب ٦؛ النسائي، الطهارة ٦١.
- ↑ بل إن ثلاثا وثلاثين كلمة وثلاثةً وثلاثين مكتوبا وإحدى وثلاثين لمعة وثلاثة عشر شعاعا سلم ذو مائة وعشرين مرتبة للصعود. (المؤلف)
- ↑ لقد انساق القلم دون إرادتي في هذا الموضوع الجاد إلى هذا الحوار اللطيف فتركته وشأنه، على أمل ألّا يخل لطافة الأسلوب بجدية الموضوع. (المؤلف)
- ↑ فكان أن ظهر أبو جهل اللعين مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه في مستوىً واحد. ولضاع التكليف. (المؤلف)