الكلمة الثامنة
الكلمة الثامنة
بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
اَللّهُ لاَ اِلهَ اِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ (البقرة:255)
اِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ اْلاِسْلاَمُ (آل عمران:19)
إذا أردتَ أنْ تفهمَ ما الدنيا وما دَورُ الروحِ الإنسانيةِ فيها، وما قِيمةُ الدِّينِ عندَ الإنسانِ، وكيفَ أنَّه لولا الدِّينُ الحقُّ لتَحوَّلتِ الدنيا إلى سجنٍ رَهيبٍ، وأنَّ الشَّخصَ الملحِدَ هو أشقى المخلوقاتِ، وأنَّ الذي يحُلُّ طِلْسَمَ العالَمِ ولُغزَه المُحيِّرَ ويُنقِذُ الروحَ البشريَّةَ من الظلماتِ إنْ هو إلّا «يا الله».. «لا إله إلَّا الله».. أجل، إذا كنتَ تُريدُ أنْ تفهمَ كلَّ ذلك، فأنصِت إلى هذه الحكايةِ التَّمثِيليَّةِ القصيرةِ وتفكَّر فيها مليًا:
كان شَقيقانِ في قَديمِ الزَّمانِ يَذهَبانِ معا إلى سِياحةٍ طَويلةٍ، فواصَلا سيرَهما سَوِيَّةً إلى أن وصلا إلى مَفرِقِ طَريقَينِ، فرأيا هناكَ رجلا وَقُورًا فسألاه: «أيُّ الطريقينِ أفضلُ؟»، فأجابهما: «في طَريقِ اليَمينِ التزامٌ إجباريٌّ للقانونِ والنظامِ، إلّا أنَّ في ثنايا ذلك التَّكليفِ ثَمَّةَ أمانٌ وسَعادةٌ؛ أمَّا طريقُ الشِّمالِ ففيهِ الحُرِّيةُ والتَّحرُّرُ إلّا أنَّ في ثنايا تلك الحريّةِ تهلُكةً وشقاءً، والآن لكمُا الخَيارُ في سُلوكِ أيِّهِما».
وبعدَ الاستِماعِ إلى هذا الكلامِ سَلكَ الأخُ ذو الطبعِ الطَّيبِ طَريقَ اليَمينِ قائلا «توكَّلتُ على الله»، وانطلقَ راضيا عن طِيبِ نفسٍ باتِّباعِ النظامِ والانتِظامِ؛ أما الأخُ الآخرُ الغاوِي، فقد رجَّحَ طريقَ الشِّمال لمُجرَّدِ هوى التحرّرِ الذي فيه.
والآن فلْنتابع خيالًا هذا الرجلَ السائِرَ في طريقٍ ظاهرُه السُّهولةُ والخِفةُ وباطِنُه من قِبَلِه الثِّقلُ والعَناءُ، فما إن عبَر الوديانَ العمِيقةَ والمرتفعاتِ العاليةَ الوَعِرةَ حتى دخلَ وسَط مَفازةٍ خَاليةٍ وصَحراءَ مُوحِشةٍ، فسمعَ صوتا مخيفا، ورأى أنَّ أسَدا ضخما غَضوبًا قد انطلقَ من الأحراشِ نَحوَه، فَفرَّ منه فِرارًا وهو يَرتعِدُ خوفا وهَلَعًا، فصادَف بئرا مُعطَّلةً على عُمقِ سِتِّينَ ذِراعًا، فألقى نفسَه فيها طلَبا للنَّجاةِ؛ وفي أثناءِ السُّقوطِ لَقِيتْ يَداهُ شَجرةً فتَشبَّثَ بها، وكان لهذِه الشَّجرةِ جَذْرانِ نَبتاَ على جِدارِ البِئرِ وقد سُلِّطَ عليهِما فَأرانِ، أبْيضُ وأسْوَدُ وهما يَقضِمانِ ذينَكَ الجَذرَينِ بأسنانِهما الحادَّةِ؛ فنَظرَ إلى الأعلى فرأى الأسَدَ واقِفًا كالحارِسِ على فَوهَةِ البئرِ، ونظرَ إلى الأسْفلِ فرأى ثُعبانًا كبيرا جدا قد رفعَ رأسَه يريدُ الاقترابَ منه وهو على مَسافَةِ ثلاثينَ ذِراعًا، وله فمٌ واسِعٌ سَعةَ البِئرِ نَفسِها؛ ورأى ثَمّةَ حشراتٍ مُؤذيةً لاسِعةً تُحيطُ به، نظر إلى أعلى الشَّجرَةِ فرأى أنها شَجرَةُ تِينٍ، إلّا أنها تُثمِرُ بصورةٍ خَارقةٍ أنواعا مُختلِفةً وكثيرةً من فَواكهِ الأشجارِ ابتداءً من الجَوزِ وانتهاءً إلى الرُّمّانِ.
لم يكن هذا الرَّجلُ ليَفهمَ -لسوءِ إدراكِه وحَماقتِه- بأن هذا الأمرَ ليس اعتِيادِيًّا، ولا يمكن أن تأتي كلُّ هذه الأشياءِ مُصادَفةً ومن دونِ قَصدٍ؛ ولم يكن يَفهمُ أنّ في هذه الشُّؤونِ العجيبةِ أسرارًا غرِيبةً، وأن هناك وراءَ كلِّ ذلك مَن يُدبِّرُ هذه الأمورَ ويُسيِّرُها. فبينما يَبكِي قَلبُ هذا الرَّجلِ وتَصرُخُ روحُه ويحارُ عَقلُه من أوضاعِه الأليمةِ إذا بنفسِه الأمّارةِ بالسُّوءِ أخذتْ تَلتهِم فَواكِهَ تلك الشجرةِ متَجاهِلةً عما حولها وكأن شيئا لم يَحدُث، سَادَّةً أُذُنَيها عن صَرخاتِ القلبِ وهَواتفِ الرُّوحِ، خادِعةً نفسَها بنفسِها رغمَ أن قِسمًا من تلك الفواكِه كانت مَسمُومةً ومُضِرةً.
وهكذا نرَى أن هذا الرَّجلَ الشقِيَّ قد عُومِلَ بمثلِ ما جاءَ في الحديثِ القُدْسِيِّ «أنَا عِندَ ظَنِّ عَبْدِي بِي»(*[1]) أي أنا أُعامِل عَبدِي مثلما يَعرِفُني هو، فلقد عُومِل هكذا، وسيُعامَل مثلَها أيضا، بل لابدَّ أن يرَى مثلَ هذه المعامَلةِ جَزاءَ تَلقِّيهِ كلَّ ما يُشاهِدهُ أمرا عاديا بلا قَصدٍ ولا حِكمةٍ وكأنه الحقُّ بعينِه، وذلك لسُوءِ ظنِّه وبلاهتِه الخَرقاءِ، فصارَ يتقلَّبُ في نارِ العذابِ ولا يَستطِيعُ أن يموتَ ليَنجوَ ولا يَقدِرُ على العيشِ الكريمِ؛ ونحن بدَورِنا سنرجِع تاركِينَ وراءَنا ذلك المَشؤومَ يتلوَّى في عذابِه لنَعرِفَ ما جرَى للأخِ الآخرِ من أحوالٍ.
فهذا الرَّجلُ المبارَكُ ذو العَقلِ الرشِيدِ ما يزالُ يَقطعُ الطريقَ دون أن يُعانيَ الضِّيقَ كأخِيه، ذلك لأنه لا يُفكِّرُ إلّا في الأشياءِ الجميلةِ -لِما له من جَمالِ الخُلُقِ- ولا يَأخذُ بعِنانِ الخيالِ إلّا بما هو جمِيلٌ ولطِيفٌ، لذا كانَ يَستأنِسُ بنفسِه ولا يُلاقِي الصُّعوبةَ والمشقَّةَ كأخيه، ذلك لأنه يَعرِفُ النظامَ، ويعملُ بمقتضَى الولاءِ والاتِّباعِ، فيرى الأمورَ تَسهُلُ له، ويمضِي حُرًّا مُنطلِقا مُستظِلا بالأمانِ والاستِقرارِ؛ وهكذا مضَى حتى وجَدَ بستانًا فيه أزهارٌ جميلةٌ وفواكهُ لطيفةٌ وثمةَ جُثَثُ حيواناتٍ وأشياءُ منتِنةٌ مبَعثَرةٌ هنا وهناك بسبب إهمالِ النظافةِ. كان أخوه الشقِيُّ قد دخلَ -من قبلُ- في مثل هذا البستانِ أيضا غيرَ أنه انشَغَلَ بمُشاهَدَة الجِيَف الميتة وإنعامِ النظرِ فيها مما أشْعرَه بالغَثَيانِ والدُّوارِ، فغادرَه دون أن يأخذَ قِسطًا من الراحةِ لمواصلةِ السير؛ أما هذا الأخُ فعَملَ بقاعِدةِ «انظر إلى الأحسنِ من كلِّ شيءٍ» فقد أهْملَ الجِيَفَ ولم يَلتفِتْ إليها مُطلقًا، بل استفادَ مما في البستانِ من الأشياءِ والفَواكهِ، وبعدَما استَراحَ فيه الرَّاحةَ التّامّةَ مضى إلى سبيلِه.
ودَخلَ -هو أيضا كأخيهِ- في صحراءَ عظيمةٍ ومَفازةٍ واسِعةٍ، وفَجأةً سَمِعَ صَوتَ أسدٍ يَهجُمُ عليه فخافَ إلّا أنه دونَ خَوفِ أخيه، حيثُ فكَّر بحُسنِ ظنِّه وجَمالِ تَفكِيرهِ قائلا: «لابدَّ أن لهذهِ الصحراءِ حاكِما، فهذا الأسَدُ إذن يُحتَمَلُ أن يكونَ خادمًا أمينًا تحتَ إمرتِه»، فوَجدَ في ذلك اطمِئنانًا، غيرَ أنه فرَّ كذلك حتى وصَلَ وَجهًا لِوجهٍ إلى بئرٍ معطَّلةٍ بعُمقِ سِتِّينَ ذراعا فألقَى نفسَه فيها وأمسكَ -كصاحِبه- بشَجرةٍ في منتصفِ الطَّريقِ من البئرِ وبقيَ معلَّقًا بها، فرأى حَيوانَينِ اثنَينِ يَقطَعانِ جَذْرَيْ تلك الشجرةِ رُويْدًا رُوَيدًا، فنَظرَ إلى الأعلى فرأى الأسَدَ، ونظرَ إلى الأسفلِ فرأى ثُعبانًا ضَخما، ونظر إلى نفسه فوجدَها -كأخيه تماما- في وضع عَجيبٍ غريب، فَدُهِشَ من الأمرِ هو كذلك، إلّا أنه دونَ دَهشَة أخيه بألفِ مَرّةٍ، لِما منَحَه الله من حُسن الخُلُقِ وحُسنِ التفكير والفِكْرِ الجميلِ الذي لا يُريهِ إلّا الجِهةَ الجميلةَ من الأشياءِ؛
ولهذا السَّببِ فقد فكّرَ هكذا: «إن هذه الأمورَ العجيبةَ ذاتُ علاقاتٍ مُترابطةٍ بَعضِها ببَعضٍ، وإنّها لَتَظهرُ كأنَّ آمِرا واحدا يُحرِّكُها، فلا بدَّ إذن أن يكونَ في هذه الأعمالِ المُحيِّرةِ سِرٌّ مُغلقٌ وطلسمٌ غيرُ مَكشوفٍ.
أجل، إن كلَّ هذا يَرجِعُ إلى أوامرِ حاكمٍ خَفيٍّ، فأنا إذن لستُ وحِيدًا، بل إن ذلك الحاكِمَ الخفيَّ ينظرُ إليَّ ويَرعانِي ويَختبِرُني، ولحِكمةٍ مَقصودةٍ يسوقني إلى مكانٍ، ويَدعُونِي إليهِ».
فنَشأَ لدَيهِ من هذا التَّفكيرِ الجميلِ والخَوفِ اللذيذِ شَوقٌ أثارَ هذا السؤالَ: «مَن يكون يا تُرى هذا الذي يُجرِّبُني ويريدُ أن يُعرِّفني نفسَه ؟ ومَن هذا الذي يَسوقُني في هذا الطريقِ العَجيبِ إلى غايةٍ هادِفةٍ ؟»، ثمَّ نشأَ من الشَّوقِ إلى التَّعرُّفِ مَحبَّةُ صاحبِ الطلسمِ، ونَمتْ من تلكَ المحبَّةِ رَغبةُ حلِّ الطلسم، ومن تلك الرغبةِ انبثقتْ رَغبةُ اتِّخاذِ وضعٍ جميلٍ وحَالةٍ مَقبولةٍ لدى صاحبِ الطِّلْسَم حسَب ما يُحِبُّه ويرضاه.
ثم نَظرَ أعلى الشجرةِ فرأى أنها شَجرةُ تِينٍ، غيرَ أن في نهايةِ أغصانِها آلافَ الأنواعِ من الأثمارِ والفَواكِه، وعندَها ذهبَ خوفُه وزالَ نهائيا، لأنه علِم علما قاطعًا بأنَّ شجرةَ التِّينِ هذه إنما هي فِهرِسٌ ومَعرِضٌ، حيثُ قَلَّد الحاكمُ الخفيُّ نماذجَ ما في بستانِه وجنَّاتِه بشكلٍ مُعجِز عليها وَزيَّنهاَ بها، إشارةً لما أعدَّه من أطعمةٍ ولذائذَ لضيوفِه، وإلّا فإن شَجرةً واحدةً لن تُعطِي أثمارَ آلافِ الأشجارِ؛
فلَم يرَ أمامَه إلّا الدُّعاءَ والتضرُّعَ، فألَحَّ مُتوسِّلا بانكسارٍ إلى أن أُلْهِمَ مفتاحَ الطلسم فهتفَ قائلا: «يا حاكمَ هذه الدِّيارِ والآفاقِ، ألتَجئُ إليك وأتوسلُ وأتضَرعُ، فأنا لك خادِم، أريدُ رضاكَ وأنا أطلُبكَ وأبحثُ عنكَ».
فانشَقَّ جِدارُ البئرِ فجأةً بعد هذا الدُّعاءِ، عن بابٍ يُفتَحُ إلى بستانٍ فاخِر طاهرٍ جَميلٍ، وربما انقلبَ فمُ ذلك الثعبانِ إلى ذلك البابِ، واتَّخذَ كلٌّ من الأسَدِ والثعبانِ صُورةَ الخادِم وهيئَتَهُ، فأخَذا يدعوانِه إلى البستانِ حتى إن ذلك الأسدَ تقمَّصَ شكلَ حِصانٍ مُسخَّرٍ بينَ يديهِ.
فيا نفسيَ الكَسْلى.. ويا صاحِبي في الخيالِ.. تعاليا لنُوازِنَ بين أوضاعِ هذينِ الأخَوَينِ كي نَعلمَ كيف أن الحَسنةَ تَجلُبُ الحسنةَ وأن السيئةَ تأتي بالسيئةِ:
إنَّ الشقيَّ المسافرَ إلى جهةِ الشِّمالِ مُعرَّضٌ في كلِّ آنٍ أن يَلِجَ فمَ الثعبانِ فهو يَرتجِفُ خوفًا وهَلَعًا، بينما هذا السَّعيدُ يُدعَى إلى بستانٍ أنيقٍ بَهيجٍ مُثمِرٍ بفواكهَ شتَّى؛ وإن قَلبَ ذلكَ الشقيِّ يتَمزَّقُ في خَوفٍ عَظيمٍ ورُعبٍ أليم، بينما هذا السعيدُ يرى غَرائبَ الأشياءِ ويَنظرُ إليها بعِبرَةٍ حُلوةٍ وخَوفٍ لذيذٍ ومعرفةٍ مَحبوبةٍ؛ وإن ذلك الشقيَّ المسكين لَيُعاني من الوَحشةِ واليأسِ واليُتمِ عذابًا وأيَّ عذابٍ! بينما هذا السَّعيدُ يتلذَّذُ في الُأنسِ ويترفّلُ في الأملِ والشَّوقِ. ثم إن ذلكَ المنكودَ يرى نفسَهُ سجينًا معرَّضًا لهجماتِ الوُحوشِ المفترِسةِ، بينما هذا السعيدُ المحظوظُ يتَمتَّع مُتعةَ ضَيفٍ عَزيزٍ، وكيفَ لا وهو ضَيفٌ عندَ مُضِيفٍ كريمٍ، فيَستأنِسُ معَ عجائبِ خَدَمِه؛ ثم إنَّ ذلكَ السَّيِّئَ الحظِّ لَيُعجِّلُ عذابَه في النار بأكله مأكولاتٍ لذيذةَ الطعمِ ظاهِرًا ومَسمُومةً حقِيقةً ومعنًى، إذْ إنَّ تلكَ الفواكهَ ما هي إلّا نَماذِجُ، قد أُذِنَ للتذوُّقِ منها فحَسْبُ، ليكونَ طالبا لحقائِقها وأصولِها وشارِيًا لها، وإلّا فلا سماحَ للشَّراهَةِ منها كالحيوانِ؛ أما هذا السَّعيدُ المحمودُ فإنه يتَذوَّقُ منها إذ يعِي الأمرَ، مُؤخِّرا أكلَها ومُلْتَذًّا بالانتظارِ. ثم إن ذلك الشقيَّ يكونُ قد ظلمَ نفسَه بنفسِه، جَارًّا عليها وَضعًا مُظلِما وأوهامًا ذاتَ ظلماتٍ حتى كأنه في جَحيمٍ، بانعِدامِ بَصيرتِه عن حقائقَ ساطعةٍ كالنهارِ وأوضاعٍ جميلةٍ باهرةٍ، فلا هو مُستحِقٌ للشفَقةِ ولا له حقُّ الشكوى؛
مَثَلُه في هذا مثَلُ رجلٍ وَسْطَ أحبّائِه في مَوسِم الصَّيفِ وفي حديقةٍ جَميلةٍ بهيجةٍ في وَليمةٍ طَيّبةٍ للأفراح، فلعدم قناعتِه بها راحَ يَرتَشِفُ كؤوسَ الخمر -أمِّ الخبائثِ- حتى أصبحَ سِكِّيرا ثَمِلا، فشرعَ بالصُّراخِ والعَويلِ، وبدأَ بالبكاءِ، ظانا نفسَه أنه في قلبِ الشتاءِ القارِسِ، ومُتصوِّرا أنه جائعٌ وعارٍ وسْطَ وُحوشٍ مفترسةٍ؛ فمثلما أنَّ هذا الرجلَ لا يستحقُّ الشفَقةَ والرأْفةَ، إذ ظلمَ نفسَه بنفسِه مُتوهِّما أصدقاءَه وُحوشًا، مُحتقِرا لهم.. فكذلك هذا المشؤُومُ.
ولكنما ذلك السَّعيدُ يُبصِرُ الحقيقةَ، والحقيقةُ بذاتِها جَميلةٌ؛ ومع إدراكِ جمالِ الحقيقةِ فإنه يَحترِمُ كمالَ صاحِبِ الحقيقةِ ويُوقِّرُه فيَستحِقُّ رَحمتَه. فاعلم إذن سِرًّا من أسرارِ: ﴿ مَٓا اَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّٰهِۘ وَمَٓا اَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَۜ ﴾ (النساء:79).
فلو وازنتَ سائرَ هذه الفُروقِ وأمثالَها لعَلمتَ أن النفسَ الأمارةَ للأولِ قد أحْضرَت له جَهنمَ معنويَّةً، بينما الآخرُ قد نالَ -بحُسنِ نيَّتِه وحُسنِ ظنِّه وحُسنِ خَصلتِه وحُسنِ فِكرِه- الفيضَ والسعادةَ والإحْسانَ العَميمَ.
فيا نفسِي، ويا أيها الرجلُ المنصِتُ معي إلى هذه الحكايةِ! إذا كنتَ تُريدُ أن لا تكونَ مثلَ ذلك الأخِ المشؤومِ، وتَرغبُ في أن تكونَ كالأخِ السَّعيدِ فاسْتمِعْ إلى القرآنِ الكريمِ وارضَخْ لحُكمِه واعتَصِم به واعمَل بأحكامِه.
وإذا كنتَ قد وَعَيتَ ما في هذه الأُقصوصَةِ التَّمثِيليةِ من حقائقَ، فإنك تَستطِيعُ أن تُطبِّقَ عليها الحقِيقةَ الدِّينِيةَ والدُّنيوِيةَ والإنسانيةَ والإيمانِِيةَ كلَّها؛ وسأقولُ لك الأسُسَ، واستَخرِجْ بنفسِك الدَّقائِق:
فالأخَوانِ الاثنانِ أحدُهما رُوحُ المؤمِن وقَلبُ الصالِح، والآخرُ روحُ الكافِر وقلبُ الفاسِق؛
أما اليَمينُ من تَينِكَ الطَّريقَين فهو طَريقُ القرآنِ والإيمانِ، وأما الشِّمالُ فَطريقُ العصيانِ والكُفرانِ؛
وأما ذلك البستانُ في الطريقِ فهو الحياةُ الاجتِماعِيةُ المؤقَّتةُ للمجتمع البشَريِّ والحضارةِ الإنسانيةِ التي يُوجَد فيها الخَيرُ والشرُّ والطيِّبُ والخبيثُ والطاهِرُ والقَذِرُ معا، فالعاقِل هو مَن يَعمَل على قاعِدةِ «خُذْ ما صَفا.. دَعْ ما كدَر» فيَسيرُ مع سلامةِ القلبِ واطمئنانِ الوِجدانِ؛
وأما تلك الصَّحراءُ فهي هذه الدنيا وهذه الأرضُ؛ وأما ذلك الأسَدُ فهو الأجَلُ والموتُ؛ وأما تلك البئرُ فهي جَسدُ الإنسانِ وزَمانُ الحياةِ؛ وأما ذلك العُمقُ البالغُ سِتِّينَ ذِراعا فهو إشارةٌ إلى العمُرِ الغالبِ، وهو معدَّلُ العُمُرِ سِتونَ سنةً؛ وأما تلك الشجرةُ فهي مُدةُ العُمُرِ ومادَّةُ الحياةِ؛ وأما الحيوانانِ الاثنانِ، الأسْوَدُ والأبيضُ فهما الليلُ والنهار؛
Ve o ejderha ise ağzı kabir olan tarîk-i berzahiye ve revak-ı uhrevîdir. Fakat o ağız, mü’min için zindandan bir bahçeye açılan bir kapıdır.
Ve o haşerat-ı muzırra ise musibat-ı dünyeviyedir. Fakat mü’min için gaflet uykusuna dalmamak için tatlı ikazat-ı İlahiye ve iltifatat-ı Rahmaniye hükmündedir.
Ve o ağaçtaki yemişler ise dünyevî nimetlerdir ki Cenab-ı Kerîm-i Mutlak, onları âhiret nimetlerine bir liste hem ihtar edici hem müşabihleri hem cennet meyvelerine müşterileri davet eden numuneler suretinde yapmış.
Ve o ağacın birliğiyle beraber muhtelif başka başka meyveler vermesi ise kudret-i Samedaniyenin sikkesine ve rububiyet-i İlahiyenin hâtemine ve saltanat-ı uluhiyetin turrasına işarettir. Çünkü “Bir tek şeyden her şeyi yapmak” yani bir topraktan bütün nebatat ve meyveleri yapmak, hem bir sudan bütün hayvanatı halk etmek, hem basit bir yemekten bütün cihazat-ı hayvaniyeyi icad etmek; bununla beraber “Her şeyi bir tek şey yapmak” yani zîhayatın yediği gayet muhtelifü’l-cins taamlardan o zîhayata bir lahm-ı mahsus yapmak, bir cild-i basit dokumak gibi sanatlar; Zat-ı Ehad-i Samed olan Sultan-ı ezel ve ebed’in sikke-i hâssasıdır, hâtem-i mahsusudur, taklit edilmez bir turrasıdır. Evet, bir şeyi her şey ve her şeyi bir şey yapmak; her şeyin Hâlık’ına has ve Kādir-i külli şey’e mahsus bir nişandır, bir âyettir.
Ve o tılsım ise sırr-ı iman ile açılan sırr-ı hikmet-i hilkattir ve o miftah ise يَا اَللّٰهُ ❀ لَااِلٰهَ اِلَّااللّٰهُ ❀ اَللّٰهُ لااِلٰهَ اِلَّاهُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ dur.
Ve o ejderha ağzı bahçe kapısına inkılab etmesi ise işarettir ki kabir ehl-i dalalet ve tuğyan için vahşet ve nisyan içinde, zindan gibi sıkıntılı ve bir ejderha batnı gibi dar bir mezara açılan bir kapı olduğu halde, ehl-i Kur’an ve iman için zindan-ı dünyadan bostan-ı bekaya ve meydan-ı imtihandan ravza-i cinana ve zahmet-i hayattan rahmet-i Rahman’a açılan bir kapıdır. Ve o vahşi arslanın dahi munis bir hizmetkâra dönmesi ve musahhar bir at olması ise işarettir ki mevt, ehl-i dalalet için bütün mahbubatından elîm bir firak-ı ebedîdir. Hem kendi cennet-i kâzibe-i dünyeviyesinden ihraç ve vahşet ve yalnızlık içinde zindan-ı mezara idhal ve hapis olduğu halde, ehl-i hidayet ve ehl-i Kur’an için öteki âleme gitmiş eski dost ve ahbaplarına kavuşmaya vesiledir. Hem hakiki vatanlarına ve ebedî makam-ı saadetlerine girmeye vasıtadır. Hem zindan-ı dünyadan bostan-ı cinana bir davettir. Hem Rahman-ı Rahîm’in fazlından kendi hizmetine mukabil ahz-ı ücret etmeye bir nöbettir. Hem vazife-i hayat külfetinden bir terhistir. Hem ubudiyet ve imtihanın talim ve talimatından bir paydostur.
Elhasıl: Her kim hayat-ı fâniyeyi esas maksat yapsa zâhiren bir cennet içinde olsa da manen cehennemdedir. Ve her kim hayat-ı bâkiyeye ciddi müteveccih ise saadet-i dâreyne mazhardır. Dünyası ne kadar fena ve sıkıntılı olsa da dünyasını, cennetin intizar salonu hükmünde gördüğü için hoş görür, tahammül eder, sabır içinde şükreder.
اَللّٰهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ اَهْلِ السَّعَادَةِ وَالسَّلَامَةِ وَالْقُرْآنِ وَالْاِيمَانِ آمِينَ ❀ اَللّٰهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلٰى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلٰى آلِهِ وَصَحْبِهِ بِعَدَدِ جَمِيعِ الْحُرُوفَاتِ الْمُتَشَكِّلَةِ فِي جَمِيعِ الْكَلِمَاتِ الْمُتَمَثِّلَةِ بِاِذْنِ الرَحْمٰنِ فِي مَرَايَا تَمَوُّجَاتِ الْهَوَاءِ عِنْدَ قِرَائَةِ كُلِّ كَلِمَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ قَارِئٍ مِنْ اَوَّلِ النُّزُولِ اِلٰى آخِرِ الزَّمَانِ وَارْحَمْنَا وَوَالِدَيْنَا وَارْحَمِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِعَدَدِهَا بِرَحْمَتِكَ يَا اَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ❀ آمِينَ وَالْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
- ↑ * البخاري، التوحيد 15،35؛ مسلم، الذكر 2، 19، التوبة 1؛ الترمذي، الزهد 51، الدعوات 131؛ ابن ماجه، الأدب 58.