الكلمة العاشرة

    Risale-i Nur Tercümeleri sitesinden
    15.42, 21 Temmuz 2024 tarihinde Said (mesaj | katkılar) tarafından oluşturulmuş 135399 numaralı sürüm

    مبحث الحشر

    تنبيه: إنَّ سبَبَ إيرادِي التشبيهَ والتمثيلَ بصُورةِ حِكاياتٍ في هذه الرسائلِ هو تقريبُ المعاني إلى الأذهانِ من ناحيةٍ، وإظهارُ مدَى معقوليَّةِ الحقائقِ الإسلاميَّةِ ومدَى تَناسبِها ورصانتِها من ناحيةٍ أخرَى، فمغزَى الحكاياتِ إنما هو الحقائِقُ التي تنتَهِي إليها، والتي تدلُّ عليها كنايةً؛ فهي إذن ليست حكاياتٍ خياليةً وإنما حَقائقُ صادِقةٌ.

    بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ

    فَانْظُرْ اِلٰٓى آثَارِ رَحْمَتِ اللّٰهِ كَيْفَ يُحْيِي الْاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا

    اِنَّ ذٰلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتٰى وَهُوَ عَلٰى كُلِّ شَىْءٍ قَد۪يرٌ(الروم:50)

    يا أخي! إِنْ رُمتَ إيضاحَ أمرِ الحشر وبعضِ شؤونِ الآخِرةِ على وجهٍ يُلائم فهمَ عامّةِ الناس، فاستَمعْ معي إلى هذه الحكايةِ القصيرةِ.

    ذهَبَ اثنانِ معا إلى مملكةٍ رائعةِ الجمالِ كالجنَّةِ -التشبيهُ هنا للدنيا- وإذا بهما يَرَيانِ أنَّ أهلَها قد تركوا أبوابَ بُيوتِهم وحوانيتِهم ومحلاتِهم مفتوحةً لا يَهتمُّون بحراستِها.. فالأموالُ والنُّقودُ في مُتَناوَلِ الأيدِي دون أنْ يَحمِيها أحدٌ؛ بدأ أحدُهما -بما سوَّلتْ له نفسُه- يَسرِقُ حِينًا ويَغصِبُ حِينا آخرَ مرتكِبًا كل أنواعِ الظلمِ والسفاهَةِ، والأَهلُونَ لا يُبالونَ به كثيرًا.

    فقالَ له صديقُه:

    «وَيْحكَ ماذا تفعلُ؟ إنك ستَنالُ عقابَك، وستُلقيني في بلايا ومصائبَ، فهذه الأموالُ أموالُ الدولةِ، وهؤلاءِ الأَهلُون قد أصبحوا -بعوائلِهم وأطفالِهم- جُنودَ الدولةِ أو مُوظَّفِيها، ويُستَخدَمون في هذه الوظائفِ بِبِزَّتِهمُ المدنيّةِ، ولذلك لم يُبالوا بك كثيرا، اعلم أنَّ النظامَ هنا صارمٌ، فعُيونُ السلطانِ ورُقباؤُه وهواتفُه في كل مكانٍ.. أسرِعْ يا صاحِبي بالاعتذارِ وبادِرْ إلى التوسُّل»..

    ولكنَّ صاحبَه الأبلهَ عاندَ قائلا:

    «دَعنِي يا صاحبي، فهذه الأموالُ ليستْ أموالَ الدولةِ، بل هي أموالٌ مُشاعةٌ، لا مالك لها.. يستَطيعُ كلُّ واحدٍ أن يتَصرَّفَ فيها كما يشاءُ، فلا أرَى ما يَمنَعُني من الاستِفادةِ منها، أو الانتِفاعِ بهذه الأشياءِ الجميلةِ المنثورةِ أمامي؛ واعلَم أنِّي لا أُصدِّقُ بما لا تراهُ عَينايَ»، وَبدَأ يتفلسفُ ويتَفوَّهُ بما هو من قبيلِ السَّفسَطةِ.(*[1])

    وهنا بدأتِ المناقَشةُ الجادَّةُ بينهما، وأخذَ الحِوارُ يشتدُّ إذ سألَ المغفَّلُ:

    «وما السُّلطانُ؟ فأنا لا أعرِفُه»

    »، فَردَّ عليه صاحبُه: «إنَّك بلا شكٍّ تَعلمُ أنه لا قريةَ بلا مختارٍ، ولا إبرةَ بلا صانِعٍ وبلا مالكٍ، ولا حَرْفَ بلا كاتِبٍ؛ فكيفَ يسُوغُ لك القولُ: إنه لا حاكِمَ ولا سُلطانَ لهذه المملكةِ الرائِعةِ المنتَظَمةِ المنسَّقةِ؟ وكيف تكونُ هذه الأموالُ الطائِلةُ والثرواتُ النَّفِيسَةُ الثمِينةُ بلا مالكٍ، حتى كأنَّ قِطارًا مشحونًا بالأرزاقِ الثمِينةِ يأتي من الغَيبِ كلَّ ساعةٍ ويُفرَغُ هنا ثم يَذهبُ!([2]) أوَ لا ترَى في أرجاءِ هذه المملكةِ إعلاناتِ السُّلطانِ وبيَاناتِه، وأعْلامَه التي تُرَفْرِفُ في كلِّ رُكنٍ، وخَتمَه الخاصَّ وسِكَّتَه وطُرَّتَه على الأموالِ كلِّها، فكيفَ تكونُ مثلُ هذه المملكةِ دونَ مالك؟.. يَبدُو أنكَ تعلَّمتَ شيئا من لغةِ الإفرنجِ، ولكنك لا تستطيعُ قراءةَ هذه الكتاباتِ الإسلاميةِ ولا تَرغبُ أنْ تسألَ مَنْ يَقرؤُها ويفهمُها، فتعالَ إذن لأقرأَ لك أهمَّ تلك البلاغاتِ والأوامرِ الصادِرةِ مِنَ السُّلطانِ»..

    فقاطعَه ذلك المعانِدُ قائلا:

    «لنُسلِّم بوجودِ السلطانِ، ولكن ماذا يمكن أن يَضُرَّه ويَنقُصَ من خَزائنِه ما أحُوزُه لنفسي منها؟ ثم إني لا أرَى هنا عقابًا من سِجنٍ أو ما يُشبِهُه!».

    أجابَه صاحبُه:

    «يا هذا! إن هذه المملكةَ التي نَراهاَ ما هي إلّا ميدانُ امتِحانٍ واختِبارٍ، وساحةُ تَدريبٍ ومُناوَرةٍ، وهي مَعرِضُ صنائعِ السلطانِ البدِيعةِ، ومَضِيفٌ مُؤقَّتٌ جدا.. ألا ترَى أن قافِلةً تأتي يَومِيا وترحلُ أخرَى وتغيبُ؟ فهذا هو شأنُ هذه المملكةِ العامِرةِ، إنها تُملأُ وتُخلَى باستِمرارٍ، وسَوفَ تُفرَغُ نهائيًا وتُبدَّلُ بأخرَى باقيةٍ دائمةٍ، ويُنقَلُ إليها الناسُ جميعًا فيثابُ أو يُعاقَبُ كلٌّ حسَبَ عملِه».

    ومرةً أخرَى تمرَّدَ صديقُه الخائنُ الحائرُ قائلا: «أنا لا أؤمنُ ولا أُصدِّقُ! فهل يمكن أن تُبادَ هذه المملكةُ العامِرةُ، ويرحلَ عنها أهلُها إلى مملكةٍ أخرَى؟»

    وعندَها قالَ له صديقُه الناصِحُ الأمينُ:

    «يا صاحبي ما دُمتَ تُعانِدُ هكذا وتُصِرُّ، فتعالَ أُبيِّنْ لك «اثنَتيْ عشْرةَ صُورةً» من بين دلائلَ لا تعدُّ ولا تحصَى، تُؤكِّدُ لك أنَّ هناكَ محكمةً كبرَى حقا، ودارًا للثوابِ والإحْسانِ، وأخرَى للعقابِ والسَّجنِ، وأنه كما تُفرَغُ هذه المملكةُ من أهلِها يومًا بعدَ يومٍ، فسيأتي يومٌ تُفرَغُ فيه منهم نهائيا وتُبادُ كليًّا».

    الصورة الأولى

    أمِنَ الممكن لسَلطنةٍ، ولاسيَّما كهذه السلطنةِ العُظمَى، أن لا يكونَ فيها ثوابٌ للمطِيعينَ ولا عِقابٌ للعاصِين؟.. ولما كانَ العقابُ والثوابُ في حُكمِ المعدومِ في هذه الدارِ،

    فَلابدَّ إذن من محكمةٍ كبرَى في دارٍ أُخرَى.

    الصورة الثانية

    تأمَّلْ سيرَ الأحداثِ والإجراءاتِ في هذهِ المملكةِ، كيف يُوزَّعُ الرزقُ رغَدًا حتى على أضعفِ كائنٍ فيها وأفقرِه، وكيف أنَّ الرِّعايَةَ تامةٌ والمواساةَ دائِمةٌ لجميع المرضَى الذين لا مُعيلَ لهم؛ وانظُر إلى الأطعمةِ الفاخِرةِ والأواني الجَميلةِ والأوسِمةِ المرصَّعةِ والملابِس المزركَشةِ.. فالموائدُ العامِرةُ مبثوثةٌ في كلِّ مكانٍ.. وانظر! الجميعُ يُتقِنونَ واجباتِهم ووظائفَهم إلّا أنتَ وأمثالَك من البُلهاءِ، فلا يتَجاوزُ أحدٌ حدَّه قَيْدَ أُنمُلةٍ، فأعظمُ شخصٍ يُؤدِّي ما أُنيطَ به من واجِبٍ بكُلِّ تواضعٍ، وفي غايةِ الطاعَةِ، تحتَ ظِلِّ جلالِ الهَيبةِ والرَّهبةِ..

    إذن فمالِكُ هذه السلطنةِ ومَليكُها ذو كرمٍ عَظيمٍ، وذو رحمةٍ واسِعة، وذو عزَّةٍ شامخةٍ، وذو غَيرَةٍ جليلةٍ ظاهِرةٍ، وذو شَرفٍ سَامٍ، ومن المعلومِ أنَّ الكرَمَ يستَوجِبُ إنعامًا، والرحمةَ لا تكونُ دونَ إحسانٍ، والعزةَ تَقتَضي الغَيرةَ، والشرفَ الساميَ يَستَدعِي تأديبَ المستَخِفِّينَ، بينما لا يَتحققُ في هذه المملكةِ جزءٌ واحدٌ من ألفٍ مما يَليقُ بتلك الرحمةِ ولا بذلك الشرفِ؛ فيَرحلُ الظالم في عزتِه وجَبروتِه ويرحلُ المظلومُ في ذُلِّه وخُنوعِه..

    فالقضِيَّةُ إذن مُؤجَّلةٌ إلى محكمةٍ كبرَى.

    الصورة الثالثة

    انظُر، كيفَ تُنجَزُ الأعمالُ هنا بحِكمةٍ فائقَةٍ وبانتِظامٍ بديع، وتأمّل كيف يُنظَرُ إلى المعاملاتِ بمنظارِ عَدالةٍ حقَّةٍ وميزانٍ صائبٍ.. ومن المعلوم أنَّ حكمةَ الحكومةِ وفِطنتَها تستدعي اللطفَ بالذين يحتَمونَ بحِماهَا وتَكريمَهُم، والعدالةَ المحضةَ تتطلَّبُ رِعايَةَ حقوقِ الرعيةِ، لتُصانَ هَيبةُ الحكومةِ وعظمةُ الدولةِ.. غيرَ أنه لا يبدُو هنا إلّا جزءٌ ضئِيلٌ من تَنفيذِ ما يليقُ بتلك الحكمةِ، وبتلك العَدالةِ؛ فأمثالُك من الغافلينَ يُغادِرُونَ هذه المملكةَ دون أن يَرَى أغلبُهم عقابًا..

    فالقضيةُ إذن مُؤجّلةٌ بلا ريبٍ إلى محكمةٍ كُبرَى.

    الصورة الرابعة

    انظُر إلى ما لا يُعدُّ ولا يحصَى من الجواهرِ النادرةِ المعرُوضةِ في هذه المعارضِ، والأطعمةِ الفريدَةِ اللذيذَةِ المُزيَّنةِ بها الموائدُ، مما يُبرِزُ لنا أنَّ لسلطانِ هذه المملكةِ سَخاءً غيرَ محدودٍ، وخزائنَ ملآى لا تَنضُبُ.. ولكنْ مثلُ هذا السَّخاءِ الدائمِ، ومثلُ هذه الخزائنِ التي لا تَنفَدُ، يتَطلَّبانِ حتمًا دارَ ضيافةٍ خالدة أبديَّةٍ، فيها ما تَشتَهيهِ الأنفُسُ؛ ويَقتضِيانِ كذلك خُلودَ المتنعِّمِين المتلذِّذِينَ فيها، لئلا يَذوقُوا ألمَ الفراقِ والزوالِ؛ إذ كما أنَّ زوالَ الألم لذةٌ فزوالُ اللذةِ ألمٌ كذلك..

    فانظر إلى هذه المعارض، ودقِّقِ النظرَ في تلك الإعلاناتِ، وَأصْغِ جيدا إلى هؤلاء المنادينَ الدعاةِ الذين يُشكِّلون عَجائِبَ مَصنوعاتِ السلطانِ -ذي المعجزاتِ- ويُعلِنون عنها، ويُظهِرون كماله، ويُفصِحُون عن جمالِه المعنوِيِّ الذي لا نظيرَ له، ويَذكُرون لطائفَ حُسنِه المستَتِرِ.

    فلهذا السلطانِ إذن كمالٌ باهِرٌ، وجمالٌ معنويٌّ زاهِرٌ، يَبعثانِ على الإعجابِ؛ ولاشكَّ أنَّ الكمالَ المستَتِرَ الذي لا نقصَ فيه يَقتَضِي إعلانَه على رؤوسِ الأشهادِ من المعجَبِينَ المستَحسِنينَ، ويتَطلَّبُ إعلانَه أمامَ أنظارِ المُقدِّرِينَ لقيمتِه؛ أمّا الجمالُ الخفيُّ الذي لا نظيرَ له، فيَستلزِم الرُّؤيةَ والإظهارَ، أي: رُؤيةَ جمالِه بوَجهَينِ: أحدُهما: رؤيتُه بذاته جمالَه في كلِّ ما يَعكِسُ هذا الجمالَ من المرايا المختَلفةِ. ثانيهما: رؤيتُه بنظر المشاهدِينَ المشتاقِين والمعجَبِين المستحسنِين له، وهذا يعني أنَّ الجمالَ الخالدَ يستدعي رُؤيةً وظهورًا، أي مشاهدةً دائمةً ، و اشهادًا أبديًا..

    وهذا يتطلبُ حتما خُلودَ المشاهدِين المشتاقِين المُقدِّرينَ لذلك الجمالِ، لأنَّ الجمالَ الخالدَ لا يرضَى بالمشتاقِ الزائِلِ، ولأنَّ المُشاهِدَ المحكومَ عليه بالزوالِ يُبدِّلُ تَصوُّرُ الزوالِ محَبَّتَه عداءً، وإعجابَه استِخفافًا، وتوقيرَه إهانةً، إذ الإنسانُ عدوٌّ لما يجهلُ ولِماَ يقصُرُ عنه.. ولمَّا كان الجميعُ يغادِرون دَورَ الضيافةِ هذه بسرعةٍ ويَغيبُون عنها بلا ارتِواءٍ من نورِ ذلك الجمالِ والكمالِ، بل قد لا يرَونَ إلّا ظِلالا خافِتةً منه عَبْرَ لمحاتٍ سَريعةٍ..

    فالرِّحلةُ إذن مُنطلِقةٌ إلى مَشهَدٍ دائمٍ خَالدٍ.

    الصورة الخامسة

    تأمَّل.. كيفَ أنَّ لهذا السلطانِ الذي لا نَظيرَ له رأفةً عظيمةً تتَجلَّى في خِضمِّ هذه الأحداثِ والأمورِ، إذ يُغيثُ الملهوفَ المستغيثَ، ويستجيبُ للداعِي المستَجيرِ، وإذا ما رأى أدنَى حاجةٍ لأبسطِ فردٍ من رعاياهُ فإنه يَقضِيها بكل رأفةٍ وشَفَقةٍ، حتى إنه يُرسِلُ دواءً أو يُهيِّئُ بَيطارا لإسعافِ قدَمِ نَعجةٍ من النِّعاجِ.

    هيَّا بنا يا صاحبي لنَذهَبَ معا إلى تلك الجزيرةِ، حيثُ تَضُمُّ جمعًا غفيرًا من الناسِ، فجَميعُ أشرافِ المملكةِ مجتَمعُون فيها.. انظر.. فها هو ذا مَبعُوثٌ كريمٌ للسلطانِ مُتقلِّدٌ أعظمَ الأوسِمةِ وأعلاها يَرتَجِلُ خُطبةً يطلُبُ فيها من مَليكِه الرَّؤوفِ أمورًا، وجميعُ الذين معَه يُوافِقونَه ويُصدِّقونَه ويَطلُبون ما يَطلُبُه.

    أَنصِتْ لما يقولُ حبيبُ الملكِ العظيمِ، إنَّه يَدعُو بأدبٍ جمٍّ وتَضرُّعٍ ويقولُ:

    يا من أسبغَ علينا نِعمَه ظاهرةً وباطنةً، يا سُلطانَنا، أَرِنا مَنابعَ وأُصولَ ما أَرَيتَه لنا من نماذجَ وظلالٍ.. خُذْ بنا إلى مقرِّ سلطنتِك ولا تُهلِكْنا بالضَّياعِ في هذه الفَلاةِ.. اقبَلْناَ وارفَعْناَ إلى ديوانِ حُضورِك.. ارحمنا.. أطعِمناَ هناكَ لذائذَ ما أذَقتَنا إياه هنا، ولا تُعذِّبنا بألم التَّنائي والطَّردِ عنكَ.. فهاهم أُولاء رَعِيَّتُك المشتاقُون الشاكِرون المطيعون لك، لا تَترُكْهُم تائهِينَ ضائعِينَ، ولا تُفنِهِم بموتٍ لا رَجعةَ بعدَه.

    هل سَمِعتَ يا صاحبي ما يقولُ؟ تُرى هل مِن الممكنِ لمن يَملكُ كلَّ هذه القُدرَةِ الفائقةِ، وكلَّ هذه الرأفةِ الشاملةِ، أن لا يُعطِيَ مبعوثَه الكريمَ ما يرغَبُ به، ولا يستَجيبَ لأسمَى الغاياتِ وأنبَلِ المقاصدِ؟ وهو الذي يَقضِي بكلِّ اهتِمامٍ أدنَى رَغبةٍ لأصغرِ فردٍ من رعاياهُ؟ مع أنَّ ما يطلُبُه هذا المبعوثُ الكريم تحقيقٌ لرغباتِ الجميع ومَقاصِدِهم، وهو من مقتضياتِ عَدالتِه ورَحمتِه ومرضاتِه.. ثم إنَّه يسيرٌ عليه وهيِّنٌ، فليسَ هو بأصعبَ مما عَرضَه من نماذجَ في متنزهاتِ هذه المملكةِ ومعارضِها.. فما دامَ قد أنفقَ نفقاتٍ باهِظةً وأنشأ هذه المملكةَ لعرضِ نماذجِه عَرْضًَا مؤقَّتًا، فلابدَّ أنه سيَعرِضُ في مَقرِّ سلطنتِه من خزائنِه الحقِيقيّةِ ومن كمالاتِه وعجائِبه ما يُبهِرُ العُقولَ..

    إذن فهؤلاء الذين هم في دارِ الامتِحانِ هذه ليسوا عبثًا، وليسُوا سُدًى، بل تنتظرُهم قصورُ السعادَةِ السرمَديّةِ الخالدةِ، أو غَياهِبُ السُّجونِ الأبديّةِ الرهِيبةِ.

    الصورة السادسة

    تعالَ، وانظُر إلى هذه القاطراتِ الضَّخمةِ، وإلى هذه الطائراتِ المشحونةِ، وإلى هذه المخازِنِ الهائلةِ المملوءَةِ، وإلى هذه المعارِضِ الأنيقَةِ الجذّابَةِ.. وتأمّل في الإجراءاتِ وسَيرِ الأمورِ.. إنها جميعا تُبيِّن أنَّ هناك سلطنةً عظيمةً حقا (*[3]) تحكُمُ من وراءِ ستارٍ؛

    فمِثلُ هذه السلطنةِ تقتضي حتمًا رعايا يَلِيقُونَ بها، بينما تُشاهِدُ أنهم قد اجتَمعُوا في هذا المضِيفِ، والمَضيفُ يُودِّع يوميا صُنوفًا منهم ويَستقبِلُ صُنوفًا؛ وهم قد حضروا في ميدانِ الامتِحانِ والاختِبارِ هذا، غيرَ أن الميدانَ يُبدَّلُ كلَّ ساعةٍ، وهم يَلبثُونَ قليلا في هذا المعرِضِ العظيمَ، يَتفرَّجون على نماذجِ آلاءِ المليك الثمينةِ وعجائبِ صَنعتِه البديعَةِ، غيرَ أنَّ المعرِضَ نفسَه يُحوَّلُ كلَّ دقيقةٍ، فالراحِلُ لا يَرجِعُ والقابِلُ يَرحَلُ كذلك..

    فهذه الأمورُ تُبيِّن بشكل قاطعٍ أنَّ وراءَ هذا المضيفِ الفاني، ووراءَ هذه الميادِينِ المتبدِّلةِ، ووَراءَ هذه المعارض المتحوِّلةِ، قصورًا دائِمةً خالِدةً، ومساكنَ طيِّبةً أبدِيّةً وجنائنَ مملوءَةً بحقائقِ هذه النماذِجِ، وخزائنَ مشحونةً بأصُولِها.

    فالأعمالُ والأفعالُ هنا إذن ما هي إلّا لأجلِ ما أُعِدَّ هنالك من جزاءٍ، فالملِكُ القديرُ يُكلِّفُ هنا ويُجازِي هناك، فلكلِّ فَردٍ لونٌ من السعادَةِ حسَبَ استِعدَادِه وما أقدمَ عليهِ من خَيرٍ.

    الصورة السابعة

    تعالَ لنتَنزَّهَ قليلًا بين المدَنيِّين من الناس لنُلاحِظَ أحوالَهم، وما يجرِي حولَهم من أمورٍ.. انظُر، فها قد نُصِبَتْ في كلِّ زاويةٍ آلاتُ تصويرٍ عدِيدَةٌ تَلتقِطُ الصُّوَرَ، وفي كلِّ مكانٍ كُتّابٌ كثيرون يسجِّلون كلَّ شيءٍ، حتى أهونَ الأمورِ.

    هيا انظُر إلى ذاك الجبلِ الشاهِقِ فقد نُصبَت عليه آلةُ تصويرٍ ضَخمةٌ تخصُّ السلطانَ نفسَه(*[4]) تَلتقِطُ صورَ كلِّ ما يجرِي في هذه المملكةِ؛ بمعنى أنَّ السلطانَ أصْدرَ أوامرَه لتَسجيلِ الأمورِ كلِّها، وتدوِينِ المعاملاتِ في مملكتِه.. مما يعني أنَّ ذلك السلطانَ المعظَّمَ يَستكتِبُ الحوادثَ جميعَها، ويأمرُ بتَصوِيرِها.. فهذا الاهتِمامُ البالغُ، وهذا الحفظُ الدقيقُ للأمورِ، وراءَه مُحاسَبةٌ بلا شكٍّ،

    إذ هل يمكن لحاكمٍ حَفيظٍ -لا يُهمِلُ أدنى مُعامَلةٍ لأبسطِ رعاياهُ- أن لا يَحفَظَ ولا يُدوِّن الأعمالَ العظيمةَ لكِبار رعاياهُ، ولا يُحاسبَهم ولا يُجازِيهم على ما صَنعُوا، مع أنهم يُقدِمونَ على أعمال تمَسُّ الملِكَ العزيزَ، وتتَعرَّضُ لكبريائِه، وتأباهُ رَحمتُه الواسِعةُ؟..

    وحيثُ إنهم لا يَنالونَ عِقابًا هنا، فلا بُدَّ أنه مُؤجَّلٌ إلى محكمةٍ كبرَى.

    الصورة الثامنة

    تعالَ، لأتلوَ عليك هذه الأوامرَ الصادرةَ من السُّلطانِ.. انظُر، إنه يكرِّرُ وعدَه ووعِيدَه قائلا: لآتيَنّ بكم إلى مقرِّ سَلطنتِي، ولأُسعِدنَّ المطيعينَ منكم، ولأَزُجَّنَّ العصاةَ في السجنِ، ولأُدمِّرنَّ ذلك المكانَ المؤقَّتَ، ولأُنشِئَنَّ مملكةً أخرى فيها قُصورٌ خالدةٌ وسُجونٌ دائِمةٌ.. علما أنَّ ما قطعَه على نفسِه من وعدٍ، هيِّنٌ عليه تَنفِيذُه، وهو بالغُ الأهميةِ لرَعاياهُ؛ أما إخلافُ الوعدِ فهو مُنافٍ كليا لعزَّتِه وقُدرَتِه.

    فانظُر أيها الغافلُ: إنك تصدِّقُ أكاذيبَ أوهامِك، وهذيانَ عقلِك، وخِداعَ نفسِك، ولا تُصدِّقُ مَن لا يحتاجُ إلى مخالفةِ الوَعدِ قطعا، ومَن لا تَليقُ المخالفةُ بغَيرَتِه وعزَّتِه أصلا، ومَن تَشهدُ الأمورُ كافةً على صدقِه.. إنك تَستحِقُّ العقابَ العظيمَ بلا شك، إذ إن مَثَلَكَ في هذا مَثَلُ المسافرِ الذي يُغمِضُ عينَيهِ عن ضوءِ الشَّمسِ، ويَستَرشِدُ بخيالِه، ويُريدُ أن ينيرَ طريقَه المخيفَ ببَصيصِ عَقلِه الذي لا يُضِيءُ إلّا كضياءِ اليَراعةِ (ذُبابِ الليلِ).

    وحيثُ إنه قد وَعدَ، فسيفي بوعدِه حتما، لأنَّ وفاءَه سهلٌ عليه وهيِّنٌ، وهو من مقتضياتِ سَلطنتِه، وهو ضَروريٌ جدا لنا ولكلِّ شيءٍ..

    إذن هناكَ محكمةٌ كبرَى وسعادةٌ عظمَى.

    الصورة التاسعة

    تعال، لننظرَ إلى بعض رؤساء(*[5]) هذه الدوائرِ والجماعات: قسمٌ منهم يُمكِنُهمُ الاتِّصالُ بالسلطانِ العظيمِ مباشرةً، بهاتفٍ خاصٍّ، بل لقد ارتقَى قسمٌ آخَرُ وَسَمَا إلى ديوان قُدسِه.. تأمَّلْ ماذا يقولُ هؤلاء؟ إنهم يُخبِرونَنا جميعا أنَّ السلطانَ قد أعدَّ مكانا فَخمًا رائعا لمكافَأةِ المحسنينَ، وآخرَ رهيبًا لمعاقَبةِ المسِيئينَ؛ وأنه يَعِدُ وعدا قويًّا ويُوعِدُ وعيدا شديدا، وهو أجَلُّ وأعزُّ من أنْ يَذِلَّ إلى إخلاف ما وعدَ وتَوعَّد؛

    عِلمًا أن أخبارَ المخبرينَ قد وصَلتْ من الكثرةِ إلى حدِّ التواترِ، ومن القُوَّةِ إلى درجةِ الاتّفاقِ والإجماعِ، فهم يُبلِّغونَنا جميعًا: بأنَّ مقرَّ هذه السلطنةِ العظيمةِ التي نرى آثارَها وملامِحَها هنا، إنما هو في مملكةٍ أخرَى بعيدةٍ، وأنَّ العِماراتِ في ميدانِ الامتِحانِ هذا بِناياتٌ وَقتيةٌ، وستُبدَّلُ إلى قصورٍ دائمةٍ، فتُبدَّلُ هذه الأرضُ بغيرها، لأنَّ هذه السلطنةَ الجليلةَ الخالِدةَ -التي تُعرَفُ عَظمتُها من آثارِها- لا يمكنُ أن تَقتصِرَ هَيمنتُها على مثل هذه الأمورِ الزائلةِ التي لا بقاءَ لها ولا دوامَ ولا كَمالَ ولا قرارَ ولا قِيمةَ ولا ثباتَ، بل تَستقِرُّ على ما يليقُ بها وبعظَمتِها من أمورٍ تَتَّسِمُ بالدَّيمُومَة والكمالِ والعَظمةِ..

    فإذن هناكَ دارٌ أخرَى.. ولابدَّ أن يكونَ الرحيلُ إلى ذلك المقرِّ.

    الصورة العاشرة

    تعال يا صاحبي.. فاليومُ يومُ عيدٍ ملكيٍّ عظيم،([6]) ستَحدُث تبدُّلاتٌ وتغيُّراتٌ وسَتبرُزُ أمورٌ عجيبةٌ، فلْنَذهَبْ معًا للنزهةِ، في هذا اليومِ البهيجِ من أيامِ الربيعِ إلى تلك الفَلاةِ المُزدانَةِ بالأزهارِ الجميلةِ.. انظُر.. هاهُمُ الناسُ متوجِّهونَ إلى هنا.. انظر.. هاهنا أمرٌ غريبٌ عَجيبٌ، فالعِماراتُ كلُّها تنهارُ وتتَّخِذُ شكلا آخرَ! حقا إنَّه شيءٌ مُعجِزٌ! إذِ العماراتُ التي انهارتْ قد أُعيدَ بناؤُها هنا فورًا، وانقَلبتْ هذه الفَلاةُ الخاليةُ إلى مَدينةٍ عامرةٍ! انظر.. إنها تُريكَ كلَّ ساعةٍ مَشهدًا جديدا وتَتَّخِذُ شكلا غيرَ شكلِها السابقِ -كشاشةِ السِّينَما- لاحظِ الأمرَ بدقّةٍ لترى رَوْعةَ هذا النِّظامِ المتقَنِ في هذه الشاشةِ التي تختَلطُ فيها المشاهِدُ بكَثرةٍ وتَتغَيّرُ بسرعةٍ فهي مَشاهِدُ حقِيقيّةٌ يـأخذُ كلُّ شيءٍ مكانَه الحقيقيَّ في غايةِ الدِّقةِ والانسِجامِ، حتى المَشاهِدُ الخياليةُ لا تبلغُ هذا الحدَّ من الانتِظامِ والرَّوعَةِ والإتقانِ، بل لا يَستطيعُ ملايينُ السَحَرةِ البارعينَ القيامَ بمثل هذه الأعمالِ البديعَةِ.. إذن فللسُّلطانِ العظيمِ المستُورِ عنا الشيءُ الكثيرُ من الأمورِ الخارِقةِ.

    فيا أيها المغفَّلُ.. إنك تقولُ: كيفَ يمكِنُ أن تُدمَّرَ هذه المملكةُ العظيمةُ وتُعمَّرَ من جَديدٍ في مكانٍ آخَرَ؟!

    فها هو ذَا أمامَك ما لا يَقبلُه عقلُك من تقلباتٍ كثيرةٍ وتَبدُّلاتٍ مذهلةٍ، فهذه السرعةُ في الاجتِماعِ والافتِراقِ، وهذا التبدُّلُ والتغَيرُ، وهذا البناءُ والهدمُ.. كلُّها تُنبِئُ عن مَقصدٍ، وتَنطوِي على غايةٍ، إذ يُصرَف لأجل اجتماعٍ في ساعة واحدة ما يُنفَقُ لعشر سنوات! فهذه الأوضاعُ إذن ليست مقصودةً لذاتها، بل هي أمثلةٌ ونَماذِجُ للعرض هنا؛ فالسلطان يُنهي أعمالَه على وَجهِ الإعجازِ، كي تُؤخذَ صورُها، وتُحفَظَ نتائجُها وتُسجَّلَ كما يُسجَّلُ ويُحفَظُ كلُّ ما في ميدان المناوراتِ العسكرية؛ فالأمورُ والمعاملاتُ إذن ستَجرِي في الاجتماع الأكبر وتَستمِرُّ وفق ما كانت هنا، وستُعرَضُ تلك الأمورُ عرضا مستمرا في المشهَد الأعظم والمعرِضِ الأكبر؛ أي إنَّ هذه الأوضاعَ الزائلةَ تُنتِجُ ثمارا باقية وتولِّد صورا خالدة هناك..

    فالمقصودُ من هذه الاحتفالاتِ إذن هو بلوغُ سعادةٍ عُظمَى، ومَـحكمةٍ كُبرَى، وغاياتٍ ساميةٍ مَستورةٍ عنَّا.

    الصورة الحادية عشْرَةَ

    تعال أيها الصديقُ المُعانِدُ.. لنَركَبَ طائرةً أو قطارا، لنَذهَبَ إلى الشَّرقِ أو إلى الغربِ -أي إلى الماضِي أو إلى المستقبَل- لنشاهِدَ ما أظهره السلطانُ من معجزاتٍ متنوِّعةٍ في سائر الأماكن؛ فما رأيناهُ هنا في المعرِضِ، أو في الميدانِ، أو في القصرِ، من الأمورِ العجيبة له نَماذجُ في كل مكان، إلّا أنه يَختلِف من حيثُ الشَّكلُ والتَّركيبُ. فيا صاحبي، أنعِمِ النَّظرَ في هذا، لترى مَدى ظُهورِ انتظامِ الحكمةِ، ومَبْلَغَ وُضوحِ إشاراتِ العنايةِ، ومِقدارَ بُروزِ أماراتِ العدالةِ، ودَرجةَ ظهورِ ثمراتِ الرَّحمةِ الواسعة، في تلك القصورِ المتبدلة، وفي تلك الميادينِ الفانية، وفي تلك المعارضِ الزائلة؛ فَمَن لم يَفقِد بصيرتَه يَفهمُ يقينا أنه لن تكونَ بل لا يمكنُ تصوُّرُ حِكمةٍ أكملَ من حكمةِ ذلك السلطان، ولا عِنايةٍ أجملَ من عِنايتِه، ولا رَحمةٍ أَشْملَ من رحمتِه، ولا عدالةٍ أجلَّ من عدالتِه.

    ولكنْ لما كانت هذه المملكةُ -كما هو معلومٌ- قاصرةً عن إظهار حقائقِ هذه الحكمةِ والعنايةِ والرحمةِ والعدالةِ، ولو لم تكُنْ هناك في مقر مملكته -كما تَوهَّمْتَ- قصورٌ دائمة، وأماكنُ مرموقةٌ ثابتة، ومساكنُ طيبةٌ خالدة، ومُواطِنون مقيمون، ورعايا سعداءُ.. تُحقِّق تلك الحكمةَ والعنايةَ والرحمةَ والعدالةَ، يلزمُ عندئذٍ إنكارُ ما نُبصِرُه من حكمة، وإنكارُ ما نُشاهِدُه من عناية، وإنكارُ ما نراهُ من رحمة، كما يلزمُ إنكارُ هذه العدالةِ الظَّاهِرةِ البَيِّنةِ بأماراتِها القوية وإشاراتِها.. إنكارُ كلِّ ذلك بحماقة فاضحة كَحماقةِ من يرى ضَوءَ الشمس وينكرُ الشَّمسَ نفسَها في رائعة النهار! ويَلزَمُ أيضا القولُ بأن القائمَ بما نراه من إجراءاتٍ تتَّسِمُ بالحكمة وأفعالٍ ذاتِ غاياتٍ كَريمةٍ وإحساناتٍ مِلؤُها الرحمةُ إنما يَلهُو ويَعبثُ ويَغدِرُ -حاشاه ثم حاشاه- وما هذا إلّا قلبُ الحقائقِ إلى أضدادِها، وهو المحالُ باتفاقِ جميعِ ذَوِي العقول غيرَ السوفسطائي الأبلهِ الذي يُنكِر وجودَ الأشياء، حتى وجودَ نفسه.

    فهناك إذن ديارٌ غيرُ هذه الديار، فيها محكمةٌ كبرى ، ودارُ عَدالةٍ عليا، ومقرُّ كرمٍ عظيمٌ، لتَظهَر فيها هذه الرَّحمةُ وهذه الحكمةُ وهذه العِنايةُ وهذه العَدالةُ بوضوح وجلاء.

    الصورةُ الثانيةَ عَشْرَةَ

    تعالَ نرجِعِ الآنَ يا صاحبي، لنَلتقِيَ ضُبّاطَ هذه الجماعاتِ ورؤساءَها، وننظرَ إلى مُعدَّاتِهم.. أزُوِّدوا بها لقضاء فترةٍ قصيرةٍ من الزمن في ميدان التدريب هذا، أم أنها وُهبَت لهم ليَقضُوا حياةً سعيدة مديدة في مكان آخر؟ ولما كنا لا نَستطِيعُ لقاء كلِّ واحد منهم، ولا نَتمكَّنُ من الاطِّلاعِ على جميع لَوازِمهم وتجهيزاتِهم، لذا نحاول الاطلاعَ على هُوية وسجلِّ أعمالِ واحدٍ منهم كنموذج ومثال.

    ففي الهوية نجدُ رتبةَ الضَّابطِ، ومرتّبَه، ومهمَّتَه، ومطالبَه، ودستورَ أعمالِه، وكلَّ ما يتَعلقُ بأحواله.. لاحظ، أنَّ هذه الرتبةَ ليست لأيام معدودة، بل لمدة مديدة.. ولقد كُتِب في هُويتِه أنه يتسلَّم مُرتّبَه من الخزينةِ الخاصةِ بتاريخِ كذا.. غَيرَ أنَّ هذا التاريخَ بعيدٌ جدا، ولا يأتي إلّا بعد إنهاءِ مهامِّ التدريبِ في هذا الميدان..

    أمّا هذه الوظيفةُ فلا توافق هذا الميدانَ المؤقتَ ولا تَنسجِم معَه، بل هي للفوز بسعادة دائمة في مكانٍ سامٍ عندَ الملِكِ القدير.. أمّا المطالبُ فهي كذلكَ لا يُمكن أن تكونَ لقضاء أيامٍ معدودةٍ في دار الضيافَةِ هذه، وإنما هي لحياةٍ أُخرَى سَعيدةٍ أبدية.. وأمّا هذا الدستور فيَتَّضِحُ منه بجلاء، أن صاحبَ الهويةِ مُهيأٌ لمكانٍ آخرَ، بل يَسعَى نحوَ عالمٍ آخَرَ.

    انظر إلى هذه السجلاتِ التي حُدِّدَت فيها كَيفِيةُ استعمالِ المعدَّات والمسؤولياتِ المترتبة عليها، فإن لم تكن هناكَ مَنزِلةٌ رفيعة خالدة غيرَ هذا الميدان، فلا مَعنَى لهذه الهويةِ المتقنة، ولا لهذا السِّجِل المنتَظَمِ، ولسقطَ الضابِطُ المحترَم والقائِدُ المكرَّم والرئيسُ الموقَّر إلى دَرْكٍ هابط ولَقيَ الشقاءَ والذِّلة والمهانةَ والنكْبةَ والضَّعفَ والفقر.. وقس على هذا، فأينما أنعَمتَ النظر متأمِّلا قادَك النظرُ والتدبُّرُ إلى أنَّ هناك بقاءً بعدَ هذا الفناء...

    فيا صديقي..

    إنَّ هذه المملكةَ المؤقَّتةَ ما هي إلّا بمثابةِ مزرعةٍ، وميدانِ تعليم، وسُوقٍ تجارِيٍّ، فلا بُدَّ أن تأتي بعدَها مَحكمةٌ كبرى وسعادةٌ عظمَى؛ فإذا أنكرتَ هذا، فسوف تَضطَر إلى إنكار كلِّ الهوياتِ والسِّجِلّات التي يمتلكُها الضابط، وكلِّ تلك العُدَدِ والأعتدَةِ والتعليمات، بل تُضطَرُّ إلى إنكار جميعِ الأنظمةِ في هذه المملكة، بل إنكارِ وُجودِ الدولة نفسِها، وينبغي عند ذلك أن تُكذِّب جميعَ الإجراءات الحادثة.. وعندها لا يمكن أن يُقالَ إنَّك إنسانٌ له شعور؛ بل تكون إذ ذاك أشدَّ حماقة من السوفسطائيين.

    وإيّاك إيّاك أن تظنَّ أنَّ دلائلَ وإشاراتِ تَبديلِ المملكةِ مُنحصرةٌ في اثنَتَيْ عَشْرةَ صورةً التي أوردناها، إذ إنَّ هناك ما لا يُعدُّ ولا يُحصَى من الأمارات والأدلة على أن هذه المملكةَ المتغيِّرةَ الزائلة تتحولُ إلى أُخرَى مستقرةٍ باقيةٍ، وهناك الكَثيرُ الكَثيرُ من الإشارات والعلامات تدل على أنَّ هؤلاء الناسَ سيُنقَلون من دار الضيافة المؤَقَّتةِ الزَّائلةِ إلى مَقَرِّ السلطنةِ الدائمةِ الخالِدةِ.

    يا صاحبي.. تعالَ لأقرِّرَ لك برهانا أكثرَ قوَّةً ووضُوحًا من تلك البراهين الِاثنَي عشَرَ التي أَنبأتْ عنها تلك الصوَرُ المتقدِّمةُ..

    تعال، فانظر إلى المبعوث الكريم، صاحبِ الأوسمة الرفيعة الذي شاهدناهُ في الجزيرة مِنْ قَبلُ.. إنه يُبلِّغُ أمرا إلى الحشود الغفيرةِ التي تتَراءَى لنا على بُعد، فهيّا نذهبُ ونُصغِي إليه.. انتبه! فها هو يُبيِّن للمَلَأِ البلاغَ السلطاني الرفيعَ ويوضحُه قائلا لهم:

    تهيَّؤوا! ستَرحَلون إلى مملكة أُخرَى خالدةٍ، ما أعظمَها من مملكةٍ رائعة! إن مملكتَنا هذه تُعدُّ كالسِّجْنِ بالنسبة لها، فإذا ما أصْغيتُم إلى هذا الأمرِ بإمعانٍ، ونفّذتُموه بإتقانٍ ستكُونُون أهلا لرحمةِ سلطانِنا وإحسانِه في مُستقَرِّه الذي تتَّجِهُون إليه، وإلّا فالزِّنزَاناتُ الرهِيبةُ مثواكُم جزاءَ عِصيانِكُم الأمرَ وعَدمِ اكتراثِكُم به.

    إنه يُذكّر الحاضرين بهذا البلاغ، وأنتَ تَرى على ذلكَ البلاغِ العظيمِ ختمَ السلطان الذي لا يُقلَّد؛ والجميعُ يُدرِكون يقينا -إلّا أمثالَك من البُلهاءِ- أنَّ ذلك البَلاغَ بلاغُ الملِكِ، وأن ذلكَ المبعوثَ الكريمَ يحمِلُ منَ الأوسمَةِ الرَّفيعة ما يجعَلُ الجَميعَ -إلّا أمثالكَ من العميان- يعرِفون بِمُجرَّد النظرِ إليها أنه مبلِّغٌ أمين لأوامرِ المَلِكِ.

    فيا تُرى هل يمكن الاعتراضُ على هذه المسألةِ؛ مسألةِ تَبديلِ المملكة التي يدعو إليها كلٌّ من ذلك المبعوثِ الكريم، والبلاغِ الملكيِّ السامي بكل ما أُوتِيا من قوة؟ كَلَّا.. لا يمكنُ ذلك أبدا، إلّا إذا أنكرتَ جميعَ ما تراهُ من أمورٍ وحوادِثَ.

    فالآن أيها الصَّديقُ.. لك أنْ تقولَ ما تشاءُ.

    - ماذا عَسايَ أنْ أقولَ؟ وهل بَقيَ مزيدٌ من قولٍ لقائل أمامَ هذه الحقائق! وهل يقالُ للشمس وهي في كبدِ السَّماء، أين هي؟! إنَّ كلَّ ما أريدُ أنْ أقولَه هو: الحمدُ لله، وألفُ شُكرٍ وشُكرٍ، فقد نجوتُ من قبضةِ الأوهامِ والأهواءِ، وتحرَّرتُ من إسَارِ النفسِ والسِّجنِ الأبديِّ، فآمنتُ بأنَّ هناك دارَ سعادةٍ عندَ السُّلطانِ المعظَّمِ، ونحنُ مُهيَّأون لها بعدَ هذه الدارِ الفانيةِ المضطَربةِ.

    وهكذا تمَّتِ الحكايةُ التي كانت كنايةً عن الحشر والقيامة..

    والآن ننتَقلُ بتوفيقِ العليِّ القَديرِ إلى الحقائقِ العليا، فَسنُبيِّنها في «اثنتَيْ عَشْرةَ حقيقةً»، وهي مُتسانِدةٌ مُترابِطةٌ مُقابلَ الصُّورِ الاثنَتيْ عشرةَ، بعد أن نُمهِّدَ لها بمُقدِّمةٍ.

    * * *

    المقدمة

    نُشيرُ إشاراتٍ فحسبُ إلى بعضِ المسائِل التي أوضحناها في أماكنَ أُخرَى، أي في الكلمةِ الثانيةِ والعشرين، والتاسِعةَ عشْرةَ، والسادِسَةِ والعشرين.

    الإشارة الأولى

    هناك ثلاثُ حقائقَ للمغفَّل ولصَديقِه الناصحِ الأمينِ المذكورَين في الحكاية:

    الأولى: هي نَفسِيَ الأمارةُ وقَلبِي.

    الثانية: مُتعلِّمو الفلسَفةِ وتلاميذُ القرآنِ الكريم.

    الثالثة: مِلَّةُ الكفرِ والأُمَّةُ الإسلاميَّة.

    إن عدمَ معرفة الله سبحانَه وتعالى هو الذي أوقعَ متعلِّمِي الفلسفةِ ومِلةَ الكفر والنفسَ الأمارةَ في الضلالة الرهيبة.. فمثلما قالَ الناصِحُ الأمين في الحكاية: إنه لا يمكنُ أن يكونَ حرفٌ بلا كاتب، ولا قانونٌ بلا حاكم، كذلك نقولُ:

    إنه محالٌ أن يكونَ كتابٌ بلا كاتب، ولا سيَّما كتابٌ كهذا الذي تتضمَّن كلُّ كلمة من كلماتِه كتابا خُطَّ بقلم دقيق، والذي تحتَ كلِّ حرفٍ من حروفِه قصيدةٌ دُبِّجَت بقلم رفيع..

    وكذلك من أمحل المحال أن يكون هذا الكونُ من غير مبدِع، حيثُ إن هذا الكونَ كتابٌ على نَحوٍ عظيم تتضمن كلُّ صحيفة فيه كُتبا كثيرة، لا بل كلُّ كلمةٍ منها كتابا، وكلُّ حرفٍ منها قصيدةً.. فوَجهُ الأرض صَحيفةٌ، وما أكثرَ ما فيها من كتب! والشجرةُ كلمةٌ واحدة، وما أكثرَ ما فيها من صحائف! والثمَرةُ حرفٌ، والبِذرةُ نقطة.. وفي هذه النقطةِ فِهرِسُ الشجرة الباسقة وخطةُ عملِها.. فكتابٌ كهذا ما يكونُ إلّا من إبداع قلمِ صاحِبِ قُدرَةٍ متَّصِفٍ بالجمال والجلال والحكمة المطلقة، أي إنَّ مجردَ النظر إلى العالَم ومشاهدَتَه يستَلزِمُ هذا الإيمان، إلّا مَن أسكَرته الضلالة!.

    ومثلما لا يمكنُ أن تكونَ دارٌ بلا بنّاءٍ، لا سيَّما دارٌ زُيِّنت بأبدع زينة، ونُقِشت بأروعِ نقوشٍ وأعجبِها وشُيِّدت بصنعةٍ خارقة، حتى إنَّ كلَّ حَجرٍ من أحجارِها يتجسَّمُ فيه فنُّ ما في البناءِ كلِّه؛ فلا يقبلُ عاقلٌ أن تكونَ دارٌ مثلُ هذه الدارِ بلا بَنّاءٍ ماهرٍ، وبخاصةٍ أنه يُشيِّدُ في هذا الديوان -في كل ساعة- مساكنَ حقيقيةً في غايةِ الانتِظامِ والتناسُقِ، ويُغيِّرها بانتظامٍ وسُهولةٍ كامِلَين -كسهولةِ تبديلِ الملابسِ- بل إنه يُنشِئ في كل ركنٍ غُرَفا صغيرةً عدّةً في كل مَشهَد حقيقي.

    كذلك لابد لهذا الكَونِ العظيم من خالِقٍ حكيم عليم قدير مطلق، لأن هذا الكونَ إنما هو كالقصر البديع؛ الشَّمسُ والقَمرُ مصابيحُه، والنجومُ شموعُه وقنادِيلُه، والزمنُ شريطٌ يعلِّق عليه الخالقُ ذو الجلال -في كل سنة- عالَما آخر يُبرِزُه للوجود، مجدِّدا فيه صورًا مُنتَظَمَةً في ثلاثِ مِئةٍ وستين شكلا وطِرازا، مبدِّلا إياه بانتظام تام، وحكمة كاملة، جاعلا سَطحَ الأرض مائدةَ نِعَمٍ، يُزيِّنُها في كل ربيع بثلاث مئة ألف نوع من أنواع مخلوقاتِه، ويملؤُها بما لا يعد ولا يُحصَى من آلائه، مع تمييزِ كلٍّ منها تمييزا كاملا، على الرغم من تداخلها وتشابكها.. وقس على هذه الأشياءِ الأمورَ الأخرَى.. فكيفَ يمكنُ التَّغافلُ عن صانِعِ مثل هذا القصرِ المُنيفِ؟

    ثمَّ ما أعظمَ بلاهةَ من ينكرُ الشمسَ في رابعة النهار، وفي صحوة السماء! في الوقت الذي يُرى تَلألُؤُ أشعتِها، وانعكاسُ ضوئِها، على زَبَدِ البحر وحَبابِه، وعلى موادِّ البَرِّ اللامعةِ وعلى بلورات الثلج الناصعة، لأن إنكارَ الشمسِ الواحِدةِ ورَفضَها -في هذه الحالة- يستلزِمُ قَبولَ شُميساتٍ حقيقيةٍ أصِيلةٍ، بعدد قَطراتِ البحر وبعدد الزَبَد والحَباب وبعدد بِلَّوراتِ الثلجِ!

    ومثلما يكون قبولُ وُجودِ شمسٍ عظيمة في كل جُزَيئَة -وهي تَسعُ ذرةً واحدةً- بلاهةً، فإن عدمَ الإيمان بالخالق ذي الجلال، ورفضَ التَّصديقِ بأوصاف كمالِه سبحانه -مع رؤية هذه الكائناتِ المنتَظَمةِ المتبدِّلةِ والمتعاقِبةِ بحكمة في كلِّ آن والمتجدِّدةِ بتناسقٍ وانتظامٍ في كلِّ وقت- ضلالةٌ أدهَى ولاشكَّ، بل هَذيانٌ وجُنون.. لأنه يلزم إذ ذاك قَبولُ ألوهيّةٍ مطلَقةٍ في كل شيء حتى في كلِّ ذرة!. لأن كلَّ ذرة من ذراتِ الهواء -مثلا- تستطِيع أن تدخل في كلِّ زهرة، وفي كل ثمَرة، وفي كل ورقة، وتتمكنُ من أن تؤَدِّيَ دورَها هناك؛ فلو لم تكن هذه الذرةُ مأمورةً ومسخرةً لَلزِمَ أن تكونَ على علم بأشكالِ ما تمكَّنت من الدخول فيه، وبصورتِه وتركيبِه، وهيئَتِه، أي يَجبُ أن تكونَ ذاتَ علمٍ محيط، وذاتَ قدرةٍ شاملة كي تستطيعَ القيامَ بذلك!!

    وكلَّ ذرةٍ من ذراتِ التراب -مثلا- يمكنُ أن تكونَ سببا لنشوء البُذور ونموِّ أنواعِها جميعا، فلو لم تكن مأمورةً ومسخَّرةً للزم أن تحتَويَ على آلاتٍ وأجهزةٍ معنويةٍ بعَدَدِ أنواع الأعشابِ والأشجارِ، أو يَجِبُ مَنحُها قدرةً ومَهارةً بحيثُ تَعلمُ جميعَ أشكالِ تراكيبِها، فتَصنعُها، وتعرفُ جميعَ صوَرِها، فتنسُجُها..

    وقس على هذا سائرَ الموجودات، حتى تفهم أن للوحدانية دلائلَ واضحةً باهرةً في كلِّ شيء. نعم، إن خلقَ كلِّ شيءٍ من شَيء واحد، وخلقَ شيءٍ واحد من كلِّ شَيءٍ، إنما هو عملٌ يخصّ خالقَ كلِّ شيء..

    فتدبَّر وتأمَّل في قولِه تعالى: ﴿وَاِنْ مِنْ شَىْءٍ اِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه۪﴾

    واعلَم أنَّ عدمَ الاعتقادِ بالإلهِ الواحد الأحد يَستلزِمُ الاعتِقادَ بآلهةٍ بعدَدِ الموجودات!

    الإشارة الثانية

    لقد جاءَ في الحكاية ذكرُ مبعوثٍ كريم، وذُكرَ أنَّ مَن لم يكُن أعمى يَفهمُ من رُؤيَةِ أوسمتِه: أنه شخصٌ عظيم، لا يأتمر إلّا بأمر السلطان، فهو عامِلُه الخاص.. فهذا المبعوثُ إنما هو رَسُولُنا الأعظَمُ ﷺ.

    نعم، يلزمُ أن يكونَ لمثل هذا الكونِ البديع ولصانِعه القُدُّوس، مثلُ هذا الرَّسولِ الكريم، كلزوم الضوء للشمس، لأنه كما لا يمكن للشمس إلّا أن تُشعَّ ضِياءً كذلك لا يمكن لِلأُلوهِية إلّا أن تُظهر نَفسَها بإرسال الرُّسلِ الكرامِ عليهِمُ السلام.

    فهل يمكن أن لا يَرغبَ جمالٌ في غايةِ الكمال في إظهارِ نفسِه بوسيلةٍ ودليلٍ يعرِّفه؟

    أم هل يمكن أن لا يَطلُب كمالُ الصَّنعةِ في غاية الجمال الإعلانَ عنه بوَساطةٍ تَلفِتُ الأنظارَ إليه؟

    أم هل يمكن أن لا تطلُبَ سلطنةٌ كلِّيةٌ لربوبيةٍ عامّةٍ شامِلةٍ إعلانَ وحدانِيَّتِها وصَمَدانِيَّتِها على مُـختلِفِ الطبقاتِ بوساطة مبعوث ذي جناحَين؟ أي ذي صِفتَين: صِفةِ العبوديَّةِ الكلية، فهو مُمَثِّـلُ طبقاتِ المخلوقات عندَ الحضرةِ الربانية؛ وصِفةِ الرِّسالة والقُربِ إليه، فهو مُرسَلٌ من لدُنهُ سبحانَه إلى العالَمِينَ كافة.

    أم هل يمكن لصاحب جمال مطلق أن لا يروم أن يَشهَدَ هو ويُشهِدَ خلقَه محاسنَ جمالِه ولطائفَ حُسنِه في مرايا تعكِسُ هذا الجمالَ؟ أي بوساطةِ رسولٍ حبيب؛ فهو حبيبٌ لتَودُّدِه إلى الله سبحانَه بعبوديتِهِ الخالصةِ، وهو رسولٌ لأنه يُحبِّبُ اللهَ سبحانه إلى الخلق بإظهارِ جمالِ أسمائِه الحسنى.

    أم هل يمكنُ أن لا يُريدَ مَن يملكُ خزائنَ مشحونةً بأغلى الأشياء وأعجبِها وبما يُدهِشُ العقولَ، إظهارَ كمالِه المستتِر، وأن لا يَطلُبَ عرضَه على أنظارِ الخلقِ أجمعين، وكشفَه على مَرأًى منهم، بوساطة معرِّفٍ حاذِق ومعلِنٍ وصَّافٍ؟

    أم هل يمكن لِمَن زيّن هذا الكونَ بمخلوقاتٍ معبّرةٍ عن كمال أسمائه الحسنى، وجعلَه قصرا رائعا، وجمَّله ببدائعِ صنعتِه المذهلة، وعرضَه على الأنظار، ثم لا يَكِلُ أمرَ إيضاحِه إلى مرشدٍ معلِّمٍ رائد؟

    أم هل يمكن أنْ لا يُبيِّنَ مالكُ هذا الكونِ بوَساطةِ رسول: ما الغايةُ من تحولاتِ هذا الكون وما القَصدُ من هذا الطلسم المغلق؟ وأن لا يجيب بوساطته عن ألغاز الأسئلة الثلاثة المستعصية في الموجودات، وهي: من أينَ؟ وإلى أين؟ ومن تكونُ؟

    أم هل يُمكِنُ للخالقِ ذي الجلالِ الذي عرَّف نفسَه إلى ذوي الشعورِ بهذه المخلوقاتِ الجميلةِ، وحبَّبها إليهِم بنِعَمِه الغاليةِ، أن لا يُبيِّن لهم بوَساطَةِ رَسولٍ ما يُريدُ منهم وما يُرضِيه إزاءَ هذه النِّعمِ السابِغةِ؟

    أم هل يُمكِنُ لربِّ العالمين الذي ابتَلَى النوعَ الإنسانيَّ بمَشاعِرَ متوجِّهةٍ إلى الكَثرَةِ والدنيا، ووهبَ له من الاستِعدادَاتِ ما يَسَعُ العالمَ كلَّه وهيَّأه للعبوديةِ الكليةِ، أن لا يطلُبَ صَرْفَ وجهِه من الكَثرَةِ إلى الوَحدةِ بوَساطةِ مرشِدٍ مُرسَل؟

    وهكذا فإنَّ هناك دلائلَ أُخرَى زيادةً على ما تقدَّم، كلُّها بَراهينُ قاطعةٌ تُبيِّن: «وظائفَ النُّبوَّةِ ومَهامَّها»، وتُوضِّحُ أن الألوهيةَ لا تكونُ بلا رِسالَة.

    والآن، فهل ظَهرَ في العالم مَن هو أكثرُ أَهلِيَّةً، وأَجمعُ لتِلكَ الأوصافِ والوظائِفِ التي ذُكِرَت، من محمدٍ الهاشِميِّ ﷺ؟ أم هل هناك أحد أليَقُ منه ﷺ لمنصِبِ الرِّسالَة ومُهمَّةِ التَّبلِيغ؟ وهل أظهرَ الزمانُ أحدا أعظمَ أهليَّةً منه؟ كَلّا.. ثُمَّ كَلّا.. فهو إمامُ جميعِ المرسَلينَ، وقرَّةُ عَينِ كلِّ الأصفِياء، وسلطانُ جميع المرشِدِين، وزُبدةُ كلِّ المختارِين والمقرَّبِين،

    صاحبُ ألوفِ المعجزاتِ كشَقِّ القمَر، ونبعانِ الماء من بين أصابِعه الشريفَة، مما عدا دلائلَ نبوَّتِه وأماراتِها التي لا تُحصَى، مما هو مَـحَلُّ إجماعِ أهلِ الفضْلِ والعلم، وعدا القرآنَ العظيمَ الذي هو بَحرُ الحقائِق والمعجزةُ الكُبرى، إذ إنه كالشمس الساطعةِ دليلٌ قاطِعٌ على صِدقِ رسالتِه.. ونكتفي بهذا القَدْرِ حيثُ أثبتنا إعجازَ القرآنِ بما يقرُبُ من أربعيَن وجهًا من وُجوهِ الإعجاز في «رسائل النور» ولاسيَّما في «الكلمةِ الخامسَةِ والعِشرِين».

    الإشارة الثالثة

    لا يَخطُرنَّ على بالِ أحدٍ فيقولَ: ما أهمِّيةُ هذا الإنسانِ الصَّغيرِ وما قِيمتُه حتى تَنتهِي هذه الدنيا العظيمةُ وتُفتَحَ دائرةٌ أُخرَى لمحاسبتِه على أعمالِه! لأن هذا الإنسانَ، هو سيِّدُ الموجوداتِ رغمَ أنه صغيرٌ جدا، لِمَا يَملِكُ من فطرةٍ جامعة شاملة.. فهو قائدُ الموجودات، والداعي إلى سلطانِ ألوهيّةِ الله، والممثِّلُ للعبودية الكلية الشامِلة ومَظهَرُهَا، لذا فإنَّ له أهميةً عُظمَى.

    ولا يَخطُرَنَّ على البال كذلك: كيف يكونُ هذا الإنسانُ محكوما بعذابٍ أبَديٍّ، مع أن له عُمُرا قصيرا جدا؟. لأن الكفرَ جريمةٌ كبرى، وجنايةٌ لا حدودَ لها؛ حيثُ إنه يهبطُ بقيمةِ الكائِناتِ ودرجَتِها -التي تُوازِي قيمةَ مكاتيبَ صَمدانِيّةٍ ودَرجتَها- إلى هاوية العبث، ويوهمُ عدمَ وجودِ الغاية من إيجادِها.. وإنَّه تحقيٌر بيِّنٌ للكائنات كلِّها وإنكارٌ لما يُشاهَد من أنوار الأسماء الحُسنَى كلِّها، وإنكارُ آثارِها في هذه الموجودات، ومن ثَمَّ فإنه تكذيبُ ما لا يُحصَى من الأدلَّة الدَّالةِ على حقَّانيَّةِ وصدقِ الحقِّ سبحانَه وتعالى، وكلُّ هذا جنايةٌ لا حدودَ لها، والجِنايَةُ التي لا حُدودَ لها توجِبُ عذابا غيرَ مُحدَّدٍ بحدُود.

    الإشارة الرابعة

    لقد رأينا في الحكاية بِصُوَرِها الاثنَتيْ عشْرةَ: أنه لا يمكنُ بوجه من الوجوه أن تكونَ لسلطانٍ عظيم مملكةٌ مؤقَّتة -كأنها دارُ ضيافَة- ثم لا تكونَ له مملكةٌ أُخرَى دائمةٌ مستقِرَّة، ولائقةٌ لأُبَّهتِه وعظمتِه ومقامِ سلطنتِه السّامية؛ كذلك لا يمكنُ بوجه من الوجوه أنْ لا يُنشِئَ الخالقُ الباقي سبحانَه عالمًَا باقيا بعد أنْ أوجدَ هذا العالَمَ الفانِي.

    ولا يُمكِن أيضا أن يخلقَ الصانِعُ السَّرمدِيُّ هذه الكائناتِ البديعةَ الزائلةَ، ولا يُنشِئَ كائناتٍ أخرى دائمةً مُستقِرَّة. ولا يمكن أيضا أن يخلقَ الفاطرُ الحكِيمُ القَديرُ الرَّحيمُ هذا العالَمَ الذي هو بحكم المعرِضِ العامّ وميدانِ الامتحان والمزرَعةِ الوقتيّةِ ثم لا يخلُقَ الدَّارَ الآخِرةَ التي تكشفُ عن غاياتِه وتظهرُ أهدافَه!

    إن هذه الحقيقةَ يتم الدُّخولُ فيها من «اثْنيْ عشرَ بابًا»، وتُفتَحُ تلكَ الأبوابُ بـ«اثنتيْ عشْرةَ حقيقةً»، نبدأ بأقصرها وأبسطها.

    الحقيقة الأولى

    بابُ الرُّبوبيةِ والسّلطنةِ وهو تجلي اسمِ «الرَّب»

    أمِنَ الممكن لمَن له شأنُ الربوبيةِ وسلطنةُ الألوهيّةِ، فأوجدَ كونا بديعا كهذا الكون؛ لغاياتٍ ساميةٍ ولمقاصدَ جليلةٍ، إظهارا لكماله، ثم لا يكونُ لديهِ ثوابٌ للمؤمنين الذين قابَلوا تلك الغاياتِ والمقاصدَ بالإيمان والعبودية، ولا عِقابٌ لأهلِ الضلالةِ الذين قابلوا تلك المقاصدَ بالرفض والاستخفاف؟!

    الحقيقة الثانية

    بابُ الكرمِ والرحمةِ وهو تجلِّي اسمِ «الكريم والرَّحيم»

    أمِنَ الممكن لربِّ هذا العالم ومالِكِه الذي أظهر بآثاره كرما بلا نهايةٍ، ورحمةً بلا نهاية، وعزةً بلا نهاية، وغَيرةً بلا نهاية، أن لا يُقدِّر للمحسنينَ مثوبةً تليقُ بكرمه ورحمتِه، ولا يقرِّرَ للمُسيئينَ عُقوبةً تناسِب عزّتَه وغَيرتَه؟..

    فلو أنعمَ الإنسانُ النظرَ في سير الحوادث ابتداءً من أضعفِ كائن حيٍّ وأشدِّه عجزًا([7]) وانتهاءً بأقوى كائنٍ، لَوَجدَ أنّ كلَّ كائنٍ يأتيه رزقُه رَغَدًا من كلِّ مكانٍ، بل يَمنحُ سبحانَه أضعفَهم وأشدَّهم عجزًا ألطفَ الأرزاقِ وأحسنَها، ويُسعِفُ كلَّ مريضٍ بما يُداوِيه.. وهكذا يجدُ كلُّ ذي حاجةٍ حاجتَه من حيثُ لا يَحتسِبُ.. فهذه الضِّيافةُ الفاخرةُ الكريمةُ، والإغداقُ المستمِرُّ، والكرمُ السامِي، تدلُّنا بداهةً، أنَّ يدا كريمةً خالدةً هي التي تَعمَلُ وتُديرُ الأمورَ.

    فمثلا: إنَّ إكساءَ الأشجارِ جميعا بحُللٍ خُضْرٍ شبيهةٍ بالسُّندُسِ -كأنها حورُ الجنَّة- وتزيينَها بمرصَّعاتِ الأزهارِ الجميلة والثِّمارِ اللطيفة، وتسخيرَها لخِدمتِنا بإنتاجِها ألطفَ الأثمارِ المتنوِّعَةِ وألذَّها في نهايات أغصانِها التي هي أيديها اللطيفةُ.. وتمكِينَنا من جَنْيِ العسل اللذيذ -الذي فيه شفاءٌ للناس- من حشَرة سامة.. وإلباسَنا أجملَ ثيابٍ وأليَنَها مما تَحُوكُه حشرةٌ بلا يَدٍ.. وادِّخارَ خَزينةِ رحمةٍ عظيمة لنا في بذرة صغيرة جدا.. كلُّ ذلك يُرينا بداهةً كرما في غاية الجمال، ورحمةً في غاية اللُّطف.

    وكذا، إنَّ سَعيَ جميعِ المخلوقاتِ، صَغيرِها وكبيرِها -عَدا الإنسانَ والوحوشَ الكاسِرةَ- لإنجاز وظائفِها بانتظام تام ودقةٍ كاملة، ابتداءً من الشمسِ والقمرِ والأرضِ إلى أصْغرِ مخلوقٍ، بشكلٍ لا يتجاوزُ أحدٌ حدَّه قَيْدَ أُنمُلَة، ضمنَ الطاعةِ التامّة والانقيادِ الكامِلِ المحفوفَين بهَيبة عظيمة، يُظهِر لنا أن هذه المخلوقاتِ لا تَتحرَّك ولا تسكنُ إلّا بأمر العظيم ذي العزَّةِ والجلال.

    وكذا، إنَّ عِنايةَ الأمهات بأولادِهنَّ الضعافِ العاجزين -سواءٌ في النباتِ أوِ الحيوان أوِ البَشر- عنايةً ملؤُها الرّأفةُ والرّحمةُ،([8]) وتَغذيَتَها بالغذاء اللطيف السائغ من اللبن، تُريك عظمةَ التّجَلِّياتِ، وسعةَ الرحمةِ المطلقة.

    فما دام ربُّ هذا العالم ومدبِّرُه له هذا الكرمُ الواسِعُ، وهذه الرّحمةُ التي لا منتهَى لها، وله الجلالُ والعِزةُ المطلقان، وأن العِزّةَ والجلالَ المطلقَين يقتضيان تأديب المستخِفِّين، والكرمَ الواسعَ المطلق يَتطلَّبُ إكراما غَيرَ متناه، والرّحمةَ التي وَسِعت كلَّ شيء تَستدعِي إحسانا يليقُ بها، بينما لا يتحقَّقُ من كل ذلك في هذه الدُّنيا الفانيةِ والعمُرِ القصيرِ إلّا جزءٌ ضئيلٌ جدا هو كقَطرةٍ من بحر. فلابد أن تكونَ هناك دارُ سَعادةٍ تليقُ بذلك الكرمِ العميم، وتَنسجِمُ مع تلك الرحمةِ الواسعة.. وإلّا يَلزَمُ جُحودُ هذه الرحمةِ المشهودةِ، بما هو كإنكار وجود الشمس التي يملأُ نورُها النهارَ، لأن الزوالَ الذي لا رَجعةَ بعده يستلزِمُ انتفاءَ حقيقةِ الرّحمةِ من الوجود، بتبديلِه الشفقةَ مصيبةً، والمحبةَ حُرقةً، والنِّعمةَ نِقمةً واللذةَ ألما، والعقلَ المحمودَ عضوا مشؤوما.

    وعليه فَلابدَّ من دار جزاءٍ تناسبُ ذلك الجلالَ والعزّةَ وتنسجمُ معها، لأنه غالبا ما يظلُّ الظالمُ في عزتِه، والمظلومُ في ذِلته وخُنوعِه، ثم يَرحَلان على حالهما بلا عقاب ولا ثواب. فالأمرُ إذن ليس إهمالا قط، وإن أُمهِلَت إلى محكمة كبرى، فالقضية لم تُهمل ولن تُهمل، بل قد تُعَجّلُ العقوبةُ في الدنيا؛ فإنزالُ العذابِ في القُرونِ الغابرةِ بأقوام عصت وتمرَّدت يبين لنا أن الإنسانَ ليس متروكا زِمامُه، يسرح وَفقَ ما يُملِي عليه هواه، بل هو مُعرَّض دائما لصفعات ذي العزة والجلال.

    نعم، إن هذا الإنسانَ الذي أُنيطَ به -من بين جميع المخلوقات- مهامُّ عَظيمةٌ، وزُوِّدَ باستعداداتٍ فِطريةٍ كاملة، إن لم يَعرِف ربَّه «بالإيمان» بعد أنْ عرَّف سبحانه نفسَه إليه بمخلوقاته البديعةِ المنتظَمة.. وإن لم يُـحبِّب نفسَه إليه بـ«العبادة» بعد أن حبَّبَ سبحانَه نَفسَهُ إليه بما خلقَ له من الثمار المتنوِّعةِ الجميلةِ الدالةِ على رحمتِه الواسعة.. وإن لم يقم بالتوقير والإجلال اللائقَين به «بالشكر والحمد» بعد أن أظهرَ سبحانَه محبَّته له ورحمتَه عليه بنعمه الكثيرة.. نعم، إن لم يَعرِف هذا الإنسانُ ربَّه هكذا، فكيف يُترَك سدًى دونَ جزاء، ودون أن يُعِدَّ له ذو العزةِ والجلالِ دارًا للعقاب؟

    وهل من الممكن أن لا يَمنحَ ذلك الربُّ الرحيم دارَ ثوابٍ وسعادةٍ أبدية، لأولئك المؤمنِين الذين قابلوا تعريفَ ذاتِه سبحانَه لهم بمعرفتِهم إيّاهُ بـ«الإيمان»، وقابلوا تَحبِيبَ نفسِه إليهم بحبِّه والتحبُّبِ له بـ «العبادة»، وقابلوا رحمتَه لهم بإجلالِه وتوقيرِه بـ«الشكر»؟

    الحقيقة الثالثة

    بابُ الحكمةِ والعدالة وهو تَجلِّي اسمِ «الحكيم والعادل»

    أمن الممكن ([9]) لخالقٍ ذي جـلال أظهرَ سُلطانَ رُبوبِيَّتِه بتدبير قانونِ الوجود ابتداءً من الذرات وانتهاءً بالمجرَّات، بغاية الحكمة والنِّـظام وبمنتهَى العدالة والميزان.. أن لا يُعامِل بالإحسان من احتَمَوْا بتلك الربوبية وانقادوا لتلك الحكمة والعدالة، وأن لا يُجازِيَ أولئك الذين عصَوا بكفرهم وطغيانِهم تلك الحكمةَ والعدالة؟!.

    بينما الإنسانُ لا يَلقى ما يستحِقُّه من الثواب أوِ العقاب في هذه الحياة الفانية على وجهٍ يليقُ بتلكَ الحكمةِ وتلك العدالةِ إلّا نادرا، بل يُؤخَّرُ، إذ يَرحَل أغلبُ أهلِ الضلالة دون أن يَلقَوْا عقابهم، ويَذهَب أكثرُ أهل الهداية دونَ أن ينالوا ثوابَهم.. فلابد أن تُناطَ القضيةُ بمحكمة كبرى، وبلقاءٍ آيِلٍ إلى سَعادةٍ عظمى.

    نعم، إنه لَواضِحٌ أن الذي يَتصرَّفُ في هذا الكون، إنما يتصرفُ فيه بحكمةٍ مطلقة، أتطلبُ برهانا على هذا؟ فانظر إلى رعايتِه سبحانَه للمصالح والفوائِدِ في كل شيء.. ألا تَرى أن أعضاءَ الإنسانِ جميعا وعظامَه وعروقَه، وحتى خَلاياه الجِسميَّةَ وكلَّ جزءٍ منه ومكان، قد رُوعِيت فيه فوائدُ وحِكمٌ شتَّى، بل إن في عضوٍ من أعضاء جِسمِه من الفوائدِ والأسرار بقَدْرِ ما تُنتِجُه الشجرةُ الواحدةُ من الثمار، مما يدل على أنَّ يدَ حِكمةٍ مطلقة تُديرُ الأمورَ؛ فضلا عن التناسُقِ البديعِ في صنعةِ كلِّ شيءٍ والانتظامِ الكامِلِ فيها، اللذَينِ يَدُلَّانِ على أنّ الأُمورَ تُؤدَّى بحكمةٍ مطلقةٍ.

    نعم، إن تَضمِين الخُطَّةِ الدقيقةِ لزهرةٍ جميلة في بُذيرتِها الصغيرةِ، وكتابةَ صحيفةِ أعمالِ شجرةٍ ضَخمةٍ وتاريخِ حياتِها وفهرِسِ أجهزتها، في نُوَيَّتِها بقلمِ القَدَرِ المعنويِّ.. يرينا بوضوح أن قلمَ حكمةٍ مطلقة هو الذي يَتصرَّف في الأمر.. وكذا، وجـودُ روعةِ صنعةٍ وإبداعٍ في منتهى الدرجة، في خِلقة كل شيء، يُظهرُ أن صانعا حكيما مطلقا هو صاحبُ هذا الإبداعِ وهذه النقوش.

    نعم، إن إدراجَ فِهرِسِ الكائنات جميعا، ومَفاتيحِ خزائن الرحمة كافةً، ومرايا الأسماء الحسنى كلِّها، في هذا الجسم الصَّغير للإنسان، لَمِمَّا يدُلُّ على الحكمةِ البليغةِ في الصّنعَةِ البديعةِ..

    فهل منَ الممكِن لمثلِ هذه الحكمةِ المُهَيمِنةِ على مثل هذه الإجراءاتِ والشّؤونِ الرّبانيّةِ أن لا تُحسِنَ معاملةَ أولئك الذين استظلُّوا بظلِّها وانقَادُوا لها بالإيمانِ، وأن لا تُثِيبَهم إثابةً أَبدِيّةً خالِدةً؟!

    وهل تريدُ برهانًا على إنجازِ الأعْمالِ بالعَدْلِ والميزانِ؟ إنَّ منحَ كلِّ شيء وجودا بموازينَ حسّاسةٍ، وبمقاييسَ خاصةٍ، وإلباسَه صورةً معينة، ووضعَه في موضع ملائم.. يُبيِّن بوضوح أن الأمورَ تسير وَفقَ عدالةٍ وميزان مطلقَين.

    وكذا، إعطاءُ كلِّ ذي حقٍّ حقَّه وَفق استعدادِه ومواهبِه، أي إعطاءُ كلِّ ما يلزمُ، وما هو ضَرورِيٌّ لوجوده، وتوفيرُ جميعِ ما يحتاجُ لبقائِه في أفضل وضع، يدلُّ على أنّ يدَ عدالة مطلقة هي التي تُسيِّر الأمور.

    وكذا، الاستِجابةُ المستمِرَّةُ والدائمة لما يُسأل بلسان الاستعدادِ أوِ الحاجةِ الفطرية، أو بلسان الاضطرار، تُظهرُ أنّ عدالةً مطلقة، وحكمةً مطلقة هما اللتان تُجرِيان عَجَلةَ الوجود.

    فالآن، هل من الممكن أن تُهمِلَ هذه العَدالَةُ وهذه الحكمةُ تلك الحاجةَ العُظمَى، حاجةَ البقاءِ لأسمَى مخلوقٍ وهو الإنسانُ؟ في حينِ أنهما تَستجِيبان لأدنى حاجةٍ لأضعف مخلوق؟ فهل من الممكن أن ترُدّا أهمَّ ما يرجوهُ الإنسانُ وأعظمَ ما يتمناه، وألّا تصونا حِشمةَ الربوبية وتتخلَّفا عن الإجابة لحقوق العباد؟!

    غيرَ أنَّ الإنسانَ الذي يقضي حياةً قصيرةً في هذه الدنيا الفانية، لا ينالُ ولا يُمكِنُه أن ينالَ حقيقةَ هذه العدالة، وإنما تُؤخَّر إلى محكمة كبرى، حيثُ تقتضي العدالةُ الحقّةُ أن يُلاقيَ هذا الإنسانُ الصغيرُ ثوابَه وعقابَه لا على أساس صِغره، بل على أساس ضخامة جنايته، وعلى أساس أهمية ماهِيتَّه، وعلى أساس عَظمةِ مُهمَّتِه..

    وحيثُ إنّ هذه الدنيا العابرةَ بعيدةٌ كلَّ البعد عن أن تكونَ محلا لمثل هذه العدالةِ والحكمة بما يخصُّ هذا الإنسانَ المخلوقَ لحياة أبديّة فلابد من جَنةٍ أبدية، ومن جهنمَ دائمةٍ للعادلِ الجليل ذي الجمالِ وللحَكيم الجمِيل ذي الجلال.

    الحقيقة الرابعة

    بابُ الجودِ والجمال وهو تجلِّي اسمِ «الجوادِ» و«الجميلِ»

    أمن الممكن لجودٍ وسخاء مُطلقَين، وثروةٍ لا تنضُب، وخزائنَ لا تنفَد، وجمالٍ سرمديٍّ لا مثيل له، وكمالٍ أبديٍّ لا نقصَ فيه، أن لا يطلُب دارَ سعادة ومحلَّ ضيافة، يخلُد فيه المحتاجون للجود، الشاكرون له، والمشتاقون إلى الجمال، المعجبونَ به؟

    إن تَزيِينَ وجهِ العالم بهذه المصنوعاتِ الجميلةِ اللطيفة، وجعْلَ الشمسِ سِراجا، والقمرِ نورا، وسَطحِ الأرض مائدةً للنعم، وملْأَها بألذِّ الأطعمة الشهية المتنوعة، وجعْلَ الأشجارِ أوانيَ وصِحافا تتجدَّدُ مرارا كلَّ موسم.. كلُّ ذلك يُظهر سَخاءً وَجُودا لا حدَّ لهما؛

    فلا بدَّ أن يكونَ لمثل هذا الجودِ والسخاء المطلقَين، ولمثل هذه الخزائن التي لا تنفَد، ولمثل هذه الرحمة التي وسِعَت كلَّ شيء، دارَ ضيافة دائمة، ومحلَّ سعادةٍ خالدة يحوي ما تشتهيه الأنفسُ وتلذُّ الأعينُ وتستدعي قطعا أن يُخلَّد المتلذِّذون في تلك الدار، ويظلُّوا ملازمِين لتلك السعادة ليَبتعِدوا عن الزوال والفراق، إذْ كما أنَّ زوالَ الألم لذةٌ فزوالُ اللذةِ ألمٌ كذلك، فمثلُ هذا السخاء يَأبَى الإِيذاءَ قطعا.

    أي إن الأمرَ يقتضي وجودَ جنةٍ أبدية، وخُلودَ المحتاجين فيها؛ لأن الجودَ والسَّخاء المطلَقَين يتطلبان إحسانا وإنعاما مطلَقَين، والإحسانَ والإنعامَ غيرَ المتناهيَين يَتطلَّبان تَنعُّما وامتنانا غيرَ مُتناهِيّيْن، وهذا يقتضي خلودَ مَن يَستحِقُّ الإحسان، كي يُظهِر شكرَه وامتنانَه بتنعُّمه الدائم إزاء ذلك الإنعامِ الدائِم.. وإلّا فاللذةُ اليَسيرَة التي يُنغِّصُها الزوالُ والفِراق في هذه الفترة الوجيزة لا يُمكِن أن تَنسجِم ومُقتضَى هذا الجودِ والسخاء.

    ثم انظر إلى مَعارِض أقطار العالم التي هي مَشهَدٌ من مشاهِد الصنعة الإلهية، وتدبَّر في ما تَحمِله النباتاتُ والحيواناتُ على وجه الأرض من إعلاناتٍ ربانية([10]) وأنصِت إلى الداعين الأدلّاءِ إلى محاسن الربوبية وهم الأنبياءُ عليهم السلام والأولياءُ الصالحون، ﻛﻴﻒ ﺃﻧَّﻬﻢ يُظهِرونَ و يُبيِّنونَ مُتَّفقينَ كمالاتِ الصانعِ ذي الجلالِ التي لا نقصَ فيها ﺑﺘﺸﻬِﻴﺮِﻫﻢ ﺻﻨﻌﺘَﻪ ﺍﻟﺒﺪﻳﻌﺔَ ﻭﻳُﻠﻔِﺘﻮﻥَ الأنظارَ ﺇﻟﻴﻬﺎ.

    إذن، فلِصانِعِ هذا العالم كمالٌ فائـقٌ عظِيمٌ مُثيرٌ للإعجابِ، خَفيٌّ مُـستَتِرٌ، فهو يُريدُ إظهارَه بهذه المصنوعات البديعة، لأنَّ الكمالَ الخفيّ الذي لا نقص فيه يتطلَّبُ الإعلانَ عنه على رؤوسِ أشهادٍ مُقدِّرِين مُستَحسِنين مُعجَبِين به؛ وأنَّ الكمالَ الدائمَ يقتضِي ظهورا دائما، وهذا بِدَورِه يَستَدعِي دوامَ المستحسِنين المعجَبين، إذ المُعجَب الذي لا يَدومُ بقاؤُه تَسقُطُ في نظرِه قِيمةُ الكمالِ.([11])

    ثم إنَّ هذه الموجوداتِ العجِيبةَ البدِيعَةَ الدَّقيقةَ الرائِعةَ المنتَشِرةَ في هذا الكَونِ تَدلُّ بوضوح -كدَلالةِ ضَوءِ النهار على وُجودِ الشمسِ- على مَحاسنِ الجمال المعنويِّ الذي لا مَثيل له، وتُريكَ كذلك لطائفَ الحُسنِ الخفيِّ الذي لا نظير له؛([12]) وإنَّ تَجلِّي ذلك الحُسنِ الباهر المُنزَّه، وذلك الجمالِ الزاهر المقدَّس يشيرُ إلى كنوزٍ كثيرة خفية موجودةٍ في الأسماء الحسنى، بل في كل اسم منها.

    ومثلما يَطلُبُ هذا الجَمالُ الخفيُّ السامي الذي لا مثيلَ له، أن يَرى محاسنَه في مِرآةٍ عاكسَةٍ ويَشهَدَ درجاتِ حُسنِه ومقاييسَ جماله في مرآة ذاتِ مَشاعرَ وأشواقٍ إليه، فإنه يريد الظهورَ والتجلي ليَرَى جمالَه المحبوبَ أيضا بأنظار الآخرين..

    أي أنْ يَنظُر إلى جماله من جهتين: الأولى: مُشاهَدةُ الجمالِ بالذّاتِ في المرايا المختلفةِ المتعدِّدة الألوان. والأخرى: مُشاهدةُ الجمالِ بنظر المشاهِدِين المشتاقِين المعجَبِين المستحسِنِين.

    أي إنَّ الجمالَ والحسنَ يقتضيان الشُّهودَ والإشهادَ «الرُّؤيةَ والإراءَةَ» وهذا الشهودُ والإشهادُ يستلزمان وجودَ المشاهدِين المشتاقِين والمستحسنِين المعجَبِين..

    ولما كان الجمالُ والحسنُ خالِدَين سرمديَّين فإنهما يقتضيان خُلودَ المشتاقِين وديمومَتَهم، لأن الجمالَ الدائمَ لا يرضى بالمشتاق الزائل الآفل، فالمُشاهِدُ الذي يَشعُرُ بالزوال -وقُضِيَ عليه بعدم العَودَة إلى الحياة- تتحوَّلُ بمجرَّد تصوُّرِه الزوالَ مَحبّتُه عداءً، وإعجابُه استخفافا، واحترامُه إهانةً، لأن الإنسانَ الأنانيّ مثلما يعادي ما يجهَلُه، يعادي ما لا تصل إليه يدُه أيضا، فيُضمِر عداءً وحِقدا وإنكارا لذلك الجمال الذي ينبغي أن يقابَل بما يستحقُّه من مَحبّة بلا نهاية وشوقٍ بلا غايةٍ وإعجابٍ بلا حدّ.. ومن هذا يُفهَمُ سرُّ كونِ الكافر عَدُوا لله سبحانه وتعالى.

    ولما كان ذلك الجُودُ في العطاءِ غيرِ المحدود، وذلك الحُسنُ في الجمال الذي لا مثيلَ له، وذلك الكمالُ الذي لا نقصَ فيه.. يقتضي خلودَ الشاكرِين، وبقاءَ المشتاقِين المستَحسنِين، ونحنُ نُشاهِد رحلةَ كلِّ شخص واختفاءَه بسرعة في دار ضيافةِ الدنيا هذه، دونَ أن يَستمتِع بإحسان ذلك السخاء إلّا نَزرا يسيرا بما يفتح شَهِيَّتَه فقط، ودون أن يرى من نور ذلك الجمالِ والكمالِ إلَّا لمحةً خاطفة..

    إذن الرِّحلةُ منطلقةٌ نحوَ متنزهاتٍ خالدةٍ ومَشاهدَ أبديّة.

    الخلاصة: مثلما أنَّ هذا العالمَ يدلُّ بموجوداتِه دلالةً قاطِعةً يقينا على صانعِه الكريم ذي الجلال، فَصِفاتُه المقدَّسةُ سبحانَه وأسماؤُه الحسنى تدلُّ كذلك على الدّارِ الآخرةِ بلا ريب وتظهرُها، بل تَقتضِيها.

    الحقيقة الخامسة

    بابُ الشفقةِ وعُبوديّةِ محمدٍ ﷺ

    وهو تجلي اسمِ «المجيب» و«الرحيم»

    أمن الممكن لربٍّ ذي رحمةٍ واسعة وشفقةٍ غَيرِ متناهية يُبصِر أخفَى حاجةٍ لأدنى مخلوق، ويُسعِفُه من حيثُ لا يَحتسِبُ برأفةٍ غيرِ متناهيةٍ ورحمةٍ سابغة، ويَسمعُ أخْفَت صوت لأخفَى مخلوق فيُغيثُه، ويُجيبُ كلَّ داعٍ بلسان الحال والمقال، أمن الممكن ألّا يَقضِيَ هذا الربُّ المجيبُ الرَّحيم أهمَّ حاجةٍ لأعظمِ عباده([13]) وأَحَبِّ خلقِه إليه، ولا يُسعفَه بما يرجوهُ منه؟!

    فحُسنُ تربيَّةِ صغارِ الحيواناتِ وضِعافِها، وإعاشتُها بسهولةٍ ولُطفٍ ظاهِرِيَّيْنِ تُريانِنا أن مالكَ هذه الكائنات يُسيِّرُها بربوبية لا حدَّ لرحمتِها؛ فهل يُعقَلُ لهذه الربوبيَّةِ المُـتَّـصِفةِ بكمال الشفقةِ والرأفةِ ألّا تَستجيبَ لأجمل دعاءٍ لأفضلِ مَخلوق؟! وكما بَيَّنتُ هذه الحقيقةَ في «الكلمة التاسعة عشرة» أُعيدُ بيانَها هنا:فيا صَديقي الذي يَسمعُني مع نفسي.. لقد ذَكرْنا في الحكايةِ التَّمثيليةِ: أنَّ هناكَ اجتماعا في جَزيرةٍ، وأنَّ مبعوثا كريما يرتَجِلُ خُطبةً، فالحقيقةُ التي يشير ذلك إليها، هي ما يأتي:

    تعال لِنتَجرَّدْ من هذا الزمان، ولْنَذهَبْ بأفكارنا إلى عصرِ النُّبوَّةِ، وبخيالنا إلى تلك الجزيرةِ العربيَّةِ كيْ نَحظَى بزيارتِه ﷺ، وهو يُزاولُ وظيفتَه بكامل عُبوديَّتِه.. انظر.. كما أنَّه سَببُ السعادةِ بما أَتَى به من رسالةٍ وهِدايَة، فإنه ﷺ هو الدَّاعِي لإيجادِ تلكَ السعادةِ وخَلقِ الجنّةِ بدُعائِه وبعُبودِيَّتِه.

    انظر إلى هذا النَّبيِّ الكريمِ.. إلامَ يدعُو؟ إنه يَدعُو إلى السعادةِ الأبديَّةِ في صَلاةٍ كُبرَى شامِلة، وفي عبادةٍ رفيعةٍ مُستَغرِقَةٍ، حتى إنَّ الجزيرةَ العربيةَ، بل الأرضَ برُمَّتِها، كأنها تُصَلِّي مع صلاتِه، وتَبتَهِلُ إلى الله بابْتِهالِه الجميلِ، ذلك لأن عُبوديتَه ﷺ تتَضمَّنُ عبوديةَ جميعِ أُمَّتِه الذين اتَّبعوهُ، كما تتضَمَّنُ -بسر الموافقَةِ في الأصول- سرَّ العبوديةِ لجميع الأنبياءِ عليهم السلام؛

    فهو يَؤُمُّ صلاةً كُبرَى أيَّما صلاةٍ! ويَتضرَّعُ بدعاءٍ -ويا له من تضرُّعٍ رَقيقٍ- في خُلُقٍ عظيمٍ، كأن الذين تنوَّروا بنور الإيمان -من لدُن آدمَ عليه السلام إلى الآنَ وإلى يومِ القيامة- اقتدوا به، وأمَّنوا على دُعائِه.([14])

    انظر! كيفَ يَدعُو اللهَ لحاجةٍ عامةٍ كحاجةِ البقاءِ والخلود! هذه الدعوةَ التي لا يَشترِكُ فيها معَه أهلُ الأرضِ وحدَهُم، بَلْ أهلُ السماواتِ أيضا، لا بَلِ المَوجوداتُ كافةً.. فتقولُ بلسانِ الحالِ: «آمينَ اللَّهُمَّ آمين استَجبْ يا ربَّنا دعاءَه، فنحنُ نتوسَّل بك ونتضرَّعُ إليكَ مثلَه». ثم انظر! إنه يَسألُ تلكَ السعادةَ والخلودَ بكلِّ رِقةٍ وحُزنٍ، وبكلِّ حُبٍّ ووُدٍّ، وبكلِّ شوقٍ وإلحاحٍ، وبكل تَضرعٍ ورَجاءٍ، يُحزِنُ الكونَ جميعا ويُبكِيه فيُسهِمُه في الدعاء.

    ثم انظر وتأمَّل.. إنه يدعو طالبا السعادةَ لقَصدٍ عظيمٍ، ولغايةٍ ساميةٍ.. يطلُبُها ليُنقِذَ الإنسانَ والمخلوقاتِ جميعا من التَّردِي إلى هاويةِ أسفلِ سافلِين، وهو الفناءُ المُطلقُ والضَّياعُ والعبثُ؛ ويَرفَعَه إلى أعلى عِلِّيينَ، وهو الرِّفعةُ والبقاءُ وتقلُّدُ الواجباتِ وتَسلُّمُ المسؤولياتِ، ليكونَ أهلا لها ويرقَى إلى مرتبةِ مكاتيبَ صمَدانيَّةٍ.

    انظُر.. كيف أنه يطلبُ الإعانةَ مُستغِيثا ببُكاءٍ، مُتضرِّعا راجِيا من الأعماقِ، مُتوسِّلا بإلحاح.. حتى كأنَّه يُسمِعُ الموجوداتِ جميعا، بلِ السماواتِ، بلِ العرشَ، فَيهزُّهُم وجدًا وشوقا إلى دعائه ويجعَلُهُم يُردِّدونَ: آمينَ.. اللَّهمَّ آمِين.([15])

    وانظر.. إنه يسألُ السعادةَ والبقاءَ الأبديَّ، ويرجوهُما من قديرٍ سَميع كَرِيم، ومن عليمٍ بَصيرٍ رحِيمٍ يَرى ويَسمَعُ أَخفَى حاجةٍ لأضعفِ مخلوق فيَتدارَكُه برحمتِه، ويَستجِيبُ له، حتى إن كانَ دعاءً بلسانِ الحال. نعم، إنه يستجيبُ لهُ ببصيرةٍ ورحمةٍ ويُغيثُه بحكمةٍ، مما يَنفِي أيةَ شُبهةٍ بأن تلك الرعايةَ الفائقةَ ليستْ إلّا من لَدُن سميعٍ بَصيرٍ، وأن ذلك التَّدبيرَ الدقيقَ ليس إلّا مِن عندِ كريمٍ رَحِيم.

    نعم، إن الذي يقودُ جَميعَ بَنِي آدمَ على هذه الأرض متوجِّها إلى العرشِ الأعظَمِ، رافعا يَديْهِ، داعيا بدعاءٍ شامِلٍ بحقِيقةِ العُبودِيةِ الأحْمديَّةِ التي هي خُلاصةُ عبوديَّةِ البشرِيّةِ.. تُرى ماذا يُريدُ؟ ماذا يُرِيدُ شَرفُ الإنسانِيَّةِ، وفَخْرُ الكائناتِ، وفَرِيدُ الأزمانِ والأكوَانِ؟! لنُنصِتْ إليه.. إنَّه يسألُ السَّعادةَ الأبدِيّةَ لنفسِه ولأمَّتِه، إنه يسألُ الخلودَ في دارِ البقاءِ، إنه يَسألُ الجنَّةَ ونَعيمَها.. نعم، يَسألهُا ويَرجُوها مع تلك الأسماءِ الإلهيّةِ المتجَلِّيةِ بجمالِها في مرآةِ الموجوداتِ.. إنه يَستشفِعُ بتلكَ الأسماءِ الحسنَى كما تَرى.

    أَرأيتَ إن لم يكن شيءٌ من أَسبابٍ موجبةٍ لا تُعدُّ ولا تُحصَى للآخرةِ ولا شيءٌ من دلائلِ وجودِها، أليسَ دعاءُ هذا النَّبيِّ الكريمِ ﷺ وَحدَه سببا كافِيا لإيجادِ الجنَّة([16]) التي هِي سهلةٌ على قُدرةِ خالقِنا الرحيمِ، كسُهولَةِ إعادةِ الحياةِ إلى الأرض في أيّامِ الربيع؟

    نعم، إن الذي جعلَ سَطحَ الأرضِ في الربيع مِثالا للحشرِ، فأوجدَ فيه مِئةَ ألف نَمُوذَجٍ من نماذِجِه بقدرتِه المطلقةِ، كيف يَصعُبُ عليه إيجادُ الجنة؟.. إذن فكما كانت رسالتُه ﷺ سَببا لإيجاد دارِ الامتحانِ هذه، وصَارتْ بيانا وإيضاحا لسِرِّ «لَوْلَاك لَوْلَاكَ لَمَا خَلَقْتُ الأفْلَاكَ»([17]) فإن عُبودِيتَه كذلك أصبحت سَببا لخلقِ تلك الدارِ السَّعيدةِ الأَبديَّة.

    فهل من الممكن يا تُرَى لاِنتِظامِ العالَمِ البَديعِ الذي حَيَّرَ العقولَ، والصَّنعةِ المُتقنَةِ وجَمالِ الربوبيةِ الشامِلةِ في إِطارِ الرحمةِ الواسِعةِ، أنْ يَقبلَ قُبحا فظيعا وظُلما شنِيعا وفوضَى ضاربةً أطنابَها، بعدمِ استجابَة ذلك الدعاءِ أي أن لا يُراعِيَ ولا يسمعَ ولا يُنجِزَ أكثرَ الرغباتِ أهمّيةً، وأشدَّها ضرورةً في حينِ أنه يُراعِي باهتمام بالغ أبسطَ الرغباتِ وأصْغرَها، ويَسمعُ أخْفتَ الأصواتِ وأدقَّها ويقضِي لكلِّ ذي حاجةٍ حاجتَه! كلّا ثُمَّ كلّا أَلفُ أَلفِ مَرة، إن مثلَ هذا الجمالِ يَأبَى التَّشوُّهَ ولنْ يكونَ قَبيحًا؛([18])

    فالرسولُ ﷺ إذن يَفتَحُ بعبوديّتِه بابَ الآخِرةِ مثلما فَتحَ برسالتِه بابَ الدنيا.

    عَلَيْهِ صَلَوَاتُ الرَّحْمٰنِ مِلْءَ الدُّنْيَا وَدَارِ الْجِنَانِ

    اَللّٰهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلٰى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ ذٰلِكَ الْحَبِيبِ الَّذِي هُوَ سَيِّدُ الْكَوْنَيْنِ وَفَخْرُ الْعَالَمَيْنِ وَحَيَاةُ الدّٰارَيْنِ

    وَوَسِيلَةُ السَّعَادَتَيْنِ وَذُو الْجَنَاحَيْنِ وَرَسُولُ الثَّقَلَيْنِ وَعَلٰى آلِهِ وَصَحْبِهِ اَجْمَعِينَ

    وَعَلٰى اِخْوٰانِهِ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ آمِينَ

    الحقيقة السادسة

    بابُ العظمةِ والسرمدِيةِ وهو تجلِّي اسمِ «الجليلِ» و«الباقِي»

    أمن الممكن لربٍّ جليلٍ يُديرُ الموجوداتِ ويسخِّرُها من الشموسِ إلى الأشجارِ وإلى الذَّراتِ، كأنها جنودٌ مُجنَّدةٌ، أن يَقصُرَ نشرَ سلطانِه على مساكينَ فانينَ يقضونَ حياةً مُؤقتةً في دارِ ضيافَةِ الدنيا هذه، ولا يُنشِئَ مقرًّا ساميا سَرمدِيا ومدارَ رُبوبيَّةٍ جليلةٍ باقِيةٍ له؟!

    إن ما نُشاهِدُه في هذا الكونِ من الإجراءاتِ الجليلةِ الضّخمَةِ أمثالَ تَبدُّلِ المواسِمِ.. ومن التصرَّفاتِ العظيمةِ أمثالَ تَسيِيرِ النجومِ.. ومن التسخيراتِ المُدهِشةِ أمثالَ جَعلِ الأرضِ مِهادا والشَّمسِ سِراجا.. ومن التَّحوُّلاتِ الواسعةِ أمثالَ إحياءِ الأرضِ وتَزيِينِها بعدَ جفافِها وموتِها.. لَيُبيِّنُ لنا بجلاءٍ أن وراءَ الحجابِ رُبوبيّةً جليلةً عَظيمةً تَحكُمُ وتُهَيمِنُ بسلطانِها الجليل؛ فسلطنةُ ربوبيةٍ كهذه تَستَدعِي رعايا يَلِيقُون بها، ومظاهرَ تُناسِبُها.

    بينما تَرَى أن مَن لهم أفضلُ المزايا وأجمعُها من الرعايا والعبادِ قد اجتمَعوا مؤقتا مَنهُوكين في مَضِيفِ الدنيا، والمَضيفُ نفسُه يُملأُ ويُفرَغُ يوميا، والرعايا لا يلبثون فيه إلّا بمقدارِ أداءِ تَجربةِ مُهِماتِهم في ميدانِ الاِخْتِبارِ هذا، والميدانُ نفسُه يتبدَّلُ كلَّ ساعةٍ؛ فالرَّعايا يَقِفونَ دقائقَ معدودةً لرُؤيةِ ما في معارضِ سُوقِ العالمِ من نَماذجِ الآلاءِ الثّمينَةِ للخالق ذي الجلال، ومُشاهِدِينَ -لأجل التِّجارةِ- بدائعَ صُنعِه سبحانَه في هذا المعرِضِ الهائِلِ، ومن ثَمَّ يَغِيبونَ، والمَعرِضُ نفسُه يَتبدّلُ ويَتغيَّرُ كلَّ دقيقةٍ! فمَن يَرحلُ فلا عَوْدةَ له، والقابلُ راحلٌ؛

    فهذا الوضعُ يُبَيِّنُ بوضوحٍ وبشكل قاطع أنَّ وراءَ هذا المَضِيفِ الفاني، وخلفَ هذا الميدانِ المتغيِّرِ، وبَعد هذا المعرضِ المتبدِّلِ، قصورا دائمةً تليقُ بالسّلطنةِ السّرمدِيّةِ، ومساكنَ أبديةً ذاتَ جِنانٍ، وخزائنَ مَلْأى بالأصولِ الخالصةِ الراقيةِ للنماذج التي نَراها في الدنيا؛ لذا فالدَّأبُ والسَّعيُ هنا إنما هو لأجل تلك الأصول.. والاستخدامُ هنا لقَبضِ الأجرةِ هناك.. فلكلٍّ حسبَ استعدادِه واجتهادِه سعادةٌ وافِرةٌ إن لم يفقِدها.

    نعم، إنه محالٌ أن تظلَّ مثلُ هذه السلطنةِ السرمديةِ مقصورةً على هؤلاء الفانينَ الأَذِلّاءِ..

    فانظر إلى هذه الحقيقةِ من خلال منظارِ هذا المثال: هب أنَّك تسيرُ في طريق، وتُشاهِدُ أن عليها «فُندُقا فخما» بناهُ ملكٌ عظيمٌ لضيوفِه، وهو يُنفِق مبالغَ طائلةً لتزيينِه وتجميلِه لليلة واحدة كي يُدخِل البهجةَ في قلوب ضيوفِه، ويَعتبرُوا بما يرون؛ بَيد أنَّ أولئكَ الضيوفَ لا يَتفرَّجون إلّا على أقل القليل من تلك التزييناتِ، ولا يَذوقون إلّا أقلَّ القليلِ من تلك النِّعم، حيثُ لا يَلبثونَ إلّا قليلا ومن ثَمَّ يغادرون الفُندُقَ دون أن يَرتَوُوا ويَشبَعُوا، سِوى ما يَلتقِطونَ من صورِ أشياءَ في الفندقِ بما يَملِكون من آلةِ تصويرٍ وكذلك يفعلُ عمالُ صاحبِ الفندقِ وخُدّامُه حيثُ يلتقطون حركاتِ هؤلاء النُّزلاءِ وسَكناتِهم بكل دِقّةٍ وأمانةٍ ويُسجِّلونَها.. فها أنت ذا ترى أنَّ الملكَ يُهدِّمُ يوميا أغلب تلك التزييناتِ النَّفيسَةِ، مُجدِّدا إياها بأخرى جديدةٍ للضيوف الجدُدِ.. أفَبَعد هذا يَبقَى لديك شكٌّ في أنَّ مَن بنى هذا الفندقَ على قارعةِ هذه الطريق يَملِك قصورا دائمةً عاليةً، وله خزائنُ زاخِرةٌ ثمينةٌ لا تنفدُ، وهو ذو سخاءٍ دائمٍ لا ينقطِعُ؛ وأن ما يُبدِيه من الكرم في هذا الفندقِ هو لإثارة شَهيَّةِ ضيوفِه إلى ما عندَه من أشياءَ، ولِتنبِيه رغباتِهم وتحريكِها لما أعدَّ لهم من هدايا؟!

    فإن تأمَّلتَ من خلال هذا المثالِ في أحوال فُندُقِ الدنيا هذه، وأنْعَمتَ النظر فيها بِوعْيٍ تامٍ فستفهَم الأسسَ التِّسعةَ الآتية:

    الأساس الأول: أنك سَتفهمُ أنَّ هذه الدنيا أيضًا كهذا الفُندقِ لَيستْ لذاتِها، فمحالٌ أن تتَّخِذَ لنفسِها بنفسِها هذه الصورةَ والهيئةَ، وإنما هي دارُ ضِيافةٍ تُملأ وتُفرغُ، ومَنزلُ حِلٍّ وتَرحالٍ، أُنشِئَت بحكمةٍ لقافلةِ الموجوداتِ والمخلوقات.

    الأساس الثاني: وستَفهَمُ أن ساكني هذا الفندقِ هم ضُيوفٌ مسافرونَ، وأنَّ ربَّهم الكريمَ يدعوهم إلى دارِ السَّلام.

    الأساس الثالث:  وستفهمُ أنَّ التزييناتِ في هذه الدنيا ليست لأجل التَّلذُّذِ والتّمتُّعِ فحسبُ، إذْ لو أذاقَتْكَ اللذةَ ساعةً، أذاقَتكَ الألمَ بفراقها ساعاتٍ وساعاتٍ، فهي تُذيقُكَ مُثيرةً شهيتَك دون أن تُشبِعك، لقِصَر عمرِها أو لقِصَر عمركَ، إذ لا يكفي للشِّبَع.. إذن فهذه الزِّينَة الغاليةُ الثَّمن ِوالقصيرةُ العمرِ هي للعِبرةِ،([19]) وللشُّكرِ، وللحضِّ على الوصول إلى تَناوُلِ أُصولِها الدائمةِ، ولغاياتٍ أُخرَى سامِيةٍ.

    الأساس الرابع: وستفهمُ أنَّ هذه المزيَّناتِ في الدنيا ([20]) بمثابةِ صُوَرٍ ونماذِجَ للنِّعمِ المدَّخرَة للمؤمنين في الجنة من لَدُنِ الرحمةِ الإلهيةِ.

    الأساس الخامس: وسَتفهَمُ أنَّ هذه المصنوعاتِ الفانيةَ ليستْ للفناءِ، ولم تُخلق لتُشاهَدَ حِينًا ثم تَذْهبَ هَباءً، وإنما اجتَمعَتْ هنا، وأخذتْ مكانَها المطلوبَ لفترةٍ قَصيرةٍ كي تُلتَقَطَ صوَرُها، وتُفهَمَ معانِيَها، وتُدوَّنَ نَتائِجُها، ولِتُنسَجَ لأهل الخلودِ مناظرُ أبديَّةٌ دائِمةٌ ولتكونَ مَدارًا لغاياتٍ أخرى في عالَمِ البَقاءِ.

    والدَّليلُ على أن الأشياءَ لم تُخلقْ للفناءِ بل لِلبَقاءِ، بل إن فناءَها الظاهريَّ ليس إلّا إطلاقًا لسَراحِها بَعدَما أنهت مَهامَّها، هو أن الشيءَ يفنَى من جهةٍ إلّا أنَّه يَبقَى من جهاتٍ كثيرةٍ، فمثلًا:

    تأمَّل في هذه الزَّهرَةِ -وهي كلمةٌ من كلماتِ القُدرَةِ الإلهيةِ- إنها تَنظرُ إلينا مُبتسِمةً لنا لفترةٍ قَصيرةٍ، ثم تَختفِي وراءَ سِتارِ الفَناءِ، فهي كالكلمةِ التي نتَفوَّهُ بها، التي تُودِعُ آلافا من مثيلاتِها في الآذان وتُبقِي مَعانِيها في الأذهانِ بعدَدِ العقولِ المنصِتَةِ لها، وتَمْـضِي بعد أن أدَّت وظِيفَتَها، وهي إفادةُ المعنى؛ فالزهرةُ أيضا تَرحَلُ بعد أن تُودِعَ في ذاكرَةِ كلِّ من شاهَدَها صُورتَها الظاهِرةَ، وبعد أن تُودِعَ في بُذيراتِها ماهِيَّتَها المعنويّةَ، فكأن كلَّ ذاكِرةٍ وكلَّ بِذرةٍ بمثابةِ آلةِ تَصويرٍ لحفظِ جمالِها وصورتِها وزينتِها، ومَـحَلٍّ لإدامَةِ بقائِها.

    فلئن كان هذا المصنوعُ الذي هو في أدنَى مراتبِ الحياةِ يُعامَلُ مثلَ هذه المعاملةِ للبقاءِ، فما بالُكَ بالإنسانِ الذي هو في أسْمَى طبقاتِ الحياةِ، والذي يَملِكُ رُوحا باقيةً، ألا يكونُ مُرتبِطا بالبقاءِ والخلودِ؟ ولئن كانت صورةُ النباتِ المُزهِرِ المُثمِرِ، وقانونُ تركيبِه -الشبيهُ جُزئيا بالرُّوح- باقيةً ومَحفوظةً في بُذيراتِها بكلِّ انتظام، في خِضمِّ التقلُّباتِ الكثيرة، أفَلا يُفهمُ كم تكونُ روحُ الإنْسانِ باقيةً، وكم تكونُ مشدودةً مع الخلود، علما أنَّها قانونٌ أمرِيٌ نُورانيٌّ، ذاتُ شُعورٍ، تملكُ ماهِيةً راقيةً، وذاتُ حياةٍ، وذاتُ خَصائِصَ جامعةٍ شامِلةٍ، وقد أُلبِسَت وُجُودا خارجِيًّا؟!

    الأساس السادس: وستفهم أن الإنسانَ لم يُتركْ حَبلُه على غاربه، ولم يُترك طلِيقا ليرتعَ أينما يُريدُ، بل تُسجَّلُ جميعُ أعمالِه وتُلتقَطُ صوَرُها، وتدوَّنُ جميعُ أفعالِه ليُحاسَبَ عليها.

    الأساس السابع: وسَتفهمُ أن الموت والاندِثارَ الذي يُصيبُ في الخريفِ مَخلوقاتِ الرَّبيعِ والصيفِ الجَميلةَ، ليس فَناءً وإعدامًا، وإنما هو إعفاءٌ من وظائفِها بعد إكمالهِا وإيفائِها، وتَسريحٌ منها،([21]) وهو إفساحُ مَجالٍ وتَخليةُ مكانٍ لما سَيأتي في الربيعِ الجدِيدِ من مخلوقاتٍ جديدة؛ وهو تَهيُّـؤٌ وتَهيِئَةٌ لما سَيحُلُّ من الموجوداتِ المأمورةِ الجديدةِ، وهو تنبيهٌ ربانيٌّ لِذوِي المشاعرِ الذينَ أنسَتْهُم الغفلةُ مَهامَّهُم، ومنَعَهُمُ السُّكْرُ عنِ الشُّكْرِ.

    الأساس الثامن: وستفهمُ أنَّ الصانِعَ السرمديَّ لهذا العالم الفاني له عالمٌ غيرُ هذا، وهو عالمٌ باقٍ خالدٌ، ويُشوِّقُ عبادَه إليه، ويسوقُهم إليه.

    الأساس التاسع: وستفهم أن الرحمنَ الرحيمَ جلَّ جلالُه سوف يُكرِم في ذلك العالم الفسيحِ عبادَه المخلِصِين بما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطرَ على قلب بشر.. آمنا.

    الحقيقة السابعة

    بابُ الحفظِ والحفيظيَّةِ وهو تجلي اسمِ «الحفيظِ» و«الرَّقيبِ»

    أمن الممكن لحفيظ ورقيبٍ يَحفَظُ بانتظام وميزان ما في السماء والأرض، وما في البَرِّ والبحرِ من رَطْبٍ ويابِس، فلا يُغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلّا أحصاها، أن لا يُحافِظَ ولا يُراقبَ أعمالَ الإنسانِ الذي يملك فطرةً سامِيةً، ويَشغَلُ رتبةَ الخلافةِ في الأرض، ويحملُ مهمّةَ الأمانةِ الكبرى؟! فهل يمكن أن لا يحافظَ على أفعاله التي تَمَسُّ الربوبيةَ العامةَ؟ ولا يَفرِزُها بالمُحاسَبة؟ ولا يَزِنَها بميزانِ العدالةِ؟ ولا يُجازِي فاعلَها بما يليقُ به من ثوابٍ وعقاب؟! تعالى الله عن ذلك عُلوًّا كبيرا.

    نعم، إن الذي يُدير أمرَ هذا الكونِ يُحافِظ على كل شيء فيه ضمنَ نظامٍ وميزانٍ، والنِّظامُ والميزانُ هما مَظهرانِ من مظاهرِ العلم والحِكمَة مع الإرادَةِ والقُدرةِ، لأننا نُشاهِد أن أيّ مصنوع كان لم يُخلقْ ولا يُخلقُ إلّا في غايةِ الانتِظامِ والميزانِ، وأن الصُّوَرَ التي يُغيِّرُها طَوالَ حياتِه في انتظام دقيق، كما أن مجموعَها أيضا ضمن نظامٍ مُتقَنٍ مُحكَمٍ؛

    ونرى أيضا أن الحفيظَ ذا الجلالِ يَـحفَظُ صُوَرَ كلِّ شيءٍ حالما يختِم عُمُرَه مع انتهاء وظيفتِه ويرحلُ من عالم الشهادة، يحفَظُها سبحانه في الأذهان التي هي أشبهُ ما تكونُ بالألواح المحفوظةِ([22]) وفي ما يُشبِهُ مرايا مثاليَّةً، فيكتُبُ معظمَ تاريخ حياته في بذوره ويَنقشُه نقشا في ثماره، فيُدِيمُ حياتَه ويحفظُها في مرايا ظاهرةٍ وباطنةٍ.. فذاكرةُ البَشَر، وثَمرُ الشجرِ، ونواةُ الثَّمَر، وبِذرُ الزَّهْرِ.. كلُّ ذلك يُبيِّن عظمةَ إحاطةِ الحفيظيّةِ.

    ألا ترى كيف يُحافَظ على كل شيء مُزهِر ومُثمرٍ في الربيع الشاسِع العظيمِ، وكيف يُحافَظ على جميع صَحائفِ أعمالِه الخاصَّةِ به، وعلى جميع قَوانينِ تركيبِه ونماذِج صُوَرِه، كتابةً في عَددٍ محدود من البُذيراتِ.. حتى إذا ما أقبلَ الربيعُ تُنشَرُ تلك الصحائفُ وَفق حسابٍ دقيق يناسبها، فيُخرِجُ إلى الوجود ربيعًا هائلا في غايةِ الانتظام والحكمَةِ؟ ألا يُبيِّن هذا مدى نُفوذِ الحفظِ والرَّقابَةِ، ومدى قوة إحاطتهِما الشامِلةِ؟

    فلئن كان الحفظُ إلى هذا الحدِّ من الإتقانِ والإحاطةِ فيما لا أهمِّيةَ له وفي أشياءَ مؤقَّتةٍ عاديةٍ، فهل يُعقلُ عدمُ الاحتفاظِ بأعمالِ البشر، التي لها ثمارٌ مهمةٌ في عالَمِ الغيْبِ وعالَمِ الآخرةِ وعالَمِ الأرْواحِ، ولدى الربوبيةِ العامَّةِ؟! فهل يمكن إهمالُها وعدمُ تدوينِها؟ حاشَ لله..

    نعم، يُفهم من تجلي هذه الحفِيظيةِ، وعلى هذه الصُّورةِ الواضحةِ، أن لمالك هذه الموجوداتِ عنايةً بَالِغةً لتَسجيلِ كلِّ شيء وحفظِه، وضَبطِ كلِّ ما يجري في مُلكِه، وله منتهى الرعاية في حاكميَّتِه، ومنتهى العِنايَة في سَلطنة ربوبيتِه، بحيثُ إنه يكتبُ ويَستكتِبُ أدنى حادثةٍ وأهونَ عملٍ مُحتفِظًا بصُوَرِ كلِّ ما يَجرِي في ملكه في مَحافِظَ كثيرةٍ؛

    فهذه المحافظةُ الواسِعةُ الدقيقة تدل على أنه سيُفتَحُ بلا شكٍّ سِجِلٌّ لمحاسبةِ الأعمال، ولا سيَّما لهذا المخلوقِ المكرَّمِ والمعزَّزِ والمفطورِ على مزايا عظيمةٍ، ألا وهو الإنسانُ؛ فلابدَّ أن تدخلَ أعمالُه التي هي عظيمةٌ، وأفعالُه التي هي مُهِمةٌ ضمنَ ميزانٍ حساسٍ ومُحاسبةٍ دقيقةٍ، ولابد أن تُنشرَ صحائفُ أعمالِه.

    فيا تُرى هل يقبلُ عقلٌ أنْ يُتركَ هذا الإنسانُ الذي أصبحَ مكرَّمًا بالخلافةِ والأمانةِ، والذي ارتقَى إلى مرتبةِ القائدِ والشاهِدِ على المخلوقاتِ، بتدخُّلِه في شؤون عِبادةِ أغلبِ المخلوقاتِ وتسبيحاتِها، وبإعلانِه الوحدانيةَ في ميادينِ المخلوقات الكثيرةِ، وشهودِه شؤونَ الربوبيةِ الكليَّةِ.. فهل يمكن أن يُتركَ هذا الإنسانُ، يذهَبُ إلى القبر لينامَ هادئًا دون أن يُنبَّهَ ليُسألَ عنْ كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ من أعمالِه، ودون أن يُساقَ إلى المحشرِ ليُحاكَمَ في المحكمةِ الكُبرى؟ كلّا ثم كلّا!

    وكيف يمكن أن يذهبَ هذا الإنسانُ إلى العدمِ، وكيف يمكن أن يتوارى في التُّرابِ فيَفلِتَ من يَدِ القدير ذي الجلال الذي تَشهَدُ جميعُ الوقائعِ التي هي معجزاتُ قدرتِه في الأزمِنةِ الغابرةِ على قُدرتِه العظيمةِ لما سَيحدُث من المُمكِنات في الأزمنةِ (([23])) الآتِيَة.. تلك القدرةِ التي تُـحدِثُ الشتاءَ والربيعَ الشبيهَين بالقيامةِ والحشر؟

    ولما كان الإنسانُ لا يُحاسَب في هذه الدنيا حسابًا يَستحِقُّه، فلابدَّ أنه سيذهبُ يومًا إلى محكمةٍ كُبرى وسعادةٍ عُظمَى.

    الحقيقة الثامنة

    بابُ الوعدِ والوَعيدِ وهو تجلي اسمِ «الجَميل» و«الجَليل»

    أمن الممكن لمُبدِع هذه الموجوداتِ وهو العليمُ المطلَقُ والقديرُ المطلقُ ألّا يُوفيَ بما أخبرَ به مكرَّرًا الأنبياءُ عليهمُ السلام كافةً بالتواتر من وعدٍ ووَعيدٍ، وشَهِدَ به الصِّدِّيقونَ والأولياءُ كافَّةً بالإجماع، مُظهرًا عجزا وجهلا بذلك؟ تعالى الله عن ذلك عُلُوا كبيرًا.. علما أن الأمور التي وَعَدَ بها، وأَوْعدَها، ليست عسيرةً على قدرته قطعا، بل هي يسيرةٌ وهيِّنةٌ، وسَهلةٌ كسهولة إعادةِ الموجوداتِ التي لا تُحصى للربيع السابق بذواتِها([24]) أو بمثلِها([25]) في الربيع المقبلِ..

    أما الوفاءُ بالوَعدِ فكما هو ضَرُوريٌ لنا ولكلِّ شيء، ضرورِيٌ كذلك لسلطنةِ ربوبيَّتِه.. بعكس إخلافِ الوَعدِ فهو مضادٌ لعزة قدرته، ومنافٍ لإحاطة علمِه، حيثُ لا يتأتَّى إخلافُ الوعدِ إلّا من الجهل أو العجز.

    فيا أيها المنكرُ.. هل تَعلمُ مدى حماقةِ ما ترتكبُ من جِنايةٍ عُظمَى بكفركَ وإنكاركَ! إنك تُصدِّقُ وهمَكَ الكاذِبَ وعقلَك الهاذيَ ونفسَكَ الخدّاعةَ، وتُكذِّبَ مَن لا يُضطَرُّ إلى إخلافِ الوعدِ، ولا إلى خِلافِه أبدا، بل لا يَليقُ الإخلافُ بعزَّتِه وعَظمتِه قطعًا.. فجَميعُ الأشياءِ وجَميعُ المشهوداتِ تَشهدُ على صدقه وأحقِّيَّتِه! إنك ترتكبُ إذن جنايةً عظمى لا نهايةَ لها مع صِغَركِ المتناهي، فلا جَرَمَ أنكَ تستحقُّ عقابا عظيما أبديا.. ولقياس عِظَم ما يرتكبُه الكافرُ من جِنايةٍ فقد وَرَدَ أن ضِرسَ بعضِ أهلِ النارِ كالجبَل ([26]) .. إن مَثَلَك هو كمثَل ذلك المسافرِ الذي يُغمِضُ عَينَيهِ عن نور الشمسِ ويتبعُ ما في عقلِه من خيال، ثم يريد أن ينوِّرَ طريقَه المُخيفَ بضياء ما في عقله من بَصِيصٍ كَنورِ اليَراعَة!

    فما دام اللهُ سبحانَه قد وعَدَ، وهذه الموجوداتُ كلماتُه الصادِقةُ بالحقِّ، وهذه الحوادِثُ في العالم آياتُه الناطقةُ بالصدقِ، فإنه سَيوفي بوعدِه حتمًا، وسيفتحُ محكمةً كبرى، وسَيهَبُ سعادةً عُظمَى.

    الحقيقة التاسعة

    بابُ الإحياءِ والإماتةِ

    وهو تجلي اسمِ «الحيِّ القيُّومِ» و«المحيي» و«المميتِ»

    أمن الممكن للذي أظهرَ قدرتَه بإحياءِ الأرض الضَّخمةِ بعد موتِها وجفافِها، وبعَثَ أكثرَ من ثلاثِ مئةِ ألفِ نوعٍ من أنواع المخلوقاتِ، مع أنَّ بَعْثَ كلِّ نَوعٍ عجيبٌ كأُعجوبَة بَعْثِ البشر.. والذي أظهرَ إحاطةَ علمِه ضمن ذلك الإحياءِ بتَميِيزِه كلَّ كائنٍ من بين ذلك الامتِزاجِ والتشابُكِ.. والذي وجَّهَ أنظارَ جميعِ عبادِه إلى السعادةِ الأبدية بوعدهِمُ الحشرَ في جميع أوامره السماوِيَّة.. والذي أظهرَ عظمةَ رُبوبيَّتِه بجعلِه الموجوداتِ مُتكاتفةً مُترافِقةً، فأدارَها ضمن أمرِه وإرادتِه، مسخِّرا أفرادَها، مُعاونًا بعضُها بَعضًا.. والذي أَولَى البشرَ الأهميةَ القصوى، بجَعْلِه أجمعَ ثمرةٍ في شجرةِ الكائناتِ، وألطفَها وأشدَّها رِقةً ودَلالًا، وأكثرَها مستجابا للدعاء، مسخِّرا له كلَّ شيء، متخِذا إياه مخاطَبا.. أفَمِنَ الممكن لمثل هذا القديرِ الرحِيمِ ولمثل هذا العليمِ الحكيمِ أن لا يأتي بالقيامة؟ ولا يُحدِثَ الحشرَ ولا يَبعثَ البشرَ، أوْ يَعجِزَ عنه؟ وأنْ يَعجِزَ عن فتحِ أبوابِ المحكَمةِ الكبرى وخلقِ الجنةِ والنار؟! تعالى الله عن ذلكَ عُلُوا كبيرًا.

    نعم، إن الرب المتصرف في هذا العالم جلّ جلالُه يُحدث في هذه الأرض المؤقتة الضيقة في كل عصر وفي كل سنة وفي كل يوم نماذج وأمثلة كثيرة وإشارات عديدة للحشر الأكبر. فعلى سبيل المثال:

    إنه يَحشُرُ في بضعةِ أيام في حشر الربيع ويَبعثُ أكثرَ من ثلاثِ مِئةِ ألفِ نوعٍ من أنواع النباتاتِ والحيواناتِ من صَغيرٍ وكَبيرٍ، فيُحيِي جُذورَ الأشجارِ والأعشابِ، ويعيدُ بعضَ الحيوانات بعينِها كما يعيدُ أمثالَ بعضِها الآخر؛ ومع أن الفروقَ الماديةَ بين البُذيراتِ المتناهيةِ في الصِّغرِ جزئيةٌ جدا، إلّا أنها تُبعثُ وتُحيا بكل تَميُّزٍ وتُشَخَّصُ في منتهى السرعةِ في ستةِ أيامٍ، أو سِتةِ أسابيعَ، وفي منتهى السهولةِ والوَفرةِ، وبانتِظامٍ كامِل وميزانٍ دَقيقٍ، رغمَ اختلاطِها وامتزاجِها.. فهل يصعبُ على مَن يقومُ بمثل هذه الأعمالِ شيءٌ، أو يَعجِزُ عن خلقِ السماواتِ والأرضِ في ستةِ أيام، أو لا يستطيعُ أن يحشُرَ الإنسانَ بصيحةٍ واحدةٍ؟! سُبحانَ الله عما يَصِفونَ.

    فيا تُرى إن كان ثَمَّةَ كاتبٌ ذو خوارقَ يكتب ثلاثَ مِئةِ ألفِ كتابٍ مُسِحَتْ حروفُها ومُسخَتْ، في صحيفة واحدة دونَ اختلاطٍ ولا سهوٍ ولا نَقصٍ، وفي غايةِ الجمالِ، ويكتُبُها جميعًا معا خلال ساعة واحدة، وقيل لك: إن هذا الكاتبَ سيكتُبُ من حفظِه في دقيقة واحدة كتابَك الذي وقعَ في الماء وهو من تأليفِه، فهل يمكنك أن ترُدَّ عليه وتقول: لا يستطيعُ.. لا أصدِّقُ؟!

    أو أن سلطانًا ذا معجزاتٍ يرفعُ الجبالَ ويَنسِفُها ويغيِّرُ المدنَ بكاملها، ويحوِّلُ البحرَ برًا، بإشارة منه، إِظهارًا لقدرتِه وجعلِها آيةً للناس.. فبينما تَرى منه هذه الأعمالَ إذا بصخرةٍ عظيمةٍ قد تَدحْرجَتْ إلى وادٍ وسدَّتِ الطريقَ على ضيوفِه، وقيل لك: إن هذا السلطانَ سَيُمِيطُ حتمًا تلكَ الصخرةَ أو يحطِّمُها مهما كانت كبيرةً، حيثُ لا يمكنُ أن يدعَ ضيوفَه في الطريق.. كم يكونُ جوابُك هذَيانًا أو جنونًا إذا ما أجبتَه بقولك: لا، لا يستطيعُ أن يفعل؟!

    أو أن قائدًا يُشكِّلُ من جديد جيشًا عظيمًا في يوم واحد، وقِيلَ لك: إن هذا سيَجمعُ أفرادَ تلك الفرقِ وسيَنضَوِي تحت لوائه أولئك الذين سُرِّحوا وتفرَّقوا، بنفخةٍ من بوقٍ، فأجبتَه: لا، لا أُصدِّقُ! عندها تفهم أن جوابَكَ هذا يُنبِئُ عن تصرفٍ جُنوني، أيّ جنونٍ!!

    فإذا فهِمتَ هذه الأمثلةَ الثلاثةَ فتأمل في ذلِكمُ البارِئِ المصَوِّرِ سبحانَه وتعالى، الذي يكتبُ أمامَ أنظارنا بأحسنِ صورةٍ وأتمِّها بقلم القُدرَةِ والقَدرِ أكثرَ من ثلاثِ مِئةِ ألفِ نوعٍ من الأنواع على صحيفةِ الأرض، مُبدِّلا صحيفةَ الشتاءِ البَيضاءِ إلى الصَّحيفةِ الخضراءِ للربيعِ والصَّيفِ، يكتبُها متداخلةً دونَ اختلاطٍ، يكتبُها معا دون مزاحمةٍ ولا التباسٍ، رغم تباين بعضِها مع البعض الآخرِ في التركيب والشكل، فلا يكتبُ خطأً مطلقًا.

    أفَيمكن أن يُسألَ الحفيظُ الحكيمُ الذي أدرج خُطةَ روحِ الشجرةِ الضَّخمةِ ومنهاجَها في بِذرَةٍ متناهيةٍ في الصغر محافظًا عليها، كيف سَيحافِظُ على أرواح الأموات؟.

    أم هل يمكن أن يُسألَ القديرُ ذو الجلالِ الذي يُجري الأرضَ في دَورَتِها بسرعةٍ فائقةٍ، كيفَ سيُزِيلُها من طريقِ الضيوفِ المسافرين إلى الآخرةِ، وكيف سيُدمِّرُها؟

    أم هل يمكن أن يُسألَ ذو الجلالِ والإكرامِ الذي أوجدَ الذراتِ من العدم ونسَّقَها بأمر ﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ في أجساد جنودِ الأحياءِ، فأنشأ منها الجيوشَ الهائلةَ، كيف سيَجمعُ بصيحةٍ واحدةٍ تلك الذراتِ الأساسيةَ التي تعارَفتْ فيما بينها، وتلك الأجزاءَ الأساسِيّةَ التي انضوَتْ تحت لواءِ فِرقَةِ الجسدِ ونظامِه؟

    فها أنت ذا ترى بعينَيكَ كم من نماذجَ وأمثلةٍ وأماراتٍ للحشر شبيهةً بحشر الربيع، قد أبدعَها البارئُ سبحانه وتعالى في كل موسمٍ، وفي كل عصر، حتى إن تبديلَ اللَّيلِ والنَّهارِ، وإنشاءَ السحابِ الثِّقالِ وإفناءَها من الجوِّ، نماذجُ للحشر وأمثلةٌ وأماراتٌ عليهِ. وإذا تصوَّرتَ نفسك قبل ألفِ سنةٍ مثلا، وقابلتَ بين جناحَي الزَّمانِ الماضِي والمستَقبلِ، ترى أمثلةَ الحشرِ والقيامةِ ونماذجَها بعدد العصور والأيام؛ فلو ذهبتَ إلى استبعادِ الحشرِ الجسماني وبَعثِ الأجسادِ متوهمًا أنه بعيدٌ عن العقل، بعد ما شاهَدتَ هذا العددَ الهائل من الأمثلة والنماذج، فستعلمُ أنت كذلك مدى حماقةِ من ينكرُ الحشرَ. تأمل ماذا يقول الدستورُ الأعظَمُ حولَ هذه الحقيقةِ:

    فَانْظُرْ اِلٰٓى آثَارِ رَحْمَتِ اللّٰهِ كَيْفَ يُحْيِي الْاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا اِنَّ ذٰلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتٰى وَهُوَ عَلٰى كُلِّ شَىْءٍ قَد۪يرٌ (الروم:50).

    الخلاصة: لا شيءَ يحُولُ دون حدوثِ الحشرِ، بل كلُّ شيء يقتضِيه ويستدعِيه..

    نعم، إن الذي يُحيِي هذه الأرضَ الهائلةَ -وهي مَعرِضُ العجائبِ- ويميتُها كأدنى حيوانٍ، والذي جعلَها مهدًا مُريحا وسفينةً جميلةً للإنسان والحيوان، وجعلَ الشمسَ ضياءً وموقِدا لهذا المضيف، وجعل الكواكبَ السيّارةَ والنجومَ اللامِعةَ مساكنَ طائراتٍ للملائكة.. إن ربوبيةً خالدةً جليلةً إلى هذا الحدِّ، وحاكميةً محيطةً عَظِيمةً إلى هذه الدرجةِ، لا تَستقِران ولا تَنحصِرانِ في أمورِ الدنيا الفانيةِ الزائِلةِ الواهيةِ السَّيالَةِ التافِهةِ المتغَيرةِ..

    فلابدَّ أن هناك دارًا أخرى باقيةً، دائِمةً، جَليلةً، عظِيمةً، مُستقِرةً، تليقُ به سبحانَه فهو يسوقُنا إلى السعي الدائبِ لأجل تلك الممالِكِ والديارِ ويدعونا إليه ويَنقُلُنا إلى هناك.. يَشهَد على هذا أصحابُ الأرواحِ النيِّرَةِ، وأقطابُ القلوبِ المنوَّرةِ، وأربابُ العقولِ النُّورانِيةِ، الذين نَفَذُوا من الظاهر إلى الحقيقة، والذين نالوا شرفَ التقرب إليه سبحانه، فهم يُبلِّغونَنا متفقِين أنه سبحانه قد أعدَّ ثوابا وجزاءً، وأنه يَعِد وعدا قاطعا، ويوعِدُ وعيدا جازمًا.

    فإخلافُ الوعد لا يمكن أن يَدنوَ إلى جلاله المقدَّسِ، لأنه ذلّةٌ وتذَللٌ، وأما إخلافُ الوعيد فهو ناشئٌ من العفو أو العجزِ؛ والحال أن الكفرَ جنايةٌ مطلقةٌ ([27]) لا يستَحقُّ العفوَ والمغفرةَ، أما القديرُ المطلقُ فهو قُدُّوس منزَّهٌ عن العجز،

    وأما المخبرونَ والشهودُ فهم متفقونَ اتفاقا كاملا على أساسِ هذه المسألةِ رَغمَ اختلافِ مسالكِهم ومناهجِهم ومشاربِهم، فهم من حيثُ الكثرةُ بلغوا درجةَ التواتر، ومن حيثُ النوعيةُ بلغوا قوةَ الإجماع، ومن حيثُ المنزلةُ فهم نجومُ البشريةِ وهداتُها وأعزةُ القومِ وقرةُ عيونِ الطوائف، ومن حيثُ الأهميةُ فهم في هذه المسألةِ «أهل اختصاصٍ وأهل إثباتٍ».. ومن المعلوم أن حكمَ اثنَين من أهلِ الاختصاص في علم أو صنعة يُرجَّحُ على آلافٍ من غيرهم، وفي الأخبار والرواية يرجَّحُ قولُ اثنينِ من المثبِتِين على آلافٍ من النافينَ المنكِرينَ، كما في إثبات رؤيةِ هلال رمضان، حيثُ يرجّحُ شاهدانِ مثبتانِ، بينما يُضربُ بكلام آلافٍ من النافينَ عرضَ الحائطِ.

    والخلاصة: لا خبرَ أصدقُ من هذا في العالم، ولا قضيةَ أصوبُ منها، ولا حقيقةَ أظهرُ منها ولا أوْضحُ.

    فالدنيا إذن مزرعةٌ بلا شكٍ، والمحشرُ بيدرٌ، والجنَّةُ والنارُ مخزنانِ.

    الحقيقة العاشرة

    بابُ الحِكمةِ والعنايةِ والرَّحمةِ والعَدالةِ

    وهو تجلي اسمِ «الحكيمِ» و«الكَريمِ» و«العَادلِ» و«الرَّحيمِ»

    أمنَ الممكنِ لمالِكِ الملك ذي الجلالِ الذي أظهرَ في دار ضيافةِ الدنيا الفانيةِ هذه، وفي ميدانِ الامتحانِ الزَّائلِ هذا، وفي معرِضِ الأرض المتبدِّلِ هذا، هذا القَدْرَ من آثارِ الحِكمَةِ الباهرةِ، وهذا المدَى من آثار العِنايةِ الظاهِرةِ، وهذه الدرجةَ من آثارِ العدالَةِ القاهِرةِ، وهذا الحَدَّ من آثارِ الرَّحمةِ الواسعة! ألَّا يُنشئَ في عالم مُلكِه وملكوتِه مساكنَ دائِمةً، وسكنةً خالِدينَ، ومقاماتٍ باقيةً، ومخلوقاتٍ مقيمين.. فتذهبَ هباءً منثورًا جميعُ الحقائقِ الظاهرةِ لهذه الحكمةِ، ولهذه العِنايَةِ، ولهذه العدالةِ، ولهذه الرَّحمةِ؟!

    وهل يُعقَلُ لحكيمٍ ذي جَلالٍ اختارَ هذا الإنسانَ من بينِ المخلوقاتِ، وجعَلَه مُخاطَبًا كلِّيًا له، ومِرآةً جامِعةً لأسمائِه الحُسنَى، ومُقدِّرًا لما في خَزائنِ رحمتِه من يَنابيعَ، ومُتذوِّقا لها ومُتَعرِّفًا إليها، والذي عرَّفَ سُبحانَه ذاتَه الجليلةَ له بجَميعِ أسمائِه الحسنَى، فأَحبَّهُ وحبَّبَه للآخَرينَ.. أفَمِنَ المعقُولِ بعدَ كلِّ هذا أن لا يُرسِلَ ذلكَ «الحكيمُ» جَلَّ وعَلا هذا الإنسانَ المِسكِينَ إلى مَملَكتِهِ الخالِدةِ تلك؟ ولا يدعُوَهُ إلى الدَّارِ السَّعيدةِ الدائمةِ تلكَ فيُسعِدَهُ فيها؟

    أم هل يُعقَلُ أن يُحمِّلَ كلَّ موجودٍ وظائفَ جمَّةً -ولَوْ كان بِذرَةً- بِثقَلِ الشَّجرةِ، ويُركِّبَ عليه حِكَما بعدَدِ أزهارِها، ويُقلِّدَهُ مَصالِحَ بعدَدِ ثمارِها، ثم يَجعَلَ غايةَ وُجودِ تلكَ الوظائفِ والحِكمِ والمَصالِحِ جَميعِها مجرَّدَ ذلك الجزءِ الضَّئِيلِ المُتوَجِّهِ إلى الدُّنيا؛ أي يجعلَ غايةَ الوُجودِ هي البقاءَ في الدُّنيا فقط، الذي لا أَهمِّيّةَ له حتى بمثقالِ حَبةٍ من خَردَلٍ؟ ولا يجعلَ تلك الوظائفَ والحِكَمَ والمصالحَ بُذورًا لعالم المعنَى، ولا مَزْرَعةً لعالمِ الآخِرةِ لتُثمِرَ غاياتِها الحَقِيـقِيَّةَ اللّائقةَ بها. وهل يُعقَلُ أن تذهبَ جَمِيعُ هذه المهرجاناتِ الرَّائعةِ والاحتفالاتِ العَظيمةِ هباءً بلا غايةٍ، وسُدًى بلا معنًى وعبثًا بلا حِكمةٍ؟! أم هل يُعقَلُ أن لا يُوجِّهَها كلَّها إلى عالمِ المعنَى وعالمِ الآخرة لتُظهِرَ غاياتِها الأصيلةَ وأثمارَها الجدِيرةَ بها؟!

    نعم، أمن الممكنِ أن يُظهِرَ كلَّ ذلك خِلافًا للحقيقةِ، خلافًا لأوصافِه المُقدَّسةِ وأسمائِه الحسنَى: «الحكِيمِ، الكريمِ، العادِلِ، الرَّحيمِ» كلَّا.. ثم كَّلا.. أم هل من الممكنِ أن يُكذِّبَ سبحانَه حقائقَ جميعِ الكائِناتِ الدَّالةِ على أوصافِه المقدَّسَةِ من حكمةٍ وعَدْلٍ وكرمٍ ورَحمةٍ، ويرُدَّ شَهادةَ الموجوداتِ جميعا، ويُبطِلَ دلالةَ المصنوعاتِ جميعا! تعالى اللهُ عن ذلك عُلوًّا كَبِيرا.

    وهل يَقبَلُ العقلُ أن يُعطِيَ للإنسانِ أُجرةً دنيويةً زهِيدةً، زَهادةَ شَعرةٍ واحدةٍ، مع أنَّه أناطَ به وبحواسِّه مَهامَّ ووظائفَ هي بعدَدِ شعَراتِ رأسِهِ؟ فهل يُمكِنُ أن يقومَ بمثلِ هذا العملِ الذي لا معنَى له ولا مَغزَى خلافا لعَدالتِه الحقَّةِ، ومُنافاةً لحكمتِه الحقِيقيَّةِ؟ سبحانه وتعالى عما يقُولونَ علوا كبيرا.

    أوَ منَ الممكنِ أن يقلِّدَ سبحانَه كلَّ ذي حياةٍ، بل كلَّ عُضوٍ فيه -كاللِّسانِ مثلا- بل كلَّ مَصنوعٍ، من الحِكَمِ والمصالِحِ بعدَدِ أثْمارِ كلِّ شجرةٍ مُظهِرًا حِكمتَهُ المطلَقةَ ثم لا يَمنَحَ الإنسانَ البقاءَ والخلودَ، ولا يهبَ له السَّعادةَ الأبديَّةَ التي هي أعْظمُ الحِكَمِ، وأهمُّ المصالِحِ، وألزمُ النتائِجِ؟ فيترُكَ البقاءَ واللِّقاءَ والسَّعادَةَ الأبديَّةَ التي تَجعَلُ الحِكمةَ حِكمةً، والنعمةَ نِعمةً، والرَّحمةَ رحمةً، بل هي مَصدرُ جميعِ الحكَمِ والمصالِح والنِّعمِ والرَّحمةِ ومنبَعُها.. فهل يمكنُ أن يترُكَها ويُهمِلَها ويُسقِطَ تلك الأمورَ جميعَها إلى هاوِيةِ العبثِ المطلقِ؟ ويضعَ نفسَه -تعالَى اللهُ عن ذلكَ علوا كبيرا- بمنزِلةِ من يَبنِي قَصرًا عظيما يَضعُ في كلِّ حَجَرٍ فيه آلافَ النُّقوشِ، وفي كلِّ زَاوِيةٍ فيه آلافَ الزِّينةِ والزَّخارِفِ، وفي كلِّ غُرفَةٍ فيه آلافَ الآلاتِ الثمينةِ والحاجِيَّاتِ الضَّروريةِ.. ثم لا يَبنِي له سَقْفًا ليحفَظَه؟! فيتركَه ويتركَ كل شيء للبِلَى والفسادِ! حاشَ لله.. لا يَصدُرُ من الخيرِ المطلقِ إلا الخيرُ، ولا يَصدُرُ من الجميلِ المطلقِ إلا الجمالُ، فلن يَصدُرَ من الحكيمِ المطلقِ العبثُ البتَّةَ.

    نعم، إن كلَّ من يَمتطِي التاريخَ ويذهبُ خيالا إلى جهةِ الماضِي سَيرَى أنه قد ماتَتْ بعَددِ السِّنينَ منازلُ ومعارِضُ وميادِينُ وعوالمُ شبيهةٌ بمنزلِ الدنيا وميدانِ الابتِلاءِ ومَعرِضِ الأشياءِ في وقْتِنا الحاضرِ؛ فعلى الرَّغمِ مما يُرَى من اختلافِ بعضِها عن البعضِ الآخَرِ صورةً ونوعا، فإنها تتشابَه في الانتظامِ والإبداعِ وإبرازِ قُدرةِ الصانعِ وحِكمَتِه.

    وسيَرى كذلك -ما لم يَفقِدْ بصيرتَه- أن في تلك المنازلِ المتبدِّلةِ، وفي تلك المَيادينِ الزائلةِ، وفي تلك المعارِضِ الفانيةِ.. من الأنظمةِ الباهِرَةِ الساطعَةِ للحكمةِ، والإشاراتِ الجَليَّةِ الظاهرةِ للعنايَةِ، والأماراتِ القاهِرةِ المُهَيمِنَةِ للعدالةِ، والثِّمارِ الواسعةِ للرحمَةِ ما سيُدرِكُ يقينًا أنه: لا يمكنُ أن تكُونَ حِكمةٌ أكملَ من تلك الحِكمةِ المشهودَةِ، ولا يمكِنُ أن تكونَ عنايةٌ أرْوَعَ من تلك العِنايةِ الظَّاهِرةِ الآثارِ، ولا يمكنُ أن تكونَ عَدالةٌ أجلَّ من تلك العَدالةِ الواضِحةِ أماراتُها، ولا يمكن أن تكُونَ رحمةٌ أشْملَ من تلك الرَّحمةِ الظَّاهِرةِ الثِّمارِ.

    وإذا افتُرضَ المُحالُ، وهو أنَّ السلطانَ السَّرمدِيَّ -الذي يُديرُ هذه الأمورَ، ويُغيِّرُ هؤلاءِ الضيوفَ والمستضافاتِ باستِمرارٍ- ليستْ لهُ منازِلُ دائِمةٌ ولا أماكِنُ راقيةٌ سامِيةٌ ولا مَقاماتٌ ثابتةٌ ولا مساكنُ باقِيةٌ ولا رَعايَا خالِدُون، ولا عِبادٌ سُعداءُ في مملكتِه الخالدةِ؛ يَلزَمُ عِندَئذٍ إنكارُ الحقائقِ الأربعةِ: «الحِكمة والعَدالَة والعِنايَة والرَّحمَة» التي هِي عَناصِرُ معنوِيةٌ قوِيّةٌ شامِلةٌ، كالنورِ والهواءِ والماءِ والتُّرابِ، وإنكارُ وجودِها الظاهِرِ ظهورَ تلك العناصِرِ، لأنه من المعلومِ أنَّ هذه الدنيا وما فيها لا تَفِي لظُهورِ تلكَ الحقائِقِ، فَلوْ لم يكن هناكَ في مكانٍ آخرَ ما هو أهلٌ لها، فيَجبُ إنكارُ هذه الحِكمةِ الموجودَةِ في كلِّ شيءٍ أمامَنا -بجُنونِ من يُنكِرُ الشمسَ التي يَملأُ نورُها النهارَ- وإنكارُ هذه العنايَةِ التي نُشاهِدُها دائما في أنفسِنا وفي أغلبِ الأشياء..

    وإنكارُ هذه العدالةِ الجليَّةِ الظاهِرةِ الأماراتِ..([28]) وإنكارُ هذه الرَّحمةِ التي نراها في كلِّ مكان.. وكذلك يَلزَمُ أن يُعتبَرَ صاحبُ ما نراهُ من الإجراءاتِ الحكِيمةِ والأفعالِ الكريمةِ، والآلاءِ الرَّحِيمةِ -حاشَ لله ثُمَّ حاشَ لله- لاهيًا لاعِبا ظَالِما غدَّارا تعالى الله عن ذلك عُلوا كبيرا، وما هذا إلَّا انقِلابُ الحقائِقِ بأضْدادِها، وهو مُنتهَى المُحال، حتى السُّوفسطائيُّون الذين ينكرون وجودَ كلِّ شيءٍ حتى وُجودَ أنفسِهم لا يَدنُون إلى تَصوُّرِ هذا المُحالِ بسهولَةٍ.

    والخلاصة: أنه لَيستْ هناك علاقةٌ أو مُناسَبةٌ بين ما يُشاهَدُ في شؤونِ العالمِ من تَجمعاتٍ واسِعةٍ للحياةِ، وافتراقاتٍ سَريعةٍ للموتٍ، وتَكتُّلاتٍ ضَخمةٍ، وتَشتُّتاتٍ سريعةٍ، واحتِفالاتٍ هائلةٍ، وتَجلِّياتٍ رائِعةٍ.. وبينَ ما هو معلومٌ لدينا من نَتائِجَ جُزئيةٍ، وغاياتٍ تافِهةٍ مُؤقَّتةٍ، وفَترةٍ قَصيرةٍ تعودُ إلى الدنيا الفانيةِ؛ لذا فالرَّبطُ بينهُما بعلاقةٍ، أو إيجادِ مُناسَبةٍ، لا يَنسجِمُ مع عَقلٍ ولا يتوافقُ مع حكمةٍ، إذ يُشبِه ذلك رَبْطَ حِكَمٍ هائلةٍ وغَاياتٍ عظيمةٍ كالجبلِ بحصاةٍ صَغيرةٍ جدا، ورَبْطَ غايةٍ تافهةٍ جُزئيةٍ مُؤقتَةٍ بحجمِ الحَصاةِ بجبلٍ عَظيمٍ!!

    أي إنَّ عَدمَ وُجودِ عَلاقةٍ بينَ هذه الموجوداتِ وشُؤونِها وبين غاياتِها التي تعُودُ إلى الدنيا، يَشهَدُ شَهادةً قاطِعةً، ويدلُّ دَلالةً واضحةً على أنَّ هذه الموجوداتِ مُتوجِّهةٌ إلى عالَمِ المعنَى، حيثُ تُعطِي ثِمارَها اللطيفةَ اللائِقةَ هناك، وأنَّ أنظارَها مُتطلِّعةٌ إلى الأسماءِ الحُسنَى، وأن غاياتِها تَرنُو إلى ذلك العالم؛ ومع أنَّ بُذورَها مَخبوءةٌ تحتَ تُرابِ الدنيا إلّا أنَّ سَنابِلَها تَبرُزُ في عالم المثالِ.. فالإنسانُ يَزرَعُ ويُزرَعُ هنا-حسَبَ استعدادِه- ويَحصِدُ هناك في الآخِرةِ.

    نعم، لو نَظَرتَ إلى وُجوهِ الموجوداتِ المتوجِّهةِ إلى الأسماءِ الحسنَى وإلى عالمِ الآخرةِ لرأيتَ: أنَّ لِكلِّ بِذرَةٍ -وهي معجزةُ القُدرةِ الإلهيَّةِ- غاياتٍ كبيرةً كِبَرَ الشجَرةِ؛ وأن لكلِّ زَهرةٍ -وهي كَلِمةُ الحِكمةِ([29])- مَعَانِيَ جَمَّةً بمقدارِ أزهارِ الشجَرِ؛ وأنَّ لِكلِّ ثَمَرةٍ -وهي مُعجِزةُ الصَّنعَةِ وقصِيدةُ الرحمةِ- من الحِكَمِ ما في الشجرةِ نفسِها؛ أما جِهةُ كونِها أرزاقا لنا فهي حِكمةٌ واحدةٌ من بين ألوفِ الحِكَمِ، حيثُ إنها تُنهِي مَهامَّها، وتُوفي مغزاها فتَموتُ وتُدفَنُ في مَعِداتِنا.

    فما دامَتْ هذه الأشياءُ الفانيةُ تُؤتي ثمارَها في غير هذا المكانِ، وتُودِعُ هناك صُوَرا دائمةً، وتُعبِّر عن معانٍ خالدةٍ، وتُؤدِّي أذكارَها وتسابِيحَها الخالِدةَ السَّرمَديَّةَ هناك.. فالإنسانُ إذن يُصبِحُ إنسانا حقا مادامَ يتأمَّلُ ويَنظرُ إلى تلك الوجوهِ المتوجِّهةِ نحوَ الخلود.. وعِندَها يجدُ سبيلا من الفاني إلى الباقي.

    إذن هناك قَصدٌ آخرُ ضِمنَ هذهِ الموجوداتِ المحتَشِدةِ والمتفرِّقةِ التي تَسِيلُ في خِضَمِّ الحياةِ والموتِ، حيثُ إنَّ أحوالَها تُشبِه -ولا مُؤاخَذةَ في الأمثالِ- أحوالا وأوضاعا تُرتَّبُ للتَّمثيلِ، فتُنفَقُ نَفَقاتٌ باهِظةٌ لتَهيِئةِ اجتِماعاتٍ وافتِراقاتٍ قصيرةٍ، لأجل التِقاطِ الصُّوَرِ وتَركيبِها لعرضِها على الشاشَةِ عَرْضا دائِما. وهكذا فإنَّ إحدَى غاياتِ قَضاءِ الحياةِ الشَّخصِيَّةِ والاجتِماعيَّةِ في فترةٍ قَصيرةٍ في هذه الدنيا هي أخذُ الصُّوَرِ وتَركيبُها، وحِفظُ نتائِج الأعمالِ، ليُحاسَبَ أمامَ الجَمعِ الأكبرِ، وليُعرَضَ أمامَ العَرْضِ الأعظمِ، وليَظهَرَ استِعدادُه ولياقَـتُهُ للسعادةِ العُظمَى، فالحديثُ الشريفُ: «الدُّنيا مَزرَعةُ الآخِرةِ» ([30]) يُعبِّرُ عن هذِه الحقيقةِ.

    فما دامت الدنيا موجودةً فِعلا، وفيها الحِكمةُ والعِنايةُ والرَّحمةُ والعَدالةُ الظاهِرةُ بآثارِها، فكذلك الآخِرةُ مَوجُودةٌ حتما، وثابِتةٌ بِقطعيَّةِ ثبوتِ هذه الدنيا.. ولما كان كلُّ شيءٍ في الدنيا يَتطلَّعُ من جهةٍ إلى ذلك العالم، فالسَّيرُ إذن والرِّحلةُ إلى هناك، لذا فإن إنكارَ الآخِرةِ هو إنكارٌ للدُّنيا وما فيها.. فكما أنَّ الأجَلَ والقَبْرَ يَنتظِرانِ الإنسانَ، فالجنَّةُ والنارُ كذلك تنتظرانِه وتَترصَّدانِه.

    الحقيقةُ الحاديةَ عشْرةَ

    بابُ الإنسانيةِ وهو تجلِّي اسمِ «الحقِّ»

    أمن الممكنِ للحقِّ سبحانَه وهو المعبودُ الحقُّ أن يَخلُقَ هذا الإنسانَ أهمَّ عبدٍ لربوبيَّتِه المطلقةِ وأكرمَ مخلوقٍ لرُبوبيَّتِه العامَّةِ للعالمينَ، وأكثرَ المخاطَبِينَ إدراكًا وفهمًا لأوامرِهِ السُّبحانيةِ، وأجمع مرآةٍ لتجلي أسمائه الحسنى، وأجمل معجزةٍ للقدرة، في مرتبةِ أحسنِ تقويمٍ، نال تجلي الاسم الأعظم، وتجلي المرتبة العظمى لكل اسمٍ من الأسماء الحسنى؛ وأغنى مُدَقِّقٍ صاحبُ أجهِزةٍ وموازينَ لمعرفةِ وتقديرِ ما في خَزائنِ الرحْمةِ الإلهيةِ من كُنوزٍ، وأكثرَ المخلوقاتِ فَاقةً وحاجَةً إلى نِعمِه التي لا تُحصَى، وأكثرَها تألُّمًا من الفناء، وأزْيدَها شَوقا إلى البقاءِ، وأشدَّها لطافةً ورِقةً وفَقرًا وحاجةً؛ مع أنه من جِهةِ الحياة الدُّنيا أكثرُها تَعاسةً، ومن جهةِ الاستعدادِ الفِطريِّ أسماها صُورَةً.. فهل من الممكن أن يَخلُقَ المعبودُ الحقُّ الإنسانَ بهذه الماهيةِ ثم لا يبعثَه إلى ما هو مُؤهَّلٌ له ومشتاقٌ إليه من دارِ الخلودِ؟! فيَمحقَ الحقيقةَ الإنسانِيَّةَ ويَعملَ ما هو مُنافٍ كليا لأحقِّيّتِه سبحانه؟ تعالى اللهُ عن ذلكَ عُلوًّا كبيرًا..

    وهل يُعقَلُ للحاكمِ بالحقِّ والرَّحيمِ المطلقِ الذي وَهَبَ لهذا الإنسانِ استِعدادًا فِطريًا سامِيا يُمكِّنُه من حَملِ الأمانةِ الكبرى التي أبتِ السماواتُ والأرضُ والجبالُ أن يحمِلنَها، أي خَلقَه ليَعرِفَ صفاتِ خالِقِه سبحانَه الشامِلةَ المحيطةَ وشؤونَه الكُليَّةَ وتجلياتِه المطلقةَ، بموازينِه الجزئيَّةِ وبمهاراتِه الضَّئيلةِ.. والذي بَرأهُ بشَكلِ ألْطَفِ المخلوقاتِ وأعجزِها وأضعفِها، فسخَّرَ له جَميعَها من نباتٍ وحيوانٍ، حتى نصَّبَه مُشرِفا ومُنظِّما ومُتدخِّلا في أنماطِ تسبيحاتِها وعباداتِها.. والذي جَعلَه نموذجا -بمقاييسَ مُصغَّرةٍ- للإجراءاتِ الإلهيةِ في الكون، ودَلَّالًا لإعلانِ الرُّبوبِيَّةِ المُنزَّهةِ -فِعلًا وقَولًا- على الكائناتِ، حتى منَحَه منزلةً أكرمَ من مَنزلةِ الملائِكةِ، رافعًا إياهُ إلى مرتبةِ الخِلافةِ.. فهل يمكنُ أن يَهَبَ سبحانَه للإنسانِ كلَّ هذه الوظائِفِ ثم لا يَهَبَ له غاياتِها ونتائِجَها وثمارَها وهي السَّعادةُ الأبديَّةُ؟ فَيرمِيَه إلى دَرْكِ الذِّلَّةِ والمسكَنةِ والمصيبةِ والأسقامِ، ويجعلَه أتعسَ مخلوقاتِه؟ ويجعَلَ هذا العقلَ الذي هو هديّةٌ مبارَكةٌ نورانيةٌ لحكمتِه سبحانَه ووسيلةٌ لمعرفِة السعادَةِ آلةَ تعذيبٍ وشُؤمٍ، خلافا لحكمتِه المطلقة، ومنافاةً لرحمتِه المطلقةِ؟ تعالى الله عن ذلكَ عُلوًا كَبيرًا.

    الخلاصة: كما أننا رَأينَا في الحكايةِ أن في هُوِيَّةِ الضابِطِ ودَفتَرِ خدمتِه رُتبتَه، ووظيفتَه ومرتَّبَه ودستورَ أفعالِه وعَتَادَه، واتَّضحَ لدينا أن ذلكَ الضابطَ لا يَعملُ لأجل هذا الميدانِ المؤقَّتِ، بل لما سَيرحَلُ إليه من تكريمٍ وإنعامٍ في مملكةٍ مستقِرَّةٍ دائمةٍ؛ كذلك فإن ما في هُوِيَّةِ قلبِ الإنسانِ من لطائفَ، وما في دَفتَرِ عَقلِه من حواسَّ، وما في فِطرتِه من أجهزةٍ وعَتادٍ مُتوجِّهةٌ جميعًا ومعًا إلى السعادةِ الأبديَّةِ، بل ما مُنِحتْ له إلّا لأجلِ تلك السَّعادَةِ الأبديَّةِ، وهذا ما يَتَّفِقُ عليهِ أهلُ التَّحقيقِ والكشفِ.

    فعلى سَبيلِ المثالِ: لو قِيلَ لقُدرةِ التَّخيُّلِ في الإنسان التي تُعدُّ وَسيلةَ تَصويرٍ للعَقلِ وخادِمةً له: ستُمنحُ لكِ سَلطنةُ الدنيا وزِينتُها مع عُمُرٍ يَزيدُ على مِليونِ سَنةٍ ولكنْ مصيرُك إلى الفناءِ والعدمِ حَتما نراها تَتأوَّهُ وتَتحسَّرُ، إن لم يَتدخَّلِ الوهمُ وهوَى النفسِ؛ أي إن أعظمَ فانٍ -وهو الدُّنيا وما فيها- لا يُمكنُه أن يُشبِع أصغرَ آلةٍ في الإنسانِ وهي الخيالُ! يَظهَرُ من هذا جليًّا أنَّ هذا الإنسانَ الذي له هذا الاستِعدادُ الفِطريُّ والذي له آمالٌ تَمتَدُّ إلى الأبدِ، وأفكارٌ تحيطُ بالكونِ، ورَغباتٌ تَنتَشر في ثنايا أنواعِ السعادةِ الأبديَّةِ؛ هذا الإنسانُ إنما خُلِقَ للأبَدِ وسَيرحلُ إليه حتما، فليسَت هذه الدنيا إلّا مُستَضافًا مُؤقَّتا، وصَالةَ انتظارِ الآخِرةِ.

    الحقيقة الثانية عشرة

    بابُ الرِّسالةِ والتَّنزيلِ

    وهو تجلي «بِسْمِ الله الرَّحمنِ الرَّحِيمِ»

    أمِنَ الممكن لمن أيَّد كلامَه جميعُ الأنبياءِ المعتمِدين على معجزاتِهم وأقرَّ بِه جميعُ الأولياءِ الصالحين المعزَّزِين بكشفياتِهم وكراماتِهم، وشهد بصدقِهِ جميعُ العلماءِ والأصفياءِ المستندينَ إلى تدقيقاتِهم وتحقيقاتِهم.. ذلِكُم هو الرسولُ الكريمُ ﷺ الذي فتـحَ بما أُوتيَ من قوةٍ طريقَ الآخرةِ وبابَ الجنةِ، مُصدَّقا بألفٍ من معجزاتِه الثَّابتةِ، وبآلافٍ من آياتِ القرآنِ الكريمِ الثَّابتِ إعجازُه بأربعينَ وجهًا؛ فهل من الممكن أَن تَسُدَّ أوهامٌ هي أَوهَى من جناحِ ذُبابةٍ ما فتحَهُ هذا الرسولُ الكريمُ ﷺ من طريقِ الآخرةِ وبابِ الجنةِ؟!

    * * *

    وهكذا لقد فُهِمَ من الحقائقِ السَّابقةِ أنَّ مسألةَ الحشرِ حقِيقةٌ راسِخةٌ قويةٌ بحيثُ لا يمكن أن تُزحزِحَها أيّةُ قُوةٍ مهما كانت حتى لو استطاعَت أن تُزيحَ الكرةَ الأرضيَّةَ وتُحطِّمَها، ذلك لأنَّ الله سبحانَه وتعالى يُقرُّ تلك الحقيقةَ بمقتضَى أسمائِه الحسنَى جميعِها وصفاتِه الجليلةِ كلِّها، وأنَّ رسُولَه الكريمَ ﷺ يُصدِّقُها بمعجزاتِه وبراهينِه كلِّها، والقرآنُ الكريمُ يُثبِتها بجميعِ آياتِه وحقائِقه، والكونُ يَشهَد لها بجميعِ آياتِه التكوينِيَّةِ وشؤونِه الحكيمةِ.

    فهل من الممكنِ يا تُرى أن يتَّفِـقَ مع واجبِ الوجودِ سبحانَه وتعالى جميعُ الموجوداتِ -عدا الكُفارِ- في حقيقةِ الحشرِ، ثم تأتي شُبهةٌ شيطانِيةٌ واهيةٌ ضعِيفةٌ لتُـزِيحَ هذه الحقيقةَ الراسِخةَ الشامخةَ وتُزعزِعَها؟! كَلَّا.. ثم كَلَّا..

    ولا تَحسَبنّ دلائِل الحشرِ منحصِرةٌ في ما بحثناه من الحقائقِ الاثْنتَيْ عشْرةَ، بل كما أنَّ القرآنَ الكريمَ وَحدَهُ يُعلِّمُنا تلكَ الحقائِقَ، فإنه يُشِيرُ كذلك بآلافٍ من الأوجُهِ والأماراتِ القويَّةِ إلى أنَّ خالِقَنا سيَنقُلُنا من دار الفناءِ إلى دارِ البَقاءِ.

    ولا تَحسَبنَّ كذلك أن دلائلَ الحشرِ منحصرةٌ فيما بحثناه من مُقتَضياتِ الأسماءِ الحسنى «الحكِيمِ، الكَريمِ، الرَّحيمِ، العادِل، الحفيظِ» بل إن جميعَ الأسماءِ الحسنى المتجَليةِ في تَدبِيرِ الكون تقتَضِي الآخرةَ وتَستَلزِمُها.

    ولا تحسَبْ أيضا أن آياتِ الكونِ الدَّالةِ على الحشر هي تلك التي ذكَرْناهَا فحَسبُ، بل هناك آفاقٌ وأَوجُهٌ في أكثرِ الموجوداتِ تُفتَحُ وتتوجَّهُ يَمِينا وشِمالا، فمثلما يدلُّ ويَشهَد وجهٌ على الصانِع سبحانَه وتعالى يُشِيرُ وجهٌ آخرُ إلى الحشر ويُومِئ إليهِ.

    فمثلا: إن حُسنَ الصَّنعةِ المتقَنةِ في خلقِ الإنسانِ في أحْسَنِ تقويمٍ، مثلما هو إشارةٌ إلى الصانِع سُبحانَه، فإن زَوالَه في مُدَّةٍ يَسيرةٍ مع ما فيهِ من قابلياتٍ وقُوًى جامعةٍ، يُشِير إلى الحشر، حتى إذا ما لُوحِظَ وَجهٌ واحدٌ فقط بنظرتَينِ، فإنه يَدُلُّ على الصَّانعِ والحشرِ معًا، فمثلا: إذا لوحِظتْ ماهيةُ ما هو ظاهِرٌ في أغلبِ الأشياءِ من تَنظِيمِ الحكمةِ وتَزيِينِ العِنايةِ وتقديرِ العَدالةِ ولطَافةِ الرَّحمةِ، تُبيِّنُ أنها صادِرةٌ من يَدِ القُدرةِ لصانِع حكيمٍ، كريمٍ، عَادلٍ، رحيمٍ؛ كذلك إذا لُوحِظتْ عَظمةُ هذه الصِّفاتِ الجليلةِ وقوَّتُها وطلاقتُها، مع قِصَر حياةِ هذه الموجوداتِ في هذه الدنيا وزَهادَتِها فإن الآخرةَ تَتبَيَّنُ من خِلالِها،

    أي إنَّ كلَّ شيءٍ يَقرأُ ويَستقرِئُ بلسانِ الحالِ: آمَنتُ بِالله وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ

    الخاتمة

    إنَّ الحقائقَ الاثنتَيْ عَشْرةَ السابِقةَ يُؤيِّدُ بعضُها البعضَ الآخرَ، وتُكمِّلُ إحداها الأُخرَى وتَسنُُدُها وتَدعمُها، فتَتبَيَّنُ النتيجَةُ من مجموعِها واتِّحادِها معًا؛ فأيُّ وَهْم يُمكِنُه أن يَنْفُذَ من هذه الأسوارِ الاِثنَيْ عشَرَ المُحكمةَ كالحديدِ، بل الألماسِ، ليُزعزِعَ الإيمانَ بالحشرِ المُحصَّنِ بالحِصنِ الحصِينِ؟

    فالآيةُ الكرِيمةُ ﴿ مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ اِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ (لقمان:28)

    تُفِيدُ أن خلقَ جميعِ البشرِ وحَشرَهُم سَهلٌ ويَسيرٌ على القُدرَةِ الإلهيةِ، كخلقِ إنسانٍ واحدٍ وحَشْرِهِ؛ نعم، وهو هكذا حيثُ فُصِّلتْ هذه الحقِيقةُ في بَحثِ «الحشر» من رسَالةِ «نُقطةٌ من نورِ مَعرِفةِ اللهِ جلَّ جلالُه»، إلّا أننا سَنشِيرُ هنا إلى خُلاصتِها مع ذكرِ الأمثلةِ، ومَن أرادَ التفصيلَ فَليُراجِع تلك الرسالةَ.

    فمثلا: ولله المثلُ الأعلى -ولا جدالَ في الأمثالِ- إن الشَّمسَ مثلما تُرسِل -ولو إراديًّا- ضوءَها بسهولةٍ تامةٍ إلى ذَرةٍ واحدةٍ، فإنها تُرسِلُه بالسهولةِ نفسِها إلى جميع الموادِّ الشفافَةِ التي لا حَصرَ لها، وذلك بسِرِّ «النُّورانيةِ»؛

    وإنَّ أخذَ بُؤبُؤِ ذرّةٍ شفافةٍ واحِدةٍ لصورةِ الشمسِ مُساوٍ لأخذِ سَطحِ البحرِ الواسِعِ لها، وذلك بسِرِّ«الشَّفافِيَّةِ»؛

    وإنَّ الطفلَ مثلما يُمكِنُه أن يحرِّكَ دُميَتَه الشبيهةَ بالسفِينَةِ، يُمكِنُه أن يُحرِّكَ كذلك السفينةَ الحقيقيَّةَ، وذلك بِسرِّ «الانتِظامِ» الذي فيها؛

    وإنَّ القائِدَ الذي يُسيِّرُ الجنديَّ الواحدَ بأمر «سِرْ»، يسوقُ الجيشَ بأكملِه بالكلمة نفسِها، وذلك بسرِّ «الامتِثالِ والطَّاعةِ».

    ولو افتَرضْنا في الفضاءِ ميزانًا كبيرًا جدًا، وحسَّاس بحيثُ يتحسَّسُ وزنَ جَوْزَةٍ صغيرةٍ في الوقتِ الذي يمكِنُ أن توضَعَ في كِفَّتيْهِ شَمسانِ، ووُجِدَت في الكِفَّتيْنِ جَوْزَتانِ أو شَمسانِ، فإن الجُهدَ المبذولَ لرفعِ إحدَى الكِفَّتيْنِ إلى الأعلى والأخرَى إلى الأسفلِ هو الجُهدُ نفسُه، وذلك بسرِّ «الموازَنةِ».

    فما دام أكبرُ شيءٍ يتساوَى مع أصغرِهِ، وما لا يُعدُّ من الأشياءِ يَظهَرُ كالشيءِ الواحِدِ في هذه المخلوقاتِ والممكناتِ الاعتِياديَّةِ -وهي ناقِصةٌ فانِيةٌ- لما فيها من «النُّورانِيَّةِ والشفافيَّةِ والانتظامِ والامتِثالِ والموازَنةِ» فلا بُدَّ أنه يتساوى أمامَ القديرِ المطلقِ القَليلُ والكثيرُ، والصغيرُ والكبيرُ، وحشرُ فردٍ واحدٍ وجميعِ الناسِ بصَيحةٍ واحِدةٍ، وذلك بالتجلياتِ «النُّورانيَّةِ» المطلقةِ لقدرتِه الذاتِيَّةِ المطلقةِ وهي في منتهى الكمالِ، و«الشَّفافيَّةِ» في مَلكوتيَّةِ الأشياءِ، و«انتِظامِ» الحِكمةِ والقَدرِ، و«امتِثالِ» الأشياءِ وطاعَتِها لأوامرِهِ التكوِينِيَّةِ امتثالا كامِلا، وبسِرِّ «مُوازَنةِ» الإمكانِ الذي هو تَساوِي الممكناتِ في الوُجودِ والعَدمِ.

    ثم إنَّ مراتِبَ القوَّةِ والضَّعفِ لشيءٍ مَا عبارةٌ عن تداخُلِ ضِدِّهِ فيهِ، فدَرجاتُ الحرارةِ -مثلا- ناتجةٌ من تداخُلِ البُرودَةِ، ومَراتبُ الجمالِ متولِّدةٌ من تداخلِ القُبحِ، وطبقاتُ الضوءِ من دُخولِ الظلامِ؛ إلّا أنّ الشيءَ إن كان ذاتيا غيرَ عَرَضيٍّ، فلا يمكنُ لضِدِّهِ أن يَدخُلَ فيه، وإلّا لزِمَ اجتماعُ الضِّدَّين وهو محالٌ، أي إنه لا مراتبَ فيما هو ذاتيٌّ وأصيلٌ، فما دامت قدرةُ القديرِ المطلقِ ذاتِيةً، وليست عَرَضَيَّةً كالممكناتِ، وهي في الكمالِ المطلقِ، فمنَ المحالِ إذن أن يَطرأَ عليها العَجزُ الذي هو ضِدُّها،

    أي إنّ خَلقَ الربيعِ بالنِّسبَةِ لذي الجلالِ هيِّنٌ كخلقِ زَهرةٍ واحدةٍ، وبَعثَ الناسِ جميعا سهلٌ ويَسيرٌ عليه كبعثِ فردٍ منهم، بخلافِ ما إذا أُسنِدَ الأمرُ إلى الأسبابِ الماديةِ، فعِندئذٍ يكونُ خَلقُ زَهرةٍ واحدةٍ صعبًا كخلقِ الرَّبيعِ.

    وكلُّ ما تَقدَّمَ من الأمثلةِ والإيضاحاتِ -منذُ البدايةِ- لصُوَر الحشرِ وحقائقِه ما هي إلَّا من فيضِ القرآنِ الكَريمِ، وما هي إلّا لتهيئةِ النَّفسِ للتَّسليمِ والقلبِ للقَبولِ؛ إذ القولُ الفصلُ للقرآنِ الكريمِ والكلامُ كلامُه، والقولُ قولُه، فلْنستَمِعْ إليه..

    فللّه الحجَّة البالغة..

    فَانْظُرْ اِلٰٓى آثَارِ رَحْمَتِ اللّٰهِ كَيْفَ يُحْيِي الْاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا اِنَّ ذٰلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتٰى وَهُوَ عَلٰى كُلِّ شَىْءٍ قَد۪يرٌ (الروم:50) ﴿ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِىَ رَم۪يمٌ ❀ قُلْ يُحْي۪يهَا الَّذ۪ٓي اَنْشَاَهَٓا اَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَل۪يمٌ ﴾ (يس:78-79) ﴿ يَٓا اَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّـكُمْ اِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظ۪يمٌ ❀ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّٓا اَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارٰى وَمَا هُمْ بِسُكَارٰى وَلٰكِنَّ عَذَابَ اللّٰهِ شَد۪يدٌ ﴾ (الحج:1-2) ﴿ اَللّٰهُ لَٓااِلٰهَ اِلَّاهُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ اِلٰى يَوْمِ الْقِيٰمَةِ لَا رَيْبَ ف۪يهِ وَمَنْ اَصْدَقُ مِنَ اللّٰهِ حَد۪يثًا ﴾ (النساء:87)

    ﴿ اِنَّ الْاَبْرَارَ لَف۪ي نَع۪يمٍ ❀ وَ اِنَّ الْفُجَّارَ لَف۪ي جَح۪يمٍ ﴾ (الانفطار:13-14)

    ﴿ اِذَا زُلْزِلَتِ الْاَرْضُ زِلْزَالَهَا ❀ وَاَخْرَجَتِ الْاَرْضُ اَثْقَالَهَا ❀ وَقَالَ الْاِنْسَانُ مَالَهَا ❀ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ اَخْبَارَهَا ❀ بِاَنَّ رَبَّكَ اَوْحٰى لَهَا ❀ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ اَشْتَاتًا لِيُرَوْا اَعْمَالَهُمْ ❀ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ❀ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ (سورة الزلزال)

    ﴿ اَلْقَارِعَةُ ❀ مَا الْقَارِعَةُ ❀ وَمَٓا اَدْرٰيكَ مَا الْقَارِعَةُ ❀ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ❀ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ❀ فَاَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَاز۪ينُهُ ❀ فَهُوَ ف۪ي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ❀ وَاَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ❀ فَاُمُّهُ هَاوِيَةٌ ❀ وَمَٓا اَدْرٰيكَ مَاهِيَهْ ❀ نَارٌ حَامِيَةٌ ﴾ (سورة القارعة)

    ﴿ وَ لِلّٰهِ غَيْبُ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ وَمَٓا اَمْرُ السَّاعَةِ اِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ اَوْ هُوَ اَقْرَبُ اِنَّ اللّٰهَ عَلٰى كُلِّ شَىْءٍ قَد۪يرٌ ﴾ (النحل:77)

    ولْنستَمِع إلى أمثالِ هذه الآياتِ البيِّناتِ، ولنقُل: آمنَّا وصدَّقنا..

    آمَنْتُ بِاللّٰهِ وَمَلٰئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ مِنَ اللّٰهِ تَعَالٰى وَالْبَعْثُ بَعْدَ الْمَوْتِ حَقٌّ وَاَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَالنَّارَ حَقٌّ وَاَنَّ الشَّفَاعَةَ حَقٌّ وَاَنَّ مُنْكَرًا وَنَكِيرًا حَقٌّ وَاَنَّ اللّٰهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ

    اَشْهَدُ اَنْ لَااِلٰهَ اِلَّااللّٰهُ وَاَشْهَدُ اَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللّٰهِ

    اَللّٰهُمَّ صَلِّ عَلٰى اَلْطَفِ وَاَشْرَفِ وَاَكْمَلِ وَاَجْمَلِ ثَمَرَاتِ طُوبَاءِ رَحْمَتِكَ الَّذِي اَرْسَلْتَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ وَوَسِيلَةً لِوُصُولِنَا اِلٰى اَزْيَنِ وَاَحْسَنِ وَاَجْلٰى وَاَعْلٰى ثَمَرَاتِ تِلْكَ الطُّوبَاءِ الْمُتَدَلِّيَةِ عَلٰى دَارِ الْآخِرَةِ اَىِ الْجَنَّةِ ❀ اَللّٰهُمَّ اَجِرْنَا وَاَجِرْ وَالِدَيْنَا مِنَ النَّارِ وَاَدْخِلْنَا وَاَدْخِلْ وَالِدَيْنَا الْجَنَّةَ مَعَ الْاَبْرَارِ بِجَاهِ نَبِيِّكَ الْمُخْتَارِ آمِينَ

    فيا أيها الأخُ القارِئُ لهذه الرسَالةِ بإنْصافٍ!

    لا تَقُل لِمَ لا أُحِيطُ فهمًا بهذه الكلمةِ العاشرةِ.. لا تَغتَمَّ ولا تتَضايقْ من عَدمِ الإحاطةِ بها، فإنَّ فَلاسِفةً دُهاةً -أمثالَ ابنِ سِينا(*)- قد قالوا: «الحشرُ ليسَ على مَقايِيسَ عَقليةٍ» أي نُؤمِنُ به فحَسبُ، فلا يُمكِنُ سلوكُ سَبيلِه، وسبرُ غَورِه بالعقلِ.. وكذلك اتَّفقَ علماءُ الإسلامِ بأن قَضيَّةَ الحشرِ قَضِيّةٌ نقليَّةٌ، أي إنَّ أدلَّتَها نقليةٌ، ولا يمكنُ الوصولُ إليها عَقلًا؛ لذا فإن سَبيلًا غائِرا، وطَريقًا عَاليا سامِيا في الوقت نفسِه، لا يُمكِنُ أن يكونَ بسُهولةِ طَريقٍ عامٍّ يمكن أنْ يسلُكَه كلُّ سالِكٍ.

    ولكن بفيضِ القرآنِ الكَريمِ، وبرَحمةِ الخالقِ الرَّحيمِ قد مُنَّ علينا السَّيرُ في هذا الطريقِ الرفيعِ العَميقِ، في هذا العَصرِ الذي تَحطَّمَ فيه التقليدُ وفسدَ الإذعانُ والتسليمُ؛ فما علينا إلّا تقدِيمُ آلافِ الشُّكرِ إلى البارئِ عزَّ وجلَّ على إحسانِه العميمِ وفَضلِه العَظيمِ، إذ إنَّ هذا القدْرَ يكفِي لإنقاذِ إيمانِنا وسلامتِه، فلا بُدَّ أن نرضَى بمِقدارِ فهمِنا ونَزيدَه بتكرارِ المطالعةِ.

    هذا وإنَّ أحدَ أسرارِ عَدمِ الوُصولِ إلى مسألةِ الحشر عقلا هو أنّ الحشرَ الأعظمَ من تَجلِّي «الاسمِ الأعظَمِ»، لذا فإن رُؤيةَ وإِراءةَ الأفعالِ العَظيمةِ الصَّادرةِ من تَجلِّي الاسمِ الأَعظَمِ، ومن تجلي المرتبةِ العُظمَى لكلِّ اسمٍ منَ الأسماءٍ الحسنى هي التي تَجعلُ إثباتَ الحشرِ الأعظمِ سهلا هيِّنا وقاطعًا كإثباتِ الرَّبيعِ وثبوتِه، والذي يُؤدِّي إلى الإذعانِ القطعيِّ والإيمانِ الحقِيقيِّ. وعلى هذه الصُّورةِ تَوضَّحَ الحَشرُ ووُضِّحَ في هذه «الكلمةِ العاشِرةِ» بفيضِ القُرآنِ الكريمِ، وإلّا لو اعتَمدَ العَقلُ على مَقايِيسِهِ الكَليلةِ لظلَّ عاجِزًا مُضطرًا إلى التَّقليدِ.

    * * *

    ذيلٌ مهمٌ للكلمةِ العاشِرةِ والقطعة الأولى من لاحقتها

    بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

    ﴿ فَسُبْحَانَ اللّٰهِ ح۪ينَ تُمْسُونَ وَح۪ينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ وَعَشِيًّا وَح۪ينَ تُظْهِرُونَ ❀ يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ وَيُحْيِي الْاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذٰلِكَ تُخْرَجُونَ ❀ وَمِنْ آيَاتِـه۪ٓ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ اِذَٓا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ❀ وَمِنْ آيَاتِـه۪ٓ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُٓوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ ف۪ي ذٰلِكَ لَاٰيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ❀ وَمِنْ آيَاتِـه۪ خَلْقُ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ اِنَّ ف۪ي ذٰلِكَ لَاٰيَاتٍ لِلْعَالِم۪ينَ ❀ وَمِنْ آيَاتِـه۪ مَنَامُكُمْ بِالَّيْلِ وَالنَّـهَارِ وَابْتِغَٓاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِـه۪ اِنَّ ف۪ي ذٰلِكَ لَاٰيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ❀ وَمِنْ آيَاتِـه۪ يُر۪يكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَٓاءِ مَٓاءً فَيُحْيِي بِهِ الْاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا اِنَّ ف۪ي ذٰلِكَ لَاٰيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ❀ وَمِنْ آيَاتِـه۪ٓ اَنْ تَقُومَ السَّمَٓاءُ وَالْاَرْضُ بِأَمْرِه۪ ثُمَّ اِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْاَرْضِ اِذَٓا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ❀ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ❀ وَهُوَ الَّذ۪ي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُع۪يدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى فِي السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ وَهُوَ الْعَز۪يزُ الْحَك۪يمُ ﴾ (الروم:17-27)

    سنُبيّن في هذا «الشُّعاعِ التاسعِ» بُرهانا قويا، وحجةً كبرى، لما تُبيِّنُه هذه الآياتُ الكريمةُ من مِـحوَرِ الإيمانِ وقُطبِه، وهو الحشرُ، ومن البراهِينِ الساميةِ المقدَّسةِ الدالةِ علَيهِ.

    وإنه لعِنايةٌ ربانِيةٌ لطيفةٌ أن كَتبَ «سعيدٌ القدِيمُ» قبل ثلاثين سنةً في خِتام مُؤلَّفِه «محاكمات» الذي كتبَه مُقدِّمةً لتفسيرِ «إشاراتِ الإعجازِ في مظانِّ الإيجازِ» ما يأتي:

    المقصِد الثاني: سوفَ تُفسَّر آيتانِ تُبيِّنان الحشرَ وتُشيرانِ إليهِ. ولكنه ابتَدأَ بـ: نخو([31]) بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ وتوقَّفَ، ولم تُتَح له الكِتابةُ. فألْفُ شُكرٍ وشُكرٍ للخالقِ الكريمِ وبِعَددِ دلائِلِ الحشرِ وأماراتِه أن وفَّقنِي لبيان ذلك التفسيرِ بعدَ ثلاثين سنةً،

    فأنعمَ سبحانَه وتعالى عليَّ بتَفسِيرِ الآيةِ الأُولَى:

    فَانْظُرْ اِلٰٓى آثَارِ رَحْمَتِ اللّٰهِ كَيْفَ يُحْيِي الْاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا اِنَّ ذٰلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتٰى وَهُوَ عَلٰى كُلِّ شَىْءٍ قَد۪يرٌ (الروم:50)

    وذلكَ قبلَ نَحوِ عَشرِ سَنواتٍ، فأصْبحتِ «الكلمةَ العاشِرةَ» و«الكلمةَ التاسِعةَ والعشرينَ» وهما حُجَّتان ساطعتانِ قويَّتانِ أخْرستَا المنكرينَ الجاحِدينَ..

    وبعدَ حَوالي عَشرِ سنواتٍ من بيانِ ذلِكُما الحِصنَينِ الحَصِينَينِ للحشرِ، أفاضَ عليَّ سبحانَه وتعالى وأنعمَ بتَفسيرِ الآياتِ المتصدِّرةِ لهذا الشعاعِ، فكانَ هذه الرِّسالةَ. هذا «الشُّعاعُ التاسِعُ» عبارةٌ عن مُقدِّمةٍ مُهمة وتِسعةِ مقاماتٍ سَاميةٍ، أشارت إليها الآياتُ الكريمةُ.

    المقدمة

    هذه المقدِّمةُ نقطتان: سَنذكرُ أَولًا وباخْتصارٍ نتيجةً واحِدةً جامعةً من بين النتائجِ الحياتِيَّةِ والفوائدِ الرُّوحيةِ لعقِيدةِ الحشرِ، مُبيِّنينَ مدى ضرُورةِ هذه العقيدةِ للحياةِ الإنسانيَّةِ ولاسيَّما الاجتماعيةِ. ونُورِدُ كذلك حُجةً كلِّيةً واحدةً -من بين الحُجَجِ العديدةِ لعقيدةِ الإيمانِ بالحشرِ- مُبيِّنينَ أيضا مدى بداهتِها ووُضوحِها حيثُ لا يداخِلها ريبٌ ولا شُبهةٌ.

    النقطة الأولى

    سَنشِيرُ إلى أربعةِ أدلَّةٍ على سبيلِ المثالِ وكنَمُوذَجٍ قياسيٍّ من بَين مئاتِ الأدلةِ على أن عقيدةَ الآخِرةِ هي أُسُّ الأساسِ لحياةِ الإنسانِ الاجتِماعيةِ والفرديةِ، وأساسُ جميعِ كمالاتِه ومُثلِه وسعادَتِه.

    الدليل الأول إنَّ الأطفالَ الذينَ يُمثِّلونَ نِصفَ البشريَّةِ، لا يمكِنُهم أن يتَحمَّلوا تلك الحالاتِ التي تَبدُو مُؤلِمةً ومُفجِعةً أمامَهم من حالاتِ الموتِ والوَفاةِ إلّا بما يَجدونَه في أنفسِهِم وكِيانِهم الرقِيقِ اللطيفِ من القوَّةِ المعنويَّةِ النَّاشئةِ من «الإيمانِ بالجنَّةِ»، ذلك الإيمانِ الذي يَفتَحُ بابَ الأملِ المُشرقِ أمام طبائِعِهمُ الرَّقيقةِ التي لا تتمكنُ من المقاوَمةِ والصمودِ وتَبكِي لأدنَى سَببٍ؛ فيتَمكَّنونَ به من العيش بهناءٍ وفَرحٍ وسُرورٍ، فيُحاوِرُ الطِّفلُ المؤمنُ بالجنةِ نفسَه: إن أخي الصغيرَ أو صديقي الحبيبَ الذي تُوُفي، أصبحَ الآن طيْرًا من طيورِ الجنةِ، فهو إذن يَسرحُ من الجنةِ حيثُ يشاءُ، ويَعيشُ أفضلَ وأهنأَ مِنَّا. ([32])

    وإلّا فلولا هذا الإيمانُ بالجنةِ، لهَدمَ الموتُ الذي يُصِيبُ أطفالا أمثالَه -وكذلك الكبارَ- تلك القوَّةَ المعْنوِيَّةَ لهؤلاء الذين لا حِيلةَ لهم ولا قوَّة، ولحطَّمَ نفسِياتِهِم، ولدَمَّر حياتَهم ونغَّصَها، فتَبكِي عِندئذٍ جميعُ جوارحِهم ولطائِفهِم من رُوحٍ وقلبٍ وعقلٍ مع بُكاءِ عيونِهم؛ فإمَّا أن تموتَ أحاسِيسُهم وتَغلُظَ مشاعِرُهم أو يُصبِحُوا كالحيواناتِ الضالةِ التَّعِسةِ.

    الدليل الثاني إنَّ الشُّيوخَ الذين هم نِصفُ البَشريةِ، إنما يتَحمَّلونَ ويَصبِرونَ وهم على شَفيرِ القَبرِ بـ«الإيمانِ بالآخِرةِ»، ولا يَجدونَ الصَّبرَ والسُّلوانَ من قُربِ انطفاءِ شُعلةِ حَياتِهم العَزيزةِ عليهم، ولا مِنِ انغِلاقِ بابِ دنياهُمُ الحلوَةِ الجميلةِ في وُجوهِهم إلّا في ذلك الإيمانِ؛ فهؤلاءِ الشُّيوخُ الذين عادُوا كالأطفالِ وأصبحوا مُرهَفي الحِسِّ في أرواحِهم وطبائِعهِم، إنما يُقابِلونَ ذلك اليأسَ القاتِلَ الأليمَ الناشِئَ من الموتِ والزَّوالِ، ويَصبِرونَ عليه بالأملِ في الحياةِ الآخِرةِ،

    وإلّا فلولا هذا الإيمانُ بالآخرةِ لشعرَ هؤلاءِ الآباءُ والأمهاتُ الذين هم أجدَرُ بالشَّفَقةِ والرَّأفةِ والذين هم في أشدِّ الحاجةِ إلى الاطمئنانِ والسَّكينةِ والحياةِ الهادِئةِ، ضِرامًا رُوحيًّا واضطِرابًا نَفسِيًّا وقَلقًا قلبيًّا، ولضاقتْ عليهم الدنيا بما رَحُبت، ولتَحوَّلت سِجنا مُظلِما رَهيبًا، ولانقَلبَتِ الحياةُ إلى عذابٍ أليمٍ قاسٍ.

    الدليل الثالث إنَّ الشَّبابَ والمراهِقينَ الذين يُمثِّلونَ مِـحوَرَ الحياةِ الاجتماعيةِ لا يُهدِّئُ فَوْرَةَ مشاعِرهِم، ولا يَمنعهُم من الظُّلمِ والتخريبِ وتجاوزِ الحدودِ، ولا يَمنعُ طيشَ أنفُسِهم ونَزواتِها، ولا يُؤمِّنُ السيرَ الأفضلَ في علاقاتِهمُ الاجتماعِيَّةِ إلّا الخوفُ من نارِ جهنمَ،

    فلولا هذا الخوفُ من عذابِ جهنَّمَ لقَلَبَ هؤلاء المراهقونَ الطائِشونَ الثَّمِلونَ بأهوائِهمُ الدنيا إلى جَحيمٍ تَتأجَّجُ على الضُّعفاءِ والعجائزِ، حيث «الحُكمُ للغالبِ» ولَحَوَّلوا الإنسانِيَّةَ السَّامِيةَ إلى حَيوانيَّةٍ سافلةٍ.

    الدليل الرابع إن الحياةَ العائِليةَ هي مَركزٌ جامِعٌ لحياةِ البشرِ الدُّنيويةِ ولَولبُها وهي جَنةُ سَعادتِها وقَلعتُها الحصِينةُ وملجؤُها الأمينُ؛ وإنَّ بيتَ كلِّ فردٍ هو عالَمُه ودنياه الخاصَّةُ، فلا سَعادةَ لِروحِ الحياةِ العائِليةِ إلّا بالاحترامِ المتبادَلِ الجادِّ والوفاءِ الخالصِ بينَ الجميعِ، والرأفةِ الصَّادقةِ والرحمةِ التي تَصِلُ إلى حدِّ التضحيةِ والإيثارِ؛ ولا يَحصُلُ هذا الاحْترامُ الخالصُ والرَّحمةُ المتبادَلةُ الوَفيّةُ إلّا بالإيمانِ بوُجودِ علاقاتِ صداقةٍ أبديَّةٍ، ورِفقةٍ دائِمةٍ، ومَعيَّةٍ سرمديةٍ، في زَمنٍ لا نهايةَ له، وتحتَ ظِلِّ حياةٍ لا حدودَ لها، تربطُها علاقاتُ أُبوَّةٍ مُحترمةٍ مَرموقةٍ، وأُخوَّةٍ خالصةٍ نَقيةٍ، وصَداقةٍ وفيَّةٍ نزيهةٍ، حيث يُحدِّثُ الزوجُ نفسَه:

    «إن زَوجتِي هذه رفيقةُ حياتي وصَاحبتِي في عالَمِ الأبَدِ والحياةِ الخالدةِ، فلا ضَيرَ إنْ أصبحَتِ الآن دميمةً أو عجوزًا، إذ إن لها جمالا أبَديًّا سيأتي، لذا فأنا مُستعِدٌّ لتقديمِ أقصَى ما يَستوجِبُه الوفاءُ والرأفةُ، وأُضحِّي بِكلِّ ما تتطلَّبُه تلك الصداقةُ الدائِمةُ»..

    وهكذا يُمكِن أن يُكِنَّ هذا الرجلُ حُبًّا ورحمةً لزوجتِه العجوزِ كما يُكِنُّه للحورِ العِين؛ وإلّا فإنَّ صُحبةً وصداقةً صُورِيةً تَستغرِقُ ساعةً أو ساعتَينِ ومن ثَم يعقُبُها فراقٌ أبديٌّ ومُفارَقةٌ دائِمةٌ لهيَ صُحبةٌ وصداقةٌ ظاهرِيَّةٌ لا أساسَ لها ولا سَندَ، ولا يُمكنُها أن تُعطِيَ إلّا رَحمةً مَجازِيةً، واحترامًا مُصطَنعًا، وعَطفًا حَيوانيَّ المشاعرِ، فضلا عن تدخُّلِ المصالحِ والشهواتِ النَّفسانِيةِ وسَيطرتِها على تلك الرَّحمةِ والاحترامِ فتَنقلِبُ عِندَئذٍ تلك الجنةُ الدُّنيويةُ إلى جَحيمٍ لا يُطاقُ.

    وهكذا فإنَّ نَتيجةً واحدةً للإيمانِ بالحشرِ من بين مئاتِ النتائجِ التي تتعلَّقُ بالحياةِ الاجتماعيَّةِ للإنسانِ، وتَعودُ إليها، والتي لها مئاتُ الأوجُهِ والفوائدِ، إذا ما قِيسَت على تلك الدلائِلِ الأربعةِ المذكورةِ آنفًا، يُدرَك أنَّ وُقوعَ حقيقةِ الحشرِ وتحقُّقَها قَطعيٌّ كقطعيةِ ثبوتِ حقيقةِ الإنسانِ الساميةِ وحاجاتِه الكُليَّةِ؛ بل هي أظهرُ دلالةً من دلالة حاجةِ المعِدةِ إلى الأطعمةِ والأغذيةِ، وأوْضحُ شهادةً منها؛ وأكثرُ دلالةً على تحققها.

    فإذا ما سُلبتِ الإنسانيةُ من هذه الحقيقةِ: الحشرِ، تُصبِحُ ماهيتُها التي هي ساميةٌ ومُهِمةٌ وحَيويَّةٌ بمثابةِ جِيفةٍ نَتِنَةٍ ومأوَى الميكروباتِ والجَراثيمِ.

    فَلْيُلقِ السَّمعَ عُلماءُ الاجتماعِ والسِّياسةِ والأخلاقِ من المعنِيِّينَ بشؤونِ الإنسانِ وأخلاقِه واجتماعِه، ولْيأتوا ويُبيِّنوا بماذا سَيملأونَ هذا الفراغَ؟ وبماذا سَيداوُونَ ويُضمِّدونَ هذه الجروحَ الغائرةَ العمِيقةَ؟!

    النقطة الثانية

    تُبيِّنُ هذه النقطةُ بإيجازٍ شَديدٍ برهانًا واحدًا -من بينِ البراهينِ التي لا حصرَ لها- على حقيقةِ الحشرِ وهو ناشئٌ من خُلاصةِ شهادةِ سائرِ الأركانِ الإيمانيَّةِ، وعلى النَّحوِ الآتي.

    إن جميعَ المعجزاتِ الدَّالةِ على رِسالةِ سيدِنا مُحمدٍ ﷺ مع جميعِ دلائلِ نبوتِه وجميعِ البَراهينِ الدَّالةِ على صِدقِه، تَشهَدُ بمجموعِها معا، على حقيقةِ الحشرِ، وتدلُّ عليها وتُثبِتُها، لأن دعوتَه ﷺ طَوالَ حياتِه المباركةِ قد انصبَّت بعدَ التَّوحيدِ على الحشرِ؛ وأنَّ جميعَ مُعجزاتِ الأنبياءِ عليهمُ السَّلامُ وحُجَجَهُمُ الدالةَ على صدقِهم والتي تَحمِلُ الناس على تَصدِيقِهم، تَشهَدُ على الحقيقةِ نفسِها،

    وهي الحشرُ، وكذا شَهادةُ «الكتبِ المنزَّلةِ» التي رقَّتِ الشهادةَ الصَّادِرةَ من «الرُّسلِ الكرامِ» إلى درجةِ البداهةِ، تَشهدانِ على الحقيقةِ نَفسِها، وعلى النَّحوِ الآتي:

    فالقرآنُ الكريمُ -ذو البيانِ المُعجِزِ- يَشهَد بجميعِ معجزاتِه وحُجَجِهِ وحقائقِه -التي تُثبِتُ أَحقِّيَّـتَهُ- على حدوثِ الحشرِ ويُثبتُه، حيثُ إنَّ ثُلثَ القرآنِ، وأوائِلَ أغلبِ السُّورِ القِصارِ، آياتٌ جليةٌ على الحشرِ، أي إنَّ القرآنَ الكريمَ يُنبِئُ عن الحقيقةِ نفسِها بآلافٍ من آياتِه الكريمةِ صَراحةً أو إشَارةً ويُثبِتُها بوضوحٍ، ويُظهِرُها بجلاءٍ.

    فمثلا: ﴿  اِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ﴾ (التكوير:1) ﴿  يَٓا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّـكُمْ اِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظ۪يمٌ ﴾ (الحج:1) ﴿ اِذَا زُلْزِلَتِ الْاَرْضُ زِلْزَالَهَا ﴾ (الزلزال:1) ﴿  اِذَا السَّمَٓاءُ انْفَطَرَتْ ﴾ (الانفطار:1) ﴿ اِذَا السَّمَٓاءُ انْشَقَّتْ ﴾ (الانشقاق:1) ﴿  عَمَّ يَتَسَٓاءَلُونَ ﴾ (النبأ:1) ﴿  هَلْ أَتٰيكَ حَد۪يثُ الْغَاشِيَةِ ﴾ (الغاشية:1)

    فيُثبِتُ القرآنُ الكريمُ بهذه الآياتِ وأمثالِها في مُفتَتَحِ ما يُقارِبُ أربعينَ سورةً أنَّ الحشرَ لا ريبَ فيهِ، وأنه حَدثٌ في غايةِ الأهميةِ في الكونِ، وأنَّ حُدوثَه ضَرورِيٌّ جدا ولابدَّ منه، ويُبيِّن بالآياتِ الأُخرَى دلائلَ مُختلفةً مُقنِعةً على تلك الحقيقةِ.

    تُرى إنْ كان كتابٌ تُثمِرُ إشارةٌ واحدةٌ لآيةٍ من آياتِه تلك الحقائقَ العِلميةَ والكونِيةَ المعروفةَ بالعلومِ الإسلامِيّةِ، فكيف إذن بشَهادَةِ آلافٍ من آياتِه ودَلائِلِه التي تُبيِّنُ الإيمانَ بالحشر كالشَّمسِ ساطِعةً؟ ألا يكون الجُحودُ بهذا الإيمانِ كإنكارِ الشَّمسِ بل كإنكارِ الكائِناتِ قاطبةً؟! ألا يكونُ ذلك باطلًا ومُحالًا في مئةِ مُحالٍ؟!

    تُرى هل يُمكِن أن يُوصَم آلافُ الوعدِ والوَعِيدِ لكلامِ سُلطانٍ عَزيزٍ عظيمٍ بالكذبِ أو أنَّها بِلا حَقيقةٍ، في حينِ قد يخوضُ الجيشُ غِمارَ الحربِ لئلا تُكذَّب إشارةٌ صادِرةٌ من سُلطانٍ،

    فكيفَ بالسلطانِ المعنَويِّ العظيمِ الذي دامَ حُكمُه وهَيمَنتُه ثلاثةَ عَشرَ قرنًا دونَ انقِطاعٍ، فربَّى ما لا يُعدُّ من الأرواحِ والعُقولِ والقلوبِ والنُّفوسِ، وزكَّاها وأَدارَهاَ على الحقِّ والحقِيقةِ، ألا تَكفِي إشارةٌ واحِدةٌ منه لإثباتِ حَقيقةِ الحشرِ؟ عِلمًا أنّ فيه آلافَ الصَّراحَةِ الواضِحةِ المُثبِتَةِ! أليس الذي لا يُدرِكُ هذه الحقيقةَ الواضِحةَ أحمقَ جاهِلا؟ ألا يكونُ من العَدالةِ المحضَةِ أن تكونَ النارُ مَثواهُ؟

    ثم إنَّ الصُّحُفَ السماويةَ والكتبَ المقدَّسَةَ جميعَها التي حكَمت كلٌّ منها لفترةٍ من العصورِ والأزمِنةِ، قد صَدَّقتْ بآلافٍ من الدَّلائِلِ دعوَى القرآنِ الكريمِ في حقيقةِ الحشر مع أن بيانَها لها مختصَرٌ وموجَزٌ، وذلك بمُقتضَى زَمانِها وعَصرِها، تلك الحَقيقةُ القاطِعةُ التي بيَّنها القرآنُ الكريمُ الذي سادَ حُكمُه على العُصورِ جَميعِها، وهَيمَنَ على المستقبلِ كلِّه، بيَّنها بجلاءٍ وأفاضَ في إيضاحِها.

    يُدرَجُ هنا نصُّ ما جاءَ في آخر رسالة «المناجاة» انسِجامًا مع البحثِ، تلك الحُجَّةُ القاطعةُ المُلخَّصَةُ للحشر، والناشئةُ من شَهادةِ سائرِ الأركانِ الإيمانِيّةِ ولا سيما الإيمان بالرسلِ والكتبِ ودَلالتِها على الإيمانِ باليومِ الآخِرِ، والتي تُبدِّدُ الأوهامَ والشكوكَ، حيثُ جَاءتْ بأسلوبٍ موجَزٍ، وعلى صُورةِ مُناجَاةٍ.

    «يا رَبي الرَّحيمَ.. لقد أدركتُ بتَعليمِ الرَّسولِ ﷺ وفهِمتُ من تَدرِيسِ القرآنِ الحكيمِ، أنَّ الكتبَ المقدَّسَةَ جَميعَها، وفي مُقدِّمتِها القرآنُ الكريمُ، والأنبِياءَ عليهم السلامُ جَميعَهم، وفي مُقدِّمتِهم الرسولُ الأكرمُ ﷺ، يدُلُّونَ ويَشهَدونَ ويُشِيرونَ بالإجماعِ والاتِّفاقِ إلى أنَّ تجلياتِ الأسماءِ الحسنَى -ذاتِ الجلالِ والجمالِ- الظاهِرةِ آثارُها في هذه الدنيا، وفي العوالمِ كافَّةً، سَتدُومُ دواما أسْطعَ وأبهرَ في أبدِ الآبادِ.. وأنَّ تَجلِّياتِها -ذاتَ الرحمةِ- وآلاءَها المشاهَدةَ نماذِجُها في هذا العالم الفاني، سَتُثمِرُ بأبهى نُورٍ وأعظمِ تألُّقٍ، وسَتبقَى دوما في دارِ السَّعادةِ.. وأن أولئكَ المشتاقين الذين يَتمَلَّوْنَها -في هذه الحياةِ الدنيا القَصيرةِ- بِلَهفةٍ وشَوقٍ سَيرافِقونَها بالمحبَّةِ والوُدِّ، ويَصحَبونَها إلى الأبَدِ، ويَظلُّونَ معها خالِدينِ..

    وأن جَمِيعَ الأنبياءِ وَهُم ذَوُو الأرواحِ النَّيرةِ وفي مُقدِّمتِهم الرسولُ الأكرمُ ﷺ، وجميعَ الأولياءِ وَهُم أقطابُ القلوبِ المنوَّرةِ، وجَميعَ الصِّدِّيقينَ وهم مَنابعُ العُقولِ النافِذةِ النيِّرةِ، كلُّ أولئكَ يُؤمِنونَ إيمانًا راسِخًا عَمِيقًا بالحشر ويَشهَدونَ عليه ويُبشِّرونَ البَشرِيَّةَ بالسعادةِ الأبدِيّةِ، ويُنذِرونَ أهلَ الضَّلالةِ بأن مَصيرَهمُ النَّارُ، ويُبشِّرونَ أهل الهِدايةِ بأن عاقِبتَهمُ الجنَّةُ، مُستنِدينَ إلى مئاتِ المعجِزاتِ الباهِرةِ والآياتِ القاطِعةِ، وإلى ما ذَكرتَه أنتَ يا ربي مِرارًا وتَكرارًا في الصُّحفِ السماويةِ والكتبِ المقدّسَةِ كلِّها من آلافِ الوَعدِ والوَعِيدِ؛ ومعتَمدِينَ على عِزّةِ جلالِكَ وسُلطانِ رُبوبيّتِكَ وشُؤونِكَ الجليلةِ، وصِفاتِك المقدّسَةِ كالقُدرَةِ والرَّحمةِ والعِنايةِ والحِكمةِ والجلالِ والجمالِ، وبِناءً على مُشاهَداتِهم وكشفِياتِهم غيرِ المعدُودةِ التي تُنبِئُ عن آثار الآخِرةِ ورَشَحاتِها، وبناءً على إيمانِهم واعتِقادِهم الجازِمِ الذي هو بِدرجَةِ عِلمِ اليقينِ وعَينِ اليقينِ.

    فَيا قديرُ ويا حكيمُ ويا رَحمنُ ويا رحِيمُ ويا صادِقَ الوعدِ الكريم، ويا ذا العِزَّةِ والعَظمةِ والجلالِ ويا قهّارُ ذو الجلال أنتَ مُقدَّسٌ ومُنزَّهٌ، وأنتَ مُتعالٍ عن أن تَصِم بالكذبِ كلَّ أوليائِك و كلَّ وُعُودِكَ وصِفاتِك الجليلةِ وشُؤونِكَ المقدَّسةِ.. فتُكذِّبَهم، وأنْ تَحجُبَ ما يَقتضِيه قطعا سلطانُ رُبوبيَّتِك بعدم استجابتِك لتلك الأدعيةِ الصَّادرةِ من عِبادِك الصَّالحينَ الذين أحبَبتَهم وأحبُّوكَ، وحبَّبوا أنفُسَهم إليكَ بالإيمانِ والتَّصديقِ والطاعَةِ، فأنتَ مُنزَّهٌ ومُتعالٍ مُطلَقٌ عن أن تُصدِّقَ أهلَ الضَّلالةِ والكُفرِ في إنكارِهِمُ الحشرَ، أولئِكَ الذين يتَجاوَزونَ على عَظمَتِك وكِبريائِك بكفرِهم وعِصيانِهم وتَكذيبِهم لكَ ولوُعودِك، والذين يَستَخِفُّونَ بِعزِّةِ جَلالِك وعَظمةِ ألوهيَّتِك ورَأفةِ رُبوبيَّتِك.. فنحن نُقدِّسُ بلا حدٍ ولا نهايةٍ عَدالتَك وجَمالَك المطلَقَيْن ورحمتَك الواسِعةَ ونُنزِّهُها من هذا الظُّلمِ والقُبحِ غيرِ المتَناهِي..

    ونَعتقِدُ ونُؤمِنُ بِكلِّ ما أُوتِينا من قُوَّةٍ بأن الآلافَ من الرُّسلِ والأنبياءِ الكِرام،([33]) وبما لا يُعدُّ ولا يُحصَى من الأصفياءِ والأولياءِ الذينَ همُ المُنادُونَ إليكَ هم شاهِدُونَ بِحقِّ اليقينِ وعَينِ اليقينِ وعِلمِ اليقينِ على خَزائنِ رَحمتِك الأُخرَويَّةِ وكُنوزِ إحساناتِك في عالم البقاءِ، وتَجلياتِ أسمائِك الحُسنَى التي تَنكشِفُ كُلِّيا في دارِ السعادةِ.. ونُؤمِنُ أن هذه الشهادةَ حقٌ وحَقِيقةٌ، وأن إشاراتِهم صِدقٌ وواقِعٌ، وأن بِشاراتِهم صَادِقةٌ وواقِعةٌ.. فهَؤلاءِ جميعا يُؤمِنونَ بأن هذهِ الحقيقةَ الكبرى (أي الحشر) شُعاعٌ عَظيمٌ من اسمِ «الحقِّ» الذي هوَ مَرجِعُ جَميعِ الحقائقِ وشَمسُها، فيُرشِدونَ عِبادَك -بإذنٍ منك- ضمنَ دائرةِ الحقِّ، ويُعلِّمونَهم بعين الحقِيقةِ.

    فيا ربِّي، بحق دُروسِ هؤلاءِ، وبحُرمَةِ إرشاداتِهم، آتِنا إيمانًا كاملا وارزُقنا حُسْنَ الخاتمةِ، لنا ولطُلابِ النورِ، واجعلنا أهلا لشَفاعتِهم.. آمين».

    وهكذا فإنَّ الدلائلَ والحُجَجَ التي تُثبِتُ صِدقَ القرآنِ الكَريمِ بل جَميعِ الكُتبِ السَّماويةِ، وإنَّ المعجِزاتِ والبراهينَ التي تُثبِتُ نُبوَّةَ حَبيبِ الله بلِ الأنبياءِ جَميعِهم.. كما أنّها تُثبِتُ بدَورِها أهمَّ ما يدعونَ إليه، وهو تَحقُّقُ الآخِرةِ وتَدلُّ عليه؛ كذلك فإنَّ أغْلبَ الأدِلّةِ والحُجَجِ الشَّاهِدةِ على وُجودِ واجِبِ الوُجودِ ووَحدَتِه سبحانَه، هي بِدَورِها شاهِدةٌ على دارِ السَّعادةِ وعالم البقاءِ التي هي مَدارُ الرُّبوبِيّةِ والألوهيّةِ وأعظمُ مَظهَرٍ لهما، وهي شاهِدةٌ على وُجودِ تلك الدارِ وانفِتاحِ أبوابِها

    -كما سَيُبيَّنُ في المقاماتِ الآتيةِ- لأن وُجودَه سبحانَه وتعالى، وصِفاتِه الجليلةَ، وأغلبَ أسمائِه الحسنَى، وشُؤونَه الحكِيمةَ، وأوصافَه المقدّسَةَ أمثالَ الرُّبوبِيّةِ والألوهيّةِ والرحمةِ والعِنايةِ والحِكمةِ والعَدالةِ، تَقتضِي جَميعُها الآخِرةَ وتُلازِمُها، بل تَستلزِمُ وجودَ عالمِ البقاءِ بدَرجةِ الوُجوبِ وتَطلُبُ الحشرَ والنُّشورَ للثوابِ والعِقابِ بدَرجةِ الضَّرورَةِ أيضا.

    نعم، ما دامَ الله مَوجودًا، وهو واحِدٌ، أزَليٌّ أبَديٌّ، فلابُدَّ أنَّ مِـحْورَ سلطانِ ألوهيّتِهِ وهو الآخِرةُ، مَوجودٌ أيضا.. وما دامَتِ الرُّبوبِيّةُ المطلقةُ التي هي ذاتُ جَلالٍ وعَظمةٍ وحِكمةٍ ورَأفةٍ تتجلَّى ظاهِرةً واضِحةً في هذه الكائِناتِ ولا سيما في الأحياءِ، فَلابدَّ أنَّ هناك سعادةً أبدِيةً تَنفِي عن الرُّبوبِيّةِ المطلَقةِ أيَّ ظنٍّ بكونها تَتركُ الخلقَ هَمَلا دونَ ثوابٍ، وتُبرِئُ الحِكمةَ من العَبثِ، وتَصونُ الرَّأفةَ من الغَدرِ، أي إن تلك الدّارَ مَوجُودةٌ قطعا ولابدّ من الدُّخولِ فيها.

    وما دامت هذه الأنواعُ من الإنعامِ والإحسانِ واللّطفِ والكرمِ والعِنايةِ والرَّحمةِ مُشاهَدةً وظاهِرةً أمامَ العقولِ التي لم تَنطفِئ، وأمامَ القلوبِ التي لم تمت، وتَدلُّنا على وُجوبِ وجودِ ربٍّ رَحمنٍ رَحيمٍ وراءَ الحِجابِ، فَلابدَّ من حياةٍ باقيةٍ خالدةٍ، لتُنقِذَ الإنعامَ من الاستِهزاءِ أي يأخذَ الإنعامُ مَداهُ، وتَصونَ الإحسانَ من الخِداعِ ليَسْتَوفيَ حقيقتَه، وتُنقِذَ العنايةَ من العبثِ لتَستكمِلَ تَحقُّقَها، وتُنجِيَ الرحمةَ من النقمةِ فَيتِمَّ وُجُودُها، ولتُبرِئَ اللطفَ والكرمَ من الإهانةِ؛ نعم، إن الذي يجعلُ الإحسانَ إحسانًا حقًا، والنِّعمةَ نِعمةً حقا، هو وُجودُ حياةٍ باقيةٍ خالدةٍ في عالم البقاءِ والخلودِ.. نعم، لابدَّ أن يتَحقَّقَ هذا.

    وما دامَ قَلمُ القدرةِ يكتبُ في فصلِ الربيعِ وفي صَحيفةٍ ضَيِّقةٍ صَغيرةٍ، مئةَ ألف كتابٍ، كتابةً مُتداخِلةً بلا خطأ ولا نصَبٍ ولا تَعبٍ، كما هو واضحٌ جليٌّ أمام أعيننا، وأن صاحبَ ذلك القلمِ قد تَعهَّدَ ووَعدَ مئةَ ألفِ مرةٍ: «لأكتُبنَّ كتابا أسهلَ من كتابِ الربيعِ المكتوبِ أمامَكم، ولأكتُبنَّه كتابةً خالدةً، في مكانٍ أوسعَ وأرْحبَ وأجْملَ من هذا المكانِ الضيِّقِ المختلِطِ المتداخِل، فهو كتابٌ لا يَفنَى أبدًا، ولأجْعلنَّكُم تَقرؤُونَه بِحَيرةٍ وإعجابٍ!»؛ وأنه سُبحانَه يَذكُرُ ذلك الكتابَ في جميعِ أوامِرهِ.. فلابدَّ أن أُصولَ ذلك الكتابِ قد كُتِبتْ بلا ريبٍ، وستُكتبُ حواشِيهِ وهَوامِشُه بالحشر والنشورِ، وسَتُدوَّنُ فيه صحائفُ أعمالِ الجميعِ..

    وما دامَت هذه الأرضُ قد أصبَحتْ ذاتَ أهمِّيّةٍ عُظمَى من حيثُ احتِواؤُها على كَثرةٍ من المخلوقاتِ، ومئاتِ الألوفِ من أنواع ذوِي الحياةِ والأرْواحِ المختَلفةِ المتبدِّلةِ، حتى صَارتْ قَلبَ الكونِ وخُلاصَتَه، ومَركزَه وزُبدتَه ونتِيجَتَه وسَببَ خَلقِه؛ فذُكِرَت دائما صِنوًا للسماواتِ كما في: ﴿  رَبُّ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ ﴾ في جميع الأوامرِ السماويّةِ..

    وما دام ابنُ آدمَ يحكُمُ في شتَّى جهاتِ هذه الأرضِ -التي لها هذه الماهيّاتُ والخواصُّ- ويَتصرَّفُ في أغلب مخلوقاتِها مُسخِّرًا أكثرَ الأحياءِ له، جاعلا أكثرَ المصنوعاتِ تحومُ حولَه وَفقَ مَقايِيسِ هَواه، وحسَبَ حاجاتِه الفِطريّةِ، ويُنظِّمُها ويَعرِضُها ويُزيِّنُها، ويُنسِّقُ الأنواعَ العجِيبةَ منها في كلِّ مكانٍ بحيثُ لا يَلفِتُ نظرَ الإنس والجنِّ وحدَهم، بل يَلفِتُ أيضا نظرَ أهلِ السماواتِ والكونِ قاطِبةً، بل حتى نظرَ مالكِ الكونِ، فنالَ الإعجابَ والتقديرَ والاستِحسانَ، وأصبَحتْ له -من هذه الجهةِ- أهَميّةٌ عظِيمةٌ، وقِيمةٌ عاليةٌ، فأظهرَ بما أوتي من علمٍ ومَهارةٍ أنه هو المقصُودُ من حكمةِ خَلقِ الكائناتِ، وأنه هو نَتِيجتُها العظمَى وثمَرتُها النفيسَةُ، ولا غَرْوَ فهو خَليفةُ الأرضِ.. وحيثُ إنه يعرِضُ صنائِعَ الخالقِ البدِيعةِ، ويُنظِّمُها بشكلٍ جَميلٍ جذابٍ في هذه الدنيا، فقد أُجِّلَ عذابُه رَغمَ عِصيانِه وكُفرِه، وسُمِح له بالعيش في الدنيا وأُمهِلَ ليقومَ بهذه المُهمّةِ بنجاحٍ..

    وما دامَ لابنِ آدمَ -الذي له هذه الماهِيةُ والمزايا خِلقةً وطبعًا، وله حَاجَاتٌ لا تُحدُّ مع ضَعفِه الشديدِ، وآلامٌ لا تُعَدُّ مع عَجزِه الكاملِ- ربٌّ قديرٌ، له الحِكمةُ والقدرةُ والرأفةُ المطلَقةُ مما يجعلُ هذه الأرضَ الهائِلةَ العَظِيمةَ مخزَنًا عظيما لأنواعِ المعادِنِ التي يحتاجُها الإنسانُ، ومُستَودَعا لأنواعِ الأطعِمةِ الضرُورِيّةِ له، وحانوتا للأموالِ المختلفةِ التي يَرغَبُها، وأنه سبحانَه يَنظُرُ إليه بعين العِنايةِ والرأفةِ ويُربِّيهِ ويُزوِّدُه بما يُريدُ..

    وما دامَ الربُّ سبحانَه -كما في هذه الحقيقةِ- يُحِبُّ الإنسانَ، ويُحَبِّبُ نفسَه إليه، وهو باقٍ، وله عوالمُ باقيّةٌ، ويُجرِي الأمورَ وَفقَ عَدالتِه، ويَعمَلُ كلَّ شيءٍ وَفقَ حكمتِه، وأن عَظمَةَ سلطانِ هذا الخالقِ الأزلي وسَرمَديّةَ حاكِميّتِه لا تَحصُرُهما هذه الدنيا القصِيرةُ، ولا يكفِيهِما عمُرُ الإنسانِ القَصِيرُ جدا، ولا عمُرُ هذه الأرضِ المؤَقّتةِ الفانيةِ؛

    حيثُ يَظلُّ الإنسانُ دونَ جزاءٍ في هذه الدنيا لما يَرتكِبُه من وقائعِ الظُّلمِ، وما يَقترِفُه من إنكارٍ وكُفرٍ وعِصيانٍ، تجاهَ مولاه الذي أنعمَ عليه وربَّاه برأفةٍ كامِلةٍ وشَفَقةٍ تامّةٍ، مما ينافي نظامَ الكونِ المُنسَّقِ، ويخالِفُ العَدالةَ والموازنةَ الكامِلةَ التي فيها، ويخالِفُ جمالَه وحُسنَه، إذ يَقضِي الظالمُ القاسي حياتَه براحةٍ، بينما المظلومُ البائِسُ يَقضِيها بشَظفٍ من العَيشِ، فلا شكَّ أن ماهِيّةَ تلك العدالةِ المطلَقةِ -التي تُشاهَدُ آثارُها في الكائناتِ- لا تَقبلُ أبدا، ولا تَرضَى مُطلقًا، عدمَ بعثِ الظالمينَ العُتاةِ مع المظلومِين البائِسِين الذين يتَساوَوْنَ معا أمامَ الموتِ.

    وما دام مالِكُ الملكِ قد اختارَ الأرضَ من الكَونِ، واختارَ الإنسانَ من الأرضِ، ووَهبَ له مَكانةً سامِيةً، وأَوْلاهُ الاهتِمامَ والعِنايةَ، واختارَ الأنبياءَ والأولياءَ والأصفياءَ من بينِ الناسِ، وهمُ الذينَ انسجَموا مع المقاصِدِ الربانِيّةِ، وحبَّبُوا أنفسَهم إليهِ بالإيمانِ والتسلِيمِ، وجَعَلهُم أولياءَه المحبوبِينَ المخاطَبِينَ له، وأكرمَهم بالمعجزاتِ والتوفيقِ في الأعمالِ وأدَّبَ أعداءَهم بالصفَعاتِ السماوِيّةِ،

    واصْطفَى من بينِ هؤلاءِ المحبوبِينَ إمامَهم ورَمْزَ فَخرِهِم واعتِزازِهِم، ألا وهو محمدٌ ﷺ؛ فنوَّرَ بنورِه نِصفَ الكُرةِ الأرضيّةِ ذاتِ الأهميةِ، وخُمُسَ البشريّةِ ذوِي الأهميةِ، طَوالَ قرُونٍ عِدّةٍ، حتى كأن الكائناتِ قد خُلِقتْ لأجلِه، لبُروزِ غاياتِها جَميعًا به، وظُهورِها بالدينِ الذي بُعِثَ به، وانجِلائِها بالقرآنِ الذي أُنزِلَ عليه؛

    فبينما يَستَحِقُّ أن يُكافأَ على خِدماتِه الجليلةِ غيرِ المحدودةِ بعمُرٍ مديدٍ غيرِ مَحدودٍ وهو أهـلٌ له، إلّا أنه قضَى عمُرًا قصِيرًا وهو ثَلاثٌ وسِتونَ سنةً في مُجاهَدةٍ ونصَبٍ وتَعبٍ! فهل يُمكِن، وهل يُعقلُ مطلقًا، وهل هناك أيُّ احتمالٍ ألّا يُبعَثَ هو وأمثالُه وأحبّاؤُه معا؟! وألّا يكونَ الآنَ حيًّا بروحِه؟! وأن يفنَى نهائيا ويصيرَ إلى العَدمِ؟ كلا.. ثم كلا.. وحاشاه ألفَ ألفِ مَرّةٍ؛ نعم، إن الكونَ وجميعَ حقائِقِ العالمِ يدعُو إلى بعثِه ويُريدُه ويطلُبُ من ربِّ الكونِ حياتَه.

    ولقد بيَّنتْ رسالةُ «الآيةُ الكبرَى» وهي الشعاعُ السابعُ وأثبتَتْ بثلاثةٍ وثلاثينَ إجماعًا عظيما، كلٌّ منها كالجبلِ الأشمِّ في قُوّةِ حُجّتِه، بأن هذا الكونَ لم يَصدُر إلّا من يدِ واحدٍ أحَدٍ، وليــس مُلكًا إلّا لواحدٍ أحدٍ، فأظهرتِ التوحِيدَ -بتلك البراهينِ والمراتِبِ بداهةً- الذي هو مِـحوَرُ الكمالِ الإلهي وقُطبُه، وَبيَّنتْ أنه بالوَحدةِ والأحَديّةِ يتَحوَّلُ جميعُ الكونِ بمثابةِ جُنودٍ مُستَنفَرِينَ لذلك الواحدِ الأحدِ، ومُوظَّفِين مُسخَّرِينَ له؛ وبمجيءِ الآخرةِ ووجودِها تتَحقّقُ كمالاتُه وتُصانُ من السقوطِ وتَسودُ عدالتُه المطلقةُ، وتَنجو من الظلمِ، وتُنزَّه حِكمتُه العامّةُ وتُبرَّأُ من العبثِ والسفاهَةِ، وتَأخُذُ رَحمتُه الواسِعةُ مدَاهاَ، وتُنقَذُ من التعذيبِ المُشينِ؛ وتتجلى عِزّتُه وقدرَتُه المطلقتانِ وتُنقَذانِ من العجزِ الذليلِ؛ وتتَقدَّسُ كلُّ صِفةٍ من صفاتِه سبحانَه وتتجلَّى منزَّهةً جليلةً.

    فَلابدَّ ولا رَيبَ مطلقًا أن القيامةَ ستقومُ، وأن الحشرَ والنشورَ سَيحدُثُ، وأن أبوابَ دارِ الثوابِ والعِقابِ ستُفتَحُ، بمُقتضَى ما في حقائقِ هذه الفِقْراتِ الثمانِيّةِ المذكورةِ المبتدِئةِ بـ«ما دام» التي هي مسألةٌ دقيقةٌ ونُكتةٌ ذاتُ مغزًى لطيفٍ من بينِ مئاتِ النِّكاتِ الدقيقةِ للإيمانِ بالله؛ وذلك: كي تتَحقّقَ أهميةُ الأرض ومَركزِيّتُها، وأهميةُ الإنسانِيَّةِ ومكانتُها.. ولكي تتقرّرَ عدالةُ ربِّ الأرضِ والإنسانِ وحِكمتُه ورحمتُه وسلطانُه.. ولكي يَنجُوَ الأولياءُ والأحِبَّاءُ الحقِيقيّونَ والمشتاقونَ إلى الربِّ الباقِي من الفناءِ والإعدامِ الأبديِّ.. ولكي يرَى أعظمُهم وأحبُّهم وأعزُّهم ثوابَ عَملِه، ونتائجَ خِدماتِه الجليلةِ التي جَعلتِ الكائناتِ في امتِنانٍ ورضًى دائِمَينِ.. ولكي يتقدَّسَ كمالُ السلطانِ السرمَديِّ من النقصِ والتقصيرِ، وتتَنزَّهَ قدرتُه من العجزِ، وتَبرَأَ حِكمتُه من السفاهةِ، وتتعالَى عدالتُه عن الظلمِ.

    والخلاصة: ما دام الله جلَّ جلالُه مَوجودًا فإن الآخرةَ لا رَيبَ فيها قَطعًا.

    وكما تُثبِتُ الأركانُ الإيمانيّةُ الثلاثةُ -المذكورةُ آنفا- الحشرَ بجميعِ دلائِلها وتَشهَدُ عليه، كذلك يَستلزِمُ الركنانِ الإيمانيانِ

    «وبملائِكتِه، وبالقدَرِ خَيرِه وشرِّهِ من الله تعالى»

    أيضا الحشرَ، ويَشهَدانِ شهادةً قويّةً على العالَم الباقي ويَدلانِ عليهِ على النحوِ الآتي:

    إن جميع الدلائل والمشاهدات والمكالمات الدالة على وجود الملائكة ووظائف عبوديتهم، هي بدورها دلائلُ على وجود عالم الأرواح وعالم الغيب وعالم البقاء وعالم الآخرة ودار السعادة والجنة والنار اللتين ستعمران بالجن والإنس، لأن الملائكة يمكنهم -بإذن إلهي- أن يشاهدوا هذه العوالم ويدخلوها، لذا فالملائكة المقرّبون يخبرون بالاتفاق -كجبريل عليه السلام الذي قابل البشر- بوجود تلك العوالم المذكورة وتجوالهم فيها. فكما أننا نعلم بديهةً وجود قارة أمريكا التي لم نرَها من كلام القادمين منها، كذلك يكون الإيمانُ بديهة بما أخبرت به الملائكة -وهو بقوة مائة تواتر- عن وجود عالم البقاء ودار الآخرة والجنة والنار.. وهكذا نؤمن ونصدّق.

    وكذلك الدلائلُ التي تُثبِتُ «الإيمانَ بالقَدَرِ» -كما جاءَت في رسالةِ القدَرِ «الكلمةِ السادِسةِ والعِشرينَ»- هي بدَورِها دلائلُ على الحشرِ ونَشرِ الصُّحفِ ومُوازَنةِ الأعمالِ عِندَ الميزانِ الأكبرِ، ذلك لأنَّ ما نراهُ أمامَ أعيُنِنا من تَدوِينِ مُقدَّراتِ كلِّ شيءٍ على ألواحِ النظامِ والميزانِ، وكِتابةِ أحْداثِ الحياةِ ووقائِعها لكلِّ ذي حياةٍ في قوَّتِه الحافِظةِ، وفي حُبوبِه ونَواه، وفي سائرِ الألواحِ المثاليّةِ؛ وتَثبِيتِ دَفاتِرِ الأعمالِ لكل ذي رُوحٍ ولا سيما الإنسانِ، وإقرارِها في ألواحٍ محفوظةٍ.. كلُّ هذا القَدْرِ من القَدَرِ المحيطِ، ومن التَّقدِيرِ الحكيمِ، ومن التدوِينِ الدقِيقِ، ومن الكتابةِ الأمِينةِ، لا يمكنُ أن يكونَ إلّا لأجلِ محكمةٍ كبرَى، ولنَيلِ ثوابٍ وعِقابٍ دائِمينِ، وإلّا فلا يَبقَى مغزًى ولا فَائِدةٌ أبدا لذلك التدوِينِ المحِيطِ والكِتابةِ التي تُسجِّلُ وتَحفَظُ أَدقَّ الأمورِ، فيَقعُ إذن ما هو خِلافُ الحِكمةِ والحقِيقةِ؛ كما أنَّ جميعَ معاني كتابِ الكونِ الحقَّةِ التي كُتبَت بقَلمِ القَدَرِ سَوفَ تَفسُدُ وتُمسَخُ هي الأخرَى بعدمِ حُدوثِ الحشرِ! وهذا لا يُمكِنُ أن يكونَ مطلقا، وليس له احتمالٌ أبدا، بل هو محالٌ في محالٍ، كإنكارِ هذا الكون، بل هو هذيانٌ ليس إلّا.

    نَحصُل مما تَقدّم: أن جميعَ دَلائلِ أركانِ الإيمانِ الخمسَةِ هي بِدورِها دلائلُ على الحشرِ ووُجودِه، وعلى النشورِ وحُدوثِه، وعلى وُجودِ الدَّارِ الآخِرةِ وانْفِتاحِ أبوابِها؛

    بل تَستَدْعِيهِ وتَشهَدُ عليه، لذا فإنه من الوِفاقِ الكامِلِ والانسِجامِ التامِّ أن يَبحثَ ثُلثُ القرآنِ الكريمِ المُعجِزِ البَيانِ عن الحشْرِ لما له من الأُسُسِ والبراهِينِ التي لا تتَزعْزَعُ، ويجعَلَه أسَاسًا ورَكيزَةً لجميعِ حَقائقِه التي يرفَعُها على ذلك الحَجرِ الأساسِ.

    (انتَهتِ المقدِّمةُ)

    * * *

    القِطعَة الثانيةُ من الذَّيلِ

    هي المقامُ الأوَّلُ من تِسعةِ مَقاماتٍ لطبقاتِ البراهِين التِّسعِ التي تَدورُ حولَ الحشرِ والتي أشارتْ إليها بإعجازٍ الآيُ الكريمةُ الآتِيةُ:

    فَسُبْحَانَ اللّٰهِ ح۪ينَ تُمْسُونَ وَح۪ينَ تُصْبِحُونَ ❀ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ وَعَشِيًّا وَح۪ينَ تُظْهِرُونَ ❀ يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ وَيُحْيِي الْاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذٰلِكَ تُخْرَجُونَ (الروم:17-19)

    سيُبيَّن -إن شاءَ الله- ما أظْهرَتْهُ هذه الآياتُ الكرِيمةُ من البرهانِ الباهِرِ والحجَّةِ القاطِعةِ للحَشرِ.([34])

    الرمز الرابع من النكتة الخامسة للَّمعة الثلاثين لقد بُيّنَ في الخاصّةِ الثامِنةِ والعِشرينَ من الحياةِ، أنَّ الحياةَ تُثبتُ أركانَ الإيمانِ السِّتةَ، وتتَوجَّهُ نحوَها وتُشِيرُ إلى تحقُّقِها.

    نعم، فما دامتِ «الحياةُ» هي حِكمةُ خلقِ الكائِناتِ، وأهمُّ نتِيجَتِها وجَوهرُها، فلا تَنحصِرُ تلك الحقِيقةُ السامِيةُ في هذه الحياةِ الدنيا الفانِيةِ القصيرةِ الناقِصةِ المؤلمةِ، بل إِنَّ الخواصَّ التسعَ والعِشرينَ للحياةِ وعَظمةَ ماهِيّتِها، وما يُفهَم من غايةِ شَجرتِها ونَتيجَتِها، وثَمَرتِها الجديرةِ بعَظمةِ تلكَ الشجرةِ، ما هي إلّا الحياةُ الأبديّةُ والحياةُ الآخِرةُ والحياةُ الحيّةُ بحَجَرِها وتُرابِها وشَجرِها في دار السعادةِ الخالدَةِ؛

    وإلّا يَلزَمُ أن تَظلَّ شَجرةُ الحياةِ المُجهَّزةُ بهذه الأجهزةِ الغَزيرَةِ المتنوِّعةِ دونَ ثمَرٍ ولا فائِدةٍ ولا حَقيقةٍ تَعودُ إلى ذوي الشُّعورِ ولا سيما الإنسانُ؛ ولظلَّ الإنسانُ تعِسًا وشَقيًّا وذليلا وأحطَّ من العُصفورِ بعشرينَ درجةً، من حيثُ سَعادةُ الحياة، مع أنه أسمَى مخلوقٍ وأكرمُ ذوي الحياةِ وأرفعُ من العصفورِ بعشرينَ درجةً،

    بل العَقلُ الذي هو أثْمنُ نِعمةٍ يُصبِحُ بلاءً ومصيبةً على الإنسانِ بتَفكُّرِهِ في أحزانِ الزمانِ الغابرِ ومَخاوِفِ المستَقبلِ، فيُعذِّبُ قلبَه دائما مُعكِّرا صَفوَ لذّةٍ واحِدةٍ بتسعةِ آلامٍ! ولاشكَّ أن هذا باطلٌ بمئةِ درَجةٍ. فهذه الحياةُ الدنيا إذن تُثبِتُ ركنَ «الإيمانِ بالآخرةِ» إثباتًا قاطِعًا، وتُظهِرُ لنا في كلِّ ربيعٍ أكثرَ من ثلاثِمئةِ ألفِ نَمُوذَجٍ من نَماذجِ الحشرِ.

    فيا تُرى هل يُمكِنُ لربٍّ قديرٍ، يُهيِّئُ ما يَلزَمُ حياتَك من الحاجاتِ المتَعلِّقةِ بها جَميعًا ويُوَفّرُ لك أجهزتَها كلَّها سواءً في جِسمِك أو في حَديقتِك أو في بَلدِك، ويُرسِلُه في وقتِه المناسِبِ بحِكمةٍ وعِنايةٍ ورَحمةٍ، حتى إنه يَعلمُ رَغبةَ مَعِدَتِك فيما يَكفُلُ لك العَيشَ والبقاءَ، ويَسمعُ ما تَهتِفُ به من الدعاءِ الخاصِّ الجزئيِّ للرزقِ مُبدِيا قَبولَه لذلك الدعاءِ بما بَثَّ من الأطعِمةِ اللذِيذَةِ غيرِ المحدُودةِ ليُطَمئِنَ تلك المَعِدةَ.. فهل يُمكِنُ لهذا المُدبِّرِ القَديرِ أن لا يَعرِفَك؟ ولا يَراكَ؟ ولا يُهيِّئَ الأسبابَ الضروريّةَ لأعظمِ غايةٍ للإنسانِ وهي الحياةُ الأبديّةُ؟ ولا يَستَجِيبَ لأعظمِ دعاءٍ وأَهمِّهِ وأَعمِّه، وهو دعاءُ البقاءِ والخلودِ؟ ولا يَقبَلَه بإنشاءِ الحياةِ الآخِرةِ وإيجادِ الجنّةِ؟ ولا يَسْمعَ دعاءَ هذا الإنسانِ وهو أسمَى مخلوقٍ في الكونِ بل هو سلطانُ الأرضِ ونتِيجَتُها.. ذلك الدعاءَ العامَّ القوِيَّ الصادرَ من الأعماقِ، والذي يَهزُّ العرشَ والفرْشَ! فهل يمكنُ أن لا يَهتمَّ به اهتِمامَه بدعاءِ المَعِدَةِ الصغيرةِ ولا يُرضِيَ هذا الإنسانَ؟ ويُعرِّضَ حِكمَتَه الكامِلةَ ورحْمَتَه المطلَقةَ للإنكارِ؟ كَلَّا.. ثم كَلَّا ألفَ ألفِ مَرةٍ كَلَّا.

    وهل يُعقلُ أن يَسمَعَ أخْفتَ صوتٍ لأدنَى جُزئِيٍّ من الحياةِ فيَستمِعَ لشَكواه ويُسعِفَه، ويَحلُمَ عليهِ ويُربِّيهِ بعِنايةٍ كامِلةٍ ورِعايةٍ تامّةٍ وباهتمامٍ بالغ مُسخِّرا له أكبَر مخلوقاتِه في الكونِ، ثم لا يَسمَعُ صوتًا كهَزيمِ السماءِ لأعظمِ حياةٍ وأسماها وألطفِها وأدوَمِها؟ وهل يُعقَلُ ألّا يَهتمَّ بدُعائِه المهمِّ وهو دعاءُ البقاءِ، وألّا يَنظرَ إلى تَضرُّعِه ورَجائِه وتَوسُّلِه؟ ويكونَ كمن يُجهِّزُ بعنايةٍ كاملةٍ جُندِيا واحدا بالعتادِ، ولا يَرعَى الجيشَ الجرارَ المُواليَ له!! وكمن يرَى الذرّةَ ولا يرى الشمسَ! أو كمن يسمعُ طنين الذبابِ ولا يسمعُ رعودَ السماء! حاشَ لله مئةَ ألفِ مرةٍ حاشَ لله.

    وهل يَقبلُ العقلُ -بوجهٍ من الأوجهِ- أن القديرَ الحكيمَ ذا الرحمةِ الواسعةِ وذا المحبّةِ الفائِقةِ وذا الرأفةِ الشامِلةِ والذي يُحِبُّ صنعتَه كثيرا، ويُحبِّبُ نفسَه بها إلى مخلوقاتِه وهو أشدُّ حبا لمن يُحبونَه... فهل يُعقَل أن يُفنِيَ حياةَ مَن هو أكثرُ حبًا له، وهو المحبوبُ، وأهلٌ للحُبِّ، وعابِدٌ لخالقِه فِطرةً؟ ويُفنِيَ كذلك لُبَّ الحياةِ وجَوهرَها وهو الروحُ، بالموتِ الأبديِّ والإعدامِ النهائِيِّ، ويُولِّدَ جَفوةً بينَه وبين مُحبِّيهِ ويُؤلِمَهم أشدَّ الإيلامِ، فيَجعلَ سرَّ رحمتِه ونورَ محبتِه مُعرَّضا للإنكارِ!

    حاشَ لله ألفَ مرةٍ حاشَ لله.. فالجمالُ المطلقُ الذي زيَّنَ بتَجلِّيهِ هذا الكونَ وجمَّلَه، والرَّحمةُ المطلَقةُ التي أبهجَتِ المخلوقاتِ قاطبةً وزيَّنَتها، لاشكَّ أنهما مُنزَّهَتانِ ومُقدَّستانِ بلا نهايةٍ ولا حدٍ عن هذه القَساوةِ وعن هذا القبحِ المطلقِ والظلمِ المطلقِ.

    النتيجة: ما دامت في الدنيا حَياةٌ، فلابدَّ أن الذينَ يفهمونَ سرَّ الحياةِ من البشرِ، ولا يُسِيئُونَ استِعمالَ حياتِهم، يكونونَ أهلا لحياةٍ باقيةٍ، في دارٍ باقيةٍ وفي جنةٍ باقيةٍ.. آمنّا.

    ثم، إن تَلألؤَ الموادِّ اللمَّاعةِ على سطحِ الأرضِ، وتَلمُّعَ الفُقاعاتِ والحَبابِ والزَّبَدِ على سَطحِ البحرِ، ثم انطفاءَ ذلك التلألُؤِ والبريقِ بزوالِ الفُقاعاتِ ولمعانِ التي تَعقُبُها كأنها مرايا لشُميساتٍ خياليةٍ، يُظهِرُ لنا بداهةً أن تلك اللمعاتِ ما هي إلّا تجلِّي انعكاسِ شمسٍ واحِدةٍ عاليةٍ؛ وتَذكُرُ بمُختلَفِ الألسنةِ وجودَ الشمسِ، وتُشِيرُ إليها بأصابعَ من نورٍ..

    وكذلك الأمرُ في تَلألُؤِ ذوي الحياةِ على سطحِ الأرضِ وفي البحرِ، بالقدرةِ الإلهيّةِ وبتجلِّي اسم «المحيِي» للحيِّ القيومِ جلَّ جلالُه، واختِفائِها وراءَ سِتارِ الغيبِ لفَسحِ المجال للذي يَخلُفُها -بعد أن رَدَّدتْ «يا حي»- ما هي إلّا شهاداتٌ وإشاراتٌ للحياة السرمديّةِ ولوُجوبِ وُجودِ الحيِّ القيُّومِ سبحانَه وتعالى. وكذا، فإن جميعَ الدلائلِ التي تَشهَد على العلمِ الإلهيِّ الذي تُشاهَدُ آثارُه من تنظِيمِ الموجوداتِ، وجميعَ البراهِين التي تُثبِتُ القدرةَ المتصرِّفةَ في الكونِ، وجَميعَ الحُجَجِ التي تُثبِتُ الإرادةَ والمشِيئةَ المهيمِنةَ على إدارةِ الكونِ وتَنظِيمِه، وجميعَ العلاماتِ والمعجزاتِ التي تُثبِت الرسالاتِ التي هي مدارُ الكلامِ الرباني والوَحيِ الإلهيِّ.. جَمِيعُ هذه الدلائِلِ التي تَشهَدُ وتَدلُّ على الصفاتِ الإلهيةِ السَّبعِ الجليلةِ، تَدلُّ وتَشهَد أيضا بالاتِّفاقِ على حياةِ «الحيِّ القيُّومِ» سبحانَه؛

    لأنه لو وُجِدتِ الرؤيةُ في شيءٍ فلابدَّ أن له حياةً أيضا، ولو كان له سَمعٌ فذلك علامةُ الحياةِ، ولو وُجِدَ الكلامُ فهو إشارةٌ إلى وُجودِ الحياةِ، ولو كان هناكَ الاختِيارُ والإرَادةُ فتلكَ مَظاهِرُ الحياةِ..

    وهكذا فإن جميعَ دلائِلِ الصفاتِ الجليلةِ التي تُشاهَدُ آثارُها ويُعلَمُ بَداهةً وُجودُها وتَحقُّقُها؛ أمثالَ القدرةِ المطلقةِ، والإرَادةِ الشامِلةِ، والعِلمِ المحيطِ، تَدلُّ على حياةِ «الحيِّ القيُّومِ» ووُجوبِ وُجودِه، وتَشهَدُ على حَياتِه السرمَديّةِ التي نَوَّرتْ بِشُعاعٍ منها جَمِيعَ الكونِ وأحيَتْ بتَجلٍ منها الدارَ الآخِرةَ كلَّها بذرَّاتِها معًا.

    والحياةُ كذلك تَنظُرُ وتَدلُّ على الرُّكنِ الإيمانِيِّ «الإيمانُ بالملائِكةِ» وتُثبِتُه رَمزًا. إذْ ما دامَتِ الحَياةُ هي أهمَّ نَتيجَةٍ للكونِ، وأنَّ ذَوِي الحياةِ لنفاسَتهِم هم أَكثرُ انتِشارًا وتَكاثرًا، وَهُمُ الذينَ يتَتابَعُون إلى دارِ ضِيافَةِ الأرضِ قافِلةً إثرَ قافِلةٍ، فتَعْمُرُ بهِم وتَبتهِجُ، وما دامَتِ الكُرةُ الأرضِيَّةُ هي مَحطَّ هذا السَّيلِ من ذَوِي الحياةِ، فتُملأُ وتُخلَى بحِكمةِ التَّجدِيدِ والتكاثُرِ باستِمرارٍ، ويُخلَقُ في أخسِّ الأشياءِ والعُفوناتِ ذَوُو حياةٍ بغَزارةٍ، حتى أصْبحَتِ الكُرةُ الأرضِيَّةُ مَعرِضًا عامًّا للأحْياءِ..

    ومَا دامَ يُخلَقُ بكَثرةٍ هائِلةٍ على الأرضِ أصفَى خُلاصةٍ لتَرَشُّحِ الحياةِ وهو الشُّعورُ والعَقلُ وجَوهَرُها اللطِيفُ الثابِتُ وهو الرُّوحُ، فكأنَّ الأرضَ تَحياَ وتتَجمَّلُ بالحياةِ والعَقلِ والشُّعورِ والأروَاحِ.. فلا يُمكِنُ أن تكونَ الأجرامُ السَّماوِيَّةُ التي هي أكثرُ لَطافَةً وأكثرُ نورًا وأعظمُ أهَميةً من الأرضِ جامِدةً بلا حَياةٍ وبلا شُعورٍ؛

    فلابد إذن من سكنة يَعمُرُونَ السماواتِ ويُبهِجُونَ الشموسَ والنجومَ، ويَهبُون لها الحَيوِيَّةَ، ويُمثِّلونَ نتِيجةَ خلقِ السماواتِ وثَمَرَتَها، ويتَشرَّفونَ بالخطاباتِ السُّبحانِيَّةِ، وهم ذَوُو شُعورٍ وذَوُو حياةٍ من سُكَّانِ السمواتِ وأهالِيها المتلائمِين معها حيثُ يوجَدونَ هناك بِسرِّ الحياةِ؛ ألاَ وهُمُ الملائكةُ.

    وكذلك يَنظرُ سرُّ الحياةِ وماهِيَّتُها ويتَوجَّهُ إلى «الإيمانِ بالرُّسلِ» ويُثبِتُه رَمزًا. نعم، مَا دامَ الكَونُ قد خُلِقَ لأجل الحياةِ، وأنَّ الحياةَ هي أعظمُ تجلٍّ وأكملُ نَقشٍ وأجملُ صَنعةٍ للحيِّ القيومِ جـلَّ جلالُه، وما دَامتْ حياتُه السرمَديةُ الخالدةُ تُظهِرُ وتَكشِفُ عن نفسِها بإرسالِ الرسلِ وإنزالِ الكُتبِ، إذ لو لم تَكُن هناكَ «رُسُلٌ» ولا «كُتبٌ» لما عُرِفتْ تلكَ الحياةُ الأزليَّةُ، فكما أنَّ تَكلُّمَ الفَردِ يُبيّن حيوِيَّتَه وحياتَه كذلك الأنبياءُ والرُّسُلُ علَيهمُ السلامُ والكتُبُ المنزَلةُ عليهم، يُبيِّنونَ ويَدُلُّونَ على ذلك المتكلِّمِ الحيِّ الذي يَأمُرُ ويَنهَى بكلماتِه وخِطاباتِه من وَراءِ الغيبِ المحجوبِ وَراءَ سِتارِ الكونِ؛

    فَلابدَّ أنَّ الحياةَ التي في الكونِ كما تَدلُّ دَلالةً قاطِعةً على «الحيِّ الأزلِيِّ» سبحانَه وتعالَى وعلى وُجوبِ وُجودِه، كذلك تَدلُّ على أركانِ الإيمانِ مثل «إرسالِ الرُّسلِ» و«إنزالِ الكتُبِ»، تلك الأركانُ التي هي شُعاعَاتُ الحياةِ الأزِليَّةِ وتَجلِّياتِها وتَظاهُراتِها، وتُثبِتُهما رَمزًا، ولا سِيَّما «الرِّسالةُ المحمَّدِيَّةُ» و«الوَحيُ القُرآنيُّ»، إذ يَصحُّ القولُ: أنهما ثابِتانِ قاطِعانِ كقَطعِيَّةِ ثبوتِ الحياةِ، حيثُ إنَّهما بمثابةِ رُوحِ الحياةِ وعَقلِها.

    نعم، كما أنَّ الحياةَ هي خُلاصَةٌ مُترشِّحةٌ من هذا الكونِ، والشعورَ والحسَّ مُترشِّحانِ من الحياةِ، فهما خُلاصَتُها، والعقلَ مترشِّحٌ من الشُعورِ والحسِّ، فهو خُلاصةُ الشعُورِ، والرُّوحَ هي الجَوهرُ الخالِصُ الصَّافِي للحياةِ، فهي ذاتُها الثابِتةُ المستقِلَّةُ؛ كذلك الحياةُ المحمَّديّةُ -المادِّيةُ والمعنَوِيَّةُ- مُترشِّحةٌ من الحياةِ ومن رُوحِ الكَونِ، فهي خُلاصَةُ خلاصَتِها، والرِّسالةُ المحمَّديّةُ مُترشِّحةٌ من حِسِّ الكَونِ وشُعورِهِ وعَقلِه، فهي أصفَى خُلاصتِه، بل إنَّ حياةَ مُحمَّدٍ ﷺ -المادِّيةَ والمعنوِيَّةَ- بشَهادةِ آثارِها حياةٌ لحياةِ الكَونِ، والرِّسالةَ المحمَّدِيّةَ شُعورٌ لشُعورِ الكونِ ونورٌ لهُ، والوحيَ القرآني بشَهادةِ حَقائِقهِ الحيَوِيَّةِ رُوحٌ لحياةِ الكونِ وعَقلٌ لشُعورِه..

    أجل.. أجل.. أجل. فإذا ما فارقَ نورُ الرِّسالةِ المحمَّدِيّةِ الكونَ وغادَره، ماتَ الكونُ وتُوُفِّيَتِ الكائِناتُ، وإذا ما غابَ القرآنُ وفارقَ الكونَ، جُنَّ جنونُه وفَقدَتِ الكرةُ الأرضيةُ صَوابَها، وزُلزِلَ عقلُها، وظَلَّت بلا شُعورٍ، واصْطدمَت بإحدَى سياراتِ الفضاءِ، وقَامتِ القِيامةُ.

    والحياةُ كذلك، تَنظرُ إلى الرُّكنِ الإيمانيِّ «القَدَر» وتَدلُّ عليهِ وتُثبِـتُه رَمزًا؛ إذْ ما دامَتِ الحياةُ ضياءً لِعالمِ الشهادةِ وقدِ استَولَت عليه وأحاطَت به، وهي نتيجةُ الوجودِ وغايَتُه، وأوْسَعُ مرآةٍ لتجلياتِ خالقِ الكَونِ، وأتمُّ فِهرِسٍ ونَمُوذَجٍ للفعَّاليّةِ الربَّانِيَّةِ، حتى كأنَّها بمَثابةِ نوعٍ من خُطَّتِها ومَنهجِها -إذا جازَ التشبيهُ- فلابدَّ أنَّ سِرَّ الحياةِ يقتَضي أن يكونَ عالمُ الغيبِ أيضا -وهو الماضي والمستَقبلِ، أي المخلوقاتُ الماضِيةُ والمقبِلةُ- في نظامٍ وانتِظامٍ وأنْ يكونَ معلوما ومَشهودًا ومُتعيِّنا ومُتهيِّـئا لامتِثالِ الأوامرِ التكوِينيَّةِ، أي كأنه في حياةٍ معنويةٍ؛

    مَثَلُها كمثلِ تلك البِذرةِ الأصليّةِ للشجرةِ وأُصولِها، والنَّوى فى أثمارِها التي في مُنتَهاها، التي تتَميَّـزُ بمَزاياَ نوعٍ من الحياةِ كالشجَرةِ نفسِها، بل قد تَحمِلُ تلك البُذورُ قَوانينَ حياتيّةٍ أدقَّ من قوانينِ حياةِ الشجَرةِ. فكما أنَّ البُذورَ والأصولَ التي خلَّفها الخريفُ الماضي، وسيَخلُفها هذا الربيعُ تحمِلُ نورَ الحياةِ وتسيرُ وَفقَ قوانينَ حياتيّةٍ، مثلَ ما يحمِلُه هذا الربيعُ من حياةٍ، كذلك شَجرةُ الكائناتِ،

    وكلُّ غُصنٍ منها وكلُّ فرعٍ، له ماضيهِ ومُستقبَلُه، وله سِلسلةٌ مؤلفةٌ من الأطوارِ والأوضاعِ المقبلةِ والماضِيَةِ، ولكلِّ نوعٍ ولكلِّ جُزءٍ منه وُجودٌ متعدِّدٌ بأطوارٍ مختلفةٍ في العلمِ الإلهيِّ، مُشكِّلًا بذلك سلسلةَ وجودٍ علميٍّ، والوُجودُ العلميُّ هذا، مَظهَرٌ لتَجلٍّ مَعنوِيٍّ للحياةِ العامّةِ كمَظهرِيّةِ الوجودِ الخارجيِّ لتلكَ الحياةِ، حيثُ تُؤخَذُ المُقدَّراتُ الحياتيّةُ من تلك الألواحِ القَدَرِيَّةِ الحيَّةِ ذاتِ المغزَى العظيمِ.

    نعم، إنَّ امْتلاءَ عالمِ الأرواحِ -وهو نوعٌ من عالمِ الغيبِ- بالأرواحِ التي هيَ عينُ الحياةِ، ومادَّتُها، وجَوهرُها وذَواتُها، يَستلزِمُ أن يكونَ الماضِي والمستقبلُ -وهما نوع آخرُ من عالمِ الغَيبِ وقِسمٌ ثانٍ منه- مُتجلِّيةً فيهما الحياةُ.. وكذا فإنَّ الانتِظامَ التامَّ والتناسُقَ الكامِلَ في الوجودِ العِلميِّ لأوضاعٍ ذاتِ مَعانٍ لطِيفةٍ لشيءٍ مَا ونتائِجَه وأطوارَه الحيوِيّةَ ليُبيِّنُ أنَّ له أهليّةً لنوعٍ من الحياةِ المعنوِيّةِ.

    نعم، إنَّ مثلَ هذا التَّجلِّي، تجلِّي الحياةِ الذِي هو ضِياءُ شَمسِ الحياةِ الأزَليّةِ لن يَنحصِرَ في عالَمِ الشهادَةِ هذا فقط، ولا في هذا الزَّمانِ الحاضِرِ، ولا في هذا الوُجودِ الخارِجيِّ، بل لابدَّ أنَّ كلَّ عالَمٍ من العوالمِ مَظهَرٌ من مَظاهِرِ تجلِّي ذلك الضِّياءِ حسبَ قابليَّتِه؛ فالكونُ إذن بجَميعِ عوالمِه، حيٌّ ومُشِعٌّ مضيءٌ بذلك التجلِّي، وإلّا لأصبحَ كلٌّ من العوالِمِ -كما تراهُ عينُ الضلالةِ- جنازةً هائلةً مخيفةً تحتَ هذه الحياةِ المؤقَّتةِ الظاهرةِ، وعالمًَا خربًا مظلمًا.

    وهكذا يُفهَم وجهٌ من أوجهِ الإيمانِ بالقَضاءِ والقدَرِ من سرِّ الحياةِ ويَثبُتُ به ويتَّضِحُ، أي كما تَظهَرُ حيويّةُ عالمِ الشهادةِ والموجُوداتِ الحاضرةِ بانتِظامِها وبنتائِجِها، كذلك المخلوقاتُ الماضيةُ والآتيةُ التي تُعدّ من عالمِ الغيبِ لها وجودٌ مَعنويٌّ، ذو حياةٍ معنًى، ولها ثبوتٌ عِلميٌّ ذو روحٍ بحَيثُ يَظهرُ باسمِ المقدَّراتِ أثرُ تلك الحياةِ المعنويّةِ بوساطةِ لوحِ القضاءِ والقَدَرِ.

    القِطعةُ الثالِثةُ من الذَّيلِ

    سؤالٌ يرِدُ بمناسبةِ مبحثِ الحشرِ:

    إنَّ ما وَردَ في القرآنِ الكريمِ مِرارًا ﴿  اِنْ كَانَتْ اِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً ﴾ (يس:29)، ﴿ وَمَٓا اَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ ﴾ (النحل:77) يُبيِّنُ لنا أنَّ الحشرَ الأعظمَ سيَظهَرُ فجأةً إلى الوُجودِ، في آنٍ واحدٍ بلا زَمانٍ؛ ولكنَّ العُقولَ الضيِّقةَ تَطلبُ أمثلةً واقعيّةً مشهودةً كي تَقبلَ وتُذعِنَ لهذا الحدَثِ الخارقِ جدا والمسألةِ التي لا مَثيلَ لها.

    الجواب: إنَّ في الحشرِ ثلاثَ مسائِلَ هي: عَودةُ الأرواحِ إلى الأجسادِ، وإحياءُ الأجسادِ، وإنشاءُ الأجْسادِ وبِناؤُها.

    المسألة الأولى: وهي مَجيءُ الأرواحِ وعَودتُها إلى أجسادِها ومِثالُه هو: اجتماعُ الجنودِ المنتشِرينَ في فَترةِ الاستِراحةِ والمتفرِّقينَ في شتَّى الجهاتِ على الصوتِ المدوِّي للبوقِ العسكريِّ. نعم، إنَّ الصُّورَ الذي هو بُوقُ إسرافيلَ عليه السلام، ليسَ قاصِرًا عن البوقِ العسكريِّ، كما أنَّ طاعةَ الأرواحِ التي هي في جِهةِ الأبدِ وعالمِ الذَّراتِ والتي أجَابتْ بـ ﴿ قَالُوا بَلٰى ﴾ (الأعراف:172) عندما سَمِعتْ نداءَ ﴿  اَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ﴾ (الأعراف:172) المُقبِلَ من أعماقِ الأزلِ، ونِظامَها يفوقُ بلا شكٍّ أضعافَ أضعافِ ما عندَ أفرادِ الجيشِ المنظَّمِ؛ وقد أثبَتتْ «الكلمةُ الثلاثونَ» ببراهينَ دامِغةٍ أنَّ الأرواحَ ليستْ وَحدَها جيشًا سُبحانِيًّا بل جَميعُ الذَّراتِ أيضا جُنودُه المتأهِّبونَ للنفيرِ العامِّ.

    المسألة الثانية: وهي إحياءُ الأجسادِ، ومثالُه هو: مثلما يُمكِنُ إنارةُ مئاتِ الآلافِ من المصَابيحِ الكهربائيّةِ ليلةَ مهرجانِ مدِينةٍ عَظيمةٍ، من مَركزٍ واحدٍ في لحظةٍ واحِدةٍ، كأنَّها بلا زمانٍ، كذلك يُمكِنُ إنارةُ مئاتِ الملايينِ من المصابيحِ على سَطحِ الأرضِ من مَركزٍ واحدٍ؛ فما دامَتِ الكهرباءُ وهي مخلوقةٌ من مخلوقاتِ الله سبحانَه وتعالى وخادِمةُ إضَاءةٍ في دارِ ضيافتِهِ، لها هذه الخصائِصُ والقُدرةُ على القيامِ بأعمالِها حسَبَ ما تتلقَّاهُ من تعليماتٍ وتبلِيغاتٍ ونظامٍ من خالقِها، فلابدَّ أنَّ الحشرَ الأعْظمَ سَيحدُثُ كلمحِ البصرِ ضِمنَ قَوانينَ مُنظَّمةٍ للحِكمةِ الإلهيّةِ التي يُمثِّلُها آلافُ الخدمِ المُنوَّرِين كالكهرباءِ.

    المسألةُ الثالِثةُ:  وهي إنشاءُ الأجسادِ فَورًا، ومِثالُه هو: إنشاءُ جميعِ الأوراقِ لعُمومِ الأشجارِ الَّتِي يزيدُ عَددُها ألفَ مَرّةٍ على مجموعِ البشريّةِ، دفعةً واحِدةً في غضونِ بضعةِ أيامٍ في الربيعِ، وبشكلٍ كامِلٍ، وبالهيئةِ نفسِها التي كانت عليها في الرَّبيعِ السابِقِ.. وكذلك إيجادُ جميعِ أزهارِ الأشْجارِ وثِمارِها وأوراقِها بسُرعةٍ خاطِفةٍ، كما كانت في الربيعِ الماضِي.. وكذلك تَنبُّه البُذيراتِ والنُّوَى والبذورِ وهي لا تحصَى ولا تُعدُّ والتي هي مَنشأُ ذلك الربيع في آنٍ واحدٍ معا وانكِشافُها وإِحياؤُها.. وكذلك نُشورُ الجثَثِ المنتصِبةِ والهياكِلِ العَظْمِيّةِ للأشجارِ، وامتِثالِها فورًا لأمرِ «البعثِ بعدَ الموتِ».. وكذلكَ إحياءُ أفرادِ أنواعِ الحيواناتِ الدَّقيقَةِ وطوائِفها التي لا حَصْرَ لها بمنتهَى الدِّقةِ والإتقانِ.. وكذلك حَشرُ أممِ الحشراتِ ولا سيما الذُّبابُ -الماثلُ أمامَ أعينِنا والملاطِفُ لوجوهِنا والذي يُذكِّرُنا بالوضوءِ والنظَافةِ لقيامِه بتَنظِيفِ يدَيهِ وعُيونِه وجَناحَيهِ باستِمرارٍ- الذي يفوقُ عَددُ ما يُنشرُ منه في سنةٍ واحدةٍ عَددَ بنِي آدمَ جميعِهم من لَدُنْ آدمَ عليه السلام، والذي يُحشَرُ في كلِّ ربيعٍ مع سائِر الحشرات الأخرى ويُحياَ في بضعةِ أيام.. فهذه النماذجُ لا تُعطِيناَ مثالا واحدا بل آلافَ الأمثلةِ على إنشاءِ الأجسادِ البشريّةِ فورا يومَ القيامةِ.

    نعم، لما كانتِ الدنيا هي دارُ «الحِكمَةِ» والدارُ الآخِرةُ هي دارُ «القُدرَةِ» فإنَّ إيجادَ الأشياءِ في الدنيا صارَ بشيءٍ من التّدرِيجِ ومعَ الزمنِ، بمُقتضَى الحكمةِ الرَّبانِيّةِ وبموجِبِ كثيرٍ من الأسماءِ الحسنَى أمثالِ «الحكيمِ، المُرتِّبِ، المدبِّرِ، المربِّي». أمّا في الآخرةِ فإنَّ «القُدرةَ» و«الرَّحمةَ» تتظاهَرانِ أكثرَ من «الحِكمةِ» فلا حَاجةَ إلى المادّةِ والمُدّةِ والزَّمنِ ولا إلى الانتِظارِ، فالأشياءُ تُنشأُ هناكَ نشأةً آنيّةً؛ وما يُشِيرُ إليهِ القرآنُ الكريمُ بـ

    وَمَٓا اَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ اَوْ هُوَ أَقْرَبُ (النحل:77)،

    هو أنَّ ما يَنشأُ هنا من الأشياءِ في يومٍ واحِدٍ وفي سنةٍ واحدةٍ ينشأُ في لَمْحةٍ واحدةٍ كلمحِ البصرِ في الآخِرةِ.

    وإذا كنتَ تَرغبُ أنْ تفهمَ أنَّ مجيءَ الحشرِ أمرٌ قطعيٌّ كقطعِيّةِ مجيءِ الربيعِ المقبلِ وحَتمِيّتِهِ، فانْعِمِ النظرَ في «الكلمةِ العاشِرةِ» و«الكلمةِ التاسِعةِ والعشرينَ»، وإن لم تُصدِّق به كمَجيءِ هذا الربيعِ، فلكَ أن تُحاسِبَنِي حِسابًا عَسيرًا.

    المسألة الرابعة: وهي موتُ الدنيا وقيامُ الساعةِ، ومِثالُه: لو اصْطدَمَ كوكبٌ سيارٌ أو مذنَّبٌ بأمرٍ ربانيٍّ بكرتِنا الأرضيّةِ التي هي دارُ ضيافتِنا، لدَمَّرَ مأوانا ومَسكَنَنا -أي الأرضَ- كما يُدمَّرُ في دقيقةٍ واحدةٍ قصرٌ بُنِيَ في عشرِ سنواتٍ.

    * * *

    القِطعةُ الرابعةُ من الذَّيلِ

    قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِىَ رَم۪يمٌ ❀ قُلْ يُحْي۪يهَا الَّذ۪ٓي اَنْشَاَهَٓا اَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَل۪يمٌ

    (يس:78-79)

    لقد جاءَ في المثالِ الثالثِ في الحقيقةِ التاسِعةِ للكَلمةِ العاشرَةِ أنَّه: إذا قالَ لك أحدُهم: إنَّ شخصًا عظيمًا في الوقتِ الذي يُنشِئُ أمامَ أنظارِنا جيشًا ضخمًا في يومٍ واحدٍ يُمكِنُه أن يجمعَ فِرقةً كامِلةً من الجنودِ المتفرِّقينَ للاستِراحةِ بنفخٍ من بوقٍ، ويَجعلَهُم ينضَوُون تحتَ نِظامِ الفِرقةِ، وقلتَ: لا، لا أصدِّقُ ذلكَ، ألا يكونُ جوابُك وإنكارُك جنونًا وبلاهةً؟

    كذلك، فإن الذي أوجدَ أجسادَ الحيواناتِ كافّةً، وذوِي الحياةِ كافّةً من العَدمِ، تلكَ الأجسادَ التي هي كالفِرقِ العسكَريّةِ للكائناتِ الشبِيهةِ بالجيشِ الضَّخمِ ونظَّمَ ذرَّاتِها ولطائِفَها ووضَعَها في موضِعِها اللائقِ، بنظامٍ كاملٍ وميزانٍ حَكيمٍ بأمرِ «كنْ فيكونُ»، وهو الذي يَخلقُ في كلِّ قَرنٍ بل في كلِّ ربيعٍ، مئاتِ الآلافِ من أنواعِ ذوِي الحياةِ وطوائفِها الشَّبيهَةِ بالجيشِ.. فهل يمكنُ أن يُسألَ هذا القَديرُ وهذا العلِيمُ كيفَ سيَجمعُ بصَيحةٍ واحِدةٍ من بوقِ إسرافيلَ جميعَ الذراتِ الأساسيّةِ والأجزاءِ الأصليّةِ من الجنودِ المتعارِفينَ تحتَ لواءِ فِرْقةِ الجسَدِ ونظامِه؟! وهل يمكن أن يُستَبعَدَ هذا منه؟ أوَ ليسَ استِبعادُه بلاهةً وجنونًا؟

    وكذلكَ فإنَّ القرآنَ الكريمَ قد يذكرُ من أفعالِ الله الدنيويّةِ العَجيبةِ والبديعةِ كي يُعِدَّ الأذْهانَ للتّصدِيقِ ويُحضِّرَ القُلوبَ للإيمانِ بأفعالِه المعجِزةِ في الآخرةِ؛ أو أنه يُصَوِّرُ الأفعالَ الإلهيّةَ العجيبةَ التي ستَحدُثُ في المستقبلِ والآخِرةِ بشَكلٍ نَقنَعُ ونَطمئِنُّ إليه بما نشاهِدُه من نظائرِها العديدةِ، فمثلا:

    اَوَلَمْ يَرَ الْاِنْسَانُ اَنَّاخَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَاِذَا هُوَخَص۪يمٌ مُب۪ينٌ

    إلى آخرِ سُورةِ (يس).. هنا في قَضيّةِ الحشرِ، يُثبِتُ القرآنُ الكريمُ ويسُوقُ البراهينَ عليها، بسبعِ أو ثماني صُوَرٍ مُختلِفةٍ مُتنوِّعةٍ.

    إنه يُقدِّمُ النشأةَ الأُولى أوّلا، ويَعرِضُها للأنظارِ قائلا: إنكم ترَونَ نشأتكُم من النطفةِ إلى العَلقةِ ومن العلقةِ إلى المضغةِ ومن المضغةِ إلى خَلقِ الإنسانِ، فكيفَ تُنكِرونَ إذن النشأةَ الأُخرَى التي هي مثلُ هذه بل أهْونُ مِنها؟..

    ثم يُشِيرُ بـ

    (اَلَّذ۪ي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْاَخْضَرِ نَارًا) (يس:80)

    إلى تلك الآلاءِ وذلك الإحسانِ والإنعامِ الذي أنعمَه الحقُّ سُبحانَه على الإنسانِ، قائلًا: إنَّ الذي يُنعِمُ عليكم مثلَ هذه النِّعمِ، لن يَترُكَكم سُدًى ولا عبثًا، لتدخُلوا القبرَ وتناموا دونَ قيامٍ..

    ثم إنَّه يقولُ رمزا: إنكم ترَونَ إحياءَ واخْضِرارَ الأشجارِ الميِّتةِ، فكيفَ تَستَبعِدونَ اكتسابَ العظامِ الشبيهةِ بالحطبِ للحياةِ ولا تَقيسُونَ عليها؟..

    ثم هل يُمكِنُ أن يَعجِزَ مَن خلقَ السماواتِ والأرضَ عن إحياءِ الإنسانِ وإماتتِه وهو ثَمَرةُ السماواتِ والأرضِ، وهل يمكن لمن يُدِيرُ أمرَ الشجرةِ ويرعاها أن يُهمِل ثمَرتَها ويترُكَها للآخرين؟! فهل تَظنُّونَ أن يَترُكَ للعبثِ «شجرةَ الخلقةِ» التي عُجنَت جميعُ أجزائِها بالحكمةِ، بأن يُهمِلَ ثَمَرتَها ونتِيجَتَها؟!

    ويُفِيدُ أيضا: إنَّ الذي سَيُحْيِيكُم في الحشرِ هو مَن بيدِهِ مقاليدُ السماواتِ والأرضِ، وتَخضَعُ له الكائِناتُ خُضُوعَ الجنودِ المطيعِينَ لأمرِه فيُسخِّرُهم بأمرِ «كنْ فيَكونُ» تسخيرًا كاملا.. ومَن عِندَه خَلقُ الربيعِ يسيرٌ وهيِّنٌ كخلقِ زهرةٍ واحِدةٍ، وإيجادُ جميعِ الحيواناتِ سهلٌ على قُدرتِه كإيجادِ ذُبابةٍ واحِدةٍ.. فلا ولَن يُسألَ للتَّعجِيزِ صاحبُ هذه القُدرةِ: ﴿مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ ﴾؟

    ثم إنَّه بعبارةِ ﴿  فَسُبْحَانَ الَّذ۪ي بِيَدِه۪ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ ﴾ (يس:83) يُبيِّن أنه سبحانَه بيدِه مقاليدُ كلِّ شيءٍ، وعِندَه مفاتِيحُ كلِّ شيءٍ، يُقلِّبُ الليلَ والنهارَ، والشتاءَ والصيفَ بكلِّ سُهولةٍ ويُسرٍ كأنها صَفحاتُ كتابٍ، والدنيا والآخرةُ هما عِندَه كمَنزِلَين يُغلِقُ هذا ويَفتحُ ذاك؛ فما دامَ الأمرُ هكذا فإنَّ نتِيجةَ جميعِ الدلائلِ هي: ﴿وَ اِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ أي إنه يحيِيكُم من القبرِ، ويسُوقُكم إلى الحشرِ، ويُوَفِّي حسابَكم عندَ ديوانِه المقدَّسِ.

    وهكذا ترَى أنَّ هذه الآياتِ قد هيَّأتِ الأذهانَ، وأحضرتِ القلوبَ لقَبولِ قضيَّةِ الحشرِ، بإظهارِها نظائرَ من فِعلِها في الدنيا.

    هذا وقد يَذكُرُ القرآنُ أيضا أفعالا أُخروِيّةً بشكلٍ يُشعِرُ بنظائِرها الدنيويةِ ويُشِيرُ إليها، ليَمنعَ الإنكارَ والاستِبعادَ فمثلا: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ ﴿ اِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَت ❀ وَاِذَا النُّجُومُ انْكَـدَرَت ❀ وَاِذَا الْجِـبَـالُ سُيـِّرَت ❀ وَاِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَت ❀ وَاِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَت ❀ وَاِذَا الْبِحَارُ سُجِرَت ❀ وَاِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَت ❀ وَاِذَا الـمَوْؤُدَةُ سُئِلَت ❀ بِاَىِّ ذَنْبٍ قُتِلَت ❀ وَاذَِا الصُّحُفُ نُشِرَت ❀ وَاِذَا السَّمآءُ كُشِطَت ❀ وَاِذَا الْجَحيمُ سُعِّرَت ❀ وَاِذَا الْجَنَّةُ اُزْلِفَت ❀ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَآ اَحْـضَرَت...﴾ إلى آخر السورة.

    بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ ﴿اِذَا السَّمَآءُ اْنْفَطَرَتْ ❀ وَاِذَا الْكَواكِبُ اْنَتَثَرَت ❀ وَاِذَا البِحَارُ فُجِرَت ❀ وَاِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَت ❀ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَاَخَّرَتْ ﴾ إلى آخر السورة.

    بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ ﴿اِذَا السَّمَآءُ انْشَقَّتْ ❀ وَاَذِنَتْ لِرَبِهَا وَحُقَّت ❀ وَاِذَا الارْضُ مُدَّت ❀ وَاَلْقَتْ مَا فِىهَا وَتَخَلَّت ❀ وَاَذِنَتْ لِرَبِهَا وَحُقَّتْ ﴾ إلى آخر السورة.

    فترَى أنَّ هذه السُّوَرَ تَذكُر الانقلاباتِ العظيمةَ والتصرفاتِ الربانيّةَ الهائِلةَ في القيامةِ والحشرِ بأسلوبٍ يجعلُ الإنسانَ يرى نظائِرَها في الخريفِ والربيعِ فيقبَلُها بكلِّ سُهولةٍ ويسرٍ، مع أنَّها كانت تجعلُ القلبَ أسيرَ دهشةٍ هائلةٍ، ويضيقُ العَقلُ دُونَها ويَبقى في حَيرةٍ؛ ولمَّا كانَ تفسيرُ السُّوَرِ الثلاثِ هذه يطولُ، لذا سَنأخذُ كلمةً واحدةً نَمُوذجًا، فمثلا: ﴿ وَاِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ﴾ تُفِيدُ هذه الآيةُ أنه سَتُنشَرُ في الحشرِ جميعُ أعمالِ الفردِ مكتوبةً على صحيفةٍ؛ وحيثُ إنَّ هذه المسألةَ عجيبةٌ بذاتِها فلا يرى العقلُ إليها سَبيلًا، إلّا أنَّ السُّورةَ كما تُشيرُ إلى الحشرِ الربيعِيِّ وكما أنَّ للنقاطِ الأخرَى نظائرَها وأمثلتَها كذلك نظيرُ نشرِ الصُّحُفِ ومثالُه واضحٌ جليٌّ؛

    فلكلِّ ثَمَرٍ ولكلِّ عُشبٍ ولكلِّ شجَرٍ، أعمالٌ وله أفعالٌ وله وظائفُ وله عبودِيّةٌ وتسبيحاتٌ بالشَّكلِ الذي يُـظهِرُ به الأسماءَ الإلهيةَ الحسنَى، فجَميعُ هذه الأعمالِ مُندرِجَةٌ مع تاريخِ حياتِه في بُذُورِه ونُواه كلِّها، وستَظهرُ جميعُها في ربيعٍ آخرَ ومكانٍ آخرَ، أي إنه كما يَذكرُ بفصاحةٍ بالغةٍ أعمالَ أُمَّهاتِه وأُصُولِه بالصورةِ والشكلِ الظاهرِ، فإنه يَنشُرُ كذلك صحائفَ أعمالِه بنَشرِ الأغصانِ وتفتُّحِ الأوراقِ والأَثمارِ. نعم، إنَّ الذي يفعلُ هذا أمامَ أعينِنا بكلِّ حكمةٍ وحفظٍ وتدبيرٍ وتربيةٍ ولُطفٍ هو الذي يقولُ: ﴿ وَاِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ﴾، وهكذا قِسِ النقاطَ الأخرَى على هذا المنوالِ، وإن كانت لدَيك قوّةُ استِنباطٍ فاستَنبِطْ.

    ولأجل مُساعَدتِك ومُعاوَنتِك سنذكرُ ﴿  اِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ﴾ أيضا، فإن لفظ «كُوِّرَتْ» الذي يرِدُ في هذا الكلامِ هو بمعنَى: لُفّتْ وجُمِعَتْ، فهو مثالٌ رائعٌ ساطِع فوقَ أنّه يومِئُ إلى نظيرِه ومثيلِه في الدنيا:

    أولا: إنَّ الله سبحانَه وتعالى قد رفعَ ستائرَ العَدمِ والأثيرِ والسماءِ، عن جوهَرةِ الشمسِ التي تُضيءُ الدنيا كالمصباحِ، فأخرجَها من خزينةِ رحمتِه وأظهرَها إلى الدنيا؛ وسَيلُفُّ تلك الجوهَرةَ بأَغلِفَتِها عندما تَنتهِي هذه الدنيا وتَنْسَدُّ أبوابُها.


    ثانيا: إنَّ الشمسَ موظفةٌ ومأمورةٌ بنشرِ غُلالاتِ الضوءِ في الأسحارِ ولفِّها في الأماسِيِّ، وهكذا يَتَناوَبُ الليلُ والنهارُ على هامَةِ الأرضِ، وهي تجمعُ مَتاعَها مُقَلِّلةً من تَعامُلِها، أو قد يكونُ القمرُ -إلى حدٍ مّا- نِقابًا لأخذِها وعطائِها ذلك؛ أي كما أنَّ هذه الموظَّفةَ تجمعُ متاعَها وتطوِي دفاترَ أعمالِها بهذه الأسبابِ فلابدَّ من أن يأتيَ يومٌ تُعفَى من مَهامِّها، وتُفصَلَ من وظيفتِها، حتى إن لم يكن هناكَ سببٌ للإعفاءِ والعزلِ؛ ولعلَّ توسُّعَ ما يُشاهِدُه الفَلَكِيُّون على وَجهِها من البُقعَتَينِ الصغِيرَتَينِ الآن اللتَينِ تَتَوسَّعانِ وتَتَضخَّمانِ رُوَيدًا رُوَيدًا، تَسترجِعُ الشمسُ -بهذا التوسعِ- وبأمرٍ ربانيٍّ ما لَفَّتْهُ ونشَرَتْه على رأسِ الأرضِ بإذنٍ إلهي من الضَّوءِ، فتَلُفُّ به نفسَها، فيقولُ رَبُّ العزّةِ: إلى هنا انتَهَت مُهِمّتُكِ مع الأرض، فهيّا إلى جهنمَ لتَحرِقي الذين عَبدُوكِ وأهانوا مُوظَّفةً مُسخَّرةً مِثلَكِ وحَقَّرُوها مُتَّهِمِين إياها بالخيانةِ وعدمِ الوفاءِ. بهذا تَقرأُ الشمسُ الأمرَ الربانيَّ ﴿  اِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ  ﴾ على وجهِها المُبقِعِ.

    * * *

    القِطعةُ الخامِسةُ من الذَّيلِ

    إنَّ إخبارَ مئةٍ وأربعةٍ وعشرينَ ألفا من المصطَفَيْنَ الأخيارِ وهم الأنبياءُ والمرسَلون عليهم الصلاة والسلام -كما نصَّ عليهِ الحديث ([35])- إخبارا بالإجماعِ والتواترِ مستَندِين إلى الشهودِ عند بعضِهم وإلى حقِّ اليقينِ عندَ آخرينَ، عن وجودِ الدارِ الآخرةِ، وإعلانَهم بالإجماعِ أنَّ الناسَ سيُساقون إليها، وأنَّ الخالقَ سبحانَه وتعالى سيأتي بالدارِ الآخِرةِ بلا رَيبٍ، مثلما وَعدَ بذلك وعْدًا قاطِعًا. وإنَّ تصديقَ مئةٍ وأربعةٍ وعشرينَ مِليونًا من الأولياءِ كشْفا وشُهودًا ما أخبرَ به هؤلاءِ الأنبياءُ عليهم السلام، وشهادتَهم على وجودِ الآخرةِ بعلمِ اليَقينِ دليلٌ قاطعٌ وأيُّ دليلٍ على وجودِ الآخِرةِ.. وكذا، فإنَّ تجلّياتِ جميعِ الأسماءِ الحسنَى لخالقِ الكَونِ المتَجلِّيةِ في أرْجاءِ العالمِ كلِّه، تقتَضي بالبداهةِ وجودَ عالمٍ آخرَ خالدٍ، وتدلُّ دلالةً واضحةً على وجودِالآخِرةِ.

    وكذا الحكمةُ الإلهيّةُ المطلقةُ التي لا إسرافَ فيها ولا عبَثَ، والقُدرَةُ الأزليةُ الواسِعةُ التي تُحيِي ما لا يُعدُّ ولا يحصَى من جنائزِ الأشجارِ الميِّتةِ وهياكِلِها المنتَصِبةِ، تحييها على سطحِ الأرضِ في كلِّ ربيعٍ، وفي كل سنةٍ، بأمر «كنْ فيكونُ» وتجعلُها علامةً على «البعثِ بعد الموتِ» فتَحشُرُ ثلاثَمئةِ ألفِ نوعٍ من طوائفِ النباتاتِ وأمَمِ الحيواناتِ وتنشُرُها، مُظهِرةً بذلك مئاتِ الألوفِ من نماذجِ الحشرِ والنشورِ ودلائلِ وُجودِ الآخِرةِ. وكذا الرحمةُ الواسِعةُ التي تُدِيمُ حياةَ جميعِ ذوِي الأرواحِ المحتاجةِ إلى الرِّزقِ، وتُعيِّشُها بكمالِ الرأفةِ عِيشةً خارقةً للغايةِ؛ والعِنايةُ الدائمة التي تُظهِرُ أنواعَ الزينةِ والمحاسنِ بما لا يُعدُّ ولا يُحصَى، في فَترةٍ قصِيرةٍ جدا في كلِّ ربيعٍ.. لا شكَّ أنهما تستلزِمانِ وجودَ الآخرةِ بداهةً. وكذا، عِشقُ البقاءِ، والشوقُ إلى الأبديةِ وآمالُ السرمَديةِ الشديدةُ المغروزةُ غَرزًا لا انفصامَ لها في فطرةِ هذا الإنسانِ الذي هو أكملُ ثمَرةٍ لهذا الكونِ، وأحبُّ مخلوقٍ إلى خالقِ الكونِ،
وهو أَوْثقُ صلةً مع موجوداتِ الكون كلِّه، لا شكَّ أنه يشيرُ بالبداهةِ إلى وجودِ عالَم باقٍ بعدَ هذا العالمِ الفانِي، وإلى وجودِ عالمِ الآخرةِ ودارِ السَّعادةِ الأبديَّةِ. فجميعُ هذه الدلائلِ تُثبِتُ وجودَ الآخرةِ إلى حدٍّ يَستلزِمُ قبولَها بمثل بداهةِ وجودِ الدُّنيا. ([36])

    فما دامَ أهمُّ درسٍ يُلقِّنُنا القرآنُ إيّاه هو «الإيمانُ بالآخِرةِ»؛ وهذا الإيمانُ رصينٌ ومَتينٌ إلى هذه الدرجةِ، وفي ذلك الإيمانِ نورٌ باهرٌ ورجاءٌ شدِيدٌ وسُلوانٌ عظِيمٌ ما لوِ اجتمَعتْ مئةُ ألفِ شيخوخةٍ في شخصٍ وَاحدٍ لكفاها ذلك النُّورُ، وذلك الرجاءُ، وذلك السُّلوانُ النابعُ من هذا الإيمانِ؛ لذا علينا نحنُ الشيوخَ أنْ نفرَحَ بشيخوخَتِنا ونبتَهِجَ قائلينَ: «الحمدُ لله على كمالِ الإيمانِ».



    الكلمة التاسعة | الكلمات | الكلمة الحادية عشرة

    1. * السَّفسَطةُ: الاستِدلالُ والقياسُ الباطلُ، أو الذي يُقصَد به تمويهُ الحقائقِ، والسفسطائية فِرقةٌ يُنكِرون الحسِّياتِ والبديهيات وغيرها.
    2. إشارةٌ إلى فصولِ السنة حيثُ الربيعُ يشبه شاحنةَ قطارٍ مملوءةٍ بالأغذيةِ ويأتي من عالم الغيب. (المؤلف).
    3. * فكما أنَّ الجيشَ الهائلَ في ميدانِ المناوراتِ أو مباشرةِ الحرب، يتَحوّلُ إلى ما يُشبِه غابةَ أشواكٍ، بمُجرَّد تَسلُّمه أمرَ: «خُذوا السلاحَ، رَكِّبوا الحِرابَ»، وكما يتَحوّلُ المعسكرُ برُمّتِه في كل عيدٍ وعرْضٍ عسكريٍّ إلى ما يُشبِه حديقةً جميلةً ذاتَ أزهارٍ ملوّنةٍ بمجرّدِ تسلُّمِه أمرَ: «احملُوا شاراتِكم، تَقلّدُوا أوسِمتَكم».. كذلك النباتاتُ غيرُ ذاتِ الشعورِ والتي هي نوعٌ من جُنودٍ غيرِ متناهيّةٍ لله سبحانَه -كما أنَّ الملائِكةَ والجنَّ والإنسَ والحيوانَ جُنودُه- فهي عندَما تَتسلَّم أمرَ ﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ أثناءَ جهادِها لحفظِ الحياةِ وتُؤمَرُ بالأمرِ الإلهيّ «خذوا أسلحتَكم وعتادَكم لأجلِ الدّفاعِ» تُهيِّئُ الأشجارُ والشُّجَيراتُ المشوكَةُ رُميحَاتِها، فيتَحوّلُ سطحُ الأرضِ إلى ما يُشبِه المعسكرَ الضخمَ المدجَّجَ بالسلاحِ الأبيضِ.
      فتُظهِرُ كلُّ طائفةٍ منها ما وَهبَه لها سُلطانُها من هدايا جميلةٍ، وما أنعمَ عليها من أوسِمةٍ مرصّعةٍ، فتَعرِضُ نفسَها -بما يُشبِه العرْضَ العسكريّ- أمامَ نظرِ الشُّهودِ والإشْهادِ للسلطانِ الأزلي، كأنها تَسمَعُ أمرا ربّانيا: «تقلّدوا مُرصّعاتِ الصنعةِ الربانية، وأوْسِمةَ الفِطرةِ الإلهية التي هي الأزهارُ والثمارُ... وفتِّحُوا الأزهارَ»؛ عندئذٍ يعودُ سطحُ الأرضِ كأنه مُعسكرٌ عظيمٌ في يومِ عيدٍ بهيجٍ، وفي استعراضٍ هائلٍ رائع يَزخَرُ بالأوسمة البراقةِ والشاراتِ اللماعة.
      البديع يُرِي لمن لم يَفقِد بصرَه أنه أمرُ سلطانٍ قَديرٍ لا منتهَى لقدرتِه، وأمرُ حاكمٍ حَكيمٍ لا نهايةَ لحكمتِه. (المؤلف)
    4. * لقد وُضِّحَ قسمٌ من هذه المعاني التي تُشيرُ إليها هذه الصورةُ في «الحقيقةِ السَّابعةِ»؛ فآلةُ التصويرِ الكبرَى هنا -التي تخص السلطان- تُشير إلى اللوحِ المحفوظِ، وإلى حقيقتِه، وقد أثبَتَت «الكلمةُ السادِسةُ والعشرون» اللوحَ المحفُوظَ وتَحقُّقَ وُجودِه بما يأتي:
      كما أنَّ الهُوياتِ الشخصِيةَ الصغيرةَ تَرمُزُ إلى وجودِ سِجلٍّ كبير للهويات، والسنداتِ الصغيرةَ تُشعِر بوُجود سِجلٍّ أساسٍ للسنداتِ، ورَشحاتِ قطراتٍ صَغيرةً وغزيرةً تدل على وجودِ منبعٍ عظيمٍ.. كذلك فإنّ القوَى الحافظةَ في الإنسانِ، وأثمارَ الأشجارِ، وبُذورَ الثِّمارِ؛ التي كل منها بمَثابةِ هوياتٍ صغيرة، وبمعنى «لوح محفوظ صغير» وبصُورةِ ترشحاتِ نِقاطٍ صغيرةٍ ترشَّحتْ من القلم الذي كتَبَ اللوحَ المحفوظَ الكبيرَ.. لابدَّ أن كلا منها تُشعرُ بوجودِ الحافِظةِ الكبرَى، والسِّجل الأكبرِ، واللوحِ المحفوظِ الأعظم، بل تُثبتُه وتُبرِزُه إلى العقولِ النافِذةِ. (المؤلف)
    5. * إنَّ المعانيَ التي تُثبِتُها هذه الصورةُ ستَظهَر في «الحقيقةِ الثامِنةِ» فمثلا: إنَّ رؤساءَ الدوائر في هذا المثالِ ترمزُ إلى الأنبياءِ والأولياءِ، أما الهاتفُ فهو نِسبةٌ ربانِيةٌ ممتدةٌ من القلبِ الذي هو مرآةُ الوَحيِ ومظهرُ الإلهامِ وبمثابةِ بِدَايةِ ذلك الهاتِفِ وسمّاعتِه.. (المؤلف)
    6. سَترى ما ترمُز إليه هذه الصورة في «الحقيقة التاسعة»، فيومُ العيد مثلا إشارةٌ إلى فصل الربيع، أما الفلاةُ المزدانةُ بالأزهار فإشارةٌ إلى سطح الأرض في موسم الربيع، أما المناظرُ والمشاهدُ المتغيِّرة في الشاشة، فالمقصودُ منها أنواعُ ما يُخرجُه الربيعُ والصيفُ من الأرزاق الخاصَّةِ بالحيوان والإنسان التي يُقدِّرُها الصانعُ القديُر ذو الجلال والفاطرُ الحكيم ذو الجمال، والتي يُغيِّرُها بانتِظام كامل ويُجدِّدُها برحمةٍ تامّةٍ منه سُبحانَه، ويُرسِلها في فتراتٍ مُتعاقِبة مُتَتاليةٍ ابتداءً من أوَّلِ الربيعِ إلى انتهاءِ الصَّيفِ. (المؤلف)
    7. إنّ الدليلَ القاطع على أن الرزقَ الحلالَ يُعطَى حسَبَ الافتقار، ولا يؤخذُ بقوَّةِ الكائن وقدرتِه، هو سعةُ معيشةِ الصغار الذين لا طاقةَ لهم ولا حول، وضيقُ معيشةِ الحيواناتِ المفترسة، وبدانةُ الأسماكِ البليدة وهُزالُ الثعالبِ والقِردَة ذوي الذكاء والحِيَل؛ فالرزقُ إذن يأتي متناسِبا عَكسِيا مع الاختيار والقدرة، أي كلَّما اعتَمدَ الكائن على إرادته ابتُليَ بضِيق المعيشة وتكاليفِها ابتلاء أكثر. (المؤلف)
    8. نعم، إنَّ إيثارَ الأسدِ الجائع شِبلَه الضعيفَ على نفسه بما يَظفَرُ به من قطعة لحم، وهجومَ الدجاج الجبان على الكلب والأسد حفاظا على فِراخِه الصغيرة، وإعدادَ شجرةِ التِّينِ لصغارها التي هي ثمارُها لبنا خالصا من الطين.. كلُّ ذلك يدلُّ بداهة -لأهل البصائر- على أنها حَصَلتْ بأمر الرحيم الذي لا نهاية لرحمته، والكريم الذي لا نهاية لكرمه، والرؤوفِ الذي لا نهاية لرأفته وشفَقَتِه؛ وأنَّ قيامَ النباتات والحيوانات التي لا وعي لها ولا شعورَ، بأعمال في منتهى الوَعيِ والشعور والحكمة، يبينُ بالضرورة أنَّ عليما مطلقا وحكيما مطلقا هو الذي يسوقُها إلى تلك الأعمال، وهي بأمرِه تأتمِر. (المؤلف)
    9. إن عبارةَ «أمن الممكن؟» تتكررُ كثيرا، فهي تُفيد غايةً مهمة وهي: أنَّ الكفرَ والضلالَ يَتولَّدانِ غالبا من الاستبعاد، أي يَرى الإنسانُ مسائلَ الإيمان بعيدةً عن ميزان العقل، فيَعدُّها محالا، ويَبدأ بالإنكار والكفر.. ولكن هذه الكلمة العاشرة أَوضَحت بأدلة قاطعة: أن الاستبعادَ الحقيقيَّ والمحالَ الحقيقيَّ والبعدَ عن موازينِ العقلِ والصُّعوبةَ الحقَّةَ والمشكلاتِ العويصةَ التي هي بدرجةِ الامتناع، إنما هي في الكفرِ ومَنهَجِ أهلِ الضلالِ؛ وأن الإمكانَ الحقيقيَّ، والمعقوليةَ التامةَ والسّهولةَ الجاريةَ مجرى الوجوب، إنما هي في طريقِ الإيمانِ، وجادّةِ الإسلام.
      والخلاصة: إنَّ الفلاسفةَ إنما زَلّوا إلى الإنكار نتيجةَ الاستبعادِ، والكلمة العاشرة تبيِّن بتلك العبارة: «أمن الممكن؟» أين يكمنُ الاستِبعادُ، وتُوجِّهُ ضربةً على أفواهِهِم. (المؤلف)
    10. نعم، إن الزهرةَ الجميلة وهي في غاية الزِّينةِ والزَّخرفةِ، والثمَرةَ المنضَّدة وهي في منتهى الإتقان والإبداع، المعلَّقتيْن بخيط دقيق في نهاية أغصانٍ يابسة يُبوسةَ العظم.. لاشك أنهما «لوحةُ إعلان» تجعل ذوي المشاعر يقرأون فيها محاسنَ صنعةِ الصانع المعجز الحكيم!.. قس على النباتات الحيوانات أيضا. (المؤلف)
    11. نعم، لقد ذَهَب مثلا: أن حسناءَ بارعةَ الجمالِ طَرَدت أحدَ المعجبين بها، فقال هذا المُعجَب مُسلِّيا نفسَه: تبّا لها ما أقبحَها.. منكِرا جمالَ تلك الجميلة؛ وذات يوم مرَّ دُبٌّ تحت شجرةِ عِنب ذاتِ عناقيد لذيذةً، فأراد أن يأكل من ذلك العنب الحُلوِ، ولمّا لم تصل يدُه إليه، وعجزَ عن التسلق، قال مُتمتِما: إنه حامض، فسلَّى نفسه.. ومضى في طريقه. (المؤلف)
    12. إن الموجوداتِ الشبيهةَ بالمرايا مع أنها تتعاقبُ بالزوال والفناء فإن وجودَ تجليات الجمالِ نفسِه والحُسنِ عينِه في وَجهِها، وفي التي تعقُبُها، يدل على أن ذلك الجمالَ ليس مُلكا لها، بل هو آياتُ حسنٍ منزَّه، وأماراتُ جَمالٍ مقدّس. (المؤلف)
    13. نعم، إنَّ الذي حَكمَ ودامَ سلطانُ حكمِه ألفا وثلاثَ مِئةٍ وخمسينَ سنةً، والذي عَددُ أمَّتِه أكثرُ من ثلاثِ مِئةٍ وخمسينَ مليونا -في أغلبِ الأوقات- وهم يجدِّدون معه البيعةَ يوميا، ويَشهَدون بعُلوِّ مكانتِه وينقادون لأوامرِه انقيادا تاما عن رغبةٍ وطَواعية.. هذا الذي تَسربَلَ نصفُ الأرض وخُمُسُ البشريَّةِ بسِرْبَالِه المباركِ، وانطبعَ بطابَعِه المعنويِّ، وأَصبَحتْ ذاتُه الشريفةُ محبوبةَ قلوبِهم، ومربيةَ أرواحِهم، ومزكّيةَ نفوسِهم، لا ريب أنه العبدُ الأعظم لربِّ العالمين سبحانَه.. هذا العبدُ الكريمُ الذي رحَّب أغلبُ أنواعِ الكائناتِ بمهمتِه ورسالتِه فحملَ كـلُّ نوع ثمرةً من ثمرات معجزاتِه، لا ريبَ أنه أحبُّ مخلوقٍ لدَى الخالقِ العظيمِ.. وأنَّ الخلودَ الذي ترجوه البشريةُ بكل ما لها من استعدادٍ وتطلُبُه كحاجةٍ مُلحَّةٍ تُنقِذُها من التردي إلى دركاتِ أسفلِ سافِلين وترفَعُها إلى درجاتِ أعلَى عِلِّيين.. فهي حاجةٌ عُظمَى، لا ريب أنَّ أعظمَ العبادِ يَتقدمُ بها ويرفعُها إلى قاضي الحاجات باسمِ الجميع. (المؤلف)
    14. نعم، إن جميعَ الصلواتِ التي تُقيمُها الأمةُ كلُّها، منذ المناجاةِ الأحمدية -على صاحبها الصلاةُ والسلامُ- وجميعَ الصلوات والتسليمات التي تبعثُها إلى النبي ﷺإن هي إلّا تأمينٌ دائمٌ لدعائِه، ومُشاركةٌ عامةٌ معه، حتى إن كلَّ صلاةٍ وسلام عليه هو تأمينٌ على ذلك الدعاء؛ وأن ما يؤديه كلُّ فردٍ من أفرادِ الأمَّةِ من الصلوات عليه في الصلاة، ومن الدعاءِ عَقِب الإقامة -لدى الشافعية- إنما هو تأمينٌ عامٌ على ذلك الدعاء الذي يدعو به للسعادة الأبدية.. فالنبيُّ ﷺ يرجو في دعائِه باسم البشريَّة قاطبةً البقاءَ والسعادةَ الأبدية، وهذا هو ما يريدُه الإنسانُ ويرجوهُ بكل ما أوتي من قوةٍ بلسان حالِ فطرتِه، لذا يؤمِّنُ خَلفَه جميعُ الذين تَنوَّروا بنورِ الإيمان.. فهل يمكنُ ألّا يُقرَنَ هذا الدعاءُ بالقبولِ والاستجابة؟! (المؤلف)
    15. نعم، إنه لا يمكنُ بحالٍ من الأحوالِ ألّا يطّلعَ ربُّ هذا العالم على أفعال مَن هو بالمنزلةِ الرفيعة من خَلقِه، في الوقت الذي يتَصرفُ في الكون بكلِّ علمٍ وبصيرةٍ وحِكمةٍ، كما هو مُشاهَد.. ولا يُمكنُ أيضا بحالٍ من الأحوالِ ألّا يُباليَ ذلك الربُّ العليمُ بدعاءِ هذا العبدِ المختارِ من عبادِه، وهو المطَّلِع على كلِّ أفعالِه ودعواتِه؛ كذلك لا يُمكِنُ بحالٍ من الأحوالِ ألّا يستجيبَ ذلك الربُّ القديرُ الرَّحيمُ لتلكَ الدعواتِ وهو يَرَى من صاحِبِها كلَّ التجرُّدِ والافتقارِ إليه.
      نعم، لقد تَبدَّل وضْعُ العالَم بنور النبيِّ ﷺ، وتَبيَّنَتْ حَقيقةُ الإنسانِ والكونِ وماهيتُهُما بذلكَ النورِ، وانْكشَفتْ بذلكَ الضياءِ؛ فظهرَ أن مَوجوداتِ هذا الكونَ مكاتيبُ صمدانِيةٌ تَستقرِئُ الأسماءَ الحسنى، ومأموراتٌ موظَّفاتٌ، وموجوداتٌ نَفيسَةٌ ذاتُ معنًى ومَغزًى تليقُ بالبقاء.. فلولا ذلك النورُ لظَلَّ الكونُ مستورا تحتَ ظلامِ الأوهام، محكوما عليه بالفناءِ المطلقِ والعدمِ، تافها دون معنًى ودُونَ نفع، بل كان عبثا وسُدى ووَلِيدَ الصُّدفة.. ولهذا السِّر فإن كلَّ شيءٍ في الأرض والسماء، من الثَّرى إلى الثُّريا يستضيءُ بنورِه ﷺ ويُبدِي علاقتَه به مثلما يُؤمِّنُ الإنسانُ لدعائه ولا غَرْوَ أن روحَ العبودِيةِ المحمَّدِيةِ ومُخَّها إنما هو الدعاءُ بل إن حركاتِ الكون ووظائفَه جميعا ما هي إلّا نوعٌ من الدعاءِ، فَنُموُّ البِذرَةِ وتحولاتُها مثلا ما هو إلّا نوعٌ من دعاءٍ لبارئِها لتُصبِحَ شجرةً باسِقةً. (المؤلف)
    16. نعم، إنَّ إبداءَ نَماذِج الصَّنعةِ الدَّقِيقةِ البديعةِ التي لا تُعدُّ ولا تُحصَى على وَجهِ الأرضِ الذي هو بمثابةِ صَحيفةٍ صَغيرةٍ بالنسبة إلى عالم الآخرةِ الفَسيحِ، وكذا إراءةَ نماذِج الحشرِ والقيامَةِ في ثلاثِ مِئةِ ألفٍ من مخلوقاتٍ ذاتِ موازَنةٍ وانتِظام، وكتابَتَها في تلك الصحيفةِ الواحدةِ بهذا النظامِ البديعِ، لاشك أنها أعقَدُ من تَهيِئَةِ الجنَّةِ الموسُومةِ بالفخامةِ والرِّفْعةِ في عالم البقاءِ الرَّحْبِ، لذا يَصحُّ القولُ: إنَّ خَلقَ حدائقِ الربيعِ بما فيها من الأزهارِ والرّياحينِ أمرٌ يَبعثُ على الحَيرةِ والدهشةِ أكثرَ مما يبعثُها خلقُ الجنّةِ، وبنسبةِ عُلوِّ درجةِ الجنة ورِفعَةِ مكانتِها على الرَّبيع. (المؤلف)
    17. «إنه صحيح معنًى ولو ضُعّف مبنى» علي القاري، شرح الشفا 1/6؛ الأسرار المرفوعة 385؛ العجلوني، كشف الخفاء 2/214؛ الشوكاني، الفوائد المجموعة 326.
    18. نعم، إنَّ انقلابَ الحقائقِ محالٌ بالاتِّفاقِ، وأشدُّ مُحالاتِه هو انقِلابُ الضِّدِّ إلى ضدِّه؛ وضِمنَ عدَمِ إمكانِ انقلابِ الحقائق إلى أضدادِها حَقيقةٌ لا تَقبلُ الضِّدَّ قطعا، وهي انقلابُ الشَّيءِ مع احتفاظِهِ بماهيَّتِه إلى عينِ ضِدِّه، كأن يَنقلبَ الجمالُ المطلقُ مع احتفاظِه بهذا الجمالِ إلى القُبحِ الحقيقيِّ! فتَحوُّلُ جمالِ الربوبيةِ الواضحِ والظاهرِ ظهورا جَليا إلى ضِدِّهِ مع بقائِه على ماهيَّتِه هو أشَدُّ مُحالا وأكثرُ عجبا في أحكامِ العقل. (المؤلف)
    19. على الرَّغم من أن كلَّ شيء هو دقيقُ الصُّنع، بَديعُِ التّصويرِ، جَميلُ التّركيبِ، غالٍ ونفيسٌ، إلَّا أن عمرَه قصيرٌ، ووجودَه لا يستغرقُ إلّا زمنا يسيرا، فهو إذن نماذجُ وصورٌ لأشياءَ أخرى ليس إلّا.. ولما كان هناكَ وضعٌ يُشعرُ بتوجيهِ الأنظار إلى الحقائق الأصِيلةِ، فلا غرابةَ إذن في أن يقال: إن زينةَ الحياةِ الدنيا ما هي إلّا نماذجُ لِنِعَم الجنَّةِ التي هيَّأها الربُّ الرحِيمُ بفضلِه ولطفِه لمَن أحبَّ من عباده، بل الحقيقةُ هي هذه فعلا. (المؤلف)
    20. نعم، إن لوجودِ كلِّ شيءٍ غاياتٍ، ولحياتِه أهدافا ونتائجَ، فهيَ ليستْ بمُنحصِرة -كما يتوهَّمُ أهل الضلالة- على الغاياتِ والمقاصِد التي تتوجَّهُ إلى الدنيا أو التي تنحصر في الموجودِ نفسِه، حتى يمكنَ أن يتسلَّلَ إليها العبثُ وعَدمُ القصد؛ بل إن غايات وجودِ كلِّ شيءٍ ومقاصدَ حياتِه ثلاثةُ أقسام:
      أوَّلُها: وهو أسماها وهو المتوجِّه إلى صانِعِه سبحانَه وتعالى، أي عرضُ دقائقِ صُنع كلِّ شيء وبَديعِ تَرْكيبِهِ أمامَ أنظارِ الشاهِدِ الأزلي سبحانَه -بما يُشبِه الاستعراض الرَّسمِيَّ- حيثُ تكفي لذلك النظرِ حياةُ الشيء ولو للحظةٍ واحدة، بل قد يكفيه استعدادُه لإبراز قُواه الكامنةِ الشَّبيهةِ بِنيَّتِهِ -ولمَّا يَبرزْ إلى الوجودِ-، فالمخلوقاتُ اللطيفةُ التي تَزولُ بسرعةٍ، والبذورُ التي لم يتَسنَّ لها التَّسنبُـل، تفيدُ هذه الغايةَ وتُعبِّر عنها تماما، فلا يَطرأُ عليها عَبثٌ ولا انتفاءُ النفعِ البتة؛ أي إن أُولَى غاياتِ كلِّ شيء هو: إعلانُه وإظهارُه -بحياته ووجوده- معجزاتِ قُدرَةِ صانعِه، وآثارَ صنعتِه، أمامَ نظَرِ مليكِه ذي الجلال.
      والقسم الثاني: من غاية الوُجودِ وهَدفِ الحياة هو: التوجُّهُ إلى ذوي الشعورِ، أي إن كلَّ شيء بمثابةِ رسالةٍ ربانِيَّةٍ زاخِرةٍ بالحَقائق، وقصيدةٍ تنضح لُطفا ورقّةً، وكلمةٍ تُفصح عن الحكمَةِ، يَعرضُها البارئُ عز وجل أمامَ أنظارِ الملائكةِ والجنِّ والحيوانِ والإنسانِ، ويَدعوهُم إلى التأمُّل، أي إن كلَّ شيء هو محلُّ مطالعةٍ وتأمُّلٍ وعِبرةٍ لكُل مَن ينظر إليه من ذوي الشعور.
      القسم الثالث: من غايةِ الوُجودِ وهدفِ الحياةِ هو: التوجُّهُ إلى ذات نفسِه: كالتمتُّع والتلذُّذِ وقضاءِ الحياةِ والبقاءِ فيها بهناءٍ، وغيرِها من المقاصدِ الجزئيَّة، فمثلا: إن نتيجةَ عَملِ الملَّاح في سَفينَةِ السلطانِ العظيمَةِ تعودُ فائدتُها إليه وهي أجرَتُه، وهي بنسبةِ واحدٍ في المِئةِ، بينما تِسعٌ وتسعونَ بالمئة من نتائج عملِه تعودُ إلى السلطان.. وهكذا أمرُ كلِّ شيءٍ إنْ كانت غايتُه المتوجِّهة إلى نفسِه وإلى دنياه واحدةً، فغاياتُه المتوجِّهَة إلى بارئِه سبحانَه هي تِسعٌ وتسعونَ.
      ففي تَعدُّدِ الغاياتِ هذا يَكمُنُ سِرُّ التوفيقِ بينَ «الحكمةِ والجودِ» أي بين الاقتِصادِ والسَّخاءِ المُطلقَين اللذَينِ يَبدُوانِ كالضِّدَّين والنقيضَين؛ وتوضيح ذلك: إذا لُوحِظَت غايةٌ بمفردِها فإن الجودَ والسَّخاءَ يسودان آنذاك، ويتَجلَّى اسمُ «الجوَادِ»، فالثمارُ والحبوبُ حسَبَ تلك الغايةِ المُفردةِ الملحوظةِ لا تعدُّ ولا تحصَى؛ أي إنها تُفيدُ جودا مُطلَقا وسخاءً لا حصْرَ له، أمَّا إذا لوحِظت الغاياتُ كلُّها فإن الحكمةَ هي التي تَظهرُ وتُهيْمِنُ، ويتَجلَّى اسمُ «الحكيم»، فتكون الحِكَمُ والغاياتُ المُتوخّاةُ من ثَمَرةٍ لشجرةٍ واحدةٍ بعدَدِ ثمارِ تلك الشجَرة، فتتوزَّعُ هذه الغاياتُ على الأقسام الثلاثةِ التي سبقَ ذكرها.. فهذه الغاياتُ العامَّةُ تشيرُ إلى حكمةٍ غيرِ نهائيةٍ، واقتصادٍ غير مُـحدَّد، فتَجتمِعُ الحكمةُ المطلقةُ مع الجود المطلقِ اللذانِ يبدوَانِ كالضِّدَين.
      ومثلا: إن إحدَى الغاياتِ من الجيش هي المحافَظةُ على الأمنِ والنِّظام، فإذا نَظرتَ إلى الجيش
      بهذا المنظارِ فَسَترى أن هناك عددا فوقَ المطلوب منه، أما إذا نظرنا إليه معَ أخذِنا الغاياتِ الأخرى بنَظرِ الاعتبارِ كحِفظِ الحدُودِ، ومجاهَدَةِ الأعداءِ وغيرِها، عند ذلك نَرى أنَّ العدَدَ بالكادِ يفي بالحد المطلوب.. فهو متوازنٌ بكمال الحكمةِ، إذ تَجتمِعُ حكمةُ الحكومةِ مع عظمتِها؛ وهكذا يُمكن القولُ في هذه الحالةِ: إن الجيشَ ليسَ فوقَ الحدِّ المطلوب. (المؤلف)
    21. نعم، لا بدَّ من زوالِ الثِّمار والأزهار والأوراق المحمولةِ على أغصانِ ورؤوسِ الأشجارِ -التي هي خزينةُ الأرزاقِ للرحمة الإلهية- بعد أن أدت وظيفَتها وهَرِمَت، كيلا يُوصَد البابُ أمام ما يَسيـلُ وراءَها ويخلُفها، وإلّا صارت سَدًّا منيعا أمام سعةِ الرحمةِ وحائلا أمام مهامِّ أخواتِها، فضلا عن أنها هي نفسُها تذوي وتذبُل بزوال شبابِها؛ وهكذا، فالربيعُ أشبهُ بتلك الشجرةِ المثمرة، المُظهرة للحشر، وعالمُ الإنسان -في كلِّ عصر- هو شجرةٌ مثمِرة ذاتُ حكمةٍ وعبرة، والأرض جميعًا شجرةُ قُدرةٍ بديعةٍ والدنيا كذلك شَجرةٌ رائعةٌ ترسلُ ثمارَها إلى سوقِ الآخرة. (المؤلف)
    22. انظر حاشيةَ الصورةِ السّابعةِ. (المؤلف)
    23. إن الماضيَ الممتدَّ منذُ الآن إلى بدءِ الخليقةِ مَليءٌ بالوقائِع والأحداث، فكلُّ يوم ظَهرَ إلى الوجود منه سَطْرٌ، وكلُّ سَنةٍ منه صحيفةٌ، وكلُّ عصرٍ منهُ كتابٌ، رَسَمَه قلمُ القدَرِ، وخطَّتْ فيه يدُ القدرةِ آياتِها المعجزةَ بكل حكمةٍ وانتظام؛ وإن المستقبلَ الذي يمتدُّ من الآن إلى يوم القيامة، وإلى الجنَّةِ، وإلى الأبد، إنما هو ضمنَ الممكناتِ، أي كما أن الماضيَ هو وقائعُ وقَعتْ فعلا، فالمستقبلُ كذلك ممكناتٌ يمكن أن تقعَ فِعلًا.. وإذا قوبِلتْ سِلسلتا هَذيْن الزَّمانيْنِ وكما لا ريبَ في أن الذي خلقَ الأمسَ بما فيه من الموجُوداتِ قادرٌ على خلقِ الغدِ بما سيكونُ فيه من الموجودَاتِ، فلا ريبَ كذلك أن موجوداتِ وخوارقَ الزَّمنِ الماضي الذي هو مَعرِضُ العجائبِ والغرائبِ هي مُعجِزاتُ القديرِ ذي الجلالِ وهي تَشهَدُ شهادةً قاطِعةً على: أنه سبحانَه وتعالى قادرٌ على أن يخلقَ المستَقبلَ كلَّه، وما فيه من الممكناتِ كُلِّها، وأن يَعرِضَ فيه عجائبَه ومعجزاتِه كافةً.
      نعم، فكما أن الذي يَقدِرُ على خلق تفاحةٍ واحدةٍ لابدَّ أن يكون قادرًا على خلق تفاحِ العالَمِ جميعًا، بل على إيجاد الربيع الكبير، إذ من لا يَقدِرُ على خلق الربيع لا يمكن أن يخلقَ تفاحةً، لأن تلك التفاحةَ تُنسَجُ في ذلك المصنع؛ ومَن يقدِرُ على خلق تفّاحةٍ واحدةٍ فهو إذن قادرٌ على خلقِ الرّبيعِ، فالتفاحةُ مثالٌ مصغّرٌ للشجرةِ، وللحَديقةِ، بل هي مثالُ الكائناتِ جميعًا؛ والتفاحةُ من حيثُ الصّنعةُ والإتقانُ هي مُعجِزةُ الصنعةِ، حيث تتضمنُ بذورُها تاريخَ حياةِ شجرتِها؛ فالذي يَخلقُها خَلْقًا بديعًا كهذا لا يُعجِزُه شيءٌ مطلقًا.
      وهكذا، فالذي يخلُق اليومَ هو قادرٌ على خلق يومِ القيامةِ، والذي يُـحدِثُ الربيعَ قادرٌ على إحداثِ الحشر، والذي أظهرَ عوالِمَ الماضي وعلَّقها على شريط الزمان -بكلِّ حكمةٍ وانتِظام- لاشك أنه يقدرُ على أن يُظهِرَ عوالمَ أخرى ويُعلِّقها بخيطِ المستقبَلِ، وسيُظهرُها حتما.. وقد أثبتنا بشكل قاطِع في كثير من «الكلمات» ولا سيما في «الكلمةِ الثانيةِ والعِشرينَ» بأن «من لا يخلُقُ كـلَّ شيء لا يقدرُ على خلق شيء، ومن يخلُقُ شيئًا واحدًا يقدِرُ على أن يخلُقَ كلَّ شيء؛ وكذلك لو أحيلَ إيـجادُ الأشياء إلى ذاتٍ واحدةٍ لسَهُلتِ الأشياءُ كـلُّها كالشيء الواحد، ولو أُسنِدَ إلى الأسباب المتعدِّدةِ وإلى الكثرة لأصبحَ إيـجادُ الشيءِ الواحدِ صعبًا بمقدار إيـجادِ الأشياء كلِّها، ويكون مشكِلًا بدرجة الامتِناعِ والمُحالِ».(المؤلف)
    24. كجُذورِ وأصولِ الأعْشابِ والأشجارِ. (المؤلف)
    25. كالأوْراقِ والثمارِ. (المؤلف)
    26. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «إنّ ضرسَ الكافرِ أو نَاب الكافِر مثل أُحُدٍ وغلظ جِلدِه مسيرة ثلاث»، (مسلم، الجنة 44؛ الترمذي، صفة جهنم 3؛ ابن ماجه، الزهد 38؛ أحمد بن حنبل، المسند 2/26، 328، 334، ).
    27. نعم إن الكفرَ إهانةٌ وتَحقيرٌ للكائناتِ جميعًا، حيثُ يتهمُها بالعبثية وانتفاءِ النفع؛ وهو تزييفٌ تجاهَ أسماءِ الله الحسنى، لأنه ينكرُ تجلي تلك الأسماء على مرايا الموجوداتِ؛ وهو تكذيبٌ للمخلوقات جميعا حيثُ يردُّ شهادةَ الموجوداتِ على الوحدانيةِ.. لذا فإنه يُفسِدُ قُوَى الإنسانِ واستعداداتِه إلى درجةٍ يسلبُ منه القدرةَ على تقبُّلِ الخير والصلاح.. وهو ظلمٌ عظيمٌ جدا، إذ هو تجاوزٌ لحقوق جميعِ المخلوقات، وجميعِ الأسماء الحسنى، لذا فحفاظا على هذه الحقوقِ، ولعدم تمكُّن نفسِ الكافِر من قبول الخير، اقتضى حِرمانَه من العفو؛ والآيةُ الكريمةُ: ﴿اِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ تفيدُ هذا المعنَى.(المؤلف)
    28. نعم، إنَّ العدالةَ شِقّانِ أحدُهُما إيجابيّ، والآخرُ سَلبِيّ: أما الإيجابيُّ فهو: إعطاءُ كلِّ ذي حقٍ حَقَّهُ؛ فهذا القِسمُ من العدالةِ مُـحيطٌ وشامِلٌ لكلِّ ما في هذه الدنيا لدرجةِ البداهَةِ، فكما أثبتنا في «الحقيقة الثالثة» بأنَّ ما يطلُبُه كلُّ شيءٍ وما هو ضَرورِيٌّ لوجودِه وإدامَةِ حياتِه، تلك المطالِبُ التي يطلُبُها بلسان استِعدادِه وبِلُغةِ حاجاتِه الفطريَّةِ وبلسانِ اضطرارِهِ من الفاطرِ ذي الجلالِ تَأتِيهِ بميزانٍ خاصٍ دَقِيـقٍ، وبمعايِيرَ ومقايِيسَ مُعيَّنةٍ، أي إن هذا القِسمَ من العَدالةِ ظاهرٌ ظهورَ الوجودِ والحياةِ؛ وأما القِسمُ السَّلبيّ فهو: تأديبُ غيرِ المحِقِّين، أي إحقاقُ الحقِّ بإنزالِ الجزاءِ والعذابِ عليهم،
      فهذا القِسمُ وإن كان لا يَظهَرُ بجلاءٍ في هذه الدنيا إلّا أن هنالك إشاراتٍ وأماراتٍ تدل على هذه الحقيقةِ؛ خذ مثلا سَوْطَ العذابِ وصَفعاتِ التأديبِ التي نَزلتْ بقوم عادٍ وثَمودَ بل بالأقوام المتمرِّدَةِ في عصرنا هذا، مما يُظهِرُ بالحدْسِ القَطعِيِّ هَيمَنةَ العدالةِ الساميةِ وسِيادَتَها. (المؤلف).
    29. سؤال: فإن قلتَ: لِمَ تُورِدُ أغْلَبَ الأمثلةِ من الزَّهرَةِ والبِذرَةِ والثَّمَرةِ؟ الجواب: لأنها أبدعُ معجزاتِ القُدرةِ الإلهيةِ وأعجَبُها وألطَفُها.. ولمّا عَجَزَ أهلُ الضلالةِ والطبيعةِ والفلسفةِ الماديّةِ عن قراءةِ ما خَطّهُ قلمُ القَدَرِ والقُدرةِ فيها من الكتابَةِ الدَّقِيقةِ، تاهُوا وغَرِقوا فيها، وسقَطوا في مُستَنقعِ الطبيعةِ الآسِنِ. (المؤلف).
    30. الغزالي، إحياء علوم الدين 4/19؛ علي القاري، الأسرار المرفوعة 205؛ وقال: معناه صحيح مقتبس من قوله تعالى ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ﴾ (الشورى:20).. انظر: العجلوني، كشف الخفاء 1/495.
    31. نخو: كلِمةٌ كرديةٌ باللهجةِ الكُرْمانجِيّة الشمالية. تعني: فإذن.
    32. عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ «.. أرواحُهُم في جَوفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لها قَناديلُ معَلّقةٌ بالعرشِ تَسرَحُ من الجنّةِ حيثُ شاءَتْ»، (مسلم، الإمارة 121؛ الترمذي، تفسير سورة آل عمران 9؛ أبو داود، الجهاد 25؛ ابن ماجه، الجنائز 4، الجهاد 16؛ الدارمي، الجهاد 18؛ أحمد بن حنبل، المسند 1/265).
    33. قال أبو ذر رضي الله عنه: «قلت: يا رسول الله كم وفاء عدة الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا»، (أحمد بن حنبل، المسند 5/265؛ ابن حبان، الصحيح 2/77؛ الطبراني، المعجم الكبير 8/217؛ الحاكم، المستدرك 2/652؛ إبن سعد، الطبقات الكبرى 1/23، 54).
    34. لم يُكتبْ هذا المقامُ بعدُ، وحيثُ إن مسألةَ «الحياة» وقَضيَّتها لها علاقةٌ مع الحشرِ، فقد أُدرِجتْ هنا؛ وفي ختامِ هذه المسألةِ إشاراتُ الحياةِ إلى الرُّكنِ الإيمانيّ «القَدَر»، وهي مسألةٌ دقِيقةٌ جدا وعَمِيقة. (المؤلف)
    35. تقدَّم تخريجُه في القطعةِ الأولى من ذيلِ الكلمةِ العاشِرةِ.
    36. إنَّ مدى السُّهولةِ في «إخبارِ الأمر الثبوتي» ومدَى الصعوبةِ والإشكالِ في «نفي وإنكار» ذلك، يَظهَر في المثالِ الآتي:إذا قال أحدُهم: إن هناك -على سطح الأرض- حديقةً خارقةً جدا ثمارُها كعُلبِ الحليبِ، وأنكرَ عليهِ الآخرُ قولَه هذا قائلا: لا، لا توجدُ مثلُ هذه الحديقةِ؛ فالأوَّلُ يستطيعُ بكلِّ سهولةٍ أن يثبت دعواهُ بمُجرَّدِ إراءةِ مكانِ تلك الحديقةِ أو بعض ثمارِها؛ أما الثاني (أي المنكِر) فعليه أن يرَى ويُرِيَ جميعَ أنحاءِ الكرةِ الأرضية لأجل أن يُثبِتَ نفيَه، وهو عدمُ وجود مثل هذه الحديقة.. وهكذا الأمرُ في الذين يُخبرون عن الجنةِ، فإنهم يُظهِرون مئاتِ الآلافِ من ترشُّحاتِها، ويُبيِّنونَ ثمارَها وآثارَها، علما أن شاهدَين صادقَين منهم كافيانِ لإثباتِ دعواهُم، بينما المنكِرون لوجودِها، لا يسعُهم إثباتُ دعواهم إلّا بعدَ مُشاهَدَةِ الكون غيرِ المحدودِ، والزمنِ غيرِ المحدودِ، مع سَبرِ غَوْرِهِما بالبحثِ والتفتِيشِ، وعند عَدمِ رؤيتهِم لها، يُمكنِهم إثباتُ دعواهم! فيا من بَلغَ به الكبرُ عِتيًّا ويا أيها الإخوة.. اعلموا ما أعظمَ قوّةَ الإيمانِ بالآخرةِ وما أشدَّ رصانتَه!.(المؤلف).