اللمعة السادسة والعشرون

    Risale-i Nur Tercümeleri sitesinden
    15.18, 14 Mayıs 2024 tarihinde Said (mesaj | katkılar) tarafından oluşturulmuş 109129 numaralı sürüm
    (fark) ← Önceki sürüm | Güncel sürüm (fark) | Sonraki sürüm → (fark)
    Diğer diller:

    «رسالة الشيوخ»

    «هذه اللمعة عبارة عن ستة وعشرين نورَ رجاءٍ وضياءَ تسلٍ» ([1])

    تنبيه

    إنَّ السبب الذي دعاني إلى تسجيل ما كنت أُعانيه من آلامٍ معنوية في مستهل كل رجاء بأسلوب مؤثر جداً إلى حدٍّ يثير فيكم الألمَ أيضاً، إنما هو لبيان مدى قوة مفعول العلاج الوارد من القرآن الحكيم وشدة تأثيره الخارق.

    بيد أن هذه «اللمعة» التي تخصّ الشيوخ لم تحافظ على حسن البيان، وجمال الإفادة لعدة أسباب:

    أولها: لأنها تخص أحداث حياتي الشخصية ووقائعَها، فالذهاب عبرَ الخيال إلى تلك الأزمنة، ومعايشة أحداثها، ومن ثم تناولها بالكتابة بتلك الحالة، سبّب عدم المحافظة على الانتظام في البيان والتعبير.

    ثانيها: اعترى البيانَ شيء من الاضطراب، لأنَّ الكتابة كانت بعد صلاة الفجر، حيث كنت أَشعر حينها بتعبٍ وإنهاكٍ شديدين، فضلاً عن الاضطرار إلى الإسراع في الكتابة.

    ثالثها: لم يكن لدينا متسع من الوقت للقيام بالتصحيح الكامل؛ فالكاتب الذي كان مرهقاً بشؤون «رسائل النور» وكثيراً ما كان يعتذر عن الحضور مما أفقد المضمونَ التناسق المطلوب.

    رابعها: لم نستطع إلّا الاكتفاء بالتصحيحات والتعديلات العابرة دون التوغل في أعماق المعاني؛ لما كنا نحسّ به من تعبٍ ونصبٍ عقب التأليف، فلا جرم أنْ رافق الموضوع شيءٌ من التقصير في التعبير والأداء.

    لذا نهيب بالشيوخ الكرام أن ينظروا بعين الصفح والسماح إلى قصوري في الأداء، وأن يجعلوني ضمن دعواتهم عندما يرفعون أكّفهم متضرعين إلى الله الرحيم الذي لا يردّ دعوات الشيوخ الطيبين...

    بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ

    كٓهٰيٰعٓصٓ ❀ ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّاۚ

    اِذْ نَادٰى رَبَّهُ نِدَٓاءً خَفِيًّا ❀ قَالَ رَبِّ اِنّ۪ي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّ۪ي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ اَكُنْ بِدُعَٓائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (مريم: ١-٤).

    (هذه اللمعة عبارة عن ستة وعشرين رجاء)

    الرجاء الأول

    يا من بلغتم سنّ الكمال، أيها الأخوة الشيوخ الأعزاء، ويا أيتها الأخوات العجائز المحترمات! إنني مثلُكم شيخ كبير، سأكتب لكم بعضَ ما مرّ عليّ من أحوال، وما وجدته بين حين وآخر من أبواب الأمل، وبوارق الرجاء في عهد الشيخوخة، لعلكم تشاركونني في أنوار السلوة المشعة من تلكم الرجايا والآمال. إنَّ ما رأيته من الضياء، وما فتحه الله عليّ من أبواب النور والرجاء، إنما شاهدتُه حسب استعدادي الناقص وقابلياتي المشوشة، وستجعل استعداداتكم الخالصة الصافية -بإذن الله- ذلك الضياء أسطعَ وأبهر مما رأيته، وذلكم الرجاء أقوى وأمتن مما وجدته.

    ولا ريب أنّ منبع ما سنذكره من الأضواء ومصدر ما سنورده من الرجايا ما هو إلّا «الإيمان».

    الرجاء الثاني

    حينما شارفت على الشيخوخة، وفي أحد أيام الخريف، وفي وقت العصر، نظرت إلى الدنيا من فوق ذروة جبل، فشعرت فجأة حالة في غاية الرقة والحزن مع ظلام يكتنفها، تدب في أعماقي.. رأيت نفسي: أنني بلغت من العمر عتياً، والنهارُ قد غدا شيخاً، والسنةُ قد اكتهلت، والدنيا قد هرمت.. فهزّني هذا الهرم الذي يغشى كل شيء حولي هزّاً عنيفاً. فلقد دنا أوانُ فراق الدنيا، وأوشك أوان فراق الأحباب أن يحلّ.. وبينما أتململ يائساً حزيناً إذا بالرحمة الإلهية تنكشف أمامي انكشافاً حوّل ذلك الحزنَ المؤلم إلى فرحة قلبية مشرقة، وبدّل ذلك الفراق المؤلم للأحباب إلى عزاء يضيء جنبات النفس كلها.

    نعم يا أمثالي من الشيوخ! إنَّ الله سبحانه وتعالى الذي يقدّم ذاته الجليلة إلينا، ويعرّفها لنا في أكثر من مائة موضع في القرآن الكريم، بصفة «الرحمن الرحيم».. والذي يرسل رحمته بما يسبغ على وجه الأرض دوماً من النِّعَم، مدداً وعوناً لمن استرحمه من ذوي الحياة، والذي يبعث بهداياه من عالم الغيب فيغمر الربيع كل سنة بنِعَم لا تعد ولا تحصى، يبعثها إلينا نحن المحتاجين إلى الرزق، مُظهِراً بها بجلاء تجليات رحمته العميمة، وفق مراتب الضعف ودرجات العجز الكامنة فينا. فرحمة خالقنا الرحيم هذه أعظم رجاءً، وأكبر أملاً في عهد شيخوختنا هذه، بل هي أسطع نوراً لنا.

    إنَّ إدراك تلك الرحمة والظفر بها، إنما يكون بالانتساب إلى ذلك «الرحمن» بالإيمان، وبالطاعة له سبحانه بأداء الفرائض والواجبات.

    الرجاء الثالث

    حينما أفقتُ على صبح المشيب، من نوم ليل الشباب، نظرت إلى نفسي متأملاً فيها، فوجدتها كأنها تنحدر نزولاً من علٍ إلى سواء القبر، مثلما وصفها نيازي المصري(∗):

    بناء العمر يذوي حجراً إثر حجر

    غافلاً يغط الروح وبناؤه قد اندثر

    فجسمي الذي هو مأوى روحي، بدأ يتداعى ويتساقط حجراً إثر حجر على مرّ الأيام.. وآمالي التي كانت تشدّني بقوة إلى الدنيا، بدأت أوثاقُها تنفصم وتنقطع. فدبّ فيّ شعور بدنو وقت مفارقة من لا يحصى من الأحبة والأصدقاء، فأخذتُ أبحثُ عن ضماد لهذا الجرح المعنوي الغائر، الذي لا يُرجى له دواء ناجع كما يبدو!. لم أستطع أن أعثر له على علاج، فقلت أيضاً كما قال نيازي المصري:

    حكمة الإله تقضى فناء الجسد والقـلب تواق إلى الأبد

    لهف نفسي من بلاء وكمـد حار لقمان في إيجاد الضمد

    وبينما كنت في هذه الحالة إذا بنور الرسول الكريم ﷺ الذي هو رحمة الله على العالمين، ومثالُها الذي يعبّر عنها، والداعي إليها، والناطق بها، وإذا بشفاعته، وبما أتاه من هدية الهداية إلى البشرية، يصبح بلسماً شافياً، ودواءً ناجعاً لذلك الداء الوخيم الذي ظننته بلا دواء، ويبدل ذلك اليأس القاتم الذي أحاطني إلى نور الرجاء الساطع.

    أجل، أيها الشيوخ وأيتها العجائز الموقرون، ويا من تشعرون كلكم بالشيخوخة مثلي!. إننا راحلون ولا مناص من ذلك.. ولن يُسمح لنا بالمكوث هنا بمخادعة النفس وإغماض العين، فنحن مساقون إلى المصير المحتوم. ولكن عالم البرزخ، ليس هو كما يتراءى لنا بظلمات الأوهام الناشئة من الغفلة، وبما قد يصوّره أهل الضلالة، فليس هو بعالم الفراق، ولا بعالم مظلم، بل هو مجمع الأحباب، وعالم اللقاء مع الأحبة والأخلّاء، وفي طليعتهم حبيبُ رب العامين وشفيعنا عنده يوم القيامة عليه أفضل الصلاة والسلام.

    نعم، إنَّ مَن هو سلطان ثلاثمائة وخمسين مليوناً من الناس في كل عصر، عبر ألف وثلاثمائة وخمسين سنة وهو مربّي أرواحهم، ومرشدُ عقولهم، ومحبوب قلوبهم، والذي يُرفع إلى صحيفة حسناته يومياً أمثال ما قدمت أمته من حسنات، إذ «السبب كالفاعل» والذي هو مدار المقاصد الربانية، ومحور الغايات الإلهية السامية في الكون، والذي هو السبب لرقي قيمة الموجودات وسمّوها، ذلك الرسول الأكرم ﷺ، فكما أنه قال في الدقائق الأولى التي تشرّف العالم به «أمتي.. أمتي..» كما ورد في الروايات الصحيحة 2 والكشفيات الصادقة، فإنه ﷺ يقول في المحشر أيضاً: «أمتي.. أمتي..» ويسعى بشفاعته إلى إمداد أمته وإغاثتها بأعظم رحمة وأسماها وأقدسها وأعلاها، في الوقت الذي يقول كلّ فرد من الجموع العظيمة: «نفسي.. نفسي». فنحن إذن ذاهبون إلى العالم الذي ارتحل إليه هذا النبي الكريم، راحلون إلى العالم الذي استنار بنور ذلك السراج المنير وبمن حوله من نجوم الأصفياء والأولياء الذين لا يحصرهم العد.

    نعم، إنَّ اتباع السُّنة الشريفة لهذا النبي الكريم ﷺ هو الذي يقود إلى الانضواء تحت لواء شفاعته والاقتباس من أنواره، والنجاة من ظلمات البرزخ.

    الرجاء الرابع

    حينما وطأت قدمايَ عتبةَ الشيخوخة، كانت صحتي الجسدية التي ترخي عنان الغفلة وتمدّها قد اعتلّت أيضاً فاتفقت الشيخوخةُ والمرض معاً على شن الهجوم عليّ، وما زالا يكيلان على رأسي الضربات تلو الضربات حتى أذهبا نوم الغفلة عنّي. ولم يكن لي ثمة ما يربطني بالدنيا من مال وبنين وما شابههما، فوجدتُ أنَّ عصارة عمري الذي أضعته بغفلة الشباب، إنما هي آثام وذنوب، فاستغثتُ صائحاً مثلما صاح نيازي المصري:

    ذهب العُمر هباءً، لم أفز فيه بشيء

    ولقد جئت أسير الدرب، لكنْ

    رحل الرّكبُ بعيداً

    وبقيتْ

    ذلك النائي الغريب

    وبكيتْ

    همتُ وحدي تائهاً أطوي الطريق

    وبعينيّ ينابيع الدموع

    وبصدري حرقة الشوق

    حار عقلي..!

    كنت حينها في غربة مضنية، فشعرت بحزن يائس، وأسف نادم، وحسرة ملتاعة على ما فات من العمر. صرخت من أعماقي أَطلب إمداد العون، وضياء الرجاء.. وإذا بالقرآن الحكيم المعجز البيان يمدّني، ويسعفني، ويفتح أمامي بابَ رجاء عظيم، ويمنحني نوراً ساطعاً من الأمل والرجاء يستطيع أن يزيل أضعاف أضعاف يأسي، ويمكنه أن يبدد تلك الظلمات القاتمة من حولي.

    نعم، أيها الشيوخ وأيتها العجائز المحترمون، يا مَن بدأت أوثاق صلتهم بالانفصام عن الدنيا مثلي! إنَّ الصانع ذا الجلال الذي خلق هذه الدنيا أكملَ مدينة وأنظمها، حتى كأنها قصرٌ منيف، هل يمكن لهذا الخالق الكريم ألّا يتكلم مع أحبّائه وأكرم ضيوفه في هذه المدينة أو في هذا القصر؟ وهل يمكن ألّا يقابلهم؟!!

    فما دام قد خلق هذا القصر الشامخ بعلم، ونظّمه بإرادة، وزيّنه باختيار، فلابد أنه يتكلم؛ إذ كما أنَّ الباني يعلم، فالعالم يتكلم. وما دام قد جعل هذا القصر دار ضيافة جميلة بهيجة، وهذه المدينة متجراً رائعاً، فلابد أنْ يكون له كتبٌ وصحفٌ يبيّن فيها ما يريده منا، ويوضح علاقاته معنا.

    ولا شك أنَّ أكمل كتاب من تلك الكتب المقدسة التي أنـزلها، إنما هو القرآن الحكيم المعجز، الذي ثبت إعجازُه بأربعين وجهاً من وجوه الإعجاز، والذي يُتلى في كل دقيقة بألسنة مائة مليون شخص في الأقل، والذي ينشر النور ويهدي السبيل. والذي في كل حرفٍ من حروفه عشر حسنات، وعشر مثوبات في الأقل، وأحياناً عشرة آلاف حسنة، بل ثلاثين ألف حسنة، كما في ليلة القدر. وهكذا يمنح من ثمار الجنة ونور البرزخ ما شاء الله أن يمنح. فهل في الكون أجمع كتاب يناظره في هذا المقام، وهل يمكن أن يدّعي ذلك أحد قط؟

    فما دام هذا القرآن الكريم الذي بين أيدينا هو كلام رب العالمين، وهو أمره المبلّغ إلينا، وهو منبع رحمته التي وسعت كل شيء، وهو صادر من خالق السماوات والأرض ذي الجلال، من جهة ربوبيته المطلقة، ومن جهة عظمة ألوهيته، ومن جانب رحمته المحيطة الواسعة، فاستمسك به واعتصم، ففيه دواءٌ لكل داء، ونورٌ لكلِّ ظلام، ورجاء لكل يأس..

    وما مفتاح هذه الخزينة الأبدية إلّا الإيمان والتسليم، والاستماع إليه، والانقياد له، والاستمتاع بتلاوته.

    الرجاء الخامس

    في بداية شيخوختي ومستهلها، ورغبة منّى في الانـزواء والاعتزال عن الناس، بحثَت روحي عن راحة في الوحدة والعزلة على تل «يوشع» المطل على «البسفور». فلما كنت -ذات يوم- أَسرح بنظري إلى الأُفق من على ذلك التل المرتفع، رأيت بنذير الشيخوخة لوحةً من لوحات الزوال والفراق تتقطر حُزناً ورِقةً، حيث جُلتُ بنظري من قمة شجرة عمري، من الغصن الخامس والأربعين منها، إلى أن انتهيت إلى أعماق الطبقات السفلى لحياتي، فرأيت أن في كل غصن من تلك الأغصان الكائنة هناك ضمن كل سنة، جنائزَ لا تحصَر من جنائز أحبابي وأصدقائي وكل مَن له علاقة معي. فتأثرت بالغ التأثر من فراق الأحباب وافتراقهم، وترنمت بأنين «فضولي البغدادي»(∗) عند مفارقته الأحباب قائلاً:

    كلّما حنَّ الوصـال

    عَذبٌ دمعي مادام الشهيق

    لقد بحثتُ من خلال تلك الحسرات الغائرة عن باب رجاء، وعن نافذة نور، أُسلّى بها نفسي. فإذا بنور الإيمان بالآخرة يغيثني ويمدّني بنورٍ باهر. إنه منحني نوراً لا ينطفئ أبداً، ورجاءً لا يخيب مطلقاً.

    أجل يا إخواني الشيوخ ويا أخواتي العجائز! ما دامت الآخرةُ موجودةً، وما دامت هي باقية خالدة، وما دامت هي أجمل من الدنيا، وما دام الذي خلقنا حكيماً ورحيماً؛ فما علينا إذن إلّا عدم الشكوى من الشيخوخة، وعدم التضجر منها؛ ذلك لأن الشيخوخة المشرّبة بالإيمان والعبادة، والموصلة إلى سنّ الكمال، ما هي إلّا علامة انتهاء واجبات الحياة ووظائفها، وإشارة ارتحال إلى عالم الرحمة للخلود إلى الراحة. فلابدّ إذن من الرضا بها أشدّ الرضا.

    نعم، إنَّ إخبار مائة وأربعة وعشرين ألفاً من المصطَفين الأخيار وهم الأنبياء والمرسلون ([2]) عليهم الصلاة والسلام -كما نص عليه الحديث- إخباراً بالإجماع والتواتر مستندين إلى الشهود عند بعضهم وإلى حق اليقين عند آخرين، عن وجود الدار الآخرة، وإعلانهم بالإجماع أن الناس سيُساقون إليها، وأنَّ الخالق سبحانه وتعالى سيأتي بالدار الآخرة بلا ريب، مثلما وعد بذلك وعداً قاطعاً.

    وإن تصديق مائةٍ وأربعة وعشرين مليوناً من الأولياء كشفاً وشهوداً ما أخبر به هؤلاء الأنبياء عليهم السلام، وشهادتهم على وجود الآخرة بعلم اليقين، دليلٌ قاطع وأيّ دليل على وجود الآخرة..

    وكذا، فإن تجليات جميع الأسماء الحسنى لخالق الكون المتجلّية في أرجاء العالم كله، تقتضي بالبداهة وجود عالم آخر خالد، وتدل دلالة واضحة على وجود الآخرة.

    وكذا القدرةُ الإلهية وحكمتُها المطلقة، التي لا إسراف فيها ولا عبث، والتي تحيي جنائز الأشجار الميتة وهياكلها المنتصبة، تحييها وهي لا تعد ولا تحصى على سطح الأرض في كل ربيع، وفي كل سنة، بأمر ﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ وتجعلها علامة على «البعث بعد الموت» فتحشر ثلاثمائة ألف نوع من طوائف النباتات وأمم الحيوانات وتنشرها، مظهرةً بذلك مئات الألوف من نماذج الحشر والنشور ودلائل وجود الآخرة.

    وكذا الرحمة الواسعة التي تديم حياة جميع ذوي الأرواح المحتاجة إلى الرزق، وتعيّشها بكمال الرأفة عيشة خارقة للغاية. والعناية الدائمة التي تظهر أنواع الزينة والمحاسن بما لا يُعد ولا يحصى، في فترة قصيرة جداً في كل ربيع. لا شك أنهما تستلزمان وجود الآخرة بداهة.

    وكذا عشق البقاء، والشوق إلى الأبدية وآمال السرمدية المغروزة غرزاً لا انفصام لها في فطرة هذا الإنسان الذي هو أكملُ ثمرة لهذا الكون، وأحب مخلوق إلى خالق الكون، وهو أوثق صلة مع موجودات الكون كله، لاشك أنه يشير بالبداهة إلى وجود عالم باقٍ بعد هذا العالم الفاني، وإلى وجود عالم الآخرة ودار السعادة الأبدية.

    فجميع هذه الدلائل تثبت بقطعية تامة -إلى حدّ يستلزم القبول- وجود الآخرة بمثل بداهة وجود الدنيا. ([3])

    فما دام أهم درس يلقننا القرآن إيّاه هو «الإيمان بالآخرة» وهذا الدرس رصين ومتين إلى هذه الدرجة، وفي ذلك الإيمان نورٌ باهر ورجاء شديد وسلوان عظيم ما لو اجتمعت مائةً ألف شيخوخة في شخص واحد لكفاها ذلك النور، وذلك الرجاء، وذلك السلوان النابع من هذا الإيمان؛ لذا علينا نحن الشيوخ أن نفرح بشيخوختنا ونبتهج قائلين: «الحمد لله على كمال الإيمان».

    الرجاء السادس

    حينما كنت في منفاي ذلك الأسر الأليم بقيت وحدي منفرداً منعزلاً عن الناس على قمة جبل «جام» المطلة على مراعي «بارلا».. كنت أبحث عن نور في تلك العزلة. وذات ليلة، في تلك الغرفة الصغيرة غير المسقفة، المنصوبة على شجرة صنوبر عالية على قمة ذلك المرتفع،

    إذا بشيخوختي تشعرني بألوان وأنواع من الغربة المتداخلة -كما جاء ذلك في «المكتوب السادس» بوضوح- ففي سكون تلك الليلة حيث لا أثر ولا صوت سوى ذلك الصدى الحزين لحفيف الأشجار وهمهمتها.. أحسست بأن ذلك الصدى الأليم قد أصاب صميم مشاعري، ومس أعماق شيخوختي وغربتي، فهمَست الشيخوخةُ في أذني منذرةً:

    إنَّ النهار قد تبدل إلى هذا القبر الحالك، ولبست الدنيا كفنَها الأسود، فسوف يتبدل نهارُ عمرك إلى ليل، وسوف ينقلب نهار الدنيا إلى ليل البرزخ، وسوف يتحول نهار صيف الحياة إلى ليل شتاء الموت.

    فأجابتها نفسي على مضض:

    نعم، كما أنني غريبةٌ هنا عن بلدتي ونائية عن موطني، فإن مفارقتي لأحبائي الكثيرين خلال عمري الذي ناهز الخمسين ولا أملك سوى تذراف الدموع وراءهم هي غربةٌ تفوق غربتي عن موطني.. وإني لأشعر في هذه الليلة غربةً أكثر حزناً وأشد ألماً من غربتي على هذا الجبل الذي توشّح بالغربة والحزن، فشيخوختي تنذرني بدنوي من موعد فراقٍ نهائي عن الدنيا وما فيها،

    ففي هذه الغربة المكتنفة بالحزن، ومن خلال هذا الحزن الذي يمازجه الحزن، بدأتُ أبحث عن نور، وعن قبس أمل، وعن باب رجاء، وسرعان ما جاء «الإيمان بالله» لنجدتي ولشدّ أزرى، ومنحني أُنساً عظيماً بحيث لو تضاعفت آلامي ووحشتي أضعافاً مضاعفة لكان ذلك الأنس كافياً لإزالتها.

    نعم، أيها الشيوخ، ويا أيتها العجائز!.. فما دام لنا خالقٌ رحيم، فلا غربة لنا إذن أبداً.. وما دام سبحانه موجوداً فكل شيء لنا موجود إذن، وما دام هو موجوداً وملائكته موجودة. فهذه الدنيا إذن ليست خالية لا أنيس فيها ولا حسيس، وهذه الجبال الخاوية، وتلك الصحارى المقفرة كلُّها عامرة ومأهولة بعباد الله المكرمين، بالملائكة الكرام. نعم، إن نور الإيمان بالله سبحانه، والنظرة إلى الكون لأجله، يجعل الأشجار بل حتى الأحجار كأنها أصدقاءٌ مؤنسون فضلاً عن ذوي الشعور من عباده، حيث يمكن لتلك الموجودات أن تتكلم معنا -بلسان الحال- بما يسلّينا ويروّح عنا.

    نعم، إنَّ الدلائل على وجوده سبحانه بعدد موجودات هذا الكون، وبعدد حروف كتاب العالم الكبير هذا، وهناك دلائل وشواهد على رحمته بعدد أجهزة ذوي الأرواح وما خصهم من نِعَمه ومطعوماته التي هي محور الشفقة والرحمة والعناية، فجميعُها تدل على باب خالقنا الرحيم والكريم، وصانعنا الأنيس، وحامينا الودود، ولا شك أن العجز والضعف هما أرجى شفيعين عند ذلك الباب السامي. وأن عهد الشيب أوانُهما، ووقتُ ظهورهما، فعلينا إذن أن نودّ الشيخوخة، وأن نحبها، لا أن نعرض عنها؛ إذ هي شفيع مرتجى أمام ذلك الباب الرفيع.

    الرجاء السابع

    حينما تبدلت نشوة «سعيد القديم» وابتساماته إلى نحيب «سعيد الجديد» وبكائه، وذلك في بداية المشيب، دعاني أربابُ الدنيا في «أنقرة» إليها، ظناً منهم أنني «سعيد القديم» فاستجبت للدعوة.

    فذات يوم من الأيام الأخيرة للخريف، صعدت إلى قمّة «قلعة أنقرة»، التي أصابها الكبر والبلى أكثر مني، فتمثّلت تلك القلعة أمامي كأنها حوادث تاريخية متحجرة، واعتراني حزن شديد وأسى عميق من شيب السنة في موسم الخريف، ومن شيبي أنا، ومن هرم القلعة، ومن هرم البشرية ومن شيخوخة الدولة العثمانية العلية، ومن وفاة سلطنة الخلافة، ومن شيخوخة الدنيا. فاضطرتني تلك الحالة إلى النظر من ذروة تلك القلعة المرتفعة إلى أودية الماضي وشواهق المستقبل، أنقب عن نور، وأبحث عن رجاء وعزاء ينير ما كنت أحسّ به من أكثف الظلمات التي غشيت روحي هناك وهي غارقة في ليل هذا الهرم المتداخل المحيط. ([4])

    فحينما نظرت إلى اليمين الذي هو الماضي باحثاً عن نور ورجاء، بدت لي تلك الجهة من بعيد على هيئة مقبرة كبرى لأبي وأجدادي والنوع الإنساني، فأوحشتني بدلاً من أن تسلّيني .

    ثم نظرت إلى اليسار الذي هو المستقبل مفتشاً عن الدواء، فتراءى لي على صورة مقبرة كبرى مظلمة لي ولأمثالي وللجيل القابل، فأدهشني عوضاً من أن يؤنسني.

    ثم نظرت إلى زمني الحاضر بعد أن امتلأ قلبي بالوحشة من اليمين واليسار، فبدا ذلك اليوم لنظري الحسير ونظرتي التاريخية على شكل نعش لجنازة جسمي المضطرب كالمذبوح بين الموت والحياة.

    فلما يئست من هذه الجهة أيضاً، رفعت رأسي ونظرت إلى قمة شجرة عمري، فرأيت أن على تلك الشجرة ثمرة واحدة فقط، وهي تنظر إليّ، تلك هي جنازتي، فطأطأت رأسي ناظراً إلى جذور شجرة عمري،

    فرأيت أن التراب الذي هناك ما هو إلّا رميم عظامي، وتراب مبدأ خلقتي قد اختلطا معاً وامتزجا، وهما يُداسان تحت الأقدام، فأضافا إلى دائي داءً من دون أن يمنحاني دواءً.

    ثم حوّلتُ نظري على مضض إلى ما ورائي، فرأيت أن هذه الدنيا الفانية الزائلة تتدحرج في أودية العبث وتنحدر في ظلمات العدم، فسكبتْ هذه النظرة السمَّ على جروحي بدلاً من أن تواسيها بالمرهم والعلاج الشافي.

    ولما لم أجد في تلك الجهة خيراً ولا أملاً، ولّيت وجهي شطر الأمام ورنوت بنظري بعيداً، فرأيت أن القبر واقفٌ لي بالمرصاد على قارعة الطريق، فاغراً فاه، يحدق بي، وخلفَه الصراط الممتد إلى حيث الأبد، وتتراءى القوافل البشرية السائرة على ذلك الصراط من بعيد.

    وليس لي من نقطة استناد أمام هذه المصائب المدهشة التي تأتيني من الجهات الست، ولا أملك سلاحاً يدفع عني غيرَ جزء ضئيل من الإرادة الجزئية. فليس لي إذن أمام كل أولئك الأعداء الذين لا حصر لهم، والأشياء المضرة غير المحصورة، سوى السلاح الإنساني الوحيد وهو الجزء الاختياري. ولكن لما كان هذا السلاح ناقصاً وقاصراً وعاجزاً، ولا قوة له على إيجاد شيء، وليس في طوقه إلّا الكسب فحسب، حيث لا يستطيع أن يمضي إلى الزمان الماضي ويذبّ عني الأحزانَ ويسكتها، ولا يمكنه أن ينطلق إلى المستقبل حتى يمنع عنّي الأهوالَ والمخاوف الواردة منه، أيقنت ألّا جدوى منه فيما يحيط بي من آلام وآمال الماضي والمستقبل.

    وفيما كنت مضطرباً وسط الجهات الست تتوالى عليّ منها صنوف الوحشة والدهشة واليأس والظلمة، إذا بأنوار الإيمان المتألقة في وجه القرآن المعجز البيان، تمدّني وتضيء تلك الجهات الست وتنورها بأنوار باهرة ساطعة ما لو تضاعف ما انتابني من صنوف الوحشة وأنواع الظلمات مائةَ مرة، لكانت تلك الأنوار كافيةً ووافية لإحاطتها.

    فبدّلت -تلك الأنوارُ- السلسلة الطويلة من الوحشة إلى سلوان ورجاء، وحوّلت كلَّ المخاوف إلى أُنس القلب، وأمل الروح الواحدة تلو الأخرى.

    نعم، إنَّ الإيمان قد مزق تلك الصورة الرهيبة للماضي وهي كالمقبرة الكبرى، وحوّلها إلى مجلس منوّر أنوس وإلى ملتقى الأحباب، وأظهر ذلك بعين اليقين وحق اليقين...

    ثم إن الإيمان قد أظهر بعلم اليقين أن المستقبل الذي يتراءى لنا بنظر الغفلة، كقبر واسع كبير ما هو إلّا مجلس ضيافة رحمانية أُعدّت في قصور السعادة الخالدة.

    ثم إنَّ الإيمان قد حطّم صورة التابوت والنعش للزمن الحاضر التي تبدو هكذا بنظر الغفلة، وأشهدني أن اليوم الحاضر إنما هو متجر أخروي، ودار ضيافة رائعة للرحمن.

    ثم إنَّ الإيمان قد بصّرني بعلم اليقين أن ما يبدو بنظر الغفلة من الثمرة الوحيدة التي هي فوق شجرة العمر على شكل نعش وجنازة. أنها ليست كذلك، وإنما هي انطلاق لروحي -التي هي أهل للحياة الأبدية ومرشحة للسعادة الأبدية- من وكرها القديم إلى حيث آفاق النجوم للسياحة والارتياد.

    ثم إن الإيمان قد بيّن بأسراره أن عظامي ورميمها وترابَ بداية خِلقَتي، ليسا عظاماً حقيرة فانية تداس تحت الأقدام، وإنما ذلك التراب باب للرحمة، وستار لسرادق الجنة.

    ثم إن الإيمان أراني بفضل أسرار القرآن الكريم أنَّ أحوال الدنيا وأوضاعها المنهارة في ظلمات العدم بنظر الغفلة، لا تتدحرج هكذا في غياهب العدم -كما ظُنّ في بادئ الأمر- بل إنها نوع من رسائل ربانية ومكاتيب صمدانية، وصحائف نقوش للأسماء السبحانية قد أتمّت مهامَّها، وأفادت معانيها، وأخلفت عنها نتائجها في الوجود، فأعلمني الإيمان بذلك ماهيةَ الدنيا علم اليقين.

    ثم إنَّ الإيمان قد أوضح لي بنور القرآن أنَّ ذلك القبر الذي أَحدَق بي ناظراً ومنتظراً ليس هو بفوهة بئر، وإنما هو بابٌ لعالم النور. وأن ذلك الطريق المؤدي إلى الأبد ليس طريقاً ممتداً ومنتهياً بالظلمات والعدم، بل إنه سبيل سَويّ إلى عالم النور، وعالم الوجود وعالم السعادة الخالدة.. وهكذا أصبحت هذه الأحوال دواءً لدائي، ومرهماً له، حيث قد بدت واضحة جلية فأقنعتني قناعة تامة.

    ثم، إنَّ الإيمان يمنح ذلك الجزء الضئيل من الجزء الاختياري الذي يملك كسباً جزئياً للغاية، وثيقة يستند بها إلى قدرة مطلقة، وينتسب بها إلى رحمة واسعة، ضد تلك الكثرة الكاثرة من الأعداء والظلمات المحيطة، بل إن الإيمان نفسَه يكون وثيقة بيد الجزء الاختياري.

    ثم إن هذا الجزء الاختياري الذي هو السلاح الإنساني، وإن كان في حد ذاته ناقصاً عاجزاً قاصراً، إلّا أنه إذا استعمل باسم الحق سبحانه، وبُذل في سبيله، ولأجله، يمكن أن يُنال به -بمقتضى الإيمان- جنة أبدية بسعة خمسمائة سنة. مَثَلُ المؤمن في ذلك مثل الجندي إذا استعمل قوته الجزئية باسم الدولة فإنه يسهل له أن يؤدي أعمالاً تفوق قوته الشخصية بألوف المرات.

    وكما أن الإيمان يمنح الجزءَ الاختياري وثيقة، فإنه يسلب زمامه من قبضة الجسم الذي لا يستطيع النفوذ في الماضي ولا في المستقبل، ويسلّمه إلى القلب والروح، ولعدم انحصار دائرة حياة الروح والقلب في الزمن الحاضر كما هو في الجسد، ولدخول سنوات عدة من الماضي وسنوات مثلها من المستقبل في دائرة تلك الحياة، فإن ذلك الجزء الاختياري ينطلق من الجزئية مكتسباً الكلية. فكما أنه يدخل بقوة الإيمان في أعمق أودية الماضي مبدداً ظلمات الأحزان، كذلك يصعد محلقاً بنور الإيمان إلى أبعد شواهق المستقبل مزيلاً أهواله ومخاوفه.

    فيا أيها الإخوان الشيوخ، ويا أيتها الأخوات العجائز، ويا من تتألمون مثلي من تعب المشيب! ما دمنا والحمد لله من أهل الإيمان، والإيمان فيه خزائن حلوة نيرة لذيذة محبوبة إلى هذا الحد، وأن شيبنا يدفعنا إلى هذه الخزائن دفعاً أكثر، فليس لنا التشكي من الشيخوخة إذن، بل يجب علينا أن نقدم ألف شكر وشكر إلى الله عزّ وجلّ، وأن نحمده تعالى على شيبنا المنوّر بالإيمان.

    الرجاء الثامن

    حينما خالط بعضَ شعراتِ رأسي البياضُ الذي هو علامةُ الشيخوخة، وكانت أهوال الحرب العالمية الأولى وما خلَّفه الأسر لدى الروس من آثار عميقة في حياتي عمّقت فيّ نومَ غفلة الشباب. وتلا ذلك استقبالٌ رائع عند عودتي من الأسر إلى استانبول، سواءٌ من قِبل الخليفة أو شيخ الإسلام، أو القائد العام، أو من قبل طلبة العلوم الشرعية، وما قوبلت به من تكريم وحفاوة أكثر مما أستحق بكثير.. كل ذلك ولّد عندي حالةٌ روحية فضلاً عن سكرة الشباب وغفلته، وعمّقتْ فيّ ذلك النومَ أكثر، حتى تصورتُ معها أنَّ الدنيا دائمة باقية، ورأيت نفسي في حالة عجيبة من الالتصاق بالدنيا كأنني لا أموت.

    ففي هذا الوقت، ذهبت إلى «جامع بايزيد» في استانبول، وذلك في شهر رمضان المبارك لأستمع إلى القرآن الكريم من الحفّاظ المخلصين، فاستمعتُ من لسان أولئك الحفاظ ما أعلنه القرآنُ المعجز بقوة وشدة، خطابه السماوي الرفيع في موت الإنسان وزواله، ووفاة ذوي الحياة وموتهم، وذلك بنص الآية الكريمة: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَٓائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾ (الأنبياء: ٣٥). نَفَذَ هذا الإعلان الداوي صماخَ أذني مخترقاً وممزقاً طبقات النوم والغفلة والسكرة الكثيفة الغليظة حتى استقر في أعماق أعماق قلبي. فخرجتُ من الجامع، ورأيت نفسي لبضعة أيام، كأنَّ إعصاراً هائلاً يضطرم في رأسي بما بقي من آثار ذلك النوم العميق المستقر فيّ منذ أمد طويل، ورأيتُني كالسفينة التائهة بين أمواج البحر المضطربة البوصلة. كانت نفسي تتأجج بنار ذات دخان كثيف.. وكلما كنت أنظر إلى المرآة، كانت تلك الشعراتُ البيضاء تخاطبني قائلة: انتبه!!!.

    نعم، إنَّ الأمور توضحت عندي بظهور تلك الشعرات البيضاء وتذكيرها إياي، حيث شاهدت أن الشباب الذي كنت أغتر به كثيراً، بل كنت مفتوناً بأذواقه يقول لي: الوداع! وأن الحياة الدنيا التي كنت أرتبط بحبها بدأت بالانطفاء رويداً رويداً، وبدَت لي الدنيا التي كنت أتشبث بها، بل كنت مشتاقاً إليها وعاشقاً لها، رأيتها تقول لي: الوداع!! الوداع!! مشعرةً إياي، بأنني سأرحل من دار الضيافة هذه، وسأغادرها عما قريب.

    ورأيتها -أي الدنيا- هي الأخرى تقول: الوداع، وتتهيأ للرحيل. وانفتح للقلب من كلية هذه الآية الكريمة: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَٓائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾ ومن شموليتها، ذلك المعنى الذي يتضمنها وهو:

    إنَّ البشرية قاطبة إنما هي كالنفس الواحدة، فلابد أنها ستموت كي تُبعث من جديد، وإن الكرة الأرضية كذلك نفسٌ فلابد أنها سوف تموت ويصيبها البوارُ كي تتخذ هيأة البقاء وصورة الخلود، وإن الدنيا هي الأخرى نفسٌ وسوف تموت وتنقضي كي تتشكل بصورة «آخرة».

    فكرت فيما أنا فيه؛ فرأيت: أن الشباب الذي هو مدار الأذواق واللذائذ، ذاهبٌ نحو الزوال، تارك مكانه للشيخوخة التي هي منشأ الأحزان. وأن الحياة الساطعة الباهرة لفي ارتحال، ويتهيأ الموتُ المظلم المخيف -ظاهراً- ليحل محلها.

    ورأيت الدنيا التي هي محبوبة وحلوة ومعشوقة الغفاة وتُظن أنها دائمة، رأيتها تجري مسرعة إلى الفناء.

    ولكي أنغمس في الغفلة وأُخادع نفسي ولّيت نظري شطر أذواق المنـزلة الاجتماعية ومقامها الرفيع الذي حظيتُ به في استانبول والذي خُدعت به نفسي وهو فوق حدِّي وطوقي من حفاوة وإكرام وسلوان وإقبال وإعجاب.. فرأيت أن جميعها لا تصاحبني إلّا إلى حد باب القبر القريب منى، وعنده تنطفئ.

    ورأيت أنَّ رياءً ثقيلاً، وأثرَة باردة وغفلة مؤقتة، تكمن تحت الستار المزركش للسُمعة والصِيت، التي هي المثل الأعلى لأرباب الشهرة وعشاقها، ففهمت أنَّ هذه الأمور التي خدعتني حتى الآن لن تمنحني أي سلوان، ولا يمكن أن أتلمس فيها أي قبس من نور.

    ولكي أستيقظ من غفلتي مرة أخرى وأنتبه منها نهائياً، بدأتُ بالاستماع كذلك لأولئك الحفاظ الكرام في«جامع بايزيد» لأتلقى الدرس السماوي للقرآن الكريم.. وعندها سمـعتُ بـشارات ذلك الإرشاد السماوي من خلال الأوامر الربانـية المقدسة في قوله تعالى: ﴿ وَبَشِّرِ الَّذ۪ينَ اٰمَنُوا... ﴾ (البقرة: ٢٥).

    وبالفيض الذي أخذتُهُ من القرآن الكريم تحرّيت عن السلوة والرجاء والنور في تلك الأمور التي أدهشتني وحيّرتني وأوقعتني في يأسٍ ووحشة، دون البحث عنها في غيرها من الأمور. فألفَ شكر وشكر للخالق الكريم على ما وفّقني لأنْ أجد الدواءَ في الداء نفسه، وأن أرى النور في الظلمة نفسها، وأنْ أشعر بالسلوان في الألم والرعب ذاتهما.

    فنظرت أول ما نظرتُ إلى ذلك الوجه الذي يُرعِب الجميع ويُتوهم أنه مخيف جداً.. وهو وجه «الموت» فوجدت بنور القرآن الكريم، أنَّ الوجه الحقيقي للموت بالنسبة للمؤمن صبوحٌ منور، على الرغم من أن حجابه مظلمٌ والستر الذي يخفيه يكتنفه السواد القبيح المرعب. وقد أثبتنا وأوضحنا هذه الحقيقة بصورة قاطعة في كثير من الرسائل وبخاصة في «الكلمة الثامنة» و «المكتوب العشرين» من أن الموت: ليس إعداماً نهائياً، ولا هو فراقاً أبدياً، وإنما مقدمةٌ وتمهيد للحياة الأبدية وبداية لها. وهو إنهاء لأعباء مهمة الحياة ووظائفها ورخصة منها وراحة وإعفاء، وهو تبديلُ مكان بمكان، وهو وصال ولقاء مع قافلة الأحباب الذين ارتحلوا إلى عالم البرزخ.. وهكذا، بمثل هذه الحقائق شاهدت وجه الموت المليح الصبوح. فلا غرو لم أَنظر إليه خائفاً وجلاً، وإنما نظرت إليه بشيءٍ من الاشتياق -من جهة- وعرفت في حينها سراً من أسرار «رابطة الموت» التي يزاولها أهل الطرق الصوفية.

    ثم تأملت في «عهد الشباب» فرأيت أنه يُحزن الجميع بزواله، ويجعل الكل يشتاقون إليه وينبهرون به، وهو الذي يمر بالغفلة والآثام، وقد مرّ شبابي هكذا! فرأيت أن ثمة وجهاً دميماً جداً بل مُسكراً ومحيراً تحت الحُلَّة القشيبة الفضفاضة الملقاة عليه، فلو لم أكن مدركاً كنهه لكان يبكيني ويحزنني طوال حياتي الدنيا، حتى لو عمرت مائة سنة حيال بضع سنين تمضي بنشوة وابتسامة، كما قال الشاعر الباكي على شبابه بحسرة مريرة:

    فَيا لَيتَ الشَبابَ يَعودُ يَوماً فَأُخبِرَهُ بِما فَعلَ المَشيبُ ([5])

    نعم، إنَّ الذين لم يتبينوا سرَّ الشباب وماهيتَه من الشيوخ يقضون شيخوختهم بالحسرة والنحيب على عهد شبابهم كهذا الشاعر.

    والحال أن فتوة الشباب ونضارته إذا ما حلّت في المؤمن المطمئن الحصيف ذي القلب الساكن الوقور، وإذا ما صُرفَت طاقةُ الشباب وقوتُه إلى العبادة والأعمال الصالحة والتجارة الأُخروية، فإنها تصبح أعظمَ قوة للخير وتغدو أفضل وسيلة للتجارة، وأجمل وساطة للحسنات بل ألذّها.

    نعم، إنَّ عهد الشباب نفيس حقاً وثمين جداً، وهو نعمة إلهية عظمى، ونشوةٌ لذيذة لمن عرف واجبه الإسلامي ولمن لم يسئ استعماله. ولكن الشباب إن لم تصحبه الاستقامةُ، ولم ترافقه العفةُ والتقوى، فدونَه المهالكُ الوبيلة، إذ يصدّع طيشُه ونـزواته سعادةَ صاحبه الأبدية، وحياتَه الأُخروية، وربما يحطم حياته الدنيا أيضاً. فيجرّعه الآلام غصصاً طوال فترة الهرم والشيخوخة لما أخذه في بضع سنين من أذواق ولذائذ.

    ولما كان عهد الشباب لا يخلو من الضرر عند أغلب الناس، فعلينا إذن نحن الشيوخ أن نشكر الله شكراً كثيراً على ما نجّانا من مهالك الشباب وأضراره. هذا وإن لذّات الشباب زائلةٌ لا محالة، كما تزول جميع الأشياء. فلئن صُرف عهدُ الشباب للعبادة، وبذل للخير والصلاح لكان دونه ثماره الباقية الدائمة، وعنده وسيلة الفوز بشباب دائم وخالد في حياة أبدية.

    ثم نظرت إلى «الدنيا» التي عشقها أكثرُ الناس، وابتلوا بها. فرأيت بنور القرآن الكريم أن هناك ثلاث دنىً كلية قد تداخل بعضها في البعض الآخر:

    الأولى: هي الدنيا المتوجهة إلى الأسماء الإلهية الحسنى، فهي مرآة لها.

    الثانية: هي الدنيا المتوجهة نحو الآخرة، فهي مزرعتها.

    الثالثة: هي الدنيا المتوجهة إلى أرباب الدنيا وأهل الضلالة، فهي لعبة أهل الغفلة ولهوهم.

    ورأيت كذلك أن لكل أحد في هذه الدنيا دنيا عظيمة خاصة به، فهناك إذن دنىً متداخلة بعدد البشر. غير أن دنيا كل شخص قائمةٌ على حياته الشخصية، فمتى ما ينهار جسمُ شخص فإن دنياه تتهدم وقيامتُه تقوم.

    وحيث إن الغافلين لا يدركون انهدام دنياهم الخاصة بهذه السرعة الخاطفة؛ فهم يفتنون بها، ويظنونها كالدنيا العامة المستقرة من حولهم.

    فتأملت قائلاً:

    لا شك أن لي أيضاً دنيا خاصة - كدنيا غيري تتهدم بسرعة فما فائدة هذه الدنيا الخاصة إذن في عمري القصير جداً؟!.. فرأيت بنور القرآن الكريم أن هذه الدنيا -بالنسبة لي ولغيري- ما هي إلّا متجر مؤقت، ودار ضيافة تُملأ كل يوم وتخلى، وهي سوق مقامة على الطريق لتجارة الغادين والرائحين، وهي كتاب مفتوح يتجدد للبارئ المصور، فيمحو فيه ما يشاء ويثبته بحكمة. وكل ربيع فيها رسالة مرصعة مذهّبة، وكل صيف فيها قصيدةٌ منظومة رائعة، وهي مرايا تتجدد مظهرة تجليات الأسماء الحسنى للصانع الجليل، وهي مزرعة لغِراس الآخرة وحديقتها، وهي مزهرة الرحمة الإلهية، وهي مصنع موقت لتجهيز اللوحات الربانية الخالدة التي ستظهر في عالم البقاء والخلود. فشكرتُ الله الخالق الكريم أجزل شكر على خلقه الدنيا بهذه الصورة.

    بيد أن الإنسان الذي مُنح حباً مقبلاً إلى وجهَي الدنيا الحقيقيين المليحين المتوجهين إلى الأسماء الحسنى وإلى الآخرة، أخطأ المرمى وجانَب الصواب عندما استعمل تلك المحبة في غير محلها، فصرفَها إلى الوجه الفاني القبيح ذي الغفلة والضرر حتى حق عليه الحديث الشريف (حُبّ الدُّنيا رأسُ كلّ خَطيئة). ([6])

    فيا أيها الشيوخ ويا أيتها العجائز!.

    إنني رأيت هذه الحقيقة بنور القرآن الحكيم، وبتذكير من شيخوختي، وبما منحه الإيمانُ لبصيرتي من نور، وقد أثبتُّها في رسائل كثيرة مع براهين دامغة.. رأيت أن هذه الحقيقة هي السلوان الحقيقي لي، وهي الرجاء القوي والضياء الساطع.. فرضيتُ بشيخوختي وهرمي وسررت من رحيل الشباب.

    فلا تحزنوا إذن، ولا تبكوا يا إخوتي الشيوخ على شيخوختكم بل احمدوا الله واشكروه. وما دمتم تملكون الإيمان، والحقيقة تنطق هكذا، فليبكِ أولئك الغافلون، وليحزن الضالون ولينتحبوا..

    الرجاء التاسع

    كُنتُ أسيراً في أثناء الحرب العالمية الأولى في مدينة قصيّة، في شمال شرقي روسيا تدعى «قوصترما». كان هناك جامع صغير للتتار على حافة نهر «فولغا» المشهور.. كنت ضَجِراً من بين زملائي الضباط الأسرى، فآثرتُ العزلة، إلّا أنه لم يكن يُسمح لي بالتجوال في الخارج دون إذن ورخصة، ثم سُمح لي بأن أظلَّ في ذلك الجامع بضمانة أهل حيّ التتار وكفالتهم، فكنت أنام فيه وحيداً، وقد اقترب الربيع، وكانت الليالي طويلة جداً في تلك البقعة النائية..

    كان الأرقُ يصيبني كثيراً في تلك الليالي الحالكة السواد، المتسربلة بأحزان الغربة القاتمة، حيث لا يُسمع إلّا الخريرُ الحزين لنهر «فولغا»، والأصوات الرقيقة لقطرات الأمطار، ولوعةُ الفراق في صفير الرياح.. كل ذلك أيقظني -مؤقتاً- من نوم الغفلة العميق..

    ورغم أنني لم أكن أعدّ نفسي شيخاً بعدُ، ولكن من يرى الحرب شيخٌ، حيث أيامُها يشيب من هولها الولدان، وكأن سراً من أسرار الآية الكريمة: ﴿ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ ش۪يبًا ﴾ (المزمل: ١٧) قد سرى فيها. ومع أنني كنت قريباً من الأربعين إلّا أنني وجدتُ نفسي كأنني في الثمانين من عمري..

    في تلك الليالي المظلمة الطويلة الحزينة، وفي ذلك الجو الغامر بأسى الغربة، ومن واقعي المؤلم الأليم، جثم على صدري يأسٌ ثقيل نحو حياتي وموطني، فكلما التفتُّ إلى عجزي وانفرادي انقطع رجائي وأملي. ولكن جاءني المدد من القرآن الكريم.. فردد لساني:

    ﴿ حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ (آل عمران: ١٧٣)

    وقال قلبي باكياً:

    أنا غريبٌ.. أنا وحيد.. أنا ضعيف.. أنا عاجز.. أنشد الأمانَ..

    أطلب العفوَ.. أخطب العون.. في بابك يا إلهي.

    أما روحي التي تذكرت أحبابي القدامى في بلدي، وتخيلتُ موتي في هذه الغربة، فقد تمثلت بأبيات نيازي المصري، وهي التي تبحث عن صديق:

    مررت بأحزان الدنيا، وأطلقت جناحي

    للحرمان

    طائراً في شوق، صائحاً في كل لحظة:

    صديق!.. صديق..!

    على أية حال.. فقد أصبح «عجزي» و «ضعفي» في تلك الليالي المحزنة الطويلة والحالكة بالفرقة والرقة والغربة وسيلتين للتقرب إلى عتبة الرحمة الإلهية، وشفيعين لدى الحضرة الإلهية، حتى إنني لا أزال مندهشاً كيف استطعت الفرارَ بعد أيام قليلة. وقطعتُ بصورة غير متوقعة مسافة لا يمكن قطعها مشياً على الأقدام إلّا في عام كامل، ولم أكن ملمّاً باللغة الروسية. فلقد تخلصت من الأسر بصورة عجيبة محيّرة، بفضل العناية الإلهية التي أدركتني بناءً على عجزي وضعفي، ووصلت إستانبول ماراً بـ«وارشو» و«فينا». وهكذا نجوت من ذلك الأسر بسهولة تدعو إلى الدهشة، حيث أكملت سياحة الفرار الطويل بسهولة ويسر كبيرين، بحيث لم يكن لينجزها أشجع الأشخاص وأذكاهم وأمكرهم وممن يلمّون باللغة الروسية.

    ولكن حالتي في تلك الليلة التي قضيتُها في الجامع على ضفاف «فولغا» قد ألهمتني هذا القرار:

    «سأقضي بقية عمري في الكهوف والمغارات معتزلاً الناس.. كفاني تدخلاً في أمورهم. ولما كانت نهاية المطاف دخول القبر منفرداً وحيداً، فعليّ أن أختار الإنفراد والعزلة من الآن،لأعوّد نفسي عليها!.».

    نعم، هكذا قررت.. ولكن -ويا للأسف- فإن أحبابي الكثيرين المخلصين في استانبول، والحياة الاجتماعية البهيجة البرّاقة فيها، ولاسيما ما لا طائل فيه من إقبال الناس والشهرة والصيت.. كل ذلك أنساني قراري ذلك لفترة قصيرة. فكأنَّ ليلةَ الغربة تلك هي السواد المنوّر البصير لعين حياتي، وكأنَّ النهارَ البهيج لحياة إستانبول هي البياض غير البصير لعين حياتي. فلم تتمكن تلك العين من رؤية البعيد، بل غطّت ثانية في نوم عميق، حتى فتحها الشيخ الكيلاني بكتابه «فتوح الغيب» بعد سنتين.

    وهكذا أيها الشيوخ، ويا أيتها العجائز!.. اعلموا أن ما في الشيخوخة من العجز والضعف ليسا إلّا وسيلتين لدرّ الرحمة الإلهية وجلب العناية الربانية.. فإنني شاهد على هذه الحقيقة في كثير من حوادث حياتي، وإن تجلي الرحمة على سطح الأرض يظهرها كذلك بشكل واضح أبلج؛ لأنَّ أعجزَ الحيوانات وأضعفها هي صغارُها، والحال أن ألطفَ حالات الرحمة وألذَّها وأجملَها تتجلى في تلك الصغار، فعجزُ الفرخ الساكن في عشّه على شجرة باسقة، يستخدم والدته -بتجلي الرحمة- كأنها جندية تنتظر الأوامر. فتحوم حول الزروع الخضر لتجلب الرزق الوفير لفرخها الصغير، ولكن ما إن ينسى الفرخُ الصغير عجزه -بنموّ جناحَيه وتكامله- حتى تقول له والدته: عليك أن تبحث عن رزقك بنفسك. فلا تعود تستجيب لندائه بعد ذلك.

    فكما يجري سرُّ الرحمة هذا على هذه الصورة بحق الصغار، يجري كذلك من زاوية الضعف والعجز، بحق الشيوخ الذين أصبحوا في حُكم الصغار.

    ولقد أعطتني تجاربي الخاصة القناعةَ التامة أن رزقَ الصغار مثلما يأتي بناءً على عجزهم، وترسله الرحمةُ الإلهية لهم بشكل خارق، فتفجّر ينابيعَ الأثداء وتسيّلها لهم سيلاً، فإن رزق الشيوخ المؤمنين الذين اكتسبوا العصمةَ يُرسل إليهم من قبل الرحمة على صورة بركة، وأن عمود البركة لأي بيت وسندَها إنما هو أولئك الشيوخ الذين يأهلونه، وأن الذي يحفظ ذلك البيت من البلايا والمصائب إنما هم أولئك الشيوخ الركّع الذين يعمرونه. يثبت هذه الحقيقة إثباتاً كاملاً جزء من حديث شريف: (لولا الشيوخ الركع لصبّ عليكم البلاء صبّاً). ([7])

    وهكذا فما دام الضعفُ والعجز اللذان في الشيخوخة يصبحان محورين لجلب الرحمة الإلهية الواسعة، وأن القرآن الكريم يدعو الأولاد إلى الاحترام والرأفة بالوالدين في خمس مراتب، وبأسلوب غاية في الإعجاز، في قوله تعالى:

    ﴿ اِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ اَحَدُهُمَٓا اَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَٓا اُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَر۪يمًا ❀ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَان۪ي صَغ۪يرًا ﴾ (الإسراء: ٢٣-٢٤).

    وما دام الإسلام يأمر بتوقير الشيوخ والرحمة بهم، والفطرةُ الإنسانية تقضي الاحترام والرحمة تجاه الشيوخ.. فلابد لنا -نحن الشيوخ- ألّا نستبدل شيخوختنا هذه بمائة عهد من عهود الصبا؛ ذلك لأنَّ لنا فيها أذواقاً معنوية دائمة جديرة، بدلاً من الذوق المادي الناشئ من نـزوة الشباب، حيث نأخذ أذواقاً روحية نابعة من الرحمة الصادرة من العناية الإلهية ومن الاحترام النابع من فطرة الإنسانية.

    نعم، إني أُطمئنكم بأنه لو أُعطيتُ عشر سنوات من عهد شباب «سعيد القديم» فلن استبدلها بسنة واحدة من شيب «سعيد الجديد». فأنا راضٍ عن شيخوختي، فارضوا عنها أنتم كذلك..

    الرجاء العاشر

    بعدما رجعت من الأسر، سيطرت الغفلةُ عليّ مرة أخرى طوال سنتين من حياتي في إستانبول، حيث الأجواءُ السياسية وتياراتها صرفت نظري عن التأمل في نفسي، وأحدثت تشتتاً في ذهني وفكري.

    فحينما كنت جالساً ذات يوم في مقبرة أبى أيوب الأنصاري رضي الله عنه وعلى مرتفع مطلّ على وادٍ سحيق، مستغرقاً في تأمل الآفاق المحيطة باستانبول، إذا بي أرى كأن دنيايَ الخاصة أوشكت على الوفاة، حتى شعرت -خيالاً- كأنَّ الروحَ تنسل منها انسلالاً من بعض نواحيّ. فقلت: تُرى هل الكتابات الموجودة على شواهد هذه القبور هي التي دعَتني إلى هذا الخيال؟.

    أشحتُ نظري عن الخارج وأنعمت النظر في المقبرة دون الآفاق البعيدة فألقى في روعي: «أنَّ هذه المقبرة المحيطة بك تضم مائة إستانبول! حيث إن إستانبول قد أفرغت فيها مائة مرة، فلن تُستثنى أنت وحدَك من حُكم الحاكم القدير الذي أفرغ جميعَ أهالي إستانبول هنا، فأنت راحلٌ مثلهم لا محالة..!».

    غادرت المقبرة وأنا أحمل هذا الخيال المخيف، ودخلت الغرفة الصغيرة في محفل جامع أبى أيوب الأنصاري رضي الله عنه والتي كنت أدخلها مراراً في السابق فاستغرقتُ في التفكير في نفسي: إنما أنا ضيف! وضيف من ثلاثة أَوجه؛ إذ كما أنني ضيفٌ في هذه الغرفة الصغيرة، فأنا ضيفٌ كذلك في إستانبول، بل أنا ضيف في الدنيا وراحل عنها كذلك، وعلى المسافر أن يفكر في سبيله ودربه.

    نعم، كما أنني سوف أخرج من هذه الغرفة وأُغادرها، فسوف أترك إستانبول ذات يوم وأُغادرها، وسوف أخرج من الدنيا كذلك.

    وهكذا جثمتْ على قلبي وفكري وأنا في هذه الحالة، حالة أليمة محزنة مكدّرة. فلا غرو أنني لا أترك أحباباً قليلين وحدَهم، بل سأفارق أيضاً آلاف الأحبة في استانبول، بل سأغادر إستانبول الحبيبة نفسَها وسأفترق عن مئات الآلاف من الأحبة كما افترق عن الدنيا الجميلة التي أُبتلينا بها.

    ذهبتُ إلى المكان المرتفع نفسه في المقبرة مرة أخرى، فبدا لي أهالي استانبول، جنائزَ يمشون قائمين مثلما يظهر الذين ماتوا شخوصاً متحركة في الأفلام السينمائية، فقد كنت أتردد إليها أحياناً للعبرة! فقال لي خيالي: ما دام قسمٌ من الراقدين في هذه المقبرة يمكن أن يظهروا

    متحركين كالشخوص السينمائية، ففكِّر في هؤلاء الناس كذلك أنهم سيدخلون هذه المقبرة حتماً، واعتبرهم داخلين فيها من الآن.

    وبينما كنت أتقلب في تلك الحالة المحزنة المؤلمة إذا بنور من القرآن الحكيم وبإرشاد من الشيخ الكيلاني (قُدس سرّه) يقلب تلك الحالة المحزنة ويحوّلها إلى حالة مفرحة مبهجة، ذات نشوة ولذة، حيث ذكّرني النورُ القادم من القرآن الكريم ونبهني إلى ما يأتي:

    كان لك صديق أو صديقان من الضباط الأسرى عند أسرك في «قوصترما» في شمال شرقي روسيا، وكنتَ تعلم حتماً أنهما سيرجعان إلى إستانبول. ولو خَيّرك أحدُهما قائلاً: أتذهب إلى استانبول أم تريد أن تبقى هنا؟. فلا جرم أنك كنت تختار الذهاب إلى إستانبول لو كان لك مِسكة من عقل، بفرح وسرور حيث إن تسعمائة وتسعة وتسعين من ألف حبيب وحبيب لك هم الآن في إستانبول، وليس لك هنا إلّا واحد أو اثنان، وهم بدورهم سيرحلون إلى هناك. فالذهاب إلى إستانبول بالنسبة لك إذن ليس بفراق حزين، ولا بافتراق أليم.. وها أنتذا قد أتيت إليها، ألم تصبح راضياً شاكراً؟ فلقد نجوتَ من بلد الأعداء، من لياليها الطوال السوداء، ومن شتائها القارس العاصف، وقدِمت إستانبول الزاهية الجميلة، كأنها جنة الدنيا!.

    وهكذا الأمر حيث إن تسعاً وتسعين من مائة شخص ممن تحبهم منذ صغرك حتى الآن، قد ارتحلوا إلى المقبرة. تلك التي تبدو لك موحشة مدهشة، ولم يظل منهم في هذه الدنيا إلّا واحد أو اثنان، وهم في طريقهم إليها كذلك. فوفاتُك في الدنيا إذن ليست بفراق، ولا بافتراق، وإنما هي وصال ولقاء مع أولئك الأحبة الأعزاء.

    نعم إنَّ أولئك -أي الأرواح الباقية- قد تركوا مأواهم وعشهم المندرس تحت الأرض، فيسرح قسم منهم بين النجوم، وقسم آخر بين طبقات عالم البرزخ.

    وهكذا ذكّرني ذلك النور القرآني.. ولقد أثبت هذه الحقيقة إثباتاً قاطعاً كلٌّ من القرآن الكريم، والإيمان، بحيث مَن لم يفقد قلبَه وروحه، أو لم تغرقه الضلالةُ لابد أن يصدق بها كأنه يراها؛ ذلك لأن الذي زيّن هذه الدنيا بأنواع ألطافِه التي لا تحد وبأشكال آلائه التي لا تُعد مُظهراً بها ربوبيته الكريمة الرَّؤوف، حفيظاً حتى على الأشياء الصغيرة الجزئية جداً -كالبذور مثلاً- ذلك الصانع الكريم الرحيم، لابد -بل بالبداهة- لا يُفني هذا الإنسان الذي هو أكملُ مخلوقاته وأكرمُها وأجمعها وأهمّها وأحبها إليه، ولا يمحوه بالفناء والإعدام النهائي، بلا رحمة وبلا عاقبة -كما يبدو ظاهراً- ولا يضيّعه أبداً.. بل يضع الخالقُ الرحيم ذلك المخلوق المحبوب تحت التراب الذي هو باب الرحمة موقتاً، كي يعطي ثمارَه في حياة أخرى، كما يبذر الفلاح البذور على الأرض. ([8])

    وبعد أن تلقيت هذا التنبيه القرآني، باتت تلك المقبرةُ عندي مؤنسةً أكثر من إستانبول نفسها، وأصبحت الخلوة والعزلة عندي أكثر لطافة من المعاشرة والمؤانسة، مما حدا بي أن أجد مكاناً للعزلة في «صارى ير» على البسفور. وأصبح الشيخ الكيلاني رضي الله عنه أستاذاً لي وطبيباً ومرشداً بكتابه «فتوح الغيب»، وصار الإمام الرباني رضي الله عنه(∗) كذلك بمثابة أستاذ أنيس ورؤوف شفيق بكتابه «مكتوبات» فأصبحتُ راضياً كلياً وممتنّاً من دخولي المشيب، ومن عزوفي عن مظاهر الحضارة البراقة ومُتعها الزائفة، ومن انسلالي من الحياة الاجتماعية وانسحابي منها، فشكرتُ الله على ذلك كثيراً.

    فيا من يدلف إلى المشيب مثلي.. ويا من يتذكر الموت بنذير الشيب..! إنَّ علينا أن نرضى بالشيخوخة وبالموت وبالمرض، ونراها لطيفةً بنور الإيمان الذي أتى به القرآنُ الكريم، بل علينا أن نحبها -من جهة- فما دمنا نملك إيماناً وهو النعمة الكبرى، فالشيخوخةُ إذن طيبة والمرض طيب، والموت طيب أيضاً.. وليس هناك شيء قبيحٌ محض في حقيقة الأمر إلّا الإثم والسفه والبدع والضلالة.

    الرجاء الحادي عشر

    عندما رجعت من الأسر، كنت أسكن مع ابن أخي «عبد الرحمن»(∗) في قصر على قمة «چاملجة» في إستانبول. ويمكن أن تُعد هذه الحياة التي كنت أحياها حياةً مثالية من الناحية الدنيوية بالنسبة لأمثالنا؛ ذلك لأنني قد نجوت من الأسر، وكانت وسائلُ النشر مفتوحةً أمامي في«دار الحكمة الإسلامية» ([9]) وبما يناسب مهنتي العلمية، وأن الشهرة والصيت والإقبال عليّ تحفّ بي بدرجة لا أستحقها، وأنا ساكن في أجمل بقعة من استانبول «چاملجة»، وكلُّ شيء بالنسبة لي على ما يرام، حيث إن ابن أخي «عبد الرحمن» -رحمه الله- معي، وهو في منتهى الذكاء والفطنة، فهو تلميذ ومضحٍّ وخادم وكاتب معاً، حتى كنت أعدّه ابناً معنوياً لي.

    وبينما كنت أحس بأني أسعد إنسان في العالم، نظرتُ إلى المرآة، ورأيت شعيرات بيضاء في رأسي وفي لحيتي، وإذا بتلك الصحوة الروحية التي أحسست بها في الأسر في جامع «قوصترما» تبدأ بالظهور. فأخذتُ أنعم النظر وأفكر مدققاً في تلك الحالات التي كنت ارتبط بها قلبياً، وكنت أظنها أنها هي مدار السعادة الدنيوية. فما من حالة أو سبب دققت النظر فيه، إلّا رأيت أنه سبب تافه وخادع، لا يستحق التعلق به، ولا الارتباط معه. فضلاً عن ذلك وجدت في تلك الأثناء عدم الوفاء وفقدان الصداقة من صديق حميم، يُعدّ من أوفى الأصدقاء لي، وبشكل غير متوقع وبصورة لا تخطر على بال.. كل ذلك أدى إلى النفرة والامتعاض من الحياة الدنيا، فقلت لقلبي:

    - يا تُرى هل أنا منخدع كلياً؛ فأرى الكثيرين ينظرون إلى حياتنا التي يُرثى لها من زاوية الحقيقة نظرَ الغبطة؟ فهل جُنَّ جنون جميع هؤلاء الناس؟ أم أنا في طريقي إلى الجنون، لرؤيتي هؤلاء المفتونين بالدنيا مجانينَ بُلهاء؟! وعلى كل حال..

    فالصحوة الشديدة التي صحوتها برؤية الشيب جعلتني أرى أولاً: فناء ما أرتبط به من الأشياء المعرّضة للفناء والزوال!!

    ثم التفتّ إلى نفسي، فوجدتُها في منتهى العجز!.. عندها صرختْ روحي وهي التي تنشد البقاء دون الفناء وتتشبث بالأشياء الفانية متوهمةً فيها البقاء، صرخت من أعماقها: «مادمتُ فانيةً جسماً فأي فائدة أرجوها من هذه الفانيات؟ وما دمتُ عاجزةً فماذا انتظر من العاجزين؟.. فليس لدائي دواءٌ إلّا عند الباقي السرمدي، عند القدير الأزلي» فبدأت أبحث وأستقصي..

    راجعت أولَ ما راجعت، تلك العلوم التي اكتسبتها سابقاً، أبحث فيها السلوة والرجاء. ولكن كنت -ويا للاسف- إلى ذلك الوقت مغترفاً من العلوم الإسلامية مع العلوم الفلسفية ظناً مني -ظناً خطأً جداً- أن تلك العلوم الفلسفية هي مصدرُ الرُّقي والتكامل ومحور الثقافة وتنوّر الفكر، بينما تلك المسائل الفلسفية هي التي لوثَت روحي كثيراً، بل أصبحت عائقةً أمام سموي المعنوي.

    نعم، بينما كنت في هذه الحالة، إذا بحكمة القرآن المقدسة تسعفني، رحمةً من العلي القدير، وفضلاً وكرماً من عنده سبحانه.

    فغسلتْ أدرانَ تلك المسائل الفلسفية، وطهّرتْ روحي منها -كما هو مبيّن في كثير من الرسائل- إذ كان الظلام الروحي المنبثق من العلوم الفلسفية، يُغرق روحي ويطمسها في الكائنات، فأينما كنت أتوجّه بنظري في تلك المسائل فلا أرى نوراً ولا أجد قبساً، ولم أتمكن من التنفس والانشراح، حتى جاء نورُ التوحيد الساطع النابع من القرآن الكريم الذي يلقّن «لا اله إلّا هو» فمزّق ذلك الظلام وبدّده. فانشرح صدري وتنفس بكل راحة واطمئنان.. ولكن النفس والشيطان، شنّا هجوماً عنيفاً على العقل والقلب وذلك بما أخذاه من تعليمات وتلقّياه من دروس من أهل الضلالة والفلسفة. فبدأت المناظرةُ النفسية في هذا الهجوم حتى اختتمت -ولله الحمد والمنّة- بانتصار القلب وفوزه.

    ولما كان قسم من تلك المناظرات قد ورد في أغلب الرسائل، فنحن نكتفي به، إلّا أننا نبين هنا برهاناً واحداً فقط من بين آلاف البراهين، لنبين انتصار القلب وفوزه على النفس والشيطان، وليقوم ذلك البرهان بتطهير أرواح أولئك الشيوخ الذين لوّثوا أرواحهم، وأسقموا قلوبَهم، وأطغوا أنفسهم، حتى تجاوزت حدودَها، تارة بالضلالة، وتارة بما لا يعنيهم من أمور تتستر تحت ستار العلوم الأجنبية والفنون الحضارية، ولينجوا -بإذن الله- في حق التوحيد، من شرور النفس والشيطان. والمناظرة هي كالآتي:

    قالت نفسي مستفسرةً باسم العلوم الفلسفية المادية: «إن الأشياء الموجودة في الكون، بطبيعتها تتدخل في الموجودات، فكل شيء متوجّهٌ إلى سبب وصادر منه، فالثمرةُ تؤخذ من الشجرة، والحبوبُ تُطلب من التراب، فماذا يعني التضرع إلى الله وطلب أصغر شيء وأكثره جزئية منه سبحانه؟!».

    انكشف حالاً سرُّ التوحيد بنور القرآن الكريم بالصورة الآتية:

    أجاب قلبي لنفسي المتفلسفة: إن أصغرَ شيء وأكثرَه جزئية إنما هو كأكبرِ شيء وأعظمِه، فهو يصدر من قدرة خالق الكائنات مباشرة، ويأتي من خزينته سبحانه.. فليس هناك صورة أخرى قط، وما الأسباب إلّا ستائر؛ ذلك لأنَّ أصغر المخلوقات وأتفهَها -حسب ظننا- قد يكون أعظمَ من أكبر المخلوقات وأضخمها، من حيث الخلقة والصنعة والإتقان. فالذباب مثلاً، إن لم يكن أدقَّ وأرقى من حيث الصنعة من الدجاج فليس هو بقاصر عنها، لهذا لا يمكن التمييزُ بين الصغير والكبير من حيث الخلقة والصنعة فإما أن يُنسَب خلقُ الجميع -صغيرُه وكبيرُه- إلى الأسباب المادية، وإما أن يُسنَد الخلق جميعاً إلى الواحد الأحد. ومثلما أن الشق الأول محالٌ في محال، فإن الشق الثاني واجب الاعتقاد به وضروري.

    لأنه:

    ما دام علمُ الله سبحانه وتعالى يحيط بكل شيءٍ، والذي هو ثابت وجودُه بشكل قاطع بانتظام جميع الموجودات والحِكَم التي فيها.. وما دام كل شيء يتعيّن مقدارُه في علمه سبحانه.. وما دامت المصنوعات والمخلوقات وهي في منتهى الروعة والإتقان تأتي بمنتهى السهولة إلى الوجود من العدم كل حين كما هو مشاهَد.. ومادام ذلك القدير العليم يملك قدرة مطلقة يمكنه أن يوجِد كلَّ شيء بأمر «كن فيكون» وفي لمح البصر.. كما بيّنا ذلك في كثير من الرسائل بدلائل قاطعة ولاسيما في «المكتوب العشرين» وختام «اللمعة الثالثة والعشرين». فلابد أن السهولة المطلقة المشاهَدة، والخارقة للعادة، ما هي إلّا من تلك الإحاطة العلمية ومن عظمة تلك القدرة المطلقة.

    مثلاً: كما أنه إذا أمررتَ مادة كيمياوية معينة على كتاب كُتب بحبر كيمياوي لا يُرى، فإن ذلك الكتاب الضخم يظهر عياناً حتى يستقرئ كلَّ ناظر اليه، كذلك يتعين مقدارُ كل شيء وصورتُه الخاصة به في العلم المحيط للقدير الأزلي، فيمرر القديرُ المطلق قوته -التي هي تجلٍ من قدرته- بكل سهولة ويسر، كإمرار تلك المادة في المثال، على تلك الماهية العلمية، يمرره بأمر «كنْ فيكون»، وبقدرته المطلقة تلك، وبإرادته النافذة.. فيعطي سبحانه ذلك الشيء وجوداً خارجياً، مُظهراً إياه أمام الأشهاد، مما يجعلهم يقرؤون ما فيه من نقوش حكمته..

    ولكن إنْ لم يُسند خلقُ جميع الأشياء دفعةً واحدة إلى العليم المطلق وإلى القدير الأزلي، فإن خلق أصغر شيء عندئذ -كالذباب مثلاً- يستلزم جمعَ جميع ما له علاقة بالذباب من أكثر أنواع العالم، جمعَه بميزان خاص ودقيق جداً، أي جمع كل ذلك في جسم الذباب، بل ينبغي أن تكون كلُّ ذرةٍ عاملةٍ في جسم الذباب عالمةً تمام العلم بسرّ خلق الذباب وحكمة وجوده، بل ينبغي أن تكون متقنةً لروعة الصنعة التي فيها بدقائقها وتفاصيلها كافة.

    ولما كانت الأسبابُ المادية أو الطبيعية لا يمكنها أن تخلق شيئاً من العدم مطلقاً كما هو بدهي ومتفق عليه عند أرباب العقول؛ لذا فإن تلك الأسباب حتى لو تمكّنت من الإيجاد فإنها لا تتمكن من ذلك إلّا بالجمع. فما دامت ستقوم بالجمع، وإن الكائن الحي -أياً كان- ينطوي على أغلب نماذج ما في العالم من عناصر وأنواع، وكأنه خلاصةُ الكائنات أو بذرتُها، فلابد إذن من جمع ذرات البذرة من شجرة كاملة، وجمع عناصر الكائن الحي وذراته من أرجاء العالم أجمع، وذلك بعد تصفيتها وتنظيمها وتقديرها بدقة وإتقان حسب موازينَ خاصة ووفق مصافٍ حساسة ودقيقة جداً..

    ولكون الأسباب المادية الطبيعية جاهلةً وجامدةً، فلا علم لها مطلقاً كي تقدّر خطة، وتنظّم منهاجاً، وتنسق فهرساً، وكي تتعامل مع الذرات وفق قوالب معنوية، مصهرة إياها في تلك القوالب لتمنعها من التفرق والتشتت واختلال النظام. بينما يمكن أن يكون شكلُ كلِّ شيء وهيئته ضمن أنماط لا تُحد.. لذا فإن إعطاء شكل معين واحد من بين تلك الأشكال غير المحدودة، وتنظيم ذلك الشيء بمقدار معين ضمن تلك المقادير غير المعدودة، دون أن تتبعثر ذراتُ العناصر الجارية كالسيل وبانتظام كامل. ثم بناؤها وعمارتها بعضها فوق بعض بلا قوالب خاصة وبلا تعيين المقادير، ثم إعطاء الكائن الحي وجوداً منتظماً منسقاً.. كل هذا أمرٌ واضح أنه خارجٌ عن حدود الإمكان، بل خارج عن حدود العقل والاحتمال! فالذي لم يفقد بصيرته يرى ذلك بجلاء!

    نعم، وتوضيحاً لهذه الحقيقة فقد جاء في القرآن الكريم: ﴿ اِنَّ الَّذ۪ينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّٰهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ﴾ (الحج: ٧٣). أي إذا اجتمعت الأسبابُ المادية كافة لا يمكنها أن تجمع وتنسق جسم ذبابة واحدة وأجهزتها وفق موازين دقيقة خاصة حتى لو أوتيت تلك الأسباب إرادةً واختياراً، بل حتى لو تمكنت من تكوين جسم ذباب وجمعه فإنها لا تستطيع إبقاءه وإدامته على مقداره المعين له، بل حتى لو تمكنت من إبقائه بالمقدار المعين فلن تستطيع أن تحرك بانتظام تلك الذرات التي تتجدد دوماً وترد إلى ذلك الوجود لتسعى فيه؛ لذا فمن البداهة أنَّ الأسباب لن تكون مالكةً لهذه الأشياء ولن تكون صاحبتَها مطلقاً. إنما صاحبُها الحقيقي هو غيرُ الأسباب..

    نعم، إنَّ لها مالكاً وصاحباً حقيقياً بحيث إن إحياء ما على الأرض من كائنات سهلٌ عليه ويسير، كإحياء ذبابة واحدة. وإيجادُ الربيع عنده سهلٌ وهينٌ كسهولة إيجاد زهرة واحدة.. كما تبينه الآية الكريمة: ﴿ مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ اِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ (لقمان: ٢٨) ذلك لأنه غير محتاج إلى الجمع، حيث إنه مالك لأمر ﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ .. ولأنه يخلق من العدم في كل ربيع أحوالَ موجودات الربيع وصفاتِها وأشكالَها، مما سوى عناصرها.. ولأن خطة كل شيء ونموذجَه وفهرسه ومخططه متعينٌ في علمه سبحانه.. ولأنَّ جميع الذرات لا تتحرك إلّا ضمن دائرة علمه وقدرته؛ لذا فإنه يخلق كل شيء ويوجِده إيجاداً بلمح البصر وفي منتهى اليُسر، ولن يحيد شيءٌ عمّا أُنيط به في حركته ولو بمقدار ذرة. فتغدو الكواكب السيارة جيشاً منظماً طائعاً له، وتصبح الذرات جنوداً مطيعين لأمره،

    وحيث إن الجميع يسيرون على وفق تلك القدرة الأزلية ويتحركون وفق دساتير ذلك العلم الأزلي؛ لذا فإن هذه الآثار تأتي إلى الوجود حسب تلك القدرة، فلا تصغُر تلك الآثار بنظر الاستصغار، ولا تكون مهملة بعدم الاهتمام بها؛ إذ الذبابةُ المنتسبة إلى تلك القدرة تهلك نمروداً، والنملة تُدمِّرُ قصر فرعون، وبذرةُ الصنوبر المتناهية في الصغر تحمل على أكتافها ثقلَ شجرة الصنوبر الضخمة كالجبل. فكما أننا أثبتنا هذه الحقيقة في رسائل كثيرة فإننا نقول هنا كذلك: إنَّ الجندي المنتسب إلى السلطان بالجندية يمكنه أن يقوم بأعمال تفوق طاقته ألف مرة، كأنْ يأسر مثلاً قائداً عظيماً للعدو بانتسابه، كذلك فإن كل شيء بانتسابه إلى تلك القدرة الأزلية يكون مصدراً لمعجزات الصنعة والإتقان بما تفوق تلك الأسبابَ الطبيعية بمائة ألف مرة.

    الخلاصة: إنَّ الصنعة المتقنة البديعة لكل شيء، والسهولة المطلقة في إيجاده، تظهران معاً أن ذلك الشيء من آثار القدير الأزلي ذي العلم المحيط، وإلّا فهو محال في مائة محال ورود ذلك الشيء إلى الوجود، بل يكون -عندئذٍ- خارجاً عن دائرة الإمكان وداخلاً في دائرة الامتناع، بل خارجاً من صورة الممكن إلى صورة الممتنع وماهية الممتنع، بل لا يمكن أن يرد -عندئذ- شيء مهما كان إلى الوجود مطلقاً.

    وهكذا فإن هذا البرهان وهو في منتهى القوة والدقة، ومنتهى العمق والوضوح قد أسكت نفسي التي أصبحت تلميذةً مؤقتة للشيطان، ووكيلة لأهل الضلالة والفلسفة، حتى آمنت -ولله الحمد- إيماناً راسخاً، وقالت:

    نعم، إنه ينبغي أن يكون لي ربٌ خالق يعلم ويسمع أدقّ خواطر قلبي وأخفى رجائي ودعائي. ويكون ذا قدرة مطلقة فيسعف أخفى حاجات روحي ويستبدل كذلك بهذه الدنيا الضخمة دنيا أخرى غيرها ليسعدني سعادة أبدية فيقيم الآخرة بعدما يرفع هذه الدنيا، وكما أنه يخلق الذباب فإنه يوجِد السماوات إيجاداً أيضاً. وكما أنه رصّع وجه السماء بعين الشمس جعل من الذرة ترصيعاً في بؤبؤ عيني. وإلّا فإن الذي لا يستطيع أن يخلق ذباباً لا يمكنه أن يتدخل في خواطر قلبي، ولن يسمع تضرع روحي. وإن الذي لا يستطيع أن يخلق السماوات لا يمكنه أن يهبني السعادة الأبدية؛ لذا فإن ربي إنما هو الذي يسمع -بل يصلح- خواطر قلبي، فمثلما أنه يملأ جو السماء بالغيوم ويفرغها منه خلال ساعة فإنه سيبدّل الآخرة بهذه الدنيا ويعمّر الجنة ويفتح أبوابها لي قائلاً: هيا أدخل!

    فيا إخوتي الشيوخ، ويا مَن صرفتم جزءاً من عمركم بسوء حظ النفس وشقائها -مثل نفسي- في مغالطات العلوم الأجنبية والفلسفة المظلمة.. اعلموا أن الذي يردده القرآن دوماً من «لا إله إلّا هو» ذلك الأمر القدسي، ركن إيماني لا يتزلزل ولا يتصدع ولا يتغير أبداً!! فما أقواه وما أصوبَه! حيث يبدد جميع الظلمات ويضمد الجراحات المعنوية.

    هذا وإن درج هذه الحادثة المطولة ضمن أبواب الرجاء والأمل لشيخوختي، لم يكن باختياري، بل لم أكن أرغب درجها هنا، تحاشياً من الملل، إلّا أنني أستطيع أن أقول قد كُتّبتها وأُملِيَتْ عليَّ.. وعلى كل.. لنرجع إلى الموضوع الذي نحن بصدده:

    نعم، هكذا جاءني النفور من تلك الحياة الدنيوية البهيجة في استانبول التي ظاهرها اللذة، من ذلك التأمل والنظر في شعيرات بيضاء لرأسي ولحيتي، ومن عدم الوفاء الذي بدر من الصديق الوفي المخلص.. حتى بدأت النفسُ بالبحث والتحري عن أذواق معنوية بدلاً عما افتتنتْ به من أذواق، فطلبت نوراً وسلواناً في هذه الشيخوخة التي تبدو ثقيلة ومزعجة ومَقِيتةً في نظر الغافلين. فلله الحمد والمنّة وألف شكر وشكر له سبحانه أن وفقني لوجدان تلك الأذواق الإيمانية الحقيقية الدائمة في «لا إله إلّا هو» وفي نور التوحيد بدلاً من تلك الأذواق الدنيوية التي لا حقيقة لها ولا لذة فيها، بل لا خير في عقباها. وله الحمد أن وفقني كذلك لأجد الشيخوخة خفيفة الظل أتنعم بدفئها ونورها بخلاف ما يراه أهلُ الغفلة من ثقل وبرودة.

    نعم يا إخوتي! فما دمتم تملكون الإيمان، وما دامت لديكم الصلوات والدعاء اللذان ينوران الإيمان، بل ينميانه ويصقلانه.. فإنكم تستطيعون إذن أن تنظروا إلى شيخوختكم كأنها شباب دائم، بما تكسبون بها شباباً في دار الخلود، حيث إن الشيخوخة الباردة حقاً، والثقيلةَ جداً، والقبيحة، بل المظلمة والمؤلمة تماماً ليست إلّا شيخوخةَ أهل الضلالة، بل ربما عهد شبابهم كذلك.. فليبكوا.. ولينتحبوا.. وليقولوا: وا أسفاه.. وا حسرتاه!!

    أما أنتم أيها الشيوخ المؤمنون الموقرون فعليكم أن تشكروا ربكم بكل فرح وسرور قائلين: «الحمد لله على كل حال!».

    الرجاء الثاني عشر

    بينما كنت وحيداً بلا معين في «بارلا» تلك الناحية التابعة لمحافظة «اسبارطة» أعاني الأسر المعذّب المسمى بالنفي، ممنوعاً من الاختلاط بالناس، بل حتى من المراسلة مع أيٍّ كان، فوق ما كنت فيه من المرض والشيخوخة والغربة.. فبينما كنت اضطرب من هذه الحالة وأقاسي الحزن المرير إذا بنور مسلٍّ يشعّ من الأسرار اللطيفة للقرآن الكريم ومن نكاته الدقيقة، يتفضل الحق سبحانه به علىَّ برحمته الكاملة الواسعة، فكنتُ أَعمل جاهداً بذلك النور لتناسي ما أنا فيه من الحالة المؤلمة المحزنة، حتى استطعت نسيان بلدتي وأحبتي وأقاربي.. ولكن -يا حسرتاه- لم أتمكن من نسيان واحد منهم أبداً وهو ابن أخي، بل ابني المعنوي، وتلميذي المخلص وصديقي الشجاع «عبد الرحمن» تغمده الله برحمته الذي فارقني قبل حوالي سبع سنوات، ولا أعلم حالَه كي أراسله وأتحدث معه ونتشارك في الآلام، ولا هو يعلم مكاني كي يسعى لخدمتي وتسليتي. نعم لقد كنت في أمس الحاجة -ولاسيّما في الشيخوخة هذه- إلى من هو مثل «عبدالرحمن».. ذلك الفدائي الصادق..

    وذات يوم وفجأة سلّمني أحدهم رسالة، ما إن فتحتها حتى تبيّن لي أنها رسالة تُظهر شخصية «عبدالرحمن» تماماً وقد أُدرج قسم من تلك الرسالة ضمن فقرات «المكتوب السابع والعشرين» بما يظهر ثلاث كرامات واضحة.

    لقد أبكتني تلك الرسالة كثيراً ولا تزال تبكيني، حيث يبيّن فيها «عبدالرحمن» بكل صدق وجدّ أنه قد عزف عزوفاً تاماً عن الأذواق الدنيوية وعن لذائذها، وأن أقصى ما يتمناه هو الوصول إليّ ليقوم برعايتي في شيخوختي هذه مثلما كنتُ أرعاه في صغره، وأن يساعدني بقلمه السيّال في وظيفتي ومهمّتي الحقيقية في الدنيا، وهي نشر أسرار القرآن الكريم، حتى إنه كان يقول في رسالته: ابعث إليّ ما يقرب من ثلاثين رسالة كي أكتب وأستكتب من كل منها ثلاثين نسخة.

    لقد شدّتني هذه الرسالة إلى الدنيا بأمل قوي شديد، فقلت في نفسي: ها قد وجدتُ تلميذي المخلص الشجاع، ذا الذكاء الخارق، وذا الوفاء الخالص، والارتباط الوثيق الذي يفوق وفاء الابن الحقيقي وارتباطه بوالده. فسوف يقوم -بإذن الله- برعايتي وخدمتي، بل حتى إنني بهذا الأمل نسيت ما كنت فيه من الأسر المؤلم ومن عدم وجود معين لي، بل نسيت حتى الغربة والشيخوخة! وكأن «عبدالرحمن» قد كتب تلك الرسالة بإيمان في منتهى القوة وفي غاية اللمعان وهو ينتظر أجله، إذ استطاع أن يحصل على نسخة مطبوعة من «الكلمة العاشرة» التي كنت قد طبعتها وهي تبحث عن الإيمان بالآخرة. فكانت تلك الرسالة بلسماً شافياً له حيث ضمّدت جميعَ جراحاته المعنوية التي عاناها عبر سبع سنوات خلت.

    وبعد مضي حوالي شهرين وأنا أعيش في ذلك الأمل لنعيش معاً حياة دنيوية سعيدة.. إذا بي أُفاجأ بنبأ وفاته، فيا أسفاه.. ويا حسرتاه.. لقد هزّني هذا الخبر هزاً عنيفاً، حتى إنني لا أزال تحت تأثيره منذ خمس سنوات، وأورثني حزناً شديداً وألماً عميقاً للفراق المؤلم، يفوق ما كنت أعانيه من ألم الأسر المعذّب وألم الإنفراد والغربة الموحشة وألم الشيخوخة والمرض.

    كنت أقول: إنَّ نصف دنياي الخاصة قد انهدَّ بوفاة أمي، بيد أنى رأيت أن النصف الآخر قد توفي أيضاً بوفاة «عبد الرحمن»، فلم تبقَ لي إذن علاقة مع الدنيا.. نعم لو كان «عبدالرحمن» يظل معي في الدنيا لأصبح محوراً تدور حوله وظيفتي الأخروية في الدنيا ولغدا خير خَلف لي، ولحلّ مكاني من بعدي، ولكان صديقاً وفياً بل مدار سلوان لي وأنس، ولبات أذكى تلميذ لرسائل النور، والأمين المخلص المحافظ عليها..

    فضياعٌ مثل هذا الضياع -باعتبار الإنسانية- لهو ضياع محرق مؤلم لأمثالي. ورغم أنني كنت أبذل الوسع لأتصبّر وأتحمل ما كنت أعانيه من الآلام إلّا أنه كانت هناك عاصفةٌ قوية جداً تعصف بأقطار روحي، فلولا ذلك السلوان النابع من نور القرآن الكريم يفيض عليَّ أحياناً لَمَا كان لمثلي أن يتحمل ويثبت.

    كنت أذهب وأسرح في وديان «بارلا» وأجول في جبالها وحيداً منفرداً وأجلس في أماكن خالية منعزلة، حاملاً تلك الهموم والآلام المحزنة، فكانت تمر من أمامي لوحاتُ الحياة السعيدة ومناظرُها اللطيفة التي كنت قد قضيتها مع طلابي -أمثال «عبد الرحمن»- كالفلم السينمائي. فكلما مرّت تلك اللوحاتُ أمام خيالي، سلبتْ من شدة مقاومتي وفتّ في عضدي سرعةُ التأثر النابعة من الشيخوخة والغربة.

    ولكن على حين غرّة انكشف سرُّ الآية الكريمة: ﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ اِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَاِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ (القصص: ٨٨). انكشافاً بيّناً بحيث جعلني أردّد: يا باقي أنت الباقي، يا باقي أنت الباقي.. وبه أخذت السلوان الحقيقي.

    أجل، رأيت نفسي بسرّ هذه الآية الكريمة، وعبر تلك الوديان الخالية، ومع تلك الحالة المؤلمة، رأيتها على رأس ثلاث جنائز كبرى كما أشرتُ إليها في رسالة «مرقاة السنّة»:

    الأولى: رأيت نفسي كشاهد قبرٍ يضم خمساً وخمسين سعيداً ماتوا ودفنوا في حياتي، وضمن عمري الذي يناهز الخامسة والخمسين سنة.

    الثانية: رأيت نفسي كالكائن الحي الصغير جداً -كالنملة- يدب على وجه هذا العصر الذي هو بمثابة شاهد قبر للجنازة العظمى لمن هم بنو جنسي ونوعي، والذين دفنوا في قبر الماضي منذ زمن آدم عليه السلام.

    أما الثالثة: فقد تجسّم أمام خيالي -بسرّ هذه الآية الكريمة- موتُ هذه الدنيا الضخمة، مثلما تموت دنيا سيارة من على وجه الدنيا كل سنة كما يموت الإنسان..

    وهكذا فقد أغاثني المعنى الإشاري للآية الكريمة: ﴿ فَاِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللّٰهُ لَٓا اِلٰهَ اِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظ۪يمِ ﴾ (التوبة: ١٢٩) وأمدَّني بنور لا يخبو، فبدد ما كنت أعانيه من الحزن النابع من وفاة «عبد الرحمن» واهباً لي التسريَة والتسلية الحقيقية.

    نعم لقد علمتني هذه الآيةُ الكريمة أنه مادام الله سبحانه وتعالى موجوداً فهو البديل عن كل شيء، وما دام باقياً فهو كافٍ عبدَه، حيث إن تجلياً واحداً من تجليات عنايته سبحانه يعدل العالم كله، وإن تجلياً من تجليات نوره العميم يمنح تلك الجنائز الثلاث حياةً معنوية أيما حياة، بحيث تظهر أنها ليست جنائز، بل ممن أنهوا مهامهم ووظائفهم على هذه الأرض فارتحلوا إلى عالم آخر.

    ولما كنا قد أوضحنا هذا السرّ والحكمة في «اللمعة الثالثة» أراني هنا في غير حاجة إلى مزيدٍ من التوضيح، إلّا أنني أقول:

    إنَّ الذي نجّاني من تلك الحالة المحزنة المؤلمة، تكراري لـ«ياباقي أنت الباقي.. ياباقي أنت الباقي» مرتين والذي هو معنى الآية الكريمة: ﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ اِلَّا وَجْهَهُ ﴾ وتوضيح ذلك:

    أنني عندما قلت: «يا باقي أنت الباقي» للمرة الأولى، بدأ التداوي والضماد بما يشبه العمليات الجراحية على تلك الجروح المعنوية غير المحدودة الناشئة من زوال الدنيا وزوال مَنْ فيها من الأحبّة -من أمثال «عبدالرحمن»- والمتولدة من انفراط عقد الروابط التي أرتبط بها معهم.

    أما في المرة الثانية فقد أصبحت جملة «ياباقي أنت الباقي» مرهماً لجميع تلك الجروح المعنوية، بلسماً شافياً لها، وذلك بالتأمل في المعنى الآتي:

    ليرحل مَن يرحل يا إلهي فأنت الباقي وأنت الكافي، وما دمتَ باقياً فَلَتجلٍّ من تجليات رحمتك كافٍ لكل شيء يزول، وما دمتَ موجوداً فكل شيء إذن موجودٌ لمن يدرك معنى انتسابه إليك بالإيمان بوجودك ويتحرك على وفق ذلك الانتساب بسر الإسلام، فليس الفناء والزوال ولا الموت والعدم إلّا ستائر للتجديد، وإلّا وسيلةٌ للتجول في منازل مختلفة والسير فيها.. فانقلبتْ بهذا التفكير تلك الحالة الروحية المحرقة الحزينة، وتلك الحالة المظلمة المرعبة إلى حالة مسرّة بهيجة ولذيذة، وإلى حالة منورة محبوبة مؤنسة. فأصبح لساني وقلبي بل كلُّ ذرّة من ذرات جسمي، يردد بلسان الحال قائلاً: الحمد لله.

    ولقد تجلى جزء من ألف جزء من ذلك التجلّي للرحمة بهذه الصورة:

    عندما رجعت من موطن حزني.. من تلك الوديان، إلى «بارلا» حاملاً معي تلك الأحزان، رأيت شاباً يدعى «مصطفى قوله أونلى» قد أتاني مستفسراً عن بعض ما يشغله من مسائل الفقه والوضوء والصلاة.. فرغم أنني لم أكن أَستقبل الضيوف في تلك الفترة إلّا أن روحي كأنها قد قرأت ما في روح ذلك الشاب من الإخلاص، وكأنها شعرت -بحسٍّ قبل الوقوع- ما سوف يؤديه هذا الشاب من خدمات لرسائل النور في المستقبل، ([10]) لذا لم أردّه وقبلته ضيفاً ([11])

    ثم تبيّن لي أن الله سبحانه وتعالى قد عوّضني بهذا الشاب عن «عبدالرحمن» الذي هو خير خَلف لي ويفي بمهمة الوارث الحقيقي في خدمة رسالة النور. وبعث سبحانه وتعالى إليّ «مصطفى» وكأنه يقول: أخذت منك عبداً للرحمن واحداً وسأعوضك عنه بثلاثين «عبدالرحمن» كهذا الشاب «مصطفى» ممن يسعون في تلك الوظيفة الدينية، وسيكونون لك طلاباً أوفياء، وأبناءَ أخ كرماء، وأولاداً معنويين، وإخوة طيبين، وأصدقاء فدائيين مضحيّن..

    نعم.. ولله الحمد فقد وهبني البارئ عز وجل ثلاثين عبداً للرحمن،

    وعندها خاطبت قلبي: مادمتَ يا قلبي الباكي المكلوم قد رأيت هذا النموذج وهذا المثال وضمدتَ به أهم جرح من تلك الجروح المعنوية، فعليك أن تسكن وتطمئن بأن الله سبحانه سيضمد الجروح الباقية التي تقلقك وتتألم منها..

    فيا أيها الإخوة الشيوخ ويا أيتها الأخوات العجائز.. ويا مَن فقدتم مثلي أحبَّ ولده إليه زمن الشيخوخة أو فارقه أحدُ أقاربه.. ويا من يثقل كاهلَه وطأة الشيخوخة ويحمل معها على رأسه الهمومَ الثقيلة الناشئة من الفراق! لقد علمتم وضعي وعرفتم حالي فإنه رغم شدّته بأضعاف ما عندكم من أوضاع وحالات، إلّا أن هذه الآية الكريمة قد ضمدته وأسعفته فشفته بإذن الله، فلا شك في أن صيدلية القرآن المقدسة زاخرةٌ بعلاج كل مرض من أمراضكم ودواء كل سقم من أسقامكم. فإذا استطعتم مراجعتها بالإيمان، وقمتم بالتداوي والعلاج بالعبادة، فلابُدَّ أن تخف وطأة ما تحملون على كاهلكم من أثقال الشيخوخة وما يثقل رؤوسكم من هموم.

    هذا وإن سبب كتابة هذا البحث كتابة مطوّلة هو رجاء الإكثار من طلب الدعاء للمرحوم «عبدالرحمن». فلا تملّوا ولا تسأموا من طوله. وإن قصدي من إظهار جرحي المخيف بهذه الصورة المفجعة المؤلمة، فتتألمون أكثر وتحزنون حتى إنه قد يؤدي إلى زيادة آلامكم وأحزانكم فتنفرون منه، ليس إلّا لبيان ما في البلسم القرآني المقدس من شفاء خارق ومن نور باهر ساطع .

    الرجاء الثالث عشر

    ([12])

    سأبحث في هذا الرجاء عن لوحة مهمة من لوحات وقائع حياتي، فالرجاء ألّا تسأموا وتضجروا من طولها.

    بعدما نجوت من أسر الروس في الحرب العالمية الأولى، لبثت في استانبول لخدمة الدّين في «دار الحكمة الإسلامية» حوالي ثلاث سنوات. ولكن بإرشاد القرآن الكريم وبهمّة الشيخ الكيلاني، وبانتباهي بالشيخوخة، تولّد عندي سأمٌ وملل من الحياة الحضارية في استانبول، وبت أنفر من حياتها الاجتماعية البهيجة، فساقني الشوق والحنين المسمى بـ«داء الغُربة» إلى بلدتي، إذ كنت أقول: ما دمت سأموت فلأمت إذن في بلدتي.. فتوجهت إلى مدينة «وان».

    وهناك قبل كل شيء ذهبت إلى زيارة مدرستي المسماة بـ«خورخور» فرأيت أن الأرمن قد أحرقوها مثلما أحرقوا بقية البيوت الموجودة في «وان» في أثناء الاحتلال الروسي.. صعدت إلى القلعة المشهورة في «وان» وهي كتلة من صخرة صلدة تضم تحتها مدرستي الملاصقة بها تماماً، وكانت تمرّ من أمامي أشباحُ أولئك الأصدقاء الحقيقيين والإخوة المؤنسين من طلابي في مدرستي الذين فارقتُهم قبل حوالي سبع سنوات خلت، فعلى إثر هذه الكارثة أصبح قسمٌ من أولئك الأصدقاء الفدائيين شهداءَ حقيقيين وآخرون شهداءَ معنويين،

    فلم أتمالك نفسي من البكاء والنحيب.. صعدت إلى قمة القلعة وارتقيتُها وهي بعلو المنارتين ومدرستي تحتها، وجلست عليها أتأمل، فذهب بي الخيالُ إلى ما يقرب من ثماني سنوات خلَتْ وجال بي الخيال في ذلك الزمان، لما لخيالي من قوة ولعدم وجود مانع يحول بيني وبين ذلك الخيال ويصرفني عن ذلك الزمان، إذ كنت وحيداً منفرداً.

    شاهدت تحولاً هائلاً جداً قد جرى خلال ثماني سنوات حتى إنني كلّما كنتُ أفتح عيني أرى كأن عصراً قد ولّى ومضى بأحداثه. رأيت أنّ مركز المدينة المحيطة بمدرستي -الذي هو بجانب القلعة- قد أُحرق من أقصاه إلى أقصاه ودُمّر تدميراً كاملاً. فنظرت إلى هذا المنظر نظرة حزن وأسى.. إذ كنت أشعر الفرق الهائل بين ما كنت فيه وبين ما أراه الآن، وكأن مائتي سنة قد مرّت على هذه المدينة.. كان أغلب الذين يعمّرون هذه البيوت المهدَّمة أصدقائي، وأحبّةً أعزّاء عليّ.. فلقد توفّي قسمٌ منهم بالهجرة من المدينة وذاقوا مضاضتها، تغمدهم الله جميعاً برحمته. حيث دُمّرت بيوتُ المسلمين في المدينة كليّاً ولم تبق إلّا «محلة الأرمن»، فتألمت من الأعماق، وحزنت حزناً شديداً ما لو كان لي ألف عين لكانت تسكب الدموع مدراراً.

    كنت أظن أنني قد نجوت من الاغتراب حيث رجعت إلى مدينتي، ولكن -ويا للأسف- لقد رأيت أفجعَ غربة في مدينتي نفسها؛ إذ رأيت مئاتٍ من طلابي وأحبتي الذين ارتبط بهم روحياً -كعبد الرحمن المار ذكره في الرجاء الثاني عشر- رأيتُهم قد أُهيل عليهم التراب والأنقاض، ورأيت أن منازلَهم أصبحت أثراً بعد عين، وأمام هذه اللوحة الحزينة تجسّد معنى هذه الفقرة لأحدهم والتي كانت في ذاكرتي منذ زمن بعيد إلّا أنني لم أكن أفهم معناها تماماً:

    لَوْ لَا مُفَارَقَةُ الأحْبَابِ مَا وَجَدَتْ لَهَا الْمَنَايَا إلى أرْوَاحِنَا سُبُلاً ([13])

    أي أن أكثر ما يقضي على الإنسان ويهلكه إنما هو مفارقة الأحباب.

    نعم، إنه لم يؤلمني شيءٌ ولم يبكني مثل هذه الحادثة، فلو لم يأتني مددٌ من القرآن الكريم ومن الإيمان لكان ذلك الغمُّ والحزن والهمّ يؤثر فيّ إلى درجة كافية لسلب الروح منّي.

    لقد كان الشعراء منذ القديم يبكون على منازل أحبتهم عند مرورهم على أطلالها فرأيت يعينيَّ لوحةَ الفراق الحزينة هذه.. فبكَت روحي وقلبي مع عيني بحزن شديد كمن يمرُّ بعد مائتي سنة على ديار أحبّته وأطلالها..

    عند ذلك مرّت الصفحات اللطيفة اللذيذة لحياتي أمام عيني وخيالي واحدة تلو الأخرى بكل حيوية، كمرور مشاهد الفلم السينمائي.. تلك الحياة السارة التي قضيتُها في تدريس طلابي النجباء بما يقرب من عشرين سنة، وفي هذه الأماكن نفسها، التي كانت عامرة بهيجة وذات نشوة وسرور، فأصبحت الآن خرائبَ وأطلالاً.

    قضيت فترة طويلة أمام هذه اللوحات من حياتي، وعندها بدأتُ أستغرب من حال أهل الدنيا، كيف أنهم يخدعون أنفسهم، فالوضع هذا يبيّن بداهة أن الدنيا لا محالة فانية، وأن الإنسان فيها ليس إلّا عابر سبيل، وضيفاً راحلاً. وشاهدت بعينيّ مدى صدق ما يقوله أهل الحقيقة: «لا تنخدعوا بالدنيا فإنها غدّارة.. مكّارة.. فانية..».

    ورأيت كذلك أن الإنسان ذو علاقة مع مدينته وبلدته بل مع دنياه مثلما له علاقة مع جسمه وبيته، فبينما كنت أريد أن أبكي بعينيّ لشيخوختي -باعتبار وجودي- كنت أريد أن أجهش بالبكاء بعشرة عيون لا لمجرد شيخوخة مدرستي، بل لوفاتها، بل كنت أشعر أنني بحاجة إلى البكاء بمائة عين على مدينتي الحلوة الشبيهة بالميتة.

    لقد ورد في الحديث الشريف من أن مَلَكاً ينادي كل صباح:

    (لِدوا للموت وابنوا للخراب) ([14]) كنت اسمع هذه الحقيقة، اسمعها بعينيّ لا بأذني،

    ومثلما أبكاني وضعي في ذلك الوقت، فإن خيالي منذ عشرين سنة يذرف الدموع أيضاً كلّما مرّ على ذلك الحال. نعم إن دمار تلك البيوت في قمة القلعة التي عمّرت آلاف السنين، واكتهال المدينة التي تحتها خلال ثماني سنوات، حتى كأنه قد مرّت عليها ثمانمائة سنة، ووفاة مدرستي -أسفل القلعة- التي كانت تنبض بالحياة والتي كانت مجمع الأحباب.. تشير إلى وفاة جميع المدارس الدينية في الدولة العثمانية. وتبين العظمة المعنوية لجنازتها الكبرى، حتى كأن القلعة التي هي صخرة صلدة واحدة، قد أصبحت شاهدة قبرها. ورأيت أن طلابي -رحمهم الله جميعاً- الذين كانوا معي في تلك المدرسة -قبل ثماني سنوات- وهم راقدون في قبورهم، رأيتُهم كأنهم يبكون معي، بل تشاركني البكاء والحزن حتى بيوتُ المدينة المدَمَّرة، بل حتى جدرانُها المنهدّة وأحجارُها المبعثرة.

    نعم إنني رأيت كُل شيء وكأنه يبكي، وعندئذٍ علمت أنني لا أستطيع أن أتحمّل هذه الغربة في مدينتي، ففكرت إما أن أذهب إليهم في قبورهم أو عليّ أن انسحب إلى مغارة في الجبل منتظراً أَجلي، وقلت ما دام في الدنيا مثل هذه الفراقات والافتراقات التي لا يمكن أن يُصبَر عليها، ولا يمكن أن تقاوم، وهي مؤلمة ومحرقة إلى هذه الدرجة، فلا شك أن الموت أفضلُ من هذه الحياة، ويرجّح على مثل هذه الأوضاع التي لا تُطاق..

    لذا ولّيت وجهي سارحاً بنظري إلى الجهات الست.. فما رأيت فيها إلّا الظلام الدامس. فالغفلةُ الناشئة من ذلك التألم الشديد والتأثر العميق أرتني الدنيا مخيفةً مرعبة، وأنها خالية جرداء وكأنها ستنقضّ على رأسي. كانت روحي تبحث عن نقطة استناد وركنٍ شديد أمام البلايا والمصائب غير المحدودة التي اتخذت صورةَ أعداء ألدّاء. وكانت تبحث أيضاً عن نقطة استمداد أمام رغباتها الكامنة غير المحدودة والتي تمتد إلى الأبد. فبينما كانت روحي تبحث عن نقطة استناد، وتفتش عن نقطة استمداد وتنتظر السلوانَ والتسرية من الهموم والأحزان المتولدة من الفراقات والافتراقات غير المحدودة والتخريبات والوفيات الهائلة، إذا بحقيقة آية واحدة من القرآن الكريم المعجِز وهي: ﴿ سَبَّحَ لِلّٰهِ مَا فِي السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِۚ وَهُوَ الْعَز۪يزُ الْحَك۪يمُ ❀ لَهُ مُلْكُ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِۚ يُحْي۪ وَيُم۪يتُۚ وَهُوَ عَلٰى كُلِّ شَيْءٍ قَد۪يرٌ ﴾ (الحديد: ١-٢) تتجلى أمامي بوضوح وتنقذني من ذلك الخيال الأليم المرعب، وتنجيني من ألم الفراق والافتراق، فاتحةً عيني وبصيرتي.

    فالتفتُّ إلى الأثمار المعلقة على الأشجار المثمرة وهي تنظر إليّ مبتسمة ابتسامة حلوة وتقول لي:«لا تحصرنَّ نظرَك في الخرائب وحدها.. فهلّا نظرت إلينا، وأنعمت النظر فينا..».

    نعم إنَّ حقيقة هذه الآية الكريمة تنبّه بقوة مذكِّرةً وتقول: لِمَ يُحزنك إلى هذا الحدّ سقوطُ رسالة عامرة شيّدت بيد الإنسان الضيف على صحيفة مفازة «وان»، حتى اتخذت صورةَ مدينة مأهولة؟ فلِمَ تحزن من سقوطها في السيل الجارف المخيف المسمّى بالاحتلال الروسي الذي محا آثارها وأذهب كتابتها؟ ارفعْ بصرَك إلى البارئ المصوّر وهو ربّ كل شيء ومالكُه الحقيقي، فناصيته بيده، وإن كتاباته سبحانه على صحيفة «وان» تُكتب مجدداً باستمرار بكمال التوهج والبهجة وإن ما شاهدته من أوضاع في الغابر والبكاء والنحيب على خلو تلك الأماكن وعلى دمارها وبقائها مقفرة إنما هو من الغفلة عن مالكها الحقيقي، ومن توهم الإنسان -خطأً- أنه هو المالك لها، ومن عدم تصوره أنه عابر سبيل وضيف ليس إلّا ..

    فانفتح من ذلك الوضع المحرِق، ومن ذلك الخطأ في التصور بابٌ لحقيقة عظيمة، وتهيأت النفسُ لتقبلَها -كالحديد الذي يدخل في النار ليلين ويعطى له شكلاً معيناً نافعاً- إذ أصبحت تلك الحالة المحزنة وذلك الوضع المؤلم، ناراً متأججة ألانَت النفسَ. فأظهر القرآنُ الكريم لها فيضَ الحقائق الإيمانية بجلاء ووضوح تام من خلال حقيقة تلك الآية المذكورة حتى جعلها تقبل وترضخ.

    نعم، فكما أثبتنا في «المكتوب العشرين» وأمثالِه من الرسائل، فإن حقيقة هذه الآية الكريمة -ولله الحمد- قد وهبت بفيض الإيمان نقطةَ استناد وارتكاز هائلة، وهبَتها للروح ومنحتها إلى القلب كل حسب ما ينكشف له من فيض ما يملكه من قوة الإيمان، بحيث تستطيع أن تتصدّى لتلك المصائب والحالات المرعبة حتى لو تضاعفت مائة مرة، ذلك لأنها ذكّرت بأن كل شيء مسخَّر لأمر خالقك الذي هو المالك الحقيقي لهذه المملكة، فمقاليدُ كل شيء بيده، وحسبك أن تنتسب إليه سبحانه.

    فبعدما عرفتُ خالقي، وتوكلتُ عليه، ترك كلُّ شيء ما يضمره من العداء نحوي حتى بدأت الحالات التي كانت تحزنني وتؤلمني، بدأت الآن تسعدني وتسرّني.

    وكما أثبتنا في كثير من الرسائل ببراهين قاطعة، فإن النور القادم من «الإيمان بالآخرة» كذلك أعطى «نقطة استمداد» هائلة جداً تجاه الآمال والرغبات غير المحدودة، بحيث إنها تكفي تلك القوة لا لتلك الميول والرغبات الصغيرة المؤقتة والقصيرة، ولا لتلك الروابط مع أحبتي في الدنيا وحدها.

    بل تكفي أيضاً لرغباتي غير المتناهية في دار الخلود وعالم البقاء وفي السعادة الأبدية، ذلك لأنه بتجلٍّ واحد من تجليات رحمة «الرحمن الرحيم» يُنشَر على مائدة الربيع ما لا يعد ولا يُحصى من نعمَه اللذيذة البديعة على سطح الأرض التي هي منـزل من منازل دار ضيافة الدنيا المؤقتة، فيمنح بها -سبحانه- في كل ربيع إلى أولئك الضيوف، ويُنعم بها عليهم، كي يدخل في قلوبهم السرور لبضع ساعات، وكأنه يطعمهم فطور الصباح، ثم يأخذهم إلى مساكنهم الأبدية في ثماني جنات خالدات ملآى بنعمٍ غير محدودة لزمن غير محدود التي أعدّها لعباده، فلا ريب أن الذي يؤمن برحمة هذا «الرحمن الرحيم» ويطمئن إليها مدركاً انتسابه إليه سبحانه، لابدّ أنه يجد نقطة استمداد عظيمة بحيث إن أدنى درجاتها تمدّ آمالاً غير محدودة وتديمها.

    هذا وإن النور الصادر من ضياء الإيمان -بحقيقة تلك الآية- قد تجلّى كذلك تجلياً باهراً ساطعاً حتى إنه نوّر تلك الجهات الست المظلمة تنويراً كالنهار، ونوّر حالتي المؤسفة المبكية على مدرستي هذه وعلى طلابي وأحبتي الراحلين تنويراً كافياً حيث نبّهني إلى أن العالم الذي يرحل إليه الأحباب ليس هو بعالم مظلم، بل بدّلوا المكان ليس إلّا ، فستتلاقون معاً وستجتمعون ببعضكم.. وبذلك قطع دابر البكاء قطعاً كاملاً، وأفهمني كذلك أنني سأجد أمثالهم ومن يحلّ محلهم.

    فلله الحمد والمنّة الذي أحيا مدرسة «إسبارطة» عوضاً عن مدرسة «وان» المتوفاة والمتحولة إلى أطلال، وأحيا أولئك الأحبة معنىً بأكثر وأفضل منهم من الطلاب النجباء والأحبة الكرام.

    وعلّمني كذلك أن الدنيا ليست خاوية مقفرة، وأنها ليست مدينة خربة مدمّرة، كما كنت أتصورها خطأ، بل إن المالك الحقيقي -كما تقتضي حكمتُه- يبدل اللوحات المؤقتة والمصنوعة من قبل الإنسان بلوحات أخرى ويجدد رسائله، فكما تحل ثمار جديدة كلما قطعت الثمار فكذلك الزوال والفراق في البشرية إنما هو تجددّ وتجديد، فلا يبعث حزناً أليماً لانعدام الأحباب نهائياً، بل يبعث من زاوية الإيمان حزناً لذيذاً نابعاً من فراق لأجل لقاء في دار أخرى بهيجة.

    وكذا نوّر تلك الحالة المدهشة التي كنت فيها، ونوّر ما يتراءى لي من الوجه المظلم لموجودات الكون كلها. فأردت إبداء الحمد والشكر على تلك الحالة المنوّرة في وقته فأتتني الفقرةُ التالية باللغة العربية مصورةً لتلك الحقيقة كاملة:

    [الحمد لله على نور الإيمان المصوّر ما يُتوهم أجانبَ أعداء أمواتاً موحشين أيتاماً باكين، أودّاءَ إخواناً أحياءً مؤنسين مرخّصين مسرورين ذاكرين مسبحين].

    وهي تعني: أنني أُقدم إلى الخالق ذي الجلال حمداً لانهاية له، على ما وهبني من نور الإيمان الذي هو منبعُ جميع هذه النعم الإلهية غير المحدودة، بما حوّل تلك اللوحةَ المرعبة التي أُظهرتْ لنفسي الغافلة فأوهمَتها الغفلةُ -المتولدة من شدة التأثر على تلك الحالة المؤلمة- أن قسماً من موجودات الكون أعداءٌ أو أجانب ([15]) وقسماً آخر جنائزُ مدهشةٌ مفزعة، وقسماً آخر أيتامٌ باكون حيث لا معين لهم ولا مولى، حوّل ذلك النور كلَّ شيء حتى شاهدت بعين اليقين أن الذين كانوا يبدون أجانبَ وأعداء إنما هم إخوة وأصدقاء.. وأن ما كان يَظهر كالجنائز المرعبة؛ قسمٌ منهم أحياءٌ مؤنسون، أو هم ممن أنهَوا وظائفهم ومهماتهم.. وأن ما يُتوهم أنها نواحُ الأيتام الباكين، ترانيمُ ذِكر وتراتيل تسبيح. أي أنني أُقدم الحمد لله مع جميع الموجودات التي تملأ دنياي الخاصة التي تسع الدنيا كلَّها، فأُشركها معي في ذلك الحمد والتسبيح لله سبحانه، نيةً وتصوراً. حيث لي الحقُّ في ذلك، فنقول معاً بلسان حال كل فرد من أفراد الموجودات وبلسان حال الجميع أيضاً: «الحمد لله على نور الإيمان».

    ثم إن لذائذ الحياة وأذواقَها التي تلاشت على إثر تلك الحالة المدهشة الباعثة على الغفلة، والآمال التي انسحبت نهائياً وانكمشت ونضب معينُها، والنعم واللذائذ الخاصة بي التي ظلّت محصورةً في أضيق دائرة وربما فنيَت، كل ذلك قد تحول وتبدل بنور الإيمان -كما أثبتنا ذلك في رسائل أخرى- فوسّع ذلك النور تلك الدائرة الضيقة المطوّقة حول القلب إلى دائرة واسعة جداً حتى انطوى فيها الكونُ كلّه، وجعل دار الدنيا ودار الآخرة سُفرتين مملوءتين بالنعم، وحوّلهما إلى مائدتين ممدتين للرحمة، بدلاً من تلك النعم التي يبست وفقدت لذتَها في حديقة «خورخور». ولم يقتصر على ذلك فقط بل جعل كلاً من العين والأذن والقلب وأمثالِها من الحواس بل مائة من أجهزة الإنسان، يداً ممتدةً حسب درجات المؤمن إلى السفرتين المملوءتين بالنعم بحيث تتمكن من أن تأخذ النعم وتلتقطها من جميع أقطارها؛ لذا قلت أمام هذه الحقيقة الكبرى شكراً لله على تلك النعم غير المحدودة ما يأتي:

    [الحمد لله على نور الإيمان المصوّر للدارين مملوءتين من النعمة والرحمة، لكل مؤمن حقٌ أن يستفيد منهما بحواسه الكثيرة المنكشفة بإذن خالقه].

    وهذا يعني: الحمد لله الذي وهب لي ذلك الإيمان الذي يُري بنعمةِ نوره أن الدنيا والآخرة مملوءتان بالنعم والرحمة ويضمن الاستفادة من تينك السفرتين العظيمتين بأيدي جميع الحواس المنكشفة بنور الإيمان والمنبسطة بنور الإسلام للمؤمنين الحقيقيين، فلو استطعتُ تقديم الحمد والشكر لله خالقي تجاه ذلك الإيمان بجميع ذرات كياني وبملء الدنيا والآخرة لَفعلت.

    فما دام الإيمان يفعل فعلَه في هذا العالم بمثل هذه الآثار العظيمة، فلابدّ أن له في دار البقاء والخلود ثمراتٍ أعظم وفيوضات أوسع، بحيث لا يمكن أن تستوعبها عقولُنا الدنيوية وتعرّفها.

    فيا إخوتي الشيوخ، ويا أخواتي العجائز، ويا مَن تتجرعون مثلي الآلام المرّة بفراق كثير من الأحبة بسبب الشيخوخة! إنيّ أخال نفسي أكثر منكم شيباً معنىً، وإن كان يبدو أن فيكم من هو أكبر مني سنّاً، ذلك لأنني أتألم -فضلاً عن آلامي- بآلام آلاف من إخواني، لما أحمله في فطرتي من الرقة والشفقة الزائدتين إلى بني جنسي. فأتألم كأنني شيخ يناهز المئات من السنين، أما أنتم فمهما تجرعتم من آلام الفراق لم تتعرضوا لمثل ما تعرضتُ له من البلايا والمصائب!

    إنه ليس لي ابن أفكر فيه، إلّا أنني أشعر برقة وألم -بسر الشفقة الكامنة في فطرتي- متوجهةً إلى آلام ومصائب آلاف من أبناء الإسلام، بل أشعرها حتى لآلام الحيوانات البريئة. زد على ذلك أنني أرى نفسي متعلقةً -من جهة الغيرة على الإسلام- بهذه البلاد، بل بالعالم الإسلامي، وارتبط بهما كأنهما داري، برغم أنّي لا أملك بيتاً خاصاً بي كي أحصر ذهني فيه؛ لذا فإنني أتألم بالآم المؤمنين الذين هم في هاتين الدارين وأحزن كثيراً لفراقهم.

    ولما كان نور الإيمان قد كفاني كفايةً تامة وأتى على جميع تأثراتي الناشئة من شيخوختي كلِّها ومن بلايا الفراقات، ووهب لي رجاءً لا يخيب، وأملاً لا ينفصم، وضياءً لا ينطفئ، وسلواناً لا ينفد، فلابد أن الإيمان أيضاً سيكون كافياً لكم ووافياً أيضاً إزاء الظلمات الناشئة من الشيخوخة، وإزاء الغفلة الواردة منها، وإزاء التأثرات والتألمات الصادرة منها. وحقاً إنَّ أعتمَ شيخوخة إنما هي شيخوخةُ أهل الضلالة والسفاهة وأن أقسى الفراقات وأشدها إيلاماً إنما هي آلامهم وفراقاتهم!!

    نعم، إن تذوق الإيمان الذي يبعث الرجاء ويشيع النور وينشر السلوى، وإن الشعور بسلوانه والتلذذ به هو في التمثل الشعوري للعبودية اللائقة بالشيخوخة والموافقة للإسلام، وليس هو بتناسي الشيخوخة واللهاث وراء التشبّه بالشباب واقتحام غفلتهم المُسكرة..

    تفكّروا دائماً وتأملوا في الحديث النبوي الشريف (خيرُ شبابكم من تشبّه بكهولكم وشرُّ كهولكم من تشبّه بشبابكم) ([16]) أو كما قال ﷺ، أي خير شبابكم من تشبه بالكهول في التأني والرزانة وتجنبهم السفاهة وشرّ كهولكم من تشبه بالشباب في السفاهة والانغماس في الغفلة.

    فيا إخوتي الشيوخ ويا أخواتي العجائز! لقد ورد في الحديث الشريف ما معناه «أن الرحمة الإلهية لتستحي من أن تردّ يداً ضارعة من شيخ مؤمن أو عجوز مؤمنة». ([17]) فما دامت الرحمة الإلهية تحترمكم هكذا، فعظموا إذن احترامها بعبوديتكم لله.

    الرجاء الرابع عشر

    جاء في مستهل «الشعاع الرابع» الذي هو تفسير للآية الكريمة:

    ﴿ حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ (آل عمران:١٧٣) ما خلاصته:

    حينما جرّدني أرباب الدنيا من كل شيء، وقعت في خمسة ألوان من الغربة. ولم ألتفت إلى ما في «رسائل النور» من أنوار مسلّية ممدّة، جراء غفلة أورثها الضجرُ والضيق وإنما نظرت مباشرة إلى قلبي وتحسست روحي،

    فرأيت أنه يسيطر عليّ عشقٌ في منتهى القوة للبقاء، وتهيمن علىّ محبة شديدة للوجود، ويتحكم فيّ شوق عظيم للحياة.. مع ما يكمن فيَّ من عجز لا حد له، وفقر لا نهاية له. غير أن فناءً مهولاً مدهشاً، يطفئ ذلك البقاء ويزيله، فقلت مثلما قال الشاعر المحترق الفؤاد:

    حكمة الإله تقضي فناء الجسد والقلب توّاق إلى الأبـد

    لهف نفسي من بلاء وكمـد حار لقمان في إيجاد الضمد

    فطأطأت رأسي يائساً... وإذا بالآية الكريمة: ﴿ حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ تغيثني قائلة: اقرأني جيداً بتدبر وإمعان، فقرأتها بدوري خمسمائة مرة في كل يوم، فكلّما كنت أتلوها كانت تكشف عن بعضٍ من أنوارها وفيوضاتها الغزيرة، فرأيت منها بعين اليقين -وليس بعلم اليقين- تسعَ مراتب حسبية:

    المرتبة النورية الحسبية الأولى:

    إنَّ ما فيّ من عشق البقاء، ليس متوجهاً إلى بقائي أنا، بل إلى وجود ذلك الكامل المطلق وإلى كماله وبقائه. وذلك لوجود ظلٍ لتجلٍ من تجليات اسمٍ من أسماء الجليل والجميل المطلق ذي الكمال المطلق، وهو المحبوب لذاته -أي دون داعٍ إلى سبب- في ماهيتي إلّا أن هذه المحبةَ الفطرية ضلّت سبيلها وتاهت بسبب الغفلة، فتشبثت بالظل وعشقت بقاءَ المرآة. ولكن ما إن جاءت ﴿ حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ حتى رفعت الستار.

    فأحسستُ وشاهدت، وتذوقتُ بحق اليقين أنَّ لذة البقاء وسعادتَه، موجودةٌ بنفسها، بل أفضلَ وأكمل منها، في إيماني وإذعاني وإيقاني ببقاء الباقي ذي الكمال، وبأنه ربي وإلهي. وقد وُضّحت دلائل هذا بعمق ودقة متناهية في الرسالة «الحسبية» في اثنتي عشرة «كذا.. كذا.. كذا...» وبينت الاستشعار الإيماني بما يجعل كل ذي حسّ وشعور في تقدير وإعجاب!.

    المرتبة النورية الحسبية الثانية

    إنه مع عجزي غير المتناهي الكامن في فطرتي، ومع الشيخوخة المستقرة في كياني، ومع تلك الغربة التي لفّتني، ومع عدم وجود المعين لي، وقد جُرّدت من كل شيء ويهاجمني أهلُ الدنيا بدسائسهم وبجواسيسهم.. في هذا الوقت بالذات خاطبت قلبي قائلاً:

    «إن جيوشاً كثيفة عارمة تهاجم شخصاً واحداً ضعيفاً مريضاً مكبّل اليدين.. أوَ ليس له -أي لي- من نقطة استناد؟».

    فراجعت آية ﴿ حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ فأعلمتني:

    إنك تنتسب بهوية الانتساب الإيماني إلى سلطان عظيم ذي قدرة مطلقة، بحيث يجهّز بانتظام تام في الربيع جميع ما تحتاجه جيوشُ النباتات والحيوانات المنتشرة على سطح الأرض من معدّات، فيزوّد جميعَ تلك الجيوش المتشكلة في أربعمائة ألف نوع من الأمم المختلفة، ويوزع جميعَ أرزاق الجيش الهائل للأحياء -وفي مقدمتها الإنسان- لا بشكل ما اكتشفه الإنسان في الآونة الأخيرة من مستخلصات اللحم والسكر وغيرهما، بل بصورة مستخلصات أكمل وأفضل بكثير بل تفوقها مائة مرة، فهي مستخلصات متضمنة جميعَ أنواع الأطعمة. بل هي مستخلصات رحمانية.. تلك التي تسمى البذور والنوى.. زد على ذلك فإنه يغلف أيضاً تلك المستخلصات بأغلفة قَدَرية تتناسب مع نضجها وانبساطها ونموّها، ويحفظها في عُليبات وصنيدقات صغيرة وصغيرة جداً، وهذه الصُنيدقات أيضاً تُصنـع بسرعة متـنـاهـيـة جـداً، وبسهـولـة مطلـقـة للـغـاية، وبـوفـرة هائلـة، وذلـك فـي معـمــل«الكاف والنون» الموجود في أمر «كُنْ»، حتى إن القرآن الكريم يقول: ﴿ فَاِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ (البقرة:١١٧).

    فما دمتَ قد ظفرت بنقطة استناد مثل هذه بهوية الانتساب الإيماني، فيمكنك الاستناد والاطمئنان إذن إلى قوة عظيمة وقدرة مطلقة.

    وحقاً لقد كنت أحسّ بقوة معنوية عظيمة كلما كنت أتلقى ذلك الدرس من تلك الآية الكريمة، فكنت أشعر أنني أملك قوة يمكنني أن أتحدّى بها جميع أعدائي في العالم وليس الماثلين أمامي وحدَهم، لذا رددتُ من أعماق روحي: ﴿ حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾.

    المرتبة النورية الحسبية الثالثة

    حينما اشتد خناق الأمراض وألوان الغربة وأنواع الظلم عليّ، وجدت أن علاقاتي تنفصم مع الدنيا، وأن الإيمان يرشدني بأنك مرشح لدنيا أخرى أبدية، وأنك مؤهل لمملكة باقية وسعادة دائمة. ففي هذه الأثناء تركتُ كلَّ شيء تقطر منه الحسرة ويجعلني أتأوّه وأتأفف، وأبدلتُه بكل ما يبشّر بالخير والفرح ويجعلني في حمدٍ دائم.

    ولكن أنّى لهذه الغاية أن تتحقق وهي غايةُ المنى ومبتغى الخيال وهدف الروح ونتيجة الفطرة، إلّا بقدرة القدير المطلق الذي يعرف جميعَ حركات مخلوقاته وسكناتهم قولاً وفعلاً، بل يعرف جميع أحوالهم وأعمالهم ويسجلها كذلك. وأنّى لها أن تحصل إلّا بعنايته الفائقة غير المحدودة لهذا الإنسان الصغير الهزيل المتقلب في العجز المطلق حتى كرّمه، واتخذه خليلاً مخاطباً، واهباً له المقام السامي بين مخلوقاته.

    نعم، حينما كنت أفكر في هاتين النقطتين، أي في فعالية هذه القدرة غير المحدودة، وفي الأهمية الحقيقية التي أولاها البارئ سبحانه لهذا الإنسان الذي يبدو حقيراً. أردت إيضاحاً في هاتين النقطتين ينكشف به الإيمان ويُطمئن به القلب. فراجعت بدوري تلك الآية الكريمة أيضاً، فقالت لي: دقق النظر في «نا» التي في «حسبنا»، وانظر مَنْ هم أولاء ينطقون «حسبنا» معك، سواء ينطقونها بلسان الحال، أو بلسان المقال، أنصت إليهم.. نعم، هكذا أمرَتني الآية!.

    فنظرت.. فإذا بي أرى طيوراً محلّقة لا تحدّ، وطويرات صغيرة صغيرة جداً كالذباب لا تحصى، وحيواناتٍ لا تعد ونباتات لا تنتهي وأشجاراً لا آخر لها ولا نهاية... كل ذلك يردد مثلي بلسان الحال معنى ﴿ حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ ، بل يُذكّر الآخرين بها.. أن لهم وكيلاً -نِعمَ الوكيل- تكفّلَ بجميع شرائط حياتهم، حتى إنه يخلق من البيوض المتشابهة بعضها مع بعض وهي المتركبة من المواد نفسِها، ويخلق من النطف التي هي مثل بعضها البعض، ويخلق من الحبوب التي هي البعض عينه، ويخلق من البذور المتماثلة بعضها مع البعض الآخر مائة ألفَ طرازٍ من الحيوانات ومائة ألف شكل من الطيور ومائة ألف نوع من النباتات، ومائة ألف صنف من الأشجار، يخلقها بلا خطأ وبلا نقص وبلا التباس، يخلقها مزيّنة جميلة وموزونة منظمة، مع تميّز بعضها عن البعض الآخر واختلاف بعضها عن بعض، يخلقها باستمرار ولاسيما أيام كل ربيع أمام أعيننا في منتهى الكثرة، وفي منتهى السهولة، وفي منتهى السعة، وفي منتهى الوفرة.. فخلقُ جميع هذه المخلوقات متشابهةً ومتداخلةً ومجتمعةً على النمط نفسه والأشكال عينِها، ضمن عظمة هذه القدرة المطلقة وحشمتها، يظهر لنا بوضوح: وحدانيته سبحانه وتعالى وأحديته.

    وقد أفهمتني الآيةُ أنه لا يمكن التدخل مطلقاً ولا المداخلة قطعاً في مثل هذا الفعل للربوبية المطلقة وفي تصرف هذه الخلاقية، اللتين تبرزان هذه المعجزات غير المحدودة وتنشرانها.

    فإلى الذين يريدون أن يفهموا هويتي الشخصية وماهيتي الإنسانية كما هي لكل مؤمن.. وإلى الذين يرغبون أن يكونوا مثلي، عليهم أن ينظروا إلى تفسير نفسي (أنا) في جمع «نا» في الآية الكريمة ويتدبّروا في موقعه في ذلك الجمع. وليفهموا ما وجودي وجسمي الذي يبدو ضئيلاً وفقيراً لا أهمية له -كوجود كل مؤمن-؟! وليعلموا ما الحياة نفسها بل ما الإنسانية؟! وما الإسلام؟! وما الإيمان التحقيقي؟ وما معرفة الله؟ وكيف تحصل محبة الله؟. فليفهموا.. وليتلقوا درساً في ذلك!.

    المرتبة النورية الحسبية الرابعة

    وافقت العوارضُ المزلزلة لكياني أمثالَ الشيب والغربة والمرض وكوني مغلوباً على أمري، وافقت تلك العوارض فترة غفلتي، فكأن وجودي الذي أتعلق به بشدة يذهب إلى العدم، بل وجودُ المخلوقات كلها تفنى وتنتهي إلى الزوال، فولّد عندي ذهاب الجميع إلى العدم قلقاً شديداً واضطراباً أليماً فراجعت الآية الكريمة أيضاً ﴿ حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ فقالت لي: «تدبّر في معانيّ، وانظر إليها بمنظار الإيمان»

    وأنا بدوري نظرت إلى معانيها بعين الإيمان فرأيت:

    أنَّ وجودي الذي هو ذرة صغيرة جداً -كوجود كل مؤمن- مرآةٌ لوجود غير محدود، ووسيلة للظفر بأنواع من وجود غير محدود بانبساط غير متناهٍ.. وهو بمثابة كلمة حكيمة تثمر من أنواع الوجود الكثيرة الباقية ما هو أكثر قيمة من وجودي حتى إن لحظةَ عيشٍ له من حيث انتسابه الإيماني ثمينٌ جداً، وله قيمةٌ عالية كقيمة وجودٍ أبدي دائم، فعلمتُ كل ذلك بعلم اليقين؛

    لأن معرفتي بالشعور الإيماني بأن وجودي هذا أثرٌ من آثار واجب الوجود وصنعةٌ من صنعته وجلوة من جلواته جعلتني أنجو من ظلمات لا حدّ لها تورثها أوهام موحشة، وأتخلص من آلام لا حدّ لها نابعة من افتراقات وفراقات غير متناهية، ودفعتني لأمدّ روابطَ أخوة وثيقة إلى جميع الموجودات ولاسيما إلى ذوي الحياة، روابط بعدد الأفعال والأسماء الإلهية المتعلقة بالموجودات. وعلمت أن هناك وصالاً دائماً بهذه الروابط مع جميع ما أحبّه من الموجودات من خلال فراق مؤقت.

    وهكذا فإن وجودي كوجودِ كل مؤمن، قد ظفر بالإيمان والانتساب الذي فيه بأنوارِ أنواع وجود غير محدودة لا افتراق فيها. فحتّى لو ذهب وجودي فإن بقاءَ تلك الأنواع من الوجود من بعده يُطمئن وجودي وكأنه قد بقي بنفسه كاملاً.

    والخلاصة: أن الموت ليس فراقاً بل هو وصال وتبديل مكان وإثمار لثمرة باقية.

    المرتبة النورية الحسبية الخامسة

    لقد تصدّعتْ حياتي حيناً تحت أعباء ثقيلة جداً، حتى لفتت نظري إلى العمر، وإلى الحياة فرأيت أن عمري يجري حثيثاً إلى الآخرة.. وأن حياتي المتقربة إلى الآخرة قد توجهت نحو الانطفاء تحت المضايقات العديدة، ولكن الوظائفَ المهمة للحياة ومزاياها الراقية وفوائدَها الثمينة لا تليق بهذا الانطفاء السريع، بل تليق بحياة طويلة، مديدة، ففكرتُ في هذا بكل ألم وأسى، وراجعت أستاذي الآية الكريمة: ﴿ حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ فقالت لي: انظر إلى الحياة من حيث «الحي القيوم» الذي وهب لك الحياة.

    فنظرت إليها بهذا المنظار وشاهدت أنه: إن كان للحياة وجهٌ واحد متوجه إليّ أنا فإن لها مائة وجه متوجه إلى «الحي المحيي» وإن كانت لها نتيجة واحدة تعود إليّ أنا، فإن لها ألفاً من النتائج تعود إلى خالقي؛ لذا فإن لحظةً واحدة من الحياة، أو آناً من الوقت ضمن هذه الجهة كافٍ جداً، فلا حاجة إلى زمان طويل.

    هذه الحقيقة تتوضح بأربع مسائل؛ فليفتش أولئك الذين ينشدون الحياة أو الذين هم ليسوا أمواتاً.. ليفتشوا عن ماهية الحياة وعن حقيقتها وعن حقوقها الحقيقية ضمن تلك المسائل الأربع. فليظفروا.. وليحيوا..

    وخلاصتها هي: أن الحياة كلما تتوجه إلى الحيّ القيوم وتتطلع إليه، وكلما كان الإيمانُ حياةً للحياة وروحاً لها تكسب البقاء بل تعطي ثماراً باقية كذلك، بل إنها ترقى وتعلو إلى درجة تكتسب تجلى السرمدية، وعندها لا يُنظر إلى قصر العمر وطوله.

    المرتبة النورية الحسبية السادسة

    من خلال الشيب الذي يذكّر بفراقي الخاص، ومن خلال حوادث آخر الزمان التي تنبئ عن دمار الدنيا ضمن الفراقات العامة الشاملة، ومن خلال الانكشاف الواسع فوق العادة في أواخر عمري لأحاسيس الجمال والعشق له والافتتان بالكمالات المغروزة في فطرتي. من خلال كل هذا رأيت أن الزوال والفناء اللذين يدمّران دائماً، وأن الموت والعدم اللذين يفرّقان باستمرار، رأيتهما يفسدان بشكل مرعب ومخيف، جمالَ هذه الدنيا الرائعة الجمال ويشوهانه بتحطيمهما لها، ويُتلفان لطافة هذه المخلوقات.. فتألّمت من أعماقي بالغَ التألم لما رأيت. ففار ما في فطرتي من عشقٍ مجازي فوراناً شديداً وبدأ يتأجج بالرفض والعصيان أمام هذه الحالة المفجعة، فلم يَكُ لي منها بد إلّا مراجعة الآية الكريمة أيضاً لأجد المتنفَس والسلوان، فقالت: «اقرأني جيداً، أنعم النظر في معانيَّ»

    وأنا بدوري دخلت إلى مركز الإرصاد لسورة النور لآية: ﴿ اَللّٰهُ نُورُ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ ﴾ (النور:٣٥) فنظرت من هناك «بمنظار» الإيمان إلى أبعد طبقات الآية الحسبية، وفي الوقت نفسه نظرتُ «بمجهر» الشعور الإيماني إلى أدق أسرارها..

    فرأيت أنه مثلما تُظهر المرايا والزجاجُ والمواد الشفافة وحتى حباب البحر الجمالَ المخفي المتنوع لضوء الشمس، فيُظهر كلٌّ منها مختلف الجمال للألوان السبعة لذلك الضوء، ومثلما يتجدد ذلك الجمال وذلك الحسن بتجدد تلك المواد وبتحركها وحسب قابليتها المختلفة ووفق انكساراتها المتنوعة، أي مثلما أنها تُظهر الجمالَ المخفي للشمس ولضوئها ولألوانها السبعة

    -بشكل جميل جذاب- فكذلك الأمر في هذه المصنوعات الجميلة وهذه المخلوقات اللطيفة والموجودات الجميلة التي تقوم مقام مرايا عاكسة لذلك الجمال المقدس للجميل ذي الجلال الذي هو «نور الأزل والأبد». فهذه المخلوقات لا تلبث أن تذهب دون توقّف مجدّدة بذلك تجليات لأسمائه الحسنى جل وعلا. فالجمالُ الظاهر في هذه المخلوقات والحُسن البارز فيها إذن ليس هو ملك ذاتها، وإنما هو إشاراتٌ إلى ذلك الجمال المقدس السرمدي الذي يريد الظهور، وعلامات وإشارات وتجليات لذلك الحسن المجرد والجمال المنـزّه المتجلي دائماً والذي يريد المشاهدة والإشهاد.

    وقد وُضِّحَتْ دلائل هذا مفصلاً في «رسائل النور» لاسيما تلك الرسالة التي تستهل بـ«هنا سنذكر ثلاثة براهين بصورة مختصرة جداً ومعقولة». ([18])

    فأيّما إنسانٌ نظر إلى هذه الرسالة من أصحاب الذوق السليم لا يمكن أن يتمالك نفسه من غير الإعجاب والتقدير بل سيرى أن عليه أن يسعى لإفادة الآخرين بعدما أفاد نفسه، ولاسيما النقاطُ الخمسُ المذكورة في البرهان الثاني. فلابد أن مَن لم يفسد عقلُه ولم يصدأ قلبُه يقول مستحسناً ومستصوباً: ماشاء الله.. بارك الله.. ويجعل وجوده الذي يظهر فقيراً حقيراً يسمو ويتعالى.. ويدرك مصدقاً أنه: معجزة خارقة حقاً!!.

    الرجاء الخامس عشر

    ([19])

    عندما كنت نـزيل غرفة في «أميرداغ» ([20]) تحت الإقامة الجبرية وحيداً فريداً، كانت عيون الترصد تتعقبني وتضايقني دائماً فأتعذب منها أشدّ العذاب، حتى مللت الحياةَ نفسها وتأسفت لخروجي من السجن، بل رغبتُ من كل قلبي في أن أعود إلى سجن «دنيزلي» أو دخولَ القبر، حيث السجن أو القبر أفضل من هذا اللون من الحياة. فأتتني العنايةُ الإلهية مغيثةً، إذ وهبتْ آلة الرونيو التي ظهرت حديثاً لطلاب «مدرسة الزهراء» ([21]) وهم يحملون أقلاماً ماسية كآلة الرونيو. فباتت «رسائل النور» تظهر بخمسمائة نسخة بقلم واحد. فتلك الفتوحات التي هيأَتها العنايةُ الإلهية لرسائل النور جعلتني أُحب تلك الحياة الضجرة القلقة المضطربة، بل جعلتني أُردّد ألف شكر وشكر للبارئ سبحانه وتعالى.

    ولكن بعد مرور فترة وجيزة لم يتمكن أعداءُ «رسائل النور» المتسترون أن يتحملوا تلك الفتوحات النورية، فنبَّهوا المسؤولين في الدولة ضدَّنا وأثاروهم علينا، فأصبحت الحياة -مرة أخرى- ثقيلة مضجرة، إلّا أن العناية الإلهية تجلّت على حين غرة، حيث إن المسؤولين أنفسهم -وهم أحوج الناس إلى «رسائل النور»- بدأوا فعلاً بقراءة الرسائل المصادَرة بشوق واهتمام، وذلك بحكم وظيفتهم. واستطاعت تلك الرسائل بفضل الله أن تليّن قلوبَهم وتجعلها تجنح إلى جانبها. فتوسعت بذلك دائرةُ مدارس النور، حيث إنهم بدأوا بتقديرها والإعجاب بها بدلاً من جرحها ونقدها. فأكسبَتنا هذه النتيجة منافعَ جمّة، إذ هي خيرٌ مائة مرة ممّا نحن فيه من الأضرار المادية، وأذهبت ما نعانيه من اضطراب وقلق.

    ولكن ما إن مرّت فترةٌ وجيزة، حتى حوّل المنافقون -وهم الأعداء المتسترون- نظر الحكومة إلى شخصي أنا، ولفتوا انتباهها إلى حياتي السياسية السابقة، فأثاروا الأوهام والشكوك، وبثوا المخاوفَ من حولي في صفوف دوائر العدل والمعارف (التربية) والأمن ووزارة الداخلية. ومما وسّع تلك المخاوف لديهم ما يجري من المشاحنات بين الأحزاب السياسية، وما أثاره الفوضويون والإرهابيون -وهم واجهة الشيوعيين- حتى إن الحكومة قامت إثر ذلك بحملة توقيف وتضييق شديد علينا، وبمصادرة ما تمكنت من الحصول عليه من الرسائل، فتوقف نشاطُ طلاب النور وفعالياتهم.

    وبالرغم من أن بعض الموظفين المسؤولين أشاعوا دعاياتٍ مغرضةً عجيبة لجرح شخصيتي وذمّها -مما لا يمكن أن يصدّقها أحد- إلّا أنهم باؤوا بالإخفاق الذريع، فلم يستطيعوا أن يقنعوا أحداً بها.

    ومع ذلك أحالوني إلى الموقف لمدة يومين بحجج رخيصة تافهة جداً، ووضعوني في قاعة واسعة جداً وحيداً في تلك الأيام الشديدة البرد كالزمهرير، علماً أنني ما كنت أتحمل البرد في بيتي إلّا على مضض وكنت أقاومه بشدة بإشعال الموقد دائماً وبإشعال المدفأة عدة مرات يومياً، وذلك لما أُعانيه من ضعف ومرض.

    فبينما كنت أتقلب من شدة الحمّى المتولدة من البرد، وأتململ من حالتي النفسية المتضايقة جداً، انكشفت في قلبي حقيقة عناية إلهية،

    ونُبّهت إلى ما يأتي: «أنك قد أطلقت على السجن اسم «المدرسة اليوسفية»، وقد وهب لكم «سجن دنيزلى» من النتائج والفوائد أضعاف أضعاف ما أذاقكم من الضيق والشدة، ومنحكُم فرحاً شديداً وسروراً عظيماً وغنائمَ معنوية كثيرة: واستفادة المساجين معكم من «رسائل النور»، وقراءة «رسائل النور» في الأوساط الرسمية العليا وغيرها من الفوائد، حتى جعلَتكم في شكرٍ دائم مستمر بدل التشكّي والضجر محوّلةً كل ساعة من ساعات السجن والضيق إلى عشر ساعات من العبادة، فخلّدت تلك الساعات الفانية. فهذه «المدرسة اليوسفية الثالثة» ([22]) كذلك ستُعطي -بإذن الله- من الحرارة الكافية ما يدفئ هذا البرد الشديد، وستمنح من الفرح والبهجة ما يرفع هذا الضيقَ الثقيل، باستفادة أهل المصائب والبلاء معكم من «رسائل النور» ووجدانِهم السلوان فيها. أما الذين غضبتَ واحتدّيت عليهم. فإن كانوا من المغرّر بهم ومن المخدوعين فلا يستحقون الغضبَ والحدّة، إذ إنهم يظلمونك دون قصد ولا علم ولا شعور، وإن كانوا يعذبونك ويشددون عليك الخناق وهم يقومون بهذا عن علم وعن حقدٍ دفين إرضاءً لأهل الضلالة فإنهم سيعذَّبون عن قريب بالموت الذي يتصورونه إعداماً أبدياً، وسيرون الضيقَ الشديد الدائم المقيم في السجن المنفرد وهو القبر. وأنت بدورك تكسب ثواباً عظيماً -نتيجة ظلمهم- وتظفر بخلود ساعاتك الفانية، وتغنم لذائذ روحيةً معنوية فضلاً عن قيامك بمهمتك العلمية والدينية بإخلاص.

    هكذا ورد إلى روحي هذا المعنى فقلت بكل ما أُوتيت من قوة: «الحمد لله». وأشفقت على أولئك الظَلَمة بحكم إنسانيتي ودعوتُ: يا ربّى أصلح شأن هؤلاء..

    ولقد ثبتُّ في إفادتي التي كتبتُها إلى وزارة الداخلية: أن هذه الحادثة الجديدة غير قانونية، وأثبتُّها بعشرة أوجه، بل إن هؤلاء الظلمة الذين يخرقون القانون باسم القانون هم المجرمون حقاً، حيث بدأوا بالبحث عن حجج واهية جداً وتتبعوا افتراءات مختلَقة إلى حدّ أن جلبوا سخرية السامعين وأبكت أهلَ الحق المنصفين، وأظهروا لأهل الإنصاف أنهم لا يجدون باسم القانون والحق أي مسوّغ للتعرض لرسائل النور ومسّ طلابَها بسوء، فيزلّون إلى البلاهة والجنون ويتخبطون خبط عشواء.

    مثال ذلك: لم يجد الجواسيس الذين راقبونا لمدة شهر شيئاً علينا، لذا لفّقوا التقرير الآتي: «إن خادم «سعيد» قد اشترى له الخمر من حانوت». إلّا أنهم لم يجدوا أحداً يوقّع على هذا التقرير تصديقاً لهم، إلّا شخصاً غريباً وسكيراً في الوقت نفسه، فطلبوا منه -تحت الضغط والتهديد- أن يوقّع مصدقاً على ذلك التقرير، فردّ عليهم: «استغفر الله من يستطيع أن يوقع مصدقاً هذا الكذب العجيب» فاضطروا إلى إتلاف التقرير.

    مثال آخر: لحاجتي الشديدة لاستنشاق الهواء النقي، ولما يُعلَم من اعتلال صحتي، فقد أعارني شخصٌ لا أعرفه -ولم أتعرّف عليه لحدّ الآن- عربةً ذات حصان، لأتنـزّه بها خارجَ البلدة فكنت أَقضي ساعة أو ساعتين في هذه النـزهة. وكنت قد وعدتُ صاحبَ العربة والحصان بأن أوفي أجرتَها كتباً تثمّن بخمسين ليرة، لئلا أحيد عن قاعدتي التي اتخذتُها لنفسي، ولئلا أظل تحت منّة أحد من الناس وأذاه.. فهل هناك احتمال لأن ينجم ضرر ما من هذا العمل؟! غير أن دائرةَ الشرطة ودائرة العدل والأمن الداخلي وحتى المحافظ نفسه استفسر بأكثر من خمسين مرة: لِمنْ هذا الحصان؟ ولمن هذه العربة؟ وكأنه قد حدثت حادثة سياسية خطيرة للإخلال بالأمن والنظام! مما اضطر أن يتطوع أحدُ الأشخاص لقطع دابر هذه الاستفسارات السخيفة المتتالية فيدّعي أن الحصان ملكُه، وادّعى آخر بأن العربةَ له، فصدر الأمر بالقبض عليهما وأودعا معي في السجن.

    فبمثل هذه النماذج أصبحنا من المتفرجين على لعب الصبيان ودُماهم، فبكينا ضاحكين وحزنّا ساخرين، وعرفنا أن كل من يتعرض لرسائل النور ولطلابها يصبح أضحوكة وموضعَ هزء وسخرية.

    وإليك محاورةً لطيفة من تلك النماذج: لقد قلتُ للمدعي العام -قبل أن اطّلِع على ما كُتب في محضر اتهامي من الإخلال بالأمن- قلت له: لقد اغتَبتك أمس إذ قلتُ لأحد أفراد الشرطة الذي استجوبني نيابة عن مدير الأمن: «ليهلكني الله -ثلاث مرات- إن لم أكن قد خدمت الأمن العام لهذا البلد أكثر من ألف مدير أمن وأكثر من ألف مدّع عام..».

    ثم إنني في الوقت الذي كنتُ في أمسّ الحاجة إلى الإخلاد إلى الراحة وعدم الاهتمام بهموم الدنيا والابتعاد نهائياً عن البرد، فإن قيام هؤلاء بنفيي -في هذه الفترة من البرد بالذات- وتهجيري من مدينة لأخرى بما يفوق تحملي، ومن ثم توقيفي والتضييق علىّ بأكثر من طاقتي وبما يشعر أنه حقدٌ دفين وأمر متعمَّد مقصود.. كل ذلك ولّد عندي غيظاً وامتعاضاً غير اعتيادي تجاه هؤلاء. ولكن العناية الإلهية أغاثتني فنبَّهت القلبَ إلى هذا المعنى:

    إن للقدر الإلهي -الذي هو عدلٌ محض- حصةً عظيمةً جداً فيما يسلطه عليك هؤلاء البشر من الظلم البيّن، وإن رزقك في السجن هو الذي دعاك إلى السجن، فينبغي إذن أن تقابل هذه الحصة بالرضى والتسليم.

    وإن للحكمة الربانية ورحمتِها حظاً وافراً أيضاً كفتح طريق النور والهداية إلى قلوب المساجين وبث السلوان والأمل فيهم، ومن ثم إحراز الثواب لكم؛ لذا ينبغي تقديم آلاف الحمد والشكر لله -من خلال الصبر- تجاه هذا الحظ العظيم.

    وكذا فإن لنفسك أنت أيضاً حصتَها حيث إنَّ لها ما لا تعرف من التقصيرات.. فينبغي مقابلة هذه الحصة أيضاً بالاستغفار والتوبة والإنابة إلى الله وتأنيب النفس بأنها مستحقةٌ لهذه الصفعة.

    وكذا فإن لبعضَ الموظفين السُذج والجبناء المنخدعين الذين يساقون إلى ذلك الظلم بدسائس الأعداء المتسترين منهم حصة أيضاً ونصيب، فرسائل النور قد ثأرت لك ثأراً كاملاً من هؤلاء المنافقين بما أنـزلت بهم من صفعاتها المعنوية المدهشة. فحسبهم تلك الضربات.

    أما الحصة الأخيرة فهي لأولئك الموظفين الذين هم وسائطُ فعلية. ولكن لكونهم منتفعين حتماً من جهة الإيمان -سواء أرادوا أم لم يريدوا- عند نظرهم إلى «رسائل النـور» وقراءتهم لها بنيّة النقد أو الجرح، فإن العفو والتجاوز عنهم وفق دستور ﴿ وَالْكَاظِم۪ينَ الْغَيْظَ وَالْعَاف۪ينَ عَنِ النَّاسِ ﴾ (آل عمران: ١٣٤) هو شهامة ونجابة.

    وبعد أن تلقيتُ هذا التنبيه والتحذير الذي كلُّه حق وحقيقة قررتُ أن أظلَّ صابراً وشاكراً جذلاً في هذه المدرسة اليوسفية الجديدة. بل قررت أن أُعاقب نفسي بتقصيرٍ لا ضرر فيه فأساعد حتى أولئك الذين يسيئون إليّ ويخاصمونني وأعاونهم.

    ثم إنَّ من كان مثلي في الخامسة والسبعين من عمره، وقد انقطعت علاقاتُه مع الدنيا ولم يبق من أحبابه في الدنيا إلّا خَمسٌ من كل سبعين شخصاً، وتقوم سبعون ألف نسخة من «رسائل النور» بمهمته النورية بكل حرية، وله من الإخوان ومن الورثة مَن يؤدون وظيفة الإيمان بآلاف الألسنة بدلاً من لسان واحد.. فالقبرُ لمثلي إذن خيرٌ وأفضل مائة مرّة من هذا السجن. فضلاً عن أن هذا السجن هو أكثر نفعاً وأكثر راحة بمائة مرة من الحرية المقيّدة في الخارج، ومن الحياة تحت تحكّم الآخرين وسيطرتهم؛ لأن المرء يتحمل مضطراً مع مئاتٍ المساجين تحكماً من بعض المسؤولين؛ أمثال المدير ورئيس الحراس بحكم وظيفتهم، فيجد سلواناً وإكراماً أخوياً من أصدقاء كثيرين من حوله، بينما يتحمل وحده في الخارج سيطرة مئات الموظفين والمسؤولين.

    وكذلك الرأفة الإسلامية والفطرة البشرية تسعيان بالرحمة للشيوخ ولاسيما مَن هم في هذه الحالة، فتبدّلان مشقةَ السجن وعذابَه إلى رحمة أيضاً.. لأجل كل ذلك فقد رضيتُ بالسجن..

    وحينما قُدّمت إلى هذه المحكمة الثالثة جلست على كرسي خارج باب المحكمة لما كنت أحسّ من النصَب والضيق في الوقوف لشدة ضعفي وشيخوختي ومرضي. وفجأة أتى الحاكم وقال مغاضباً مع إهانة وتحقير: لِمَ لا ينتظر هذا واقفاً؟!.

    ففار الغضب في أعماقي على انعدام الرحمة للشيب، والتفتُّ وإذا بجمعٍ غفير من المسلمين قد احتشدوا حولَنا ينظرون إلينا بعيون ملؤها الرأفة، بقلوب ملؤها الرحمة والأخوة، حتى لم يستطع أحد من صرفِهم عن هذا التجمع، وهنا وردت إلى القلب هاتان الحقيقتان:

    الأولى: إنَّ أعدائي، وأعداءَ النور المتسترين قد أقنعوا بعض الموظفين الغافلين وساقوهم إلى مثل هذه المعاملات المهينة كي يحطّموا شخصيتي أمام أنظار الناس، ويصرفوا ما لا أرغبه أبداً من توجّه الناس وإقبالهم عليَّ، ظناً منهم أنهم يتمكنون بذلك من إقامة سدّ منيع أمام سيل فتوحات النور. فتجاه تلك الإهانة الصادرة من رجل واحد فقد صرفت العنايةُ الإلهية نظري إلى هؤلاء «المائة» إكراماً منها للخدمة الإيمانية التي تقدّمها «رسائل النور» وطلابُها قائلة: «انظر إلى هؤلاء، فقد أتوا للترحيب بكم لخدمتكم تلك، بقلوب ملآى بالرأفة والحزن والإعجاب والارتباط الوثيق».

    بل حتى في اليوم الثاني عندما كنت أجيب عن أسئلة حاكم التحقيق؛ احتشد ألفٌ من الناس في الساحة المقابلة لنوافذ المقر. كانت ملامحُ وجوههم تعبّر عن وضعهم، وتقول: «لا تضايقوا هؤلاء». ولشدة ارتباطهم بنا، عجزت الشرطةُ عن أن تفرقهم. وعند ذلك ورد إلى القلب:

    «إن هؤلاء الناس في هذا الوقت العصيب؛ ينشدون سلواناً كاملاً، ونوراً لا ينطفئ، وإيماناً راسخاً، وبشارةً صادقة بالسعادة الأبدية، بل يبحثون عنها بفطرتهم، وقد طرق سمعَهم أن ما يبحثون عنه موجود فعلاً في «رسائل النور»، لذا يبدون هذا الاحترام والتقدير لشخصي -الذي لا أهمية له- بما يفوق طاقتي وحدّي، من موقع كوني خادماً للإيمان، وعسى أن أكون قد قمت بشيء من الخدمة له».

    الحقيقة الثانية: لقد ورد إلى القلب: أنه حيال إهانتنا والاستخفاف بنا بحجة إخلالنا بالأمن العام، وإزاء صرفِ إقبال الناس عنا بالمعاملات الدنيئة التي يقوم بها أشخاصٌ معدودون من المغَرّر بهم.. فإن هناك الترحيبَ الحار والتقدير اللائق لنا من قبل أهل الحقيقة وأبناء الجيل القادم.

    نعم، في الوقت الذي تنشط الفوضى والإرهاب المتستّر بستار الشيوعية للإخلال بالأمن العام، فإن طلاب «رسائل النور» يوقفون ذلك الإفساد المرعب، في جميع أرجاء البلاد ويكسرون شوكتَه بقوة الإيمان التحقيقي، ويسعون حثيثاً لإحلال الأمن والنظام مكانَ الخوف والفوضى. فلم تظهر في العشرين سنة السابقة أيةُ حادثة كانت حول إخلالهم بالأمن، رغم كثرة طلاب النور وانتشارهم في جميع أنحاء البلاد، فلم يجد ولم يسجل عليهم أحدٌ من الضباط المسؤولين حدثاً، في عشر ولايات وعبر حوالي أربع محاكم ذات علاقة، بل لقد قال ضباطٌ منصفون لثلاث ولايات:

    «إن طلاب النور ضباط معنويون للأمن في البلاد، إنهم يساعدوننا في الحفاظ على الأمن والنظام لما يجعلون من فكر كل من يقرأ «رسائل النور» بالإيمان التحقيقي حارساً ورقيباً عليه فيسعون بذلك للحفاظ على الأمن العام».

    وسجن «دنيزلي» مثال واضح ونموذج جيد لهذا الكلام، فما إن دخل طلاب النور ورسالة «الثمرة» التي كُتبت للمسجونين حتى تاب أكثرُ من مائتي سجين وتحلّوا بالطاعة والصلاح، وذلك في غضون ثلاثة أشهر أو تزيد. حتى إن قاتلاً لأكثر من ثلاثة أشخاص كان يتحاشى أن يقتل (بقة الفِراش). فلم يعد عضواً لا يضر، بل أصبح نافعاً رحيماً بالبلاد والعباد.

    فكان الموظفون المسؤولون ينظرون إلى هذا الوضع بحَيرة وإعجاب، حتى صرّح بعض الشباب قبل أن يستلموا قرار المحكمة: «إذا لبث طلاب النور في السجن فسنحكُم على أنفسنا وندينُها لنظلّ معهم ونتتلمذ عليهم ونصلح أنفسنا بإرشاداتهم لنكون أمثالهم».

    فالذين يتهمون طلاب النور الذين لهم هذه الخصائص والخصال بإخلال الأمن لا محالة قد انخدعوا بشكل مفجع، أو خُدعوا، أو أنهم يستغفلون أركان الحكومة في سبيل الفوضى والإرهاب -من حيث يعلمون أو لا يعلمون- لذا يسعَون لإبادتنا وإقحامنا في العذاب.

    فنحن نقول لهؤلاء:

    «مادام الموتُ لا يُقتل والقبرُ لا يُغلق بابه، وقوافل البشرية في دار ضيافة الدنيا تغيب وتتوارى فيما وراء التراب بسرعة مذهلة.. فلا مناص أننا سنفترق في أقرب وقت، وسترَون جزاء ظلمكم جزاءً رهيباً، وفي الأقل ستذوقون الموتَ الذي هو رخصة من الحياة عند أهل الإيمان المظلومين، ستذوقونه إعداماً أبدياً لكم، فالأذواق الفانية التي تكسبونها بتوهمكم الخلود في الدنيا ستنقلب إلى آلامٍ باقية مؤلمة دائمة..

    إنَّ حقيقة الإسلام التي ظفرت بها هذه الأمة المتدينة وحافظت عليها بدماء مئات الملايين من شهدائها الذين هم بمرتبة الأولياء وسيوف أبطالها المجاهدين يطلق عليها اليوم -مع الأسف- أعداؤنا المنافقون المتسترون اسم «الطريقة الصوفية» أحياناً، ويظهرون الطريقة الصوفية التي هي شعاع واحد من أشعة تلك الشمس المنيرة أنها الشمسُ نفسها ليموّهوا على بعض الموظفين السطحيين. مطلقين على طلاب النور الذين يسعون بجد ونشاط لإبراز حقيقة القرآن وحقائق الإيمان اسم «أهل الطريقة الصوفية» أو «جمعية سياسية» ولا يبغون من ورائها إلّا التشويه والتحريض علينا. فنحن نقول لهؤلاء ولكل من يصغي إليهم قَولتنا التي قلناها أمام محكمة دنيزلي العادلة:

    «إن الحقيقةَ المقدسة التي افتدتها ملايينُ الرؤوس فداءٌ لها رأسنا أيضاً، فلو أشعلتم الدنيا على رؤوسنا ناراً فلن ترضخ تلك الرؤوس التي افتدت الحقيقةَ القرآنية ولن تسلم القيادة للزندقة ولن تتخلّى عن مهمتها المقدسة بإذن الله».

    وهكذا فلا أستبدل بسنةٍ واحدة من شيخوختي التي أنشأت حوادثُها اليأسَ والأعباءَ الثقيلة والتي أسعفها السلوانُ النـزيه النابع من الإيمان والقرآن، مع ما فيها من معاناة وضيق، عشرَ سنوات بهيجة سارة من حياة شبابي. وبالأخص إذا كان كل ساعة من ساعات التائب المقيم لفرائضه في السجن بحكم عشر ساعات له من العبادة، وأن كُل يوم يمرّ بالمريض وهو مظلوم يجعل صاحبَه يفوز بثواب عشرة أيام خالدة، فكم يكون مثل هذه الحياة مبعث شكر وامتنان لله لمثلي الذي يترقب دورَه وهو على شفير القبر.

    نعم، فهذا هو الذي فهمتُه من ذلك التنبيه المعنوي، فقلت: شكراً لله بلا نهاية.. وفرحت بشيخوختي ورضيت بالسجن.

    حيث إن العمر لا يتوقف بل يمضي مسرعاً، فإن مضى باللذة والفرح فإنه يورث الحزن والأسى؛ لأنَّ زوالَ اللذة يورث الألم، وإن مضى مشبعاً بالغفلة خاوياً من الشكر فإنه يترك بعض آثار الآثام ويفنى هو ويمضي. ولكن إذا مضى العمر بالعناء والسجن، فلكون زوالُ الألم يورث لذةً معنوية، وأن مثل هذا العمر يعدّ نوعاً من العبادة؛ لذا يظل باقياً من جهة، فيجعل صاحبَه يفوز بعمر خالد بثمرات خالدة خيّرة، ومن جهة أخرى يكون كفّارة للذنوب السابقة وتزكية للأخطاء التي سببت السجن. فمن زاوية النظر هذه على المسجونين الذين يؤدون الفرائض أن يشكروا الله تعالى ضمن الصبر.

    الرجاء السادس عشر

    عندما ساقوني منفياً إلى «قسطموني» ([23]) بعد أن أكملتُ سنة محكوميتي في سجن «أسكي شهر» وأنا الشيخ الهرم، مكثت موقوفاً هناك في مركز الشرطة حوالي ثلاثة أشهر. ولا يخفى عليكم مدى الأذى الذي يلحق بمثلي في مثل هذه الأماكن، وقد انعزل عن الناس، ولا يتحمَّل البقاءَ حتى مع أصدقائه الأوفياء، ولا يطيق أن يبدّل زيّه الذي اعتاد عليه. ([24])

    فبينما كان اليأس يحيط بي من كل جانب، إذا بالعناية الإلهية تغيث شيخوختي، إذ أصبح أفرادُ الشرطة المسؤولون في ذلك المخفر بمثابة أصدقاء أوفياء، حتى كانوا يخرجونني متى شئت للاستجمام والتجوال في سياحة حول المدينة وقاموا بخدمتي كأي خادم خاص، فضلاً عن أنهم لم يصروا عليّ بلبس القبعة مطلقاً.

    ثم دخلت المدرسة النورية التي كانت مقابل ذلك المخفر في «قسطموني» وبدأتُ بتأليف الرسائل، وبَدأ كل من «فيضي وأمين وحلمي وصادق ونظيف وصلاح الدين» وأمثالِهم من أبطال النور يداومون في تلك المدرسة لأجل نشر الرسائل وتكثيرها، وأبدوا في مذاكراتهم العلمية القيّمة التي أمضوها هناك جدارةً تفوق ما كنت قضيتُها أيام شبابي مع طلابي السابقين.

    ثم بدأ أعداؤنا المتسترون يحرّضون علينا بعضاً من المسؤولين وبعضاً ممن يعتدّون بأنفسهم والمغرورين من العلماء ومشايخ الصوفية، فأصبحوا الوسيلة في جمعنا في تلك المدرسة اليوسفية «سجن دنيزلي» مع طلاب النور القادمين من عدة ولايات.

    هذا وإن تفاصيل هذا الرجاء السادس عشر هي في تلك الرسائل التي أرسلتُها سراً من «قسطموني» والتي ضمّت في كتاب «ملحق قسطموني» وفي الرسائل المقتضبة السرية التي كنت قد أرسلتها إلى إخواني من سجن دنيزلي. ويرد تفاصيلها أيضاً في «الدفاع» المرفوع أمام محكمة دنيزلي.

    فحقيقة هذا الرجاء تظهر بوضوح في ذلك، نحيل إلى تلك التفاصيل المذكورة في (الملحق) و (الدفاع) ونشير هنا إشارة مختصرة إليها:

    لقد خبأتُ بعض الرسائل الخاصة والمجموعات المهمة ولاسيما التي تبحث عن دجّال المسلمين (السفياني) وعن كرامات «رسائل النور»، خبّأتُها تحت أكوام من الحطب والفحم لأجل أن تنشر بعد وفاتي، أو بعد أن تصغي آذان الرؤساء وتعي رؤوسُهم الحقيقة ويرجعوا إلى صوابهم. كنت مطمئن البال من هذا العمل، ولكن ما إن داهم موظفو التحريات ومعاون المدعي العام البيت وأخرجوا تلك الرسائل المهمة المخبوءة من تحت أكوام الفحم والحطب، فساقوني إلى سجن «اسبارطة» وأنا أعاني من اعتلال صحتى ما أعاني.

    وبينما كنت متألماً بالغَ الألم ومستغرقاً في التفكير حول ما أصاب «رسائل النور» من أضرار، إذا بالعناية الربانية تأتي لإغاثتنا جميعاً حيث بدأ المسؤولون الذين هم في أمسّ الحاجة إلى قراءة تلك الرسائل المخبوءة القيمة، بدأوا بدراستها بكل اهتمام ولهفة، فتحولت تلك المحافلُ الرسمية إلى ما يشبه المدارس النورية، إذ انقلب النقد والجرح عندهم إلى نظرة الإعجاب والتقدير. حتى إنه في «دنيزلي» قرأ الكثيرون سواء من المسؤولين أو غيرهم -دون علمنا- رسالةَ «الآية الكبرى» المطبوعة بسرية تامة فازدادوا إيماناً وأصبحوا سبباً لجعل مصيبتِنا كأن لم تكن.

    ثم ساقونا إلى سجن «دنيزلي» وزجّوني في ردهة كبيرة ذات عفونة ورطوبة شديدتين فوق ما فيها من برد شديدة، فاعتراني حزنٌ وألم شديدان من جراء ابتلاء أصدقائي الأبرياء بسببي فضلاً عن الحزن النابع مما أصاب انتشار «النور» من عطل ومصادرة مع ما كنت أعانيه من الشيب والمرض.. كل ذلك جعلني أتقلب مضطرباً في ضجر وسأم.. حتى أغاثتني العنايةُ الربانية فحوّلت ذلك السجنَ الرهيب إلى مدرسة نورية، فحقاً إنَّ السجن مدرسة يوسفية، وبدأت «رسائل النور» بالانتشار والتوسع حيث بدأ أبطال «مدرسة الزهراء» بكتابة تلك الرسائل بأقلامهم الألماسية. حتى إن بطل النور ([25]) قد استنسخ أكثر من عشرين نسخة من رسالتي «الثمرة» و «الدفاع» خلال مدة لم تتجاوز أربعة أشهر، مع ضراوة تلك الظروف المحيطة، فكانت تلك النسخ سبباً للفتوحات في السجن وفي خارجه فحوّل ضررَنا في تلك المصيبة إلى منافعَ وبدّل ضجرنا وحزننا إلى أفراح، مبدياً مرة أخرى سراً من أسرار الآية الكريمة: ﴿ وَعَسٰٓى اَنْ تَكْرَهُوا شَيْـًٔا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ (البقرة: ٢١٦).

    ثم وُزّع ضدَّنا بيانٌ شديد اللهجة بناء على التقرير السطحي الخاطئ المقدَّم من قبل «الخبراء الأوّلين» وشنّ وزير التربية هجوماً عنيفاً علينا، مما حدا بالبعض أن يطالب بإعدامنا بل قد سعوا في الأمر.

    وفي هذا الوقت العصيب بالذات جاءتنا العنايةُ الربانية فأسعفتنا أيضاً، إذ بينا ننتظر انتقادات لاذعة عنيفة من «خبراء أنقرة» إذا بتقاريرهم المتضمنة للإعجاب والتقدير برسائل النور، وإذا بهم لم يجدوا من مجموع خمسة صناديق من «رسائل النور» إلّا بضعةُ أخطاء لا تتجاوز العشرة. وقد وضحّنا أمام المحكمة وأثبتنا كذلك أن هذه الأخطاء التي أوردوها ليست أخطاءً، بل الحقيقة بعينها، وأن الخبراء هم أنفسهم على خطأ فيما يدّعون، وبيّنا أن في تقريرهم المتكون من خمس أوراق حوالي عشرة أخطاء.

    وبينما كنا ننتظر التهديد والأوامر المشددّة من الدوائر الرسمية السبع التي أُرْسِلَتْ إليها رسالتا «الثمرة» و «الدفاع» كما أُرسلت إلى دائرة العدل جميع الرسائل، ولاسيما تلك الرسائل الخاصة المتضمنة للصفعات الشديدة والتعرض لأهل الضلالة.. أجل بينما كنا ننتظر التهديد العنيف منهم، إذا بتقاريرهم المسلّية وهي في منتهى اللين والرقة -الشبيهة بتلك الرسالة التي بعثها رئيس الوزراء إلينا- وكأنهم يبدون رغبتهم في المصالحة معنا.

    فأثبت -كل هذا- إثباتاً قاطعاً أنَّ حقائق «رسائل النور» بفضل العناية الإلهية وكرامتها قد غلبَتهم وانتصرت عليهم حتى جعلَتهم يقرأونها ويسترشدون بها، وحولت تلك الدوائر الرسمية الواسعة إلى ما يشبه المدارس النورية، وأنقذت كثيراً من الحيارى والمترددين وشدّت من إيمانهم، مما ملأنا بهجة وسروراً هو أضعاف أضعاف ما كنا نعانيه من ضيق وضجر.

    ثم دسّ الأعداءُ المتسترون السُّم في طعامي، ونقل بطل النور الشهيد «الحافظ علي» على إثرها إلى المستشفى بدلاً عني، ومن ثم ارتحل إلى عالم البرزخ أيضاً عوضاً عني، مما جعلنا نحزن كثيراً ونبكى بكاءً حاراً عليه.

    لقد قلت يوماً -قبل نـزول هذه المصيبة بنا- وأنا على جبل قسطموني. بل صرختُ مراراً: يا إخواني «لا تلقوا اللحمَ أمام الحصان ولا العشبَ أمام الأسد» بمعنى: لا تعطوا كل رسالة أياً كان حذراً من أن يتعرضوا لنا بسوء. وكأن الأخ «الحافظ علي» قد سمع بهاتفه المعنوي كلامي هذا (وهو على بعد مسيرة سبعة أيام). فكتب إليّ -في الوقت نفسه- يقول: «نعم يا أستاذي.. إنها من إحدى كرامات «رسائل النور» وخصائصها أنها لا تعطي اللحم الحصانَ ولا العشب الأسدَ، بل تعطى العشبَ الحصانَ واللحم الأسد!» حتى أعطى ذلك العالِمَ رسالة «الإخلاص»، وبعد سبعة أيام تسلّمنا رسالته هذه، وبدأنا بالعدّ والحساب فعلمنا أنه قد كتب تلك العبارة الغريبة نفسَها في الوقت الذي كنت أُرددها من فوق جبل «قسطموني».

    فوفاة بطل معنوي مثل هذا البطل من أبطال النور، والمنافقون يسعون لإدانتنا وإنـزال العقوبة بنا، علاوة على قلقي المستمر من أخذهم إياي بأمر رسمي إلى المستشفى لمرضي الناشئ من التسميم.. في هذا الوقت وجميعُ هذه المضايقات تحيط بنا، إذا بالعناية الإلهية تأتي لإمدادنا؛

    فلقد أزال الدعاء الخالص المرفوع من قبل إخواني الطيبين خطر التسميم. وهناك أمارات قوية جداً تدل على أن ذلك البطل الشهيد منهمك في قبره برسائل النور، وأنه يجيب بها عن أسئلة الملائكة. وأن بطل دنيزلي «حسن فيضي» (تغمده الله برحمته) وأصدقاءه الأوفياء سيحلّون محلّه فيقومون بمهمته في خدمة النور سراً.. وأن أعداءنا قد انضموا إلى الرأي القائل بضرورة إخراجنا من السجن خوفاً من سعة انتشار الرسائل بين المساجين وسرعة استجابتهم لها ليحولوا بيننا وبين السجناء، وقد حوّل تلاميذ النور تلك الخلوة المزعجة إلى ما يشبه كهف أصحاب الكهف، أولئك الفتية المؤمنين، أو ما يشبه مغارات المنـزوين من الزهاد، وسعوا بكل اطمئنان وسكينة في كتابة الرسائل ونشرها.. كل ذلك أثبت أن العناية الإلهية كانت تمدّنا وتغيثنا.

    ولقد خطر للقلب: ما دام الإمام الأعظم «أبو حنيفة النعمان» وأمثالُه من الأئمة المجتهدين قد أوذوا بالسجن وتحملوا عذابه، وأن الإمام «أحمد بن حنبل» وأمثالَه من المجاهدين العظام قد عُذّبوا كثيراً لأجل مسألة واحدة من مسائل القرآن الكريم. وقد ثبت الجميع أمام تلك المِحن القاسية وكانوا في قمة الصبر والجَلَد، فلم يُبدِ أحدُهم الضجر والشكوى، ولم يتراجع عن مسألته التي قالها. وكذا علماءٌ عظام كثيرون وأئمة عديدون لم يتزلزلوا قط أمام الآلام والأذى الذي نـزل بهم، بل صبروا شاكرين لله تعالى، مع أن البلاء الذي نـزل بهم كان أشدّ مما هو نازل بكم، فلابد أن في أعناقكم دَين الشكر لله تبارك وتعالى شكراً جزيلاً على ما تتحملونه من العذاب القليل والمشقة اليسيرة النازلة بكم في سبيل حقائق عديدة للقرآن الكريم مع الثواب الجزيل والأجر العميم.

    وسأبين هنا باختصار إحدى تجليات العناية الربانية من خلال الظلم الذي يقترفه البشر:

    كنت أُكرر وأقول في العشرين من عمري: سأنـزوي في أُخريات حياتي في مغارة، مبتعداً عن الحياة الاجتماعية كما كان ينـزوي الزهاد في الجبال، وكذلك قررت عندما كنت أسيراً في شمال شرقي روسيا في الحرب العالمية الأولى أن أقضي بقية أيام عمري في الكهوف والمغارات منسلاً عن الحياة الاجتماعية والسياسية. كفاني تدخلاً.. فتجلّت العناية الربانية وعدالةُ القدر -رحمةً بشيخوختي- وحوّلتا تلك المغارات التي كنت أتصورها إلى ما هو خيرٌ وأفضل منها، وبما يفوق كثيراً رغبتي وقراري.. حوّلتاها إلى سجون انـزواء وانفراد، ومنحتا لي «مدارس يوسفية» بدلاً عن تلك المغارات في الجبال للمنـزوين وأهل الرياضة الروحية، لئلا تضيع أوقاتُنا سدىً، حيث إن في تلك المغارات فوائدَ أخرويةً زيادة عما فيها من أداء مهمة الجهاد لأجل القرآن والحقائق الإيمانية.

    حتى عزمت -بعد الإفراج عن إخواني وتبرئتهم- أن أُظهر شيئاً يدينني ويبقيني في زنـزانة السجن مع «خسرو وفيضي» وأمثالِهم من المجاهدين المخلصين المتفرغين للخدمة لأتخذها حُجةً تغنيني عن الاختلاط بالناس ولئلا أضيّع شيئاً من وقتي فيما لا يعني من الأمور وبالتصنع وحب الظهور، حيث البقاء في ردهات السجن أفضل،

    إلّا أن القدر الإلهي وما قسم الله لنا من رزق قد ساقني إلى محل انـزواء آخر.

    فحسب مضمون: (الخير فيما اختاره الله) وبسر الآية الكريمة: ﴿ وَعَسٰٓى اَنْ تَكْرَهُوا شَيْـًٔا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ (البقرة: ٢١٦). ورحمةً بشيخوختي، ولأجل أن نسعى بشوق أكثر في الخدمة الإيمانية، فقد وُهبتْ لنا مهمةٌ، وأوكلت إلينا وظيفة، هي خارج إرادتنا وطوقنا في هذه «المدرسة اليوسفية الثالثة».

    نعم، إنَّ في تحويل العناية الإلهية مغاراتِ عهد الشباب الذي لم يكن له أعداء شرسون، إلى ردهات السجن المنفرد، ثلاث حِكم وثلاث فوائد مهمة لخدمة النور:

    الحكمة والفائدة الأولى

    اجتماع طلاب النور في هذا الوقت دون أن يتضرر منهم أحد إنما يكون في «المدرسة اليوسفية». حيث إنَّ اللقاء فيما بينهم في الخارج قد يثير الشبهة ويحتاج إلى مصاريف، إذ كان بعضهم ينفق حوالي خمسين ليرة لأجل لقائي مدة لا تزيد عن عشرين دقيقة، أو كان يرجع دون أن يتمكن من مقابلتي. لذا فأنا أتحمل ضيق السجن بل أتقبله مسروراً لأجل اللقاء عن قرب مع بعض إخوتي الأوفياء، فالسجن بالنسبة لنا إذن نعمة ورحمة.

    الحكمة والفائدة الثانية

    إنه لابدّ من الإعلان والتبليغ في كل جهة في وقتنا هذا عن خدمة الإيمان برسائل النور، ولفت أنظار المحتاجين إليها في كل مكان. فدخولنا السجون يلفت الأنظار إلى الرسائل، فيكون إذن بمثابة إعلان عنها، فيجدها أعتى المعاندين والمحتاجين فتكسر بها شوكةَ عنادهم وينقذون بها إيمانهم، وينجون من المهالك، وتتوسع دائرة مدارس النور.

    الحكمة والفائدة الثالثة

    إنَّ طلاب النور الذين دخلوا السجن يتعرف كلٌّ منهم على أحوال الآخر، ويتعلم كل منهم من الآخر السجايا الحميدة والإخلاص والتضحية، فلا يبالون بعدئذٍ بالمنافع الدنيوية في الخدمة النورية.

    نعم إنهم يوفقون بالظفر بالإخلاص الكامل لما يجدون ويرون من أمارات كثيرة تدل على أن كل ضيق ومشقة في «المدرسة اليوسفية» لها عشرةُ أضعافها من الفوائد المعنوية والمادية، ومن النتائج اللطيفة، ومن الخدمات الواسعة الخالصة للإيمان، بل قد تصل إلى مائة ضعف، وعندئذٍ لا يتنازلون لكسب المنافع الخاصة الجزئية.

    وبالنسبة لي فإن لأماكن الانـزواء والمعتكفات هذه لطافةً حزينة إلّا أنها لذيذة وهي كما يأتي:

    إني أجد هنا من الأوضاع والأحوال ما كنت أجده في أيام شبابي في بلدتي وفي مدرستي القديمة، حيث كان طعام قسم من طلاب المدارس -حسب عادة الولايات الشرقية- يأتيهم من خارج المدرسة وقسم آخر يطبخونه فيما بينهم في المدرسة، فكلما نظرت هنا -مع حالات أخرى متشابهة- تذكرت تلك الحالة أيام شبابي من خلال حسرة لذيذة فأذهب خيالاً إلى تلك الأيام، وأنسى حالات شيخوختي.

    ذيل اللمعة السادسة والعشرين

    هو المكتوب الحادي والعشرون، نشر ضمن «المكتوبات».



    اللمعة الخامسة والعشرون | اللمعات | اللمعة السابعة والعشرون

    1. كتب المؤلف رحمه الله الهامش الآتي على نسخة خطية مصححة من قبله: إنَّ بقية الرجايا (أي من الرجاء الرابع عشر إلى الرجاء السادس والعشرين) لم تكتب لوقوع المصيبة المعروفة (سجن اسكي شهر). ولفوات أوانها ظلت هذه الرسالة ناقصة.
    2. قال أبو ذر رضي الله عنه: (قلت: يا رسول الله كم وفاء عدة الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جماً غفيراً). أحمد بن حنبل، المسند ٥/ ٢٦٥؛ ابن حبان، الصحيح ٢/ ٧٧؛ الطبراني، المعجم الكبير ٨/ ٢١٧؛ الحاكم، المستدرك ٢/ ٦٥٢؛ ابن سعد، الطبقات الكبرى ١/ ٢٣، ٥٤.
    3. إن مدى السهولة في إخبار «الأمر الثبوتي» ومدى الصعوبة والإشكال في نفي وإنكار ذلك، يظهر في المثال الآتي:
      إذا قال أحدهم: إن هناك -على سطح الأرض- حديقة خارقة جداً ثمارها كعلب الحليب، وأنكر عليه الآخر قوله هذا قائلاً: لا، لا توجد مثل هذه الحديقة. فالأول يستطيع بكل سهولة أن يثبت دعواه، بمجرد إراءة مكان تلك الحديقة أو بعض ثمارها. أما الثاني (أي المنكر) فعليه أن يرى ويُري جميع أنحاء الكرة الأرضية لأجل أن يثبت نفيه، وهو عدم وجود مثل هذه الحديقة.
      وهكذا الأمر في الذين يخبرون عن الجنة، فإنهم يُظهرون مئات الآلاف من ترشحاتها، ويبيّنون ثمارها وآثارها، علماً أن شاهدَين صادقين منهم كافيان لإثبات دعواهم، بينما المنكرون لوجودها، لا يسعهم إثبات دعواهم إلّا بعد مشاهدة الكون غير المحدود، والزمن غير المحدود، مع سبر غورهما بالبحث والتفتيش، وعند عدم رؤيتهم لها، يمكنهم إثبات دعواهم!
      فيا من بلغ به الكبر عتياً ويا أيها الاخوة! اعلموا ما أعظم قوة الإيمان بالآخرة وما أشد رصانته!. (المؤلف).
    4. وردت هذه الحالة الروحية على صورة مناجاة إلى القلب باللغة الفارسية، فكتبتها كما وردت، ثم طبعت ضمن رسالة «حباب» في أنقرة. (المؤلف). (راجع المثنوي العربي النوري).
    5. لأبي العتاهية.
    6. البخاري، التاريخ الكبير ٣/ ٤٧٢؛ الزبيدي، إتحاف السادة ٨/ ٨١؛ العجلوني، كشف الخفاء ١/ ٣٤٤-٣٤٥؛ علي القاري، الأسرار المرفوعة ص ١٠٨.
    7. انظر: أبو يعلى ، المسند ١١/ ١٢٨٧؛ الطبراني، المعجم الكبير ٢٢/ ٣٠٩.
    8. لقد أثبتت هذه الحقيقة بصورة قاطعة كقطعية (اثنين في اثنين يساوي أربعاً) في سائر الرسائل ولاسيما «الكلمة العاشرة» و«الكلمة التاسعة والعشرون». (المؤلف).
    9. هي أعلى مؤسسة علمية تابعة للمشيخة الإسلامية في الدولة العثمانية.
    10. وهكذا فإن الأخ الصغير لهذا الشاب «مصطفى» يدعى «علي الصغير» قد أثبت أنه «عبدالرحمن» حقاً، بكتابته أكثر من سبعمائة نسخة من رسائل النور بقلمه الطاهر بل قد ربى عديداً من عباد الرحمن. (المؤلف).
    11. نعم فقد أظهر هذا الشاب أنه ليس أهلاً للقبول فحسب، بل هو أهل للاستقبال كذلك. (المؤلف).
      هذه حادثة أرويها تصديقاً لحكم أستاذي من أن مصطفى، وهو أول تلميذ لرسائل النور أهل للاستقبال: «كان الأستاذ يرغب في التجول في اليوم السابق ليوم عَرَفة، فأرسلني لأن أهيئ له الفرس، قلت: لا تنـزل يا أستاذي لغلق الباب فأنا سأقفله وسأخرج من الباب الخلفي، قال لي: بل اخرج من الباب.. فنـزل وأغلق الباب بالمزلاج من ورائي، وصعد إلى غرفته يضطجع... وبعد ذلك قدم «مصطفى اونلى» بصحبة الحاج عثمان. وكان الأستاذ لا يقبل يومها أحداً عنده بله أن يقبل في تلك الفترة شخصين معاً! فلا محالة أنه يردهما.. ولكن مصطفى هذا المذكور في هذا البحث ما إن أتى إلى باب الأستاذ مع الحاج عثمان حتى كأن الباب قد رحّب به بلسان الحال قائلاً: إن أستاذي لن يستقبلك، ولكني سأنفتح لك فانفتح له الباب المغلق. «نعم إن ما قاله الأستاذ حق حول مصطفى من أنه يستحق الاستقبال والقبول، مثلما أظهر المستقبل ذلك بوضوح فإن باب بيته قد شهد على ذلك أيضاً..» خسرو.
      «نعم إن ما كتبه «خسرو» صدق، فأنا أُصدِّقه. فباب البيت الذي أسكنه قد قبل مصطفى واستقبله بدلاً عني».
      سعيد النورسي
    12. إن حادثة المدرسة التي يذكرها الرجاء الثالث عشر قد حدثت قبل ثلاث عشر سنة... إنه توافق لطيف!!. (المؤلف).
    13. قول المتنبي: لولا مفارقة الأحباب.. إلخ.. في «لها» وجه غريب، وهو أن تقدره جمعاً للهاة، كحصاة وحصا، ويكون «لها» فاعلاً بـ«وجدت» و«المنايا» مضافاً إليه. ويكون إثبات اللهوات للمنايا استعارة شُبهت بشيء يبتلع الناس. ويكون قد أقام «اللها» مقام الأفواه، لمجاورة اللهوات للفم. (عن مغنى اللبيب ١/ ٢٣٤).
    14. البيهقي، شعب الإيمان ٧/ ٣٩٦؛ الديلمي، المسند ٤/ ٥١.
    15. مثل الزلازل والعواصف والطوفان والطاعون والحريق. (المؤلف).
    16. أبو يعلى، المسند ١/ ٤٦٧؛ الطبراني، المعجم الكبير ٢٢/ ٨٣، المعجم الاوسط ١/ ٩٤؛ البيهقي، شعب الإيمان ٦/ ١٦٨.
    17. انظر: الطبرانى، المعجم الاوسط ٥/ ٢٧٠، مسند الشاميين ٢/ ٢٦٨، الشيباني، السنة ١/ ١٦؛ العجلوني، كشف الخفاء ١/ ٢٨٤.
    18. المقصود «المرتبة النورية السادسة من الشعاع الرابع-الشعاعات».
    19. كُتب هذا الرجاء الخامس عشر كي يكون مصدر تكملة رسالة الشيوخ وتأليفها من قبل أحد طلاب النور، حيث إن فترة تأليف «رسائل النور» قد انتهت قبل ثلاث سنوات. (المؤلف).
    20. قضاء يقع في أواسط الأناضول، نفي إليه الأستاذ النورسي سنة ١٩٤٤ وظل فيه حتى سنة ١٩٥١.
    21. سعى الأستاذ النورسي طوال حياته لإقامة هذه المدرسة التي تدمج فيها الدراسة الدينية والعلمية معاً، حتى وضع حجرها الأساس سنة ١٩١١ قرب بحيرة «وان». إلّا أن ظروف الحرب العالمية الأولى حالت دون إتمام المشروع، ولكن العناية الربانية عوضت عن تلك المدرسة بمدرسة معنوية امتدت أغصانها الوارفة في طول البلاد وعرضها، تلك هي المدارس المعنوية النورية، ومن هنا كان الأستاذ النورسي يعد طلاب النور طلاب مدرسة الزهراء.
    22. المقصود سجن أفيون سنة ١٩٤٨.
    23. مدينة تقع في شمالي تركيا، نفي إليها الأستاذ النورسي سنة ١٩٣٦ وظل فيها تحت الإقامة الإجبارية في غرفة مقابل مخفر الشرطة إلى أن سيق منها (سنة ١٩٤٣) موقوفاً لمحاكمته في محكمة الجزاء الكبرى في «دنيزلي».
    24. حيث أُكره الناس على لبس القبعة والزي الأوروبي بعد صدور (قانون القيافة ١٩٢٥).
    25. المقصود الحافظ علي.