الكلمة السابعة عشرة
الكلمة السابعة عشرة
بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ
﴿ اِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْاَرْضِ ز۪ينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ اَيُّهُمْ اَحْسَنُ عَمَلًا ❀ وَاِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَع۪يدًا جُرُزًا ﴾ (الكهف:٧-٨)
﴿ وَمَا الْحَيٰوةُ الدُّنْيَٓا اِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ﴾ (الأنعام:٣٢)
هذه الكلمة عبارة عن مقامين عاليين وذيل ساطع.
إنّ الخالق الرحيم والرزاق الكريم والصانع الحكيم قد جعل هذه الدنيا على صورة عيد بهيج واحتفال مهيب ومهرجان عظيم لعالم الأرواح والروحانيات، وزيّنها بالآثار البديعة لأسمائه الحسنى، وخلع على كل روح -صغيرا كان أم كبيرا، عاليا كان أم سافلا-، جسدا على قدّه وقدره، وجهّزه بالحواس والمشاعر وكل ما يوافقه للاستفادة من الآلاء المختلفة والنعم المتنوعة التي لا تعد ولا تحصى، والمبثوثة في ذلك العيد البهيج، والمعروضة في ذلك المهرجان العظيم.
ومنح سبحانه لكل روح من تلك الأرواح وجودا جسمانيا «ماديا» وأرسلها إلى ذلك العيد والمهرجان مرة واحدة، ثم قسّم ذلك العيد الواسع جدا زمانا ومكانا إلى عصور وسنوات ومواسم، بل حتى إلى أيام وأجزاء أيام، جاعلا من كل عصر، من كل سنة، من كل موسم، من كل يوم، من كل جزء من يوم، مهرجانا ساميا وعيدا رفيعا واستعراضا عاما لطائفة من مخلوقاته ذوات أرواح ومن مصنوعاته النباتية،
ولا سيما سطحُ الأرض، ولاسيّما في الربيع والصيف، جاعلا أعيادا متعاقبة، الواحد تلو الآخر، لطوائف مصنوعاته الصغيرة جدا، حتى غدا ذلك العيد عيدا رائعا جذابا لَفَتَ أنظار الروحانيات الموجودة في الطبقات العليا والملائكة وأهل السماوات إلى مشاهدته، وجلب أنظار أهل الفكر إلى مطالعته بمتعة إلى حد يعجز العقل عن استكناه متعتها..
ولكن هذه الضيافة الإلهية والعيد الرباني، وما فيهما من تجليات اسم «الرحمن» و«المحيي» يكتنفها الفراق والموت، حيث يبرز اسم الله «القهار» و«المميت» وربّما هذا لا يوافق -كما يبدو- شمول رحمته تعالى المذكور في قوله: ﴿ وَرَحْمَت۪ي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ (الأعراف:١٥٦). ولكن في الحقيقة هناك جهات عدة يظهر فيها الانسجام والموافقة الكاملة مع الرحمة الإلهية، نذكر منها جهةً واحدة فقط:
وهي أنه بعد انتهاء الاستعراض الرباني لكل طائفة من الطوائف، وبعد استحصال النتائج المقصودة من ذلك العرض، يتفضل الفاطر الرحيم والصانع الكريم على كل طائفة من الطوائف، فيمنحهم رغبة في الراحة واشتياقا إليها وميلا إلى الانتقال إلى عالمٍ آخر، ويُسئمهم من الدنيا بأشكال من النفور والسأم رحمةً بهم.
وحينما يُرخّصون من تكاليف الحياة ويُسرّحون من وظائفها، يُنبّه سبحانه في أرواحهم رغبة قوية وحنينا إلى موطنهم الأصلي. وكما يمنح سبحانه مرتبة الشهادة لجندي بسيط يُقتل في سبيل أداء الخدمة ويهلك في مهمة الجهاد، وكما يمنح الشاة الأضحية وجودا ماديا في الآخرة ويكافؤها بجعلها مطية كالبراق لصاحبها مارة به على الصراط المستقيم، ([1])
فليس بعيدا من ذلك الرحمن الكريم أن يمنح لذوي الأرواح والحيوانات ثوابا روحانيا يلائمهم وأجرا معنويا يوافق استعدادهم، من خزينة رحمته الواسعة، بعد ما قاسوا المشقات وهلكوا أثناء أداء وظائفهم الفطرية الربانية الخاصة بهم، وعانوا ما عانوا في طاعتهم للأوامر السبحانية. وذلك لئلا يتألموا ألما شديدا لدى تركهم الدنيا، بل يكونون راضين مرضيين..
ولا يعلم الغيب إلّا الله.
بَيْدَ أنّ الإنسان الذي هو أشرف ذوي الأرواح وأكثرهم استفادة من هذا العيد -من حيث الكمية والنوعية- يوهب له برحمة من الله ولطف منه حالةً من الشوق الروحي تنفّره عن الدنيا التي ابتلي بها، كي يعبر إلى الآخرة بأمان. فالإنسان الذي لم تغرق إنسانيته في الضلالة يستفيد من تلك الحالة الروحية فيرحل عن الدنيا وقلبه مطمئن بالإيمان.
نبين هنا خمسةً من الوجوه التي تورث تلك الحالة الروحية على سبيل المثال:
الوجه الأول: إنّه سبحانه وتعالى يُظهر للإنسان -بحلول الشيخوخة- ختم الفناء والزوال على الأشياء الدنيوية الفتانة، ويفهّمه معانيها المريرة؛ مما يجعله ينفر من الدنيا ويسرع للتحري عن مطلوب باق خالد بدلا من هذا الفاني الزائل.
الوجه الثاني: إنه تعالى يُشعر الإنسان شوقا ورغبة في الذهاب إلى حيث رحل تسع وتسعون بالمائة من أحبته الذين يرتبط معهم والذين استقروا في عالم آخر، فتدفع تلك المحبة الجادة الإنسان ليستقبل الموت والأجلَ بسرور وفرح.
الوجه الثالث: إنه تعالى يدفع الإنسان ليستشعر ضعفه وعجزه غير المتناهيين، سواء بمدى ثقل الحياة أو تكاليف العيش أو أمور أخرى، فيولد لديه رغبة جادة في الخلود إلى الراحة وشوقا خالصا للمضي إلى ديار أخرى.
الوجه الرابع: إنه تعالى يبيّن للإنسان المؤمن -بنور الإيمان- أنّ الموت ليس إعداما بل تبديل مكان، وأنّ القبر ليس فوهة بئر عميقة بل باب لعوالم نورانية، وأنّ الدنيا مع جميع مباهجها في حكم سجن ضيق بالنسبة لسعة الآخرة وجمالها. فلا شك أنّ الخروج من سجن الدنيا والنجاة من ضيقها إلى بستان الجنان الأخروية، والانتقال من منغصات الحياة المادية المزعجة إلى عالم الراحة والطمأنينة وطيران الأرواح، والانسلاخ من ضجيج المخلوقات وصخبها إلى الحضرة الربانية الهادئة المطمئنة الراضية، سياحة بل سعادة مطلوبة بألفِ فداء وفداء.
الوجه الخامس: إنّه تعالى يُفهّم المنصتَ للقرآن الكريم ما فيه من علم الحقيقة، ويعلّمه بنور الحقيقة ماهية الدنيا، حتى يغدو عشقها والركون إليها تافها لا معنى له.. أيْ يقول له ويُثبت:
أنّ الدنيا كتاب رباني صمداني مفتوح للأنظار، حروفه وكلماته لا تمثل نفسَها، بل تدل على ذات بارئها وعلى صفاته الجليلة وأسمائه الحسنى، ولهذا، افهم معانيها وخذ بها، ودَع عنك نقوشها وامضِ إلى شانك..
واعلم أنها مزرعة للآخرة، فازرع واجنِ ثمراتها واحتفظ بها، وأهمل قذاراتها الفانية..
واعلم أنها مجاميع مرايا متعاقبة، فتعرّف إلى مَن يتجلى فيها، وعاين أنواره، وأدرك معاني أسمائه المتجلية فيها واحبب مسمّاها، واقطع علاقتك عن تلك القطع الزجاجية القابلة للكسر والزوال..
واعلم أنها موضع تجارة سيّار، فقم بالبيع والشراء المطلوب منك، دون أن تلهثَ وراء القوافل التي أهملتك وجاوزتك، فتتعب..
واعلم أنها متنـزه مؤقت فاسرح ببصرك فيها للعبرة، ودقق في الوجه الجميل المتستر، المتوجه إلى الجميل الباقي، وأعرض عن الوجه القبيح الدميم المتوجه إلى هوى النفس، ولا تبك كالطفل الغرير عند انسدال الستائر التي تريك تلك المناظر الجميلة..
واعلم أنها دار ضيافة، وأنت فيها ضيف مكرم، فكُلْ واشربْ بإذنِ صاحب الضيافة والكرم، وقدّم له الشكر، ولا تتحرك إلّا وفق أوامره وحدوده، وارحل عنها دون أن تلتفت إلى ورائك.. وإيّاك أن تتدخل بفضول بأمور لا تعود إليك ولا تفيدك بشيء، فلا تغرق نفسك بشؤونها العابرة التي تفارقك.
وهكذا بمثل هذه الحقائق الظاهرة يخفف سبحانه وتعالى عن الإنسان كثيرا من آلام فراق الدنيا، بل قد يحببه إلى النابهين اليقظين، بما يظهر سبحانه عليه من أسرار حقيقة الدنيا، وإنه أثرٍ من آثار رحمته الواسعة في كل شيء، وفي كل شأْن.
وإذْ يشير القرآن الكريم إلى هذه الوجوه الخمسة، فإنّ آياتٍ كريمة تشير إلى وجوه خاصة أخرى كذلك.
فيا لتعاسة من ليس له حظ من هذه الوجوه الخمسة.
المقام الثاني من الكلمة السابعة عشرة
([2])
إنما الشكوى بلاء
دَع الصُّراخ يا مسكين، وتوكل على اللّه في بلواك.
إنما الشكوى بلاء.
بل بلاء في بلاء، وآثام في آثام وعناء.
إذا وجدتَ مَن ابتلاك،
عاد البلاءُ عطاءً في عطاء، وصفاءً في صفاء.
دع الشكوى، واغنم الشكر. فالأزهار تبتسم من بهجة عاشقها البلبل.
فبغير اللّه دنياك آلام وعذاب، وفناء وزوال، وهباء في هباء.
فتعالَ، تَوكّلْ عليه في بلواك!
ما لكَ تصرخ من بلية صغيرة، وأنت مثقل ببلايا تسع الدنيا.
تَبسَّمْ بالتوكل في وجه البلاء، ليبتسمَ البلاء.
فكلَّما تبسّم صغُر وتضاءَل حتى يزول.
أيُّها المغرور اعلم
أنّ السعادة في هذه الدنيا، في تركها.
إن كنتَ باللّه مؤمنا.. فهو حسبُك، فلو أدبرتَ عن الدنيا أقبلتْ عليك.
وإن كنتَ مُعجِبا بنفسك، فذلك الهلاك المبين.
ومهما عملت فالأشياءُ تعاديك.
فلابدَّ من الترك إذن في كلتا الحالتين.
وتركها يعني: أنها مُلك اللّه، يُنظر إليها بإذنه وباسمه،
وإن كنتَ تبغي تجارة رابحة، فهي
في استبدال عمر باقٍ لا يزول بعمرك الفاني الزائل.
وإن كنتَ تريد رغبات نفسك، فهي زائلة، تافهة، واهية.
وإن كنتَ تتطلع إلى الآفاق، فختم الفناء عليها.
فالمتاع في هذه السوق مزيف. لا يستحق الشراء إذن.
لذا دَعْهُ، فالأصيل منه قد أعدَّ خلفه..
غرباء الحيرة
على قمة شجرة التوت الأسود المباركة، ذكر سعيد القديم بلسان سعيد الجديد هذه الحقائق.
مخاطبي ليس «ضياء باشا» (∗) بل المفتونون بأوروبا.
والمتكلم ليس نفسي، بل قلبي تلميذ القرآن.
إن «الكلمات» السابقة حقائق. إيّاك أن تَحارَ، احذَرْ أن تُجاوز حدَّها
لا تُزغْ، ولا تُصغِ إلى فكر الأجانب، إنه ضلال، يسوقك إلى الندم.
ألا تَرَى الأوسعَ فكرا والأحدَّ نظرا يقول دوما في حيرته:
آه! وا أسفى! ممن أشكو، ولمن! فقد ذَهُلْتُ!
وأنا أقولُ ولا أتردد فالقرآن ينطقني:
أشكو منه إليه، ولا أتحيّر مثلَك!
أستغيث من الحق بالحق، لا أتجاوز حدّي.
أدعو من الأرض إلى السماء، ولا أهرب مثلَك!
في القرآن الكريم: الدعوة كلها؛ من النور وإلى النور، لا أنكُثُ مثلَك.
في القرآن الكريم: الحكمة الصائبة. أثبتها، ولا أعير للفلسفة المخالفة أيَّ اهتمام!
في القرآن الكريم: جواهر الحقائق.
أفديها بروحي.. لا أبيعها مثلَك!
أجيل طَرْفي من الخلق إلى الحق، لا أضل مثلَك!
أطير فوق الطريق الشائك، لا أطؤها مثلك!
يصعد شكري إلى عنان السماء، لا أعصي مثلَك!
أرى الموت صديقا، لا أخافه مثلَك!
أدخلُ القبرَ باسما، لا أرتعدُ مثلَك!
فمَ تنّين، فِراشَ الوحشة، عتبةَ العَدَمِ.. لا أراهُ مثلَك!
بل موضع تلاقي الأحباب.. لا أضجر منه، لا أبغِضُهُ مِثْلَك!
لا أتضايقُ منه، ولا أهابه.
فهو باب الرحمة، باب النور، باب الحق
أقرعه باسم الله، ولا ألْتَفِتُ، ولا تَأْخُذِني الدَّهشةُ.
سأرقُد قريرَ العين، حامِدا رَبِّي، لا أقاسي ضِيقا، ولا أظلُّ في وحشة.
سأقوم على صدى أذانِ إسرافيلَ في فَجر الحشر، قائلا.. «الله أكبر» .
لا أرهَبُ من المحشر الأكبر!
لا أتخلَّفُ عن المسجد الأعظم!
من لطف الله ونور القرآن الكريم وفيض الإيمان.. لا أيأسُ أصلا.
بل أسعى وأجري طائرا إلى ظل عرش الرحمن.
ولا أحارُ مثلك.. إن شاء الله.
هذه المناجاة تخطَّرتْ في القلب هكذا بالبيان الفارسي
هٰذِهِ ال۟مُنَاجَاةُ تَخَطَّرَت۟ فِى ال۟قَل۟بِ هٰكَذَا بِال۟بَيَانِ ال۟فَارِسٖى
كتبت هذه المناجاة كما خطرت على القلب، باللغة الفارسية، وقد نشرت ضمن رسالة «حباب من عمان القرآن الحكيم».
يَا رَبْ! بَه شَشْ جِهَتْ نَظَرْ مِى كَرْدَمْ، دَرْدِ خُودْ رَا دَرْمَانْ نَمِى دِيدَمْ
يا رب! لقد سَرَحْتُ نظري في الجهات الستِ، علّني أجد دواءً لدائي، وأنا مستند إلى اقتداري واختياري غافلا لا متوكلا، ولكن وا أسفى لم أستطع أن أجِدَ دواءً لدائي.. وقيل لي معنىً: ألا يكفيك الداءُ دواءً.
دَرْ رَاسْت مِى دِيدَمْ كِه: دِيرُوزْ مَزَارِ پَدَرِ مَنْ اَست
نعم، لقد نظرت -بغفلة- إلى الزمان الماضي في يميني، لأجِدَ فيه السلوان، ولكني رَأيْتُ أنّ الأمس قبرُ أبي، وتراءت لي الأيام الخوالي مقبرةً كبيرة لأجدادي. فأورثتني هذه الجهة وحشةً بدل السلوان(١).
(١) ولكنّ الإيمانَ يُري تلك المقبرة الكبرى مجلسا منورا ومجمعا مؤنسا للأحباب.
وَ دَرْ چَپْ دِيدَمْ كِه: فَرْدَا قَبْرِ مَنْ اَست
ثم نظرت إلى المستقبل في اليسار، فلم أستطع أن أجد فيه دواءً. بل تراءى لي الغد في صورة قبري، وتراءى لي المستقبل قبرا لأمثالي ومقبرة للجيل المقبل، فأورثتني هذه الجهة الوحشةَ بدل السلوان(٢).
(٢) ولكن الإيمان وما يورثه من الاطمئنان يُري تلك المقبرة العظمى دعوة رحمانية إلى قصور السعادة اللطيفة.
وَ اِمْرُوزْ: تَابُوتِ جِسْمِ پُرْ اِضْطِرَابِ مَنْ اَست
وحيث لا جدوى من اليسار، نظرت إلى اليوم الحاضر، فرأيت وكأن هذا اليوم تابوت يحمل جنازة جسمي الذي ينتفض انتفاضة المذبوح بين الموت والحياة (٣).
(٣) ولكنّ الإيمان يُري ذلك التابوتَ دار تجارة ودار ضيافة باهرة.
بَرْ سَرِ عُمرْ جَنَازَه ى مَنْ اِيسْتَادَه اَسْت
فلم أعثر على الدواء في هذه الجهة، ورفعت رأسي ونظرت إلى قمة شجرة عمري، ورأيت أن جنازتي هي الثمرة الوحيدة لتلك الشجرة، وهي ترقبني من هناك (٤).
(٤) ولكن الإيمان يُري أن تلك الثمرة ليست جنازة، بل هي انطلاق لروحي المرشّحة للأبد من وكرها القديم لتسرح في النجوم.
دَرْ قَدَمْ: آبِ خَاكِ خِلْقَتِ مَنْ وَ خَاكِسْتَرِ عِظَامِ مَنْ اَستْ
فيئستُ من تلك الجهة أيضا، طأطأت رأسي، فرأيت أن رميم عظامي قد اختلط مع تراب مبدإ خلقتي وهو يُداس تحت الأقدام. فزادت -هذه الجهة- داءً لدائي ولم تُسعفني بشيء (٥).
(٥) أما الإيمان فقد أظهَر ذلك الترابَ بابا للرحمة، وستارا دون صالة الجنة.
چُونْ دَرْ پَسْ مِى نِگرَمْ، بِينَمْ: إيْن دُنيَاى بِى بُنيَادْ هِيچْ دَرْ هِيچَ اسْت
فصرفت نظري عن تلك الجهة مولّيا وجهي إلى الوراء، ورأيت: أن دنيا فانية تتدحرج في وديان العبث وظلمات العدم. فنفثتْ هذه الجهة سمّ الوحشة والخوف في دائي بدلا من أن تمنحني العزاء (٦).
(٦) أما الإيمان فقد أظهرَ أن تلك الدنيا المتدحرجة في الظلمات ما هي إلّا مَكاتيب صَمدانية وصحائف نقوش سبحانية أنهتْ مَهامَّها، وأفادتْ معانيها، وتركتْ نتائجها في الوجود بدلا عنها.
وَ دَرْ پِيشْ اَنْدَاز: نَظَرْ مِيكُنَمْ، دَرِ قَبِرْ كُشَادَه اَسْت
وَ رَاهِ اَبَدْ بَدُور دِرَازْ پَدِيدَارسْت
ولمّا لم أجد خيرا أيضا في هذه الجهة رنوتُ بنظري إلى الأمام، ورأيتُ أنّ باب القبر مفتوح في بداية طريقي، وتتراءى وراءه من بعيد طريق ممتدة إلى الأبد (٧).
(٧) أما الإيمان فقد جعل باب القبر ذاك بابا إلى عالم النور، وتلك الطريق طريقا إلى السعادة الخالدة، فأصبحَ الإيمانُ، بحقٍ مرهما شافيا لدائي.
مَرَا جُزْ «جُزْءِ اِخْتِيَارِى» چِيزِى نِيسْت دَرْ دَسْت
وهكذا لم أعثر في هذه الجهات الست على أي سلوانٍ وعزاءٍ بل وجدت استيحاشا وهلعا، ولـم يكن لي تجاهها مستند سوى جـزء اختياري (٨).
(٨) أما الإيمان فإنه يسلّمني بدلا من ذلك الجزء الاختياري وثيقة لأستند بها إلى قدرة عظيمة مطلقة، بل الإيمان هو الوثيقة نفسها.
كِه آن جُزْءْ هَمْ عَاجِزْ، هَمْ كُوتَاهُ، وَ هَمْ كَمْ عَيَارَ اسْت
وإنّ ذلك الجزء الاختياري الذي هو سلاح الإنسان، عاجز، قاصر، ناقص، لا يمكنه الخلق وليس له إلّا الكسب (٩).
(٩) إلاّ أن الإيمان يجعل ذلك الجزء الاختياري كافيا لكل شيء إذ يستعمله في سبيل الله، كالجندي الذي انسَلَكَ في جيش الدولة فينجز ألوف أضعاف قوته من الأعمال.
نَه دَرْ مَاضِى مَجَالِ حُلُولْ، نَه دَرْ مُسْتَقْبَلْ مَدَارِ نُفُوذَ اسْت
لأنّ ذلك الجزء الاختياري ليس له القدرة للحلول في الماضي، ولا النفوذ في المستقبل. لذا لا نفع له لآمالي وآلامي الماضية والمستقبلة (١٠).
(١٠) ولكن الإيمان يأخذ زمام ذلك الجزء الاختياري من الجسم الحيواني ويُسلّمه إلى القلب والروح، لذا يستطيع أن يَحُلَّ في الماضي وينفذ في المستقبل. حيث دائرة حياة القلب والروح واسعة جدا.
مَيْدَانِ أُو إِينْ زَمَانِ حَالْ، وَ يَكْ آنِ سَيَّالَسْت
إنّ ميدان جولان ذلك الجزء الاختياري هو الوقت الحاضر القصير وهو آن سيّال ليس إلّا.
بَا إِينَ هَمَه فَقْرَهَا وَضَعْفَهَا، قَلَمِ قُدْرَتِ تُو آشِكَارَا نُوِشْتَه اَسْت
« دَرْ فِطْرَتِ مَا »: مَيْلِ أَبَدْ وَ اَمَلِ سَرْمَدْ
علاوة على جميع حاجاتي هذه، وضعفي وفقري وعجزي، وأنا تحت هجمات الاستيحاش والمخاوف الواردة من هذه الجهات، فقد أدرجتْ في ماهيتي آمال ممتدة إلى الأبد، وفي فطرتي رغبات سطرت بوضوح بقلم القدرة.
بَلْكِه هَرْ چِه هَسْت، هَسْت
بل كل ما في الدنيا، نماذجُه في فطرتي، فأنا على علاقة بجميع تلك الرغبات والآمال، بل أسعى لها، وأدفع إلى السعي لها.
دَائِرَه ى اِحْتِيَاجْ مَانَنْدِ دَائِرَه ى مَدِّ نَظَرْ بُزُرْگِى دَارَسْت
إنّ دائرة الحاجة واسعة سعة دائرة النظر.
خَيَالْ كُدَامْ رَسَدْ اِحْتِيَاجْ نِيزْ رَسَدْ
دَرْ دَسْت هَرْ چِه نِيسْت دَرْ اِحْتِيَاجْ هَسْت
حتى إنّ الخيال أينما ذَهَبَ، تذهب دائرة الحاجة إلى هناك. فالحاجة إذن هناك أيضا، بل كل ما ليس في متناول اليد فهو ضمن الحاجة، وما ليس في اليد لا حدّ له.
دَائِرَه ى اِقْتِدَارِ هَمْچُو دَائِرَه ى دَسْتِ كُوتَاهِ كُوتَاهَسْت
بينما دائرة القدرة ضيقة وقاصرة بقدر ما تصل إليه يدي القاصرة
پَسْ فَقْرُ و حَاجَاتِ مَا بَقَدَرِ جِهَانَسْت
بمعنى إنّ فقري وحاجاتي بقدر الدنيا كلِّها.
سَرْمَايَهءِ مَا هَمْچُو: « جُزْء لَا يَتَجَزّٰا » اَسْت
أمّا رأْس مالي فهو شيء جزئي ضئيل.
اِينْ جُزْءِ كُدَامْ وَ اِينْ كَاۤئِنَاتِ حَاجَاتِ كُدَامَسْت؟
أين الحاجات التي بقدر هذا العالم، ولا تستحصل إلّا بالمليارات من هذا الجزء الاختياري الذي لا يساوي شيئا؟. إنّه لا يمكن شراء تلك الحاجات بهذا الثمن الزهيد جدا. ولا يمكن أن تستحصل تلك بهذا!. فلابدَّ إذن من البحث عن وسيلة أخرى.
پَسْ دَرْ رَاهِ تُو، اَزْ اِينْ جُزْءْ نِيزْ بَازْ مِى گُذَشْتَنْ چَارَه ى مَنْ اَسْت
وتلك الوسيلة هي التبرُؤُ من ذلك الجزء الاختياري وتفويض أمره إلى الإرادة الإلهية، وتبرُؤُ المرءِ من قوة نفسه وحوله والالتجاء إلى حولِ الله وقوته. وبذلك يكون الاعتصام بحبل التوكل. فيا رَبّ! لما كانت وسيلة النجاة هي هذه؛ فإنني أتخلَّى عن ذلك الجزء الاختياري وأتبرّأ من أنانيتي، في سبيلك.
تَا عِنَايَتِ تُو دَسْتَگِيرِ مَنْ شَوَدْ، رَحْمَتِ بِى نِهَايَتِ تُو پَنَاهِ مَنْ اَسْت
لِتأْخُذَ عنايتُك بيدي، رحمةً بعجزي وضعفي، ولِتكونَ رحمتُك مستندي، رأفةَ بفقري واحتياجي.. ولِتفتحَ لي بابها.
آنْ كَسْ كِه بَحْرِ بِى نِهَايَتِ رَحْمَتْ يَافْتَ اسْتْ، تَكْيَه
نَه كُنَدْ بَرْ اِينْ جُزْءِ اِخْتِيَارِى كِه يَكْ قَطْرَه سَرَابَسْت
نعم، كلّ مَن وَجَدَ بحر الرحمة الذي لا ساحل له، لا يعتمد على جزئه الاختياري وهو كقطرة سراب، ولا يفوض إليه أمرَهُ، من دون تلك الرحمة.
أيْوَاهْ! إِينْ زَندِگَانِى هَمْ چُو خَابَسْت
وِينْ عُمْرِ بِى بُنْيَادْ هَمْ چوُ بَادَسْت
يا أسفى، لقد خُدعنا، فَظَننّا هذه الحياة الدنيا مستقرا دائما. وأضَعنا بهذا الظن كلَّ شيء.
نعم، إنّ هذه الحياة غفوة قد مضت كرؤْيا عابرة!
وهذا العمر الذي لا قرار له يذهب ذَهابَ الريح.
اِنْسَانْ بَزَوَالْ دُنْيَا بَفَنَا اَسْت، آمَالْ بِى بَقَا آلَامْ بَبَقَا اَسْت
إنّ الإنسان المغرور، المعتدَّ بنفسه، ويحسبها أبديا، محكوم عليه بالزوال. إنّه يذهب سريعا. أمّا الدنيا التي هي مَأْواهُ؛ فستهوي في ظلمات العدم، فتذهب الآمال أدراج الرياح وتبقى الآلام محفورة في الأرواح.
بِيَا اَىْ نَفْسِ نَا فَرْجَامْ! وُجُودِ فَانِى خُودْ رَا فَدَا كُنْ
خَالِقِ خُودْ رَا، كِه اِينْ هَسْتِى وَدِيعَه هَسْت
فَتَعالي يا نفسي المشتاقة إلى الحياة، والطالبة العمر الطويل، والعاشقة للدنيا، والمبتلاة بآلام لا حدّ لها وآمال لا نهاية لها، يا نفسي الشقية انتبهي وعودي إلى رشدك، ألَا ترينَ أنّ اليَراعة التي تعتمد على ضوئها تظل بين ظلمات الليل البهيم، بينما النَحل التي لا تعتد بنفسها، تجد ضياء النهار، وتشاهد جميع صديقاتها من الأزهار مذهّبة بضوء الشمس.. كذلك أنتِ، إن اعتمدت على وجودك وعلى نفسك وعلى أنانيتك؛ فستكونين كاليراعة. ولكن إن ضحَّيت بوجودك في سبيل خالقك الكريم الذي وهبه لك سوف تكونين كالنحل. وتجدين نور وجود لا حدَّ له. فضحي بنفسك، إذ هذا الوجود وديعة عندك وأمانة لديك.
وَمُلْكِ اُو وَ اُو دَادَه فَنَا كُنْ تَا بَقَا يَابَدْ،
اََزْ آنْ سِرِّى كِه: « نَفْىِ النَفْى » اِِثْبَاتَ سْت
ثم ان الوجود مُلْكُه سبحانه وهو الذي وهبه لك، لذا إفديه من دون منّة ولا إحجام، وإفنيه كي يجد البقاء، لأنّ نفي النفي إثبات.
أي إن كان العدم معدوما فهو موجود، وإن انعدم المعدم يكون موجودا.
خُدَاىِ پُرْ گرَمْ خُودْ مُلْكِ خُودْ رَا مِى خَرَدْ اَزْ تُو
بَهَاىِ بِى كَرَانْ دَادَه، بَرَاىِ تُو نِگَاهْ دَارَاسْت
إنّ الله يشتري منك ملكه، ويعطيك ثمنه عظيما، وهو الجنة. وإنّه يحفظ لك ذلك الملك ويرفع قيمته وثمنه وسيعيده إليكَ بأبقى صورة وأكملها. فيا نفسي! إنفذي هذه التجارة فورا، إنّها تجارة رابحة في خمسة أرباح، أي تكسبين خمسة أرباح معا في صفقة واحدة، وتنجين من خمسة خسائر معا.
بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّح۪يمِ
﴿ فَلَمَّٓا اَفَلَ قَالَ لَٓا اُحِبُّ الْاٰفِل۪ينَ ﴾ (الأنعام:٧٦)
لقد أبكاني نعيُ: ﴿ لَٓا اُحِبُّ الْاٰفِل۪ينَ ﴾ من خليل الله
إبراهيم عليه السلام الذي ينعي به زوال الكائنات، فصبّت عينُ قلبي قطراتٍ باكيات على شؤون الله، كل قطرة تحمل من الحزن والكمد ما يثير الأشجان ويدفع إلى البكاء والنحيب. تلك القطرات هي هذه الأبيات التي وردت إلى القلب بالفارسية.. وهي نمط من تفسير لكلام خليل الرحمن ونبيه الحكيم كما تضمنته الآية الكريمة: ﴿ لَٓا اُحِبُّ الْاٰفِل۪ينَ ﴾.
نَمِى زِ يبَاسْت «أفُولْدَه» گُمْ شُدَن مَحْبُوبْ
محبوب، يغرق في أفق المغيب! ليس بمحبوب جميل، فالمحكوم عليه بالزوال لن يكون جميلا حقا ولا يحبه القلب، إذ القلب الذي خلق أصْلا ليعشق خالدا، ويعكس أنوارَ الصمد، لا يود الزوال ولا ينبغي له.
نَمِى أَرْزَدْ «غُرُوبْدَه» غَيْب شُدَنْ مَطْلُوبْ
مطلوب، محكوم عليه بالأفول! ليس أهلا أن يرتبط به القلب، ولا يشد معه الفكر؛ لأنّه عاجز عن أن يكون مرجعا للأعمال وموئلا للآمال. فالنفس لا تذهب عليه حسرات، أتراك يعشقه القلب أوْ يُنشده ويعبده؟.
نَمِى خَواهَمْ «فَنَادَه» مَحو شُدَنْ مَقْصُودْ
مقصود، يُمحى في الفناء ويزول! لا أريده. أنا لا أريد فانيا، لأنّي الفاني المسكين، فماذا يُغني الفانون عني؟
نَمِى خَوانَمْ «زَوَالْدَه» دَفْن شُدَنْ مَعْـبُودْ
معبود، يدفن في الزوال! لا أدعوه، ولا أسأله، ولا ألتجئ إليه، إذ من كان عاجزا لا يستطيع حتما من أن يجد دواءً لأدوائي الجسيمة ولا يقدر على ضماد جراحاتي الأبدية، فكيف يكون معبودا من لا يقدر على إنقاذ نفسه من قبضة الزوال؟
عَقْل فَرْيَادْ مِى دَارَدْ، نِدَاءِ ﴿ لَٓا اُحِبُّ الْاٰفِل۪ينَ ﴾ مِى زَنَدْ رُوحْ
أمام هذه الكائنات المضطربة المنسابة إلى الزوال، يصرخ «العقل» المفتون بالمظاهر يائسا من الأعماق، كلَّما رأى زوال معشوقاته.. وتئن «الروح» الساعية إلى محبوب خالد أنين ﴿ لَٓا اُحِبُّ الْاٰفِل۪ينَ ﴾.
نَمِى خٰواهَمْ نَمِى خٰوانَمْ نَمِى تَابَمْ فِرٰاقِى
لا.. لا أريد الفراق.. لا.. لا أطيق الفراق.
نَمِى أَرْزَدْ «مَرَاقَه» اِيْن زَوَالْ دَرْ پَسْ تَلاٰقِى
وصال يعقبه الزوال مؤلم، هذه اللقاءات المكدرة بالزوال غير جديرة باللهفة، بل لا تستحق شوقا وصال يعقبه فراق؛ لأنّ زوال اللذة مثلما هو ألم فان تصور زوال اللذة كذلك ألم مِثْلُه، فدواوين جميع شعراء الغزل والنسيب -وهم عشاق مجازيون- وجميع قصائدهم إنّما هي صراخات تنطلق من آلام تنجم من تصور الزوال هذا، حتى إذا ما استعصرتَ روح ديوان أيٍ منهم فلا تَراها إلّا وتقطر صراخا أليما ناشئا من تصور الزوال.
اَزْ آنْ دَرْدِى كِرِينِ ﴿ لَٓا اُحِبُّ الْاٰفِل۪ينَ ﴾ مِى زَنَدْ قَلْبَمْ
فتلك اللقاءَات المشوبة بالزوال، وتلك المحبوبات المجازية المورثة للألم، تعصر قلبي حتى يجهش بالبكاء قائلا: ﴿ لَٓا اُحِبُّ الْاٰفِل۪ينَ ﴾ على غِرار سيدنا إبراهيم عليه السلام.
فإن كنتَ طالبا للبقاء حقا، وأنت ما زلتَ في الدنيا الفانية فاعلمْ:
دَرْ اِيْن فَانِى بَقَا خَازِى بَقَا خِيزَدْ فَنَادَنْ
إنّ البقاءَ ينبثق من الفناء، فجُدْ بفناء النفس الأمارة لتحظى بالبقاء!
فَنَا شُدْ، هَمْ فَدَا كُنْ، هَمْ عَدَمْ بِينْ، كِه اَزْ دُنْيَا «بَقَايَه» رَاهْ «فَنَادَنْ»
تجرَّدْ مِن كلِّ خُلُقٍ ذميم هو مبعث عبادة الدنيا. إفنِهِ عن نفسك، جُدْ بما تملكه في سبيل المحبوب الحق. أبْصِرْ عُقبى الموجودات الماضية نحو العدم؛ فالسبيل في الدنيا إلى البقاء إنّما تمر من درب الفناء.
فِكْرِ فِيزَارْ مِى دَارَدْ، اَنِينِ ﴿ لَٓا اُحِبُّ الْاٰفِل۪ينَ ﴾ مِى زَنَدْ وِجْدَانْ
ويظل «فكر» الإنسان السارح في الأسباب المادية في حيرة وقلق أمام مشهد زوال الدنيا، فيستغيث في قنوط. بينما «الوجدان» الذي ينشد وجودا حقيقيا يتبع خُطى سيدنا إبراهيم عليه السلام في أنينه: ﴿ لَٓا اُحِبُّ الْاٰفِل۪ينَ ﴾ ويقطع أسبابه مع المحبوبات المجازية ويحل حباله مع الموجودات الزائلة، معتصما بالمحبوب السرمدي.. بالمحبوب الحقيقي.
بِدَانْ اَىْ نَفْسِ نَادَانَمْ! كِه: دَرْ هَرْ فَرْد اَزْ فَانِى دُو رَاهْ هَسْت
بَا بَاقِى، دُو سِرِّ جَانْ جَانَانِى
فيا نفسي الغافلة الجاهلة! يا سعيدُ! اعلمْ أنّك تستطيع وجدانَ سبيلين إلى البقاء من كل شيء فانٍ في هذه الدنيا الفانية، حتى يمكنك أن تُشاهد فيهما لمعتين وسرّين من أنوار جمال المحبوب الدائم، فيما إذا قدرت على تجاوز الصورة الفانية وخرقت حدود نفسك.
كِه دَرْ نَعْمَتْهَا إِنعَامْ هَسْت وَ پَسْ آثَارَهَا اَسْمَا بِگِيرْ مَغْزِى،
وَ مِيزَنْ دَرْ فَنَا اۤنْ قِشْرِ بِى مَعْنَا
نعم، إنّ الإنعام يشاهَد طَيَّ النعمة، ولطف الرحمن يُستشعر في ثنايا النعمة. فإن نَفَذتَ من خلال النعمة إلى رؤْية الإنعام فقد وجدتَ المُنعِمَ.
ثم إنّ كُلَّ أثَرٍ من آثار الأحد الصَّمد إنّما هو رسالته المكتوبة. كلّ منه يبيّن أسماء صانعه الحسنى. فإن استطعتَ العبور من النقش الظاهر إلى المعنى الباطن فقد وجدتَ طريقا إلى الأسماء الحسنى من خلال المسميات. فما دام في وُسْعِكَ -يا نفسي- الوصولُ إلى مغزى هذه الموجودات الفانيات ولبّها، فاستمسكي بالمعنى، ودعي قشورها يجرفها سيل الفناء، مزّقي الأستار دون حسرة عليها.
بَلِى آثَارَهَا گُويَنْد: ز اَسْمَا لَفْظِ پُرْ مَعْنَا بِخَوانْ مَعْنَا،
وَ مِيزَن دَرْ هَوَا آنْ لَفْظِ بِى سَوْدَا
نعم، ليس في الموجودات من شيء إلّا هو لفظ مجسم يفصح عن معاني جليلة، بل يستقرئُ أغلبَ أسماءِ صانعه البديع. فما دامت هذه المخلوقات ألفاظَ القدرة الإلهية وكلماتِها المجسدة، فاقرئيها -يا نفسي- وتأملي في معانيها واحفظيها في أعماق القلب، وارمي بألفاظها التافهة أدراج الرياح دون أسف عليها.. ودون انشغال بها.
عَقْل فَرْيَادْ مِى دَارَدْ، غِيَاثِ ﴿ لَٓا اُحِبُّ الْاٰفِل۪ينَ ﴾ مِيزَن اَىْ نَفْسَمْ
والعقل المبتلى بمظاهر الدنيا ولا يملك إلّا معارف آفاقية خارجية، تَجرُّهُ سلسلة أفكاره إلى حيث العدم والى غير شيء. فتراه يضطرب في حيرته ويرتعد من هول الموقف؛ فيصرخ يائسا جزعا، باحثا عن مخرج من هذا المأْزق ليبلغه طريقا سويا يوصله إلى الحقيقة.
فما دامت الروح قد كَفَّتْ يدها عن الآفلين الزائلين، والقلب قد ترك المحبوبات المجازية، والوجدان قد أعرض عن الفانيات.. فاستغيثي يا نفسي المسكينةُ بغياث إبراهيم عليه السلام: ﴿ لَٓا اُحِبُّ الْاٰفِل۪ينَ ﴾ وأنقذي نفسَك.
چِه خُوشْ گُويَدْ اُو شَيْدَا «جَامِى» عَشْقِ خُوىْ:
وانظري! ما أجمل قول «جامي» (∗) ذلك الشاعر العاشق الولهان؛ حتى لكأنّ فطرته قد عُجِنَتْ بالحب الإلهي حينما أراد أن يولي الأنظارَ شطرَ التوحيد ويصرفها عن التشتت في الكثرة.. إذ قال:
يَكِى خَواهْ، يَكِى خَوانْ، يَكِى جُوىْ، يَكِى بِينْ، يَكِى دَانْ، يَكِى كُوىْ
([3])
أقصدْ الواحدَ، فسِواه ليس جديرا بالقصد.
أدعُ الواحدَ، فما عداه لا يستجيب دعاء.
أطلب الواحدَ، فغيره ليس أهلا للطلب.
شاهِدْ الواحدَ، فالآخرون لا يشاهَدون دائما، بل يغيبون وراء ستار الزوال.
أعرف الواحدَ، فما لا يوصل إلى معرفته لا طائل من ورائه.
أذكر الواحدَ، فما لا يدل عليه من أقوال وأذكار هراء لا يُغني المرءَ شيئا.
نعم، صدقت أي «جامي»:
كِه ﴿ لَٓا اِلٰهَ اِلَّا هُوَ ﴾ بَرَابَرْ مِيزَنَدْ عَالَمْ
هو المطلوب، هو المحبوب، هو المقصود، هو المعبود.
فالعالم كلُّه، أشبَهُ بحلقة ذكرٍ، وتهليلٍ كبرى يردد بألسنته المتنوعة ونغماته المختلفة: ﴿ لَٓا اِلٰهَ اِلَّا هُوَ ﴾ ويشهد الكل على التوحيد، فيداوي به الجرح البالغ الغور الذي يفجره: ﴿ لَٓا اُحِبُّ الْاٰفِل۪ينَ ﴾ وكأنّه يقول: هيَّا إلى المحبوب الدائم الباقي.. اُنفضوا أيديكم من كل محبوباتكم المجازية الزائلة.
* * *
كنت قبل خمسة وعشرين عاما ([4]) على تل يوشع المطلِّ على البسفور بإسطنبول، عندما قررت ترك الدنيا، أتاني أصحاب أعزاء، ليثنوني عن عزمي ويعيدوني إلى حالتي الأولى، فقلت لهم: دعوني وشأني إلى الغد، كي أستخير ربِّي. وفي الصباح الباكر خَطَرتْ هاتان اللوحتان إلى قلبي، وهما شبيهتان بالشعر، إلّا أنّهما ليستا شعرا، وقد حافظت على عفويتهما وأبقيتهما كما وردتا لأجل تلك الخاطرة الميمونة.
وقد ألحقتا بختام «الكلمة الثالثة والعشرين». ولمناسبة المقام أدرجتا هنا.
اللوحة الأولى
[وهي لوحة تصور حقيقة الدنيا لدى أهل الغفلة]
لا تدعُني إلى الدنيا، فقد جئتُها ورأيت الفساد.
إذ لما صارت الغفلة حجابا، وسترت نور الحق..
رأيت الموجودات كلَّها، فانية مضرة
إن قلتَ: الوجود! فقد لَبِسْته، ولكن كم عانيتُ من البلاء في العدم .
وإن قلتَ: الحياة! فقد ذقتها، ولكن كم قاسيتُ العذاب.
إذ صار العقل عقابا، والبقاء بلاءً
والعمر عين الهواء، والكمال عين الهباء.
والعمل عين الرياء، والأمل عين الألم.
والوصال عين الزوال، والدواء عين الداء.
والأنوار ظلمات، والأحبابُ أيتاما.
والأصوات نعيات، والأحياء أموات.
وانقلبت العلوم أوهاما، وفي الحِكَم ألف سقم.
وتحولت اللذائذ آلاما، وفي الوجود ألفِ عدم.
وإن قلتَ: الحبيب! فقد وجدته، آه! كم في الفراق من ألم.
اللوحة الثانية
[وهي لوحة تشير إلى حقيقة الدنيا لدى أهل الهداية ]
لمّا زالت الغفلة، أبصرتُ نور الحق عيانا.
وإذا الوجود برهان ذاته، والحياة مرآة الحق..
وإذا العقل مفتاح الكنز، والفناء باب البقاء.
وانطفأت لمعة الكمال، وأشرقت شمس الجمال..
فصار الزوال عين الوصال، والألم عين اللذة.
والعمر هو العمل نفسُه، والأبد عين العمر.
والظلامُ غلاف الضياء، وفي الموت حياة حقة..
وشاهدت الأشياء مؤْنسة، والأصوات ذكرا..
فالموجودات كلها ذاكرات مسبحات.
ولقد وجدت الفقر كنز الغنى وأبْصَرْتُ القوة في العجز.
إن وجدتَ اللّه فالأشياء كلها لك.
نعم إن كنتَ عبدا لمالك الملك، فملكه لك..
وإن كنتَ عبدا لنفسك معجبا بها،
فأبصر بلاءً وعبئا بلا عدٍّ، وذقها عذابا بلا حد.
وإن كنتَ عبدا للّه حقا مؤمنا به، فأبصر صفاءً بلا حدٍ،
وذق ثوابا بلا عد، ونَل سعادة بلا حدٍّ.
* * *
مناجاة
لقد قرأْتُ قصيدةَ الأسماء الحسنى للشيخ الكيلاني (∗) قُدس سرُّه بعد عصر يوم من أيام شهر رمضان المبارك، وذلك قبل خمس وعشرين سنة، فوددت أن أكتب مناجاة بالأسماء الحسنى، فكُتب هذا القدر في حينه، إذ إنّني أردْتُ كتابة نظيرة لمناجاة أستاذي الجليل السامي، ولكن هيهات، فإني لا أملِكُ موهبةً في النظم. لذا عجزتُ، وظلت المناجاة مبتورة.
وقد ألحقتُ هذه المناجاة برسالة «النوافذ» وهي المكتوب الثالث والثلاثون ولكن لمناسبة المقام أخذتْ إلى هنا.
هُوَ ال۟بَاقٖى
حَكٖيمُ ال۟قَضَايَا نَح۟نُ فٖى قَب۟ضِ حُك۟مِهٖ هُوَ ال۟حَكَمُ ال۟عَد۟لُ لَهُ ال۟اَر۟ضُ وَ السَّمَاءُ
عَلٖيمُ ال۟خَفَايَا وَ ال۟غُيُوبِ فٖى مُل۟كِهٖ هُوَ ال۟قَادِرُ ال۟قَيُّومُ لَهُ ال۟عَر۟شُ وَ الثَّرَاءُ
لَطٖيفُ ال۟مَزَايَا وَ النُّقُوشِ فٖى صُن۟عِهٖ هُوَ ال۟فَاطِرُ ال۟وَدُودُ لَهُ ال۟حُس۟نُ وَ ال۟بَهَاءُ
جَلٖيلُ ال۟مَرَايَا وَ الشُّؤُنِ فٖى خَل۟قِهٖ هُوَ ال۟مَلِكُ ال۟قُدُّوسُ لَهُ ال۟عِزُّ وَ ال۟كِب۟رِيَاءُ
بَدٖيعُ ال۟بَرَايَا نَح۟نُ مِن۟ نَق۟شِ صُن۟عِهٖ هُوَ الدَّائِمُ ال۟بَاقٖى لَهُ ال۟مُل۟كُ وَ ال۟بَقَاءُ
كَرٖيمُ ال۟عَطَايَا نَح۟نُ مِن۟ رَك۟بِ ضَي۟فِهٖ هُوَ الرَّزَّاقُ ال۟كَافٖى لَهُ ال۟حَم۟دُ وَ الثَّنَاءُ
جَمٖيلُ ال۟هَدَايَا نَح۟نُ مِن۟ نَس۟جِ عِل۟مِهٖ هُوَ ال۟خَالِقُ ال۟وَافٖى لَهُ ال۟جُودُ وَ ال۟عَطَاءُ
سَمٖيعُ الشَّكَايَا وَ الدُّعَاءِ لِخَل۟قِهٖ هُوَ الرَّاحِمُ الشَّافٖى لَهُ الشُّك۟رُ وَ الثَّنَاءُ
غَفُورُ ال۟خَطَايَا وَ الذُّنُوبِ لِعَب۟دِهٖ هُوَ ال۟غَفَّارُ الرَّحٖيمُ لَهُ ال۟عَف۟وُ وَ الرِّضَاءُ
ويا نفسي! استغيثي وابكي مثل قلبي وقولي:
أنا فانٍ مَن كان فانيا لا أريد
أنا عاجز من كان عاجزا لا أريد
سلّمت روحي للرحمن، سواه لا أريد
بل أريد .. حبيبا باقيا أريد
أنا ذرة.. شمسا سرمدا أريد
أنا لا شيء، ومن غير شيء، الموجودات كلَّها أريد.
ثمرةُ تأملٍ في مراعي بارلا، وأشجار الصنوبر والقَطِران، والعَرعَر والحَور الأسود.
[وهي قطعة من المكتوب الحادي عشر. أخذت هنا لمناسبة المقام].
بينما كنت على قمة جبل في «بارلا» أيام منفاي، أسرح النظرَ في أشجار الصنوبر والقَطِران والعَرعرَ، التي تغطي الجهات. وأتأمّل في هيبة أوضاعها وروعة أشكالها وصورها. إذ هَبّ نسيم رقيق حوّل ذلك الوضع المهيب الرائع إلى أوضاع تسبيحات وذكر جذابة واهتزازات نشوة شوق وتهليل. وإذا بذلك المشهد البهيج السار يتقطر عِبَرا أمام النظر، وينفث الحكمة في السمع. وفجأة خطرت ببالي الفقرة الآتية بالكردية لـ«أحمد الجزري».(∗)
هَرْ كَسْ بِتَمَاشَاﮔﻪ حُسْنَاتَه زِ هَرْ جَاى تَشْبِيهِ ﻧﮕﺎرَانْ بِجَمَالَاتَه دِنَازِنْ ([5])
أي لقد أتى الجميع مسرعين من كل صوب لمشاهدة حسنك، إنّهم بجمالك يتغنجون ويتدللون.
وتعبيرا عن معاني العبرة، بكى قلبي على هذه الصورة:
يَا رَب۟ هَر۟ حَى۟ بِتَمَاشَاگَهِ صُن۟عِ تُو زِهَر۟جَاى۟ بَتَازٖى زِنِشٖيبُ اَز۟ فِرَازٖى مَانَن۟دِ دَلَّالَان۟ بِنِدَاءِ بِاٰوَازٖى دَم۟ دَم۟ زِجَمَالِ نَق۟شِ تُو دَر۟ رَق۟ص۟ بَازٖى زِكَمَالِ صُن۟عِ تُو خُوش۟ خُوش۟ بِگَازٖى زِشٖيرٖينٖى اٰوَازِ خُود۟ هَى۟ هَى۟ دِنَازٖى اَز۟وَى۟ رَق۟صَ اٰمَد۟ جَذ۟بَه خَازٖى اَزٖين۟ اٰثَارِ رَح۟مَت۟ يَاف۟ت۟ هَر۟ حَى۟ دَر۟سِ تَس۟بٖيحُ نَمَازٖى اٖيس۟تَادَس۟ت۟ هَر۟ يَكٖى بَر۟ سَن۟گِ بَالَا سَر۟فِرَازٖى دِرَاز۟ كَر۟دَس۟ت۟ دَس۟ت۟هَارَا بَدَر۟گَاهِ اِلٰهٖى هَم۟ چُو شَه۟بَازٖى بِجُن۟بٖيدَس۟ت۟ زُل۟ف۟هَارَا بَشَو۟ق۟ اَن۟گٖيزِ شَه۟نَازٖى بَبَالَا مٖيزَنَن۟د۟ اَز۟ پَر۟دَه هَاىِ هَاىِ هُوىِ عِش۟ق۟ بَازٖى مٖيدِهَد۟ هُوشَه گِرٖين۟هَاىِ دَرٖين۟هَاىِ زَوَالٖى اَز۟ حُبِّ مَجَازٖى بَر۟ سَرِ مَح۟مُود۟هَا نَغ۟مَهَاىِ حُز۟ن۟ اَن۟گٖيزِ اَيَازٖى مُر۟دَهَارَا نَغ۟مَهَاىِ اَزَلٖى اَز۟ حُز۟ن۟ اَن۟گٖيزِ نَوَازٖى رُوحَه مٖى اٰيَد۟ اَزُو زَم۟زَمَۀِ نَازُ نِيَازٖى قَل۟ب۟ مٖيخٰوانَد۟ اَزٖين۟ اٰيَات۟هَا سِرِّ تَو۟حٖيد۟ زِعُلُوِّ نَظ۟مِ اِع۟جَازٖى نَف۟س۟ مٖيخٰواهَد۟ دَر۟ اٖين۟ وَل۟وَلَهَا زَل۟زَلَهَا ذَو۟قِ بَاقٖى دَر۟ فَنَاىِ دُن۟يَا بَازٖى عَق۟ل۟ مٖيبٖينَد۟ اَزٖين۟ زَم۟زَمَهَا دَم۟دَمَهَا نَظ۟مِ خِل۟قَت۟ نَق۟شِ حِك۟مَت۟ كَن۟زِ رَازٖى اٰر۟زُو مٖيدَارَد۟ هَوَا اَزٖين۟ هَم۟هَمَهَا هَو۟هَوَهَا مَر۟گِ خُود۟ دَر۟ تَر۟كِ اَذ۟وَاقِ مَجَازٖى خَيَال۟ بٖينَد۟ اَزٖين۟ اَش۟جَار۟ مَلَائِك۟ رَا جَسَد۟ اٰمَد۟ سَمَاوٖى بَاهَزَارَان۟ نَى۟ اَزٖين۟ نَي۟هَا شُنٖيدَت۟ هُوش۟ سِتَايِش۟هَاىِ ذَاتِ حَى۟ وَرَق۟هَارَا زَبَان۟ دَارَن۟د۟ هَمَه هُو هُو ذِك۟ر۟ اٰرَن۟د۟ بَدَر۟ مَع۟نَاىِ حَىُّ حَى۟ چُو لَٓا اِلٰهَ اِلَّا هُو بَرَابَر۟ مٖيزَنَد۟ هَر۟ شَى۟ دَمَادَم۟ جُويَدَن۟د۟ يَا حَق۟ سَرَاسَر۟ گُويَدَن۟د۟ يَا حَى۟ بَرَابَر۟ مٖيزَنَن۟د۟ اَللّٰه۟ فَيَا حَىُّ يَا قَيُّومُ بِحَقِّ اِس۟مِ حَىِّ قَيُّومِ حَيَاتٖى دِه۟ بَاٖين۟ قَل۟بِ پَرٖيشَان۟ رَا اِس۟تِقَامَت۟ دِه۟ بَاٖين۟ عَق۟لِ مُشَوَّش۟ رَا اٰمٖين۟
ثمرةُ تأملٍ
في مراعي بارلا، وأشجار الصنوبر والقَطِران، والعَرعَر والحَور الأسود.
[وهي قطعة من المكتوب الحادي عشر. أخذت هنا لمناسبة المقام].
بينما كنت على قمة جبل في «بارلا» أيام منفاي، أسرح النظرَ في أشجار الصنوبر والقَطِران والعَرعرَ، التي تغطي الجهات. وأتأمّل في هيبة أوضاعها وروعة أشكالها وصورها. إذ هَبّ نسيم رقيق حوّل ذلك الوضع المهيب الرائع إلى أوضاع تسبيحات وذكر جذابة واهتزازات نشوة شوق وتهليل. وإذا بذلك المشهد البهيج السار يتقطر عِبَرا أمام النظر، وينفث الحكمة في السمع. وفجأة خطرت ببالي الفقرة الآتية بالكردية لـ«أحمد الجزري».(∗)
هَرْ كَسْ بِتَمَاشَاﮔﻪ حُسْنَاتَه زِ هَرْ جَاى تَشْبِيهِ ﻧﮕﺎرَانْ بِجَمَالَاتَه دِنَازِنْ ([6])
أي لقد أتى الجميع مسرعين من كل صوب لمشاهدة حسنك، إنّهم بجمالك يتغنجون ويتدللون.
وتعبيرا عن معاني العبرة، بكى قلبي على هذه الصورة:
ياَ رَبْ! هَرْ حَىْ بِتَمَاشَاگه صُنعِ تُو زِ هَرْ جَاى بَتَازِى
يا ربُّ! إنّ كل حي، يتطلع من كل مكان، فينظرون معا إلى حسنك، ويتأملون في روائع الأرض التي هي معرض صنعك.
زِنَشِيبُ و اَزْ فِرَازِى مَانَنْدِ دَلَالَانْ بِنِدَاءِ بِآوَازِى
فهم كالدعاة الأدلاء، ينادون من كل مكان، من الأرض، ومن السماوات العلى إلى جمالك.
دَمْ دَمْ زِ جَمَالِ نَقْشِ تُو دَرْ رَقَصْ بَازِى
فترقص تلك الأشجار، الأدلاّء الدعاة، جذلة من بهجة جمال نقوشك في الوجود.
زِكَمَالِ صُنعِ تُو خُوشْ خُوشْ ﺑﮕﺎزِى
فتصدر أنغاما شديَّة وأصداءً ندية من نشوة رؤْيتهم لكمال صنعتك..
زِ شِيرِينِى آوَازِ خُودْ هَىْ هَىْ دِنَازِى
فكأنّ حلاوة أصدائها، تزيد نشوتها وتهزّها طربا، فتتمايل في غنج ودلال.
اَزْ وَىْ رَقْص آمَدْ جَذْبَه خَوازِى
ولأجل هذا هبّتْ هذه الأشجار للرقص الجميل، منتشية منجذبة.
أَزِيْن آثَارِ رَحْمَتْ يَافْت هَرْ حَىْ دَرْسِ تَسْبِيحُ نَمَازِى
يستلهم كلُّ حي صلاتَه الخاصة وتسبيحاتِه المخصوصة من أثار هذه الرحمة الإلهية.
اِيسْتَا دَسْت هَرْ يَكِى بَرْ سَنگِ بَالَا سَرْفِرَازِى
وبعد التزود بالدرس البليغ، تنتصب كل شجرة قائمةً فوق صخرة شمّاء، فاتحةً أيديها متطلعةً إلى العرش.
دِرَاز كَرْدَسْت دَسْتَهَا رَا بَدَرْگاهِ إِلٰهِى همچو شَهْبَازِى
لقد تسربلتْ كلُّ شجرة بسربال العبودية، ومدَّتْ مئات من أيديها ضارعةً أمام عَتَبة الحضرة الإلهية، كأنّها «شهباز قلندر». ([7])
بَه جُنبِيدسْت زُلفْهَا رَا بَه شَوْقَ انگيز شَهْنَازِى [8]
وتهز أغصانها الرقيقة كأنها الضفائر الفاتنة لـ«شهناز الجميلة» مثيرة في المشاهد أشواقا لطيفة وأذواقا سامية.
بَبَالَا مِيزَنَنْد اَزْ پردَه هَاىِ «هَاىِ هُوىِ» عَشْق بَازِى ([9])
لكأنّ هذا الجمال يهزُّ طبقاتِ العشق، بل يمسّ أعمق الأوتار وأشدها حساسية.
مِيدِهَدْ هُوشَه گيرينْهَاىِ دَرِينْهَاىِ زَوَالِى اَزْ حُبِّ مَجَازِى
Fikre şu vaziyetten şöyle bir mana geliyor: Mecazî muhabbetlerin zeval elemiyle gelen ağlayış hem derinden derine hazîn bir enîni ihtar ediyorlar.
بَر۟ سَرِ مَح۟مُود۟هَا نَغ۟مَهَاىِ حُز۟ن۟ اَن۟گٖيزِ اَيَازٖى
Mahmudların, yani Sultan Mahmud gibi mahbubundan ayrılmış bütün âşıkların başlarında, hüzün-âlûd mahbublarının nağmesinin tarzını işittiriyorlar.
مُر۟دَهَارَا نَغ۟مَهَاىِ اَزَلٖى اَز۟ حُز۟ن۟ اَن۟گٖيزِ نَوَازٖى
Dünyevî sadâların ve sözlerin dinlemesinden kesilmiş olan ölmüşlere; ezelî nağmeleri, hüzün-engiz sadâları işittiriyor gibi bir vazifesi var görünüyorlar.
رُوحَه مٖى اٰيَد۟ اَزُو زَم۟زَمَۀِ نَازُ نِيَازٖى
Ruh ise şu vaziyetten şöyle anladı ki eşya, tesbihat ile Sâni’-i Zülcelal’in tecelliyat-ı esmasına mukabele edip bir naz niyaz zemzemesidir, geliyor.
قَل۟ب۟ مٖيخٰوانَد۟ اَزٖين۟ اٰيَات۟هَا سِرِّ تَو۟حٖيد۟ زِعُلُوِّ نَظ۟مِ اِع۟جَازٖى
Kalp ise şu her biri birer âyet-i mücesseme hükmünde olan şu ağaçlardan sırr-ı tevhidi, bu i’cazın ulüvv-ü nazmından okuyor. Yani, hilkatlerinde o derece hârika bir intizam, bir sanat, bir hikmet vardır ki bütün esbab-ı kâinat birer fâil-i muhtar farz edilse ve toplansalar taklit edemezler.
نَف۟س۟ مٖيخٰواهَد۟ دَر۟ اٖين۟ وَل۟وَلَهَا زَل۟زَلَهَا ذَو۟قِ بَاقٖى دَر۟ فَنَاىِ دُن۟يَا بَازٖى
Nefis ise şu vaziyeti gördükçe, bütün rûy-i zemin, velvele-âlûd bir zelzele-i firakta yuvarlanıyor gibi gördü, bir zevk-i bâki aradı. “Dünya-perestliğin terkinde bulacaksın.” manasını aldı.
عَق۟ل۟ مٖيبٖينَد۟ اَزٖين۟ زَم۟زَمَهَا دَم۟دَمَهَا نَظ۟مِ خِل۟قَت۟ نَق۟شِ حِك۟مَت۟ كَن۟زِ رَازٖى
Akıl ise şu zemzeme-i hayvan ve eşcardan ve demdeme-i nebat ve havadan gayet manidar bir intizam-ı hilkat, bir nakş-ı hikmet, bir hazine-i esrar buluyor. Her şey, çok cihetlerle Sâni’-i Zülcelal’i tesbih ettiğini anlıyor.
اٰر۟زُو مٖيدَارَد۟ هَوَا اَزٖين۟ هَم۟هَمَهَا هَو۟هَوَهَا مَر۟گِ خُود۟ دَر۟ تَر۟كِ اَذ۟وَاقِ مَجَازٖى
Heva-yı nefis ise şu hemheme-i hava ve hevheve-i yapraktan öyle bir lezzet alıyor ki bütün ezvak-ı mecazîyi ona unutturup o heva-yı nefsin hayatı olan zevk-i mecazîyi terk etmekle bu zevk-i hakikatte ölmek istiyor.
خَيَال۟ بٖينَد۟ اَزٖين۟ اَش۟جَار۟ مَلَائِك۟ رَا جَسَد۟ اٰمَد۟ سَمَاوٖى بَاهَزَارَان۟ نَى۟
Hayal ise görüyor, güya şu ağaçların müekkel melâikeleri içlerine girip her bir dalında çok neyler takılan ağaçları ceset olarak giymişler. Güya Sultan-ı Sermedî, binler ney sadâsıyla muhteşem bir resm-i küşadda onlara onları giydirmiş ki o ağaçlar camid, şuursuz cisim gibi değil belki gayet şuurkârane manidar vaziyetleri gösteriyorlar.
اَزٖين۟ نَي۟هَا شُنٖيدَت۟ هُوش۟ سِتَايِش۟هَاىِ ذَاتِ حَى۟
İşte o neyler; semavî, ulvi bir musikîden geliyor gibi safi ve müessirdirler. Fikir, o neylerden başta Mevlana Celaleddin-i Rumî olarak bütün âşıkların işittikleri elemkârane teşekkiyat-ı firakı işitmiyor. Belki Zat-ı Hayy-ı Kayyum’a karşı takdim edilen teşekkürat-ı Rahmaniyeyi ve tahmidat-ı Rabbaniyeyi işitiyor.
وَرَق۟هَارَا زَبَان۟ دَارَن۟د۟ هَمَه هُو هُو ذِك۟ر۟ اٰرَن۟د۟ بَدَر۟ مَع۟نَاىِ حَىُّ حَى۟
Madem ağaçlar, birer ceset oldu. Bütün yapraklar dahi diller oldu. Demek her biri, binler dilleriyle havanın dokunmasıyla “Hû Hû” zikrini tekrar ediyorlar. Hayatlarının tahiyyatıyla Sâni’inin Hayy-ı Kayyum olduğunu ilan ediyorlar.
چُو ﴿ لَٓا اِلٰهَ اِلَّا هُوَ ﴾ بَرَابَرْ مِيزَنْد هَرْ شَىْ
لأنّ جميع الأشياء تقول: ﴿ لَٓا اِلٰهَ اِلَّا هُوَ ﴾ وتعمل ضمن حلقة ذكر الكائنات العظمى.
دَمَادَمْ جُويَدَنْد «يَا حَقْ» سَرَاسَرْ گُويَدَنْد: «يَا حَىْ» بَرَابَرْ مِيزَنَنْد: «اللّه»
فتسأل كل حين من خزينة الرحمة الإلهية، بلسان الاستعداد والفطرة، وتطلب حقوق حياتها، بترديدها: «يا حق».
وتذكر جميعا اسم «يا حي» بلسان نيلها لمظاهر الحياة.
فَيَا حَىُّ يَا قَيوُّمُ بِحَقِّ اِسْمِ حَىِّ قَيوُّمِ
حَيَاتِى دِهْ بَايِنْ، قَلْبِ پريشَانْ رَا اِسْتِقَامَتْ دِهْ بَايِنْ، عَقْلِ مُشَوَّشْ رَا.. أٰمِين
Bir vakit Barla’da Çam Dağı’nda yüksek bir mevkide, gecede semanın yüzüne baktım. Gelecek fıkralar, birden hutur etti. Yıldızların lisan-ı hal ile konuşmalarını hayalen işittim gibi bu yazıldı. Nazım ve şiir bilmediğim için şiir kaidesine girmedi. Tahattur olduğu gibi yazılmış.
Dördüncü Mektup ile Otuz İkinci Söz’ün Birinci Mevkıfı’nın âhirinden alınmıştır.
Yıldızları Konuşturan Bir Yıldızname
Dinle de yıldızları şu hutbe-i şirinine
Name-i nurîn-i hikmet, bak ne takrir eylemiş.
Hep beraber nutka gelmiş, hak lisanıyla derler:
“Bir Kadîr-i Zülcelal’in haşmet-i sultanına
Birer bürhan-ı nur-efşanız vücud-u Sâni’a
Hem vahdete hem kudrete şahitleriz biz.
Şu zeminin yüzünü yaldızlayan
Nâzenin mu’cizatı çün melek seyranına.
Bu semanın arza bakan, cennete dikkat eden
Binler müdakkik gözleriz biz. (Hâşiye)[10]
Tûba-i hilkatten semavat şıkkına, hep Kehkeşan ağsanına
Bir Cemil-i Zülcelal’in, dest-i hikmetle takılmış pek güzel meyveleriyiz biz.
Şu semavat ehline birer mescid-i seyyar, birer hane-i devvar, birer ulvi âşiyane
Birer misbah-ı nevvar, birer gemi-i cebbar, birer tayyareleriz biz.
Bir Kadîr-i Zülkemal’in, bir Hakîm-i Zülcelal’in birer mu’cize-i kudret, birer hârika-i sanat-ı Hâlıkane,
Birer nadire-i hikmet, birer dâhiye-i hilkat, birer nur âlemiyiz biz.
Böyle yüz bin dil ile yüz bin bürhan gösteririz, işittiririz insan olan insana.
Kör olası dinsiz gözü, görmez oldu yüzümüzü hem işitmez sözümüzü, hak söyleyen âyetleriz biz.
Sikkemiz bir, turramız bir, Rabb’imize musahharız. Müsebbihiz, zikrederiz abîdane.
Kehkeşan’ın halka-i kübrasına mensup birer meczuplarız biz.”
dediklerini hayalen dinledim.
- ↑ انظر: الديلمي، المسند ٨٥/١؛ القرطبي، الجامع لأحكام القرآن ١١١/١٥؛ السرخسي، المبسوط ١٠/١٢؛ الكاساني، بدائع الصنائع ٨٠/٥؛ ابن حجر، تلخيص الخبير ١٣٨/٤.
- ↑
هذه القطع الواردة في المقام الثاني جاءت بما يشبه الشعر إلّا أنها ليست شعرا، ولم يُقصد نظمها، بل إن كمال انتظام الحقائق جعلها تتخذ شكلا شبيها بالنظم. (المؤلف).
أما في الترجمة، فقد اقتصرنا على المعنى وحده. (المترجم) - ↑ هذا البيت لمولانا جامي. (المؤلف)
- ↑ أي سنة ١٩٢٢.
- ↑ انظر: العقد الجوهري في شرح ديوان الشيخ الجزري ص ٤٣٨.
- ↑ انظر: العقد الجوهري في شرح ديوان الشيخ الجزري ص ٤٣٨.
- ↑ كان خادما لدى الشيخ الكيلاني، وتربى على يديه، حتى ترقى في مراتب الولاية. (المؤلف)
- ↑ حسناء شهيرة بجمالها وجمال شعرها وظفائرها. (المؤلف)
- ↑
هذا البيت يشير إلى شجرة العرعر في المقبرة:
ببالا ميزنند أز برده هاى هاى هوى مردها را نغمهاى ازلى از حزن انگيز نوازى. (المؤلف) - ↑ Hâşiye: Yani cennet çiçeklerinin fidanlık ve mezraacığı olan zeminin yüzünde hadsiz mu’cizat-ı kudret teşhir edildiğinden semavat âlemindeki melâikeler o mu’cizatı, o hârikaları temaşa ettikleri gibi ecram-ı semaviyenin gözleri hükmünde olan yıldızlar dahi güya melâikeler gibi zemin yüzündeki nâzenin masnuatı gördükçe cennet âlemine bakıyorlar. O muvakkat hârikaları, bâki bir surette cennette dahi müşahede ediyorlar gibi bir zemine, bir cennete bakıyorlar. Yani o iki âleme nezaretleri var demektir.